Réflexions : Sur la philosophie, la littérature, la politique et la société
تأملات: في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع
Genres
ليس جديدا علينا بني الإنسان أن نعلن مشاعر الاغتباط، ونسدي عبارات الإعجاب إلى الربيع وجماله، فقد كان ذلك في كل زمان موضوع وصف شعرائنا، والمحرك الأول لعواطف المحبة في صدورنا، وكأن الزهر رسول المودة وهدية الحب بين الأنفس الحساسة التي بينها وبين الجمال نسب متين.
كنا ولا نزال نبتهل إلى الربيع وننسب بالطبيعة؛ فهل لها أذن تسمع تغنينا بجمالها؟ أم هي صماء صادرة عن قوات أزلية سائرة إلى مصير مرسوم لا تلقي نظرة على سكانها المفتونين بزخرفها الفانين في حبها، وهم في الحقيقة ضحايا عدوانها، ليكن كل ذلك، ولكن ذلك غير مانع لنا من أن نستوفي قسطنا من الحياة على أكمل ما نستطيع، نبلو مرها ونطعم حلوها، ننسى آلامنا فيها بما يسحرنا من جمال أزهار الربيع.
علموا أبناءكم حب الجمال، ونموا في نفوسهم ملكته، ليعلموا أن الحياة ليست جحيم الهموم، ولكن فيها لمحات من النعيم، إن حب الجمال يرفع النفس إلى لذائذ أطهر طبعا وأسعد أثرا وأبقى في العواطف نتيجة من كل ما عداه من لذائذ الحياة، وإن أبسط موضوع لتعرف الجمال والمران به أزهار الربيع.
الصداقة1
حدثني صديق ذكي القلب ينتفع بكل الحوادث ويعتبر بكل المشاهدات قال: ركبت الترام إلى جانب السواق فحضرتني طائفة من الأفكار ترجع كلها إلى حال هذا العامل وما يعاني من سفر مستمر خلو مما نجد نحن في أسفارنا من التعزية ببلوغ الغرض، وما يحمل من مسئولية كبيرة مستمرة إذ هو مسئول عن سلامة الراكبي ترامه، مسئول عن المصادمات ، مسئول حتى عن الأطفال المتعسفين يمر أحدهم أمام الترام ليغتبط بخفته في العدو وليهزأ بسرعة الكهرباء، أو يتصدى للتعلق به سائرا من على اليمين حيث يتاح له النزول من غير خطر أو على الشمال إذا زلقت رجله، فهو وشيك أن يلقى بين ترامين، قال: حادثت السائق حيث لا خطر من محادثته وسألته ماذا يجد من عمله وهو يذوق لذة المسئولية التي يحملها والخدمة التي يؤديها؛ فأجاب ببساطة خاصة بالأفندية من درجته ومستوى تربيته: إن عمله شاق ممل، ولكنه يخفف عليه كثيرا هذا الملل أن يقابله سواق آخر من أصحابه يتبادلان في هذه الفرصة الضيقة عبارات التحية لا يتمانها حتى يبعد كلاهما بحيث لا يسمع صوت الآخر، تسلية ضئيلة! ولكنها مع ذلك مثيرة في النفس إكبار الصداقة وإنها من الشروط الأصلية للحياة.
لم ينفرد صاحبنا السواق بالمسئولية بل كلنا في المسئولية سواق ترام يحتمل مسئولية عمله ونتائج أعمال غيره أيضا، وكلنا معذب لا بد له من تعزية تخفف عليه حمل الحياة، والظاهر أن أكثر التعزيات خيرا وأطولها عمرا وأطهرها طبيعة هي الصداقة.
يرد على الخاطر في هذا المقام معنى قلما فات امرأ استعماله: (لا لا، كلنا أصدقاء). يقولها الواحد لصديقه إذا عرض عليه الاشتراك في عمل مالي أو نحو ذلك من الأعمال التي مغبتها عادة الاختلاف على المنافع وتبدل الصفاء كثيرا بين المتعاملين! مهما قيلت هذه الجملة في مقام الاعتذار، ومهما ابتذل استعمالها فصار يتناول علاقات غير الأصدقاء في الحقيقة، إلا أنها مع ذلك لشيوعها في الناس تعتبر من جانبهم إجماعا على أن الصداقة فوق كل المنافع وأغلى ثمنا من أن يشتري بها الرجل كائنا ما كان من الأعراض الإنسانية.
ما هي حياتنا إن لم تكن في الواقع مجموعة من المشاعر المختلفة، بها وحدها نحيا ومن أجل الجمع بينها والحصول على لذتها نتعب وننصب وفيها نحيا ونموت! وما أظن ما في الإنسان من قوى مادية وعقلية إلا خدما لتشبيع مشاعره النفسية: ألا ترانا ننظر إلى ما في الدنيا بنظارات تأخذ ألوانها من صفاء نفوسنا وكدورتها، فالمغتبط بما هو فيه يرى الحياة وردية - كما يقال - ولو كان في فقر الأنبياء أو في غيابات السجون! أما الذي يظن أن تقطعت به أسباب الفوز ولازمته خيبة الرجاء في مقاصده أو في أصدقائه، أو من هو لأي سبب تكدرت مشاعره، فلا يرى ما هو فيه من نعم الحياة إلا جحيما مقيما، إنها مشاعرنا النفسية هي التي عليها العمدة في جعلنا سعداء أو أشقياء ، فليس بعجيب على الإنسان أن يجعل للصداقة وهي أظهر المشاعر الإنسانية هذه القيمة ويفضل الشعور بها والاغتباط بلذتها على كل شيء.
يسرف الناس في استعمال لفظ الصديق مقولا على الزملاء والمعارف بل ومعارف المعارف، وما أرادوا بذلك امتهان الصداقة وابتذال أمرها، فإنهم منذ طفولة الإنسانية إلى الآن، ينشدون الخل الوفي ويقولون بامتناعه بوصف أنه المثل الأعلى للصديق، ولكنهم يريدون أن يشرفوا طبائع علاقاتهم بعضهم ببعض إذ يعطونها لون الصداقة أو لفظ الصداقة، ولو سئلت ما الصديق لما زدت على أنه ذلك الإنسان بعينه الذي تشعر في نفسك بالفرح عند لقائه والشوق للجلوس إليه والإفاضة له بكل ما لديك، تعطيه مفتاح عقلك وقلبك آمنا ليرى فيهما كل شيء. يوحشك بعده ويؤنسك قربه وتجد من نفسك باعثا قويا وحاجة لا يسدها إلا لقاؤه.
ولقد نجد في الأمثلة الصديقين يكون كلاهما للآخر على ما وصفنا، فلا يقع بينهما، إلا أصبحا لا كالمعارف بل كالأعداء، وهذا صحيح مشاهد، ولكنه لا يطعن على معنى الصداقة في شيء، بل هو يدل على أن الصداقة كبقية المشاعر النفسية مختلفة الكم والبقاء باختلاف الاستعداد، فمن الناس من يحب إلى الشوق بل إلى الهيام بل إلى الموت، ومنهم من يحب حبا لا يتعدى المتعارف في القدر ولا يتعدى أياما أو أسابيع في البقاء، ومهما كان من الصعب التفريق التام بين عاطفة الصداقة وعاطفة الحب تفريقا منطقيا ووضعيا، إلا أننا مع ذلك نشعر في نفوسنا بتخالف بين الإحساسين وتباين في الكيف بين موضوعيهما، فالنفس التي لا يمكنها استعدادها إلا من السير في الحياة على مقتضى المصادفة الصرفة، تنتقل في صداقتها كما تنتقل في إذاوق المودة، قل أن ننعم بهذه الصداقة وإن كان من الصعب علينا أن نظن أنه توجد نفس لم تذق لذة الصداقة قليلا أو كثيرا تبعا لمبادئ التربية وفطرة الاستعداد.
Page inconnue