ما دامت ملججة في بحرها، سائرة إلى غايتها؛ إذ كلمة (الخرق) لا تحمل في السفينة معناها الأرضي، وهنا لفظة (أصغر خرق) ليس لها إلا معنى واحد وهو (أوسع قبر).
ففكِّر في أعظم فلاسفة الدنيا مهما يكن من حريته وانطلاقه، فهو ههنا محدود على رغم أنفه بحدود من الخشب والحديد تفسرها في لغة البحر حدود الحياة والمصلحة، وكما أن لفظة (الخرق) يكون من معانيها في البحر القبر والغرق والهلاك، فكلمة (الفلسفة) يكون من بعض معانيها في الاجتماع الحماقة والغفلة والبلاهة، وكلمة الحرية يكون من معانيها الجناية والزيغ والفساد (١).
_________
(١) الزائغون في التاريخ الإسلامي كله صنفان ليس لهما ثالث، وقد وصفهما الحديث الذي رواه البخاري بسنده إلى حذيفة بن اليماني ﵄ قال: كَانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللهِ ﷺ عَنْ الْخَيْرِ، وَكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنْ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنَّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللهُ بِهَذَا الْخَيْرِ، فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ». قُلْتُ: وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشَّرِّ مِنْ خَيْرٍ؟ قَالَ: «نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ». قُلْت: ُ وَمَا دَخَنُهُ؟ قَالَ: «قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ». قُلْتُ: فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شَرٍّ؟ قَالَ: «نَعَمْ دُعَاةٌ إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا». قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! صِفْهُمْ لَنَا؟ فَقَالَ: «هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا، وَيَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا». قُلْتُ: فَمَا تَأْمُرُنِي إِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ؟ قَالَ: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ» قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟ قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ». انتهى الحديث. فتأمل قوله: «يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ»، فهؤلاء هم الذين يريدون الإصلاح للمسلمين لا من طريق الإسلام بل من طرق أخرى فيها معروفها ومنكرها، وفيها علمها وجهلها، وفيها عقلها وحماقتها. ولعل من هذا قولهم: المدنية الأوروبية بحسناتها وسيئاتها ... وتأمل قوله: «إِلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ» فليست الدعوة إلى باب واحد، بل إلى أبواب مختلفة لعل آخر ما فتحوا منها باب الأدب المكشوف ... ثم تأمل قوله ﷺ: «وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ»، فإن معناه استمساك بما بقي على الطبيعة السليمة مما لا يستطيع أولئك أن يغيروه ولا أن يجددوه، أي بالاستمساك ولو بأصل واحد من قديم الفضيلة والإيمان، وعبارة العض بأصل شجرة تمثل أبدع وأبلغ وصف لمن يلزم أصول الفضائل في هذا الزمن، ومبلغ ما يعانيه في التمسك بفضيلته، وهي وحدها فن كأجمل ما يبدعه مصور عبقري. (الرافعي). وأقول: الحديث أخرجه الإمام البخاري (قدس الله رُوحه ونور ضريحه) في موضعين من "صحيحه": الأول في [كتاب المناقب - باب علامات النبوة في الإسلام] حديث رَقْم (٣٦٠٦) قال: حدثنا يحيى بن موسى.
ثم رواه في [كتاب الفتن - باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة] برقم (٧٠٨٤) قال: حدثنا محمد بن المثنى.
وأخرجه أيضًا الإمام مسلم بن الحجاج ﵀ في "صحيحه" في [كتاب الإمارة] حديث رقم (١٨٤٧) قال: حدثنا محمد بن المثنى.
وأبو نعيم في "حلية الأولياء" في ترجمة حذيفة بن اليماني [(ج١ص٢٥٤) رقم (٩٠٧) ط/ مكتبة الإيمان]، قال: حدثنا محمد بن أحمد بن حمدان، حدثنا الحسن بن سفيان، حدثنا محمد بن المثنى.
كلاهما (يحيى بن موسى، وابن المثنى) عن الوليد بن مسلم، حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، حدثني بُسْر بن عبيد الله الحضرميُّ، أنه سمع أبا إدريسَ الخَوْلانيَّ يقول: سمعت حذيفةَ بنَ اليماني ﵄ يقول: .. فذكره. وراجع إن شئت "السلسة الصحيحة" للشيخ ناصر الدين الألباني ﵀ حديث رقم (٢٧٣٩).
1 / 25