La boîte du monde
صندوق الدنيا
Genres
وكان في البيت اثنان لا أراهما أبدا وإن كان ذكرهما على لساني أبي وأمي، وهما «الست» و «الأفندي»، فأبي يقول للخادمة مثلا قولي كذا أو كذا «للست»، ويتحدث في أوقات شتى ولاسيما حين يكون معه رجال من أقربائنا عن هذه «الست»، وأمي لا تفتأ تقول «الأفندي قال، أو الأفندي أتى، أو الأفندي خرج» فأعجب أين هما؟ ولماذا لا أراهما ؟ وأصعد إلى السطح باحثا عنهما فلا أجدهما، وأدخل كل غرفة فلا أهتدي إلى أثرهما، وأنزل إلى فناء الدار فلا ألتقي بهما. أين ينامان يا ترى؟ ماذا يأكلان؟ ألا يظهران أبدا؟ وعلى كثرة ما فكرت في أمرهما وبحثت عنهما لم يفتح الله علي بخير من أنهما لا محالة يلبسان «طاقية الإخفاء»، ولشد ما كان يلج بي الشوق إلى رؤيتهما، يدركني العطف عليهما أيضا! وكثيرا ما كنت أقوم من النوم على صوت - لعله موهوم - فأتخيل أنهما داخلان، وأرهف سمعي وأنشر أذني في الليل وأفتح عيني جدا وأحدق في الظلام، وقد قمت على ذراع وربما تسللت إلى كل غرفة لعلي أبصرهما، ناسيا في سبيلهما مخاوفي وما تثيره الظلمة، في نفوس الأطفال.
واتفق مرة أنا كنا جميعا جلوسا في غرفة أبي وكان مريضا - فدخلت الخادمة فأسرت شيئا إلى أمي، فقالت لها هذه «أخبريه أن الأفندي مريض»، فصعدت روحي إلى حلقي وشعرت بالأسف على «الأفندي» والألم له، والفرح أيضا؛ لأن مرضه قد يتيح لي أن أراه أخيرا ...
ودنوت من أبي - وكنت عليه أجرأ - فابتسم لي ومد يده فوضعها على كتفي فأطرقت برهة ثم رفعت عيني إليه وقلت: «بابا.»
قال: «نعم» وجذبني إليه في رفق وعطف.
قلت: «كيف صحة الأفندي.»
فضحكوا جميعا، أبي وأمي وجدتي وعمتي و... لا أدري من أيضا.
وقبلني أبي، ولكنه لم يجبني لا هو ولا سواه. فلم أفهم هذا، وأحسست بالغيظ، ورحت أنظر في وجوههم نظر المحنق. ثم تولني العناد، فعدت إلى أبي أسأله عن صحة «الأفندي»، فنظر أبي إلى أمي فتناولت هذه يدي وقالت: «عيب، الأولى كانت عفوا. وقد فاتت ولكن لا يليق أن تكررها.»
فكدت أجن. لماذا يخفون عني الأفندي والست، وهما يراهما كل إنسان سواي، ويحادثهما على ما يظهر لي مما أسمع؟ لماذا أحرم وحدي أن أبصرهما وأكلمهما؟!
فقلت: «ولكني أريد أن أرى الأفندي.»
فقالت أمي: «عيب قلت لك عيب.»
Page inconnue