أمره ولم ييأس بعد من إيمان أبيه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه.
وقد بدأ فيه بالثناء على ربه ثناء جميلا على ما هو أدب العبودية وهذا أول ثناء مفصل حكاه الله سبحانه عنه (عليه السلام) وما حكى عنه قبل ذلك ليس بهذا النحو كقوله: " يا قوم إني برئ مما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض " (1) وقوله لأبيه: " سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيا " (2).
وقد استعمل (عليه السلام) من الأدب في ثنائه أن أتى بثناء جامع أدرج فيه عناية ربه به من بدء خلقه إلى أن يعود إلى ربه، وأقام فيه نفسه مقام الفقر والحاجة كلها، ولم يذكر لربه إلا الغنى والجود المحض، ومثل نفسه عبدا داخرا لا يقدر على شئ، وتقلبه المقدرة الإلهية حالا إلى حال من خلق ثم إطعام وسقي وشفاء عن مرض ثم إماتة ثم إحياء ثم إشخاص إلى جزاء يوم الجزاء، وليس له إلا الطاعة المحضة والطمع في غفران الخطيئة.
ومن الأدب المراعى في بيانه نسبة المرض إلى نفسه في قوله: " وإذا مرضت فهو يشفين " لما أن نسبته إليه تعالى في مثل المقام وهو مقام الثناء لا يخلو عن شئ، والمرض وإن كان من جملة الحوادث وهي لا تخلو عن نسبة إليه تعالى، لكن الكلام ليس مسوقا لبيان حدوثه حتى ينسب إليه تعالى، بل لبيان أن الشفاء من المرض من رحمته وعنايته تعالى، ولذلك نسب المرض إلى نفسه والشفاء إلى ربه بدعوى أنه لا يصدر منه إلا الجميل.
ثم أخذ في الدعاء واستعمل فيه من الأدب البارع أن ابتدأ باسم الرب وقصر مسألته على النعم الحقيقية الباقية من غير أن يلتفت إلى زخارف الدنيا الفانية، واختار مما اختاره ما هو أعظم وأفخم، فسأل الحكم وهو الشريعة واللحوق بالصالحين، وسأل لسان صدق في الآخرين وهو أن يبعث الله بعده زمانا بعد زمان وحينا بعد حين من يقوم بدعوته ويروج شريعته، وهو في الحقيقة سؤال أن يخصه بشريعة باقية إلى يوم القيامة، ثم سأل وراثة الجنة ومغفرة أبيه وعدم الخزي يوم
Page 50