La boîte du monde
صندوق الدنيا
Genres
لوافيت منه القعر أول راسب؟
ولم أتعلم قط من ذي سباحة
سوى الغوص، والمضعوف غير مغالب
وأيسر إشفاقي من الماء أنني
أمر به في الكوز مر المجانب
وأخشى الردى منه على كل شارب
فكيف بأمنيه على مر راكب؟
صفق وتحمس وقال: إن هذا «رجل عاقل»، وبعد أيام انتحى بي ناحية وسألني أتعرف ابن الرومي؟ فلم أعجب لسؤاله وقلت: «نعم.» قال: «أرجو منك أن تعرفني به.» فوعدته أن أفعل. وشاورت إخواني كيف أصنع؟ ولما اتفقنا، قدمته إلى شيخ وقور كث اللحية إلا أنه أحمق سريع الغضب وفي وسع القارئ أن يتصور ما وقع. وبحسبي أن أقول: إن صاحبنا خرج من مجلسه وقد أصابته عكازة الشيخ على رأسه وركبته، وكانت إصابة الركبة أوجع فظل يظلع أياما. وسألته بعدها عن ابن الرومي كيف وجده؟ فكاد الدمع يطفر من عينه وقال في سذاجة محببة إلا أنها مغرية: «الحق علي. إن التهجم على كبار الناس سوء أدب ...»
ولست أنسى ما حييت حادثة أردنا أن نركبه بالدعابة فيها، فأفضت إلى مأساة أو ما هو في حكمها. ذلك أننا أوهمناه أن فتاة رومية تعمل في «بار» شهير تحبه، وألححنا عليه بذلك حتى صدق، وكنا نجيئه بقليل من الفستق أو الشكولاتة ونزعم ذلك هدية منها إليه، وكان هو حييا يخجل حتى من مخاطبة الأغراب من الرجال فكيف النساء! فجعل يغشى هذا «البار» في الساعة التي يكون على الفتاة أن تجلس فيها إلى «الكيس» ويجلس بحيث يراها ولكن على بعد، فندعه أحيانا، وأحيانا أخرى نلحق به ونثني على جمالها ونتنافس في وصف مفاتنها، فيشرق وجهه وتومض عيناه، كأنما يحمد منا الثناء على حسن اختياره! ونروح نسأله: ألا ترى كيف تغمز بعينيها؟ أليس من الواجب أن تبادلها غمزة عين بغمزة عين؟ فيفعل المسكين ونجاهد نحن أن نخترع سببا لما ننفجر به من الضحك. وما زلنا نحثه على استعمال إشارات الحب حتى صار يدخل البار ومعه طاقة شتى من الورود ما بين حمراء رمز الحب المتقد، وبيضاء عنوان الطهر والعفاف، وصفراء للدلالة على ما أصاره إليه السهر والبكاء واللهفة من ذبول لونه، فيجلس ويشرع يخاطبها بهذه اللغة الدقيقة، حتى إذا فرغ من هذا المعجم استعمل المناديل يضعها على فمه، أو يكفكف بها الدمع الموهوم أو يفكر ما بين أصابعه. ولم يعد يبالينا أو يحفل بغيرنا من الناس، فقد اضطرمت نفسه ولعجه حب هذه الفتاة.
والحق أقول: إننا أسفنا لما تبينا ما صار إليه الأمر، ولكنا لم نستطع أن نثنيه عن هذيان قلبه، وكان كما قلت ساذجا جدا حييا إلى درجة تفسد الحياة وتحيل الانتفاع بها من المستحيلات، ولكن الحب خلق شخصا جديدا وأسعفت السذاجة الحب وأعانته على الاستبداد بنفسه، وما راعني يوما إلا هذا المسكين يعود إلي ويقول: «هنئني.»
Page inconnue