ثم بعد صمت قصير: قلبي يحدثني بأنك ستقبلني في ضيافتك.
16
وسمح لها بالإقامة في شقته كما تمنت، وأفهمها منذ اللحظة الأولى أنه رجل حر، وأن عليها أن تلتزم حدودها حتى لو جاء كل ليلة بامرأة، وقالت له: سمعا وطاعة، ولم ينكر بعد ذلك أنها أكسبت الشقة أنسا ونظافة وأطلقت في جوها البارد أنفاسا حارة، وأنها تبدت في الثياب الجديدة التي ابتاعها لها مقبولة حقا، وبالغت دائما في العناية بمظهرها، ولعبت دورها بلباقة، وهو دور فوق مرتبة الخادمة ودون مرتبة السيدة، وتجنبت أن تثقل عليه بأية صورة من الصور. وكانت تشاركه الطعام والتدخين والشراب ولم تطالبه فوق ذلك بمليم. ولم يشجعها على التودد العاطفي إليه ولا على استعمال التعبيرات العذبة، وقال لها: أنا رجل سيئ الظن بكل شيء، هكذا أصبحت، فاحذري أن تذكريني بالكذب.
وعندما استحكم الشتاء وأمسى الجو كالغيب لا أمان له، اضطر إلى قضاء الليالي الطوال معها في الشقة يستمعان إلى الراديو، أو ينفرد هو بضع ساعات بالقراءة أو يريح النفس المكدودة بأحاديثها التافهة، وأسوأ ما يمر به معها أن تدهمه أحيانا كمركز للهوان الذي تدهور إليه في الحياة، وعند ذاك يتجنبها ويتوثب للإساءة إليها عند أول فرصة، وعند الإساءة ينقبض وجهها المستدير الممتلئ فيلحظ خفية الجهد الذي تبذله لشكم غضبها والتنفيس عن استعدادها العدواني المكبوت المكتسب من حياة الأرصفة بمعركة باطنية تفتضح آثارها في خديها وشفتيها ونظرتها وانقلاب سحنتها، ورغم أنها كانت أمية إلا أنها كانت على ثقافة في عالمي السينما والراديو فهي تحفظ أسماء وصور النجوم والكواكب كما تعرف الأفلام والأغاني والبرامج ولا تشبع من أحاديثها، وسألته: ألا تراني صالحة للسينما؟
فأجابها بأنه لا خبرة له في هذا الميدان، وعجب للغرور البشري الذي يفوق قوة الذرة، وقصت قصصا عن نجوم وكواكب، لا يدري من أين جاءتها لتثبت له أنها جديرة بالأضواء، وأن المسألة مسألة حظ، لا أكثر ولا أقل! وقال لها ضاحكا: كان ينبغي أن تبحثي عن شقة منتج أو مخرج لكي تشاركيه فيها!
ولأن ليل الشتاء طويل، ولأنه يأبى أن ينام قبل الفجر، فقد علمته ألوانا من لعب الورق، وقامرته كثيرا، وربحت منه بعض النقود، وهي النقود الوحيدة التي استقرت في جيبها منه، وخطر له أن يسأل نفسه مرة ماذا تعرف البنت عن السياسية - السياسة التي ازدردته بطلا ولفظته جثة - فسألها عن أسماء وأحداث، ولكنها هزت منكبيها ولم تعن بالإجابة، وعجب كيف يوجد مخلوق لا اكتراث له بدنيا السياسة، وسألها ساخرا: ماذا تعرفين عن الدستور؟
فلم تبن عيناها عن أي فهم، فعاد يسأل: ورأيك في الاستقلال؟
فلم تتغير نظرتها، فأوضح كلامه قائلا: أعني خروج الإنجليز!
فهتفت: آه، فليخرجوا إذا شئت، ولكني سمعت الكثير عن أيامهم الحلوة، أبلتي صاحبة القهوة فتحت قهوتها من نقودهم.
وقال لنفسه: إن استقلالها الحقيقي هو أن تتحرر من الحاجة إلي أنا وأمثالي.
Page inconnue