وهتفت وهيبة وهي أبرهن بأمها: لن تقيمي وحدك أبدا. - أم شلبي لن تفارقني وآمل ألا تنقطعن عن زيارتي.
وتذكر عيسى البيت القديم الذي شهد مولدهم جميعا، وبخاصة حوشه الواسع وأرضه الرملية القاحلة، ولم يدر كيف يعرب عن استيائه، ولكنه سأل أمه: أليس الأوفق أن تقيمي عند إحدى أخواتي؟
فقالت بعصبية: كلا، أنا أيضا عنيدة، ومن خير الجميع أن أعيش في البيت القديم.
وأكدت كل أخت من بناتها أنها ستسعد بإقامتها عندها ولكنها لم تبالهن، وامتلأ إحساس عيسى بالمسكن الجميل الذي قال فيه كلمته الأخيرة، ونظر إلى الأشجار خارج الشرفة، وهي تهتز في رقة بالغة في إطار من جو الخريف الأبيض الموحي بالشجن، وقال لنفسه: «ألا لعنة الله على التاريخ.»
وإذا بوهيبة تقول: البيت القديم غير صالح للسكنى لمن اعتاد الإقامة هنا!
وخيل إلى عيسى وهو يرى خلجات جفني أمه وشفتيها أنها ستبكي، ولكنها قالت بصوت متهدج: هو صالح تماما، وفيه ولدنا جميعا.
13
جميع ما يحيط بنا يعد براحة كالموت، ومن أضناه الألم خليق بأن يرحب بالمسكن وإن يكن سما، وهذه الشقة الصغيرة المفروشة دليل على أن الحضارة لا تخلو أحيانا من نقطة رحمة، وها هو البحر يترامى في عظمة كونية حتى يغوص في الأفق ولكنه يستمد من حلم أكتوبر حكمة ودماثة، وجدران الحجرات محلاة بصورة الأسرة اليونانية صاحبة الشقة، وكلما نظرت إلى الخارج رأيت الوجوه اليونانية في الشرفات والنوافذ وعلى قارعة الطريق، غريبا في موطن غرباء، وتلك مزية الإبراهيمية، والمقهى المرصع طواره بالأشجار وسوق الخضار بألوانه النضرة والحوانيت الأنيقة تحفل بالوجوه اليونانية وتتردد في جنباتها - بعد زوال الموسم - لغتهم الأجنبية فخيل إليك أنك هاجرت حقا وتنهل من الغربة حتى تسكر، وهؤلاء الأجانب الذين طالما أسأت بهم الظن أنت اليوم تحبهم أكثر من مواطنيك وتلتمس عندهم العزاء، إذ إن جميعكم غرباء في بلد غريب. واختيار شقة في الدور الثامن دليل آخر على الرغبة في الإمعان في السفر، وعن بعد ترى البحر من فوق قطاعات متلاحقة من الأبنية المنخفضة تمتد حتى الكورنيش. ترى البحر وقد سحره أكتوبر فأخلد إلى أحلام اليقظة وترى أيضا أسراب السمان تتهاوى إلى مصير محتوم عقب رحلة شاقة مليئة بالبطولة الخيالية، القاهرة الآن ذكرى مغلفة بالحزن، والوحدة تجربة مرة، ولكنها ضرورية لتجنب النظر إلى الوجوه المثيرة للقلق والأرق ... ومعالم المجد المحرضة على الحسرة، جرب الوحدة ورفقاء الوحدة - الراديو والكتاب والأحلام - وانظر هل يمكن أن تنسى لغة الكلام؟ وتتتابع اللحظات بلا ضابط يضبطها، فأنت لا تعرف الوقت ولا تكاد تعرف اليوم؛ ولذلك ترفع بصرك في دهشة نحو قرص الشمس الماسي الهادئ كما يبدو خلف سحب الخريف الصريحة، وها هي الحياة تغازلك رغم الكمد وكأنك ترى الدنيا والناس لأول مرة بعد أن أفقت من حمي العراك والمطامع. وقيمتها الذاتية تتكشف معلنة عن بهجة الإبداع، ولم يكن مسير الشمس قبل ذلك إلا بشيرا بتقديم مذكرة أو نذيرا بمقابلة السفير ... وقد دفنتنا الأحداث ونحن أحياء، وما هذه الآلام في الحقيقة إلا أضغاث أحلام تحترق في رأس ميت عفن، أما في هذه الشقة اليونانية فثمة وحدة حقيقية وقلب نابض، وركن البوديجا لا يسلى عن القلب، ولكن ما أقبح عواطفه المتناقضة، فأنا أحبهما - عباس صديق وإبراهيم خيرت - وأبغضهما في آن، أحب جانبهما الذي عاش قبل الثورة، وأكره وسائلهما التي عاشا بها بعد الثورة، وعندي الآن فرصة لتصفية هذه العقد الصفراء، والهموم كالجبال، والعقل علاه الصدأ، ولكن سبيل العزاء المحفوف بالحماقات ممهد أمام مالك الحرام وأحلام يقظتك التي ينتهي فيها العذاب بالانتصار. ونظرة من عل إلى هذا الخلاء الذي لا يحد تهب النفس راحة ورفعة فوق كل شيء، ولم يا ربي لا تلهمنا ومضة عن معنى هذه الرحلة الشاقة المخضبة بالدماء؟ ولم لا ينطبق هذا البحر الذي شهد الصراع منذ الأبدية؟! ولم تأكل هذه الأرض الأم أبناءها عند المساء؟ وكيف يكون للحجر دور في المسرحية، وللحشرة دور، وللمحكوم عليه في الجبل دور، وأنا لا دور لي؟
ومضى ذات صباح إلى جليم؛ تلبية لرسالة تلقاها من سمير عبد الباقي، لم يكن رآه منذ انتقاله إلى الإسكندرية في منتصف سبتمبر، ولم يكن رأى كازينو الفردوس منذ صيف 1951، وكان الساحل خاليا والكازينو شبه خال كحاله في الأيام الأخيرة من أكتوبر. على عهد النفوذ كان يذهب إلى الفردوس في مجال من الخيلاء ، ترمقه الأعين باهتمام، فيشق طريقه إلى مائدته المحجوزة بين أصدقاء وأعداء من الباشوات في تلك الدنيا الزائلة. والحفل الذي أقيم في الفردوس منذ عامين هل يمكن أن ينسى؟ الصوت الملائكي والبهجة الشاملة والهتافات المدوية، ومجيئه هو في ركاب الزفة ليشرب ويطرب ويسهر، ولم يكن يرى على مدى الآفاق إلا آمالا واعدة بالفوز المبين.
وجلس بمجلسه القديم على يمين المدخل الجواني، بين مقاعد شاغرة، وعلى مائدة متفرقة بضعة من معمري الباشوات الذين يستميتون في التصييف حتى اللحظة الأخيرة، وثمة امرأتان وحيدتان؛ عجوز وأخرى في منتصف العمر، وأحاط بالمكان سكون رهيب، واسترق إلى العجوز نظرة، وقال لنفسه: إن سلوى ستلقى نفس المصير في يوم من الأيام، كالمجد والعزة وشتى الآمال، وأعجب بانبساط الماء ودماثته وزرقته الصافية، كما أعجب بالسحب الحبالى بماء الورد الأبيض، جاء سمير عبد الباقي في ميعاده فتعانقا بحرارة، وبدا سمير ناحلا أكثر مما تركه، ولكنه أحسن صحة وأصفى عينا، وقال: جئت أنا وزوجتي لتعود أمها، وسنسافر غدا.
Page inconnue