ارتعد جسدها وخلعت ملابسها وأسنانها تصطك، ورقدت فوق المنضدة تحت يده الكبيرة، تصنع فوق الجدار ظلا أسود من خمسة أصابع.
وامتدت يدان طويلتان غير مرئيتين، وربطت ذراعيها وساقيها في الأعمدة الأربعة، أربعة أعمدة للمنضدة من الرخام الأبيض البارد، نفذت برودتها إلى عظام الظهر حين رقدت عارية ووجهها للسقف. ظل واقفا أمامها في صمت، وأرخى الستارة فوق الباب . أظلمت الغرفة بظلام أسود من الظلام. لم تستطع رؤيته وهو قريب منها يكاد يلمسها. هو واقف، وهي راقدة تنصت إلى الكون والكون صامت. فجأة سمعت صوت يدين تمشيان صوب جسدها الراقد فوق المنضدة، ثم رأت جسدها ينقلب، وصوت شيء يكسر وهي تحاول أن تشد جسمها من تحت كثافة الظلمة، لكن جسمها مربوط بالحبال. وسمعته ينفخ وينفخ. وجسدها يزداد موتا فوق موت كأجساد الموتى المثلجة في المشرحة، وهو يزداد توهجا كحطب يسقط فوق الجمر، وهي راقدة ذراعاها مفتوحتان في ابتهال صامت لله، وهو لا يكف كإله الدمار يطلب المزيد من الضحايا. في الضوء الخافت من شق صغير في بطن الأرض، رأت الإصبع الكبير بغير ظفر، والإصبع الصغير ظفره طويل، وبطن اليد أملس بغير شعر، وظهر اليد قاتم اللون مكرمش الجلد، وفوق الجلد عروق ملتوية زرقاء ونقط سوداء كالنمش أو جذور شعر مات وسقط. وسمعت صوته يطلب منها أن تنفخ الهواء من صدرها، ونفخت الهواء حتى لامس وجهها الحائط، وحركته ببطء ناحيته لا تقوى على النظر إليه. رأت ظله فوق الحائط طويلا كالمارد واستدار عائدا. امتدت اليد غير المرئية، واعتصرت أنفها أو حلمة الثدي لم تعرف أيهما، ثم عاد إلى المزيد من النفخ، واندلع لسان من اللهب كان قصيرا، ثم نما طويلا ثم قصيرا، وتلوى ورقص ملتهما قطعة من اللحم.
ظلت راقدة في الظلمة وفي جسدها الجرح غائر حتى العظم. من تحتها شريط أحمر بلون الدم، وفي أذنيها أغاني العيد وأصوات الملائكة تنشد، وجرس الكنيسة يدق، وصياح الديكة قبل الفجر، ودوي الأذان للصلاة وذبح الضحية، والهتاف في مكبرات الصوت: الله، الوطن، الإمام. وهو واقف فوق المنصة يخطب، وعن يمينه حزب الله، وعن يساره حزب الشيطان. في شرفة الحريم انتصبت الزوجات الشرعيات فوق الكعوب الدقيقة، ونساء الجمعيات الخيرية وأرامل الشهداء والأمهات المثاليات، وأطفال الله بالجلاليب الدمور، وتلاميذ المدارس بملابس الكشافة، والبنات من بيوت السعادة ببدلة الرقص والصاجات في أيديهن تطرقع، وصواريخ العيد تفرقع، والطبول تدق، والزمامير والزغاريد والصراخ وطلقات الرصاص.
الدوي في أذنيها كالصمت لا تسمعه، والجرح في جسدها ينزف بلا ألم. تتركه وراءها بلا ندم، وتنهض من جديد فوق قدميها. تمشي على الأرض بلا جسد، كالروح أو الخيال. قدماها لا تلامسان الأرض. وجهها نحيل شاحب خال من الدم، وعيناها واسعتان، والنني أسود كالليل، وعقلها صاف كالماء الرائق في النهر. •••
على الباب الخارجي رأيت طوابير النساء بالجلاليب السوداء، واقفات ينتظرن دورهن للدخول إلى القاضي، يتنافسن إلى الدخول، وكل واحدة تدفع الأخرى بكوعها لتصل إليه قبل الأخرى. يده المباركة تلمس المريضة فتشفى، والعاقر فتحمل، والحامل فتجهض، والمذنبة فتبرأ، والعانس تتزوج، والمشلولة تنهض، والراقدة تقف، والواقفة تقعد، والمجنونة تعقل، والعاقلة يشفيها الله من عقلها، والعين المفتوحة تغلق، والعين المغلقة تفتح؛ فهو القاضي بأمر الإمام، أعطاه الله أسرار العلوم والقانون والطب، وهو يعطي من السر بقدر ما تعطيه المرأة من الخير. •••
وتذكرت أنني دفعت قبل أن أدخل إليه. في الظلمة رأيت الصندوق المعلق، وكل من تدخل تدفع دون أن يراها أحد، وصوت المنادي كالهمس يدور على الطوابير الواقفة عند الباب: ادفعوا يا عبيد الله. ومن يدفع اليوم يقبض غدا في الجنة إن شاء الله، ويقبض في الدنيا أيضا من بنك الإيمان تحت رعاية الإمام. والله هو مالك الملك، وهو الغني الذي يرث الأنبياء، والمال مال الله جعل للناس حق الاستخدام فقط، والمال عندنا مملوك لرب العالمين، ومع ذلك يطلب الله من الناس الصدقة والقروض،
من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة . ادفعوا يا عباد الله إلى صندوق بنك الإيمان الذي باركه الله، وفائدة القرض خمسون في المائة، فنحن نضارب في الذهب ولا نخشى الإفلاس. تقدموا دون خوف أيها المؤمنون والمؤمنات، وعند الله تزيد فائدة القرض إلى سبعين ضعفا. ادفعوا في السر دون أن يراكم أحد؛ فإن صدقة السر تطفئ غضب الرب وتشفي المريض، والعاقر تحمل، والمشلولة تنهض، والمذنبة تبرأ، وعلى كل واحدة منكن أن تعطر المال قبل أن تلقيه في الصندوق. وكانت فاطمة بنت الرسول تعطر الدينار قبل أن تعطيه صدقة . وسئلت : لماذا؟ فقالت: سمعت الرسول يقول إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير. •••
ربطت الحزام فوق بطني لا آكل ولا أشرب، وألقي القرش وراء القرش في يد الله، وأغمضت عيني ورحت في نوم عميق كنوم الأطفال. في الظلمة أفتح عيني وأسمع صوت الله يناديني كصوت أمي ناعم ودافئ كصدر الأم، وأجري إليه أظنه أمي. ومن بعيد أراها واقفة في الظلمة تنتظرني وذراعاها ممدودتان، ولا يبقى بيني وبينها إلا خطوة، أتوقف عن الجري لحظة ألتقط أنفاسي، فتصيبني الطعنة من الخلف، ولا أعرف لماذا يطعنون في ظهري، وقبل أن أستدير إليهم وأنسى الحروف والكلمات، أقول: لماذا تضربونني وكنت أدفع كل ما معي لله؟ ويقولون: كنا نضارب في الذهب، وبنك الإيمان أفلس؛ لأنك بنت حرام، وفألك سيئ، وطالعك نحس، ولن ينصرنا الله ويضاعف لنا الربح إلا بعد إزالتك من الكون.
الشكوى
قلت: لمن أشكو وأحتكم؟ قالوا: للإمام؛ فهو حاكمنا. قلت: هل أشكو منه إليه؟ قالوا: كلنا نشكو منه إليه، والشكوى لغير الله مذلة. وطويت الشكوى في صدري لا يراها أحد. لمحتني عيون الإمام، وكانت عيونه في كل مكان. قالوا: ماذا تخبئين في صدرك؟ قلت: لا شيء. وفتحوا صدري ووجدوا الشكوى مطوية، وفوقها الحروف بخط يدي. أطبقوا عليها أصابعهم وقالوا: وجدنا الدليل المادي على الجريمة الكبرى، فكيف تكتبين فوق الورق بخط يدك شكوى ضد الله؟ قلت: إنها شكوى ضد الإمام. قالوا: ألا تعرفين أن الإمام هو خليفة الله في الأرض، وما هو ضد الإمام يكون ضد الله. قلت: لا أعرف. قالوا: كيف لا تعرفين؟ ألا تقرئين الصحف؟ ألا تعيشين في هذه الدنيا؟ قلت: لا أقرأ الصحف ولا أعيش في دنياكم. قالوا: هذه جريمة أخرى وبدعة جديدة، ومن أبدعت فينا ما ليس فينا فهي شر وفتنة، والفتنة أشد من القتل.
Page inconnue