فقالت بحدة قاسية: لا شأن لي بعذابك! - البنت ابنتي ولا علاقة لها بالرجل الذي في السجن.
قلبت عينيها في وجهه بدهشة، ثم سرعان ما استردت قوتها وهي تقول: هي ابنته، تبناها بأخلاقه فملكها إلى الأبد، وأنا مثلها.
اشتد تقبض وجهه فقالت منذرة: احذر أن تلقاني بعد الآن، إني أحذرك. - يا ريري، أنت تغلقين باب الرحمة. - أنت الذي أغلقته، فاذهب.
قال بنبرة باكية: ابنتي!
فصرخت وهي تندفع في سبيلها: لست أبا، أنت جبان ولا يمكن أن تكون أبا.
31
وقف متواريا وراء ضلع كابين بساحل كامب شيزار يسترق النظر إلى أسرته الطبيعية، كانت ريري تجلس تحت مظلة شابكة ذراعيها على صدرها وعلى بعد أمتار منها عكفت نعمات الصغيرة على الرمال تحفر حفرة بدأب واهتمام، والصباح كان صحوا والشمس تغمر القلة المتفرقة على الساحل، شمس ناعمة ملاطفة أضاءت جوا منعشا، توارى عن عينيها حتى لا تظن بمقدمه الظنون، وذابت روحه في نظرته المركزة على الطفلة يود أن يقبلها قبلة حارة ثم يذهب إلى الأبد. جسمها صغير لكنه متناسق، ويرسم هيئة امرأة بصورة مصغرة. وساقاها الملونتان بالشمس وفخذها وشعرها المرسل المبتل الأهداب وضلعاها البارزان العاريان ولبس البحر النصف برتقالي وانهماكها الشديد، وكل أولئك بديع جميل وهي سعيدة حقا. هي ثمرة الملل من ناحيته والخوف من ناحية أمها، ولكن الحياة قد خلقت من هاتين الصفتين المرذولتين مخلوقة جذابة مفعمة بالصحة والهناء، هكذا اقتضت إرادة القوة الخفية وهكذا انهارت العراقيل أمام الوثبة الأبدية الغامضة، هذه الصغيرة شاهد على سخف كثير من المخاوف، شاهد الطبيعة عندما تضرب لنا المثل على إمكان التغلب على المفاسد، الآن ألا تستطيع أن تقلد الطبيعة ولو مرة؟ ألا تستطيع أن تخلق من أحزانك وخسائرك وهزائمك نصرا ولو بسيطا؟ وما هو بالنادر ولا بالجديد، فهذا البحر الذي احتفظ بصورته ملايين السنين قد شهد أمثلة على ذلك لا حصر لها، كذلك هذه السماء الزرقاء الصافية.
وأخيرا خرج من مكمنه نحو الطفلة، غير مبال بقومة ريري المتحفزة، وهوى نحوها، فطبع على خدها - رغم انزعاجها للمباغتة - قبلة حارة طويلة ثم ذهب مغمغما: «الوداع»، ولم يلتفت وراءه مرة واحدة.
وعندما جاء وقت الغداء لم يجد رغبة في الرجوع إلى البيت، فتناول غداءه في «على كيفك»، وذهب إلى سينما الساعة الثالثة، ثم دخل سينما أخرى الساعة السادسة، ثم عاد إلى «على كيفك» ليتناول العشاء ويشرب الكونياك، وطال المجلس فانتشى رأسه بنفثات الخمر وهو يتسلى بالنظر والأحلام، وقبيل منتصف الليل رأى شخصا قادما نحو المطعم جذب انتباهه فيما يشبه الصدمة الكهربائية، فارع الطول، مفتول العضل، داكن السمرة، يرتدي بنطلونا رماديا وقميصا أبيض يكشف عن ساعديه، وبين أصبعي يسراه وردة حمراء، اقترب خطوات قوية رشيقة تلمع في عينيه نظرة جريئة نافذة، التقت عيناهما وهو يدخل المحل، فحدجه القادم بنظرة قوية أدرك منها أنه تذكره، ثم حول عنه وجهه المستطيل المتناسق وهو يكاد يبتسم، ثم مضى نحو ركن عصير الفاكهة، هو هو دون غيره، أيام الحرب الكالحة، ليلة قبض على الشاب فشهد هو التحقيق معه - بصفته الرسمية والحزبية - حتى مطلع الفجر. وكان الشاب جريئا وعنيفا ولم ينته التحقيق معه إلى إدانة، ولكنه أرسل إلى المعتقل ولبث فيه حتى إقالة الوزارة. ترى ماذا يفعل الآن؟ وهل يحظى في العهد الجديد بمنزلة سامية؟ أم لا يزال ثائرا؟ ولم يبتسم؟ ومن المؤكد أنه تذكره، فهل يتوقع من ناحيته مفاجأة سيئة؟ وقرر أن يطرده عن خاطره، ولكنه التفت نحو ركن الفاكهة بدافع لم يستطع مقاومته، فرآه واقفا متجها إلى داخل المحل قابضا على كوب من عصير المانجو، ويرنو إليه بنظرة استطلاع وتأمل، وفي عينيه شبه ابتسامة ساخرة. وأعاد رأسه إلى الخارج وهو من الضيق في غاية، وكأن الماضي من خلال هذه النظرة يطارده، وما لبث أن قام ثم غادر المحل ماضيا إلى الكورنيش رأسا، ولم يخطر له أن يعود إلى البيت، بل وخيل إليه أنه لم يعد له بيت على الإطلاق، ومال بعد مشية غير قصيرة إلى الميدان، ثم جلس على أريكة تحت تمثال سعد زغلول، أغلب الأرائك خالية، والهواء البارد في غير قسوة يتجول في الرحبة الفسيحة لاعبا بالنخيل، والنجوم تومض في القبة الهائلة، والليل راسخ كالأبدية، ولم يكن قد نجا بعد من ذكريات الشاب الناشبة في مخيلته، ولكنه صمم على أن يرسم للمستقبل خطة، ولم يكد يستغرق في أحلامه حتى شعر بشخص يجلس إلى جانبه، فالتفت نحوه في غيظ مكبوت، فرأى الشاب المقتحم، واضطرب في خوف، وقال إنه لا شك قد تبعه خطوة فخطوة وأنه يضمر له شرا! وتوثب للدفاع ولكنه خجل في ذات الوقت من فكرة الانسحاب. وجاءه صوت حلقي يقول في لطف: مساء الخير يا أستاذ عيسى، أو صباح الخير فقد انتصف الليل منذ دقائق!
رمقه بنظرة باردة على ضوء غير قريب، وقال: صباح الخير، من حضرتك؟! - لا شك أنك تذكرني!
Page inconnue