Feuillets sélectionnés de la poésie dramatique chez les Grecs
صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان
Genres
إلى صاحب العظمة«فؤاد الأول» سلطان مصر
مقدمة
التمثيل اليوناني
حياة أيسكولوس
المستجيرات
الفرس
السبعة يهاجمون طيبة
بروميثيوس ديسموتيس
أجاممنون
المتقربون
Page inconnue
الأومينيديس
حياة سوفوكليس
أياس
أنتيجونا
إلكترا
إلى صاحب العظمة«فؤاد الأول» سلطان مصر
مقدمة
التمثيل اليوناني
حياة أيسكولوس
المستجيرات
Page inconnue
الفرس
السبعة يهاجمون طيبة
بروميثيوس ديسموتيس
أجاممنون
المتقربون
الأومينيديس
حياة سوفوكليس
أياس
أنتيجونا
إلكترا
Page inconnue
صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان
صحف مختارة من الشعر التمثيلي عند اليونان
تأليف
طه حسين
إلى صاحب العظمة«فؤاد الأول» سلطان مصر
مولاي
يحفظ التاريخ ما لعظمتك من أثر محمود في إنشاء الجامعة وإحيائها، وأحفظ أنا ما تفضلت به من عطف علي وتشجيع لي على درس «الأدب القديم» وإذاعته. فمن الحق أن أرفع إلى مقامك الجليل أول كتاب أنشره في «أدب اليونان». وأنا سعيد كل السعادة إن ارتاحت إليه نفسك الكريمة، وانتفع به أبناء هذا الوطن العزيز.
طه حسين
القاهرة في 20 ديسمبر سنة 1920
مقدمة
Page inconnue
1
لم أكد أبدأ في الجامعة المصرية درس التاريخ اليوناني في هذه السنة الدراسية، حتى رضي قوم وسخط آخرون. وكان الذين رضوا أقل الناس عددا، والساخطون أكثرهم جمعا، وأضخمهم جمهورا.
قالوا: ما لنا ولتاريخ اليونان ندرسه ونحفل به؟! ننفق فيه ما نملك من وقت، ونضيع في سبيله ما عندنا من قوة وجهد. ونحن إلى إنفاق ذلك الوقت وهذه القوة والجهد في درس تاريخ مصر خاصة والأمم الإسلامية عامة أشد ما نكون حاجة!
أليس كل الناس قد علم أن الأمة المصرية - على ضخامة سلطانها السابق - وتأثل مجدها القديم، وعلى بعد صوتها في الحضارة، وجلال خطرها في المدنية: تجهل نفسها؟! وتجهلها جهلا يوشك أن يكون تاما؟
فهي لا تعلم من عصر الفراعنة إلا طرفا يسيرا، وهي لا تلم من عصر اليونان والرومان في مصر بشيء ما! فأما عصر الفتح الإسلامي فلا تعلم منه إلا ما روى مؤرخو العرب، وهو إلى التحقيق والتمحيص في حاجة شديدة!
قالوا: ولسنا نذكر شيئا عن حضارة الفاطميين في مصر، ولا عن سلطان المماليك وبعد شأوهم في أنواع العلوم والفنون؛ فإن المصريين لا يعلمون من هذا كله إلا ما لا ينقع صدى ولا يشفي غليلا!
أوليس من المعقول أن نعرف نفسنا قبل أن نعرف غيرنا؟! أوليس من الحق علينا - إذا فرغنا من درس تاريخ مصر - أن ندرس تاريخ أشد الأمم إليها قربا، وأدناها منها مكانا، وهي الأمم الإسلامية؟!
قالوا ذلك، وقالوا أكثر منه. ولم يكتفوا باللوم والتشنيع! بل أعرضوا عن الدرس، وجعل كثير من الطلاب لا يحضرونه إلا وفاء بما عليهم للجامعة من حق، أو رغبة في تكريم الأستاذ الذي تفضلوا عليه بشيء من الحب له.
ولست أشك في أنهم لم يخطئوا مكان الصواب، حين أعلنوا جهل مصر لنفسها، وحاجتها إلى درس تاريخها، وميلها المعقول إلى درس تاريخ غيرها من الأمم الإسلامية. ولكن الخطأ كل الخطأ هو اعتقادهم أن هذا مانع من درس تاريخ الأمم الأخرى، أو أن يكلف أستاذ بعينه أن يدرس كل هذا التاريخ.
أمامهم الجامعة المصرية، وأمامهم وزارة المعارف يجب أن يطلبوا إليهما القيام بما هم في حاجة إليه؛ فقد بعد عهد التعليم في مصر وكان من الحق على الذين يدبرونه ويقومون عليه أن يسلكوا به سبيلا واضحة الأعلام، تنتهي بالمتعلمين إلى ما يجب أن يعلموه من درس تاريخ أمتهم كما ينبغي.
Page inconnue
وليس من العدل أن تقصر وزارة المعارف عن القيام بما عهد إليها، وتضعف الجامعة عن الوفاء بما أنشئت من أجله؛ فيقع إثم هذا كله على أستاذ فرد، قد عني بمادة معينة من مواد العلم، أعجبته وراقته، فتخصص فيها، وأراد أن ينشر منها في قومه ما وفق إلى نشره.
لست أزعم أن الجامعة ووزارة المعارف لو عنيتا بدرس تاريخ مصر لبلغتا به حد الكمال. ولكني أعتقد أن هذا التاريخ مجهول جهلا منكرا، وأنه ما ينبغي لبلد كمصر أن يصل من جهل نفسه إلى هذا الحد، على كثرة ما ينفق في تحصيل العلم من مال، وما يبذل فيه من جهد، وعلى جلال ما يسمو إليه من غاية، وما يحرص عليه من أمل في الاستقلال.
ولو أن الذين يقومون على نشر العلم في هذا البلد عرفوا كيف ينشرونه لما كنا من الضعف والتقصير، ومن الجهل والغفلة، بحيث لا نزال مضطرين - إذا أردنا أن ندرس تاريخ مصر - إلى أن نبعث الوفود إلى لندرا وباريس لدرس الآثار المصرية في مدارسهما ومتاحفهما.
أليس في مصر من آثار المصريين القدماء، ومن آثار العرب المسلمين، بل ومن آثار اليونان والرومان في مصر، ما يكفي لإنشاء مدرسة خاصة تقصر همها على درس هذه الآثار، وتخريج الأساتذة والأخصائيين الذين يعهد إليهم بالتعليم وحفظ الآثار وتنظيمها؟!
أوليس من المخجل أن توفد أوروبا وفودها إلى مصر لدرس الآثار، حتى إذا عادت هذه الوفود جلست مجالس الأساتذة في المدارس الأوروبية، وجلس المصريون منهم مجالس الطلب والاستفادة؟!
مثل الذين أنكروا على أني لم أقم بدرس التاريخ المصري، مثل القائمين بأمر التعليم في مصر يتركون ما يجب عليهم أن يعلموا، ويعنون بما يستطيعون أن يهملوا. ثم ينفقون الأموال في إرسال الطلاب ليحصلوا في أوروبا ما كان يمكنهم أن يحصلوه في مصر، أو ينالهم الإحجام فلا ينفقون. وتبقى الأمة جاهلة، لا يستطيع أشدها ذكاء وأنفذها بصيرة أن يتحدث إلى أوروبي في تاريخها! كل يسيء الفهم، وكل يضع الشيء في غير موضعه، وكل يلوم غير ملوم.
ولو أن هؤلاء المنكرين علي أنصفوا وتدبروا، لأخذوا عني راضين ما قدمت إليهم، ولأنحوا بلومهم وتأنيبهم على الذين يستطيعون العمل، فلا يعملون، ويقدرون على الخير ثم يقصرون عن طلبه، أو السعي إليه.
وبعد فما كان لأمة أن تعرض عن فن من فنون العلم لأنها لم تعلم غيره. إذن لقضي عليها بالجهل الدائم والغفلة المتصلة.
فليس من الميسور أن ندرس فنون العلم كلها في يوم واحد، ولا بد من أن يبدأ بدرس بعضها، وأن يتريث ببعضها الآخر.
فخليق بالناس أن يأخذوا ما قدم إليهم ويتعجلوا تحقيق ما أخر عنهم؛ فإن إعراضهم عن تحصيل ما يمكن تحصيله لا يعقبهم إلا فوات نفع محقق من غير أن يجدي عليهم الفوز بما يأملون.
Page inconnue
2
يخيل إلي أن عدم الوقوف على تاريخ اليونان وحده هو السبب الحقيقي فيما لقي الناس به هذا الدرس من فتور وإعراض، بل من تشنيع وإنكار. فلن ينفرك من الشيء ويرغبك عنه أكثر من جهلك له.
ولو أن المصريين ألموا بتاريخ اليونان بعض الإلمام، لكلفوا بدرسه وتحصيله الكلف كله لأمرين:
الأول:
أن فهم التاريخ المصري خاصة والتاريخ الإسلامي عامة، موقوف على فهم التاريخ اليوناني. فما ينبغي لأحد أن ينسى ما كان للحضارة اليونانية من التأثير الظاهر في حضارة العالم كله ومنه البلاد الإسلامية. ولم يكن هذا التأثير مقصورا على الحياة العقلية والأدبية بل تناول الحياة السياسية؛ فإن اليونان قد ملكوا الشرق أكثر من قرنين، فوضعوا فيه نظما لم يكن له بها عهد، وجاء الرومان فلم يمحوا هذه النظم، بل شكلوها تشكيلا ما، ثم جاء العرب فأخذوا ما وجدوا، ولم يزيدوا على أن عربوه. ومن الميسور على كل مؤرخ متقن لعمله إذا درس تاريخ الأمم الإسلامية أن يتميز النظم القديمة وما بينها وبين النظم الإسلامية من صلة. وإذا كان درس التاريخ في رأي المؤرخين المحدثين عملا تحليليا قبل كل شيء، أي إنه يلزم المؤرخ أن يرد كل شيء إلى أصوله التي ألفته وعملت في تكوينه، فلا شك في أن مؤرخ الأمم الإسلامية - ولا سيما مصر - يجب عليه أن يعرف تاريخ الأمة اليونانية ويتقنه لكي يستطيع أن يميز ما كان لها من أثر في حياتها العقلية والاجتماعية والسياسية.
الثاني:
أن النهضة الحديثة في أوروبا إنما هي في معظم أمرها أثر من آثار اليونان، فإذا كانت مصر الناهضة تحاول - وهذا حق عليها - أن تتعرف أصول هذه النهضة وتتفهمها، لتختار منها ما يوافق طبيعتها ويلائم مزاجها؛ فليس لها إلى ذلك من سبيل إلا درس تاريخ اليونان والرومان. فإنك لا تكاد تتناول بالبحث التاريخي أصلا من أصول النهضة الحديثة الأوروبية إلا اضطررت، إلى أن ترجع به إلى تاريخ هاتين الأمتين.
لا أذكر العلم والفن، فما أظن من الناس من ينكر أنهما يونانيان قبل كل شيء. وإنما أذكر السياسة والحياة الاجتماعية. فما نشأت الآراء الديمقراطية، بل والمذاهب الاشتراكية في أوروبا إلا حين انتشر هذا التاريخ القديم فيها، وعرف الناس ديمقراطية اليونان وأرستقراطيتهم، وحركة العمال والزراع الرومانيين وما أدت إليه من شرع غريب.
أوليس أول داع إلى الاشتراكية في أوروبا إبان الثورة الفرنسية قد كان يسمي نفسه باسم زعيم هذه الحركة في روما «كيوس جراكوس»؟! أوليس مصدر ما وقع فيه الثوار الفرنسيون من الخطأ - في كثير من الأحيان - إنما هو محاولتهم تحقيق النظم الديمقراطية التي ألفها اليونان والرومان من غير أن يفطنوا إلى ما بين فرنسا وروما وأثينا من الفروق.
نريد أن ننهض نهضة سياسية، نريد أن ننزل الديمقراطية في بلادنا منزلة حسنة ونحن نجهل الجهل كله أصول السياسة وقواعدها، كما نجهل الجهل كله ضروب الديمقراطية ومذاهبها. فهل نستطيع أن نصل مع هذا إلى ما نريد؟
Page inconnue
لا أدعو إلى أن يدرس تاريخ اليونان والرومان فحسب، وإنما أدعو إلى أن تدرس أقسام التاريخ كلها. وإلى أن ينال كل قسم منها حظا موفورا من العناية؛ فإن حياة النوع الإنساني في جميع العصور والأمكنة، حياة واحدة موقوف بعضها على بعض، ومن الخطأ الفاحش أن نهمل طرفا منها في حين نستطيع أن ندرسه ونعنى به.
لم أقل إلى الآن إلا ما يرغب في درس التاريخ اليوناني من الفائدة العملية، وكنت أود لو استطعت أن أستغني عن هذا كله، وألا أرغب الناس في درس قسم من أقسام التاريخ إلا بأنه قسم من أقسام العلم وأن من الحق علينا أن ندرسه لأنه علم ليس غير؛ فإن الأمم التي بلغت من الرقي مبلغا معقولا تخصص من مالها ووقتها وقوتها مقدارا غير قليل، تنفقه في درس العلم ونشره، لا تبتغي من وراء ذلك فائدة عملية. تلك منزلة يسوءني الاعتراف بأنا لم نصل إليها بعد، ويسرني أن يكون وصولنا إليها غير بعيد.
3
إذا كان الجهل وحده هو الذي ينفرنا من تاريخ اليونان ويرغبنا عنه، فما أيسر الطب لهذا الداء والتماس الدواء لشفاء هذه العلة! فليس للجهل دواء إلا العلم، كما أن الجوع لا يشفيه إلا الأكل، وكما أن الظمأ لا ينقعه إلا الشرب.
ولأن تكون علتنا الجهل خير من أن تكون علتنا الغباء وعدم الاستعداد. لهذا أرى أن ليس للراغبين في نشر العلم إلا أن يسعدوا ويستبشروا؛ فإن الحاجة إليهم شديدة، وعملهم أشد الأعمال نفعا، وأسرعها إنتاجا.
وقد بلوت ذلك فأحسنت بلاءه، وجربته فحمدت تجربته. لقد كان الناس في أول عهدهم بدرس التاريخ اليوناني ساخطين منكرين، يتثاقلون عن الدرس. فإذا خفوا إليه أغرقوا في النوم والأستاذ مغرق في كلامه. يشكون ما بينهم وبين هذه المادة من تنافر، ويتمنون على الأستاذ لو بدلهم منها مادة أيسر عليهم، وأحب إليهم، وأخلب لنفوسهم.
ولقد أعلن بعضهم أكثر من مرة أن الدرس يسئمهم فيملأهم سأما، ويملهم فيقتلهم مللا. فما كنت أريد أن أشجعهم مرة، وألومهم أخرى، وأعرض عنهم في كثير من الأحيان، وما هي إلا أن مضى على ذلك شهران أو ثلاثة، حتى أخذت أرى فيهم من بدأ يأنس لهذا الدرس ويتحبب إليه. وأخذت أكلف بعضهم المحاضرات وإعداد الدروس في هذه المادة، فيجيبون راضين، غير كارهين، ولا متمنعين، فأما من قرأ منهم لغة أوروبية، فقد كان يجيب إلى ذلك فرحا نشيطا، وقد كان يعمل فيحسن العمل إحسانا إضافيا.
ولقد كنت أتخير لهم أصعب المسائل فلا يحجمون. ولقد كنت أتشدد عليهم في النقد فلا يزيدهم ذلك إلا رغبة وإقداما؛ فأنا عنهم راض وفيهم آمل.
وأما الذين لم يحسنوا إلا العربية فقد أقدم بعضهم مجازفا، ونكل بعضهم معذورا؛ فإن اللغة العربية مع الأسف معدمة كل الإعدام في هذه المادة، وليس يتاح لمن لم يعرف لغة أوروبية أن يشفي نفسه من تاريخ اليونان أو الرومان.
هذا الجمهور الذي لم يعرف من اللغات الأوروبية ما يمكنه من إرضاء نفسه المتشوقة إلى العلم، العاجزة عن تحصيله، هو أحق الناس بالعناية. فلئن كان من النافع أن يدرس الناس اللغات الأجنبية فليس من الميسور أن يدرسوها جميعا، وليس من حقنا أن نطالب الناس جميعا بذلك، وما رأينا غيرنا قد أرادهم على ذلك في بلد من البلاد. وإنما يجب علينا نحن الذين قرءوا هذه اللغات، وألموا ببعض ما اشتملت عليه من علم أن نبيح لهم حماها، وأن نكون الواسطة بينهم وبين استثمار كنوزها. فإن لم نفعل فقد أسأنا إلى أمتنا، وإلى أنفسنا «وحسبك من شر سماعه».
Page inconnue
4
ألممت بعض الإلمام بحياة اليونان والرومان وما بينهما وبين الشرق من صلة. وقضى علي مكاني في الجامعة أن أفرغ لدرس هذا القسم من أقسام التاريخ، فأخذت في ذلك مستبشرا مبتهجا، ولكني لم ألبث أن أحسست فتور الناس ونفورهم، ففترت أو كدت. ثم بدا لي، فرأيت أن أمضي فيما أنا فيه، مقدما غير محجم، وأن أصبر على هذا الفتور صبرا جميلا، فكانت العاقبة كما قدمت محمودة وكان الأثر مرضيا.
ثم رأيت أن الذين يختلفون إلى الجامعة مهما كثروا نفر قليل لا يكفي أن يعلموا فتعلم الأمة، فخيل إلي أن الكتابة والنشر أوفق لتقريب هذه المادة من الجمهور وتحبيبها إلى نفسه. فعزمت أن أنشر من هذه المادة ما قلت في الجامعة وما لم أقل، وأن أذيع كل ما من شأنه أن يعطي قراء اللغة العربية صورة واضحة بعض الوضوح، حسنة بعض الحسن، من حياة الأمة اليونانية.
أفعل ذلك لأني أراه واجبا علي للذين لم يمكنهم وقتهم من درس اللغات الأجنبية وواجبا علي كذلك للغة العربية نفسها؛ فإن من الحق علينا أن نبذل ما نستطيع من قوة، وننفق ما نملك من وقت، لنغني هذه اللغة ونكثر متاعها مما امتلأت به لغات أوروبا. وليس يغفر لنا أن نعيش في هذا القرن مطالبين بكل ما تستمتع به الشعوب الأوروبية من استقلال سياسي وعلمي، ثم نبقى عيالا على الأوروبيين في كل ما يغذو العقل والشعور من علم وفلسفة، ومن أدب وفن جميل.
أليس من المخجل أن يجهل الجمهور الضخم من شبابنا ما اشتملت عليه آداب اليونان من نظم ونثر، ومن تاريخ وفلسفة، مع أن فهم الآداب الحديثة التي أخذنا نميل إليها ونشغف بها غير ميسور إذا لم نلم بهذه الآداب إلماما غير قليل؟! وكيف نحاول أن نفهم «كرني» و«رسين» و«شكسبير» و«بيرن» و«جوت» وغيرهم من الشعراء والكتاب والفلاسفة إذا لم نفهم شعراء اليونان وكتابهم وفلاسفتهم؟
أليس مما لا بد منه أن نفهم إيفيجينيا
Iphiguénéia
لأوريبيديس
Euripidès
قبل أن نقرأ «إيفيجيني» لرسين؟
Page inconnue
أليس يجب علينا أن نتقن تاريخ اليونان والرومان، وأن نستظهر دياناتهم وأساطيرهم، إذا أردنا أن نقرأ كتب المحدثين فلا نتعثر في فهمها، ولا تقفنا في كل سطر عقبة، وفي كل كلمة معضلة؟
أضف إلى هذا أن من حقنا الحرص على أن يحسن ظن الناس بنا ورأيهم فينا. ولعمري ما كان من مصادر حسن الظن وصدق الرأي إذا تحدثنا إلى الأوروبيين أن يشعروا بأن متاعنا من العلم قليل، وحظنا من الأدب نذر يسير، لا نحسن الحديث إلا إذا لم يخرج عن مصر وشئونها، فإذا تجاوزنا هذا إلى ما كان، أو ما هو كائن وراء البحر الأبيض بهتنا وأخذنا العي والقصور.
كل هذه أسباب ألزمتني - ولا شك في أنها ستلزم غيري من الراغبين في نشر العلم بين هذه الأمة - أن أحاول نشر تاريخ اليونان والرومان وآدابهم، في جمهورنا الذي لا يريد إلا أن يتعلم لو وجد المعلمين.
وقد رأيت أن أبدأ من ذلك بنشر ما هو أيسر على الناس فهما، وألذ في النفوس موقعا، من غير أن أطيل فأمل، أو أتعمق فأسئم.
5
بدأت بالاختيار من الشعر التمثيلي عند اليونان؛ فما أرى من فنون الأدب فنا أسهل من التمثيل فهما، وألين منه ملمسا وألذ في النفوس موقعا.
وقد أخذت نفسي أن أقدم بين يدي هذه المختارات فصلا في نشأة التمثيل وتاريخه عند اليونان. مقتصرا في هذا الجزء على التمثيل المحزن أو «التراجيديا»، فإذا فرغت من هذا الفصل، وصفت ما عرف التاريخ الأدبي من حياة أيسكولوس
Aïschulos (Eschyle)
أول الشعراء الممثلين النابهين، ثم عرضت لما بقي لنا من قصصه التمثيلية، فاخترت منها ما أعتقد أن في قراءته لذة وفائدة، معنيا بأن ألخص ما يسبقه وما يليه، حتى إذا فرغ القارئ من قراءة ما اختار من قصة من القصص كان قد ألم بموضوعها وما اشتملت عليه من حادثة.
فإذا انتهيت من أيسكولوس، ذكرت حياة سوفوكلس
Page inconnue
Sophoclès
وصنعت بما بقي من آثاره مثل ما صنعت بآثار «أيسكولوس» ولكني اضطررت إلى أن أجعل آخر هذا الجزء في منتصف قصص «سوفوكلس» رغبة عن الإطالة المملة ورهبة من الإنفاق الفادح.
وأنا أرجو أن يروق هذا السفر لقرائنا، وأن يقع من نفوسهم موقعا يشجعني على أن أمضي في نشر هذه الأجزاء، حتى إذا فرغت من التراجيديا في الجزء الثاني عرضت للكوميديا في جزء ثالث ووددت - وليت هذا الود يغني - أن تكون هذه الصحف المختارة مشوقة للناس إلى أن يقرءوا ما بقي من تمثيل اليونان كاملا غير مبتور، وأن يدعوهم ذلك إلى الرغبة فيما تركوا من شعر قصصي، وما أعقبوا من شعر غنائي، ثم من تاريخ وفلسفة، إلى غير ذلك من آثارهم العقلية والفنية.
إذن لحق لي أن أسعد وأغتبط، وأن أعتقد أني قد وفقت من خدمة اللغة العربية إلى بعض ما كنت أريد.
طه حسين
القاهرة في 6 مايو سنة 1920
التمثيل اليوناني
مهده - نشأته وتاريخه
1
في آخر أغريقيا الوسطى حيث تماسها أغريقيا الجنوبية يتقدم في في البحر جزء ضيق صخري، هو إلى الجدب والقحولة أقرب منه إلى الخصب والرخاء. يطيف به الماء من ثلاث جهاته، وتكثر فيه التلال الجرد والوديان قد ملأتها صغار الحصى، هذا الجزء هو أتيكا، لا يعرف التاريخ من أولية الحضارة في هذا الإقليم شيئا ذا خطر. وإنما تروي الأساطير وتؤيدها المباحث العلمية عن اللغة والدين والناس، أنه كان مأوى لطوائف مختلفة الأجناس اليونانية وغير اليونانية، نزحت إليه من الشمال والجنوب والشرق، وسلكت إليه طريق البر والبحر.
Page inconnue
فكلما أغار مغير على قسم من أقسام البلاد اليونانية وفر أمامه أهل هذا القسم، لجأت طائفة منه قليلة أو كثيرة إلى هذا الإقليم، فأوت إليه، وتحصنت فيه، وعاشت به آمنة مطمئنة.
كذلك لجأ إلى أتيكا عدد ضخم من قبائل بيوتيا حين أغار عليها التساليون.
وكذلك نزح إليها جمهور عظيم من أهل بلوبونسوس الشرقية والغربية حين احتلها الدوريون والأيئوليون.
ومما لا شك فيه أن طوائف غير قليلة من الذين كانوا يسكنون الشاطئ الآسيوي لبحر إيجيا، قد هاجروا إلى أتيكا في عصور مختلفة لم يحفظها التاريخ، عبروا البحر شيئا فشيئا متمهلين غير متعجلين، لمكان الجزر المنبثة بين الشاطئين الأوروبي والآسيوي، فكانوا كلما مروا بجزيرة نزلوها، واتخذوها مقاما. ثم نزح بعضهم، وبقي الآخرون. وتدل الآثار التي استكشفت حديثا، على أن هذا القسم، من بلاد اليونان الوسطى، قد عرف حضارة الأكويين في أرجوس ومسينا والمينيين في أوركومنيوس.
مهما يكن من شيء فقد كان أهل أتيكا يمثلون جميع الشعوب اليونانية حاشا الدوريين الذين كانوا من قوة الشخصية وتماسك الجنسية، بحيث لم يكن من الميسور لهم أن يندمجوا في غيرهم من الشعوب، ولم يكن من السهل على غيرهم من الأمم أن تهضمهم، فتمحو مميزاتهم وخصائصهم وتقطع ما بينهم وبين جنسيتهم الأولى من صلة أو سبب.
كانت هذه الشعوب المختلفة حين تفد على أتيكا مضطرة إلى شيء من الجهاد لتجد لها في هذا الإقليم الضيق منزلا تنزله، ومأمنا تستقر فيه. فإذا وصلت من ذلك إلى ما تريد، فهي مضطرة إلى الجهد والجد، وإلى العناء والكد، لتستخرج عيشها من هذه الأرض غير الغنية ولا الميسورة الاستثمار.
ومن هنا كان هذا الإقليم أشد الأقاليم اليونانية حثا لسكانه على العمل وحملا لهم على الدأب فيه، والاستمرار عليه.
لم تكن أرضه لتجود بما فيها حتى يطلبه السكان فيلحوا في طلبه، فإذا جادت لم تجد بأكثر مما يقيم الأود، ويوشك أن يسد الحاجة، ويكفي المسألة.
2
اختلاف أجناس السكان وتباين شعوبهم وافتراق منازلهم الأولى، كان سببا في أن كل شعب من هذه الشعوب قد وفد على أتيكا وله من الصفات والمزايا ما ليس لغيره.
Page inconnue
وجدب الأرض وضنها بما فيها، كان سببا في أن كل شعب قد اضطر إلى أن يجد ويعمل، فيظهر ما امتاز به من مزايا وخصال.
وكان مكان هذه الشعوب بعضها من بعض في هذه الأرض غير السهلة ولا الخصبة، حاملا لها على أن تتعاون وتتظاهر ويشد بعضها أزر بعض فما أسرع ما قام الأمن والوفاق بينها مقام الخوف والافتراق. ومع هذا فهي لم تؤلف أمة واحدة متصلة الأجزاء، متماسكة القوى، إلا بعد أن أقامت منتثرة متفرقة زمنا غير قليل.
سلكت إلى هذا سبيلا واضحة جلية، فأخذت هذه الطوائف تتعاون وتتناصر على حياتها الاقتصادية لتستثمر الأرض من جهة، وعلى حياتها السياسية لتدفع عنها شر المغير من جهة أخرى. فنشأت في أتيكا قبائل تصل بينها الحلف والمعاهدات. ثم أخذت هذه القبائل تتقارب وتتدانى قليلا قليلا. وأخذت حياتها الاقتصادية والسياسية تتوحد وتتماس أجزاؤها حتى أصبحت أقرب ما تكون إلى الوحدة، فظهرت في ذلك الوقت قرية من القرى امتازت من غيرها بالثروة وشدة البأس، فما أسرع ما ضمت هذه القبائل وألفت منها شعبا واحدا، بل مدينة واحدة وهي مدينة أثينا.
3
تعاونت طبيعة الأرض والإقليم وموقعها الجغرافي وطبيعة السكان، على أن تكون من أهل أتيكا شعبا ممتازا كل الامتياز، من الشعوب اليونانية الأخرى، فمع أن هذا الشعب قد كان يزعم نفسه يونيا، فقد كان يمتاز من اليونيين بصفات مقصورة عليه، لم يشاركه فيها غيره من القبائل اليونية في آسيا.
ذلك لأن الشعب - كما قدمنا - كان يتألف من شعوب كثيرة أكثرها يوناني وأقلها آسيوي، فجمع إليه خلاصة ما لهذه الشعوب من فضيلة، ولأن الأرض كانت كما قدمنا مجدبة من غير أن تكون صحراء، فقد كانت تجري فيها غدران ضيقة ضئيلة، تجف إذا اشتد الحر ولكنها كانت تبل الأرض. فتنبت فيها قليلا من القمح والشعير وشيئا من الكرم والتين والزيتون. ولم تكن تخلو من المعدن وغيره من مصادر الثروة، فقد كانت فيها مناجم للفضة ومحاجر للمرمر أغنت أهلها وفضلتهم على غيرهم أكثر من مرة، وكان الإقليم فيها معتدلا جافا ليس هجيره بالمحرق ولا برده بالقارس. ليست بكثيرة السحاب، وليس لها بالضباب عهد، فالهواء فيها خفيف شفاف، وضوء الشمس والقمر فيها مجلو بديع حين تسقط أشعته على البحر أو على الصخور العارية المختلفة الألوان، ذلك إلى أن موقعها الجغرافي من البحر كان يهيئها لتكون إقليما تجاريا بحريا قبل كل شيء.
ظل شعب أتيكا بمعزل من الحياة اليونانية المضطربة عصرا غير قليل لم يشترك فيما كان يملؤها من حرب ونزاع، ومن خلاف وفرقة. بل أخذ يستحيل ويتطور شيئا فشيئا - إن صح هذا التعبير - وقد تمت له هذه الاستحالة بأقل ما يمكن من ثورة وعنف، فانضمت قبائله المختلفة، وكونت دولة واحدة من غير حرب، وعاشت هذه الدولة في ظل الملوك حينا، ثم في ظل الأرستقراطية يقرب نظامها من النظام الملكي في أول الأمر، ثم يدنو من النظام الجمهوري قليلا قليلا، حتى جاء «سولون» فأخذت الديمقراطية تظهر وتعلن وجودها وقدرتها على الحياة. ثم قام «بيزستراتيدس» فاستأثر بالحكم وتبعه ابناه من بعده. وفي عصرهم أظهر هذا الشعب أنه هو الشعب اليوناني الذي ستأوي إليه حضارة اليونان وقوتهم، فتجد عنده مأوى أمينا ومعقلا حصينا. في هذا العصر جمعت الإلياس والأوديسيا ودونتا بعد أن محصتا وبرئتا من الزيادة والاختلاف. وقبل اليونانيون كافة جمع أثينا وتمحيصها، فكان ذلك أول اعتراف لها بالسلطان الأدبي والتفوق العقلي على اليونان جميعا.
زالت من أتيكا دولة الطغاة سنة عشر وخمسمائة قبل المسيح. وقامت فيها ديمقراطية معتدلة منظمة لم يعهدها العالم القديم.
ولم يكد يمضي على هذه الديمقراطية عشرون سنة حتى أظهرت أنها نافعة مغنية، وأنها إنما نشأت لتسلك بالإنسانية سبيلا جديدة؛ فقد كانت حروب الفرس التي كادت تلتهم اليونان فتقضي على كل ما كان للإنسانية حينئذ من حياة عقلية لولا أن نهضت هذه الديمقراطية الأثينية فأنقذت اليونان مرتين: مرة في مراثون سنة تسعين وأربعمائة، ومرة في سلامين سنة ثمانين وأربعمائة. ثم لم تزل بالفرس حتى زعزعت عرشهم وأضعفت قوتهم، وخفضت كلمتهم. وجعلتهم من الوهن والاضطراب بحيث استطاع الإسكندر أن يثل عرشهم. وبهذا الانتصار على الفرس ظهرت أثينا واعترف اليونان لها بالسلطة والتفوق السياسي. فأصبحت زعيمة الإغريق في كل شيء. ولن يستطيع الناس أن يقدروا هذه الزعامة قدرها، ويعرفوا ما قامت به للأدب والفلسفة خاصة، وللحضارة المدنية عامة؛ من خدمة قد يعجز عن أن يصف خطرها الواصفون .
4
Page inconnue
كان ظفر أثينا في رد غارة الفرس عن بلاد اليونان أول عصر جديد لها في الحياة السياسية. فقد عرف اليونان لها الزعامة كما قدمنا. وما أسرع ما ألفت مع جزر بحر إيجيا وكثير من المستعمرات اليونانية في تراقيا جماعة متحالفة على حرب الفرس، متناصرة على تحرير البحر وحماية التجارة اليونانية وإنقاذ سكان آسيا اليونان من سطوة الملك الأعظم. وأصبحت أثينا عاصمة لهذا التحالف؛ فكانت بهذا ملتقى للوفود اليونانية من جميع الشعوب على اختلاف أجناسها وملكاتها. وكل الناس يعرف أثر هذا الاختلاط بين الأجناس في الحياة العقلية والأدبية. فليس من شك في أن أثينا مدينة له بشيء غير قليل من نهضتها العامة التي بلغت أقصى ما كان يمكن أن تبلغه في القرن الخامس.
أضف إلى هذا أن أثينا أصبحت بعد الحروب الفارسية أعظم دولة بحرية، وأخذت أساطيلها تنتشر في معظم البحر الأبيض المتوسط. فكانت تزور مصر وشواطئ آسيا الصغرى، وكانت تزور البحر الأسود إلى أقصاه، ولم تقف عند هذا الحد، بل زاحمت أهل إيطاليا وصقليا فزارت أساطيلها القسم الغربي من البحر الأبيض. ومن الواضح أثر هذه السياحات البحرية والمعاملات التي كانت تصل بينها وبين غيرها من أمم الشرق والغرب المجاورة للبحر. فقد كانت تقفها من العلم على شيء كثير في فنون مختلفة، كانت تعلمها المواقع الجغرافية لهذه البلاد وترشدها إلى ما لأهلها من نظم اجتماعية وسياسية ودينية واقتصادية.
وكانت تطلع الباحثين من أهلها على ما كان لهؤلاء الناس من حظ علمي قليل أو كثير، وكان التجار والبحارة لا يكادون يعودون إلى أثينا حتى يتحدثوا بما شهدوا معجبين الإعجاب كله. وكان فوز التجارة وامتداد السلطان السياسي يؤيد هذا الإعجاب ويضاعف تأثيره، فتشتد الرغبة في السياحة وزيارة الأقطار المختلفة. ولولا ما كان يشغل الأثينيين في ذلك الوقت من حرب أو استعداد لحرب ومن أعمال سياسية في المدينة يقتضيها النظام الديمقراطي ولا سيما إذا أحبه الشعب وشغف به لأصبح الأثينيون وكلهم سندباد بحري.
5
هذا الفوز السياسي الذي أظهر أثينا وأعلى مكانتها بين أمم اليونان بعث في نفوس الأثينيين شيئا غير قليل من الثقة بأنفسهم والإكبار لمكانتهم، فما كان يشك هذا الأثيني الذي انتصر على الملك الأعظم فهزم جيوشه ودمر أسطوله ورده إلى آسيا تعسا ذليلا، وحرر من ربقته شعوب اليونان الآسيوية، أنه يقصر عن شيء أو أن في هذه الحياة ما يعجزه ويفوته.
ومتى نزلت هذه الثقة بالنفس من قلب الشعب منزلة حسنة من غير أن يفسدها الإسراف والغلو، أو يحمل الإعجاب بها على الركون إليها والقعود عن العمل والإخلاد إلى الاستمتاع بها، أقول متى نزلت هذه الثقة من قلب الشعب منزلة حسنة كانت مصدرا لأنواع من الفوز والظفر لم يكن الشعب لينتظرها أو يطمع فيها. ولقد كان الشعب الأثيني في هذا العصر على شدة ثقته بنفسه وشعوره بقوته مقدرا لهما حق التقدير غير مسرف في ذلك ولا مغرق، يجرؤ ولكن بعد أن يتروى، ويقدم ولكن بعد أن يتدبر. فكان هذا سبيله إلى إتمام ما بدأ من فوز وغلب. فأصبحت له السيطرة على تجارة البحر وعلى معظم جزره، وأصبحت تجبى إليه أموال هذه الجزر فينفقها في تقوية أسطوله وبسط سلطان الجماعة المتحالفة.
هذه الثقة بالنفس لم تقتصر على الجهة السياسية والاقتصادية، بل تجاوزتها إلى الجهة الأدبية والفنية والعقلية. فإذا كانت أثينا وطنا لأيسكولوس وسوفكليس وأوروبيديس من الشعراء الممثلين، ولفدياس زعيم الفن الجميل ولسقراط مؤسس الفلسفة؛ فهي مدينة بهذا لذلك المجد المؤثل الذي ملأ نفوس أبنائها ثقة وإقداما فاعتقدوا أنهم قادرون على كل شيء ونظروا إلى ما حولهم من آثار الأدب والفن والفلسفة والسياسة، فرأوا أنه من الضعف والوهن ومن القدم وطول العهد بحيث لم يكن بد من إزالته وإقامة الجديد مقامه.
وقد حاولوا ذلك في السياسة فظفروا كل الظفر وحاولوه في غيرها فأفلحوا الفلاح كله، ولولا هذه الثقة وهذا الإقدام لكان من الممكن ألا يفوز الأدب والعلم والفن بما وضع له الأثينيون من دعامة ثابتة وأساس متين.
6
لم يكن بد من إيجاز ما قدمنا من الحياة الأثينية لنفهم كيف نشأ التمثيل فيها وارتقى، وكيف استحال وانتقل من طور إلى طور حتى بلغ أقصى ما قدر له من الرقي في القرن الخامس قبل المسيح.
Page inconnue
مع أن النصوص التاريخية التي تشير إلى نشأة هذا الفن قليلة غامضة، فمن اليسير أن نتخذ لنا من هذه النشأة صورة واضحة بعض الوضوح إذا أبحنا لأنفسنا شيئا من التدبر والاستنباط.
الدين اليوناني هو الذي أهدى هذا الفن إلى الأمة اليونانية؛ فإن لكل إله من آلهة اليونان حياة خاصة لقي فيها من ضروب الخير والشر ومن صنوف النعيم والبؤس ما حببه إلى الشعب وأقام له في نفسه مكانة ما. وقد كان اليونان إذا عبدوا آلهتهم حرصوا كل الحرص على أن يظهروا تأثرهم بما ملأ حياة الآلهة من خطوب فيفرحون لما نالهم من نعيم ويحزنون لما أصابهم من شقاء، وكانوا لا يكتفون باستشعار الفرح والحزن في نفوسهم، بل يظهرون ذلك إظهارا ويشتركون فيه اشتراكا.
وأوضح طريق تخيلوها لإظهار ما يسرهم أو يحزنهم من حياة الآلهة وما عرض لهم فيها من خطب، إنما هي تمثيلهم هذه الحياة وما اشتملت عليه في أطوارها المختلفة. ذلك هو مصدر كثير من الحفلات التي كان يقيمها اليونان لآلهتهم وأبطالهم من حين إلى حين. ومن هنا نشأ فن التمثيل.
كانت الأساطير تحدث اليونان بأن أبلون مثلا حينما وصل إلى دلف قتل حية تسمى بيثون رميا بالسهام، فكانوا إذا أرادوا إعلان مجد الإله وما كان له من فوز وظفر مثلوا هذه الحادثة من حين إلى حين. وكانت الأساطير تحدثهم بأن أبلون بعد ظفره قد أعلن فرحه وابتهاجه فجمع إليه القيان من آلهة الشعر والموسيقى بالقرب من أعين جارية وأشجار مورقة في سفح البرناس، فأخذ يوقع على قيثارته وهن من حوله يتغنين ويرقصن ويلعبن ضروبا من اللعب، فمثلوا ذلك وأقاموا من وقت لوقت حفلات موسيقية تسابق فيها المغنون والموقعون، وقدرت الجوائز لمن فاز منهم بالسبق. على أن إلهين اثنين أثرا في نشأة التمثيل أثرا خاصا: هما ديونوزوس إله الخمر ودمتير آلهة الخصب. كلاهما امتلأت حياته بكثير من الخطوب المحزنة والسارة ، كلاهما مازج الشعب وخالطه في حياته اليومية، وكلاهما كان في نفس الشعب رمزا لما ينال الطبيعة في فصول السنة على اختلافها من نضرة وبهجة حينا، ومن ذوي وذبول حينا آخر. وكلاهما شغف اليونان بعبادته وتمثيل حياته في طور خاص من أطوارهم السياسية والاجتماعية، هو طور النزاع العنيف بين طبقة الديمقراطية والأرستقراطية الذي بدأ في أواخر القرن السابع وأوائل القرن السادس قبل المسيح.
في هذا العصر كان العقل اليوناني قد رقي رقيا ما، فظهرت حكمة الحكماء وأمثالهم من جهة، وأحس الشعب وجوده وشخصيته من جهة أخرى، وأحس إلى جانبهما سوء حاله من كل وجه، وحسن حال الأرستقراطية. فأخذ يطالب بحقه شيئا فشيئا، وكثيرا ما كان يدركه اليأس والفشل لقوة الأرستقراطية والطغاة وتمكنهم من كل شيء، سواء أكانت قوة سياسية أم قوة اجتماعية واقتصادية. فكان الشعب ينتهز فرصة هذه الحفلات الدينية ليلهو ويلعب ملتمسا في هذا اللعب وذلك اللهو عزاء عما كان يملأ حياته من بؤس ويثقله من سوء حال، مستفيدا مما كان يبيح الدين له من الإغراق في الأكل والشرب والاستمتاع بلذة الحياة المادية، فكان يأكل فيسرف، ويشرب فيفرط وتأخذه نشوة هذا الإسراف والإفراط فيتغنى ويرقص، ثم لا تكاد تتألف جماعاته للحفل بالإله وتمثيل حياته المحزنة أو السارة حتى يملكه السكر ويأخذه شيء من الذهول فينسى حياته الحقيقية وما فيها من شقاء.
في هذه الحفلات التي كانت تقام إكراما لديونوزوس ودمتير عنى بعض الشعراء الغنائيين بتناول بعض ما عرض لهما من صروف الحياة فنظم فيه الشعر، وكان يجمع إليه طائفة من الناس يلقنهم الأبيات ملؤها الحزن والشكاة يرددونها من حين إلى حين، يقطعون بها ما كان يلقى من شعر يبسط فيه ألم الإله أو لذته. وكان هؤلاء الناس الذي يسمون «الجوقة» في حفلات ديونوزوس يرتدون جلود المعز
1
تمثيلا لرفاق هذا الإله. فسمي هذا الغناء غناء تراجيديا وكان أول مظهر من مظاهر التمثيل.
7
ظهر هذا الغناء التراجيدي في شمالي بيلوبونيسوس آخر القرن السابع وأول القرن السادس قبل المسيح. ويذكر مؤرخو الآداب اليونانية شاعرا من مدينة سيكيون يردون إليه فضل اختراع هذا الفن، واسمه أبجنيس، ولكنهم لا يعرفون من أمره شيئا. ومما لا شك فيه أن هذا الشاعر وغيره من شعراء بيلوبونيسوس لم يتجاوزوا بالتمثيل هذا الطور الذي وصفناه، ولم يزيدوا على هذا الغناء التراجيدي شيئا؛ لهذا كانت أتيكا مهدا للتمثيل؛ فإنه قد ولد فيها ونشأ وما زال يرقى ويستحيل شيئا فشيئا حتى وصل إلى ما وصل إليه من الرقي في القرن الخامس قبل المسيح.
Page inconnue
يعرف التاريخ الأدبي لليونان اسم شاعر ولد في قرية من قرى أتيكا نحو سنة ثمانين وخمسمائة يقال له تسبيس، وقد أجمع رواة اليونان والرومان ومؤرخوهم على أنه هو الذي اخترع التراجيديا وأذاعها في بلاد أتيكا جميعا. يقول هوراس الروماني إن تسبيس هذا كان يتنقل بين قرى أتيكا ومعه فنه على عجلة يمثل في الأسواق والمجتمعات. فما أسرع ما كلف الناس بهذا الفن الجديد ورغبوا فيه. وأول شيء أحدثه تسبيس في التمثيل، فغاير بينه وبين الغناء التراجيدي، هو أنه أوجد مكان الشاعر الذي كان يقص حياة الإله أو البطل شخصا يمثلهما. ولم يكن هذا الشخص يكتفي بأن يقيم نفسه مقام البطل أو الإله، بل كان يحاول بقدر ما يستطيع أن يتخذ شكلهما، فكان يصبغ وجهه بشيء من الأصباغ، وربما أضاف إلى لباسه شيئا ما يمثل بعض التمثيل ما كان يتصور اليونان من زي الآلهة والأبطال.
ثم لم يكتف تسبيس بأن يكلف الجوقة استظهار أبيات من الشعر وترديدها من حين إلى حين، وإنما أحدث بينها وبين الشخص الممثل شيئا من الحوار ساذجا في أول الأمر، ولكنه مصدر رقي التمثيل.
كانت الجوقة تلقي السؤال من وقت إلى وقت على الشخص الممثل فيجيبها عليه ذاكرا بعض أخبار القصة التي يراد تمثيلها، مضيفا إلى ذلك ما يتخذ من المهارة في حركات وجهه ويديه وسائر جسمه، ليمثل البطل أو الإله، ومن هنا أصبحت التراجيديا كما كان يتصورها تسبيس تنحل إلى ثلاثة أشياء:
الأول:
قصة يلقيها الشخص الممثل مبتدئا تارة، ومجيبا على أسئلة الجوقة تارة أخرى.
الثاني:
ما تتغنى به الجوقة من شعر في الرثاء للبطل أو الإله أو في الإعجاب بالطبيعة ومظاهرها، ومن مسائل تلقيها على الممثل.
الثالث:
ما يضيفه الممثل نفسه إلى أقواله من حركات جسمية أو نبرات في الصوت، ليحسن تشخيص الإله أو البطل، ويزيد التأثير في نفس الجمهور.
8
Page inconnue
اشتد كلف الجمهور بهذا الفن وبلغ من الشدة أن اعترفت به الحكومة السياسية، فأصبح التمثيل المحزن من الحفلات التي تقيمها الحكومة في عيد ديونزوس إكراما له وإجلالا.
ويقال إن من أهم الأسباب التي حملت الحكومة الأثينية على أن تعترف بالتمثيل وتضيفه إلى البرنامج القانوني لعيد ديونزوس أن بزستراتيدس الطاغية بعد أن عاد من النفي سنة أربع وثلاثين وأربعمائة أراد أن يكسب قلوب الشعب ويلهيه عما فقد من حرية سياسية، فأهدى إليه فن التمثيل وقرر أن يتسابق فيه الشعراء قبل أن يئون أوان العيد.
وأحسب أن في هذا شيئا من المبالغة والإسراف؛ فإن درس تاريخ أثينا يعلمنا أن الحكومة الأثينية ما كانت ترى الشعب يكلف بشيء من الأشياء كلفا عاما إلا اعترفت به واتخذته لنفسها قانونا؛ فإن الحكومة الأثينية على اختلاف أشكالها السياسية كانت شديدة الميل إلى النظام الديمقراطي وما يستتبع من الاعتراف بميول الشعب وأهوائه والإسراع إلى تحقيقها في كثير من الأحيان. ومهما يكن من شيء فقد كان اعتراف بزستراتيدس بالتمثيل مصدرا لحياته الحقيقية وحاميا له من التشتت والضياع، وحاملا إياه على أن ينمو ويستحيل في هدوء ونظام حتى يبلغ أشده.
ليس من الميسور أن نعرف كيف استحال التمثيل منذ اعترفت به الحكومة إلى نحو سنة ثمانين وأربعمائة قبل المسيح. ولكنا نعرف أنه قد ارتقى في هذا الأمد القصير رقيا ظاهرا. فعدلت الجوقة عن أن ترتدي جلد المعز لتمثل رفاق ديونزوس. ومعنى هذا أن التراجيديا قد تجاوزت حياة ديونزوس إلى غيرها من الموضوعات، وأصبحت قادرة على أن تمثل كل شيء من حياة الآلهة والأبطال. بل هي لم تكتف بهذا، فتناولت الموضوعات المعاصرة، وحاولت تمثيل الحياة اليونانية، أو على أقل تقدير ما يقع في هذه الحياة من الأحداث ذات الخطر. فمثل فرنكوس الشاعر سنة خمس وتسعين وأربعمائة أمام الشعب الأثيني سقوط مدينة ميليه في يد الفرس فأبكاه وأحزنه، وساء أثر هذه القصة في نفس الأثينيين فعاقبوا الشاعر الممثل؛ لأنه لعب بين يدي الشعب ما يسوءه ويحزنه، ومثل سنة خمس وسبعين وأربعمائة قصة الفينيقيين أظهر فيها ظفر أثينا على الفرس.
كانت هذه الاستحالة التي أشرنا إليها خطوة خرج بها التمثيل من طفولته إلى شبابه، وفارق بها سذاجته الأولى، فأصبح غير مقصور على القيام بما كان يقوم به من واجب ديني يقصد به إلى تعظيم الآلهة والأبطال وتسلية الجمهور، بل سما إلى غاية أخرى أشد من هذه الغاية دقة وأجل خطرا وأبعد منالا، هي تمثيل الحياة الإنسانية وما يبعث العمل فيها من عواطف مختلفة وميول متباينة وأهواء متناقضة.
فلم يكن الشاعر الممثل حين يضع قصة من القصص يقصد إلى سرد حوادث ملأت حياة بطل أو إله، ولا إلى أن يسمع الجمهور ما يتلوه الممثل أو تتغنى به الجوقة من شعر جميل النظم حسن الموقع وإنما كان يقصد إلى أن تكون قصته مرآة ناصعة تظهر فيها صورة من صور الحياة القديمة أو الحديثة وما عمل في تكوين هذه الصورة من عاطفة أو هوى. وكان يريد أن يرى الجمهور نفسه على مسرح التمثيل، فيشعر بما يزينه من فضيلة أو يشينه من عيب، وكان إلى هذا وذاك يريد أن يبعث في نفس النظارة من العواطف ما تقوم عليه الحياة الاجتماعية والسياسية من ثقة تحمل على الإقدام والجرأة والشغف بجلائل الأعمال، أو رحمة تدعو إلى البر والإشفاق والأخذ بيد الضعفاء والبائسين، وكان فوق هذا كله يحرص على أن يمثل للجمهور الجمال في أبدع مظاهره وأبهجها حتى لا ينحط ولا يفسد، والقضاء في أشد ما يكون قسوة على الإنسان وعبثا به حتى لا يغتر ولا يطغى، إلى غير ذلك مما ستراه واضحا جليا فيما سنترجم أو نلخص في هذا الكتاب.
9
هذا الرقي المعنوي الذي رقاه التمثيل في أمد قصير متأثرا بما أصاب الحياة الأثينية من استحالة سياسية أو اجتماعية استلزم رقيا ماديا لم يكن منه بد. فبعد أن كان الممثل فردا واحدا يمثل بطلا أو إلها لا يتكلف في تمثيله إياه إلا الشيء القليل من تلوين الوجه والإضافة إلى الزي، أصبح في عصر أيسكولوس شخصين، ولم يكن بد من اتخاذ الأزياء الخاصة لكل قصة، ومن اتخاذ النقب التي تمثل الوجوه المختلفة. فأما تعدد الأشخاص فقد استلزم تنويعا في المحاورة قرب القصة إلى الحقيقة ودانى بينها وبين الواقع ونقل المنفعة من حوار الجوقة والممثل إلى حوار الممثلين، فأصبح مكان الجوقة مكانا إضافيا يزيد في جمال القصة وروائها من غير أن تكون رهينة به أو موقوفة عليه. ونحن مدينون لهذا التعدد بأجمل ما اشتملت عليه القصص التمثيلية من حوار. وأما اتخاذ النقب وتغيير الزي فيدلان على أن الممثلين قد أصبحوا محققين أكثر منهم مخيلين؛ أي إنهم كانوا يحاولون أن يخلبوا الجمهور ما استطاعوا أو يحملوه على أن يعتقد أنه إنما يرى شيئا واقعا محققا لا متوهما ولا مخيلا، وذلك بالعدول عن الإسراف في الخيال من جهة والاستعانة بالآلات المادية من جهة أخرى.
وبعد أن كان التمثيل بدويا ينتقل من مكان إلى مكان ويطوف أنحاء أتيكا في المواسم والأعياد أصبح حضريا مستقرا فأقيمت له الملاعب ونظمت حفلاته تنظيما لا بد من الإلمام به.
10
Page inconnue
يدل ما قدمناه على أن حفلات التمثيل كانت دينية قبل كل شيء؛ أي إن اليونان كانوا يعبدون آلهتهم حين يمثلون أو يشهدون التمثيل، ولم تكن هذه الصفة الدينية لتمنعهم أن يلهوا ويلعبوا، أو أن يلذوا ويطربوا، فقد كانت ديانتهم سمحة سهلة حظها من الشعر عظيم، فكانوا يقاسمون آلهتهم لذاتهم وآلامهم، وربما انفردوا دونهم بالحظ الأعظم منها، فقلما كانوا يضحون للآلهة إلا أكلوا معظم ضحاياهم ولم يقدموا إليهم منها إلا الشيء القليل.
هذه الصفة الدينية التي حملت الحكومة على الاعتراف بالتمثيل حملتها على العناية بتدبيره والإنفاق عليه، فكان التمثيل في حقيقة الأمر إجلالا وتكرمة ترفعهما الدولة في كل سنة إلى الإله.
كعادة اليونان في جميع حفلاتهم اتخذت المسابقة قاعدة لتنظيم التمثيل. فكان الشعراء الممثلون يقدمون إلى رئيس معين من رؤساء الحكومة هو الأركنتوس الذي كان يعطي اسمه للسنة ما كان يريد أن يمثل من قصة. ولم يكن بد لكل شاعر يريد أن يشترك في هذه المسابقة من أن يقدم قصصا ثلاثا وقصة رابعة قصيرة يحافظ فيها على النظام التمثيلي القديم: من ارتداء الجوقة جلود المعز ومن حرية التعبير واستعمال ألفاظ وجمل وحركات قد لا تبيحها الآداب العامة.
فإذا قدم الشعراء ما لديهم إلى هذا الأركنتوس اختار منهم ثلاثة هم الذين توضع قصصهم موضع البحث والانتحال. ودفع لهؤلاء الشعراء أجرا يتفق معهم عليه بعد مساومة ومشادة، والدولة هي التي كانت تدفع هذا الأجر. وكانت العادة أن تنتخب كل قبيلة فردا من سراتها وأغنيائها ليقوم بما بقي من تنظيم حفلة التمثيل. يكلف ذلك ثلاثة في كل عام.
فكان كل فرد من هؤلاء الأفراد يكلف تنظيم التمثيل لواحد من الشعراء، فيختار الجوقة ويختار لها المعلمين والملقنين ويكسوها ويشتري ما تحتاج إليه من آلة، ينفق على هذا كله من ماله، حتى إذا ما جاء ميعاد التمثيل ازدحم الناس في الملعب ولم يكن بد من أن يشهد التمثيل جميع أفراد الشعب على اختلاف طبقاتهم، فمن منعه فقره وإعدامه من ذلك فعلى الدولة أن ترزقه أجر دخوله إلى الملعب.
كان هذا الملعب في أثينا قد أقيم على منحدر تل صغير نحتت في صخره مجالس للناس مدرجة في شكل نصف دائرة. وقد خصصت صفوفهم الثلاثة السفلى لمن أريد تشريفهم: يجلس في أولها القسس والكهنة محيطين بقسس ديونوزوس الذي كان يقام التمثيل إكراما له. هذا المدرج كان يسميه اليونان «ثيانرون» أي «موضع النظر».
دون هذا المدرج كانت تنبسط أرض سهلة ممهدة في شكل نصف دائرة أيضا، كان اليونان يسمونها أركسترا أي «موضع الرقص» وفي وسط هذه الأرض كانت تقوم مائدة الآلهة تطوف بها الجوقة راقصة متغنية محاورة، ثم يرتفع فيما دون هذا المرقص أمام النظارة حائط هو الذي يسمى المنظر ، عليه يمثل ما كان يراد تمثيله من الصور والمناظر. وأمام هذا الحائط يمتد مرتفع ضيق مستطيل كان يقوم عليه الممثلون يصلون إليه من باب قد شق في وسط الحائط.
يفد الناس إلى الملعب منذ آخر الليل ويبدأ في التمثيل مطلع الشمس فتدخل الجوقة صفوفا يتقدمها رئيسها، ثم يظهر الممثل، وكان في أول الأمر واحدا كما قدمنا، ثم أصبح اثنين ثم ثلاثة، ولم يتجاوز الممثلون هذا العدد. وكان من الحق على الشاعر مهما كثرت أشخاص قصته أن يقسمها بين هؤلاء الممثلين، فكان أحدهم ربما مثل شخصا أو شخصين أو أكثر من ذلك وكان يمثل الرجل والمرأة لا يتغير في هذا إلا الزي؛ فإن المرأة لم يكن يسمح لها أن تشترك في التمثيل.
يظهر الممثل وقد اتخذ من الأزياء ما يلائم مكانه من القصة، وكانت العناية شديدة بأن يمثل هذا الزي صاحبه جليلا وقورا، تراه الأعين فتهابه ويشعر الناس حين يرونه بكل ما يملأ قلوبهم من جلال الأبطال.
كان ممثل التراجيديا يتخذ نعالا عالية ترفع قامته وتباعد ما بينه وبين الأرض، وثيابا ضافية فضفاضة، ونقابا يرسم صورة الشخص الذي يريد أن يمثله. ومع أن هذا النقاب كان يحول بين الممثل وبين ما كان يود أن يظهر الجمهور عليه من حركات وجهه وتشكله بما يلائم أحواله المختلفة من الأشكال المتباينة، فقد كان يستطيع بواسطة اللحظات ونبرات الصوت وحركات اليدين وسائر أعضاء الجسم أن يبلغ من نفوس النظارة ما يريد من تأثير.
Page inconnue
مثل الشعراء أنفسهم في أول الأمر ما كتبوا من قصص ولكن ما كاد التمثيل يرقى بعض الرقي حتى ظهرت طائفة الممثلين تخصصت لهذا الفن وارتاح لذلك الشعراء، فكانوا يتقسمون فيما بينهم آثار الشعراء فيدرسونها ويأخذون أنفسهم بتمثيلها وتفسيرها، يتقاضون على ذلك أجرا من الدولة. وما زالت هذه الطائفة ترقى ويتميز أفراد منها بالإجادة في الفن حتى أحرزوا في الجمهور مكانة عالية، واضطر الشعراء إلى أن يحسبوا لهم حسابا حين ينظمون قصصهم، وكثيرا ما أنشأ الشاعر قصة من القصص ليلعبها بين يدي الجمهور ممثل بعينه.
يبدأ التمثيل كما قلنا مطلع الشمس ويستمر النهار كله، ثم يعود فيبدأ من غد ومن بعد غد؛ ثلاثة أيام، لكل شاعر يوم، وفي كل يوم ثلاث قصص إلى القصة الصغيرة الستيرية التي أشرنا إليها آنفا. فإذا تم التمثيل انتخب الرئيس الذي وكل إليه تنظيمه قضاة عشرة لا يستشير في انتخابهم إلا القداح. ثم حلف هؤلاء القضاة ليحكمن عادلين غير جائرين ولا متبعين للهوى. فمن حكموا له بالأولية فهو الفائز الظافر، ثم يأتي بعده الثاني الذي يليه إجادة وإتقانا، أما الثالث فمقهور مغلوب لا حظ له من المكافأة.
وليس معنى اختصاص هؤلاء القضاة بالحكم أن صوت الجمهور لم يكن ذا قيمة ولا خطر؛ فإن القضاة أنفسهم كانوا من هذا الجمهور يتأثرون بما يتأثر به، وما كان أشد تأثر الجمهور الأثيني، وما كان أسرعه إلى إظهار ما يشعر وأعنفه في إظهاره، فكان يصفق ويصيح مشجعا حين يعجب ويسر، وكان يصفر ويصيح مزريا ساخرا حين لا يروقه ما يرى أو ما يسمع. وكثيرا ما حصب الممثل وكثيرا ما طرده. ومن هنا أصاب التمثيل في أثينا كثيرا من الأحيان ما أصاب السياسة من تنافس في كسب الجمهور واستباق إلى اشترائه وابتغاء رضاه.
تظفر القصة من القصص، فلا يكون هذا الظفر ولا ما استتبع من جائزة موقوفين على الشاعر وحده، أو الممثل وحده، أو عليهما معا. وإنما هو حظ مقسوم بينهما وبين هذا الذي علم الجوقة وأنفق عليها. ولا يكاد يعلن هذا الظفر حتى يخلده أثر مادي ما تنقش عليه نتيجة المسابقة وأسماء الفائزين، وهذه الآثار نفسها هي التي استخدمها مؤرخو الآداب في العصور اليونانية حين حاولوا إنشاء تاريخ التمثيل والممثلين.
11
أشرنا إلى أن التراجيديا إنما تولدت من الشعر الغنائي حين كان يتناول تمجيد ديونوزوس، وذكر حياته وما ملأها من لذات وآلام، وإلى أنها كانت وما زالت نوعا من العبادة لهذا الإله. فكان من الطبعي إذن أن يكون موضوعها دائما حياة هذا الإله أو غيره من الآلهة. وقد بدأت كذلك. ولكنها لم تكد تتكون وترقى بعض الرقي حتى تركت الآلهة جانبا وبحثت عن أبطال العصور الأولى الذين تغنى بهم الشعر القصصي، فاتخذت منهم لقصصها موضوعا. فهذا العدول عن موضوعها الطبعي خليق أن يعلل ويبحث عن سببه. وليس من العسير الاهتداء إلى هذا السبب والوقوف عليه؛ ذلك أن الآلهة على قربهم من البشر في تصور اليونان كانوا لا يزالون آلهة يخالفون البشر في طبيعتهم وحياتهم وما يملؤها من عمل وما يجري فيها من خير ومن شر. فلم يكن من الميسور اتخاذهم موضوعا للقصص التمثيلية ولا إلى أن يجد الشاعر في حياتهم ما لا بد منه لجمال القصة من درس العواطف وتحليلها ووضعها موضع النقد والإنكار. فإذا لاحظنا إلى هذا أن التمثيل إنما نشأ عند اليونان في العصر الذي ارتقى فيه العقل وأخذت فيه الفلسفة تمد ظلها على كل شيء وتتناول أجزاء هذا العالم بالبحث والتمحيص. عرفنا أن الآلهة لم يكونوا يصلحون موضوعا للتمثيل لبعد ما بينهم وبين الحقيقة الواقعة، ولما في وضعهم موضع البحث والنقد من خطر على مكانتهم الدينية أن تتزعزع، وعلى سلطانهم أن يظهر باطله فيزول، ولأن إظهارهم على مسارح التمثيل يتحاورون فيما بينهم أو يحاورون الناس لم يكن يخلو من غرابة لا يسيغها العقل ولا تطمئن إليها النفوس.
ولقد حاول «أيسكولوس» تمثيل الآلهة في قصة سيراها القارئ في هذا السفر وفي قصة أخرى هي الأمنيدس ولكنه لم يعد إلى ذلك كأنه آنس من الجمهور شيئا غير قليل من الدهش لما يرى والقصور عن فهمه وتذوقه. فآثر أن يجعل الآلهة من قصصه بمكان المشرف عليها من كثب المدبر لما يقع فيها من حادثة. ومضى على سنته غيره من الشعراء.
جل الآلهة عن أن يكونوا موضوعا للتراجيديا وقصرت الحوادث المعاصرة للشعراء عن هذا أيضا. فإنا لا نرى فيما بقي من آثار الشعراء الممثلين ولا فيما حفظ التاريخ الأدبي من عنوانات قصصهم الدارسة ما يؤذن بأنهم مثلوا حياة الأمة اليونانية المعاصرة لهم إلا مرات معدودة، فشلوا في بعضها وحفظتهم ظروف خاصة من الفشل في بعضها الآخر. فقد مثل فرنكوس سنة خمس وتسعين وأربعمائة بين يدي الأثينيين سقوط ميليه في يد الفرس فأبكى الشعب وأحزنه، ولكنه لم يلبث أن عوقب على ذلك، ثم مثل سنة خمس وسبعين وأربعمائة قصة الفينيقيين، ومثل أيسكولوس سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة قصة الفرس، فظفر كل الظفر لا لشيء إلا لأن الأثينيين خاصة واليونانانيين عامة كانوا في هذا الوقت سكارى بما نالوا على الملك الأعظم من تفوق وانتصار.
فإذا أردنا أن نعرف سبب هذا الإعراض عن الحوادث المعاصرة وجدناه يكاد ينحصر في شيئين: الأول أن الحوادث كانت تملأ النفوس وتؤثر في القلوب بمجرد وقوعها؛ فلم يكن اليونان في حاجة إلى قوة الشعراء وبراعتهم ليستقصوا كل ما كان فيها من جمال وروعة أو من خير وشر، والثاني أن التراجيديا كانت عملا دينيا قبل كل شيء، فلم يكن بد من أن يمت موضوعها إلى الدين بسبب، ومن الظاهر أن هذه الحوادث لم تكن من الدين في شيء.
مكان التراجيديا من الدين وحرص اليونان على سننهم الموروثة - لا يغيرونها مهما ظهر من فسادها - حالا بين الشعراء وبين اختراع الموضوعات الطريفة لقصصهم التمثيلية. وقد حاول بعضهم ذلك فلم يفلح ولم ينل إعجاب الشعب ولا رضاه.
Page inconnue
إذن فقد اضطر الشعراء إلى أن لا يتخذوا موضوعات قصصهم إلا من أبطال العصور الأولى الذين نوهت بهم الإلياس والأوديسا وغيرهما من قصائد الشعر القصصي. ولم يكن كل هؤلاء الأبطال ليصلحوا موضوعا للتمثيل، فاختار الشعراء من بينهم من هو أشد إلى الحياة الواقعة قربا وأدنى منها مكانا لما أصابه من سعادة أو شقاء ومن نعيم أو بؤس ولما امتاز به من قوة لا تقطع ما بينه وبين الإنسانية من صلة أو ضعف يقربه من الناس ولا يبعده من الآلهة. فمثلوا أجاممنون وكلوتيمنسترا
2
وإيلكترا
3
وأوريستيس
4
وأويديبوس
5
وأنتيجونا
6
Page inconnue