La boîte du monde
صندوق الدنيا
Genres
الخميس، قالت لي الحية إنها لم تكن تتكلم ولم يكن لها عقل، ولكنها مرت بشجرة استطابت رائحتها فصعدت إلى أثمارها والوحوش ترمقها وتمد أعناقها فتقصر عن بلوغ الثمر، وكانت جائعة فالتهمت منها ما لا يحسب الحاسب، فتغير كل شيء في عينها، ووجد لسانها السبيل إلى الكلام، وإن كان قد بقي لها شكلها، فوجهت عقلها إلى التفكير والتدبير في كل ما في السماء والأرض وما بينهما، وأضافت إلى ذلك - شكرا لها - أن كل ما في الدنيا من خير وجمال مجتمع في وجهي الملائكي، وأنها لم تر لي نظيرا، وأن هذا السحر الذي في عيني هو الذي جرأها على الظهور لي وأغراها بإدمان النظر إلي. فسألتها عن الشجرة أين هي، فلما دلتني عليها إذا بها الشجرة المحرمة، فأنبأتها بأن ثمرها محرم علينا. فأعربت عن استغرابها بأن تحرم علينا فاكهة الجنة، فبينت لها أن لنا أن نأكل ما نشاء من فاكهة الجنة ما خلا ما تحمل هذه الشجرة، وإلا كتب علينا الموت. فقالت الحية كلاما كثيرا معجبا مطربا شربته أذناي بلهفة، فجعلت أرمق الشجرة، ومنظرها وحده غواية، وفي أذني من الحية عذوبة حديثها، ومضى الوقت وأنا أستمع إلى الحية وأرى الشجرة موقرة بحملها الناضج وأشم عبقه الطيب. وعضني الجوع فامتدت يدي إلى الثمرة فقطفت واحدة ثم ثانية ثم ثالثة فتفتحت عيناي، وأبصرت العري الذي أنا فيه، وقلت لنفسي: في أية صورة أبدو لآدم؟ أؤنبئه بما وقع لي وطرأ علي من التغير وأشركه معي؟ أم أنفرد دونه بالعلم وأسد بذلك النقص الذي مني به جنسي حتى أساويه وربما فقته، فإني أرى ضعفي يسترقني له؟ وهذا حسن، ولكن الله هو الذي رآني وعلم أني عصيته؟ والموت لا بد آت بعد ذلك ولا مهرب منه الآن، وهكذا سأذهب أنا ويخلق الله لآدم حواء أخرى تعيش معه وتسعد بجواره. كلا. كلا إني أحب آدم وأستطيع أن أحتمل كل صنوف الموت معه، ولكني لا أقوى على الحياة بدونه.
وثنيت خطواتي إلى الكوخ ولكني لم أجد آدم، فدرت في الجنة أبحث عنه فلم أعثر له على أثر، واضطررت إلى الاختباء مرارا؛ لأن الوحوش كانت تتقاتل ويأكل بعضها بعضا، ولم تعد تطيعني كالعهد بها، ففررت من الجنة بعد أن اختل فيها الأمن واضطرب حبل النظام، وأصبحت فيها فوضى، وجاوزت حدودها إلى الأرض.
الأربعاء، بعد أربعة أيام طوال وجدت آدم فألقيت عند قدميه الغصن الذي قطعته من الشجرة المحرمة مثقلا بالتفاح الشهي، فنظر إلي نظرة استغراب وسألني عن هذا الورق الذي أستر به جسدي فقلت ستعرف هذا متى أكلت من التفاح، فانتزعه مني وعراني فخجلت فقال: لقد علمت أنك أكلت منه فقد هاجت الوحوش وهمت بأكلي، فركبت حمارا فارها لم يزل يعدو بي حتى عدا عليه نمر فنجوت بجلدي ولما أكد، ورأيت المقام في هذه الجنة مستحيلا، فخرجت منها وسيان عندي الآن أن آكل أو لا آكل فهاتي ما عندك فإني جوعان.
وقضم قضمة وجعل يتذوقها ويقول ما أطيبها والله وإن كانت في غير أوانها! ثم نظر إلى نفسه فأدرك أنه عار واستحيا فستر نفسه بالورق الذي نزعه عن جسدي، ونظر إلي ثم أرخى طرفه وهو يقول: «ماذا تعنين بالوقوف عارية هكذا؟ اذهبي واستري نفسك.» ففعلت.
الخميس، اعترف لي آدم بأنه كان لا يحسن معاملتي ونحن في الجنة وقال: إن عذره هو أن المرء لم يكن يستطيع أن يحسن شيئا في تلك الجنة، وقد كان يخشى ألا ألحق به ويتوقع أن تضنيه الوحدة وتسقمه الوحشة وقبلني «وعرفني»، لقد خسرت الجنة ولكني ربحت آدم ... (2) بعد الخروج من الجنة
الثلاثاء، تالله ما أقسى آدم في هذه الأيام! إنه لا يفتأ يعنفني ويلعنني ويحمل علي من أجل أن أكلنا من الشجرة المحرمة وخرجنا من الجنة، وهو الذي أثنى على ذوقي لما أطعمته من التفاح، وقال لي فيما قال: «هاتي، ما أطيب هذه الفاكهة التي حرمناها! وإذا كان هذا طعم ما حرم علينا فليت الشجرة المحرمة كانت عشرا! وهلم بنا نلعب بعد هذا الطعام الشهي، فما أعرف جمالك قبل اليوم ألهب حواسي كما يفعل الآن.»
ولم يدخر نظرة حب ولا تجميشة غزل، وأعداني وألهبني فقاذفته نارا بنار، ثم تناول يدي ومضى بي إلى غدير ظليل الشاطئ فاضطجعنا على البساط السندسي، ونثرنا حولنا وتحتنا وفوقنا عبق الزهر - الفل والياسمين والنرجس والقرنفل - وروينا من الحب، ثم عقد النعاس أجفاننا فنمنا ملء عيوننا. ويا ليتنا لم نقم! فقد غدا علي يلومني ويتوجع مما صار إليه، ويحن إلى ما كان فيه، فقلت له: إنه لو كان مكاني لفعل مثلي، وذكرته بأنه كان في الجنة يرمي إلي بالزمام ويلقي حبلي على غاربي، وسألته لماذا تركني أفعل ما بدا لي ولم يأمرني - وهو الرجل وأنا المرأة - أن أجتنب الشجرة ولا أقربها؟ لقد كان سلوكه مغريا لي ومشجعا على اقتطاف هذه الثمرة المحرمة.
فثار بي يلعنني ويقول: «أهذا جزاء حبي لك أيتها المرأة الكنود؟ ألم يكن يسعني أن أدعك وحدك للموت الذي جلبته على نفسك، وأن أنجو بنفسي فلا أتبعك؟ أما والله لأنت والحية سواء، وأنك لألم منها وأبغض، وما ينقصك إلا أن تكوني على مثل صورتها وألوانها؛ ليحذرك الخلائق جميعا، ولتتقيك ولا تغتر بصورتك السماوية! ألا لماذا شاءت حكمة الله أن يخلق هذه البدعة ولم يشأ أن يخلق الناس كلهم ذكرانا ويملأ الدنيا بهم إذا كان لا بد من خلقهم؟»
فبكيت واسترحمته وعكفت على ركبتيه أقبلهما وأمسح عليهما وجهي، فرثى لي ولان لي قلبه، فتشجعت وأدليت إليه برأيين يكفلان لنا الراحة ويقيان ذريتنا المصائب التي كتبت عليهم بذنبنا. فسألني عنهما فقلت: الرأي عندي - ما دام الموت لا مفر منه الآن - أن ننتحر، فنستريح ونترك الدنيا كما كانت، لا يعمرها أحد من نسلنا، أو أن نتحرى ألا نجيء إلى الدنيا بنسل، فنحرم الموت حقه ونقضي عليه هو بالموت جوعا.
فقال آدم: يا بلهاء أتحسبين أن الله يتركنا نفعل شيئا من ذلك؟ لقد أخرجتنا مشورتك من الجنة وهوت بنا إلى هذه الأرض، فأين يا ترى تقذف بنا مشورتك الجديدة؟ اذهبي اذهبي!
Page inconnue