أتكون هذه خاتمة حياته الحافلة بمكة، أم تراه سيرجع إليها كرة أخرى؟ وهل سيترك أهل مكة نكيرهم عليه، ويؤمنونه على دينه؟. ويختلج فى نفسه الأمل العذب، هل سيعود إلى مكة؟ وهنا يتنزل الوحى : (إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين ). ولكن الجبارين الذين أقاموا بمكة يكفرون ويكرهون الناس على الكفر، ماذا يكون حاله معهم، أو ماذا يكون مصيرهم؟. وهنا ينزل الوحى مرة أخرى : (وكأين من قرية هي أشد قوة من قريتك التي أخرجتك أهلكناهم فلا ناصر لهم). ولقد صدق الله وعده، فخط لجبارى مكة مصارعهم الواحد بعد الآخر، ومن بقى منهم حيا، فقد بقى ليوقع صك التسليم النهائى، وليعيش فى ظل العفو العام الذى أعلنه الرسول عليه الصلاة والسلام بعد أن رجع إلى مكة رجعة عزيزة، تذكر له آخر الدهر، أنه كان عظيما يوم أخرج، عظيما يوم عاد. * * * * منطق العقيدة: تنتصر العقائد بين الناس بعد ما تنتصر فى نفوس أصحابها. هذه حقيقة يجب أن يعرفها حملة المبادئ. وأن يطمئن إليها نقلة المثل العليا إلى الناس. فإذا حدث أن وازن الإنسان بين عقيدته ونفسه فرجحت نفسه، أو بين عقيدته وماله، فرجح ماله، أو بين عقيدته ومتعه الخاصة، فرجحت متعه الخاصة، فمعنى ذلك أن العقيدة أهون لدى صاحبها من كل ما يملك أو يهوى. وسوف يبيعها فى أولى مساومة ويتخلى عنها. فى أول صدام!. أما إذا غالى الإنسان بعقيدته، فسفك دونها دمه، وبذل قبلها ماله، وضحى فى سبيلها براحة البدن، وسكرة اللذة، وطيب العيش، فقد صدق فى إيمانه، ووفى لعقيدته، ونجح فى محنته، وكسب النصر لدينه، والخير لنفسه معا. ص _089 تأخرت أستبقى الحياة فلم أجد لنفسى حياة مثل أن أتقدما وذلك المعنى الرائع هو الذى ملأ نفوس المؤمنين قبل الهجرة، فلما دخلوا مع العالم كله فى "معركة المصحف " بدأت الخسائر تنزل بهم متلاحقة، وظلوا مروعين فى أنفسهم وأهليهم بضعة عشر عاما، وكانت دورهم وأموالهم بمكة آخر ما نزلوا عنه فى سماحة ورضا.. دون أن يفرطوا فى ذرة من إيمانهم، أو يقبلوا الدنية فى دينهم، أو يميلوا قليلا مع تيار الكفر المناوئ لهم، حتى لقد فهم المشركون أن ارتداد الشمس فى مدارها أقرب إلى الوقوع من ارتداد مسلم عن دينه. لقد انتصرت العقيدة فى نفوس هذه الفئة المكافحة انتصارا حاسما، وفداها أهلها بكل غال وثمين، فلم يبق إلا أن تأخذ جزاءها الحق، وأن ترفرف أعلامها بين الناس أجمعين، وأن تنحنى لها الهامات إجلالا وإكبارا. ولو كانت هامات الخصوم والمكابرين. إن هذه الحقيقة- انتصار العقائد فى نفوس أصحابها- تكملها حقيقة أخرى، وهى أن أهل الخير، إن فاتهم تأييد أهل الأرض بعد ما يبذلون كل ما لديهم من طاقة، فلن تخذلهم فى كفاحهم المقدس قوى السماء! وذلك سر التحدى فى قول الله تعالى للناس : (إلا تنصروه فقد نصره الله). أجل. فما كان الله ليذر المخلصين من عباده دون أن يشرفهم بالنصر الموعود. بيد أن للقدر الأعلى أسلوبا فى سوق النصر يعلو على مستوى العقول، فما تقول فى أمر ظاهره هزيمة وفرار، وباطنه تأييد وانتصار؟ لقد كانت الهجرة خاتمة سيئة لجهاد طويل فى مكة هكذا بدا للسطحيين من الناس ولكن القدر العزيز جعل من هذه النهاية المحزنة نقطة التحول فى تاريخ الدعوة الإسلامية كلها، وبداية الفوز المكين، والغلب الساحق.. ذلك أسلوب القدر الحكيم! لا يزال يتكرر مع الزمن! شر فى باطنه خير، وقتل فى أعقابه حياة، وتراجع يتبعه التقدم والانطلاق. ص _090 لماذا حورب؟ كان لدى المشركين أكثر من سبب لعداوة الإسلام والتجهم لرسالته ومخاصمة أتباعه، ولسنا نظن الاقتناع بصلاحية الوثنية والاطمئنان إلى ما فيها من جهالة وخرافة، أحد هذا الأسباب. بل إننا نستبعد ذلك من رجال اشتغلوا بشئون التجارة، وطوفوا فى آفاق الدنيا، واستعرضوا الآراء والأفكار، وقاموا برحلات عظيمة الأثر فى رفع المستوى العقلى... ثم استمعوا بعد ذلك لمحاجة القرآن وأسلوبه الناصع فى عرض الدعوة وبسط آياتها... أترى أولئك النفر من قادة قريش وساستها كانوا يتعصبون للأصنام ضد الإسلام عن فقه واعتقاد؟ إن سر التكذيب والخصومة أبعد من ذلك. إن التعصب لهذه الحجارة المعبودة لم يكن إلا ستارا للحرص على المنافع المبذولة فى ظلها، والشهوات المنطلقة برضاها، والسيادة المقرونة باسمها. إنه حرص أصحاب الأوضاع القائمة على ما يستفيدون منه، ويرون ضياعه ضياع مجدهم وسقوط منزلتهم. والدعوة إلى الإسلام لم تكن دعوة لهدم الأصنام فقط، بل لهدم الرجال الذين ربطوا كبرياءهم ومصالحهم ببقائها، وهاجت فى نفوسهم مشاعر الحقد والغطرسة ضد من يهاجمها، ونظروا إلى الدعوة الجديدة ورجالها من زاوية خاصة! زاوية المنافسة والاستكثار والاستنكار... وانظر إلى هؤلاء المشركين يكشفون عن عواطفهم الدفينة وأسباب تكذيبهم لصاحب الرسالة العظيم فيصيحون: (وقالوا إن نتبع الهدى معك نتخطف من أرضنا ...). (وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم). (وإذا جاءتهم آية قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله ...). ص _091 (أأنزل عليه الذكر من بيننا ..). ماذا ترى فى هذا التساؤل والاعتراض. ألست تسمع فيه صراخ الهوى والأثرة ضد الحق المبين، لا لشىء فى هذا الحق غير الحسد لمن جاء به، والشعور بأن انتصار الحق سوف يقوض دولة الظلم، ويزلزل عظماءها، ويتخطفهم من أرضهم، ويمحو كافة ما لهم من امتيازات باطلة؟؟ ذاك سر كراهية الجبارين والطغاة للإسلام ودعوته الجليلة فى كل زمان ومكان. إن فرعون لما توقح على موسى وألب حاشيته ضد رسل الله لم يكن يعلم من نفسه أنه إله، وما كان أتباعه يحسبون أنفسهم عبيده الذين خلقهم من عدم... إنه الكبر والاستعلاء. (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا). وإنه ليستنهض الهمم فى مقاتلة عباد الله بهذا الأسلوب العاتى المغرور: (فأرسل فرعون في المدائن حاشرين * إن هؤلاء لشرذمة قليلون * وإنهم لنا لغائظون * وإنا لجميع حاذرون). أترى فى هذا الأمر الفرعونى إلا السفه والجبروت؟ أترى فيه أثارة لعقل أو حق...؟ كلا. فى هذا الطريق الجائر مشت العلاقة بين رسل الله إلى الناس، وبين حراس الضلالة والفوضى بين الناس. ما أن يدور النقاش على هذا النحو الذى رأيت حتى يضيق المبطلون بما يسمعون، ثم يبدأ النفى والاضطهاد، وتبدأ الهجرة والفرار. (وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين * ولنسكننكم الأرض من بعدهم ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد). ص _092 إن الخبراء بأحوال المجتمعات الفاسدة يعرفون بفطرتهم ما سيلقاه مصلحوها من عناء. وقد كان ورقة بن نوفل صادق الحدس عندما قدر أن مكة سوف تتمرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأبى مقامه فيها، وجاش فى نفسه حب النجدة والانتصار للحق المستضعف، فقال: ليتنى فيها جذعا إذ يخرجك قومك. فتساءل النبى صلى الله عليه وسلم دهشا : "أو مخرجى هم.. "؟! إنه تساؤل الرجل الشريف، البعيد عن خواطر الشر ووساوس السوء. لا يمر بفؤاده السمح ظل للعدوان فهو لا يفترضه فى غيره! ثم هو بأمانته ومروءته وطيد المنزلة بين الناس، فما الذى يؤلب الناس عليه ويحملهم على إخراجه؟ بيد أن ورقة يؤكد ما يقول: "ما أتى رجل قومه بمثل ما جئت به إلا أخرجوه، ولئن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزرا ". وقد حدث ما توقعه ورقة، بل تمخضت الأحداث عن عدوان أشد. فلم يخرج الرسول صلى الله عليه وسلم فقط، بل وضعت الجوائز المغرية لمن يأتى به حيا أو ميتا بعد ما أخفقت المؤامرة المبيتة على سفك دمه! إن كبرياء السادة، وملق الأتباع، يضع أمام المصلحين عقبات جساما دون تحطيمها جهاد وجلاد، وينبغى أن يتهيأوا لذلك حتى لا تروعهم المفاجأة وما أحسن قول المتنبى : عرفنا الليالى قبل ما صنعت بنا فلما دهتنا لم تزدنا بها علما إن العداوة بين التوحيد والشرك بدأت عنيفة جدا، برغم أن النبى صلى الله عليه وسلم حاول جاهدا أن يلطف من حدتها، وأن يتجنب مضاعفاتها، وأن يضفى من فضله ونبله على ما حوله، فهو يصل من قطعه، ويعطى من حرمه، ويعفو عمن ظلمه، ويصابر السفهاء، ويلين للمشاغبين. لكن ذلك كله لم يجد فتيلا مع من اتخذ إلهه هواه...! وهكذا أثبت تاريخ "العنجهية الوثنية" أن ترويضها مستحيل. وأن تلطف الأنبياء معها لم يزدها إلا ضراوة، وأن وحشيتها لا علاج لها إلا تقليم الأظافر وتحطيم الأنياب، وأنها لو استطاعت سفك الدم الحرام قتلت، ولو استطاعت كبت الحريات فعلت. لا يثنيها شيء أبدا.
Page 92