23
كانت الغورية تغلق أبوابها، فقلت السابلة واشتدت البرودة، وكان الزمن أواسط ديسمبر، ولكن الشتاء جاء متعجلا ذلك العام. ولم يكن كمال قد وجد صعوبة في جذب رياض قلدس إلى حي الحسين. أجل كان الشاب غريبا عن الحي، ولكنه وجد من نفسه شوقا للتقلب في أنحائه، والجلوس في مقاهيه. وكان قد مضى على تعارفهما في مجلة الفكر أكثر من عام ونصف عام، لم يمر أسبوع خلاله دون أن يتقابلا مرة أو مرتين، بخلاف العطلة التي كانت تجمع بينهما كل مساء على وجه التقريب في مجلة الفكر، أو بيت بين القصرين، أو بيت رياض بمنشية البكري، أو مقاهي عماد الدين، أو قهوة الحسين الكبرى التي لجأ إليها كمال بعد أن أتت المعاول على قهوة أحمد عبده التاريخية فمحتها من الوجود إلى الأبد. كانا سعيدين بصداقتهما، وقد قال كمال لنفسه مرة «جعلت أفتقد حسين شداد أعواما، وظل مكانه شاغرا، حتى ملأه رياض قلدس»، ففي محضره تستيقظ روحه وتستشعر ذاك الانبثاق الذي يبلغ نشوته في عناق الفكر المتبادل. هذا على الرغم من أنهما لم يكونا شيئا واحدا، وإن كانا متكاملين فيما بدا. وظلت صداقتهما شعورا متبادلا في صمت، لم ينوها به؛ فلم يقل أحدهما للآخر «أنت الصديق»، ولا قال له «لا أتصور الحياة بدونك»، ولكن كان ذلك كذلك، وعلى برودة الجو لم تفتر رغبتهما في السير، فقررا أن يسيرا على الأقدام حتى قهوة عماد الدين. ولم يكن رياض قلدس سعيدا ذلك المساء، كان يقول بانفعال شديد: انتهت الأزمة الدستورية بهزيمة الشعب؛ فليست إقالة النحاس إلا هزيمة للشعب في نضاله التاريخي مع السراي ..
فقال كمال في أسف: ثبت الآن أن فاروق كأبيه .. - فاروق ليس المسئول وحده، ولكن دبرها أعداء الشعب التقليديون، فهذه يد علي ماهر ومحمد محمود، ومن المبكي أن ينضم إلى أعداء الشعب اثنان من أبنائه، ماهر والنقراشي، ولو تطهر الوطن من الخونة لما وجد الملك من يمكنه من هضم حقوق الشعب ..
ثم استطرد بعد صمت قليل: ليس الإنجليز اليوم في الميدان، ولكن الشعب والملك وجها لوجه، الاستقلال ليس كل شيء، هنالك حق الشعب المقدس في أن يتمتع بسيادته وحقوقه، ليحيا حياة الإنسان لا حياة العبيد ..
لم يكن كمال غارقا في السياسة كرياض، أجل لم يستطع الشك أن يدمرها فيما دمر فلبثت حية في عواطفه، كان يؤمن بحقوق الشعب بقلبه، وإن كان عقله لا يدري أين المقر: عقله يقول حينا: «حقوق الإنسان»، وحينا آخر يقول: «بل البقاء للأصلح وما الجماهير إلا قطيع» وربما قال: «والشيوعية، أليست تجربة جديرة بالاختبار؟» أما قلبه فلم يتخلص من عواطفه الشعبية التي صاحبته منذ صباه ممتزجة بذكرى فهمي، أما رياض فكانت السياسة جوهرا أصيلا في نشاطه الذهني وعاد رياض يقول: أيمكن أن ننسى الإهانة التي تلقاها مكرم في ميدان عابدين؟ وهذه الإقالة المجرمة، سب وقذف وبصقة في وجه الأمة؟ والحقد الأعمى يجعل البعض يهللون، وا حسرتاه ..
فقال كمال مداعبا: أنت غاضب لمكرم!
فقال رياض دون تردد: إن الأقباط جميعا وفديون؛ ذلك أن الوفد حزب القومية الخالصة، ليس حزبا دينيا تركيا كالحزب الوطني، ولكنه حزب القومية التي تجعل من مصر وطنا حرا للمصريين على اختلاف عناصرهم وأديانهم، أعداء الشعب يعلمون ذلك؛ ولذلك كان الأقباط هدفا للاضطهاد السافر طوال عهد صدقي، وسيعانون ذلك منذ اليوم ..
ورحب كمال بهذه الصراحة التي تشهد لصداقتهما بالكمال، غير أنه راق له أن يتساءل في دعابة: ها أنت تتحدث عن الأقباط! أنت الذي لا يؤمن إلا بالعلم والفن! ..
فلاذ رياض بالصمت. وكانا قد بلغا شارع الأزهر حيث يتدافع الهواء البارد في شيء من العنف. ثم مرا في طريقهما بدكان بسبوسة فدعاه كمال إلى تناول بعض منها، وما لبث أن أخذ كل منهما طبقا صغيرا وانتحيا جانبا يأكلان، وعند ذلك قال رياض: إني حر وقبطي في آن، بل إني لاديني وقبطي معا، أشعر في أحايين كثيرة بأن المسيحية وطني لا ديني، وربما إذا عرضت هذا الشعور على عقلي اضطربت. ولكن مهلا، أليس من الجبن أن أنسى قومي؟ شيء واحد خليق بأن ينسيني هذا التنازع، ألا وهو الفناء في القومية المصرية الخالصة كما أرادها سعد زغلول، إن النحاس مسلم دينا، ولكنه قومي بكل معنى الكلمة أيضا، فلا نشعر حياله إلا بأننا مصريون؛ لا مسلم ولا قبطي، بوسعي أن أعيش سعيدا دون أن أكدر صفوي بهذه الأفكار، ولكن الحياة الحقة مسئولية في الوقت نفسه.
كان كمال يتمطق ويفكر وصدره يجيش بالعواطف، كانت سحنة رياض المصرية الصميمة التي تذكره بالصور الفرعونية تثير تأملات شتى في نفسه. «آن موقف رياض له وجاهته التي لا تجحد، وأنا نفسي - بين عقلي وقلبي - شخص يعاني انقسام الشخصية، فكذلك هو، كيف يتأتى لأقلية أن تعيش وسط أغلبية تضطهدها؟ وجدارة الرسالات السامية تقاس عادة بما تحققه من سعادة للبشر تتمثل أول ما تتمثل في الأخذ بيد المضطهدين.» قال: لا تؤاخذني؛ فقد عشت حتى الآن دون أن أصطدم بمشكلة العنصرية، فمنذ البدء لقنتني أمي أن أحب الجميع، ثم شببت في جو الثورة المطهر من شوائب التعصب، فلم أعرف هذه المشكلة.
Page inconnue