Systematic Flaws in the Writings of the Orientalist Schacht on the Prophetic Sunnah
العيوب المنهجية في كتابات المستشرق شاخت المتعلقة بالسنة النبوية
Maison d'édition
مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة
Genres
المقدمة:
إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد.
فإن "الاستشراق " يعد من أخطر الحركات الفكرية التي تحرص على بث الشبهات، والافتراءات حول مصادر التلقي الأصلية عند المسلمين، وفي سبيل ذلك يقوم المستشرقون، ومن يقف وراءهم بتجنيد طاقات بشرية، واقتصادية، وتقنية؛ ليحققوا الغايات التي يسعون إليها.
ويكاد يتفق أساتذة الاستشراق على أن أهم الكتابات الاستشراقية في السنة النبوية المطهرة؛ تمت على يدي رجلين هما: جولد زيهر، وجوزيف شاخت، ولذا اخترت أن يكون هذا البحث عن الثاني منهما، لعدة اعتبارات سيتم إيضاحها فيما يلي.
أهمية البحث:
تكمن أهمية هذا البحث في النقطتين التاليتين:
١ - إن أبرز ما يتشدق به المستشرقون هو تمسكهم بالمنهج العلمي الدقيق في بحوثهم، وعليه يكون أفضل رد عليهم - في نظري - هو بيان تجاوزهم لأصول المنهج العلمي المتعارف عليها عالميًا، سواءً عند المسلمين أو عند غيرهم، مع إبراز ذلك بصورة جلية ومحورية. ولذا جعلت بحثي إجابة عن سؤال محدد هو: ما العيوب المنهجية التي خالف فيها المستشرق "جوزيف شاخت " أصول المنهج العلمي وقواعده في كتاباته المتعلقة بالسنة النبوية؟
1 / 1
٢ - إن " شاخت " عند متأخري المستشرقين يعد أبرز من كتب في الهجوم على السنة النبوية وحجيتها، ويرون أنه قدَّم نظرية متناسقة وشاملة في ذلك، كما ستأتي بعض نصوصهم المبينة لذلك في ترجمته إن شاء الله.
هدف البحث:
يهدف البحث إلى تحقيق أمرين هما:
١ - التركيز على أبرز عيوب المنهج العلمي التي وقع فيها " شاخت " في كتاباته حول السنة النبوية، مع بيان خطورة هذه الأخطاء لدى أساتذة المنهجية، مصحوبة بذكر بعض الأمثلة من كلام " شاخت "؛ لكي تبدو عيوب منهجه واضحة للعيان.
٢ - إيضاح أن تلك العيوب مؤثرة في سلامة النتائج التي توصل إليها "شاخت "، مما يجعل أحكامه وآراءه التي أطلقها حول السنة النبوية؛ من غير الممكن -وفق أصول المنهج العلمي الدقيق- أن تكون مقبولةً أو مسلمًا بها، حتى عند غير المسلمين، ولكي يعلم أيضًا أن سبب رفض المسلمين لمثل هذه الآراء ليس لمجرد أنها مخالفة لمعتقداتهم فقط؛ وإنما لكونها أيضًا مبنية على منهج فاسد مليء بالعيوب الخطيرة.
ويجدر التنبيه هنا أنني حرصت عند الكلام على أي عيب منهجي على ذكر كلام المختصين في المنهج العلمي من الغربيين، أو من بعض المختصين العرب الذين كتبوا في المنهجية معتمدين بصفة أساسية على المصادر الغربية، وغرضي من هذا إثبات أن الأصول المنهجية التي انتهكها " شاخت " متفق عليها عالميًا.
1 / 2
الفصل الأول: التعريف بشاخت وبأهم آرائه في السنة
المبحث الأول: تعريف بالمستشرق "شاخت"
...
الفصل الأول: التعريف بشاخت وبأهم آرائه في السنة
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: تعريف بالمستشرق " شاخت ".
المبحث الثاني: عرض موجز لأهم آرائه حول السنة النبوية.
1 / 3
المبحث الأول: تعريف بالمستشرق " شاخت "
يلحظ أي باحث لا يجيد إلا اللغة العربية أن المستشرق " شاخت " ليس له ترجمة تتناسب مع مكانته الاستشراقية، ومما يثير الاستغراب أن بعض الكتب التي اعتنت بتراجم المستشرقين ككتاب " الأعلام " لخير الدين الزركلي لم تذكر عنه أي شيء، بينما ذكرت تلك الكتب تراجم لمستشرقين هم أقل شأنًا منه، ويزداد العجب أكثر حين نعلم أن الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، وهو أبرز عالم مسلم رد على كتابات " شاخت " في السنة النبوية لم يعط تعريفًا به، مع أنه لم يكتب بحوثه إلا بعد وفاة شاخت ببضع سنين.
هذا الأمر كان حافزًا لي كي أبحث عن ترجمة مطولة بعض الشيء لحياة شاخت، فيسَّر الله ﷿ لي الوقوف على بعض المقالات، فاجتهدت أن أصوغ منها ترجمة وافية بعض الشيء لهذا المستشرق الذي ترك أثرًا خطيرًا في الدراسات الاستشراقية.
نشأته:
ولد جوزيف (يوسف) شاخت، في راتيبور في الخامس عشر من مارس سنة ١٩٠٢م، وتقع هذه البلدة في إقليم شيلزبان الألماني، أما الآن فهي تخضع للسيطرة البولندية (١) .
التحق في تلك البلدة بالثانوية الألمانية، وفيها بدأت تظهر اهتماماته الأولى باللغات الشرقية، حيث كان الحاخامات اليهود يلقون دروسًا في تلك المدارس في المحاضرات المخصصة للدراسات الدينية، وكانوا يعلمون اللغة
_________
(١) انظر مقال برنارد لويس بعنوان " جوزيف شاخت " (ص ٦٢٢)، ومقال روبير برونشفيج بعنوان "يوسف شاخت حياته وآثاره" (ص ٦٣٠) .
1 / 5
العبرية لأولاد اليهود، ويؤكد برنارد لويس (١) أن " شاخت " لم يكن يهوديًا، ولكنه حضر تلك الدروس رغبة منه في زيادة معارفه.
ونفي يهودية " شاخت " أكدها أيضًا " روبير برونشفيج " حيث ذكر أن " شاخت " كان يكره النازية الألمانية مع أنه ما كان له أن يخشاها بحكم أصوله (٢) .
والمشهور عند عدد من الباحثين العرب أنه كان يهوديًا، هذا ما جزم به الدكتور مصطفى السباعي، والدكتورأكرم ضياء العمري وآخرون غيرهما (٣)، ولكن يبدو أن الواقع كما ذكره " برنارد لويس " و" برونشفيج " فهما من المقربين لشاخت، وليس هناك حاجة ملحة تدعوهم لإنكار يهوديته، والذي يظهر لي أن أسباب الوهم لدى السباعي والعمري وغيرهما من القائلين بأن ديانة " شاخت " هي اليهودية ربما ترجع للأمور التالية:
١ - يكثر في اللغة العبرية استعمال حرف الخاء وهو في اسم "شاخت"، مما يوحي بأن أصل الاسم يعود للعبرية التي هي لغة اليهود، ومن المعروف أن اللغة الألمانية أيضًا تستعمل حرف " الخاء " في أبجديتها، مما ينفي وجاهة هذا الربط بين الاسم واللغة العبرية.
٢ - كان " شاخت " من أشد المعجبين بالمستشرق المجري "جولد زيهر" وهو يهودي معروف يعد من أساطين الاستشراق، وقد سار " شاخت " على
_________
(١) مقال لويس السابق (ص ٦٢٢) .
(٢) مقال برونشفيج السابق (ص ٦٣٢) .
(٣) انظر كتاب السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي للسباعي (ص ١٥)، وموقف الاستشراق من السيرة والسنة النبوية للعمري (ص ٣٧) .
1 / 6
خطاه في بحوثه حول السنة النبوية، بل كان أكثر شراسة وقسوة منه على التراث الإسلامي، فلعل هذا ما أوحى لبعض الباحثين العرب بأن الرجل يهودي أيضًا لطبيعة آرائه الحاقدة على المسلمين ودينهم.
٣ – ليس ثمة ترجمة ضافية لشاخت في المصادر العربية المتاحة، مما أسهم في التمكين لذلك الخطأ وساعد على انتشاره وشهرته.
وبهذا يعلم أنه ألماني المنشأ واللغة، ولم يكن يهوديًا كما أكد أحد تلامذته اليهود أعني " برنارد لويس " (١)، وأحد أصدقائه المقربين منه " روبير برونشفيج " (٢)، وبالنظر إلى أن الديانة الأكثر انتشارًا في ألمانيا هي النصرانية، فالغالب أن يكون " شاخت " نشأ في أسرة تدين بهذه الديانة.
وقد أقام في ألمانيا حتى تجاوز الثلاثين من عمره، ثم هاجر إلى بريطانيا بسبب كراهيته للنظام النازي الذي كان يحكم ألمانيا قبيل الحرب العالمية الثانية، وفي ذلك يقول برونشفيج: «ثم كانت الحرب العالمية الثانية، فالتحق "شاخت" بإنجلترا التي كان في أحلك الظروف يسمع منها عبر الإذاعة البريطانية، صوت الحرية مخاطبًا مواطنيه الألمان - إذ لم يكن قد تخلى بعد عن جنسيته الألمانية -، وكان شاخت يمقت النازية مع أنه ما كان له أن يخشاها
_________
(١) برنارد لويس مستشرق له شهرة عالمية يحمل الجنسية الأمريكية، وهو يهودي صهيوني من أكثر المستشرقين المعاصرين حقدًا وكراهية للعرب والمسلمين، وحماسًا ودعمًا لما يسمى بدولة " إسرائيل "، ولا يزال على قيد الحياة، فقد قرأت بعض أفكاره وتصريحاته مؤخرًا في الصحف خلال حرب أمريكا على العراق. وللمزيد حول آرائه وترجمته انظر الدراسة الجيدة التي كتبها الدكتور مازن المطبقاني عنه في أطروحته للدكتوراه المنشورة بعنوان: " الاستشراق والاتجاهات الفكرية في التاريخ الإسلامي دراسة تطبيقية على كتابات برنارد لويس ".
(٢) مقال برونشفيج السابق (ص ٦٣٠، ٦٣٣) .
1 / 7
بحكم أصوله، لكنه كان يعارض كل نبذ، وكل اضطهاد وتزوج امرأة إنجليزية مثقفة وما انفكت أن أصبحت الرفيقة المتفهمة له، والمتفانية التفاني الكامل في خدمته، وبعد الحرب حصل عام ١٩٤٧م على الجنسية الإنجليزية
التي لم يتخل عنها قط» (١) .
وقد انتقل في آخر حياته إلى الولايات المتحدة الأمريكية منذ سنة ١٩٥٧م، وأقام فيها حتى آخر حياته.
تكوينه العلمي:
تقدم أنه درس في الثانوية الألمانية، وحين التحق بجامعتي برسلو، ولايبتزج درس فقه اللغة اللاتينية، والإغريقية، وعلم اللاهوت، واللغات الشرقية.
وكان يكتب بحوثه بثلاث لغات هي: الألمانية، والإنجليزية، والفرنسية، مما يدل على إجادته لها (٢)، وكان يحسن اللغة العربية والتركية (٣)، وتقدَّم أنه تعلَّم اللغة العبرية.
ولما كانت الرحلات العلمية تؤثر في التكوين العلمي لأي باحث، فإن "شاخت" حرص عليها، فقام بزيارة الشرق الأوسط عدة مرات، وكذلك شمال إفريقيا وغربها (٤) .
ويظهر من إنتاجه العلمي أن أول كتاب نشره، كان تحقيقًا لكتاب في الحيل الفقهية وعنوانه " الحيل والمخارج "للخصاف، وقد كتب له مقدمة،
_________
(١) من مقال برونشفيج السابق (ص ٦٣١ - ٦٣٢) .
(٢) السابق (ص ٦٣٥) .
(٣) السابق (ص ٦٣١) .
(٤) السابق (ص ٦٣١، ٦٣٣)، ومقال برنارد لويس (ص ٦٢٣) .
1 / 8
وعلق على عدة مواطن منه (١)، وكان تاريخ نشره في ١٩٢٣م، ولهذا يقول برنارد لويس: «كان الفقه الإسلامي هو الحقل الدراسي الأول الذي انصرف إليه " شاخت " بكل همته، وبقي واحدًا من أهم اهتماماته الأساسية حتى قضى نحبه» (٢) .
ويبدو أنه كان معجبًا، في وقت مبكر من شبابه بالمستشرق المشهور "جولد زيهر"، ولذا فقد قام بإكمال بحوثه حول السنة النبوية، ولاسيما فيما يتعلق بالأسانيد (٣) .
مناصبه العلمية:
أول منصب شغله " شاخت " كان أستاذًا في جامعة فرايبورج عام ١٩٢٥م، وفي سنة ١٩٣٢م دعي لشغل كرسي اللغات الشرقية في جامعة كونجسبرج، وفي عام ١٩٣٠م عمل أستاذًا زائرًا في الجامعة المصرية بالقاهرة، ثم عاد إليها في سنة ١٩٣٤م وعمل بها حتى سنة ١٩٣٩م.
وبعد نشوب الحرب العالمية الثانية انتقل إلى إنجلترا حيث عمل في هيئة الإذاعة البريطانية طوال سنوات الحرب، وفي عام ١٩٤٦م عين في وظيفة تعليمية في جامعة أكسفورد برتبة محاضر، وفي سنة ١٩٤٨م عين أستاذًا مساعدًا في الدراسات الإسلامية.
ثم عمل أستاذًا زائرًا في جامعة الجزائر في سنة ١٩٥٢م، وفي سنة ١٩٥٤م غادر إنجلترا إلى هولندا ليشغل كرسي اللغة العربية في جامعتها
_________
(١) المستشرقون (٢ / ٤٦٩)، ومقال برنارد لويس (ص ٦٢٤) .
(٢) مقال برنارد لويس (ص ٦٢٤) .
(٣) السابق (ص ٦٢٦)، ومقال برونشفيج (ص ٦٣٢) .
1 / 9
الشهيرة لايدن، ثم انتقل إلى جامعة كولومبيا في الولايات المتحدة الأمريكية من سنة ١٩٥٧م إلى ١٩٦٩م حيث هلك هناك، بالإضافة إلى أنه كان عضوًا في المجمع العلمي في دمشق، وغيره من المجامع (١) .
أخلاقه
وصفه " برنارد لويس " بأنه كان عنيدًا، متصلبًا لدرجة أنه حين غادر ألمانيا لم يعد إليها أبدًا، بل ولم يكتب بلغته الأم بعد ذلك، وكان التعامل معه صعبًا؛ لأنه كان لا يحسن ممارسة الرياء الاجتماعي، وكانت قسمات وجهه متجهمة (٢) .
وقد أثنى عليه أصحابه من المستشرقين بأنه كان لطيفًا ودمثًا ونزيهًا وأمينًا (٣)، ولكننا نشك في دقة هذا الكلام المتعلق بالأمانة والنزاهة؛ لأمرين:
أحدهما: أن المطلع على بحوث هذا الرجل المتعلقة بالسنة النبوية، والفقه الإسلامي يلحظ وبجلاء حقده البالغ، وكراهيته الشديدة للمسلمين وتراثهم، ويدل على ذلك أنه يتهم كل علماء الحديث ورواته الثقات بالكذب والتزوير والوضع على الرسول ﷺ
ثانيهما: أن الدكتور نجم خلف ذكر أن أحد مشايخ المغرب واسمه مصطفى المغربي حدَّثه في مدينة الرباط سنة ١٤٠٣؟ أن المستشرق "شاخت"
_________
(١) السابق (ص ٦٢٣)، ومقال برونشفيج (ص ٦٣٠، ٦٣١، ٦٣٣، ٦٣٥)، المستشرقون (٢/٤٦٩) .
(٢) مقال برنارد لويس (ص ٦٢٨ - ٦٢٩) .
(٣) السابق (ص ٦٢٩)، ومقال برونشفيج (ص ٦٣٢) .
1 / 10
قد استعار منه، ومن غيره بعض المخطوطات أثناء إقامته في المغرب، ثم استولى عليها ولم يعدها، رغم المكاتبات والشفاعات، بل أنكرها في النهاية (١) .
مكانته العلمية عند المستشرقين
إن الكلام على مكانة هذا الرجل عند المستشرقين، لا يُراد به مدحه أو الثناء عليه، ولكن بيان مدى مكانة أحكامه وأقواله لدى المهتمين بالدراسات الإسلامية عند غير المسلمين، وحتى تتبين لنا الخطورة التي تمثلها الآراء التي يبثها في أوساط المستشرقين، وفيما يلي بعض النصوص الدالة على ذلك:
يقول سافوري: «من أكبر علماء الشريعة الإسلامية في العالم» (٢) .
ويقول السير هاملتون جيب: «سيصبح كتاب "أصول الفقه المحمدي" أساسًا لجميع الدراسات المستقبلية في الحضارة الإسلامية والفقه الإسلامي، ولو عند الغربيين على الأقل» (٣) .
ويقول كولسون أستاذ الفقه الإسلامي في جامعة لندن: «إن "شاخت" صاغ نظرية عن أصول الشريعة الإسلامية غير قابلة للدحض» (٤) .
ويقول الدكتور محمد مصطفى الأعظمي: «أما المنزلة التي وصل إليها البروفسور " شاخت "، فلم يصل إليها من قبل أي مستشرق في هذا المجال» (٥) .
_________
(١) نقد المتن بين صناعة المحدثين ومطاعن المستشرقين (ص ١٠) .
(٢) موقف الاستشراق من السيرة والسنة النبوية (ص ٣٨) .
(٣) أصول الفقه المحمدي لجوزيف شاخت في كتابات الغربيين (ص ٦٤٦) .
(٤) مناهج المستشرقين (١ / ٦٨) .
(٥) السابق (١ / ٦٧) .
1 / 11
ويقول أيضًا: «وصار كتابه - يعني أصول الفقه المحمدي - منذ ذلك الحين " إنجيلًا ثانيًا " لعالم الاستشراق، وفاق " شاخت " سلفه "جولد زيهر" حيث غيَّر نظرته التشكيكية في صحة الأحاديث، إلى نظرة متيقنة في عدم صحتها، ولقد ترك كتابه هذا أثرًا عميقًا في تفكير دارسي الحضارة الإسلامية ... وكافة الباحثين في الغرب، أثنوا عليه ثناء عاطرًا» (١) .
ويقول الصديق بشير نصر: «وليس من قبيل المبالغة إذا قلت: إن كل من كتب بعده من المستشرقين في هذا الحقل المعرفي هم عيال عليه، وحسبك أنه لا تكاد توجد جامعة من جامعات الغرب لها اعتناء بالدراسات الإسلامية، إلا ونجد هذا الكتاب مقررًا على طلابها» (٢) .
ويؤكد برونشفيج أن أغلب العلماء في الغرب قبلوا ووافقوا على نظرية "شاخت" في الحديث النبوي؛ لما تتضمنه من تحليلات ونظام نقدي وتفسيري (٣) .
إنتاجه العلمي
يعد " شاخت " من المستشرقين الغزيري الإنتاج، ويظهر هذا جليًا لمن يدقق في القائمة التي جمعها روبير برونشفيج (٤)، والسرد الذي قام به نجيب العقيقي (٥)، ولعل أبرز كتبه هي: أصول الفقه المحمدي، ومدخل إلى الفقه
_________
(١) دراسات في الحديث النبوي - المقدمة (ص ي، ك) .
(٢) أصول الفقه المحمدي في كتابات الغربيين (ص ٦٤٦) .
(٣) مقال برونشفيج (ص ٦٣٢) .
(٤) السابق (ص ٦٣٥ - ٦٤٤) .
(٥) المستشرقون (٢ / ٤٦٩ - ٤٧١) .
1 / 12
الإسلامي، وتحريره لبعض مواد دائرة المعارف الإسلامية في طبعتيها القديمة والجديدة، وأما مقالاته وبحوثه المنشورة في المجلات العلمية فهي كثيرة جدًا كما يظهر من عرض برونشفيج، والعقيقي.
ويعد كتابه " أصول الفقه المحمدي " أشهر كتبه، وقد قام الأستاذ الصديق بشير نصر بترجمة بعض فصوله، ونشرها في مجلة كلية الدعوة الإسلامية بليبيا.
وفاته
هلك " شاخت " في غرة شهر أغسطس سنة ١٩٦٩م في مدينة إنجلوود بولاية نيوجرسي في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد كان يتأهب للانتقال إلى منزل آخر لقرب موعد تقاعده، وقد وافته المنية حيث كان منهمكًا في مراجعة كتاب " تراث الإسلام "، وهو من تأليف عدد من الباحثين (١) .
_________
(١) السابق (ص ٦٣٤)، ومقال لويس (ص ٦٢٤) .
1 / 13
المبحث الثاني: عرض موجز لأهم آرائه حول السنة النبوية
...
المبحث الثاني: عرض موجز لأهم آرائه في السنة النبوية
تتلخص أهم آراء المستشرق " جوزيف شاخت " في السنة النبوية في النقاط التالية:
١ - إن الرسول ﷺ لم يكن مهتمًا ببيان أمور الشريعة –القانون-، كالقضايا المتعلقة بالمعاملات المالية والأحوال الشخصية والقضاء، وفي ذلك يقول: «في الجزء الأكبر من القرن الأول لم يكن للفقه الإسلامي - في معناه الاصطلاحي - وجود كما كان في عهد النبي، والقانون - أي الشريعة - من حيث هي هكذا كانت تقع خارجة عن نطاق الدين ... فقد كانت مسألة القانون تمثل عملية لا مبالاة بالنسبة للمسلمين» (١) .
٢ - إن مفهوم السنة قديمًا عند المدارس الفقهية القديمة، يعني الأمر المجتمع عليه، أو بمعنى آخر التطبيقات المثالية للجماعة، ويؤدي التسليم بهذه الحقيقة إلى أن مصطلح " السنة " لا علاقة له بأقوال الرسول ﷺ وأفعاله، وقد بنت المدارس الفقهية القديمة مفهومها للسنة وفقًا للمعنى القديم (٢) .
٣ - لم يكن الاحتجاج بالأحاديث ذات الأسانيد المتصلة إلى رسول ﷺ معروفًا عند المدارس الفقهية في القرنين الأول والثاني الهجريين، وإنما بدأ هذا الأمر مع نشأة حزب معارض يقوده الإمام الشافعي يرى ضرورة إسناد الاستدلالات الفقهية إلى أقوال الرسول ﷺ أو أفعاله، مما أدى إلى ظهور أحاديث تفصيلية مكذوبة عن الرسول ﷺ من أجل إيجاد مصدر تشريعي
_________
(١) المستشرق شاخت والسنة النبوية (١ / ٦٩) .
(٢) أصول الفقه المحمدي للمستشرق شاخت دراسة نقدية (ص ١٠) .
1 / 15
لآراء الحزب الفقهية، إلا أن المدارس القديمة حاولت أن تقاوم هذا الحزب المعارض الجديد، ولكنها رأت أن ذلك أصبح صعبًا؛ للقبول العام الذي وجده في الأوساط العامة، مما أدى حسب رأي " شاخت " أن تلك المدارس شاركت أيضًا في الكذب والوضع على الرسول الكريم ﷺ حتى تضمن الانتصار في المناظرات العنيفة مع الخصوم والمخالفين (١) .
٤ - بدأ الإسناد عند المسلمين بالظهور في أوائل القرن الثاني، أو أواخر نهاية القرن الأول الهجري (٢) .
٥ - نتيجة لما تقدم يرى " شاخت " أنه قد أصبح من عادة العلماء - وبدون استثناء كما يظهر من عباراته - خلال القرنين الثاني والثالث الهجريين أن ينسبوا عباراتهم إلى الرسول ﷺ بذكر أسانيد اعتباطية تفتقر للتسويغ المنطقي الذي يدل على التنظيم والعناية (٣) .
٦ - تم تطوير الأسانيد بشكل تدريجي من خلال التزوير والوضع. لقد كانت الأسانيد المتقدمة غير مكتملة (يعني: فيها إرسال، أو موقوفة، أو مقطوعة، أو منقطعة)، لكن تم ملء كل الفراغات في وقت تدوين المصنفات المشهورة التي تسمى بالمجموعات التقليدية كالكتب الستة ومسند أحمد وأمثالها (٤) .
_________
(١) أصول الفقه المحمدي في كتابات الغربيين (ص٦٥٠، ٦٥١، ٦٥٢، ٦٥٩، ٦٦١)، وأصول الفقه المحمدي للمستشرق شاخت دراسة نقدية (ص ١١) .
(٢) أصول الفقه المحمدي للمستشرق شاخت دراسة نقدية (ص ٢٨٨) .
(٣) السابق (ص ٢٨٩) .
(٤) السابق.
1 / 16
٧ - الأسانيد العائلية مثل عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وبهز ابن حكيم عن أبيه عن جده، كلها مختلقة سندًا ومتنًا (١) .
٨ - كل حديث في إسناده راو مشترك (يعني الراوي الذي عليه مدار السند)، يدل أن ذلك الراوي هو الذي اختلق سند ذلك الحديث (٢) .
٩ - ابتكر " شاخت " قاعدة؛ ليستدل بها على أن كثيرًا من الأحاديث لم تكن إبان فترة الإسلام الأولى، ونص هذه القاعدة: "السكوت عن الحديث في موطن الاحتجاج دليل على عدم وجوده"، ويوضح رأيه بجلاء في هذا النص حيث يقول: «إن أفضل سبيل لإثبات عدم وجود حديث ما في وقت من الأوقات، يكون بإثبات أن ذلك الحديث لم يستخدم دليلًا شرعيًا في حجاج - يعني في مسألة خلافية - في الوقت الذي يكون الاستدلال به أمرًا لازمًا، هذا إذا كان الحديث نفسه موجودًا» (٣) .
١٠ - النتيجة النهائية التي هي خلاصة آراء " شاخت " في السنة النبوية أنه لا يمكن الحكم بصحة أي حديث من أحاديث الأحكام المروية بالسند إلى رسول الله ﷺ، وفي ذلك يقول: «من العسير أن يُعد أي من هذه الأحاديث صحيحًا فيما يتعلق بمسائل التشريع الديني» (٤) .
وفي ذلك يقول الأعظمي: «وخلاصة ما وصل إليه من نتائج أنه ليس هناك حديث واحد صحيح، وخاصة الأحاديث الفقهية» (٥) .
_________
(١) السابق.
(٢) السابق.
(٣) توثيق الأحاديث النبوية نقد قاعدة شاخت (ص ٦٩٧) .
(٤) السابق.
(٥) دراسات في الحديث النبوي (ص ي) .
1 / 17
إن مجمل آراء هذا الرجل في السنة النبوية تؤكد حقيقة واحدة هي أن مجموع الأحاديث المروية عن رسول الله ﷺ ما هي في واقع الأمر إلا نتاج تزييف ديني واسع النطاق (١)، وعليه فإن علماء المسلمين من فقهاء ومحدثين - من وجهة نظره الفاسدة - إنما هم مجموعة من الكذابين.
_________
(١) توثيق الأحاديث النبوية نقد قاعدة شاخت (ص ٦٩٥) .
1 / 18
الفصل الثاني: عيوب المنهج العلمي عند "شاخت"
المبحث الأول: التحيز العنصري في المسلمات الأولية
...
الفصل الثاني: عيوب المنهج العلمي عند " شاخت "
ويشتمل على المباحث التالية:
المبحث الأول: التحيز العنصري في المسلمات الأولية.
المبحث الثاني: الانتقائية في اختيار المصادر.
المبحث الثالث: الشك غير المنهجي.
المبحث الرابع: إهمال الأدلة المضادة.
المبحث الخامس: التفسير المتعسف للنصوص.
المبحث السادس: التعميم الفاسد.
1 / 19
المبحث الأول: التحيز العنصري في المسلمات الأولية
لا يخلو أي بحث علمي من مسلمات أولية أو ما يسمى بالأفكار القبلية، لا يتكلم عليها الباحث ولا يصرح بها، ولكنه ينطلق منها في معالجة القضايا التي يتطرق لها في بحثه (١)، والملاحظ أن " شاخت " كان في المسلمات الأولية في كتاباته عن السنة النبوية واقعًا تحت تأثير تحيز عنصري ضد العرب والمسلمين، وهو وإن لم يصرح بمسلماته بصورة جلية وواضحة
-لغايات لا تخفى على اللبيب-، إلا أن ذلك يظهر بجلاء في حكمه القاطع والجازم على صفوة الأمة وأوثق علمائها بأنهم من الكذابين، وأنهم اختلقوا الأسانيد ونسبوها زورًا وافتراءً لرسولهم ﷺ.
ونتيجة لهذه المسلَّمة القاطعة التي تجذرت في وعيه، أشار إلى أن الأسانيد في كتب السنة، والتي تدل على اتصال الإسناد إلى رسول الله ﷺ؛ لا قيمة لها، «بل هي كذب محض؛ لأن الأحاديث النبوية بكاملها لم توجد إلا في القرنين الثاني والثالث، فكيف يمكن أن نتصور وجود الأسانيد قبل وجود المتون؟ بل لا بد أن توجد المتون من قبل ثم تظهر الأسانيد لا العكس» (٢)، ويقول في تقرير هذا الأمر: «إن أكبر جزء من أسانيد الأحاديث اعتباطي ... وأي حزب يريد نسبة آرائه إلى المتقدمين، كان يختار تلك الشخصيات
_________
(١) أوسع من رأيته تكلم على خطورة الأفكار القبلية الضمنية التي لا يصرح بها، وأثرها السيئ في صحة الأفكار والنظريات العلمية هو الدكتور ريمون بودون رئيس قسم العلوم الإنسانية في جامعة السوربون بباريس في كتابه " فن إقناع الذات بأفكار هشة ومشكوك فيها وخاطئة " (ص ١١٧ - ١٩٦) .
(٢) المستشرق شاخت والسنة النبوية (١ / ٨٣) .
1 / 21
ويضعها في الإسناد» (١)، وقد نقلنا عنه آنفًا أنه لا يعتقد بوجود أي حديث صحيح من أحاديث الأحكام المروية بالسند المتصل إلى رسول الله ﷺ.
وهذا الرأي القطعي - في نظره - يدل دلالة واضحة على أنه مبني على مسلمة أولية راسخة عنده، وهي أن علماء المسلمين قوم كذبة، كانوا يستبيحون الكذب ويستحلونه في أمور دينهم ولا يتورعون عنه، بل يفهم من كلامه أنهم مجمعون على ذلك، ومتواطئون عليه، ولو لم يكونوا كذلك في نظر "شاخت"؛ لما قرر نتيجته السابقة بعمومية وإطلاق ومن دون أي استثناءات أو قيود.
وسنناقش هذه المسلمة بما فيها من تحيز عنصري بغيض، مما يدل على أن الرجل واقع تحت تأثير الأفكار السابقة عن المسلمين الكامنة في عقلية عوام الغربيين.
ولكن قبل ذلك لابد من الإشارة إلى أن أهم صفة يجب أن يتحلى بها الباحث العلمي هي الإنصاف والعدل حتى مع خصومه ومخالفيه، والتي يعبر عنها المتخصصون في المنهج العلمي بالموضوعية. ويقرر أولئك العلماء أن أشد نواقض الموضوعية وقوادحها؛ التحيز ضد قومية أو فكرة أو مبدأ أو شخص أو مذهب.. إلخ.
ويحذر المختصون في المنهج العلمي أي باحث من الوقوع في التحيز أو التعصب العنصري؛ لأن ذلك يتعارض مع مبدأ الموضوعية، وسأورد فيما يلي نصوصًا منتقاة لبعض المختصين تؤكد هذه الحقيقة التي أصبحت إحدى مسلمات المنهج العلمي بصورة مطلقة.
_________
(١) السابق.
1 / 22
يقول روبرت ثاولس: «من الأمور التي تجعلنا ميالين إلى التفكير الأعوج، تحيزاتنا التي هي: طرق في التفكير تقررها سلفًا قوى ودوافع انفعالية شديدة، كالتي يكون مصدرها منافعنا الذاتية الخاصة، أو ارتباطاتنا الاجتماعية» (١) . ويقول: «إننا نكون تحت تأثير الهوى والتحيز في آرائنا ميالين إلى تصديق ما نرغب في تصديقه، أو ما نحتاج إليه أن يكون صحيحًا، وإلى إنكار ما نرغب في إنكاره، أو ما نحتاجه أن يكون باطلًا» (٢) .
ويقول فؤاد زكريا في كلام له عن التعصب - الذي هو وجه من وجوه التحيز والعنصرية - بوصفه أحد أهم عقبات التفكير العلمي،: «التعصب هو اعتقاد باطل بأن المرء يحتكر لنفسه الحقيقة أو الفضيلة، وبأن غيره يفتقرون إليها، ومن ثم فهم دائمًا مخطئون ... فحين أكون متعصبًا لا أكتفي بأن أنطوي على ذاتي وأنسب إليها كل الفضائل، بل ينبغي أيضًا أن أستبعد فضائل الآخرين وأنكرها وأهاجمها» (٣) .
وفي نص آخر كأنه يتكلم فيه على " شاخت " يشير فؤاد زكريا أن التعصب بكل أنواعه، كالتعصب العنصري، والتعصب القومي المتطرف وغيرها؛ كلها تشترك في سمة واحدة هي: «الانحياز إلى موقف الجماعة التي ننتمي إليها دون اختيار، ودون تفكير، والاستعلاء على الآخرين، والاعتقاد بأنهم " أحط "» (٤) .
_________
(١) التفكير المستقيم والتفكير الأعوج (ص ١٨٣) .
(٢) السابق (ص ١٨٧) .
(٣) التفكير العلمي (ص ٩٦) .
(٤) السابق (ص ٩٩) .
1 / 23