Méditer, jour après jour
تأمل يوما بعد يوم: ٢٥ درسا للعيش بوعي كامل
Genres
تحية واعتراف بالفضل
شكر وتقدير
تقديم المترجم
مقدمة
الجزء الأول: أن ندرك أن الوعي الكامل حالة ذهنية
1 - أن نعيش اللحظة الحاضرة
2 - أن نتنفس
3 - أن نتواصل مع أجسادنا
4 - أن نغمض عيوننا وننصت
5 - أن نراقب أفكارنا
Page inconnue
6 - أن نعطي مساحة لمشاعرنا
7 - أن ندرب انتباهنا كي نزيد حدة وعينا
8 - أن نكون حاضرين في اللحظة الحالية
الجزء الثاني: أن نعيش وعيون روحنا مفتوحة على اتساعها وأن تكون هذه هي فلسفة حياتنا اليومية
9 - أن نرى كل ما هو عادي
10 - أن نرى كل هو مخفي
11 - أن نرى ما هو مهم
12 - أن نكون حاضرين أثناء الفعل
13 - أن نشحذ انتباهنا
14 - أن نفهم ونقبل ما هو موجود
Page inconnue
الجزء الثالث: أن نتجاوز العواصف بالاحتماء بملاذ اللحظة الحاضرة
15 - أن نتحرر من سجوننا الذهنية
16 - أن نتخلى عن إصرارنا
17 - أن نبقى حاضرين في هذا العالم
18 - أن نستمر بالتقدم رغم جروحنا
19 - أن نقبل الغموض
20 - أن نلمح السعادة وهي تبزغ ببطء
الجزء الرابع: أن نكون أكثر انفتاحا ويقظة وندرك أن ذلك هو أكثر الأسفار بعدا
21 - أن نعمل
22 - أن نتأمل
Page inconnue
23 - أن نحب
24 - أن نختبر تمدد الذات وانحلالها
25 - أن نصل للوعي الكوني
تنزيل تمارين التأمل المرتبطة بالكتاب
10 تلميحات للتأمل باستخدام تمارين التأمل المرتبطة بالكتاب
قراءات إضافية
مواقع إلكترونية مفيدة
المراجع
تحية واعتراف بالفضل
شكر وتقدير
Page inconnue
تقديم المترجم
مقدمة
الجزء الأول: أن ندرك أن الوعي الكامل حالة ذهنية
1 - أن نعيش اللحظة الحاضرة
2 - أن نتنفس
3 - أن نتواصل مع أجسادنا
4 - أن نغمض عيوننا وننصت
5 - أن نراقب أفكارنا
6 - أن نعطي مساحة لمشاعرنا
7 - أن ندرب انتباهنا كي نزيد حدة وعينا
Page inconnue
8 - أن نكون حاضرين في اللحظة الحالية
الجزء الثاني: أن نعيش وعيون روحنا مفتوحة على اتساعها وأن تكون هذه هي فلسفة حياتنا اليومية
9 - أن نرى كل ما هو عادي
10 - أن نرى كل هو مخفي
11 - أن نرى ما هو مهم
12 - أن نكون حاضرين أثناء الفعل
13 - أن نشحذ انتباهنا
14 - أن نفهم ونقبل ما هو موجود
الجزء الثالث: أن نتجاوز العواصف بالاحتماء بملاذ اللحظة الحاضرة
15 - أن نتحرر من سجوننا الذهنية
Page inconnue
16 - أن نتخلى عن إصرارنا
17 - أن نبقى حاضرين في هذا العالم
18 - أن نستمر بالتقدم رغم جروحنا
19 - أن نقبل الغموض
20 - أن نلمح السعادة وهي تبزغ ببطء
الجزء الرابع: أن نكون أكثر انفتاحا ويقظة وندرك أن ذلك هو أكثر الأسفار بعدا
21 - أن نعمل
22 - أن نتأمل
23 - أن نحب
24 - أن نختبر تمدد الذات وانحلالها
Page inconnue
25 - أن نصل للوعي الكوني
تنزيل تمارين التأمل المرتبطة بالكتاب
10 تلميحات للتأمل باستخدام تمارين التأمل المرتبطة بالكتاب
قراءات إضافية
مواقع إلكترونية مفيدة
المراجع
تأمل يوما بعد يوم
تأمل يوما بعد يوم
25 درسا للعيش بوعي كامل
تأليف
Page inconnue
كريستوف أندريه
ترجمة
سامح عبد الكريم صالح
تحية واعتراف بالفضل
إلى جون كاباتزين لرؤيته.
إلى زيندل سيجال لعلمه.
إلى ماثيو ريكار لقدوته.
ولثلاثتهم، لما علموني إياه، ولصداقتهم.
شكر وتقدير
أتوجه بالشكر لصوفي دي سيفري لدعمها المطلق وحسها الجمالي وذوقها الفني المرهف. إنها السبب في الجمال الموجود في هذا الكتاب. وإن كان هذا الكتاب، الذي يعد عملا فنيا صغيرا، قد أبهر عينيك، فالفضل يرجع إليها.
Page inconnue
وأنا ممتن أيضا لكاثرين ماير لتوفرها الدائم لمعاونتي وحدسها ونصائحها. لقد ساعدتني في الوصول إلى أوضح أسلوب ممكن وأكثره إيحاء. وإذا كان هذا الكتاب يتحدث إليك ويلمسك، فالفضل يرجع إليها.
وأقول للاثنتين، شكرا على إمدادي بالمصادر والوقت اللازمين لوضع تخطيط هذا الكتاب ثم تأليفه.
أشكركما على كل هذا، وعلى كل شيء.
تقديم المترجم
«حين تأتي العاصفة تمسكوا بتنفسكم، إنه مرساة النجاة.» هذا ما يقوله كريستوف أندريه في كتابه: «تأمل يوما بعد يوم».
تعتبر حالة التأمل بالوعي الكامل
Mindfulness ، وهي إحدى الممارسات التأملية، أكثر من طريقة علاجية أو ممارسة يومية لنشاط ما. إنها طريقة للعيش، تفتح لنا أبوابا موصدة، وتقودنا إلى غياهب لم نكتشفها قبلا، لكنها كانت دوما في دواخلنا.
بعد ظهور التحليل النفسي في بداية القرن العشرين، وبقائه طويلا في كبد سماء العلاج النفسي، بدأت طرائق العلاج الأخرى بالظهور في ستينيات القرن العشرين، ومنها العلاج المعرفي السلوكي، والعلاج بالتنويم، وعلاج الرضوض النفسية بتفعيل الحركات المتواترة للعينين (
EMDR )، وطرائق أخرى بدأت تشق طريقها في المقاربة الحديثة للاضطرابات النفسية المختلفة، وحتى في مقاربة العديد من الأمراض الجسدية.
إن حالة الوعي الكامل هي بكل بساطة أن نعي في لحظة ما كل ما هو موجود حولنا؛ المكان، والأشياء، والأصوات. أن ندعها تتشربنا لنصير جزءا منها، أو ليصير كل ما حولنا جزءا من وجودنا. إنها أيضا وفي الوقت نفسه أن نعي كل ما يحدث داخلنا؛ تنفسنا، ونبض قلبنا، وتوتر عضلاتنا، ووضعية جسدنا. أن نعي أيضا نهر أفكارنا ومشاعرنا الذي لا يكف عن الجريان والتبدل. كل ذلك في لحظة دون أن نحاول تغييره أو الرد عليه. ويمكننا مع الممارسة، أن نعيشه في لحظات كثيرة من يومنا.
Page inconnue
اختبر الانسان حالة التأمل منذ بدء الخليقة؛ فالتأمل أساسي كالنوم والحركة. وعاش كل واحد منا حالات من الوعي الكامل مرارا دون إدراك لهذه الحالات. يقول أنسي الحاج: «أعجب من شخص يرى لوحة جميلة، أو يسمع مقطوعة موسيقية ويقول لنفسه: يا إلهي، ما أجملها! ثم لا تتغير حياته.»
في كل مرة نقف فيها مشدوهين أمام الجمال، نكون في حالة وعي كامل. إنها تلك اللحظة التي تسرق كل حواسنا.
لقد استمد علماء الغرب مبادئ التأمل (بمفهومه العلمي والعلماني) من الديانات والتيارات الفلسفية الشرقية؛ فلسفة الزن اليابانية، والبوذية، والكونفوشية، وأيضا من فلسفة المتصوفة. قاموا بممارسته ودراسته، ثم نقلوه إلى الآخرين دارسين ومرضى. إنه يشبه في ذلك تفاصيل حياتنا التي لا يجدي فيها النقل النظري والتحليلي، وإنما الممارسة، لهذا فإن كل أساتذة ومعالجي التأمل مارسوه قبل أن يقوموا بنقله.
والآن أدعوكم إلى اختبار هذه التجربة البسيطة: لنغمض أعيننا ونتخيل أننا وحيدون في عاصفة بحرية هائجة. لا ضوء ولا منارة هادية؛ فإذا نظرنا حولنا لا نجد إلا الظلام والخوف، حيث السماء قريبة والغيوم ثقيلة والريح تعصف بكل شيء. إننا وحيدون في سفينة تائهة تتقاذفها الأمواج، ويهددها الغرق. لنمسك إذن دفة السفينة بهدوء وثبات ونحافظ عليها فوق الماء. لنتخيل الآن أننا لسنا فقط ربان السفينة لكننا السفينة ذاتها؛ لنشعر بالماء البارد يدفعنا في كل اتجاه، يجرفنا دون نهاية، ونشعر بالأمواج ترفعنا ثم تسقط علينا من فوق ومن كل جهة قبل أن تنحسر للحظة استعدادا للهجوم من جديد على الجسد الخشبي المرتعش. وماذا لو كنا البحر أيضا، الذي يبقى في المكان بأعماقه التي لا تسبر وسطحه المتموج الذي يرزح تحت العاصفة الغاضبة والمتوعدة، يحاول أن يأخذ لحظة راحة، لكن العاصفة تعود من جديد بقوة أكبر. ورغم ذلك لن يتوقف عن حمل السفينة الخائفة وربانها الوحيد. وماذا لو كنا نحن أنفسنا هذه العاصفة التي لا تهدأ؛ مليئة بالغضب والحركة، مضطربة وضائعة. افتحوا وعيكم على اتساعه على هذا الربان الوحيد، والسفينة الخائفة، والبحر الهائج، والعاصفة العاتية التي لا تهدأ. والآن ماذا لو قمنا، في هذه اللحظة، بخطوة جانبا «أن نقف على حدة»! خطوة واحدة بهدوء وبطء، بسلام وراحة؛ أن نخطو خارج العاصفة بثقة وثبات، فلا نجد غير بحر يحملنا كسرير نوم، وسماء صافية، غطاء دافئ ومشمس. إن هذه الخطوة هي بالضبط ما يدعونا إليه كريستوف أندريه في دروس التأمل التي يقدمها في كتابه هذا.
أود تقديم خالص شكري للصديقة والأخت العزيزة ميساء القصير، التي راجعت هذا الكتاب بكل أقسامه، ولولا جهودها وملاحظاتها القيمة لما وصل الكتاب بصيغته هذه للقراء.
سامح صالح، مونبلييه
25 / 06 / 2019
المعجزة هي أن تسير على هذه الأرض.
تيك نيات هان
أن نعيش حالة وعي كامل هذا يعني أن نعطي اهتماما منتظما وهادئا للحظة الحاضرة. قد تغير هذه الحالة من طبيعة علاقتنا مع العالم بشكل جذري، وتخفف من معاناتنا وتزيد من ابتهاجنا. إن حالة الوعي الكامل هي أحد أشكال التأمل التي يمكن أن نتعلم ممارستها بسهولة وسرعة، لكن الوصول إلى التمكن الكامل يتطلب سنوات من التمرين (مثل أي نشاط مهم نقوم به في حياتنا اليومية).
Page inconnue
لممارسة التأمل بالوعي الكامل، يجب أولا فهم مكنونه وكيفية ممارسته؛ وهذا ما تقدمه لنا أجزاء هذا الكتاب. بعد ذلك يجب التحرر من الكلمات، لترك المكان ببساطة لما نشعر به وما ندركه، وستساعدنا لوحات الكتاب في ذلك. وفي النهاية، يجب أن نمارس ونجرب بأنفسنا؛ ستجدون تمارين ونصائح في العديد من صفحات الكتاب. حاولوا أن تدركوا ، أن تشعروا. وتمرنوا كثيرا، فليس هناك سر آخر لكي تعيشوا حالة وعي كامل.
مقدمة
الحضور ... لا الفراغ
أتأمل كإله ... وأبتسم للكائنات التي لم أخلقها.
جيوم أبولينير، «كحول»
قبل كل شيء، يوجد ذلك الضوء الأصفر الكثيف لشمس شتوية تشع في الخارج. شمس تبهر العيون، لكن لا تدفئ. ثم نكتشف وجود هذا الرجل المسن الجالس دون حركة. لقد أدار وجهه عن مكتبه وعن الكتاب الذي يقرؤه؛ ربما كي يفكر، أو كي يرتاح، أو يتأمل. تنزلق نظرتنا إلى الجهة اليمنى لتلاحظ الباب المنخفض للقبو، يجذبها فيما بعد الدرج الحلزوني الشكل. وفي اللحظة التي تتهيأ لصعود الدرجات الأولى تكتشف النار التي تطقطق في الموقد والمرأة التي تؤجج الجمر. ثم تعود فتتبع صعود السلالم التي لا تقود إلا إلى الظلمة.
لوحة «فيلسوف في حالة تأمل» (1632) لرامبرانت (1606-1669)، وهي لوحة زيتية على الخشب، بأبعاد 0,28 × 0,34 متر، متحف اللوفر، باريس.
إنها لوحة صغيرة الأبعاد، والمكان الذي تقدمه يبدو معتما، ومع ذلك يتملكنا شعور بالاتساع. إنها عبقرية رامبرانت، الذي يجعل نظرتنا تسافر في كل الأبعاد. يتملكنا هذا الشعور بشكل أفقي، بدءا من الجهة اليسرى حيث يشع ضوء الصباح، وفي الجهة اليمنى حيث نجد النار الواهية التي تكاد تكون بلا فائدة؛ هذا الحوار بين شمس تضيء دون أن تدفئ، والنار التي تدفئ دون أن تضيء؛ إنهما شمس الحكمة ونار الشغف؛ عنصرا الفلسفة الأساسيان؛ وإذا اتجهنا بنظرنا نحو الأعلى، إلى هذا الدرج الممتد بشكل حلزوني، الذي نجده يربط بين الأعماق السرية للقبو والظلام الغامض في الطابق الأول؛ وفي العمق أيضا بدءا من وسط اللوحة حيث يجلس الفيلسوف وحتى دائرة الظلام التي تحيط به. شعور الاتساع هذا يأتي من التلاعب البارع بين ما هو مخبأ وما هو مكشوف في اللوحة. إن ما يهم هو ما يمكننا تخيله؛ ما هو مرئي بالقرب من النافدة، وما هو مخبأ وراء باب القبو وفي أعلى الدرج. لكن ما هو أوسع من هذه الفضاءات المخبأة التي مرت عليها عيوننا بسرعة لهي روح الفيلسوف، عالمه الداخلي؛ ظلمات وظلال، والقليل من الضوء، والقليل من الدفء، وروح في حركة دائمة. أليس هذا هو حال عالمنا الداخلي؟
أن نتأمل، يعني أن نتوقف
هذا يعني أن نتوقف عن الفعل، عن الحركة، عن البلبلة. ننسحب قليلا، نبتعد منفردين عن العالم.
Page inconnue
في البداية سيبدو لنا الأمر غريبا؛ هناك فراغ (فراغ الحركة والفعل)، وانشغال (اضطراب الأفكار والأحاسيس التي نعي فجأة وجودها). هناك شيء ما ينقصنا؛ معاييرنا، و«الأشياء التي يجب القيام بها». لكن، فيما بعد، يظهر ارتياح آت من هذا الفراغ. هنا لا تجري الأمور كما في «الخارج» حيث تتمسك روحنا بعدد من الأشياء أو المشاريع، أو ربما القيام بفعل ما، أو التفكير بموضوع معين، حيث يبقى انتباهنا منشغلا بمسألة ما.
في هذه التجربة التأملية الخالية من الفعل الظاهري، نحتاج إلى وقت كي نعتادها، لتكون رؤيتنا أكثر وضوحا؛ كما هي الحال في اللوحة، عند مرورنا من الضوء إلى العتمة، نكون حينها قد وصلنا إلى دواخلنا الحقيقية بالفعل. لقد كانت قريبة جدا منا، لكننا لم نجرب الذهاب إليها. كنا نتسكع في الخارج؛ في زمن الضغوط الحثيثة والتنبيهات المتعبة، حيث يبقى التواصل بذواتنا بورا، ودواخلنا مهجورة، بينما كل ما هو خارجنا كان أسهل في الوصول إليه وأكثر وضوحا. في التجربة التأملية، سنجد في دواخلنا غالبا أرضا بلا طرق معبدة. في البهو الذي يتأمل فيه الفيلسوف نجد قليلا من الضوء، علينا إذن أن نفتح عيوننا أكثر. في دواخلنا أيضا، يوجد قليل من الوضوح والطمأنينة، علينا إذن أن نفتح عيون روحنا على اتساعها.
إننا نتوقع أو نأمل أن نجد هدوءا وفراغا، لكننا نجد أنفسنا في سوق كبيرة، صخب، وفوضى. نتوق إلى الوضوح، لكننا نجد الارتباك. وأحيانا يعرضنا التأمل للقلق والمعاناة؛ إنه يعرضنا لما يجعلنا نتألم ونحاول تجاهله بالتفكير بشيء آخر، بالانشغال بمكان آخر.
تهدئة الاضطراب
يبدو الأمر يسيرا ظاهريا، نظن أنه يكفينا أن نجلس ونغلق عيوننا، لكن الأمر ليس كذلك. إنها البداية فقط. بداية لا بد منها، لكنها ليست كافية.
إذن؟ ... إذن يجب البدء بالعمل، أن نتعلم كيف ننظر، وكيف نبقى حاضرين هنا، لكن على بعد خطوة من العالم. هكذا، ونحن جالسون، وعيوننا مغمضة، نتعلم كيف نصفي اختلاجاتنا.
إنها أول خطوة علينا تجاوزها؛ أن نبقى صامتين، دون حركة ما يكفي من الوقت إلى أن يأتي نوع من الهدوء يغطي ثرثرة روحنا الداخلية، ما يكفي كي نرى بوضوح أكثر، دون إصرار، أو رغبة بأن يتحقق الأمر فورا؛ لأن ذلك قد يدفعنا إلى الفوضى. إذن؛ علينا ترك كل شيء كي يأتي تلقائيا من دواخلنا.
أحيانا يجب الانتظار طويلا؛ لأننا لا نستطيع استعجال هذه العملية. نود ذلك، لكن لا نستطيع. فالتأمل يأخذ وقته، وقد تمضي أيام لا يتراءى لنا فيها شيء. هذا فظيع، أليس كذلك؟! خصوصا في زمننا هذا المليء بالوعود الآنية، والنتائج المضمونة. يروي لنا حكماء فلسفة الزن قصصا بهذا الشأن. ومثال على ذلك هذه القصة التي يسأل فيها تلميذ معلمه: «سيدي، كم من الوقت يلزمني كي أصل إلى حالة صفاء الروح؟» بعد فترة صمت، يجيبه الفيلسوف: «ثلاثون سنة.» يقول التلميذ: «أوه ... هذا وقت طويل. ماذا إذا ضاعفت جهودي، إذا عملت بجهد أكثر، نهارا وليلا، إذا لم أفعل شيئا آخر؟» بقي الحكيم فترة طويلة صامتا، وقال في النهاية: «إذن، خمسون سنة ...»
نكون حينها قد وصلنا إلى دواخلنا الحقيقية بالفعل. لقد كانت قريبة جدا منا، لكننا لم نجرب الذهاب إليها.
كيف يمكن أن نرى بوضوح أكثر؟
Page inconnue
لقد توقفنا الآن، جلسنا وأغمضنا أجفاننا، ليس من أجل أن ننام، ولا لكي نستريح، وإنما كي ندرك؛ ندرك ما نختبره، ونجلي هذه الفوضى، التي ليست سوى صدى العالم داخلنا. ندرك وجود طريقين؛ ذلك الذي يمر عبر التفكير (التدخل، التصرف، لي عنق الحقيقة حسب هوانا، حسب وعينا أو جهودنا)، وذلك الذي يمر عبر التجربة (إدراك الحقيقة عارية كما هي، تركها تغلفنا، تسكننا، تتشربنا، في حالة من الانتباه الشديد، تاركين كل جهد جانبا).
في كلتا الحالتين؛ التفكير والتجربة، نبقى في تواصل مع العالم، لفهمه واستيعابه بوضوح أكثر. كلا الطريقين مثاليان، لكل منهما طبيعته، ولا فضل لأحدهما على الآخر. إننا نحتاجهما معا، وهما في حالة حركة فعالة.
كي نيسر الأمر، لنقل إن الطريق الأول هو انعكاس تجربتنا الفلسفية، والثاني (احتواء العالم دون التفكير بتفاصيله، والتفكير به دون كلمات، وما وراء الكلمات والمعاني)، هو طريق الوعي الكامل. إن هذه التجربة التأملية في حالة الوعي الكامل هي ما يهمنا في هذا الكتاب.
أن نكون حاضرين بوعي كامل
تقتضي حالة الوعي الكامل تكثيف حضورنا في اللحظة الراهنة؛ التوقف وتشربها بدلا من الهروب منها أو محاولة تغييرها، عبر الفعل أو التفكير.
حالة الوعي الكامل هي هذه الحركة التي يقوم بها الفيلسوف في اللوحة، حين يغض البصر للحظة عن عمله الذهني، منتقلا إلى فضاءات أخرى؛ ربما هضم واستيعاب نتاج تفكيره أو ما اكتشفه في تلك اللحظة، وربما الاستعداد للذهاب أبعد بالتوقف لحظة إدراك.
الوعي الكامل ليس حالة فراغ، وليس حالة تفكير؛ هو أن نتوقف كي نتواصل مع تجربة العيش التي تبقى في حركة دائمة والتي نحن بصدد الشعور بها الآن، وكي نراقب طبيعة علاقتنا مع هذه التجربة، طبيعة حضورنا في هذه اللحظة.
إنها ما يحدث الآن إذا قمتم، وأنتم تقرءون ببطء هذه السطور، بالانتباه إلى أنكم تتنفسون أيضا، وتدركون أحاسيس جسدكم. الانتباه إلى وجود أشياء أخرى في ساحة بصركم غير هذا الكتاب، إلى الأصوات حولكم، إلى الأفكار التي تأخذكم إلى أماكن أخرى، أو تهمس لكم بالثناء على ما تقومون الآن بقراءته أو نقده.
الوعي الكامل هو هذه اللحظة التي تتهيئون أثناءها لطي هذه الصفحة والانتقال إلى الصفحة التالية (ربما تكون يدكم في حالة استعداد الآن، حتى قبل أن تقوموا بالانتهاء من قراءة هذه السطور)؛ فتتوقفون عند هذه الحركة وتراقبون؛ تراقبون تهيؤكم الداخلي لطي الصفحة، أن تقولوا لأنفسكم: «سأقلب هذه الصفحة.» بدلا من أن تقوموا بهذه الحركة دون وعي منكم.
حالة الوعي الكامل، هي هذه؛ أن تبتكروا، للحظة، فضاء صغيرا كي «تروا ما تفعلون». ستقولون لي إن طي صفحة ليس أمرا جديرا بالاهتمام. هذا صحيح، ولكن من ناحية أخرى، سيكون ذلك مفيدا في لحظات أخرى كثيرة في حياتكم.
Page inconnue
الجزء
أن ندرك أن الوعي الكامل حالة ذهنية
وهكذا، لا تنظر الروح للأمام، ولا للخلف. الحاضر وحده هو موطن سعادتنا.
جوته، «فاوست، الجزء الثاني»
الفصل الأول
أن نعيش اللحظة الحاضرة
إنه الآن، فقط الآن ... بعد قليل هذا أمر آخر؛ سيكون طائر العقعق قد طار، والشمس ستصبح أعلى في السماء، وسيتراجع ظل السياج إلى الوراء أكثر. لن يكون ذلك أفضل أو أقل كمالا؛ سيكون فقط مختلفا.
إذن يجب التوقف الآن، والإحساس بالهواء البارد الواخز في الأنف، والإنصات للأصوات الخافتة. تأملوا هذا الضوء الآتي من شمس شتاء ثلجي، وابقوا هنا أطول فترة ممكنة، دون انتظار شيء محدد. من المهم ألا ننتظر شيئا، وإنما أن نبقى بكل بساطة في محاولة لإدراك هذا الثراء اللانهائي للحظة؛ كتل الثلج التي تسقط من الأشجار محدثة ضجة خفيفة، هذا الضوء الأبيض المائل للازرقاق لظل السياج، تململ الغراب باحثا عن دفء ضوء الشمس. كل شيء ينضح بالكمال. لا ينقص هذه اللحظة أي شيء كي تملأنا بالرضا.
حالة الوعي الكامل، هي أن نكون بكل بساطة حاضرين في هذه اللحظة من النعمة، هذه اللحظة العادية والمضيئة.
لوحة «طائر العقعق» (1868-1869) لكلود مونيه (1840-1926)، وهي لوحة زيتية على القماش، بأبعاد 0,89 × 1,30 متر، متحف أورسيه، باريس.
Page inconnue
للحصول على نهار شتائي رائع كهذا اليوم، لا بد من هواء صاف ومتلألئ بندف الثلج؛ ما يكفي من البرد، دون رياح أو القليل منها. ولا بد أن يأتي الدفء مباشرة من أشعة الشمس وليس من ذوبان الثلج. فلا يجب لقوى الطبيعة أن تتراخى.
هنري ثورو، «مذكرات (فبراير 1854)»
أخذ القرار بعيش اللحظة الحاضرة
تعلمنا حالة الوعي الكامل، كيف نفتح عيوننا. إنه أمر مهم؛ لأنه يوجد حولنا باستمرار عوالم لا نكترث لها. هنا والآن. إننا نستطيع ولوج هذه العوالم بإيقاف الجريان التلقائي لأفكارنا وأفعالنا.
من المؤكد أن ما يهيئ هذا الولوج، هي لحظات من إدراك جمال ما حولنا؛ كالشمس، والثلج، وطائر العقعق في لوحة مونيه. لكنه أيضا اتخاذ القرار بذلك، وهذا ممكن في كثير من اللحظات؛ اتخاذ القرار بأن تلمسنا الحياة، أن تتواصل معنا، وأن تصفعنا أيضا. إنها مسألة فعل واع وإرادي. هو أن نقرر فتح روحنا لكل ما هو حاضر، بدلا من الاختباء في إحدى قلاعنا الداخلية؛ التأملات القلقة، التفكير، التأكيدات، التوقعات.
إنه فعل تحرر. إنه تحرر من تفكيرنا بالمستقبل أو بالماضي. إن حالة الوعي الكامل تعيدنا إلى الحاضر. إنها تحررنا من الأحكام المسبقة، لتعيدنا إلى الحضور. إن روحنا مزدحمة بكثير من الأشياء؛ بعضها مهم، بعضها الآخر قد يكون جديرا بالاهتمام، ومنها ما ليست له أي أهمية. كل ذلك يمثل حواجز أمام الرؤية؛ حواجز أمام التواصل مع العالم. إننا بحاجة إلى الماضي وإلى المستقبل، بحاجة إلى الذكريات، والمشاريع المستقبلية. لكننا أيضا بحاجة إلى الحاضر. الماضي يهمنا، والمستقبل أيضا. فلسفة اللحظة ليست أن نقول إن الحاضر «أكثر أهمية» من المستقبل ومن الماضي، وإنما أكثر هشاشة، وعلينا حمايته. هو ما سيختفي من وعينا حالما يهزنا شيء، أو يشغلنا أمر. يجب أن نعطيه مساحة أوسع؛ كي يوجد.
أن نشعر أكثر من أن نفكر؛ الوعي المغمور
التأمل بوعي كامل لا يعني «تحليل» اللحظة الحاضرة، أو على الأقل ليس كما نظن.
إنه اختبار اللحظة، الإحساس بها بكل كياننا، ودون كلام. قد لا نكون معتادين على - أو قد لا يكون مريحا بالنسبة لنا - أن نقضي أوقاتا طويلة من حياتنا دون كلام. من الصعب البقاء صامتين، لكننا نستطيع القيام به. أما مسألة التوقف عن «التفكير» واختبار تجربة التواصل مع أحاسيسنا الداخلية، فأيا كان رأينا فيها، فإننا قد عشنا هذه التجربة سابقا. إن ما يحدث حقا، ويذهب أبعد من الكلام، موصوف بدقة في هذا المقطع من «رسالة اللورد شاندوس»؛ إنها قصة رائعة للكاتب النمساوي هوجو فون هوفمانستال: «منذ ذلك الحين، أعيش حياة سيصعب عليكم اكتشاف كنهها، ما دامت تجري خارج الروح ودون أفكار ... سيصعب علي أن أوضح لكم من أي مادة هي مصنوعة هذه اللحظات الهانئة. ها هي تعجز كلماتي ثانية؛ لأن ما يحدث ليس له اسم، ولا يمكن أصلا تسميته. إنها هذه التباشير التي تأتيني لتملأ، في تلك اللحظات، التجليات اليومية حولي كجرار بدفق طافح بالحياة الكثيفة والمثيرة. لا أستطيع إلا أن أتوقع منكم فهمي دون أمثلة. وألتمس منكم الغفران على هذه التداعيات السخيفة؛ مرش ماء، مجرفة عشب متروكة، كلب يتمدد في حقل، مقبرة بائسة، معاق، بيت ريفي صغير، كل ذلك قد يصبح في لحظة مادة وحي لي. قد يأخذ أي من هذه الأشياء، وآلاف من الأشياء الأخرى، التي قد تغض عنها العين العادية دون اهتمام، وبشكل مفاجئ، في لحظة، ودون قصد مني، وجودا من السمو والتأثر لدرجة أن أي كلمة لوصفه تبدو لي شديدة السطحية.»
يقول أحد الحكماء البوذيين: «لا يقوم الوعي الكامل بالاستجابة لما يراه، إنه يرى بكل بساطة، ويفهم دون كلام.» في لحظات معينة قد تساعدنا الكلمات بشكل كبير؛ تسمية ألم أو فرح ما قد تساعدنا على تحمله، تجاوزه، فهمه، أو تذوقه. لكنها لا تستطيع فعل شيء أمام شرح تعقيد حالة ما نعيشها. حتى إنها قد تمنع، تزور أو حتى تبدد التجربة التي نعيشها. هناك لحظات يفضل فيها ألا نقول شيئا. علينا أحيانا عبور حقيقة ما نعيشه بشكل مختلف، بإحساسه واختباره.
Page inconnue
نستطيع أن نتكلم هنا عما يسمى ب «الوعي المغمور» لوصف هذه الحالة الخاصة جدا لوجداننا حين يكون مأخوذا بشكل كثيف، لكن دون نتاج فكري إرادي، حيث نكون فقط «داخل التجربة».
الطابع الكثيف للتجربة
في أحد دروس التأمل بالوعي الكامل، أذكر كيف طلب منا مدربنا القيام بتمرين فريد من نوعه، إنه أحد تلك التمارين التي يفهم سرها حكماء التأمل؛ لقد طلب منا أن نقوم بخطوة نحو الأمام. وبعد عدة ثوان من الصمت قال لنا: «والآن، حاولوا ألا تكونوا قد قمتم بخطوتكم تلك.» حتى تلك اللحظة لم أكن قد سمعت مطلقا، أو عشت، تجربة بهذا الوضوح عن عدم جدوى الندم. ولم أفهم بالضبط قبلها بوضوح هذا الفرق بين التعليم عبر الشرح والتعليم عبر التجربة. في حالة المفاجأة والحيرة تلك، حالة التردد واضطراب الفكر، وجسدي لا يعرف ماذا سيفعل في تلك اللحظة؛ عندها تم إيصال هذه الفكرة عن عدم إمكانية أو جدوى الندم.
يعلمنا الوعي الكامل أن التجربة هي بنفس أهمية المعرفة؛ القراءة عن التأمل ليس كعيشه. الانصات إلى تمارين التأمل من خلال قرص مضغوط ليس كالقيام بهذه التمارين. لا تحل التجربة، بوصفها طريقا نحو ما هو واقعي، محل الوعي أو الذكاء، لكنها تكملهما. وليس هناك ما هو أيسر من التجربة، يكفي أن نعطي أنفسنا الوقت الكافي وأن نتوقف للحظة لعيشها، أن نرى، نسمع، ونشعر. يجب فقط أن نوقف الفعل والحركة. قوموا بذلك الآن. توقفوا عن القراءة. توقفوا الآن. أغلقوا عيونكم، وأدركوا. سجلوا في أذهانكم بماذا هي مجبولة تجربتكم. فقط الآن وهنا. الآن لمدة لحظة. لا يوجد شخص آخر يستطيع أن يقوم بذلك بدلا منكم، ولا يستطيع أي شخص أن يتأمل عوضا عنكم. أغمضوا عيونكم. «الدرس الأول»
العيش هو عيش اللحظة الحاضرة. لا نستطيع العيش في الماضي، ولا في المستقبل. لا نستطيع سوى التفكير بهما، تحليلهما، الشعور بالندم، بالخوف، أو الأمل تجاههما. وأثناء ذلك لن نكون موجودين بشكل فعلي. أن نعي بشكل متكرر غنى اللحظة الحاضرة يعني أن نعيش أكثر. إننا نعرف ذلك، هذا شيء أكيد، فقد قرأناه وسمعناه، حتى إننا فكرنا به. إن كل هذا ليس سوى ثرثرة، يجب أن نقوم بذلك الآن، بشكل فعلي. فلا شيء يحل محل عيش اللحظة الحاضرة.
الفصل الثاني
أن نتنفس
لا يحدث شيء؛ لا حكاية، ولا حكمة. لا شيء سوى سمكة شبوط من ورق، وحيدة في أعلى السارية. وجودها يشعرنا بطراوة الغسق، ونسمع معها همسات المدينة. نطل على كيوتو الجميلة والملغزة برفقة أسد حجري يراقب حركة المارين العائدين إلى منازلهم، وسمكة شبوط أخرى معلقة إلى سارية بعيدة.
لا يحدث شيء، لا نسمع شيئا غير صفق الجسد الورقي للسمكتين في الريح. نشعر بمرور نسيم المساء على جلدنا، إنه يعبر السمكتين ويملؤهما ليعطيهما حياة عابرة. ربما سيتركهما غدا، أو ربما سيمزقهما. لكن في هذه اللحظة، إنهما ما تزالان هنا عاليتين في السماء، وتخفقان بشجاعة.
لا يحدث شيء. لا يوجد سوى الرياح والفراغ. لكن هذا الفراغ يجعل روحنا تتنفس براحة أكبر. إننا نشعر بوجود الهواء في اللوحة، رغم أنه غير مرئي.
Page inconnue
كذلك هو نفسنا الموجود في جسدنا.
لوحة «سواري أسماك الشبوط في كيوتو» (1888)، للوي دومولين (1860-1924)، وهي لوحة زيتية على القماش، بأبعاد 0,46 × 0,53 متر، متحف الفنون الجميلة، بوسطن.
الريح تهب حيث تشاء، وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي، ولا إلى أين تذهب.
القديس يوحنا، «إنجيل يوحنا، 3، 8»
التنفس في صميم التأمل
يأخذ التنفس مكانا أساسيا في بدء ممارسة التأمل. إنه الوسيلة الأكثر فعالية كي نركز على اللحظة الحاضرة (أو أن ندرك أننا لا نستطيع التركيز). ولهذا فإن النصائح الأكثر بساطة وفعالية التي يمكن إعطاؤها للمبتدئين هي أن يأخذوا قليلا من الوقت أكثر من مرة في اليوم كي يراقبوا تنفسهم؛ أن يتنفسوا فقط لمدة دقيقتين أو ثلاث.
تأتي أهمية التنفس في التأمل لعدة أسباب؛ فلكي لا يكون موضوع اهتمامنا أثناء تمارين التأمل سببا في انخفاض انتباهنا يفضل التركيز على «هدف متحرك»، وهكذا يكون من السهل تثبيت الانتباه، دون إرهاقه، على موضوع حاضر لكنه في حركة دائمة. لهذا السبب بالضبط نستطيع البقاء طويلا بحالة اندهاش وتيقظ أمام أمواج البحر، أو لهب النار، أو الغيوم المارة؛ إنها دائما هنا، لكنها لا تتشابه أبدا. هكذا هو تنفسنا، إنه في حالة حضور دائم، وحركة دائمة، ولا تتشابه أي حركة من حركاته مع سابقتها أو تلك التي تليها. ولا يجب أن ننسى تلك الرمزية المرتبطة بالنفس؛ النفس هو الحياة!
تأتي أهمية التنفس أيضا، من كوننا نستطيع التحكم به بشكل نسبي ولكن ملموس، بتسريعه أو إبطائه. لكننا لا نستطيع القيام بنفس عملية التحكم بالوظائف اللاإرادية الأخرى لجسدنا، حيث إنه من الصعب علينا تغيير سرعة حركات القلب، أو ضغط الدم، كما أنه وبنفس الدرجة من الصعوبة نستطيع تسريع أو إبطاء حركات الجهاز الهضمي. إن لتمارين التنفس أيضا أهمية؛ كونها تمتلك تأثيرا على شعورنا العاطفي.
يمكن للتنفس أن يهدئ من روعنا، ليس بالتحكم به، وإنما بالتواصل الهادئ معه، ومرافقته بتمهل. وإن القيام بتجربة قبول شعور مؤلم عبر مرافقة التنفس والمراقبة في نفس الوقت لهذا الشعور هي بداية مهمة من أجل الولوج إلى جدلية الإرادة والقدرة على تهدئة أنفسنا، وسنتكلم عن ذلك فيما بعد. عندما نعاني من الاكتئاب أو القلق، عندما نشعر أننا لسنا بصحة جيدة، يصبح تنفسنا واهنا تعبا. صحيح أن تمارين التنفس لن تحل المشكلة في هذه اللحظات، ولن تزيل كل الآلام، لكنها ستخفف من معاناتنا. لماذا إذن لا نستفيد منها؟
الدروس التي يقدمها لنا التنفس
Page inconnue
يعرف العالم المسيحي جملة يسوع: «قم وامش.» التي قالها إلى شخص مشلول. يخطر لي أحيانا أن أتخيل شخصا قلقا قدم إلى بوذا يطلب منه النصيحة. سيقدم له بوذا كلاما مماثلا لهذا: «توقف وتنفس.» والحقيقة أن التنفس يقدم لنا العديد من الدروس.
درس في الإدراك:
إنه غير مرئي، ونحن ننسى وجوده معظم الوقت. لكن دوره حيوي جدا؛ فنحن بحاجة مطلقة للتنفس. وفي حياتنا يوجد كثير من الأشياء المهمة مثله، إنها تدعمنا ولا نعي وجودها.
درس في الاعتماد والهشاشة:
إن حاجتنا للتنفس تبقى أكثر وضوحا وآنية من حاجتنا للطعام، للشراب، أو للحب. يعلمنا التنفس أننا مقيدون باعتمادنا على العديد من الأمور. لكن هذه القيود تكوننا وتغذينا في نفس الوقت. إن فكرة الاعتماد والقيد تخيف أحيانا الأشخاص القلقين: «وإذا فقدت كل ذلك؟! وإن لم أستطع في أحد الأيام مواصلة التنفس؟» فيحاولون جاهدين أن ينسوا أو يتناسوا تنفسهم. من المؤكد أن الحل لن يكون بكبت فكرة أن حياتنا متعلقة بتنفسنا، بل بالتوصل إلى قبول هذه الفكرة، التي تعكس الحقيقة فعلا، وذلك بأن نتأملها مرارا، وأن نسمح لها بأن تسير بحرية في ذهننا. وبهذا، تصبح مألوفة لنا، ويخف القلق.
يمكن للتنفس أن يهدئ من روعنا، ليس بالتحكم به، وإنما بالتواصل الهادئ معه، ومرافقته بتمهل.
درس في البراعة:
يتواجد النفس في الداخل وفي الخارج. إنه يخلط الحدود بين الذات وما هو خارجها. إنها حدود وهمية في كثير من الأحيان، وأحيانا أخرى تكون مصدرا للمعاناة. إن التمسك الشديد باليقين بأننا منفصلون عن العالم - أي، له حدوده ولنا حدودنا - ليس بالفكرة الجيدة. حاولوا أن تتأملوا بالتركيز على النسيم الصيفي الحار، وستكتشفون تجربة ذات نكهة عذبة؛ فبعد مرور عدة لحظات سيحصل اندماج بين النفس الحار الداخل إلى رئتينا والنسيم الذي يهب في الخارج.
درس في التواضع:
لكون التنفس إراديا ولا إراديا في نفس الوقت، فهو يعلمنا قبول حقيقة أننا لا نتحكم بكل شيء، وأن الأمر ليس كما يحاول المجتمع تقديمه لنا عن طيب خاطر بأن كل شيء قابل للسيطرة. لكن التنفس يعلمنا أيضا ألا نكون مستسلمين وسلبيين لأننا نستطيع التدخل بشكل متواضع ولكن فعال في كل ما لا نستطيع التحكم به بشكل كامل.
Page inconnue
درس في الواقعية:
رغم أهميته، لا يملك النفس هوية خاصة به؛ إنه يتشكل ويتبدد بشكل متواصل. هذا ما يسميه البوذيون ب «الفراغ». لا يعني ذلك أنه غير موجود، لكنه ليس بالحقيقة الصلبة كما نتوقعه أن يكون كي نتعلق به ويشعرنا بالأمان. إنه، كالغيم، كالريح، والموج، أو قوس قزح؛ حقيقي لكنه غير دائم؛ ودائم الحضور، لكنه يكتفي بالعبور.
تنفسنا ذو الحضور الدائم
إن حركات التنفس التي تملأ جسدي دائما موجودة معي، كنبع لا ينضب، وهي تبقيني متيقظا متصلا باللحظة الحاضرة، وأنا أراقبها دون أن أحاول تغييرها.
التنفس هو مرساة حالة الوعي الكامل؛ إذ يساعدنا على الرسو في ميناء اللحظة الحاضرة. إنه يشبه أحيانا ما يسميه البحارة بالمرساة الطافية؛ تلك التي تساعد السفينة على إبطاء سرعتها فلا تنقلب في العاصفة، حين لا تجدي كل المناورات الأخرى. إنه كصديق دائم الاستعداد للمساعدة. علينا ألا نطلب منه المستحيل؛ فلا جدوى من طلب العون منه كي نتخلص بشكل كامل من شعور بالضغط، أو القلق، أو الخوف، أو الحزن، أو الغضب. لكنه سيساعدنا حتما كي لا يبتلعنا شعور ما مضن. علينا أن نستعين به كما نطلب من صديق حميم أن يكون بقربنا كي نتجاوز المحنة.
حين يصيبك مرض، تنفس. وتنفس أيضا في وقت الشدة. في البداية بدت لي هذه التوجيهات ذات أفق محدود. فيما بعد فهمت المقصود منها. فالرسالة الكاملة هي: «ابدأ بالتنفس، وستتضح الأمور فيما بعد.» ستصبح أفكارنا أكثر وضوحا، وسنعرف ماذا سنفعل لاحقا. صحيح أن التنفس لن يغير الواقع، لكنه سيغير نظرتنا لهذا الواقع وسيضمن قدرتنا على التصرف في مواجهته.
بعد الممارسة المتكررة للتنفس، سيختلف الأمر؛ لأننا لن نكتفي بتنفسنا، لكننا سنبدأ بمراقبته، وسيشارك جسدنا كله في عملية التنفس. سنصير داخل نفسنا. سنندمج معه. ونصير هو. ذلك ليس وهما ولا إيحاء. كل ما في الأمر هو أننا وصلنا، باستخدام وعينا لحركات تنفسنا، إلى جوهر آلاف من الظواهر التي تجعل منا كائنا حيا.
وهكذا، يصير التنفس أكثر أهمية مما هو عليه؛ يصير طريقا للتواصل والتبادل مع كل ما هو داخلنا وكل ما هو حولنا، سواء أكان ذلك مؤلما أم عذبا لأننا نستطيع، بالتأكيد، أن نتنفس أمام العذوبة والجمال أيضا. «الدرس الثاني»
هناك فكرة عامة مفادها أننا لا نستطيع أن نفعل شيئا جديرا بالذكر بظاهرة يسيرة ومعروفة جيدا كالتنفس. أي خطأ هذا؟! على العكس، نحن نستطيع أن نجني فوائد جمة حين نعي تنفسنا؛ هذا يعني أن نعي بسهولة وجوده وكل أحاسيس جسدنا المتعلقة به، دون أن نحاول تغييره، وأن نعيره اهتمامنا، عندما نكون سعداء أو تعساء، دون أن ننتظر منه شيئا أو نطلب أن يحل مشاكلنا. وعلينا أن نفهم حقيقة أننا حين لا نستطيع أن نحل مشاكلنا، من الأفضل ألف مرة أن نعير انتباهنا لتنفسنا بدلا من اجترار هذه المشاكل في ذهننا.
الفصل الثالث
Page inconnue