Socrate : l'homme qui osait poser des questions
سقراط: الرجل الذي جرؤ على السؤال
Genres
وبعد ذلك بعدة سنوات، حينما كان سقراط يتحدث إلى بعض الشبان من أصدقائه الذين كانوا يحاولون أن يجدوا حلا لإحدى المشكلات، وقد أخفقوا في المحاولة مرة بعد أخرى، حذرهم من أن يكونوا من «الكارهين للتعليل»، وهو تعبير اخترعه ليصف به الشخص الذي تثبط همته كلما استخدم عقله، فيصبح «كارها للتعليل»، وقال: إن الحال مع مثل هذا الشخص تشبه إلى حد كبير ما يحدث للرجل الذي يبالغ في ثقته بالآخرين ثم يخيب فيهم رجاؤه، «من المؤسف أن الرجل الذي يلجأ إلى التعليل، فيجده صادقا مرة وكاذبا مرة أخرى، لا يلوم نفسه وعجزه، وإنما ينحي باللائمة في ثورة من الغضب على التعليل ذاته، ومن ثم فإنه يمقت التعليل ما دام حيا، ويسيء إليه في الحديث»، وذلك من أسوأ ما يحدث للمرء فيما كان يزعم سقراط، فكان يحث أصدقاءه ألا يقعوا في حبائله: «دعنا لا ندخل إلى نفوسنا هذه الفكرة، وهي أنه ربما كان التعليل غير سليم، بل لنعتقد - بدلا من ذلك - أننا نحن أنفسنا لسنا سليمين حتى الآن، ولنجاهد كما يجاهد الرجال في سبيل السلامة.»
وأدرك سقراط الخطر الذي يكمن وراء «كراهية التعليل»؛ لأنه هو نفسه قد تعرض لهذا الخطر، وقد استعاد في ذهنه خلال هذه السنوات كل ما ورد على ألسنة الحكماء من ألفاظ: الجدال والتناقض والتفسير والتصحيح، وبدأ سقراط يتساءل إن كان يملك العقل الملائم لهذا الضرب من ضروب البحث، وقد ظن الناس أنه حكيم، ومع ذلك فبرغم كل ما كان يعرفه، فأي شيء هام كان يعلمه؟ إن التفسيرات التي كانت تقنع الآخرين لم تكن لتقنعه، وبدا له أنه أبعد عن الحكمة من أي وقت مضى.
ثم استمع ذات يوم إلى رجل يقرأ من كتاب أنكسجوراس.
ولم يذكر فيما بعد ما كان يكتنف هذا الموقف من ظروف، هل كان ذلك في يوم عطلة ذات مساء بالملعب، أو في حفل عشاء في بيت أحد الأثرياء ممن يهتمون بالمعرفة؟
وأيا كان الظرف، فإن هناك من كان يقرأ ويستمع إليه سقراط، وكان سقراط يحسب أنه أعلم في تلك الأيام من أن تأتيه المعرفة من أي إنسان، غير أن هذا الكتاب كان جديدا، وصل إلى أثينا منذ عهد قريب، وكأنه كتاب غزير المادة، وكانت أكثر من لفافة من أوراق البردي ملقاة بجانب القارئ، وسر سقراط لما عرف بأن ذلك العالم الذي كرس حياته للعلم، والذي نفته أثينا بجهلها من المدينة، ما زال يواصل التفكير والعمل، وتساءل: أي كشوف جديدة عن النجوم يا ترى قد تمت؟
والكتاب مستهل بعبارة منسقة عن العناصر الأولى وأصل الأشياء، وقد ذكر أنكسجوراس أن كل الأشياء التي نشاهدها خليط، فهناك حرارة حتى في الشيء البارد، وإنما نسميه باردا؛ لأن فيه من البرودة أكثر مما فيه من الحرارة، يقول أنكسجوراس: «هناك سواد حتى في الشيء الأبيض»، فأطرق سقراط رأسه؛ لأنه شاهد في الثلج بقعا سوداء، كما أن بياض الثلج يختفي عندما يذوب، إن ذلك شديد الاحتمال.
واستمر القارئ يقول: «إن الأشياء الأخرى فيها جزء من كل شيء، أما العقل فهو غير محدود ويتحكم في نفسه ولا يختلط بشيء، وإنما هو قائم بذاته، له سلطة عليا، ويسود كل شيء فيه حياة، صغيرا كان أو كبيرا، وكل ما قدر وجوده، وكل ما وجد، وكل ما لا يوجد الآن، أو ما يوجد ... كل ذلك رتبه العقل ...»
وقيل كثير غير ذلك، ولكن سقراط لم يستمع إليه، ولو أن الآلهة أرسلت إلى قلبه ضياء خاطفا، لما بهره الضوء مثلما أحس الآن، إذ كان لهذا الكلام في النهاية معنى لديه، فلقد وجد أنكسجوراس الحل الوحيد الذي يفسر كل شيء، فإن في العالم فكرا واحدا يعمل، يرتب كل شيء على أحسن ما يكون الترتيب، ومن المؤكد أن العقل يعمل بهذه الطريقة، ينظر دائما إلى ما هو خير كالصانع الماهر، ولا يصنع الأواني الرديئة إلا صانع الأواني الجاهل.
وهكذا فإن العقل قد صنع - ولا زال يصنع - كل شيء على خير ما يكون! إن تفصيل ذلك كله لا بد أن يكون في ذلك الكتاب، وسوف لا يكفي أنكسجوراس أن يذكر أن الأرض مسطحة أو مستديرة، بل إنه ليذكر أنه من الخير للأرض أن تكون كذلك، كما يذكر الأسباب، وسوف يذكر أية فكرة طيبة كانت في العقل الذي شكل كل شيء، وكاد سقراط أن يذهل عجبا واهتماما بهذا الكشف العظيم، لن يكون بعد اليوم نزاع، ولن يكون عبث بذكر التراب والهواء والنار والماء كأسباب ما أتفهها من أشياء إن هي قورنت بهذا العقل الكبير المتحكم الذي يعمل طبقا لمبدأ الخير!
وأثنى المستمعون على القارئ، وصاحوا قائلين: «ما أمتع هذا! وما أبرع أنكسجوراس!» وكان بعضهم لا يصغي إلا لأن الاهتمام بالعلوم كان واجبا من الواجبات، ولما ألقى بالكتاب جانبا تنفسوا الصعداء، ونقلوا الحديث إلى شيء يستطيعون إدراكه، فتناول سقراط الكتاب وحمله إلى حيث يستطيع أن يدرسه بنفسه.
Page inconnue