كان الشيخ شديد الحماسة، وكانت طريقته أن يقرر حقيقة ما، ثم تدور حولها المناقشات ما بين أسئلة من مريديه وأجوبة عليها منه، يقوم أكثرها على الاستشهاد بالقرآن والحديث، وكان يتحدث وكأنه يخطب، أو كأنه يخطب الجالسين في القهوة جميعا. فسمعه أحمد وهو جالس في أقصى المكان، يحتسي الشاي الأخضر، وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة. وكان يقيس الشقة بينه وبين هذه المجموعة المتحمسة في عجب، ويجد نحوها ازدراء وغضبا، وثار به التحدي مرة فهم بأن يطلب من الشيخ أن يخفض من صوته حتى لا يعكر على رواد القهوة صفاء راحتهم، ولكنه عدل عما هم به في اللحظة التي تذكر وجود أخيه بينهم. وأخيرا لم يجد بدا من مغادرة القهوة، فقام ساخطا وغادرها ..
12
عاد عبد المنعم إلى السكرية حوالي الثامنة مساء. وكان الجو سكت حنقه فمال إلى اللطافة وشاعت فيه رقة الربيع. كان الدرس ما يزال يكبر في رأسه ويتردد في قلبه، ولكن أعياه الجهد والفكر. وعبر حوش البيت في ظلام دامس ثم اتجه إلى السلم، وفي تلك اللحظة فتح باب الدور الأول، وعلى الضوء المنبعث من داخل الشقة رأى شبحا يتسلل إلى الخارج ثم أغلق الباب وراءه وسبقه إلى السلم. وخفق قلبه وجرى دمه حارا كحشرة هيجها القيظ. رآها في الظلام تنتظر عند أول بسطة وتتطلع نحوه فتطلع نحوها، ولم يتحول عنها رأسه، وعجب كيف يستغفل الصغار الكبار، فهذه الصغيرة غادرت بيتها بحجة زيارة الجيران، وسوف تزور الجيران، ولكن بعد خوض مغامرة خطيرة فوق بسطة السلم المستكنة في الظلام. ولتوه وجد رأسه فارغا. تبخر ما كان يصطرع فيه من أفكار وتطاير، وتركز هو في رغبة واحدة هي أن يشبع النهم الذي بات يؤرق أعصابه وأعضاءه. أما ذلك الإيمان الصادق فيبدو أنه ولى غاضبا، أو غاص في الأعماق يدمدم حانقا ولكن صوته ضاع في أزيز النار المستعرة. أليست هي فتاته؟ بلى، تشهد بذلك حنايا الحوش وبئر السلم وركن السطح المطل على السكرية. وكانت بلا ريب ترقب عودته لتلتقي به في اللحظة المناسبة. كل هذا العناء من أجله هو! ومضى متعجلا حذرا حتى وقف إزاءها على البسطة، لا يكاد يفصل بينهما شيء، وقد سطع أنفه شذا شعرها، ودغدغ عنقه تردد أنفاسها. وربت منكبها برقة هامسا: نصعد إلى البسطة الثانية فنكون في موضع آمن من هذا.
تقدمته دون أن تنبس فتبعها محاذرا. وبلغا البسطة الثانية فيما بين الدورين. فوقفت مستندة إلى الجدار ووقف بين يديها، ثم أحاطها بذراعيه فقاومته بحكم العادة مقدار ثانية ثم سكنت في حضنه .. - حبيبتي .. - انتظرتك في النافذة، نينة مشغولة باستعدادات شم النسيم .. - كل سنة وأنت طيبة، دعيني أشم النسيم بين شفتيك ..
والتقت شفتاهما في قبلة طويلة جائعة. ثم تساءلت: أين كنت؟
ذكر في سرعة خاطفة درس السياسة في الإسلام، ولكنه أجاب: مع بعض الأصدقاء في القهوة ..
قالت بلهجة تشي بالاحتجاج: القهوة ولم يبق على الامتحان إلا شهر؟ - ولكني أعرف واجبي، سأقبلك قبلة ثانية جزاء سوء ظنك بي .. - صوتك عال، أنسيت أين نحن؟ - نحن في بيتنا، في غرفتنا، هذه البسطة هي غرفتنا! - العصر وأنا ذاهبة إلى خالتي نظرت إلى فوق لعلي أراك في النافذة، فإذا بوالدتك تطل على الحارة فالتقت عيني بعينها فارتعدت من الخوف. - ماذا خفت؟
خيل إلي أنها عرفت عمن أبحث وأنها كشفت سري .. - تعنين سرنا، إنه شيء واحد يربطنا، ألسنا الآن شيئا واحدا؟
وضمها إلى صدره بعنف في رغبة جامحة، وفي الوقت نفسه. كأنما كان يجد هاربا من أصوات المعارضة الخافتة في أعماقه باستسلام يائس، فلفحته نيران متأججة، واحتوته قوة قادرة على إذابة اثنين في دوامة واحدة ..
وند عن الصمت تنهيدة ثم تردد أنفاس، وشعر أخيرا بأنه هو وأنها هي وأن الظلام يضم شبحين. ثم جاءه همسها الرقيق يقول في استحياء: نتقابل غدا؟
Page inconnue