ودوت صرخة فانعقدت الألسن، هل عاد الطلق الأليم، ومتى يحضر الطبيب؟ ودوت الصرخة مرة أخرى، فازداد التوتر، وإذا ياسين يهتف مرتاعا: هذا صوت عائشة!
فأرهفوا السمع، وعرفوا صوت عائشة، فقام إبراهيم إلى الحجرة ونقر الباب، ففتحت زنوبة بوجه باهت، سألها بلهفة: ما لكم؟ ما لعائشة هانم؟ أليس من المستحسن أن تغادر الحجرة؟
فقالت زنوبة وهي تزدرد ريقها: كلا .. الحال شديدة يا سي إبراهيم .. - ماذا حدث؟ - فجأة، إنها .. انظر ..
في أقل من ثانية كان الرجال الثلاثة على باب الحجرة ينظرون. كانت نعيمة مغطاة حتى الصدر، خالتها وجدتها والحكيمة حولها في الفراش، أمها واقفة وسط الحجرة تحملق في بنتها من بعيد بعينين زائغتين وكأنها فقدت الوعي، وكانت نعيمة مغمضة العينين، صدرها يعلو وينخفض كأنما قد أفلت زمامه من بقية الجسد الساكن، أما الوجه فأبيض باهت كالموت. هتفت الحكيمة «الدكتور!» وجعلت أمينة تهتف «يا رب»، وخديجة تنادي بصوت مذعور «نعيمة .. ردي علي»، أما عائشة فلم تنطق كأن الأمر لا يعنيها في شيء . تساءل كمال «ماذا هنالك؟» وسأل أخاه في ذهول «ماذا هنالك؟» ولكنه لم يجبه. أي ولادة عسيرة؟! ودار بصره بعائشة وإبراهيم وياسين فتقهقر قلبه في صدره، ليس هنالك إلا معنى واحد ..
ودخلوا الحجرة جميعا. لم تعد حجرة ولادة وإلا ما دخلوا، وكانت عائشة في حال بالغة الشدة ولكن أحدا لم يوجه إليها كلمة. وفتحت نعيمة عينيها فبدتا مظلمتين، وأتت حركة كأنما تريد أن تجلس فأجلستها جدتها وحوتها في حضنها، شهقت الفتاة، وندت عنها آهة عميقة، ثم بغتة هتفت كأنما تستغيث: ماما .. أنا ذاهبة .. أنا ذاهبة.
ثم سقط رأسها على صدر جدتها، وضجت الحجرة بالصوات، ولطمت خديجة خديها، وتشهدت أمينة في وجه الفتاة، أما عائشة فرمت بناظريها من النافذة المطلة على السكرية، وثبتت عينيها على ماذا؟ ثم تردد صوتها كالحشرجة: ما هذا يا ربي؟ ما هذا الذي تفعله؟ لماذا؟ لماذا؟ أريد أن أفهم ..
واقترب منها إبراهيم شوكت ومد لها يده، فأبعدتها بحركة عصبية وهي تقول: لا يلمسني منكم أحد، دعوني، دعوني ..
ثم رددت بصرها بينهم قائلة: اخرجوا من فضلكم، لا تكلموني، هل عندكم كلام يجدي؟ لن ينفعني الكلام، ماتت نعيمة كما ترون، كانت كل ما تبقى لي فلم يبق لي شيء في الدنيا، اذهبوا من فضلكم ..
كان الظلام حالكا عندما مضى ياسين وكمال في طريقهما إلى بين القصرين، وكان ياسين يقول: ما أثقل أن أبلغ والدك الخبر!
فأجاب كمال وهو يجفف عينيه: نعم .. - لا تبك، أعصابي لم تعد تتحمل ..
Page inconnue