وعمت الفوضى حتى أصبح سلطان العاصمة ينتهي عند جدرانها، وحتى أصبح حكم «الانتخاب الطبيعي» بين القواد هو الحكم الذي تقره دواوين العاصمة، فإذا غلب القائد من ينافسونه وينازعونه فوظيفة العاصمة أن تقر هذا «الانتخاب الطبيعي» ويشيع المغلوب بالذم والعقاب!
وإذا كان صبر يضرب به المثل فهو صبر الزعيم الجليد بين مذاهب هذه الفوضى ومنازع هؤلاء القادة: كان يفتتح المدارس العسكرية لتخريج القادة منها بعد سنوات قادرين على قهر القادة المتنازعين، وإلزامهم الطاعة بحكم «الانتخاب الطبيعي» الذي احتكموا إليه.
وجرب من مرارة الصبر - أو من حلاوته - أنه كان يرى ألد خصومه يثوبون إلى رأيه حقبة بعد حقبة على مناقضته وعصيانه، فكان يقول لهم باسما: لا تحتفظوا للغد بالندم على مخالفة اليوم.
وقد عابه الناقدون من الأجانب على الخصوص بالتشبث والعناد لغير ضرورة؛ لأنه أصر على رفض كل مساومة ترمي إلى التقسيم كائنا ما كان المصير، وكان أناس من قومه يوافقونهم كلما كلفتهم المقاومة عنتا يودون لو أعفاهم منه الزعيم العنيد، فلما قضى نحبه ونزلت النوازل بعد فوات الوقت كان منهم من يحسب أنه لم يتشبث كما ينبغي ولم يبلغ الكفاية من تشديد النكير، ولو أنه عاش لما فرغ من الملامة التي يؤجلون الندم عليها إلى الغد بعد الغد، بغير انتهاء.
مع الدول
يسمي الصينيون بلادهم بالبلاد الوسطى أو مركز العالم، فكل ما ابتعد منها فهو أطراف ومجاهل.
وكانت بلاد العالم تبادلهم هذا الشعور وهذه العقيدة، فمن أقام على مقربة من تخوم الصين يعلم أنه على مقربة منها، ولكنه يتكلم عنها كأنما يتكلم عن حيز من الأرض معزول وراء جدار، ولا يزال بعض أصحاب النحل الذين يقيمون إلى غرب القارة الآسيوية يعتقدون أن الصين هي العالم الأخير، فمن فارقت روحه العالم فإنما تفارقه لتذهب إلى مطلع الشمس من بلاد الصين!
وزاد الشعور ببعد الصين، أو بغرابتها، أن الذين طوحوا بأنفسهم في الأسفار، ووصلوا إليها قفلوا إلى أوطانهم يهولون ويبالغون في التهويل كدأب الرحالين الذين يحبون أن يوهموا الناس أنهم ركبوا الأهوال من أجل شيء يساوي مراكبها ومعاطبها، فلا يقنعهم الغريب حتى يغربوا في وصفه إلى الغاية من الإغراب، وجاء زمان كان المستمع فيه إلى كل غريب يحسبه لأول وهلة حديثا عن الصين، وأصبح من مضارب الأمثال حين يغلو المتكلم في استغراب كلام أن يقول: «هذا صيني بالنسبة إلي» أي هذه لغة لا تدخل في عداد اللغات التي يتفاهم بها السامعون.
ومن حظ الصين أنها اقتربت جد الاقتراب من أيدي المستعمرين وهي لا تزال بهذا المكان من الغرابة عند أمم المشرق والمغرب.
فالجزر البريطانية والبرتغال وإسبانيا وفرنسا وهولندة قائمة على شواطئ البحر الأطلسي، ولكنها كانت قد وصلت برواد الاستطلاع والاستعمار إلى الهند وما جاورها، فأصبحت من الصين قاب قوسين، وأصبحت الصين خط الامتداد الوحيد أمامها كلما طمعت في التوسعة أو ضاق بها المقام بين الطامعين المتغلبين.
Page inconnue