La boîte du monde
صندوق الدنيا
Genres
وهو لا يقيس الزمن بالسنين، فإنها هنيهات، ولا بالأجيال فإنها لحظات، وإنما يقيسه بالدول التي قامت ثم تقوضت تحت عينه التي لا تتعب ولا تشبع من النظر، ذلك أن فيه معنى من معاني الخلود، فقد رأى منف وطيبة وشاهد مجدهما، وعاش ليبصر الخراب يعفي عليهما ويوكل بهما البوم والوطاويط، ورأى أبناء إسرائيل يقومون ثم يسحقون، والأغارقة ينهضون ثم يموتون، ورومية تشاد ويرتمي ظلها على الأرض ثم تفنى، والعرب يستفيضون في الدنيا أسرع من العاصفة ثم يذهبون في سبيل من غبر.
وكما أخذت عينه عظام مئات من الدولات كذلك ستأخذ قبور مئات أخرى قبل أن يفتر لحظها وتطبق الجفون.
والمرء ينظر إلى أبي الهول الساهد ويفكر في آلاف السنين التي قضاها هنا على حافة الصحراء، فلا يستغرب ولا يخالجه شيء من الشعور بالتنافي بين هذه الدهور الطويلة وبين مقامه هذا، وذلك أن ربضته تشيع في النفس معنى الاستقرار التام. وقد أحسن القدماء بإيثار الربوض له، فإنه جلسة مريحة تقترن في الذهن بمعنى الاستمرار، وليس كذلك «النهوض» كما هو مصور في تمثال مختار، والمرء خليق حين يعود إليه مرة بعد أخرى أن يحس أن لهذا الوضع ما بعده، إما أن يثب إلى الأرض، وإما أن يعود إلى الجثوم والراحة والسهوم مرة أخرى، أما البقاء هكذا يوما بعد يوم. وشهرا في إثر شهر، وعاما في عقب عام، فليس من السهل على العقل أن يأنس إليه ويقتنع به، وقد تكون هذه مزية للتمثال، وعسى أن يكون المقصود بها أنها نبوءة أو أمل أو نحو ذلك. ولست أعيب أو أنقد، فما أعني أكثر من أني حين أنظر إلى التمثال لا أحس أني قد رأيت كل شيء، وقد أتوهم أنه سيثب عن القاعدة إلى الأرض.
وهذا الذي عليه أبو الهول الجديد إقعاء لا نهوض، فإن الحيوان - من البعير إلى الهرة - حين يريد أن ينهض، يقوم على رجليه الخلفيتين أولا ثم الأماميتين، أما القيام على رجليه الأماميتين فحسب، فهذا هو الإقعاء، وهو جلسة للحيوان يتخذها أحيانا، وأكثر ما يراه الإنسان في الكلاب، حين تقعد ناشرة آذانها راصدة عيونها، وأحسب أن مختارا إنما آثر هذا الوضع؛ لأن منظر أبي الهول يكون غريبا ثقيلا إذا أنهضته على رجليه الخلفيتين، كما ينبغي أن يفعل إذا كان يقصد إلى النهوض، ولعل عذر مختار أن أبا الهول هذا خليط من الإنس والحيوان فله أن ينهض كيف يشاء حتى على رأسه.
وهذه الفتاة المنصوبة إلى جانب أبي الهول لا أفهم معناها ولا أدري لماذا يقيمها المثال هناك ويضنيها بهذه الوقفة المتعبة؟ ولو كنت أنا مختارا لاستغنيت عنها جملة ولاجتزأت بأبي الهول وحده؛ لأنه إذا كان المراد الرمز إلى أن مصر تنهض، فإن أبا الهول بمفرده حسب من شاء أن يرمز إلى ذاك. ولن يركب الجهل أحدا فيتوهم أن المراد به رومية أو قرطاجنة، ففي نهوضه وحده ما يكفي رمزا لنهوض البلاد التي اقترن اسمه بتاريخها. زد على ذلك أن قيام الفتاة إلى جانبه تخليط؛ وذلك أنها - على ما فهمت - رمز لمصر الحديثة. وعلى هذا يكون أبو الهول عنوانا على مصر القديمة، وكان المعنى - على هذا - أن مصر الحديثة توقظ مصر القديمة، أو أن مصر القديمة تنهض إلى جانب الحديثة وفي كنفها، وكلا المعنيين مستحيل يرفضه العقل ولا يسيغ معناه، وأصح من ذلك أن هناك - أو هنا على الأصح - مصرا واحدة تاريخها سلسلة متصلة الحلقات، وأنها كانت نائمة أو متفترة أو ما شئت غير ذلك، ثم هي الآن تستيقظ أو تنفض عنها غبار القرون وتهم بالنهوض، وهو معنى لا يحتاج إلى هذه الفتاة التي تفسده ولا تؤيده.
ولست أستريح إلى وقفة الفتاة فإنها كالعصا، ويمناها التي على رأس أبي الهول غريبة في وضعها؛ فإنها لا يسندها في الحقيقة إذا تأملتها إلا أصابعها ، أما ذراعها فكالمعلق في الهواء إن كانت الشملة - أو لا أدري ماذا هي - تحجب هذا التعليق عن عين الناظر، وهي لا تفعل بيمناها هذه أكثر من هذا الاستناد بأطراف الأصابع دون باطن الراح، ولا أدري لماذا جعلها كذلك ولم يدعها تريح ذراعها؟ ثم ما معنى هذا الوضع؟ وما الذي قصد به إليه؟ أتراه أراد الإيقاظ؟ فهذه ليست حركة إيقاظ، وليس في وجه الفتاة أدنى التفات إلى الذي بجانبها إن صح أنها تريد أن توقظه. أم ترى المراد أن مصر الجديدة تحسر عن وجهها وتبرز للعالم معتمدة على مصر القديمة، فإن كان هذا هو المقصود وأحرى به أن يكون؛ فإن رمز النهوض واليقظة هو الفتاة لا أبو الهول، ولا داعي إذن لإقامة أبي الهول على رجليه ما دام أن الناهضة سواه، وأنه ليس إلا تكأة ووسيلة للرمز إلى الاتصال بالماضي، وحينئذ يكون المعنى أتم وأقوم بأن يظل أبو الهول هذا رابضا على العهد به والفتاة حاسرة على جانبه.
والخلاصة أن التمثال كان حقيقا أن يكون أوفى بالغرض فيما أرى لو أن أبا الهول ظل رابضا إلى جانب الفتاة المعتمدة عليه؛ إشارة إلى اتكاء مصر الحديثة على ماضيها واعتزازها به واستيحائها إياه، أو لو أن التمثال خلا من الفتاة. والأولى عندي أفضل؛ اجتنابا للإقعاء، وتفاديا من الوقوع في هذا الغلط. أما التمثال في شكله الحالي فلا أكتم القراء أني أحس كأني أحمله وقاعدته على ظهري. ولا يسوء مختارا قولي هذا فإنه يعلم أني من أجهل الناس بالفنون، وأن ليس لي من الوسائل المعينة على حسن التقدير سوى رأس واحد وعينين اثنتين ليس إلا.
الحب الأول
كنت صغيرا لم أدخل - بعد - في حدود الشباب، وكان الوقت صيفا، وأكثر ما أقضي النهار أمام البيت ألاعب الصبية من لداتي، فمرة نكون قطارا بخاريا مؤلفا من بضع عشرة قاطرة - ليس بينها مركبة واحدة - ننفخ جميعا ونقول: «أومف أومف بفو بفو» وأخرى نكون خيلا تصهل وتتوثب وتضرب الأرض بحوافرها وتزعج المارة وتصطدم بهم، وطورا نتقاذف بالكرة ونحطم بها زجاج النوافذ فيثور السكان ويجلوننا عن الحارة، وتارة نقسم أنفسنا فريقين: عصابة من اللصوص وضباطا، وأحيانا نعصب لواحد منا عينيه ونتوارى عنه وينطلق هو وراءنا باحثا، فمن لقي منا عصبنا له عينيه بدلا منه، وهكذا إلى آخر هذه الألعاب الصبيانية إن كان لها آخر يعرف أو حد تقف عنده ولا تعدوه.
وكنت أنا - بفضل الله - أحمقهم جميعا وأشرسهم خلقا وأسرعهم إلى الشجار، وكنت إذا ضاربني أحد لا أبالي أين وقعت يدي، ولا أتقي أن أصيب عينه أو أنفه أو أسنانه، وقد أتناول الحفنة من التراب وأعفر به وجهه وأرده كالأعمى، ثم أنهال عليه لطما ولكما وركلا. فقد كنت واسع الحيلة كما ترى، فعوضني ذلك من ضعفي، وصارت لي بفضله منزلة بين هؤلاء الصبيان. وكانت لي جارة - فتاة صغيرة كالنرجسة في مثل سني - وكنت أكثر ما أراها مطلة من النافذة علينا أو واقفة إلى بابها تنظر إلينا ولا تشترك معنا، ولا أستطيع أن أصفها، فقد بهتت صورتها بعد كل هذه السنين الطويلة، وإن كنت لا أزال أرى لها نوطة في القلب وعلوقا بالفؤاد كلما كرت بي الذاكرة إلى تلك الأيام، وكانت لا تفتأ تنكر مني طيشي ومغامراتي. رأتني مرة مقبلا على البيت بعد الغروب بقليل، وعلى جلبابي الأبيض طوائف شتى من الأوحال فاستوقفتني وسألتني: «ما هذا؟ ماذا أصابك؟»
Page inconnue