Le Soudan Égyptien et les Ambitions de la Politique Britannique
السودان المصري ومطامع السياسة البريطانية
Genres
لو أن السياسيين قالوا للأمم الصغيرة أو الضعيفة إنا نمتلك أرضكم بحكم القوة لا بحكم آخر لسكت الضعفاء إلى أن يستعيدوا قوتهم فيعيدون بها ملكهم وحقهم، ولكن المدنية الحديثة في تطورها الجديد لم تتوصل إلى حمل الحكومات على أن تعدل عن القوة إلى الحق فتتخذه شعارا في القول ودستورا في العمل، فتمسكت بالقديم أي بالقوة، وأخذت تلبسها حلة الجديد أي حلة الحق والقانون بالقول فقط، وليس في مسائل العالم مسألة أظهر في ذلك وأجلى من مسألة السودان ومصر. فإن إنكلترا التي دخلت مصر باسم الدول، وتقدمتها في الدخول منشورات سلطان تركيا باعتبار عرابي ثائرا ومساعي الخديوي توفيق ومساعدة فريق كبير من عظماء مصر ورضا الدول، إنما هي دخلتها لتوطيد عرش الخديوي أو بالأحرى إبقاء الخديوي توفيق على العرش. فكان أول عمل عملته أن أكرهت الخديوي على سحب جنوده من السودان، ولكن الخديوي صاحب مصر والسودان أي صاحب النيل من وراء منبعه إلى ما بعد مصبه لم يسحب جنوده من تلك الأرض ليتركها نهبا مباحا لمن شاء امتلاكه؛ بل هو سحبها «لضرورة عسكرية ولأسباب حربية» فالسودان إذن ظل ملكا لمصر في عرف الدول وفي عرف القانون الذي يقولون إنه نظام تسير عليه جميع أعمالهم، وقبل أن يتم سحب الجنود المصرية من السودان نزلت الجنود الإنكليزية في سواكن وسواحل الصومال، والجنود الطليانية في مصوع، وقد قال اللورد دفرين في تقريره عام 1883 بضرورة انسحاب الجنود المصرية من الأقاليم الشرقية والغربية والجنوبية، ولكن ضميره لم يساعده يومئذ على القول بضرورة انسحابها من وادي النيل من منبعه إلى مصبه فقال: «إن بعض الأشخاص يميلون إلى نصيحة مصر بأن تنسحب من السودان كله، ولكنه لا ينتظر منها أن تسلم بذلك فمصر التي تعيش من النيل يحق لها أن تمتلك مجرى النيل كله، فيكفيها أن تنسحب من دارفور وكردوفان، وأن تظل الخرطوم وسنار في قبضتها.»
احتلت إنكلترا وادي حلفا وسواكن وبربرة وزيلع والأوغندا وخط الاستواء حالما خرج منها المصريون، وبذلك طوقت السودان من كل جانب.
وهكذا جعل حد مصر في 15 يونيو سنة 1885 بين الشلالين ولم يبق من الحكم المصري في السودان سوى مقاطعة خط الاستواء بيد أمين باشا. فأراد الإنكليز استئصال كل شيء فحملوا نوبار باشا على أن يكتب إلى أمين باشا كتابا في 27 مايو سنة 1885 يقول له فيه: إن حكومة الخديوي لا تستطيع مساعدته بشيء فهي تترك له الحرية التامة ليتدبر، وإذا شاء الانسحاب فليقصد زنجبار، وأحدثت إنكلترا ضجة في أوربا بشأن أمين باشا متظاهرة بالغيرة عليه مع أن أمينا كتب من ودلاي في 6 يوليو سنة 1886 يقول: إنه لا يريد شيئا وإن المديرية في منتهى الراحة والسكون، وكتب قنصل إنكلترا في زنجبار أن المصريين بقيادة أمين باشا لا يرضون مغادرة مديريتهم وأنهم هناك جميعا مخلصون لحكومة الخديوي، وكانت قوة أمين باشا مؤلفة من أورطتين مصريتين، فأذيع بينهما في 1887 أن أمين باشا سيتخلى عنهما، فذهب إليه 190 جنديا من تينك الأورطتين وأبلغوه أنهم لا يدعونه يغادر البلاد. فأفهمهم أمين باشا الحقيقة، وظل في منصبه يدير البلاد باسم خديوي مصر، ولما وصل ستانلي في 19 مايو 1888 إلى تلك الجهة بحجة إنقاذ أمين باشا قال له شكري أغا من ضباط الأورطة الأولى: «إن جنديا واحدا من جنود الخديوي لا يرضى الانسحاب من هذا البلاد.»
وكتب جون روث تروب رفيق ستانلي في مذكراته: «أن أمينا لا يود الانسحاب فلا يصح لنا الافتخار بحملتنا التي لم يكن الغرض منها خدمة الإنسانية، بل خدمة المطامع وحب الثروة» ولما عرض ستانلي على أمين باشا أن يستلم منه المديرية باسم إنكلترا أجابه: «إني لا أسلم، وماذا تقول عني حكومة مصر إذا أنا فعلت ذلك؟» وأغرب ما في هذه القصة أن ستانلي الذي أرسلته إنكلترا بدعوى إنقاذ أمين باشا من خط الاستواء أرسل إلى أمين باشا يطلب منه المساعدة لينقذه مما هو فيه حتى يتمكن من الوصول إليه فأرسل إليه أمين قوة أنقذته، ولما قابله ستانلي وطلب منه العودة معه أجابه أن الحكومة المصرية لم تأمرني بالجلاء بل تركت لي حرية العمل. فاقترح عليه ستانلي بعد رفضه الجلاء ثلاثة اقتراحات: (1)
إما أن يكون حاكما لخط الاستواء باسم بلجكا وباعتماد مالي قدره 300 ألف فرنك في السنة وبراتب 37 ألف فرنك. (2)
وإما أن يكون حاكما لإقليم الشرق الجنوبي باسم إنكلترا براتب يتناوله من إنكلترا. (3)
أو الجلاء والعودة إلى مصر.
فرفض أمين باشا أن ينتقل من ظل علم إلى ظل علم آخر.
وهكذا فشل ستانلي ورجع بخفي حنين، إلا أنه تلقى في شهر يناير سنة 1889 كتابا بأن «الضباط المصريين داخلهم الشك بأمين باشا وخافوا أن يجلو عن البلاد فأخذوا يرقبونه، وهؤلاء الضباط والموظفون الذين لم يتناولوا قرشا واحدا منذ خمس سنين صانوا ملك بلادهم واحتملوا كل شيء في سبيل وطنهم» على أن الإنكليز ظلوا يضغطون على أمين باشا حتى جلا عن البلاد بالتهديد في 10 أبريل سنة 1889، وبذلك الجلاء تقلص ظل مصر عن سائر جهات السودان، وطوي العلم المصري الذي ظلل تلك الربوع نصف قرن، وأخذت إنكلترا تنظم أعمالها فبسطت حمايتها على الأوغندا، وعقدت مع ألمانيا اتفاقا سنة 1890 تعترف به ألمانيا بنفوذ إنكلترا في أعالي النيل، وعقدت مع حكومة الكونغو البلجيكية اتفاقا آخر في سنة 1894 يقضي بأن ترضى حكومة الكونغو بمرور سكة حديد الكاپ بأرضها وترضى حكومة إنكلترا بمد نفوذ حكومة الكونغو على مجرى النيل غربا حتى فاشودة. فلما أعلن أمر هذا الاتفاق قال الموسيو هانوتو وزير خارجية فرنسا: «إنه اتفاق باطل؛ لأنه اتفاق على ملك لا تملكه إنكلترا وهو ملك السلطان المضمونة صيانته بمعاهدات دولية، والمتولي أمره خديوي مصر بمعاهدات تقضي بولايته.» ثم اتفقت فرنسا مع حكومة الكونغو على أن تحل محلها في تلك المنطقة «إلى أن يتمكن خديوي مصر من استعادتها فتعيدها إليه كما هي» وفي سنة 1895 خطب السير أدوار غراي مطالبا بحق مصر بحجة أن الإنكليز قوامون على مصالحها فرد المسيو هانوتو منكرا ذلك على إنكلترا، وكانت حملة مرشان سائرة إلى السودان وتبعتها الحملة المصرية بقيادة السردار كتشنر، وهي مؤلفة من 24 ألف مصري و5 آلاف إنكليزي، وأنفقت مصر على هذه الحملة بحساب جار فتحته لها خزانة إنكلترا؛ لأن فرنسا وروسيا أنكرتا على مصر أخذ المال من صندوق الدين حتى تكرها إنكلترا على إعلان خطتها في مصر، ولما دخل كتشنر بربر طلبت إنكلترا من فرنسا التخلي عن السودان المصري؛ لأنه من أملاك السلطان، وأن الإنكليز الذين يساعدون الخديوي إنما هم يساعدونه في استعادة أملاك بلاده، وعلى هذه القاعدة تنازلت فرنسا عن اتفاقها مع حكومة الكونغو إلى أن جاء اتفاق 19 يناير 1899 بين إنكلترا ومصر أو بالأحرى بين إنكلترا ونفسها فقال الناس جميعا إنه اتفاق لا يتفق مع شرعة أو قانون، ولكن اللورد كرومر امتدح اللورد سالسبوري مبرمه؛ لأنه «لم يعبأ بنص قانوني فأظهر شجاعة كبرى.»
ذلك التاريخ نورده على علاته وفيه الدليل الصحيح لمن أراد دليلا صحيحا على حلقة من حلقات القسر والشدة اللذين حلا بمصر منذ قرن كامل حتى وصلنا اليوم إلى سماع الكتاب الإنكليز وهم يقولون: أين أنتم من السودان وأين السودان منكم؛ بل حتى رأينا النيل ويكادون يخرجونه من قبضة مصر ليكون غلا في عنق سكانها، ومصر لم تترك السودان من يدها بإخلائه، ومصر استعادت السودان بدمها ومالها وهي لا تزال وحدها الحارسة الأمينة عليه المنفقة على أهله لتنظيمه، وجيش مصر والميزانية المصرية أكبر شاهد لمن أراد الشهادة.
Page inconnue