10 - لا مشكلة بلا حل!
هكذا تكلم إبراهيم خيرت في ركنهم الخاص بالبوديجا، وهو لضآلة جسمه وقصر قامته قعد قريبا من حافة الكرسي ليتمكن من إيصال قدميه إلى الأرض، ويعقد جبينه في مقدمة رأسه الضخم ليضفي على شخصيته جدية تصد عنها الهازلين، وتكومت فوق كرسيين متلاصقين معاطفهم، وتقاربت رءوسهم في القهوة المزدحمة الصاخبة، وقال عيسى لنفسه: إنه - إبراهيم خيرت - يتكلم عن المشاكل والحلول بطمأنينة لأن الزلازل لم تحدث خسائر في أرضه، وهو محام ناجح، وقلم يتألق في الصحف، ومثله عباس صديق المستقر في وظيفته، رغم أنه كان أشد اغتيالا منه لأموال الناس، ولكن لم يمكن الحسد ولا الحنق ولا الغضب ليؤثر في صداقتهم الوطيدة وزمالتهم السياسية القديمة، وتناول سمير عبد الباقي كبشة فول سوداني من طبق صغير ممتلئ، وقال: كلام جميل، ولكن ها هي الأيام تمضي دون أن نجد حلا حقيقيا!
ونظر عيسى إلى الرذاذ المتساقط في الخارج من زجاج النافذة، وتساءل: وهل نبدأ من أول الطريق على الآلة الكاتبة؟
وراح عباس صديق يقرقر في النارجيلة وينفث الدخان كعضو في أوركسترا المدخنين بالقهوة والدخان، ينعقد حول المصابيح المدلاة كالضباب، وتأمل عيسى الوجوه المتباينة التعابير على طول القهوة، المتراوحة بين الخمول عند الحالمين، والتركيز المحموم لدى اللاعبين، وتساءل في جزع: لماذا قدر عليه أن يحارب التاريخ في موكبه المتدفق منذ الأزل؟! وتطلع من زجاج النافذة إلى الطريق السابح في المطر والضوء بنهم جنسي يفتش عن امرأة مهرولة بمدخل عمارة مظلم، وقال: الشتاء جميل، ولكن القاهرة غير مستعدة له.
فقال إبراهيم خيرت مخاطبا سمير عبد الباقي: لا تنس أن رجالنا منتشرون في مجالس إدارات الشركات.
ها هو يتكلم عنهم فيقول «رجالنا»، ويحمل في نفس الوقت بقلمه على الأحزاب والحزبية ويطالب بمحو الماضي محوا، ما أكثر القرف الذي يدعو إلى التقزز، وهو نفسه عنصر هام من عناصر القرف. والاستثناء المثير للحيرة حقا هو ماضيه - وماضيهم - المضيء بالإيثار وشرف النفس! وسأله: خبرني عن شعورك وأنت تقرأ مقالاتك في الصحف.
فقال إبراهيم خيرت في رزانة غير عابئ بابتسام الآخرين: أنا أتساءل لم أراد الله لآدم أن يهبط إلى الأرض؟!
ورفع عباس صديق وجهه عن خرطوم النارجيلة وهو يجلس على كرسيه ربعة بدينا فاقع بياض الوجه جاحظ العينين براقهما لحد المرض أصلع، يوحي منظره جملة بأنه أكبر من عمره بعشرة أعوام على الأقل، وقال: سوف نشقى حتى نراكما في وظيفتين كبيرتين بشركة محترمة.
وراح عيسى يحاول النفاذ إلى بواطن الآدميين المتكتلين في القهوة لغير ما سبب واضح. وجرى في الماضي ملايين السنين بين الدهشة والارتياع، ثم التفت نحو زجاج النافذة فرأى شحاذا واقفا وراءه ليرمقهم بنظرة مستعطفة وقد انقطع المطر فقال لأصحابه: تصوروا أن هؤلاء الآدميين انحدروا في الأصل من السمك! - لكن الأسماك ما زالت تزحم المحيطات بملايين الملايين!
فقال بفتور: وهذا هو سر مأساتنا الحقيقي.
Page inconnue