21
بدا بيت عبد الرحيم باشا عيسى في حركة غير مألوفة؛ ففي الحديقة وقف أناس كثيرون، وفي الفراندا جلس آخرون، وكثر الداخل والخارج، فلكز حلمي عزت ذراع رضوان ياسين وهما يقتربان من البيت، وقال له بارتياح: لسنا بلا أنصار كما تزعم جرائدهم ..
وعندما أخذا يشقان سبيلهما إلى الداخل، هتف بعض الشبان «يحيا التضامن» فتورد وجه رضوان تأثرا. كان متحمسا ثائرا مثلهم، بيد أنه ساءل نفسه في قلق: ترى ألا يشك أحد في الجانب غير السياسي من زياراته ؟ وقد أفضى مرة بمخاوفه إلى حلمي عزت، فقال له: «إن الريبة لا تلحق إلا بالخواف! سر مرفوع الرأس ثابت الأقدام، يجدر بالذين يعدون أنفسهم للحياة العامة ألا يكترثوا لآراء الناس أكثر مما يجب.» وكان بهو الاستقبال مكتظا بالجالسين، منهم طلبة وعمال وبعض أعضاء الهيئة الوفدية، وفي صدر المكان جلس عبد الرحيم باشا عيسى، متجهما على غير عادته، جادا صارما، تكتنفه هالة الرجل السياسي الخطير. وتقدما إليه فنهض لاستقبالهما في رزانة، وصافحهما ثم أشار لهما بالجلوس. وقال أحد الجالسين، وكان قد توقف عن الحديث أثناء استقبال الشابين: شد ما فوجئ الرأي العام وهو يطلع على أسماء الوزراء الجدد، فلا يجد بينهم النقراشي!
فقال عبد الرحيم باشا عيسى: توقعنا عند الاستقالة أمرا، خاصة وأن الاختلاف كان قد ذاع حتى تحدثت به المقاهي، ولكن النقراشي ليس كغيره من أعضاء الوفد لقد فصل الوفد من قبل كثيرين فلم تقم لهم قائمة، أما النقراشي فله شأن آخر، ولا تنسوا أن النقراشي معناه أحمد ماهر أيضا، هما الوفد، الوفد المجاهد المناضل المحارب، سلوا المشانق والسجون والقنابل، وليس الخلاف هذه المرة بالذي يشين الخارج، هي نزاهة الحكم، قضية القنابل، وإذا وقع المحذور وانشق الوفد، فالوفد هو الذي سيخرج لا النقراشي ولا ماهر! - لقد كشف مكرم عبيد عن وجهه أخيرا ..
ووقع هذا القول من أذني رضوان موقعا غريبا، فلم يكن مما يسهل تصديقه أن يهاجم قطب الوفد بهذا الأسلوب في بيئة وفدية صميمة. وإذا بآخر يقول: مكرم عبيد هو رأس هذا الشر كله يا سعادة الباشا ..
فقال عبد الرحيم باشا: ليس الآخرون أصفارا! - لكنه هو الذي لا يطيق منافسيه، إنه يريد أن يستحوذ على النحاس وحده دون شريك. وإذا خلا له الجو من ماهر والنقراشي فلن يقف في سبيله شيء .. - لو أمكنه إزالة النحاس نفسه لأزاله.
فقال شيخ من الجلوس: أرجوكم، لا تسرفوا في القول، قد تعود المياه إلى مجاريها. - بعد أن تألفت الوزارة دون النقراشي؟ - كل شيء ممكن .. - كان من الممكن هذا على عهد سعد، أما النحاس فرجل عنيد ، وهو إذا ركب رأسه ...
وهنا دخل البهو رجل مهرولا، فاستقبله الباشا وسط المكان وتعانقا بحرارة والباشا يتساءل: متى عدت؟ كيف الحال في الإسكندرية؟ - عال .. عال، استقبل النقراشي في محطة سيدي جابر استقبالا شعبيا منقطع النظير، هتفت له الجماهير المثقفة من الأعماق، الجميع غاضبون، الكل ثائر لنزاهة الحكم، هتفوا: يحيا النقراشي النزيه .. يحيا النقراشي ابن سعد .. وهتف كثيرون: يحيا النقراشي زعيم الأمة ..
وكان الرجل يتكلم بصوت مرتفع، فردد هتافه كثيرون حتى اضطر عبد الرحيم باشا أن يلوح لهم داعيا إلى التزام الهدوء. - وعاد الرجل يقول: الرأي العام ساخط على الوزارة، غاضب لإخراج النقراشي منها. لقد خسر النحاس خسارة لا تعوض، وارتضى أن يؤيد الشيطان ضد الملاك الطاهر ..
وهنا قال عبد الرحيم باشا: نحن الآن في أغسطس، وفي أكتوبر تفتح الجامعة، فليكن افتتاح الجامعة موقعة فاصلة، يجب أن نستعد منذ الآن للمظاهرات فإما أن يثوب النحاس إلى رشده، وإما فليذهب إلى الهاوية ..
Page inconnue