السودان المصري والسياسة الإنجليزية
السودان المصري وماذا كان وماذا صار؟
كيف دفع السودان للثورة
محمد أحمد والثورة
التعليمات لغوردون
الزبير رحمة
التسابق إلى السودان
مصر هي النيل
من محمد علي إلى عباس الثاني
السودان مصري فقط
سلخ السودان وطريق المواصلات الإمبراطورية
إخلاء السودان ليس تركه نهبا مشاعا
فتح السودان واتفاق 1899
بعد الاتفاقين
أحرار ومحافظون
اتفاق السودان في نظر رجال السياسة والقانون
السودان مصري ومن مصر وجزء لا يتجزأ عن مصر
شركة الذئب والحمل
نظرة في المستقبل ومستقبل مصر في السودان وحده
مراقبة مياه النهرين الكبيرين
القبض على نواصي الأمم بالماء والبوليس
مشروعات الري الحديثة في وادي النيل والإيراد المائي اللازم لريه
مصر بعد 35 سنة والسودان بعد 53 سنة
مشروع ري الجزيرة
الجيش المصري والسودان
في بحر الغزال
الخاتمة
السودان المصري والسياسة الإنجليزية
السودان المصري وماذا كان وماذا صار؟
كيف دفع السودان للثورة
محمد أحمد والثورة
التعليمات لغوردون
الزبير رحمة
التسابق إلى السودان
مصر هي النيل
من محمد علي إلى عباس الثاني
السودان مصري فقط
سلخ السودان وطريق المواصلات الإمبراطورية
إخلاء السودان ليس تركه نهبا مشاعا
فتح السودان واتفاق 1899
بعد الاتفاقين
أحرار ومحافظون
اتفاق السودان في نظر رجال السياسة والقانون
السودان مصري ومن مصر وجزء لا يتجزأ عن مصر
شركة الذئب والحمل
نظرة في المستقبل ومستقبل مصر في السودان وحده
مراقبة مياه النهرين الكبيرين
القبض على نواصي الأمم بالماء والبوليس
مشروعات الري الحديثة في وادي النيل والإيراد المائي اللازم لريه
مصر بعد 35 سنة والسودان بعد 53 سنة
مشروع ري الجزيرة
الجيش المصري والسودان
في بحر الغزال
الخاتمة
السودان المصري ومطامع السياسة البريطانية
السودان المصري ومطامع السياسة البريطانية
تأليف
داود بركات
مقدمة
بقلم دواد بركات
هذه كلمات طلب إلي كثير من أصحابي الذين يشتغلون في المسألة المصرية نشرها، فأجبت طلبهم.
وليس القصد منها الاستفاضة في التاريخ والوقائع؛ بل بيان مساعي السياسة في السودان المصري بالاستناد إلى الوقائع التاريخية، وبيان حق مصر في السودان، وأن السودان جزء من مصر لا يجزأ، وأن مصر لا تستطيع أن تعيش سياسيا وماديا دون السودان.
25 مارس 1924
السودان المصري والسياسة الإنجليزية
في سنة 1881 قامت الدعوة المهدية في السودان والثورة العرابية في مصر في وقت واحد، كأنهما كانتا على موعد، وكانت للسياسة الإنكليزية في كلتيهما يد ظاهرة؛ لأن الإنكليز كانوا لمصر بالمرصاد يغنمون الفرص إن لم نقل يخلقونها، خطة قديمة وضعوها منذ نزل ناپوليون في مصر وهدد الهند سنة 1797 فمنذ ذاك اليوم خلقت عند الإنكليز كلمة «طريق مواصلات الإمبراطورية» فحاولوا - بعد إخراج ناپوليون، وإنكار معاهدة أميان (1802) بينهم وبين فرنسا على أن تظل حالة مصر بلا تغيير - الاستيلاء على مصر (1807) فصدهم محمد علي يساعده الفرنساويون على أن يكون الأمر بيده في مصر عندما ظهر لهم مقصد الإنكليز وهم عاجزون عن مقاومتهم، وظل الفرنساويون بعد طرد الإنكليز يؤيدون محمد علي وينظمون ملكه، حتى انتصر على تركيا، ومد الملك المصري إلى جبال طورس، وألف إمبراطورية ضخمة من مصر وسوريا والسودان، ولكن الإنكليز كانوا له بالمرصاد؛ فألبوا الدول على مصر، واعتبروا «الغالب مغلوبا» وأبقوا مصر ولاية تركية.
ثم اتخذوا عباس الأول آلة صماء في أيديهم فجعل طريق الهند في قلب مصر، وضمن لهم نقل البريد من الإسكندرية إلى السويس، وأنشأ لذلك طريقا معبدة، وأقفل المدارس، وتنازل عن كثير من الامتيازات، ولو طال ملكه لأرجع مصر بإرشادهم ولاية تركية.
ولما تولى سعيد باشا ونال دي لسپس منه امتياز حفر قناة السويس قاومه الإنكليز إلى أن عجزوا عن المقاومة فجعلوا نصب عيونهم امتلاك القناة.
وكان شعار سعيد «مصر للمصريين» فقوى الوطني وعززه بتولي شئون البلد، فلم تجد السياسة الإنكليزية طريقا إليه.
وخلفه إسماعيل، فعقد العزيمة على أن يتم عمل جده محمد علي وأبيه إبراهيم، لا بقوة الجند - وقوة الجند محرمة عليه باتفاق لندرة (1841) - بل بقوة المال، فنال من تركيا سبعة فرمانات بتوسيع سلطته حتى الاستقلال؛ فمد الفتح في السودان حتى الدرجة الثانية بعد خط الاستواء، وأدخل الأوغندا تحت حماية مصر بمعاهدة مع ملكها متيزا
1 (1874) وعين لينان دي بلفون مندوبا ساميا هناك، وهكذا صارت البحيرات وجميع منابع النيل مصرية، وولاه السلطان إقليم سواكن سنة 1865، ثم صار ذلك الإقليم قطعة من الأراضي المصرية بفرمان 17 مايو 1866، ومن أول يوليو 1875 أعطي بفرمان آخر إقليم زيلع، ثم وجه إسماعيل حملة مصرية استولت على سواحل البحر الأحمر من بربرة حتى الأقيانوس الهندي، ولكن عين الإنكليز كانت ساهرة يقظة يمهدون السبيل لتحقيق مطامعهم؛ فحملوا إسماعيل على أن يستخدم رجالهم في حكومة السودان، بعدما ابتاعوا منه أسهم القناة طريق المواصلات الإمبراطورية، وأوحوا إلى أولئك الرجال بمقاصدهم حتى إذا وقعت الأزمة المالية كتب مندوبهم في اللجنة الدولية السير ريفرس ويلسون «إنه لا ينقذ مصر ولا يصلح لحكمها سوى الإنكليز يتولون أمرها» وكتب الكولونل ستيوارت عن السودان «إن المصرين الذين لا يصلحون لحكم الدلتا كيف يصلحون لحكم السودان؟» هذا القول قاله الكولونل ستيوارت بعدما نشر السير صموئيل باكر سنة 1861 تقريرا عن السودان قال فيه: «يستطيع السائح الأوربي أن يتجول وحده في جميع أنحاء السودان كما يتجول الإنكليزي في حديقة هايد بارك عند غروب الشمس، فالشعب لين الطباع سهل الانقياد ليس أسهل من حكمه» فبعد خلع إسماعيل قامت الثورة العرابية والدعوة المهدية بوقت واحد تنشطهما السياسة بكل الطرق والأساليب إلى أن تسنى للإنكليز احتلال مصر سنة 1882، فوضعوا نصب عيونهم تفكيك الإمبراطورية المصرية وامتلاك السودان، وجعلوا حجتهم في البقاء بمصر «الاضطرابات السياسية والمالية بمصر وخطر المهدية بالسودان» أما المهدية فقد وصفها غوردون بقوله: إنها «حركة اليأس» بعدما شدد الإنكليز في إبطال النخاسة والرق تشديدا دفع الناس إلى اليأس، وبعدما ملأوا السودان بالحكام الأجانب وإقصاء المصريين والسودانيين، وبعد احتلالهم مصر وتسلطهم عليها ومنعهم حكومتها من إخماد الثورة إلى أن أكرهوها على الجلاء إكراها، وكانت حجة السير بارنغ (اللورد كرومر) أن ميزانية مصر تتحمل في كل عام 260 ألف جنيه هو عجز ميزانية السودان، فهي أضعف من أن تقوم بهذا الحمل، ولكن هذا الادعاء كان وسيلة لقطع السودان عن مصر؛ لأن حماية الحدود بعد ذلك كانت تتطلب أضعاف هذه النفقة، وحملوا خزانة مصر 400 ألف جنيه في العام نفقة جيش الاحتلال، ولما أرسلوا غوردون لإخلاء السودان فحصره الثوار أنفقوا هم من مالهم ومال مصر على حملة ولسلي لإنقاذه 11 مليون جنيه، ودفعت خزانة مصر من ديون غوردون إبان حصاره 996060 جنيها منها 657258 جنيها للأجانب، ناهيك بجيش مصر الذي ذاب في السودان بعد تركه، ومتاجر المصريين وأموالهم وأملاكهم، والقلاع والحصون والمراكب الحربية والتجارية، ثم بعد ذلك نفقات استعادة السودان، وقد أربت على سبعة ملايين جنيه. كل هذا المال دفع في 16 سنة اقتصادا لمئتي ألف جنيه تدفع في سنة أو سنتين، ولكنهم لم يريدوا الاقتصاد وإنما أرادوا فصل السودان ثم استعادته لأنفسهم لا لمصر.
هوامش
السودان المصري وماذا كان وماذا صار؟
وصف ستيوارت
1
باشا السودان المصري عام 1883 في تقرير قدمه لحكومة إنكلترا - حكومته - قال فيه:
إن البلاد التي يحتلها الآن المصريون ويطلقون عليها اسم «السودان» لهي بلاد كبيرة جدا مترامية الأطراف وطولها من الشمال إلى الجنوب - أي من أسوان إلى خط الاستواء
2 - نحو 24 درجة أو 1650 ميلا، وعرضها من مصوع إلي غربي دارفور نحو 22 درجة أو 1200 ميل إلى 1400 ميل، وإذا ابتدأنا من نقطة برانيس على ساحل البحر الأحمر شرقا على خط موازاة الدرجة 24 إلى نقطة غير معينة في صحراء ليبيا نفترضها الدرجة السابعة والعشرين شرقي غرنويتش، ومن هناك يتجه خط الحدود جنوبا إلى الغرب حتى نقطة الاتصال في شمالي إقليم دارفور إلى الغرب، ثم يتجه باستقامة على وجه التقريب نحو الجنوب إلى الدرجة 11 أو 12، ومن مبوتو يتجه من الجنوب الشرقي إلى بحيرة ألبرت نيانزا ويماس ڨكتوريا نيانزا ويصعد من هناك شمالا إلى الشرق فيشمل إقليم هرر، ثم يصل إلى المحيط الهندي عند رأس غردفوي، ويصير على ساحل البحر الأحمر حتى يرجع إلى برانيس.
وقد طبعت وزارة خارجية إنكلترا هذا التقرير، وألحقت به الخريطة التي وضعها مسداليا في الخرطوم وفيها مديرية خط الاستواء وشمالي الأوغندا ومديرية اللادو والمكلا وبحر الغزال وهي الأراضي المصرية التي أجرتها الحكومة الإنكليزية باتفاق 14 مايو 1894 لولاية الكونغو البلجيكية.
أما حدود السودان المصري الآن فهي: من جهة الشمال الخط 22 من خطوط العرض الشمالي إلى شمالي حلفا ، ومن الجنوب حدود بلاد أوغندا التابعة لإنكلترا على خط 5 من العرض الشمالي، ومن الشرق البحر الأحمر وبلاد الإريترة والحبشة، ومن الغرب والجنوب الغربي الصحراء الكبرى وبلاد واداي والجبال المتوسطة بين نهر الكونغو وبحر الغزال. فالطول الآن من الشمال إلى الجنوب نحو 1200 ميل، ومن الشرق إلى الغرب نحو 1000 ميل؛ لأن مديرية خط الاستواء التي ظل أمين باشا مديرا مصريا فيها ومعه ألفا جندي مصري والعمال والكتاب، اقتطعت من السودان وألحقت بالأوغندا التي كانت تحت حماية مصر، وبعد استعادة السودان جعلوا منجالا آخر حدود السودان المصري، وما بقي من الأراضي السودانية المصرية جنوبا ألحق بأوغندا، وأعطيت اللادو وما حولها لملك بلجيكا على أن تعود للإنكليز بعد وفاته، وبذلك اقتطعوا من السودان المصري 450 ميلا بالطول و400 ميل بالعرض، وأخرجوا منه البحيرات التي ينبع منها النيل وجعلوها ملكا لهم ليملكوا بها السودان ومصر معا، ولم يكفهم ذلك فإن البحر الأحمر وسواحله لازمة لطرق مواصلات الإمبراطورية فأخرجوا المصريين من تلك السواحل بعد أن صار زمام مصر بأيديهم، وهكذا هدموا «الإمبراطورية المصرية» بالسودان وأخذوا أنقاضها واقتسموا مع إيطاليا وبلجيكا الغنيمة.
كانت مساحة السودان المصري في سنة 1883 تعادل مساحة فرنسا وإسپانيا وألمانيا معا، فلم يبق منها الآن سوى الثلث، وهذا الثلث يدعي الإنكليز أنهم أصحابه دون مصر، وكانت تجارة مصر مع السودان تجارة كبيرة جدا، فالصادر من مصر بطريق أسوان وحدها كان مليوني جنيه والصادر من سواكن وقنا وأسيوط يعادل هذا المبلغ، أما واردات السودان إلى مصر وبطريق مصر فقد كانت نحوا من 11 مليون جنيه، أما الآن فإنه لم يبق لمصر من هذا الوارد التجاري والصادر إلا الجزء اليسير الذي لا يكاد يستحق الذكر، ولولا ورود المواشي السودانية في العهد الأخير لوصلت الصلات والعلائق التجارية بين مصر وسودانها إلى حيز العدم رغم زيادة العمران وعدد الأهالي فمبلغ المليون والنصف المحصورة به تجارة مصر والسودان الآن يدلنا على أن مصر لا تخسر بإضاعة السودان مصدر حياتها بل تجارتها ونتاج صناعتها؛ لذلك لم تحتج الحكومة المصرية برئاسة شريف باشا وحدها سنة 1884 على مسعى الإنكليز لإخلاء السودان، بل احتج أيضا على هذا المسعى التجار الوطنيون والأجانب بمذكرة رفعوها إلى الخديوي توفيق باشا ووزيره نوبار باشا ومعتمدي الدول قالوا فيها:
إن واردات السودان مليونا جنيه (بطريق أسوان) وصادراته 11 مليونا ونصف مليون جنيه، وإن الأملاك والعقارات تقدر بالملايين الكثيرة، وإن عدد التجار المسيحيين 15 ألفا وعدد التجار المصريين 40 ألفا، وعدد المحلات التجارية المصرية ثلاثة آلاف وعدد المحلات التجارية الأوربية نحو ألف، والمخزون من البضائع يقدر بنصف مليون جنيه.
ولكن ذلك كله لم يحل دون عزم إنكلترا على إخلاء السودان، بل إن ذلك هو الذي دعاها إلى إخلائه لتضع يدها عليه، وما كاد يصدر أمر الإخلاء حتى أنزل الأميرال هويت قوة إنكليزية بسواكن (24 فبراير 1884) وكانوا قبل ذلك أي في سنة 83 قد خططوا السكة الحديدية من سواكن إلى بربر ليحولوا طريق التجارة عن مصر إلى سواكن فيربحوا خيرات السودان وتجد مراكبهم مرتزقا من النقل دون مزاحم، وبعد احتلال سواكن أرسلوا الماجور هنتر لاحتلال زيلع وبربرة وما وراءهما، فكانت الجنود المصرية تلف علمها وفي الوقت ذاته كانت الجنود الإنكليزية ترفع علم دولتها فوق القلاع المصرية، وفي 3 يونيو 1884 عقد هنتر اتفاقا مع النجاشي يوحنا بشأن إقليم هرر دون استشارة الحكومة المصرية ودون رأيها، وألف هناك حكومة محلية برئاسة عبد الله محمد عبد الشكور. أما مصوع التي سلمتها تركيا للحكومة الخديوية في سنة 1866 مقابل 16 ألف جنيه تدفعها في كل سنة، فقد كانت محافظة تمتد من رأس قصار في البحر الأحمر حيث منتهى محافظة سواكن إلى حلة رهيطة عند بوغاز باب المندب، وتمتد بالبر إلى سيدرات بالقرب من كسله، ويطلق الطليان عليها الآن اسم الإريتره، فالبحر الأحمر كان بحرا مصريا صرفا مع خليج العقبة وقلعة الوجه التي بناها المصريون وأقاموا فيها حتى 89 وفي 6 فبراير 1885 أخرجت الحامية المصرية من زيلع وأعيدت إلى مصر ومنحت زيلع وبربر للإنكليز.
وأغرب من ذلك أن هذه البلاد التي أخذت من مصر لا تزال مصر تدفع إتاوتها لتركيا، وقد قرر مؤتمر لوزان أن تظل مصر تدفع هذه الإتاوة إلى سنة 1855. •••
أما القوة المصرية التي كانت في بلاد السودان حين قيام ثورة المهدي فهي حسب الإحصاء الرسمي 1950 في دنقلة و2170 في بربر و7480 في الخرطوم و2350 في سنار و1610 في القلابات و800 في الجيرة و200 في القضارف و3940 في كسله و920 في أمبديب و1900 في سنهيت و3470 في هرر و5830 في كردوفان و4863 في دارفور و886 في بحر الغزال و2631 في خط الاستواء. فجملة عدد الجيش المصري في السودان 40490 وفي خدمتها 12 وابورا حربيا، وعدد المتطوعة مع الجيش نحو 20 ألفا، وعدد الموظفين نحو 30 ألفا.
هوامش
كيف دفع السودان للثورة
دس الإنكليز رجالهم في خدمة الحكومة المصرية في السودان، وظن إسماعيل باشا - الذي كان يجيب طلبهم باستخدام رجالهم وبإعطائهم السلطة التي لا حد لها - أنه يرضيهم ويحول مطامع إنكلترا عن بلاده، فظن خطأ، وتولى الموظفون الإنكليز المناصب بطلب حكومتهم وإرشادها ليتمكنوا من هدم الإمبراطورية المصرية الواقعة على طريق الهند وتحويلها إلى مستعمرات إنكليزية فصموئيل بكر في خط الاستواء وغوردون في بحر الغزال وكلاهما وال مصري أعطيا السلطة التي لا حد لها فاستخدما قانون منع الرق لإغضاب السودانيين الذين كانوا يستخدمون العبيد في أعمالهم وينصرفون هم إلى التجارة والأعمال الكبيرة، فكانا ينكلان بالناس تنكيلا شديدا ويعاقبان بالقتل والسجن ومصادرة الأملاك بحجة تنفيذ المعاهدة المبرمة بين إسماعيل باشا وإنكلترا سنة 1877 لمنع الرقيق، مع أن الإنكليز في أملاكهم الأفريقية كانوا يتساهلون كل التساهل، فعد عمل الإنكليز فوق ما تقدم تعرضا للدين. ثم إنهم ميزوا قبيلة على أخرى فأعفوا قبائل الشايقية من الضرائب فأغضبوا القبائل الأخرى، كما فضلوا أصحاب الطريقة الميرغنية على أصحاب الطرق الأخرى فأوجدوا التحاسد بين أصحاب الطرق.
ويلي ذلك إهمال شأن محمد أحمد المهدي عند ظهوره، وظهور هؤلاء الذين يدعون المهدية في السودان كثير جدا، وقد ظهر من يوم استعادة السودان إلى اليوم 15 مهديا لو أهملوا لاستفحل أمرهم، وضاعف في الأمر الثورة العرابية التي كان ينشطها ويشجعها وكيلهم السياسي بمصر السير مالت وغيره من خدمة سياستهم فتحولت أنظار حكومة مصر عن السودان إلى أن احتل الإنكليز مصر.
محمد أحمد والثورة
أما محمد أحمد المهدي فهو ابن نجار تعلم العلوم الدينية بالخرطوم، واتبع الطريقة السمانية، وسكن مع إخوته النجارين في جزيرة أبا حيث كثر تلامذته وأتباعه، وفي سنة 81 جهر بدعوى المهدية، وحث أصحابه على القيام معه لنصرة الدين والجهاد في سبيل الله كما يفعل ذلك الكثيرون، ولما وصل خبره إلى رءوف باشا حكمدار السودان أرسل إليه يسأله عن منشوراته وادعائه فأجابه أنه المهدي المنتظر، فأوفد إليه محمد بك أبا السعود أحد معاونيه فدخل عليه في غاره وسأله عن دعواه. فأجابه: أنا المهدي أنا ولي الأمر.
فعاد أبو السعود إلى رءوف باشا وقص عليه حكاية محمد أحمد، فأرسل معه بلوكين للقبض عليه، وكان محمد أحمد قد جمع أتباعه فلما نزل الجنود إلى البر فتك بهم رجاله؛ لأن الجنود لم يكونوا على حذر، وخاف المهدي العاقبة ففر مع من معه إلى جبل قدير، وارتأى محمد سعيد باشا مدير كردوفان مطاردة محمد أحمد، ولكن رءوف باشا منعه وأرسله إلى جزيرة أبا ليحقق عن قتل الجند، ولما استقر محمد أحمد بجبل قدير استأذن مدير فاشودة راشد بك بأن يزحف عليه فمنعه رءوف باشا، ولكنه ذهب بأربعمائة جندي، وقبل وصوله إلى مقر المهدي جمع هذا ثمانية آلاف هجم بهم على راشد بك فقتله وأسر جماعته وفتك بالباقين؛ فعزلت الحكومة رءوف باشا وولت عبد القادر باشا، وقبل وصول عبد القادر باشا جهز جيكلر وكيل الحاكم قوة بقيادة يوسف باشا السلامي قابلها محمد أحمد بجيش عدده 15 ألفا، فانتصر على يوسف باشا وقتله (29 مايو 1882) ولما ذاع خبر انتصاره هابه الناس، وأخذوا بالهجرة إليه، وامتدت الثورة إلى سنار ومديرها حسين باشا شكري، ثم من هناك إلى جهة النيل الأزرق.
وفي 11 مايو 1882 وصل عبد القادر باشا إلى الخرطوم فأخذ بتحصينها، وتجنيد العساكر، وأتى بست أورط من السودان الشرقي، وأخمد فتنة سنار، وعزل الموظفين الذين خانوا، ثم سار هو ذاته بجيش نكل بزعماء الثورة في سنار واحدا فواحدا، وكاد يخمد الثورة في جميع الأنحاء عندما تلقى الأمر من القاهرة بعزله، كأنما الإنكليز ما كانوا يريدون إخماد الثورة بل زيادة اتقادها، فعينوا علاء الدين باشا خلفا له زاعمين أن عبد القادر باشا يريد الاستقلال بالسودان، ومن المعلوم أن الإنكليز عندما دخلوا القاهرة كان أول عمل عملوه أنهم حلوا الجيش في 20 ديسمبر 1882، ثم جمعوا ستة آلاف رجل، وعينوا السر أفلن وود سرادارا، وعينوا الضباط الإنكليز قوادا، وأرسلوا إلى السودان عشرة آلاف من فلول جيش عرابي بقيادة هكس باشا.
وصل علاء الدين باشا إلى الخرطوم في 20 فبراير 1883 وسلطته محصورة بالإدارة الملكية، وولوا سليمان باشا نيازي العسكرية، وهكس باشا رئيسا لأركان الحرب.
ولما وصل عبد القادر باشا إلى مصر ألح على الحكومة بأن تدع الجيش يحافظ على النيل الأبيض حتى لا تمتد الثورة إلى سنار، وأن تدع محمد أحمد وشأنه في كردوفان فهو يسقط من تلقاء نفسه فلم يسمعوا نصيحته، وجهز هكس باشا حملة كبيرة على كردوفان مؤلفة من 7000 من المشاة و500 من الفرسان النظاميين و500 من الفرسان المتطوعين وألفين من الأتباع و500 جمل و300 بغل و10 آلاف حمار وخمسة آلاف جواد و10 مدافع جبلية و4 كروب و6 نوردنفلت. سار هذا الجيش وضل الطريق، وفي 4 نوفمبر أخذ الدراويش يطوقون معسكر هيكس الذي دخل واديا كثير الغابات والأشواك طلبا للماء؛ لأن العطش برح بالجنود، فحمل عليهم رجال محمد أحمد من كل جانب فقتلوا الجيش، ولم يسلم منه سوى ضابطين و300 جندي أخذوا أسرى.
وحينئذ أرسل الكولونل ستيوارت تقريرا إلى حكومته بأن الوقت قد حان لإخلاء السودان، وألحوا على الخديوي توفيق باشا في ذلك فلم يوافقهم على هذا الطلب، وكانت حجة السير أفلن بارنغ أن في ميزانية السودان عجزا قدره 260 ألف جنيه، والخزانة المصرية لا تستطيع تحمل مثل هذا المبلغ في كل عام، والحكومة الإنكليزية لا ترضى بأن تقدم جنديا واحدا لتأييد سلطة مصر على السودان، وألحت على وزارة شريف باشا بإخلاء السودان، فأبى شريف باشا قبول طلبهم وقال كلمته المشهورة «إذا نحن تركنا السودان فهو لا يتركنا»، ولكنهم أكرهوه على الاستعفاء عملا بالقاعدة التي سنها اللورد غرنفل وهي: «إما أن يخضع الموظف المصري، أو يستقيل»، ولما استعفت وزارة شريف باشا خلفتها وزارة نوبار باشا التي قررت في الحال إخلاء السودان (8 يناير 1884).
أما وزارة شريف باشا فإنها قالت في كتاب استعفائها:
تطلب حكومة جلالة ملكة إنكلترا أن نترك السودان، فليس من حقنا أن نسلم بتركه؛ لأن هذه البلاد التي هي ملك الباب العالي قد سلمت لنا لنحافظ عليها.
وتقول حكومة جلالة الملكة إنه يجب على مصر اتباع مشورتها دون مناقشة، وفي ذلك مخالفة للأمر العالي الصادر في 23 أغسطس 1879 وفيه أن سمو الخديوي يحكم مع وزرائه وبواسطتهم.
فنحن نستعفي لأنا نمنع من الحكم حسب أحكام الدستور.
التعليمات لغوردون
وكلت حكومة إنكلترا إلى غوردون
1
إخلاء السودان دون استشارة الحكومة المصرية، ونشرت بلاغا قالت فيه: «إن حكومة جلالة الملكة سألت غوردون: هل هو مستعد لأن يذهب إلى الخرطوم ليقيم في السودان حكومة وطنية سودانية، ويبذل جهده لإعانة الحاميات المصرية الموجودة هناك؟ فسأل الجنرال: هل تناط به هذه المهمة باسم جلالة الملكة، أم باسم الخديوي؟ وبما أنه ضابط عظيم من جيش جلالة الملكة فهو ينفذ الأوامر التي يكون له شرف تلقيها من جلالتها، فهو لا يرضى بحال من الأحوال أن يذهب إلى السودان كممثل للخديوي، فالوزراء أجابوه بأنه سيكون بالسودان مندوب الحكومة البريطانية وليس له أقل شأن مع الخديوي، ولكي يكون ذلك أكثر وضوحا فهو يسافر إلى الخرطوم بطريق السويس إلى سواكن ويقابله في السويس السير بارنغ ويتفق معه على الجلاء وتسكين السودان.»
ذلك هو البلاغ الرسمي، أما التعليمات السرية التي تلقاها فإنها تضمنت أن هذا العمل هو البدء بتنفيذ برنامج اللورد دوفرين، وهذا البرنامج هو: (1)
إخلاء مصر للسودان. (2)
جلاء الجنود والموظفين المصريين. (3)
استعادة السودان لمصلحة إنكلترا وحدها.
ولما وصل غوردون إلى بورسعيد تحول عن عزمه وحضر إلى القاهرة وأخذ أمرا من الخديوي بإخلاء السودان.
كان هم غوردون قبل وصوله إلى الخرطوم أن يعلن مقاصده فأرسل من أسيوط إلى حسين باشا خليفة مدير بربر تلغرافا يأمره بأن يبلغ عمد البلاد وأعيانها أنه سمي واليا على السودان، وأنه عند وصوله سيعزل جميع الموظفين الترك والمصريين، ويولي حكاما من أهل البلاد؛ ليعيد الحكم إلى ما كان عليه قبل الفتح، وأنه أعفى أهل السودان من ضرائب 1883 وأباح تجارة الرقيق.
ولما وصل إلى كورسكو أرسل كتابا إلى المهدي بأنه عينه سلطانا على كردوفان ودارفور، وعندما وصل إلي بربر خطب بالأهالي بأنه جاء ليخرج الجنود المصرية من السودان ويعيد الحكم إلى السودانيين أنفسهم، ثم عين مجلس شورى لحكم تلك الجهة من السودانيين وفتح الطريق إلى محمد أحمد وكان مقفلا فأخذ الناس يهرعون إليه بعد منشور غوردون ويزيدون قوته إما خوفا منه وإما حبا به.
ولما وصل إلى الخرطوم فعل الفعل ذاته، ثم زاد على ذلك أنه جمع دفاتر المالية وأحرقها أمام الجمهور؛ ليزيد في ثقة السودانيين، وفي إضعاف قلوب المصريين.
ثم أخرج العساكر المصرية من الخرطوم، وألف مجلسا من السودانيين لحكم البلاد، وبعد ذلك أرسل ستيوارت باشا وكيله ليرى كيف كان وقع عمله في البلاد فوجد أن الثورة عامة وليس لها رأس، وأن المهدي لا يريد مخاطبة الإنكليز والاتفاق معهم كما كان يأمل حين نادى به سلطانا على دارفور وكردوفان فأخذ يبحث عن رجل قوي يوليه الحكم ويتفق معه، فطلب الزبير باشا من مصر ووعده بمنحه رتبة الفريق والنيشان العثماني، وراتبا سنويا قدره 6000 جنيه، وأن تعطيه الحكومة المصرية كل سنة مليونين ونصف جنيه لمدة سنتين، وأن تترك له سلاحها وذخائرها، وأن يكون له جمرك سواكن فلم يقبل الزبير، ولم يسلم الإنكليز مخافة أن يكون كالمهدي أو ينضم إليه، فقرروا ترك الفوضى تأكل السودان إلى أن يستعيدوه، ولكن مركز غوردون تحرج، ولم يستطع الخروج من السودان فذهب ضحية السياسة مع من ذهبوا مع الإمبراطورية المصرية السودانية التي هدموها.
ولما عثروا على مذكرات غوردون وأعادوها إلى أهله نزعوا منها التعليمات التي تفضح السياسة، فطبعت تلك المذكرات وفيها خمس صحائف بيضاء.
حاولت الحكومة الإنكليزية بعد حصار الخرطوم إنقاذ غوردون فألفت حملة بقيادة اللورد ولسلي، وقالت في الأوامر الصادرة إليه: «إن الغرض إنقاذ غوردون وستيوارت، فمتى تم ذلك لا يجوز القيام بأعمال أخرى» فاستخدم ولسلي الجيش المصري و9 آلاف من الجيش الإنكليزي و900 زورق نيلي، وقامت الحملة في 27 سبتمبر 1884 وسارت متقدمة، ولكن الخرطوم سقطت في 26 يناير 1885، ووصل السير تشارلس ويلسون إليها بوابورين عند ظهر 28 يناير، ولما عرف الخبر عاد راجعا إلى اللورد ولسلي الذي أقلع بحملته إلى مصر، وهكذا تم جلاء المصريين عن السودان، ولم يعش محمد أحمد بعد سقوط الخرطوم سوى 5 شهور فتوفي في 14 يونيو 1885، وخلفه عبد الله التعايشي الذي استعاد الجيش المصري السودان من يده سنة 1898 أي بعد 16 عاما لم ينقطع فيها القتال يوما واحدا بين المصريين وثوار السودان على الحدود، وما كان عبد القادر باشا يطلب منهم لإخماد الثورة نصف ما عرضوه على الزبير باشا ولا عشر معشار ما حملوا مصر من الأعباء بعد ذلك ليستعيدوه لأنفسهم لا لمصر؛ فقد كانت الوقائع الشديدة بين الجيش المصري وثوار السودان 24 واقعة، وكانت الوقائع لاستعادة السودان 11 واقعة، والإعانة التي تقدمها مصر للسودان بعد استعادته 460 ألف جنيه في السنة ما عدا الجيش والوابورات والموظفين الذين يتناولون رواتبهم من الخزانة المصرية.
ولكن مجلس الشورى يقرر عند دفع الأموال «من حيث إن السودان جزء من مصر لا يجزأ فهو يوافق على دفع مبلغ كذا، إلخ.»
هوامش
الزبير رحمة
من قبيلة الجميعاب (نسبة إلى جميع العباسي) وهي قبيلة مشهورة بالشجاعة عاهدت الأمير إسماعيل بن محمد علي يوم فتحه السودان، وثبتت على ولاء الأسرة العلوية، وقد كان للزبير شأن يذكر في تاريخ السودان، بدأ حياته بالتجارة ثم سافر مع ابن عمه إلى بحر الغزال في خدمة التاجر المصري علي أبي عموري من نجع حمادة سنة 1856 وكان التجار المصريون هناك كثيرين وكل تاجر منهم يبني زريبة من الشوك يخزن فيها بضائعه، فهاجم الأهالي هذه الزرائب لنهب البضاعة، فدافع الزبير عن زريبة علي أبي عموري فهابه الأهالي وذاع أمره فانفرد بتجارته وربح، وزاد طمعه فأوغل بالبلاد إلى حيث لم يصل التجار، ثم قصد إلى بلاد النمانم حيث تزوج من بنت سلطانها فزادت تجارته، وابتاع من ملك النمانم 500 شاب دربهم على حمل السلاح، وكان هؤلاء الشبان من المحكوم عليهم، وعادة أهل البلاد أن يذبحوهم ويأكلوا لحومهم، فخشي الملك حموه بطشه، فخرج الزبير إلى ملك آخر هو عدو حميه، فأرسل حموه رجاله للفتك به في الطريق فتغلب عليهم، ولما لجأ إلى الملك الثاني جهز حموه جيشا لقتاله، ففر هذا الملك من وجهه، واضطر الزبير أن يلجأ إلى بلاد قولو، وملكها يومئذ «عدوه شكو» الذي قتل أخا للزبير، فقامت الحرب بينهما فقتل الملك وابنه، وصار الزبير ملكا على تلك البلاد، وسمى عاصمة ملكه ديم الزبير. ثم عاهد عرب الزريقات، وفتح طريق التجارة بين بحر الغزال وكردفان، وفي سنة 1869 وصل إلى بحر الغزال الحاج محمد السلامي المغربي ومعه 200 جندي سوداني بقيادة محمد أفندي منيب و400 من الباشبوزق و600 من الخطرية فقاتلهم الزبير وانتصر عليهم، وكان والي السودان يومئذ جعفر باشا مظهر.
ولما رأى ملك النمانم اتساع ملك الزبير أرسل إليه يهدده إن لم يترك الملك ويعود إلى التجارة فأبى، فقامت بينهما الحرب التي انتهت بانتصار الزبير فضم بلاد النمانم، وكان الزريقات قد نقضوا العهد وقطعوا الطريق فاستنجد عليهم سنة 1873 بسلطان دارفور فلم ينجده فقاتلهم وكسرهم وأسر فقيههم عبد الله التعايشي فمنعه المشائخ من قتله، وعبد الله هذا هو الذي صار خليفة للمهدي وحاربه الجيش المصري وفر من أم درمان فأدركه الجيش المصري في مكان يسمى جديد في 24 نوفمبر 1899 وفتك بمن معه، أما هو وأصحابه فإنهم لما أيقنوا بالهلاك فرشوا فريهم وجلسوا ينتظرون الموت فلم يكن بعيدا منهم بل جاءهم مسرعا.
وبعد فتح كردوفان أرسل الزبير إلى إسماعيل باشا أيوب حكمدار السودان يطلب منه أن يرسل من يستلم البلاد التي فتحها، فجاءه الرد منه بأن سمو الخديوي أنعم عليه بالرتبة الثانية، وولاه تلك البلاد مقابل 15 ألف جنيه يدفعها كل سنة، ثم دارت الحرب بينه وبين سلطان دارفور، فأوتي النصر، وأرسل أولاد سلاطين دارفور إلى مصر، ثم حدث خلاف بين حكمدار السودان والزبير، فجاء الزبير مصر سنة 1875، ورافق الجيش المصري في حرب روسيا، وفي أثناء ذلك ثار ابنه سليمان على الحكومة، فأرسل غوردون جسي بك لقتاله فقتل سليمان، وفي سنة 83 انتدب لقتال عثمان دقنه في طوكر فبعد أن جمع ألايا من السودانيين بمصر عدل؛ لأنه أبى أن يكون تحت إمرة باكر باشا، وفي سنة 84 استدعاه غوردون لاستلام البلاد السودانية على ما مر فرفض؛ لأن الإنكليز أهانوه بوصفه أنه نخاس، وفي سنة 85 نفي إلى جبل طارق بتهمة مراسلة المهدي فظل هناك 30 شهرا، ثم أفرج عنه وعينت له الحكومة راتبا شهريا قدره 289 جنيها تناوله حتى وفاته، وكان يطالبها بمبلغ مليون جنيه، وبعد استعادة السودان أعيد إليه كثير من أملاكه.
التسابق إلى السودان
حملة مارشان وحملة كتشنر - حملة مكدونالد - حملة كافانديش فاشودة
لما فشلت المفاوضات بين إنكلترا والباب العالي سنة 89 لجلاء الإنكليز عن مصر أرسل الموسيو برونت العضو الفرنساوي في السكة الحديدية المصرية تقريرا إلى الموسيو كارنو رئيس جمهورية فرنسا وزميله في الدراسة يقترح عليه فيه احتلال نقطة من الأراضي المصرية تكره إنكلترا على الاحتجاج ودول أوربا على فتح المسألة المصرية، وارتأى أن تكون هذه النقطة فاشودة في السودان المصري: (1)
لأن وصول الفرنساويين إليها سهل من أملاكهم بأفريقيا. (2)
ولأنها مركز مديرية. (3)
ولأنها مفتاح مصر لوقوعها عند مصب نهر الصوبات بالنيل.
فرأى الموسيو كارنو صواب الرأي فسيرت حكومة الجمهورية الحملة سنة 94 ولكن إنكلترا كانت تنوي امتلاك السودان - بعد إكراه مصر على إخلائه - من جهة الأوغندا بعد أن أخرجت أمين باشا من خط الاستواء، وقال الكولونيل مونتايل: «إن إنكلترا لا تجلو عن مصر إلا بعد أن تمتلك السودان وطريق بربر إلى سواكن» وفي سنة 95 خلف مارشان مونتايل برئاسة حملة فاشودة، وأرسلت فرنسا الموسيو ليغران إلى بلاد الحبشة ليؤلف حملة تقابل مارشان فلم يفلح، ولما أحس الإنكليز بحملة الفرنساويين وبفشل حملتهم من الأوغندا سيروا الحملة المصرية، ولما احتل السردار أم درمان عرف أن مرشان يحتل فاشودة منذ 10 يوليو، أي قبل شهرين من وصول السردار إلى أم درمان، وكانت قوة مارشان 120 جنديا من العبيد و9 ضباط فرنساويين، فواصل اللورد كتشنر السير إلى فاشودة حيث قابل مارشان ورفع الراية المصرية على 500 ياردة من الراية الفرنساوية، وظل مارشان في فاشودة حتى 11 ديسمبر فغادرها بأمر حكومته بطريق الحبشة. •••
من مذاهب السياسة الإنكليزية توخي الربح الكبير بالنفقة القليلة، فهم كانوا يطمعون بالسودان لأنفسهم بعد أن أكرهوا المصريين على إخلائه، ولكنهم كانوا يضنون بأموالهم في هذا السبيل فبعد أن سيروا الحملة المصرية بقيادة كتشنر باشا أخذوا من احتياطي صندوق الدين للإنفاق على الحملة نصف مليون جنيه، وقال المستر كرزون في جلسة مجلس النواب في 19 مارس 1896 «إن تقدير الأموال اللازمة لهذه الحملة ليس بالإمكان، ولكني أؤكد للمجلس بأن الخزانة المصرية وحدها تتحمل هذه النفقات كلها.»
وأعلن المستر بلفور في مجلس العموم أن سفراء إنكلترا تلقوا التعليمات من حكومتهم بأن يبلغوا الدول أن هذه الحملة إنما هي جردت لمصلحة مصر، وأن نفقات هذه الحملة قد تتجاوز مقدرة الخزانة المصرية فعليهم أن يقنعوا الدول لتسمح بأخذ نصف مليون جنيه من احتياطي صندوق الدين لهذا الغرض؛ فوافقت ألمانيا والنمسا وإيطاليا، ورفضت فرنسا وروسيا. ثم قال المستر بلفور: «إنا لا نرجع عن عزمنا، وحيثما وضع الجندي الإنكليزي قدمه فهو يبقى ولا يتزحزح.»
رفع الفرنساويون حاملو الأسهم المصرية قضية أمام المحكمة المختلطة فحكمت محكمة الاستئناف بعد محكمة البداية في 6 ديسمبر 1896 بإعادة المبلغ إلى صندوق الدين، فقدمت إنجلترا لمصر في 6 فبراير مبلغ 798802ج بفائدة
بالمائة لا قرضا بل حسابا جاريا؛ لأنه لا يجوز لحكومة مصر الاقتراض دون موافقة الدول، وهذا المبلغ تنازلت عنه إنكلترا، وعلل هذا التنازل بأن المال خص أكثره بمشترى الأدوات اللازمة لسكة حديد حلفا وهي تعتبر جزءا من سكة حديد القاهرة إلى الكاپ، وكان سسل رود صاحب المشروع يومئذ في القاهرة يفاوض رئيس الوزارة مصطفى باشا فهمي في مشترى السكك الحديدية التي تفضي إلى السودان، فأذاعت جريدة «الأهرام» الخبر الذي كان له دوي عظيم في أوربا، فكتب الباب العالي إلى الخديوي يحرم عليه مثل هذا البيع.
في 2 سبتمبر 1898 دخل اللورد كتشنر أم درمان، وفي 19 سبتمبر وصل إلى فاشودة حيث قابل مارشان، وعرف أن الحملة الإنكليزية التي قامت من الأوغندا قاصدة الخرطوم بقيادة الماجور مكدونالد وقوامها بقية جيش أمين باشا في خط الاستواء ثارت على قائدها، وامتنعت في قلعتها عند مدخل ڨكتوريا نيانزا فلم يستطع مكدونالد التقدم، كذلك الحملة الأخرى التي ألفوها على ساحل بحر الهند بقيادة كافانديش فإنها لم تستطع الوصول إلى السودان المصري.
غضب الإنكليز لوجود مارشان في فاشودة، وأخذوا يهددون الفرنساويين حتى قال اللورد سالسبوري لسفير فرنسا كورسل: «إن عند السردار قوة كافية تمكنه من طرد مارشان ومن معه إلى حيث يريد» ففهم السفير بأن معنى ذلك استعداد إنكلترا لإعلان الحرب، وسألت فرنسا حليفتها روسيا عن خطتها، فأجابت حكومة القيصر بأن الأفضل تسوية هذه الأزمة سلميا مع حفظ كرامة فرنسا، ولزمت ألمانيا الحياد؛ لأن بينها وبين إنكلترا اتفاقا سريا على أفريقيا فاضطرت فرنسا إلى إعلان سحب جنودها من فاشودة في 4 نوفمبر بحجة أن هذه البلاد ملك لمصر، ومما كتبه اللورد سالسبوري إلى سفير إنكلترا في باريس في 5 أكتوبر 1898 «لا شك بأن حقوق مصر بامتلاك مجرى النيل قد كانت من جراء نجاح المهدي مهملة، ولكنها حقوق ثابتة لا تقبل جدلا، ولم يبق شك بها بعد انتصار الجنود المصرية على الدراويش. أولم تعلن إنكلترا هذه عمدا وجود حقوق الخديوي على تلك الأملاك بالاتفاق الإنكليزي الكونغي في 12 مايو 1894؟
وفي 12 أكتوبر قال اللورد سالسبوري لسفير فرنسا: «إن وادي النيل كان لمصر ولا يزال لها، ولكن عائقا كان قائما في وجه الملكية المصرية من جراء ثورة المهدي قد زال بانتصار الجنود المصرية والإنكليزية في معركة أم درمان.»
وهذا نص كتاب بطرس باشا غالي وزير خارجية مصر إلى اللورد كرومر ردا على مذكرته بشأن أزمة فاشودة بتاريخ 9 أكتوبر 1898:
إن حكومة سمو الخديوي كما تعلم سيادتكم لم يغب عنها في حين من الأحيان العود إلى احتلال مديريات السودان الذي لم تنسحب منه إلا عقيب ظروف قوة قاهرة؛ فاستعادة الخرطوم تكون عقيمة إذا لم يعد إلى مصر وادي النيل الذي ضحت مصر في سبيله في الزمن السابق ضحايا جسيمة، ولعلمي أن مسألة فاشودة هي الآن موضوع المباحثة بين إنكلترا وفرنسا؛ فإن الحكومة المصرية تكل إلي أن أطلب من سعادتكم إسعادنا بالوساطة الطيبة لدى اللورد سالسبوري حتى يعترف لمصر بحقوقها التي لا تقبل الجدل، وحتى تعاد إليها جميع الأراضي التي كانت تحتلها جنودها عند قيام ثورة محمد أحمد.
مصر هي النيل
خطب الموسيو برونت المهندس الفرنساوي الشهير الذي كان عضوا فرنساويا في مجلس إدارة السكك الحديدية المصرية - قبل حل هذا المجلس باتفاق 1904 - في المعهد العلمي المصري في 21 يناير 1893 فقال:
إن إقامة خزان للمياه على مجرى النيل يعرض مصر لأشد الأخطار؛ بل للموت، ويكفي للقضاء على مصر أن يقام سد عند فوهة بحيرة نيانزا بأعلى الشلال المسمى ريبون؛ فإن هذه البحيرة التي تعادل 50 مليار متر مكعب يرتفع مستوى الماء فيها 30 سنتمترا في السنة على الأكثر، فيلزم إذن أن تمر عشر سنين قبل أن تعلو المياه إلى قنة هذا السد، وعلى هذه الطريقة تحرم مصر في إبان الفيضان كمية قليلة من الماء وهي عشرة مليارات من الأمتار المكعبة، ومجموع ماء الفيضان في النيل 75 مليارا.
ولكن الضرر يظهر عند الانخفاض، فإن مصر تحرم 250 مترا مكعبا في الثانية من 455 مترا مكعبا، وهذا الماء محسوب على مقياس الخرطوم، ولكنه يضيع منه الكثير بالتبخير والرشح قبل أن يصل إلى القاهرة فمن 455 مترا مكعبا من الماء في الخرطوم يصل إلى القاهرة 200 متر مكعب. فإذا أنشئ السد يصل إلى القاهرة من الماء من 80 إلى 100 متر مكعب بالثانية فقط ويكون من وراء ذلك الخراب.
وفي أول أكتوبر 1895 قدم السير سكوت مونكريف الذي كان وكيلا لوزارة الأشغال المصرية تقريرا إلى المعهد العلمي الملكي الإنكليزي قال فيه:
إذا ملكت دولة متمدنة أعالي النيل أنشأت بلا شك المسارب في بحيرة ڨيكتوريا نيانزا لتنظيم خروج المياه من ذلك البحر كما تنظم مانشستر تيرلمر.
وهذا العمل في نفسه سهل فإذا تم صارت تغذية النيل من تلك المسارب بيد الدولة المالكة هناك، وإذا دفع سوء الحظ مصر التعسة إلى أن تكون في حرب مع الدولة النازلة على شاطئ بحيرة ڨيكتوريا فإنها تكون عرضة إما للشرق وإما للغرق كما يخطر لتلك العدوة.
وقال القومندان مونتيل في تقريره لوزارة خارجية فرنسا عن حملة فاشودة: «إن الإنكليز وضعوا نصب عيونهم منذ الساعة الأولى أن السودان الكبير الغني يجب أن يكون فدية مصر الصغيرة الفقيرة تقدمها لإنكلترا.»
وجاء في تقرير السير جيرالد بورتال - مندوب إنكلترا في الأوغندا - سنة 1894: «إذا نحن نظرنا إلى الأوغندا من الوجهة السياسية وجدنا أنها أقوى حكومة في أفريقيا الشرقية، وفي قبضة الأوغندا منابع النيل، فموقفنا في الأوغندا ومصر موقف واحد لا ينفصل أحدهما عن الآخر؛ لأن من ملك أعالي النيل يتصرف بمصر على هواه ومشيئته، ويكون باستطاعته أن يقضي على مصر.»
وقال رياض باشا في مذكرته بتاريخ 9 ديسمبر 1888 إلى السير أفلن بارنغ: «من الواضح الجلي أن النيل حياة مصر، والنيل هو السودان، ولا يشك أحد بأن الروابط التي تربط مصر بالسودان لهي روابط وثيقة لا انفصام لها كما ترتبط الروح بالجسم.»
فيكفي المصري أن يراجع هذه الأقوال وأمثالها ليعرف منزلة السودان وقيمته، وليستسهل كما استسهل آباؤه وأجداده كل ضحية غالية في سبيله.
من محمد علي إلى عباس الثاني
1812-1903
لما استتب الأمر لمحمد علي كان أول ما وجه إليه نظره فتح السودان، وقال مؤرخو ملكه المجيد بل عهده السعيد: إن من الأسباب التي حملته على الإسراع في ذلك يقينه بأن لا حياة لمصر بغير السودان، وأهمها الأسباب الآتية:
الأول:
الوصول إلى منابع النيل حتى تكون في قبضة المصريين.
والثاني:
حفر معادن الذهب؛ ليقرن ثروة مصر الزراعية بثروة معادن السودان.
والثالث:
تجنيد السودانيين؛ لأنهم أهل بأس وشدة، وقد اشتهروا بالحروب، وهو في ملكه الجديد بحاجة إلى الجيوش.
والرابع:
استئصال شأفة المماليك الذين لجأوا إلى دنقلة وسنار مخافة أن يؤلفوا جيشا سودانيا يغزون به مصر، ففعل ما فعل نابوليون قبله بإرساله ديسكس للقضاء على بقية المماليك في السودان بعد أن قهرهم في مصر.
والخامس:
التخلص من جيشه المتطوع من الأرناءوط والجركس والمغاربة والترك بإقطاعهم الإقطاع في السودان الواسع؛ لأن هذا الجيش المتطوع كان كجيش الإنكشارية في الأستانة مصدر تعب وخطر، فما كانوا يخضعون للنظام الذي نظم به جيشه المصري على أسلوب الجيش الفرنساوي.
والسادس:
تمهيد طريق التجارة بين مصر والسودان؛ لأن التجار المصريين كانوا يلقون مشقات عظيمة في معاملة بلاد السودان، بل كانوا عرضة للأخطار الشديدة.
والسابع:
إتمام تأليف المملكة المصرية بضم سوريا وبلاد العرب إليها بعد ضم السودان منبع النيل.
فبدأ عمله بإرسال وفد في سنة 1812 إلى ملك سنار يتودد إليه، ويطلب منه طرد المماليك الذين لجأوا إلى بلاده، وزود ذلك الوفد بالهدايا والتحف النفيسة، وأرسل مع الوفد أناسا من رجال الحرب والعلم فكتبوا له التقارير الضافية ووضعوا الخطط لفتح السودان، وفي سنة 1816 أرسل وفدا آخر برئاسة كايو الفرنساوي للوقوف على معادن الذهب في جبل زباره ومعه الفنيون لوضع خريطة البلاد، فلما أتم ذلك كله وجه ابنه الأمير إسماعيل على رأس جيش ضخم لفتح سنار وزوده بالهدايا، وأوصاه بأن يدخل في طاعته البلاد بلا حرب، وأرسل معه وفدا من العلماء؛ ليرشدوا الناس، ويحببوا إليهم هذه الطاعة، فنجح نجاحا كبيرا، فإن بلاد النوبة سلمت بلا قتال، ولم يقع فيها ما يستحق الذكر من سنة 1820 إلى 1885 سوى ثورة حسن وردي الكاشف فإنه بعد تقديم الطاعة للأمير الذي ولاه على بلاد السكوت بين حلفا ودنقلة قتل بعض رجال الحامية المصرية وامتنع بقلعة هناك مع عبيده فأرسل محمد علي قوة من مصر حصرته في القلعة ونسفتها بالبارود.
وكان ملوك تلك البلاد وزعماؤها يتقدمون إلى الأمير إسماعيل طائعين إلى أن وصل إلى كورتي فوجد أمامه ثلاثة من ملوك الشايقية يريدون قتاله فمزق شملهم، وواصل سيره وهو يتقبل طاعة الملوك، ويقرهم على بلادهم، ويعزز جيشه بقوة من رجالهم، وكانت تلك القوة السودانية أول نواة الجيش السوداني الذي ظل شطرا من الجيش المصري إلى اليوم، وفي 28 مايو 1821 دخل الأمير إسماعيل الخرطوم، وكان قد أرسل إلى الملك بادي ملك سنار يدعوه إلى الطاعة فأجابه جوابا جافا؛ لأن المماليك الذين فروا من مصر سلموا جيش ذلك الملك ستة مدافع أخذوها معهم، فزحف الأمير إسماعيل قاصدا سنار ، وقبل أن يصل قدم له ملكها الطاعة فدخل العاصمة في 12 أكتوبر 1821، وأعلن العفو العام، وبذلك تم فتح البلاد، وأحصى عدد السكان والعبيد والدور والمواشي؛ ليقف على موارد السودان من كل وجه، ولما وصل الخبر إلى محمد علي أرسل ابنه إبراهيم لمساعدة أخيه إسماعيل على تنظيم البلاد، وأمره بمواصلة الزحف حتى منابع النيل؛ لأن الوصول إليها وامتلاكها هو الغرض الأول والأسمى من امتلاك السودان، فاتفق الأميران على إعادة تنظيم الجيش وقسمه قسمين؛ قسما يواصل الزحف على النيل الأزرق لاكتشاف منبعه واكتشاف معادن الذهب في بلاد شنقول، وقسما يواصل الزحف على النيل الأبيض فسار الأمير إسماعيل قاصدا بلاد فازوغلي، وسار الأمير إبراهيم قاصدا بلاد الدنكا، وظل ديوان أفندي محافظا لسنار، ولما وصل إبراهيم إلى جبل القربين أصيب بالدوزنتاريا فعاد إلى مصر، وتولى القيادة سلاح داره طوسون حتى وصل إلى آخر بلاد الدنكا، وأتم الأمير إسماعيل فتح بلاد فازوغلي وبحث كايو عن معادن الذهب في شنقول فتبين له أنها قليلة التبر، وفي أثناء غياب الأمير إسماعيل عن سنار اتفق حاكمها ديوان أفندي وكاتبه المعلم حنا على ضرب الضرائب على الأهالي فهاجوا، ولما بلغ الأمير إسماعيل الخبر عاد مسرعا وأبطل الضرائب وعفا عن الثوار.
وكان محمد علي قد أعد في الوقت ذاته جيشا لفتح كردوفان بقيادة صهره محمد بك الدفتردار، وكانت كردوفان تابعة لسلطنة دارفور فقاتله حاكمها قتالا شديدا فكسره ودخل الأبيض عاصمتها، وتقدم إلى دارفور لفتحها، وقبل أن يصل إلى دارفور بلغ الأمير إسماعيل وهو في سنار أن الملك نمرا ملك السعداب في شندي يتحفز للثورة، فجاء شندي في ديسمبر سنة 1823 وأحضر الملك نمرا وتهدده وضرب عليه جزية، فأظهر الرجل الطاعة، ولما جن الليل جمع عبيده ووضعوا الهشيم حول المنزل الذي ينام فيه الأمير إسماعيل ورجاله وأضرموا فيها النار فماتوا جميعا وفر الغادر، فأخذ القواد يؤدبون الذين اشتركوا بهذه الجريمة، وأسرع الدفتردار من كردوفان للانتقام من الملك نمر ففر من وجهه فأدب شركاءه أشد تأديب، ولجأ الملك نمر إلى بلاد الحبشة حيث مكث إلى عهد سعيد باشا الذي عفا عنه.
وعاد الدفتردار إلى مصر فعين محمد علي الميرالاي عثمان بك أول حاكم على السودان في سنة 1825 وخلفه محو بك سنة 1826 ثم خورشد باشا الذي أمر ببناء الخرطوم والمدن الأخرى بالطوب، ووسع الفتح في جهات الحبشة، وجعل القلابات مركزا كبيرا للتجارة، وبنى المساجد والمدارس الابتدائية وعلم الناس لبس القماش وكانوا يلبسون الجلود، وفي سنة 1830 فتح بلاد الشلوك وفي سنة 1835 نظم المحاكم، وقرر أن تقدم كل قبيلة عددا من العبيد للخدمة في الجندية.
وفي سنة 1839 خلفه في حكم السودان أحمد باشا أبو ودان، وزار محمد علي تلك البلاد فسافر من القاهرة في 15 أكتوبر من تلك السنة فوصل إلى الخرطوم في 23 نوفمبر وأقام فيها 22 يوما، ثم ذهب إلى فازوغلي وكان قد شيد قصرا في فامكه فأقام فيه وهو ينظر في أمور تلك البلاد وينظمها وأعلن إبطال النخاسة، ثم عاد إلى مصر فوصل إلى القاهرة في 14 مارس سنة 1840، ودخلت كسله في حكم السودان الذي قسم إلى سبع مديريات، وخلف أحمد باشا أبو ودان أحمد باشا المناكلي سنة 1844 ثم خالد باشا من سنة 1846 إلى 1850 وكان إبراهيم باشا قائما بإدارة الملك مقام أبيه محمد علي فمات في 10 نوفمبر سنة 1848، وفي 2 أغسطس سنة 1849 مات محمد علي فأقيمت عليه المناحات في جميع أنحاء السودان، وفي سنة 1850 على عهد عباس باشا الأول عين عبد اللطيف باشا حاكما فأسس رفاعة بك وبيومي بك المدرسة الكبرى في الخرطوم، ثم عين رستم بك حاكما على السودان، وطلب قنصل إنكلترا من عباس باشا الذي خلف جده إرسال بعثة لدرس أحوال السودان فأرسلت البعثة برئاسة المستر مري، وكان هذا الرجل ذا نفوذ كبير على عباس الأول، وهذه البعثة هي أول بعثة إنكليزية للسودان، وفي سنة 1854 توفي عباس باشا وتولى سعيد باشا فعين حاكما على السودان علي چركس باشا، وزار السودان حليم باشا ابن محمد علي فأقام مدة طويلة، ثم زاره سعيد باشا ذاته فوصل إلى الخرطوم في 16 يناير سنة 1857 فنظم البلاد، ورتب البوستة بين مصر والسودان، وأنزل الضرائب، وحرم على الجند تحصيلها، وألف في الخرطوم مجلسا شوريا من أعيان البلاد يجتمع مرة في السنة للنظر في شئون البلاد وإصلاحها، وأعلن إبطال الرق، وكلف مونجل المهندس الفرنساوي برسم خط السكة الحديدية بين حلفا والخرطوم، وعلى عهده عاد الملك نمر وجماعته من بلاد الحبشة، وطلبوا الأمان فأمنهم سعيد باشا وأعاد إليهم أملاكهم.
وفي 17 يناير سنة 1863 توفي سعيد باشا وخلفه إسماعيل باشا فاهتم بالسودان اهتماما كبيرا، وعلى عهده تمت الفتوحات الكبيرة، ومد رواق مصر وسلطانها إلى ما وراء خط الاستواء، ودخلت زنجبار وأوغندا تحت حماية مصر، وبدأ بمد الخط الحديدي من حلفا وسواكن، وامتلك سواحل البحر الأحمر، واكتشف معادن البترول والرصاص والحديد، وفتح دارفور، وضرب المثل بشمول الأمن والراحة لبلاد السودان.
ومن ولاة السودان الذين يذكرون بحسن الإدارة موسى باشا حمدي، فإنه قدم تلك البلاد على عهد سعيد باشا وإسماعيل باشا (1863-1865) وقمع الثورات في كردوفان، وألف مجلسا من الأعيان والوجوه، ووضع نظاما لجمع الضرائب وجعلها ثلاثة أنجم في السنة، وعين من الأهالي نظار أقسام ومعاونين، وألبسهم الملابس التركية، وطرد الأحباش من القلابات، وفي أيامه وصل إلى الخرطوم صموئيل باكر وزوجته؛ لاكتشاف منابع النيل الأبيض، ولمقابلة غرانت وسبيك اللذين أرسلتهما الجمعية الجغرافية الإنكليزية للغرض ذاته سنة 1858 بطريق زنجبار، وكانت إحدى الحملات العلمية التي أرسلها محمد علي سنة 1841 وقد وصلت إلى غاندوكرو.
ولما تولى إسماعيل باشا في 18 يناير 1863 جاء موسى باشا إلى مصر فأطلع إسماعيل باشا على حالة البلاد فأنعم عليه برتبة الفريق وأبقاه في منصبه إلى أن توفي هناك في 6 مارس 1865.
وخلفه جعفر باشا صادق، وفي ولايته عصى الجهادية في كسلة وعددهم أربعة آلاف جندي من السودانيين وألف من الباشبوزق الترك والشايقية؛ لأنهم لم يتناولوا رواتبهم، فتوسط بالأمر السيد محمد المرغني مؤسس الطريقة المرغنية فأعطاهم رواتبهم وأعادهم إلى الطاعة وساروا للغزو الذي رفضوا القيام به عند صدور الأمر لهم بذلك، وحاكم جعفر باشا العصاة وأدبهم تأديبا شديدا جدا.
وتلاه جعفر باشا مظهر (1866-1871)، وعلى عهده ضمت سواكن ومصوع إلى السودان (1866) وأوفده إسماعيل باشا إلى سواحل البحر الأحمر، وفي سنة 69 أرسل البلالي إلى بحر الغزال لاحتلاله، ووصل السير صموئيل باكر من مصر لتولي إدارة خط الاستواء ولمنع تجارة الرقيق.
وبعد عزل جعفر باشا مظهر سنة 1871 ولي ممتاز باشا (1871-1873) فأدخل إلى السودان زراعة القطن المصري، ولكنه أكثر من طلب الرشوة فشكاه السودانيون إلى إسماعيل باشا، فأمر بالقبض عليه والتحقيق معه وعزله.
وبعد عزله ولي إسماعيل باشا أيوب (1873-1877) فكانت فاتحة أعماله إزالة السدود من النيل الأبيض حتى انطلقت فيه المراكب، وقسم البلاد إلى مديريات وجعل كل مدير مسئولا عن مديريته، وعلى عهده عاد باكر من خط الاستواء وخلفه غوردون بطلب ولي عهد إنكلترا، وفي عهد ولايته فتحت دارفور وضمت إلى السودان على يد الزبير باشا، وأرسل إسماعيل باشا هيئتين علميتين لدرس حالة دارفور، وأرسل يرسم طريق السكة الحديدية من مصوع إلى كسلة، واحتل سنهيت لهذا الغرض، وابتاع إقليم آيلت من صاحبه لوقوعه وسط الأملاك المصرية بين حماسيم ومصوع، فأغضب ملك الحبشة يوحنا الذي رفع الأمر إلى الدول ولا سيما إنكلترا، فلم يهتم له إسماعيل باشا، ووجه نظره إلى هرر، وهي سلطنة إسلامية منذ الفتح الإسلامي مات سلطانها أحمد فاستبد بالأهالي خلفه محمد، فطلبوا من إسماعيل باشا واليا عليهم فقبل أن يجيب طلبهم وابتاع بربر وزيلع ميناءي هرر من الباب العالي مقابل 13365 جنيها في السنة (يوليو 1875)، وفي شهر سبتمبر 1875 أرسل رءوف باشا بحملة إلى هرر فقبض على الأمير محمد وقتله، وظلت هرر مصرية إلى أن أخلوها مع أقاليم السودان.
وكانت حماسيم سبب الحرب مع الحبشة وانكسار المصريين في 11 نوفمبر 1875 وفي 8 مارس 1876.
وخلف غوردون باشا إسماعيل باشا أيوب (77-79) فملأ السودان بالموظفين الأجانب، وبدأت الثورات كثورة السلطان هارون في دارفور، وثورة سليمان بن الزبير، وثورة رابح مولى الزبير، وثورة الصباحي في دارفور.
وفي سنة 77 بدأ إسماعيل باشا بمد الخط الحديدي من حلفا إلى الخرطوم، ولكنه لم يمد منه سوى 50 ميلا.
ولما خلف توفيق باشا إسماعيل باشا على عرش مصر (25 يونيو 1879) كان غوردون حاكما على السودان فاستعفى (7 سبتمبر 1879) فعين رءوف باشا خلفا له، وفي سنة 1880 قامت الثورة في الصومال فأخمدها حاكم هرر، وتلتها الثورة العرابية بمصر، ثم ثورة محمد أحمد.
وخلف عبد القادر باشا حلمي رءوف باشا (82-83)، ثم علاء الدين باشا، ثم غوردون الذي كانت مهمته إخلاء تلك البلاد فقط.
فأنت ترى مما تقدم أن المصريين تقدموا الإنكليز في كل شيء في الأقطار السودانية؛ فتقدموهم بمد السكك الحديدية، وفتح السدود، وإنشاء المدارس، وزرع القطن، وإبطال الرقيق وتمدين الأهالي، وإنشاء طرق المواصلات، حتى إن إسماعيل باشا كان يشتغل بتمهيد الطريق من وادي جوبا القائم الخلاف عليها الآن بين الإنكليز والطليان، إلى خط الاستواء.
وبعد أن استعيد السودان وجعل شركة بين مصر وإنكلترا في سنة 98 زار عباس باشا الثاني الخرطوم في 3 ديسمبر 1901 فألقى خطابه الذي تضمن الشكر للذين أتموا السكة الحديدية ومحوا سلطة التعايشي، وأعادوا الراحة والعدل، وقال: «إن العلمين الإنكليزي والمصري اللذين يخفقان معا هما إشارة إلى الحكومة المشتركة التي أخذت على عاتقها حماية الأهالي» وما شاكل ذلك فكان الفرق بين زيارة سلفائه وزيارته عظيما جدا كالفرق بين الحالتين، وزار اللورد كرومر معتمد إنكلترا - الذي أكره حكومة مصر على ترك السودان - تلك البلاد ثلاث مرات الأولى سنة 1899 والثانية 1900 والثالثة 1903 فألقى الخطب ووعد بالإصلاحات ... إلخ؛ لأن الأمر في السودان صار أمره، وفي تلك الخطب وضع البرامج للأعمال القائمة هناك كأعمال الخزانات وسواها، وكانت خطبه تحقيق نبوءة غلادستون سنة 1877 بقوله: «إذا نزلنا في مصر ذهبنا إلى السودان، وإذا ذهبنا إلى السودان مددنا أيدينا من خط الاستواء إلى جنوب أفريقيا، وأتممنا تأليف إمبراطوريتنا الأفريقية.»
السودان مصري فقط
قبل أن تكره حكومة مصر على إخلاء السودان بأمر الحكومة الإنكليزية عرض على عبد القادر باشا حلمي وهو وزير الحربية سنة 1885 أن يعود إلى السودان فيسكن ثائرته. فاشترط لذلك شرطين؛ الأول: أن يعطى 15 ألف جندي، والثاني: أن تتحول الحكومة الإنكليزية عن طلب الجلاء. فارتضوا بالشرط الأول ولم يرتضوا بالشرط الثاني؛ لأن الغرض لم يكن إعادة السودان إلى أمه مصر، بل إخراج من كانوا في السودان وهم نحو 40 ألفا من المصريين وسواهم، فأبت نفسه قبول هذه المهمة، وعبد القادر باشا تولى حكم السودان من سنة 1882 إلى سنة 1883، وتمكن من كبح جماح العصاة وإخماد الفتنة في سنار رغم ضعف قوته، وكان كلما طلب نجدة أجابوه أن الإنكليز حلوا جيش عرابي وليس لمصر جيش ثان، ولكن هذا القول لم يثبط همته حتى رأى أن خلفه وصل إلى الخرطوم بينما هو مشتغل بإعادة تنظيم سنار.
ولعبد القادر باشا كلمة تفضح سر عزله وردت في كتاب السودان لمؤلفه نعوم بك شقير قال: «سألت عبد القادر باشا: لماذا استدعيت من السودان وأنت ناجح في تدويخ الثوار وإعادة السلام إلى ربوعه؟» فأجاب: «إنهم اتهموني بالطمع بالاستقلال» وهذه الكلمة لا ندرك مغزاها إلا إذا عدنا إلى الروح التي كانت سائدة يومئذ، وتلك الروح هي روح الخوف من بقاء الإنكليز في مصر حتى أخذ بعضهم يجهر باستخدام السودان وما فيه من قوة لطرد الإنكليز من وادي النيل، وكان جمال الدين الأفغاني يتظاهر بذلك وينادي به ويدعو الرسل ليذهبوا إلى تنشيط المهدي محمد أحمد وتنظيم قوته لهذا الغرض، وشعر عبد القادر ذاته بممالأة فريق من الموظفين للمهدي والثوار عملا بهذه الروح فعزلهم، ولما سأل اللورد سالسبوري منشئ الأهرام عن ثورة السودان قاله له: «إنها ثورة؛ أي فتنة محلية جعلتموها أنتم الإنكليز بخطتكم وسياستكم ثورة عامة، فاتركوا السلطة للخديوي يستعد السودان حالا، وتخضع له جميع القبائل» ولم يكن شيء من ذلك يغيب عن الإنكليز كما أنهم يعرفون أكثر من سواهم أن والي مصر محمد سعيد باشا زار السودان في سنة 1858 وجهر في الخرطوم بأنه ينوي سحب جيوشه ورجال حكومته من تلك البلاد؛ فجاء مشائخ القبائل وأعيان السودانيين من كل حدب وصوب يتوسلون إليه بألا يفعل، وأعادوه عن عزمه الذي لم يفصح لنا التاريخ عن سببه حتى الآن. أليس في ذلك دليل على ميل السودانيين وتمسكهم بولاية مصر عليهم؟
إن سعيدا ذاته عين وهو في الخرطوم بعد ذلك الطلب الذي طلبه المشايخ والأعيان والوجوه كاتبه الأرمني أراكيل أفندي واليا على تلك البلاد فهب أولئك الأعيان ذاتهم للشكوى والفتنة «لأن الوالي عين نصرانيا حاكما لبلادهم» فلم يفعل أراكيل ما فعله غوردون وسواه؛ بل قصد الجماهير الحاشدة للثورة عليه، ووقف في جمعهم، وقال لهم: «إذا كنتم قد نقمتم على حكومة الوالي لأنه عينني حاكما عليكم فهذا دمي أريقوه، وظلوا على الولاء لحكومة مصر» فانطفأت جذوة غضبهم، وتحولوا من الفتنة إلى الطاعة، وتقدموا لخدمة الحكومة في ضبط الأمن والراحة في أنحاء السودان كله.
وهذا المهدي الذي مثلوه غولا قامت الثورة في جميع أنحاء البلاد لقيامه إذا أخذنا تاريخه عرفنا أنه كان كهؤلاء الذين يدعون المهدية في هذا العهد، فمنذ دخول كتشنر السودان إلى اليوم قام 15 مهديا في تلك البلاد، والتف حول كل واحد منهم جماعة من الناس لسذاجتهم، ولكن بعض الجنود تمكنوا من أخذهم من نواصيهم، وحادثة أبي السعود الضابط الذي أرسله رءوف باشا حاكم السودان إلى محمد أحمد يوم قيامه ودعوته مشهورة؛ فإن أبا السعود وصل إلى الرجل وهو في غار مع أصحابه فاحتقر أمره وتركه، ولو أنه أراد تكبيله أو التنكيل به لما عز عليه الأمر ولا صعب، ولكن الفتنة التي بدأت على ما رأيناها وأنكرها علماء السودان ذاتهم تحولت بعد ذلك وشملتهم جميعا للأسباب التي ذكرناها، ويثبت ما تقدم منشور ونجت باشا إلى السودانيين يوم تعيينه حاكما على السودان وسردارا للجيش المصري، وونجت باشا أكبر خبير بأميال السودانيين وعواطفهم، ولخبرته بهذه الأميال والعواطف لم يقل لهم أنه معين لإدارة بلادهم من حكومة جلالة الملك والخديوي، ولكنه استهل منشوره بالعبارة الآتية:
فإن سمو الأمير خديوي مصر عباس باشا حلمي الثاني - حرسه الله - قد اختارني لأن أكون سردارا لجيشه وحاكما عاما للأقطار السودانية بعد اتفاقه مع دولة بريطانيا العظمى على ذلك إلخ.
وختم منشوره بقوله: «والله المسئول أن يكون لي عونا على تنفيذ إرادة سمو الخديوي المعظم.»
فقد جعل الاتفاق مع إنكلترا غامضا في التعبير عن تعيينه؛ ليفهم السودانيون أن الخديوي قد عينه منفردا بهذا التعيين كعادتهم في العبارات السياسية .
فأي قول فوق هذا القول يدحض مزاعم القائلين بنفور السودان من حكم مصر وعد السودانيين أمة منفصلة عن الأمة المصرية، ولولا وثوق الجنرال ونجت من ميول السودانيين وعواطفهم لافتتح منشوره باسم جلالة الملكة، ولأورد اسم حكومة مصر أو خديويها على الأسلوب الذي أورد فيه اسم «دولة بريطانيا العظمى».
وإذا نحن عدنا إلى كتاب الجنرال ونجت ذاته وإلى غيره من المؤلفين عرفنا أن الذين يعتد بهم في السودان ويعدون الأمة السودانية هم العرب الذين وفدوا على السودان من مصر، فهم الأسياد وهم أصحاب النفوذ وهم السودان.
فإذا أخذنا بقولهم هم وبقول علمائهم فليقل لنا أولئك الكتاب الذين يزعمون أن مصر أمة والسودانيين أمة كيف التوفيق بين أقوال المؤرخين الخبراء من الإنكليز ذاتهم وبين ادعائهم هم، ألا يحق لنا أن نقول إنه ادعاء لا يبرره سوى السياسة أو هو ادعاء لتبرير السياسة فقط. •••
لم يكن خروج الجيوش المصرية من السودان في سنة 1884 و1885 تخليا عن السودان حتى يصبح «ملكا لا مالك له» فيستبيح دخوله وامتلاكه كل من استطاع إلى ذلك سبيلا؛ بل عد إخلاء السودان عملا عسكريا فقط قضت به الضرورة العسكرية، والشاهد الأكبر على ذلك الأمر العالي الخديوي الصادر في 15 يناير 1884 فإن هذا الأمر نص صريحا على إلحاق إقليم السودان المصري بوزارة الحربية المصرية، وظل هذا الأمر نافذا، وظلت وزارة الحربية تتولى شئون السودان إلى أن انتهت الثورة واستعيدت البلاد، والشاهد الثاني: كتاب بطرس باشا غالي وزير الخارجية المصرية إلى اللورد كرومر في 9 أكتوبر سنة 1898 ردا على مذكرة منه، قال فيه ما نصه: «إن حكومة سمو الخديوي كما تعرف سيادتكم لم تهمل في وقت من الأوقات أمر العودة إلى احتلال أقاليمها في بلاد السودان، تلك الأقاليم التي هي منبع حياة مصر، وهي إذا كانت قد انسحبت منها مؤقتا فإنما كان ذلك عقيب ظروف بقوة قاهرة، فاستعادة الخرطوم لا توصل إلى الغرض المراد منها إذا لم يعد وادي النيل كله - الذي ضحت مصر في سبيله الضحايا العظيمة - إلى يدها وقبضتها، ولعلمي أن مسألة فاشودة هي الآن موضوع المكالمة بين بريطانيا العظمى وفرنسا، فالحكومة المصرية قد كلفتني أن أسأل سيادتكم أن تولينا وساطتكم الطيبة لدى اللورد سالسبوري حتى يعترف لمصر بحقوقها التي لا تقبل شكا، وحتى تعاد إلى مصر جميع الأقاليم التي كانت لها إلى يوم فتنة محمد أحمد.»
وإذا كان كتاب بطرس باشا غالي قد اتخذ يومئذ حجة على فرنسا في فاشودة فإنه يعد أيضا حجة قائمة على الإنكليز إلى الأبد؛ فالإنكليز اعتمدوا في مكالمة الفرنساويين في مسألة حدود السودان المصري على هذا الكتاب، وعلى الخريطة التي وضعها غوردون سنة 1879 وفي كتاب بطرس باشا ذكر «الأقاليم التي كانت تحكمها مصر حتى ثورة المهدي» ومعلوم أن أمين باشا كان يحكم إقليم خط الاستواء حتى 10 يناير 1889، وفي خريطة غوردون أن من إقليم لادو المنطقة الواقعة على الضفة اليسرى من النيل في سورمست، وهي المنطقة التي تصل بحيرة فيكتوريا نيانزا ببحيرة ألبرت نيانزا، وعلى هذه المنطقة يخفق الآن العالم الإنكليزي وحده، ولم يكن في سنة 1884 شريك للعلم المصري في تلك الأرجاء، وتدل خريطة غوردون أيضا على أن هرر وزيلع وبربره أراض مصرية، وقال غوردون: إن حاميتها كانت 3400 جندي، ونفقات بربره 17229 جنيها، ونفقات زيلع 5061 جنيها، ونفقات هرر 43229 جنيها، وأن مصوع كانت تابعة لسواكن.
وقد عرف القارئ من كلامنا السابق أن إنكلترا عاملت السودان معاملة «ملك لا مالك له» فظلت تأخذ منه وتعطي حتى سنة 1895 أي حتى اتفقت مع ألمانيا وإيطاليا، وشعرت بثبوت قدمها في مصر، فعادت إلى التمسك بحقوق مصر ولم يحسب لمصر في ذلك كله حساب حتى إن اتفاقها مع وزير خارجية مصر في 19 يناير 1899 لم تقره الأمة المصرية وهيئتها النيابية، وهو ذلك الاتفاق الذي يجعل إنكلترا شريكة مصر في السودان، وأجمع رجال القانون على أن هذا الاتفاق مخالف للشرائع والقوانين .
سلخ السودان وطريق المواصلات الإمبراطورية
مصر والسودان وقناة السويس وفلسطين والعراق وإيران لازمة لإنكلترا؛ لأنها طريق الهند كما يقول اللورد كرزون فيصفق النواب لقوله ولبلاغة حجته (؟) وإذا قالت مصر: السودان مني ولي وأنا له وهو حياتي ومني وحدي كانت حياته. صاح الكتاب الإنكليز يا لها من بدعة ويا للحق من الجور؟!
ظلت إنكلترا قرنا تنقض من قوة مصر وتأبى عليها النمو إلى أن غنمت فرصة ثورة عرابي على الحكومة بحجة تحويل الحكم إلى يد الشعب فاحتلت البلاد، فاختل حبل الأمن في السودان فكانت إذا قال لها العالم: مصر. تجيبه: السودان. إلى أن جعلته شركة بينها وبين مصر يحلل هذه الشركة التي أمرت بها إنكلترا أمرا ولم يراع فيه شرع ولا قانون «أن الدول لم تعترض عليها» كما قالت المانشستر غارديان، وتجاهلت أن تركيا احتجت وهي صاحبة الشأن على فصل مصر عن السودان.
وتقول التيمس: إن مصر أمة والسودان أمة أخرى، ويضاعف في ذلك كله أن السودان إذا أعطي لمصر فإن الأوغندا وراء السودان، ومنها تحول مياه النيل عن مصر كما يقول الكتاب الآخرون، ويتجاهلون أن الأوغندا كانت تابعة لمصر قبل أن يأكلوها ثم يحاولون هضم السودان. •••
بدأت حياة مصر المستقلة سنة 1841 بالمعاهدات بين الدول وبالفرمانات المستندة إلى تلك المعاهدات، وهذه الفرمانات تجعل في إدارة محمد علي وذريته - أي مصر الممثلة بأميرها وواليها - بلاد النوبة ودارفور وكردوفان وملحقاتها أي السودان كله، فبسط أمراء مصر حكمهم، ووطدوا إدارة ملكهم حتى خط الاستواء، وفي سنة 1870 لم تكتف مصر بذلك؛ بل أرسلت حملة على رأسها صموئيل باكر إلى منابع النيل، وأخضع الزبير بحر الغزال، ونظم غوردون خط الاستواء، وفي سنة 1874 أبرم صاحب الأوغندا معاهدة مع مصر قبل فيها حماية مصر على بلاده، وعين إسماعيل باشا لنا ن دي بللفون بك حاكما على السودان الشرقي، وقسمت بلاد السودان إلى 16 مديرية، وكل مديرية إلى دور وأخطاط، ووضع شالو بك المهندس الأكبر لبلاد السودان خطط تلك البلاد الطبيعية والسياسية، ومنها يؤخذ أن الأقسام السياسية كانت: (1)
خط الاستواء . (2)
بحر الغزال. (3)
فاشودة. (4)
الفاشر. (5)
دارا. (6)
توغا. (7)
سولكون. (8)
كبكبية. (9)
كردوفان. (10)
خرطوم. (11)
سنار الفازوغلي. (12)
القضارف. (13)
القلابات. (14)
تاكا. (15)
بربر. (16)
دنقلة.
وكانت الخرطوم القاعدة لمساحة 1500 كيلو متر طولا، وفاشودة قاعدة الحامية على مجرى النيل حتى البحيرات النابع منها، وفي سنة 1865 كتب باكر
1
بك عن السودان يقول: «يستطيع السائح الأوربي أن يطوف هذه البلاد - التي تعادل مساحتها فرنسا وألمانيا وإنكلترا معا - وهو في أمن وراحة قد لا يلقاها المتنزه في هيدپارك - حديقة لندن الكبرى - إذا تأخر فيها مساء. أما الأهالي فلينو العريكة مطواعون لحكومتهم» فماذا غير هؤلاء في 20 عاما؟ وكيف اتقدت ثورتهم والثورة العرابية بوقت واحد؟ ذلك سر - يقول جميع المؤرخين - مفتاحه بيد الإنكليز، ومما قال شايه لونغ بك الذي انتدبه إسماعيل باشا لبسط حماية مصر على الأوغندا، وإبرام المعاهدة مع ملكها «متزه» في كتابه «مصر وأملاكها الضائعة»: «إن إدارة غوردون وباكر هي التي أغضبت السودانيين وأثارت ثائرتهم، ولا شك ولا ريب بأن إنكلترا تركت النار تتقد؛ ليكون لها فيه مبرر لإخراج مصر والحلول محلها، ولكنها لم تدبر الثورة المهدية» فالسودان هاج لإلغاء الرقيق واحتكار سن الفيل ولشدة الموظفين، ولكن هياجه كان محليا فقابلت إنكلترا ذلك بملء الارتياح، ولعبت بعقل عرابي حتى سحب الجيش من السودان فلم تبق هناك قوة ما، وقد أثبت الجنرال ونجت هذه الأسباب الثلاثة في كتابه: «المهدية والسودان» ولكن مصر ظلت قادرة على إخماد الفتنة بعد سنة 1882 لولا أن الإنكليز أرسلوا رجالهم ليتولوا الأمر فكتب هوبار باشا إلى التيمس في 3 فبراير 1885 يقول: «والآن صارت ثورة السودان حربا دينية يقوم بها المسلمون ضد المسيحيين الذين مدوا يدهم لامتلاك هذه البلاد» ولكن موظفي الاستعمار ظلوا على نغمتهم بأن الثورة ناجمة عن ظلم الموظفين المصريين، ولما أرسل عبد القادر باشا في سنة 83 إلى الخرطوم كسر الثوار لأول مرة وسكن جهات سنار ثم كسرهم مرة ثانية وبسم له الفوز في كل مكان على قلة عدد جنوده، ولكن ذلك لم يرق للإنكليز فأشاروا بتعيين علاء الدين باشا حاكما على السودان، وجردوا حملة هيكس برياسة سليمان نيازي باشا الاسمية، وتلقى سليمان نيازي باشا الأوامر بأن يتبع إشارة هيكس، ولكنهم رأوا أن يعزلوه من منصبه لأنه عسكري ومن الممكن أن ينازع هيكس في إرادته، وعينوا علاء الدين باشا الذي لم يكن عسكريا حتى يخضع ويطيع؛ فكانت النتيجة ضياع الحملة كلها، ونهوض السودان كله للثورة حتى كتب غوردون في مذكراته: «عندما أفكر بما ضحي من حياة الرجال في السودان منذ سنة 1880 لا يمكني أن أمنع نفسي عن حب الانتقام من السير أو كلدكولفين والسير أدوار مالت والسير تشارلس ديلك؛ لأنهم هم الذين دبروا ذلك كله»، ويقول سلاتين باشا: إنه تلقى الأوامر في سنة 1883 ليجمع جنوده في الفاشر، وليختار واحدا من سلالة الملوك القدماء هناك فيسلمه البلاد، ويجلو عنها.
لم تكتف السياسة الإنكليزية بذلك بل قضت على مصر بأن تخلي السودان، وزادت على ما تقدم بأن وجود الإنكليز في مصر لازم خوفا على القاهرة من عصابات الدراويش كأن الدراويش صاروا جيوشا منظمة تقهر مصر التي مزقت قبل ذلك بخمسين سنة أقوى الجيوش المنظمة وأمتنها وأكثرها عدة.
حدثت واقعة هيكس يوم وصول أفلن بارنغ (اللورد كرومر) إلى مصر فأبلغ الخديوي أن إنكلترا لا تهتم بالسودان ولا تساعد مصر على البقاء فيه أو استعادة بعض أقاليمه، وشرح اللورد ملنر كلام أفلن بارنغ للخديوي بقوله: «إن الرجل التعب المنهوك القوي الفقير - كما كانت مصر يومئذ - لا يكون له بد من أن يتنازل عن بعض أملاكه مخافة أن يناله الإفلاس» فأجاب الخديوي السير أفلن بارنغ أنه لا يستطيع ترك السودان، وإذا كانت مصر لا تلقى المساعدة لتعزز جيشها فهو يفضل أن يلجأ إلى سلطان تركيا في هذه المساعدة، فأجاب بارنغ: «ولكن على شرط أن لا تدخل الجنود العثمانية مصر وأن تجعل سواكن مركزها» وفي اليوم التالي حمل إلى الخديوي «المشورة والنصيحة بترك السودان» حتى يصبح بلا سيد فتبسط إنكلترا سيادتها عليه، ولما رفضت الوزارة المصرية ترك السودان أكرهت على الاستعفاء، وقال اللورد ملنر: «إن الحكومة البريطانية اتبعت رأي معتمدها وأمرته بأن يبلغ الحكومة المصرية التحتيم عليها بترك السودان حالا، وإذا أبى أحد الوزراء فليستعف، وبذلك كذبنا يومئذ النظرية القائلة بأن سياسة مصر والسودان لا تعنينا.»
وأغرب ما في الحجج التي قدمها اللورد كرومر للخديوي توفيق ليجلي جنوده عن السودان أن حكومة مصر تنفق على السودان 640 ألف جنيه ولا تحصل من السودان سوى 480 ألف جنيه فلا يجوز أن تنفق مصر في السودان في كل عام 160 ألف جنيه، وكانوا يستكبرون تجريد 16 ألف جندي مصري وسوداني لتدويخ السودان، ولكنهم لما صار السودان لهم وجدوا هذا العدد قليلا فزادوه من كل سلاح وهيئة على حساب مصر وعلى نفقة الخزنة المصرية. •••
أما مديريات السودان كما نظمت بعد استعادته واقتطاع أطرافه فهي على الوجه الآتي: (1)
حلفا:
وهي تتناول حلفا والمحس وسكوت. (2)
دنقلة:
وهي تتناول أرقو ودنقلة الأودري والخندق والدبة وكورتي ومروي. (3)
بربر:
وهي تتناول الرباطاب وبربر ومدينة بربر والدامر وشندي. (4)
الخرطوم:
تتناول مدينة الخرطوم وحدها. (5)
مديرية الجزيرة:
تتناول الكاملين والمسلمية ورفاعية وود رملي وعبود والكوة القطنية وقوز أبي جمعة. (6)
مديرية سنار:
تتناول سنار وشيخة ووادمدني والرصيرص والدندر ودار الفونج وأبو نعامة. (7)
مديرية النيل الأعلى:
تتناول كودوك وهي فاشودة التي غيروا اسمها. (8)
مديرية بحر الغزال:
تتناول واو ومشروع الريك وديم الزبير وشامبي وشكوشك وتونج واورمبيك. (9)
كسكه:
تتناول كسله والقضارف والقلابات. (10)
سواكن:
تتناول سواكن وطوكر. (11)
كردوفان:
تتناول الأبيض وباره والدويم وخربي والنهود والشنوط والطيارة والدكن وتندك وجديد. (12)
دارفور.
هوامش
إخلاء السودان ليس تركه نهبا مشاعا
لو أن السياسيين قالوا للأمم الصغيرة أو الضعيفة إنا نمتلك أرضكم بحكم القوة لا بحكم آخر لسكت الضعفاء إلى أن يستعيدوا قوتهم فيعيدون بها ملكهم وحقهم، ولكن المدنية الحديثة في تطورها الجديد لم تتوصل إلى حمل الحكومات على أن تعدل عن القوة إلى الحق فتتخذه شعارا في القول ودستورا في العمل، فتمسكت بالقديم أي بالقوة، وأخذت تلبسها حلة الجديد أي حلة الحق والقانون بالقول فقط، وليس في مسائل العالم مسألة أظهر في ذلك وأجلى من مسألة السودان ومصر. فإن إنكلترا التي دخلت مصر باسم الدول، وتقدمتها في الدخول منشورات سلطان تركيا باعتبار عرابي ثائرا ومساعي الخديوي توفيق ومساعدة فريق كبير من عظماء مصر ورضا الدول، إنما هي دخلتها لتوطيد عرش الخديوي أو بالأحرى إبقاء الخديوي توفيق على العرش. فكان أول عمل عملته أن أكرهت الخديوي على سحب جنوده من السودان، ولكن الخديوي صاحب مصر والسودان أي صاحب النيل من وراء منبعه إلى ما بعد مصبه لم يسحب جنوده من تلك الأرض ليتركها نهبا مباحا لمن شاء امتلاكه؛ بل هو سحبها «لضرورة عسكرية ولأسباب حربية» فالسودان إذن ظل ملكا لمصر في عرف الدول وفي عرف القانون الذي يقولون إنه نظام تسير عليه جميع أعمالهم، وقبل أن يتم سحب الجنود المصرية من السودان نزلت الجنود الإنكليزية في سواكن وسواحل الصومال، والجنود الطليانية في مصوع، وقد قال اللورد دفرين في تقريره عام 1883 بضرورة انسحاب الجنود المصرية من الأقاليم الشرقية والغربية والجنوبية، ولكن ضميره لم يساعده يومئذ على القول بضرورة انسحابها من وادي النيل من منبعه إلى مصبه فقال: «إن بعض الأشخاص يميلون إلى نصيحة مصر بأن تنسحب من السودان كله، ولكنه لا ينتظر منها أن تسلم بذلك فمصر التي تعيش من النيل يحق لها أن تمتلك مجرى النيل كله، فيكفيها أن تنسحب من دارفور وكردوفان، وأن تظل الخرطوم وسنار في قبضتها.»
احتلت إنكلترا وادي حلفا وسواكن وبربرة وزيلع والأوغندا وخط الاستواء حالما خرج منها المصريون، وبذلك طوقت السودان من كل جانب.
وهكذا جعل حد مصر في 15 يونيو سنة 1885 بين الشلالين ولم يبق من الحكم المصري في السودان سوى مقاطعة خط الاستواء بيد أمين باشا. فأراد الإنكليز استئصال كل شيء فحملوا نوبار باشا على أن يكتب إلى أمين باشا كتابا في 27 مايو سنة 1885 يقول له فيه: إن حكومة الخديوي لا تستطيع مساعدته بشيء فهي تترك له الحرية التامة ليتدبر، وإذا شاء الانسحاب فليقصد زنجبار، وأحدثت إنكلترا ضجة في أوربا بشأن أمين باشا متظاهرة بالغيرة عليه مع أن أمينا كتب من ودلاي في 6 يوليو سنة 1886 يقول: إنه لا يريد شيئا وإن المديرية في منتهى الراحة والسكون، وكتب قنصل إنكلترا في زنجبار أن المصريين بقيادة أمين باشا لا يرضون مغادرة مديريتهم وأنهم هناك جميعا مخلصون لحكومة الخديوي، وكانت قوة أمين باشا مؤلفة من أورطتين مصريتين، فأذيع بينهما في 1887 أن أمين باشا سيتخلى عنهما، فذهب إليه 190 جنديا من تينك الأورطتين وأبلغوه أنهم لا يدعونه يغادر البلاد. فأفهمهم أمين باشا الحقيقة، وظل في منصبه يدير البلاد باسم خديوي مصر، ولما وصل ستانلي في 19 مايو 1888 إلى تلك الجهة بحجة إنقاذ أمين باشا قال له شكري أغا من ضباط الأورطة الأولى: «إن جنديا واحدا من جنود الخديوي لا يرضى الانسحاب من هذا البلاد.»
وكتب جون روث تروب رفيق ستانلي في مذكراته: «أن أمينا لا يود الانسحاب فلا يصح لنا الافتخار بحملتنا التي لم يكن الغرض منها خدمة الإنسانية، بل خدمة المطامع وحب الثروة» ولما عرض ستانلي على أمين باشا أن يستلم منه المديرية باسم إنكلترا أجابه: «إني لا أسلم، وماذا تقول عني حكومة مصر إذا أنا فعلت ذلك؟» وأغرب ما في هذه القصة أن ستانلي الذي أرسلته إنكلترا بدعوى إنقاذ أمين باشا من خط الاستواء أرسل إلى أمين باشا يطلب منه المساعدة لينقذه مما هو فيه حتى يتمكن من الوصول إليه فأرسل إليه أمين قوة أنقذته، ولما قابله ستانلي وطلب منه العودة معه أجابه أن الحكومة المصرية لم تأمرني بالجلاء بل تركت لي حرية العمل. فاقترح عليه ستانلي بعد رفضه الجلاء ثلاثة اقتراحات: (1)
إما أن يكون حاكما لخط الاستواء باسم بلجكا وباعتماد مالي قدره 300 ألف فرنك في السنة وبراتب 37 ألف فرنك. (2)
وإما أن يكون حاكما لإقليم الشرق الجنوبي باسم إنكلترا براتب يتناوله من إنكلترا. (3)
أو الجلاء والعودة إلى مصر.
فرفض أمين باشا أن ينتقل من ظل علم إلى ظل علم آخر.
وهكذا فشل ستانلي ورجع بخفي حنين، إلا أنه تلقى في شهر يناير سنة 1889 كتابا بأن «الضباط المصريين داخلهم الشك بأمين باشا وخافوا أن يجلو عن البلاد فأخذوا يرقبونه، وهؤلاء الضباط والموظفون الذين لم يتناولوا قرشا واحدا منذ خمس سنين صانوا ملك بلادهم واحتملوا كل شيء في سبيل وطنهم» على أن الإنكليز ظلوا يضغطون على أمين باشا حتى جلا عن البلاد بالتهديد في 10 أبريل سنة 1889، وبذلك الجلاء تقلص ظل مصر عن سائر جهات السودان، وطوي العلم المصري الذي ظلل تلك الربوع نصف قرن، وأخذت إنكلترا تنظم أعمالها فبسطت حمايتها على الأوغندا، وعقدت مع ألمانيا اتفاقا سنة 1890 تعترف به ألمانيا بنفوذ إنكلترا في أعالي النيل، وعقدت مع حكومة الكونغو البلجيكية اتفاقا آخر في سنة 1894 يقضي بأن ترضى حكومة الكونغو بمرور سكة حديد الكاپ بأرضها وترضى حكومة إنكلترا بمد نفوذ حكومة الكونغو على مجرى النيل غربا حتى فاشودة. فلما أعلن أمر هذا الاتفاق قال الموسيو هانوتو وزير خارجية فرنسا: «إنه اتفاق باطل؛ لأنه اتفاق على ملك لا تملكه إنكلترا وهو ملك السلطان المضمونة صيانته بمعاهدات دولية، والمتولي أمره خديوي مصر بمعاهدات تقضي بولايته.» ثم اتفقت فرنسا مع حكومة الكونغو على أن تحل محلها في تلك المنطقة «إلى أن يتمكن خديوي مصر من استعادتها فتعيدها إليه كما هي» وفي سنة 1895 خطب السير أدوار غراي مطالبا بحق مصر بحجة أن الإنكليز قوامون على مصالحها فرد المسيو هانوتو منكرا ذلك على إنكلترا، وكانت حملة مرشان سائرة إلى السودان وتبعتها الحملة المصرية بقيادة السردار كتشنر، وهي مؤلفة من 24 ألف مصري و5 آلاف إنكليزي، وأنفقت مصر على هذه الحملة بحساب جار فتحته لها خزانة إنكلترا؛ لأن فرنسا وروسيا أنكرتا على مصر أخذ المال من صندوق الدين حتى تكرها إنكلترا على إعلان خطتها في مصر، ولما دخل كتشنر بربر طلبت إنكلترا من فرنسا التخلي عن السودان المصري؛ لأنه من أملاك السلطان، وأن الإنكليز الذين يساعدون الخديوي إنما هم يساعدونه في استعادة أملاك بلاده، وعلى هذه القاعدة تنازلت فرنسا عن اتفاقها مع حكومة الكونغو إلى أن جاء اتفاق 19 يناير 1899 بين إنكلترا ومصر أو بالأحرى بين إنكلترا ونفسها فقال الناس جميعا إنه اتفاق لا يتفق مع شرعة أو قانون، ولكن اللورد كرومر امتدح اللورد سالسبوري مبرمه؛ لأنه «لم يعبأ بنص قانوني فأظهر شجاعة كبرى.»
ذلك التاريخ نورده على علاته وفيه الدليل الصحيح لمن أراد دليلا صحيحا على حلقة من حلقات القسر والشدة اللذين حلا بمصر منذ قرن كامل حتى وصلنا اليوم إلى سماع الكتاب الإنكليز وهم يقولون: أين أنتم من السودان وأين السودان منكم؛ بل حتى رأينا النيل ويكادون يخرجونه من قبضة مصر ليكون غلا في عنق سكانها، ومصر لم تترك السودان من يدها بإخلائه، ومصر استعادت السودان بدمها ومالها وهي لا تزال وحدها الحارسة الأمينة عليه المنفقة على أهله لتنظيمه، وجيش مصر والميزانية المصرية أكبر شاهد لمن أراد الشهادة.
فتح السودان واتفاق 1899
زحف الجيش المصري بقيادة السردار كتشنر باشا فالتقى بالسودانيين في عكاشه في أول مايو سنة 1896، وفي 7 يونيو استولى على فركه وهي على بعد 450 ميلا من حلفا، وفي 25 أغسطس وصل إلي كوشه، وفي 22 سبتمبر وصل إلى دنقلة،
1
وتقدمت طلائعه إلى المتمة، وعاد الإنكليز إلى مصر ليرتاحوا، وأقيمت للسردار كتشنر مأدبة خطب فيها اللورد كرومر فقال: «إن استعادة مديرية دنقلة ليست سوى الخطوة الأولى، وقد حل الوقت الذي يخفق فيه العلم المصري على أبراج الخرطوم.»
وفي 28 مايو 1897 استؤنف الزحف، ودخلت الجنود أبو حمد في 7 أغسطس، وفي 7 سبتمبر استولت السفن على بربر، ووصف الحملة يومئذ أحد المراسلين الإنكليز المرافقين لها بقوله: «وإنا لنتساءل اليوم عن خطر المهدية الذي كان يهدد مصر فأين هو وما هو؟» وفي 25 أكتوبر وصلت السفن إلى المتمة، وقال المستر دوكنس وكيل المالية المصرية في تقريره: «إن مديرية دنقلة كلفت الميزانية المصرية 8 ملايين جنيه» ووصل الخبر بأن الفرنساويين يحتلون فاشودة، فأسرع السردار بالزحف فوصلت طلائعه وسفنه إلى شندي، وفي 26 مارس وفي 8 أبريل أبيدت قوة الأمير محمود، وقررت الحكومة الإنكليزية أن تتنازل لحكومة مصر عن المال الذي أخذته منها في الحساب الجاري وقدره 798802 ج؛ لأن ثلث هذا المال أنفق على الخط الحديدي الذي مد مع الجيش وهو يعد بمثابة شطر أو قطعة من سكة حديد «الكاپ-القاهرة» وفي الوقت ذاته تألفت في لندرة شركة لمشترى خطوط السكة الحديدية السودانية، ووصل سسل رودس إلى القاهرة ليفاوض حكومة مصر في ذلك فأذاعت «الأهرام» خبر محادثته مع مصطفى باشا فهمي يومئذ فاهتزت صحف العالم لهذا النبأ حتى أرسل السلطان عبد الحميد إلى الخديوي عباس مذكرة يحذره فيها من التنازل عن هذا الخط الحربي لدولة أجنبية؛ لأن هذا التنازل يعد مصادرة لنصوص فرمانات الولاية، وفي أول سبتمبر تقدمت المراكب فضربت أم درمان وهدمت قبة مقام المهدي، وعند فجر 2 سبتمبر هجمت جموع الدراويش فحصدتهم المدافع والرشاشات حصدا، ودخل كتشنر أم درمان.
وفي 15 سبتمبر 1898 استولى على معسكر الدروايش في رننج، وأخبره أميرهم أنه ذهب لامتياز الغلة في بلاد الشلوك فصده جماعة من البيض يمتنعون في قلعة فاشودة، وكان اللورد سالسبوري قد أرسل إلى اللورد كرومر في 2 أغسطس تلغرافا يقول له فيه: «إذا وصل الجنرال كتشنر إلى الخرطوم فليرسل السفن في النيل الأزرق والنيل الأبيض، فإذا عثر في أحدهما على الفرنساويين أو على الأحباش فليحذر أن يعمل أي عمل يعد اعترافا بنفوذهما في مجرى النيل.»
وفي 19 سبتمبر وصل السردار كتشنر إلى فاشودة حيث التقى بمارشان، وفي تلك الساعة حان وقت حل المسألة بين فرنسا وإنكلترا، وفي مساء 20 سبتمبر رفع العلم المصري هناك، وترك لحراسته نصف أورطة، وعاد كتشنر إلى الخرطوم، ومما يذكر من أقوال وزراء الإنكليز قول السير إدوار غراي «إنا لا نستطيع التسليم للفرنساويين بأعالي النيل؛ لأن النيل هو مصر ومصر هي النيل» ووصل الأمر بين فرنسا وإنكلترا إلى الحرب، فاستشارت فرنسا روسيا فأجابتها حكومة القيصر بأن تسوي المسألة حبيا مع محافظتها على شرف علمها.
وفي 4 أكتوبر قررت حكومة فرنسا سحب جنودها من فاشودة، وفي المساء ذاته أعدت في دار بلدية لندره حفلة فخمة إكراما للورد كتشنر، وأعلن رئيس الوزراء خبر جلاء مارشان عن فاشودة التي «لا أهمية لها في نظر حكومة الجمهورية».
وفي 21 مارس 1899 وقع الموسيو كمبون سفير فرنسا واللورد سالسبوري اتفاقا خلاصته أن حدود نفوذ فرنسا هي الجبال الفاصلة بين نهر الكونغو ونهر النيل، وانجلت الجنود الفرنساوية عن بحر الغزال، ولكن هذا الاتفاق لم يمس بشيء حقوق مصر ولكنه مس نفوذ فرنسا في واداي، ذلك النفوذ الذي بدأت وزارة فرسينه بهدمه في سنة 1882، وأتمت وزارة دلكاسه ذلك الهدم في سنة 1899، وإذا كان ديسكس من قواد ناپوليون قد حفر اسمه على جدار أنس الوجود في أسوان وهو يطارد المماليك فمحا ذلك الاسم عسكري إنكليزي لا يعرف قيمة للتاريخ فإن حاكم السودان غير اسم فاشودة بكدك حتى لا يظل ذلك الاسم تذكارا سيئا بين الإنكليز والفرنساويين.
على أن الإنكليز لم ينتظروا توقيع فرنسا لاتفاق 21 مارس سنة 1899 ليأمروا مصر بإشراكهم بملك السودان؛ بل وقع اللورد كرومر باسم إنكلترا وبطرس باشا غالي باسم مصر في 19 يناير من تلك السنة اتفاقا في 12 مادة جاء في مقدمته ما نصه:
حيث إن بعض أقاليم السودان التي خرجت عن طاعة الحضرة الفخيمة الخديوية قد صار افتتاحها بالوسائل الحربية والمالية التي بذلتها بالاتحاد حكومتا جلالة ملكة الإنكليز والجناب العالي الخديوي.
وحيث قد أصبح من الضروري وضع نظام مخصوص لأجل إدارة الأقاليم المفتتحة المذكورة وسن القوانين اللازمة لها بمراعاة ما هو عليه الجانب العظيم من تلك الأقاليم من التأخر وعدم الاستقرار على حال إلى الآن، وما تستلزمه حالة كل جهة من الحاجات المتنوعة.
وحيث إنه من المقتضى التصريح بمطالب حكومة جلالة الملكة المرتبة على ما لها من حق الفتح وذلك بالاشتراك في وضع النظام الإداري والقانون الآنف ذكره، وفي إجراء تنفيذ مفعوله، وتوسيع نطاقه في المستقبل.
وحيث إنه تراءى من جملة وجوه أصوبية إلحاق وادي حلفا وسواكن إداريا بالأقاليم المفتتحة المجاورة لها.
فلذلك قد صار الاتفاق والإقرار فيما بين الموقعين على هذا بما لهما من التفويض اللازم لهذا الشأن على ما يأتي:
المادة الأولة:
تطلق لفظة السودان (وقد أهملوا بالاتفاق كلمة السودان المصري) على جميع الأراضي التي لم تحتلها الجنود المصرية منذ سنة 1883، والأراضي التي كانت بإدارة الحكومة المصرية قبل الثورة الأخيرة وفقدت منها موقتا ثم فتحتها الآن حكومة جلالة الملك والحكومة المصرية بالاتحاد، والأراضي التي قد تفتحانها بالاتحاد من الآن فصاعدا.
المادة الثانية:
يستعمل العلم البريطاني والعلم المصري معا في البحر والبر بجميع أنحاء السودان، ما عدا مدينة سواكن فلا يستعمل فيها سوى العلم المصري.
المادة الثالثة:
تفوض الرياسة العليا العسكرية والمدنية في السودان إلى موظف واحد، يلقب: حاكم عموم السودان، ويكون تعيينه بأمر عال خديوي بناء على طلب حكومة جلالة الملكة، ولا يفصل عن وظيفته إلا بأمر عال خديوي يصدر برضاء الحكومة البريطانية.
المادة الرابعة:
كافة القوانين وكافة الأوامر واللوائح التي تكون لها قوة القانون المعمول به والتي من شأنها تحسين إدارة حكومة السودان أو تقرير حقوق الملكية فيه بجميع أنواعها وكيفية أيلولتها والتصرف فيها يجوز سنها أو تحويرها أو نسخها من وقت إلى آخر بمنشور من الحاكم العام، وهذه القوانين والأوامر واللوائح يجوز أن يسري مفعولها على جميع أنحاء السودان أو على جزء معلوم منه، ويجوز أن يترتب عليها صراحة أو ضمنا تحوير أو نسخ أي قانون أو أية لائحة من القوانين أو اللوائح الموجودة.
وعلى الحاكم العام أن يبلغ على الفور جميع المنشورات التي يصدرها من هذا القبيل إلى وكيل وقنصل جنرال الحكومة البريطانية بالقاهرة وإلى رئيس مجلس نظار الجناب العالي الخديوي.
المادة الخامسة:
لا يسري على السودان أو على جزء منه شيء ما من القوانين أو الأوامر العالية أو القرارات الوزارية المصرية التي تصدر من الآن فصاعدا إلا ما يصدر بإجرائه منها منشور من الحاكم العام بالكيفية السابق بيانها.
المادة السادسة:
المنشور الذي يصدر من حاكم عموم السودان ببيان الشروط التي بموجبها يصرح للأوربيين من أية جنسية كانت بحرية المتاجرة أو السكنى بالسودان أو تملك ملك كائن ضمن حدوده لا يشمل امتيازات خصوصية لرعايا أية دولة أوربية.
المادة السابعة:
لا تدفع رسوم الواردات على البضائع الآتية من الأراضي المصرية حين دخولها إلى السودان، ولكنه يجوز مع ذلك تحصيل الرسوم المذكورة على البضائع القادمة من غير الأراضي المصرية، إلا أنه في حالة ما إذا كانت تلك البضائع آتية إلى السودان عن طريق سواكن أو أي ميناء آخر من موانئ ساحل البحر الأحمر لا يجوز أن تزيد الرسوم التي تحصل عليها عن القيمة الجاري تحصيلها حينئذ على مثلها من البضائع الواردة إلى البلاد المصرية من الخارج، ويجوز أن تقرر عوائد على البضائع التي تخرج من السودان بحسب ما يقدره الحاكم العام من وقت إلى آخر بالمنشورات التي يصدرها بهذا الشأن.
المادة الثامنة:
فيما عدا مدينة سواكن لا تمتد سلطة المحاكم المختلطة على أية جهة من جهات السودان، ولا يعترف بها فيه بوجه من الوجوه.
المادة التاسعة:
يعتبر السودان بأجمعه ما عدا مدينة سواكن تحت الأحكام العرفية، ويبقى كذلك إلى أن يتقرر خلاف ذلك بمنشور من الحاكم العام.
المادة العاشرة:
لا يجوز تعيين قناصل أو وكلاء قناصل أو مأموري قنصليات بالسودان، ولا يصرح لهم بالإقامة قبل المصادقة على ذلك من الحكومة البريطانية.
المادة الحادية عشرة:
ممنوع منعا مطلقا إدخال الرقيق إلي السودان أو تصديره منه، وسيصدر منشور بالإجراءات اللازم اتخاذها للتنفيذ بهذا الشأن.
المادة الثانية عشرة:
قد حصل الاتفاق بين الحكومتين على وجوب المحافظة منهما على تنفيذ مفعول معاهدة بروكسل المبرمة بتاريخ 2 يولية 1890 فيما يتعلق بإدخال الأسلحة النارية والذخائر الحربية والأشربة المقطرة أو الروحية وبيعها وتشغيلها» ا.ه.
هوامش
بعد الاتفاقين
بعد جلاء الفرنساويين عن فاشودة وقبل إبرام اتفاق 19 يناير بين مصر وإنكلترا واتفاق 21 مارس 1899 بين إنكلترا وفرنسا، تساءل الإنكليز - وقد خلا لهم الجو فباتوا ولا منازع ولا خصيم لهم - يتساءلون: أي السياسة يتبعون؟ أيضمون السودان إلى أملاكهم؟ إنهم إذا ما فعلوا لا يجدون مقاوما بعد إغضاء أوربا وخمول تركيا، وقالوا: إذا ما ضمت إنكلترا السودان إلى أملاكها بات السودان وكأنه الزورق المعلق به خيط كل ذي نسمة حية في مصر وضربة واحدة من مقص خفيف على ذلك الخيط النحيف تقطع الخيط، وضربة معول في مجرى النيل تحول ماءه أو بعض ذلك الماء عن مصر، وقال أصحاب هذا الرأي منهم: إن إنكلترا إذا ضمت السودان إلى أملاكها لا تعمل شيئا جديدا ولكنها تحول الموقوت إلى دائم. ألم ترفع علمها على الأوغندا وخط الاستواء وأونيور وبحر الغزال والخرطوم؟ ألم تنزل جنودها في سواكن وزيلع وبربره؟؟
على أن قوما آخرين اعترضوا على الضم، وأخذت الحكومة توازن بين الفائدة والخسارة، ولم يخطر ببالها أن تنظر إلى المسألة من الوجهة القانونية ولا إلى مواعيدها بالجلاء ولا إلى ما ماثل ذلك وحاكاه؛ بل نظرت إلى المنفعة.
وكانت للورد كرومر في النهاية الكلمة العليا فأبرم اتفاق 19 يناير 1899 بنصه وآرائه، وإليك خلاصة ما قاله عن ذلك في تقريره لعام 1899 وقد كان ذلك القول قاعدة سياستهم في ما بعد:
السودان هوة تبتلع الملايين كما يذوب الثلج في حر الشمس فهو سبب وهن المالية المصرية وضعفها، وقد أنفقت فيه إنكلترا مبالغ طائلة أملت استعادتها عند تصفية الحساب، ففي 4 أغسطس 1884 قرر مجلس النواب فتح اعتماد 300 ألف جنيه لحملة ولسلي لينقذ غوردون فوصل هذا الاعتماد الضئيل إلى 11 مليون جنيه، وفي سنة 1896 وعدت الوزارة مجلس النواب بأنها لا ترتكب مثل هذه الهفوة مرة أخرى. فإذا ضمت السودان إلى أملاكها فإنها تضاعف تلك الهفوة.
ذلك ما دعا اللورد كرومر إلى جعل السودان شركة بين مصر وإنكلترا فتغنم إنكلترا وتتحمل مصر متاعب الخدمة وأعباء النفقة، فمصر أنفقت على حملة دنقلة وحدها 8 ملايين جنيه، وإنكلترا أقرضت مصر مبلغ 798802ج ثم تنازلت لها عن هذا المبلغ، وأخذت حكومة مصر تبيع ما استطاعت بيعه بأمر إنكلترا، فباعت البواخر الخديوية والحياض، وحولت جميع الاعتمادات المفتوحة في أبواب الميزانية إلى نفقات السودان، وباعت التفاتيش والأراضي؛ حتى أخذت صحافة مصر تعنون تلك المبيعات بعنوان: «مصر في المزاد».
وقبل أن يعلن ذلك الاتفاق خطب اللورد كرومر في الخرطوم في 5 يناير فأشار إلى هذه الشركة الغريبة.
غريبة لأنه إذا ما قيل إن من الشركة بالحكم ما يكون مثنويا فإن هذه الشركة لا توازن فيها بين الشريكين؛ لأن لإنكلترا على ما نص قانون الشركة التفرد بالسيادة، وإذا ما قيل إن من الشركة في الحماية ما هو معروف كحماية إنكلترا وأميركا وألمانيا لجزر سامواي نفى الفعل هذا القول؛ لأن الحكومة الإنكليزية تعتبر السودان المصري أرضا مفتوحة بقوة جيوشها ويتولى إدارتها رجالها. قال المسيو دبانيه: «المسألة ليست مسألة قول وكلام فمصر تحت نظام الحماية الإنكليزية، وأما السودان فإن عمل مصر السلبي فيه يجعله فعلا أرضا من أملاك إنكلترا» أما إذا نظرنا إلى الاتفاق من الوجهة القانونية فإنا نحكم بلا تردد بأنه اتفاق باطل؛ لأنه لم يكن يسوغ لمصر عقد مثل هذا الاتفاق، ولا يسوغ للخديوي توقيعه وهو مولى من السلطان مع أملاك سلطانية، ولا يجوز لإنكلترا إبرامه لارتباطها بعهود ومواثيق مع الدول، وفوق هذا كله أنه لا يحق لمصر ولا لإنكلترا المساس بحقوق للدول.
ولما سئل اللورد سالسبوري في مجلس نوابهم في 6 فبراير 1899 عن اتفاق 1899 كان جوابه غريبا كقوله: «لقد ينقضي زمن طويل قبل أن يستولى الهدوء والسكون على السودان كما يستولى الآن على أحد شوارع لندن، وأوجه نظر السائل إلى رجل اشتهر في تاريخ إنكلترا حتى لقبوه بغليوم الفاتح على أنه لم يفتح إنكلترا وبلاد الغال كلها - إلى أن قال - إنا نضع يدنا على السودان لسببين؛ الأول: أن السودان من أملاك مصر التي نحتلها، والثاني: حق الفتح.» ولكن هذا القول يدفعه كتاب بطرس باشا غالي إلى اللورد كرومر في سنة 1898 وصدور الأمر الخديوي في 15 يناير 1884 بإلحاق السودان بوزارة الحربية، فالسودان لم يكن في حين من الأحيان «ملكا بلا مالك» حتى يصلح الادعاء فيه بحق الفتح وإنكلترا ذاتها احتجت على هذا الادعاء في سنة 1898 لما وصل مارشان إلى فاشودة، فقالت: إن للسودان مالكا هو الخديوي فلا يجوز لدولة من الدول احتلال هذا الملك مع وجود مالكه، أما حق الفتح فهو محفوظ لمصر وحدها؛ لأن محمد علي وإسماعيل لم يكونا مندوبي إنكلترا في فتح السودان، وإذا كانت إنكلترا قد ساعدت الخديوي عباسا الثاني على استعادة أملاكه أو بالأحرى على تسكينها وقطع دابر الثوار فيها، فهي لم تدع إلى ذلك ولم تشترط على الخديوي شرطا في عمل تطوعت له وتبرعت به، ولو أنها عقدت معه شروطا لكانت تلك الشروط باطلة؛ لأنه لا يملك حق التعاقد على أرض هي تحت سيادة سلطان تركيا. فأصح من قول اللورد سالسبوري يومئذ قول وزير الخارجية برودريك في جلسة 18 فبراير 1899: «نحن لم نرتبط في مسألة السودان بعهد ولا بقانون ولا نظام.»
على أنه جاء في اتفاق 19 يناير 1899 أن العلم المصري وحده يظل خافقا على سواكن، أي المدينة التي ظلت مصرية باعتراف الإنكليز، ولم تلغ منها سلطة المحاكم المختلطة إلا في 20 يوليو 1899، فلماذا أبقوا العلم المصري وحده مرفوعا عليها؟
هذا السر كشفه أحد الموظفين الإنكليز لمراسل جريدة الطان الفرنساوية بقوله: «إن الإنكليز (العارفين) مرتاحون إلى اتفاق 19 يناير، وأبقينا سواكن تحت العلم المصري كما كانوا يفعلون قديما بوضع الجريح في ثغرة السور قبل الهجوم، أو كما يفعلون اليوم بنصب مستشفيات الصليب الأحمر بدلا من الأبراج المدرعة، فنحن نبقي سواكن نصف مستقلة في طريق السودان لهذا الغرض، وماذا يهمنا بعد ذلك ما دام نفوذنا كاملا؟»
وإذا كانت إنكلترا قد اشترطت في الاتفاق إلغاء سلطة المحاكم المختلطة؛ فلأن إنشاء هذه المحاكم في سنة 1876 كان رغم إرادتها بعدما اتفقت في سنة 1870 مع ألمانيا على أن تطلق يدها في مصر ولم تنس حكم تلك المحاكم في سنة 1896 بإعادة الأموال إلى صندوق الدين، وكانت تعتمد على 62 مليون فرنك متوافرة في ذلك الصندوق للإنفاق على حملة السودان، ومما يدل أكبر دلالة على فعل السياسة في النفوس والآراء أن السير مكلريث - الذي امتدح المحاكم المختلطة في إحدى المجلات الإنكليزية امتداحا فضلها فيه على كل نظام قضائي - حمل عليها في سنة 1898 حملة شعواء وطلب إلغاءها، وجس بطرس باشا غالي بإشارة اللورد كرومر نبض الدول في ذلك فقابلت طلبه بالرفض وكان أشد الدول رفضا ألمانيا، فأجل الإنكليز المشروع إلى وقت ملائم وهذا الوقت هو الحرب، وقد رأيناها تمد أجل هذه المحاكم سنة فسنة إلى أن تلغيها أو تجعلها لها - أي محاكم إنكليزية - لولا هبة مصر للاستقلال والحيلولة دون مشروع الإنكليز. •••
هذا ما يقال في اتفاق 19 يناير 1899 الذي مكن إنكلترا من السودان، ولكن السردار كتشنر أراد مطاردة عبد الله التعايشي؛ ليقضي عليه، فوجه أخاه بحملة عددها 6 آلاف مقاتل فمات منها ربعها إعياء وتعبا، فعزله وتولى هو ذاته قيادة القوة التي فاجأت محمد شريف واثنين من أولاد المهدي في شكابة فقتلتهم وأحرقت القرية، وفي 25 نوفمبر 1899 فتكت حملة ونجت بعبد الله التعايشي وأمرائه، ولم ينج سوى عثمان دقنه، وقصد الجنرال ونجت ديريكات معسكر عبد الله التعايشي فتقدم إليه غلام في الخامسة عشرة وقال له: «الخليفة مات وأنا ابنه.» ثم وجد جثة عبد الله وهي ممزقة بالرصاص، وفوقه الأمير علي ودهيلا وأحمد فضيل، وإلى جانبه جثث الأمراء الآخرين، ونهض من بين هذه الجثث يونس الدقمي حيا، وفي شهر يناير 1900 أخذ عثمان دقنه أسيرا في جبل طوكر، وبذلك انتهت سلطة الدراويش.
ولما عين ونجت باشا حاكما للسودان طلب إرسال الزبير باشا إليه، وكان غوردون قبل سقوط الخرطوم يطلبه فلا يرسل، وكان الجنرال ونجت يقول: لو أنهم أرسلوا الزبير إلى الخرطوم عندما أحدق الخطر بغوردون لما هلك غوردون ولما سقطت الخرطوم، ولكن الأسباب التي حالت دون إرساله أو إرسال عبد القادر باشا في سنة 1884-1885 زالت في سنة 1899-1900 فأرسل إلى تلك البلاد بلاده وقد كان له فيها التاريخ المجيد فهو الذي سلم دارفور لحاكم السودان إسماعيل باشا أيوب بلا حرب ولا قتال.
ولما استتب الأمر في تلك البلاد أخذوا بمد الخطوط الحديدية، ووصف اللورد كرومر تلك المشروعات في تقريره سنة 1899، وفي سنة 1902 انتهت حرب إنكلترا في الترنسفال، وحان الوقت لإنجاز مشروع الكاپ-القاهرة، وجاءنا تشمبرلن وزير المستعمرات زائرا فقابل الخديوي في 6 ديسمبر من تلك السنة، وغادر السويس في 7 منه قاصدا الأوغندا وأفريقيا الجنوبية، وفي 3 يناير 1903 جهر اللورد كرومر بتلك المشروعات الكبيرة وهي استعمار السودان ثم وصل مصر والسودان بجنوب أفريقيا.
ومنذ اتفاق 21 مارس 1899 بين فرنسا وإنكلترا لم يقع حادث دولي آخر يستحق الذكر سوى اتفاق 1902 التجاري بين فرنسا ومصر، فقد وقعت مصر وحدها ذلك الاتفاق النافذ في مصر والسودان معا خلافا لما ورد في المادة السابعة من اتفاق 19 يناير 1899 بين مصر وإنكلترا، وعد إبرام هذا الاتفاق فوزا سياسيا عظيما للمسيو كوجردان معتمد فرنسا السياسي في القاهرة.
ولا مندوحة لنا في ختام هذا الفصل عن إيراد كلمة غلادستون في سنة 1877 عن عزم إنكلترا على احتلال مصر وبسط سلطانها على السودان. قال في فصل نشرته مجلة القرن التاسع عشر في شهر سبتمبر من تلك السنة: «إذا وطأت أقدامنا مصر كان ذلك بذرة صالحة لإنشاء إمبراطوريتنا الأفريقية الشمالية، ثم نتجاوز النيل الأبيض والنيل الأزرق إلى خط الاستواء ونمد من هناك أيدينا إلى الناتال والكاپ، ونبتلع الحبشة ونحن سائرون في طريقنا.»
فما يستثمرونه اليوم وضعوا أسسه منذ عهد بعيد، متذرعين بالقوة، وبالقوة وحدها لا فرق بين الأحرار منهم والمحافظين، وغلادستون الذي نورد أقواله شيخ أحرارهم بلا منازع.
أحرار ومحافظون
نشرنا كلمة المستر غلادستون زعيم الأحرار في سنة 1877 عن تطلع الإنكليز إلى احتلال مصر والمرور منها إلى السودان والمرور من السودان إلى خط الاستواء ومد اليد من هناك إلى الناتال والكاپ وهضم بلاد الحبشة أثناء السير، والآن نرجع إلى آراء النواب والصحف في ذلك بعد تجريد حملة «كتشنر» ففي منتصف 12 مارس 1896 تلقى السردار كتشنر باشا الأمر من حكومته بالزحف، وفي مساء 13 مارس أبلغ الخبر إلى رئيس الوزارة المصرية الذي حمله إلى الخديوي عباس في الليل، وفي 14 مارس دعي الرديف المصري إلى حمل السلاح، وفي 15 منه سافر الجنود إلى السودان وعينت عكاشة محلا للحشد، وفي 27 تولى السردار كتشنر قيادة الحملة، ومن 13 إلى 16 مارس 1896 شغل مجلس نواب إنكلترا أمر هذه الحملة فقالت الحكومة الإنكليزية: «إنها أمرت بها لصد الأحباش الذين استفحل أمرهم بعد وقعة عدوة وانكسار الطليان وانحصار قوتهم التي تحمي كسله» وقابلت لندره خبر زحف الحملة بملء الارتياح، ووقف لابوشير يستنكر أمر هذه الحملة في مجلس النواب فأعلن رئيس المجلس إقفال باب البحث والمناقشة، وقالت الدالي كرونيكل في وصف هذه الحملة: «إنها بمثابة وضع اليد نهائيا على القطر المصري، ومحو المواعيد التي كررت منذ سنة 1882، وإبلاغ فرنسا أنا لا نعبأ بمصالحها ولا بأمانيها ولا بعواطفها ولا بصداقتها وبغضبها.»
ووصفت الطان الفرنساوية الحملة يومئذ بقولها: «إن الشعب الإنكليزي شعب متاجر وهو ينزل السياسة منزلة الأعمال التجارية والقاعدة في التجارة: الربح جهد الطاقة وقلة النفقة جهد الطاقة.»
وانتقد السير ويليام هركور الحملة؛ لأنها تكلف إنكلترا أموالا وفيرة فرد اللورد كرزون «إن نفقات هذه الحملة التي لا يمكن تقديرها الآن حتى تقدير تقريبي ستكون على عاتق مصر» فارتضى النائب الحر بهذا البيان. ثم سأل المستر لابوشير وزير الخارجية بلفور عن قدرة مصر على الإنفاق فأجاب: «أنا أبلغت سفراءنا لدى الدول أنه إذا لم تستطع خزانة مصر الإنفاق فإنا سنأخذ المال من صندوق الدين المصري.» ثم زاد على ذلك قوله: «أما نحن فإذا أقدمنا على أمر فإنا لا نتقهقر، وأينما نزل العسكري الإنكليزي يجب أن يظل إلى الأبد.» فلم يرد لابوشير زعيم الأحرار بكلمة واحدة على هذا القول؛ لأنه عده قولا مرضيا مقنعا.
ولما دخل كتشنر الخرطوم وعرف أن مارشان في فاشودة اتحد الأحرار والمحافظون ضد الفرنساويين، فالدالي تلغراف مثلا عدت مارشان وقوته جماعة من الشاردين الذين لا مندوحة عن عقابهم، والتيمس أنذرت فرنسا بأن أقوال السير إدوار غراي في 27 مارس 1895 لا تتغير ولا تتحول وهي: «حيثما نزل جندي إنكليزي ظل أبد الدهر.»
وفي 12 أكتوبر 1898 خطب اللورد روزبري الحر في أبسوم فقال: «إن فرنسا ارتكبت ضدنا عملا عدائيا، فالأمة كلها وراء الحكومة تؤيدها فإذا هي ترددت لا تظل ساعة واحدة في كراسيها فإذا ادعت فرنسا أن في المسألة شرف علمها فإن العلم شيء ينقل ويحمل» وخطب المستر إسكويث الحر «أيضا» خطابا قال فيه: «إن الأمة تؤيد الحكومة، وليس بيننا وبين فرنسا خلاف في المبدأ، أي أن الملك لمصر»، وفي 26 أكتوبر ألقى المستر ريتشي الحر «أيضا» خطابا قال فيه: «إنا لا نسمح لفرنسا بأن تقاوم مشروعنا وهو وصل القاهرة برأس الرجاء الصالح» فقال السير إدوار غراي: «إن إنكلترا لا تتساهل بشيء مع فرنسا فمصر هي النيل، والواجب أن تكون لنا الرقابة على مجرى النيل كله من منبعه إلى مصبه.»
ومن هذه الأقوال كلها يعرف القارئ أن الأحرار الذين كانوا ينادون بالجلاء عن مصر باتوا على رأي المحافظين عندما وصل كتشنر باشا إلى الخرطوم، وتوج اللورد سالسبوري إجماعهم بتلغراف إلى سفير إنكلترا بباريز قال فيه: «إن جميع الأراضي التي كانت خاضعة للخليفة قد انتقلت الآن إلى يد الحكومة الإنكليزية والحكومة المصرية؛ فالأمر في ذلك لا يقبل الجدل.»
فإذا ما تعلم المصريون الاتحاد في مرافقهم ومصالحهم فإن أجل درس يتلقونه إنما هم يتلقونه من الإنكليز قبل سواهم ويتلقونه في سياسة إنكلترا في وطنهم وسودانهم أي في أنفسهم.
وما تريد أن يفعله الناس بك افعله أنت بهم.
اتفاق السودان في نظر رجال السياسة والقانون
كان اللورد كرومر صاحب اتفاق السودان أول المعترفين ببطلانه من الوجهة القانونية فامتدح اللورد سالسبوري الذي أقر هذا الاتفاق لشجاعته وإقدامه على عمل لا تجيزه الشرائع المعمول بها ولا القوانين النافذة أو المتفق عليها بين الأمم والشعوب، وقد كتب في ذلك رجال القانون والسياسة طويلا.
فقال السياسيون: إن الإنكليز نظروا إلى السودان المصري بعد إخلائه وبعد استعادته وبعد ظهور الدول بمظهر الخمول والإهمال نظرتين: نظرة الطامع به وضمه إلى أملاكهم، ونظرة السيطرة عليه وحصر منافعه بهم وتكليف مصر القيام بنفقاته وأعبائه. فقال دعاة الضم منهم: إنا إذا ضممنا السودان إلى أملاكنا لا نكون قد فعلنا شيئا جديدا، بل نكون قد حولنا هذه الحالة الموقوتة إلى حال دائمة. ألا ترانا وقد أخذنا من مصر الأوغندا وأونيورو وخط الاستواء وبربره وزيلع؟؟ فماذا كانت نتيجة ذلك؟ إن الأمر وقف عند حد احتجاج الباب العالي احتجاجا ضعيفا لم نعبأ به.
وقال دعاة الانتفاع وإبقاء عبء النفقات على مصر: لماذا نكلف أنفسنا تحمل المتاعب والنفقات ما دام مضمونا لنا الربح؟
فالحكومة الإنكليزية ترددت بين النظرتين وعادت إلى اللورد كرومر لتسأله رأيه، فأجاب اللورد كرومر إنه يميل إلى النظرة الثانية؛ لأنه متشائم من مصير السودان، وقال في تقريره لسنة 1899: «إن السودان كان دائما كالهوة تبتلع الملايين من الأموال فتذوب تلك الملايين التي تلقى فيه كما يذوب الثلج تحت عين الشمس في الصحراء، وإليه يعزى إفلاس الخزانة المصرية، ولقد أنفقت عليه إنكلترا مبالغ كبيرة كانت تأمل استعادتها عند تصفية الحساب، ولم يغرب عن الذهن أن حكومة إنكلترا لما وجهت حملة ولسلي لإنقاذ غوردون سنة 1884 فتحت لذلك اعتمادا قدره 300 ألف جنيه فوصل هذا المبلغ إلى 11 مليون جنيه كذلك كانت حملة 1896-1899 فإن مصر تحملت نفقاتها إلا 798802 جنيه تنازلت عنها إنكلترا لحسبان الخط الحديدي فرعا من سكة الكاب إلى القاهرة، ولكن مصر جعلت ميزانيتها كلها وكل ما تملكه من المعدات وقفا على الحملة وباعت البواخر الخديوية والحياض والسرايات والحدائق والأراضي وكل ما استطاعت بيعه لإنفاقه في هذا السبيل كما قلنا في كلمة سابقة.
أما أسباب تشاؤم اللورد كرومر من مستقبل السودان فهي: «قلة السكان وقلة الزراعة وانعدام الري واضمحلال التجارة والصناعة» لذلك أخذ الإنكليز بنظرية اللورد كرومر وهي أن يدعوا مصر تقوم بنفقات السودان وتعميره رويدا رويدا مع حفظ سيطرة إنكلترا وتقديم هذه السيطرة وتوسيعها مع تقدم السودان وعمرانه. ذلك هو منشأ اتفاق 19 يناير 1899 ذلك الاتفاق الذي لا مثيل له في المعاملات الدولية؛ لأنه ليس بالحكم المثنوي تتعادل فيه سلطة دولتين، والسلطة كلها محصورة بيد الإنكليز، ولا حماية مزدوجة؛ لأن الإنكليز يدعون أن السودان ملكهم بحق الفتح.
أما رجال القانون والشرع فإنهم يقولون: إن اتفاق 1899 باطل كل البطلان؛ لأنه لا صفة لمصر تخولها حق التعاقد؛ لأن مصر ولاية عثمانية مهما بلغت درجة استقلالها لا يجوز لها أن تعقد اتفاقا دوليا، أضف إلى ما تقدم أن الملكية محفوظة لتركيا وخديوي مصر الذي يعين بفرمان سلطاني هو في الحقيقة وال. فهو حارس لأملاك السلطان لا مالك لها؛ فلا يجوز له أن يتجاوز في أعماله حدود الفرمان الذي عين به، وهذا الفرمان قد بين سلطته وحددها تحديدا تاما، ففي فرمان لتولية عباس باشا الثاني سنة 1892 مذكور نصا بأنه لا يجوز له أن يتنازل عن أي امتياز ممنوح لمصر ولا عن أية أرض مصرية وتابعة لمصر، فاتفاق 1899 يخالف كل فقرة من فقرات نصوص ذلك الفرمان.
أما من جهة إنكلترا فإنها اعترفت بجميع المعاهدات والاتفاقات الدولية بصيانة الأملاك العثمانية، واعترفت باتفاق الأستانة 1882 على وجه التخصيص بألا تطلب شيئا لنفسها، وأيدت فرمان 1892 الذي يحرم على مصر التنازل عن أية أرض مصرية، واعترفت أيضا بأن الأملاك السودانية أملاك مصرية صرفة، وذكرت ذلك صراحة باتفاقها مع حكومة الكونغو البلجيكية (12 مايو 1894) وتذرعت بهذه الحجة ضد فرنسا في أزمة فاشودة سنة 1898 فمن هذه الوجوه أيضا يعد اتفاق 1899 باطلا.
وفوق هذا كله اغتصب هذا الاتفاق الحقوق التي اكتسبتها الدول بمواده 6 و7 و8 و9 و11؛ لأنه منع سريان أحكام المحاكم المختلطة على السودان وهو أرض مصرية، وحرم تعيين القناصل بدون تصريح من إنكلترا، وكذلك حقوق التجار والملاك والأوربيين، ومما يذكر في هذا الباب أنه لما احتلت فرنسا تونس وبسطت عليها حمايتها لم تستطع إلغاء الامتيازات إلا بعد مفاوضة الدول والاتفاق معها على ذلك.
كذلك دعوى الإنكليز بالفتح فإنها دعوى باطلة؛ لأن السودان في مدى 16 سنة دامت فيها ثورة المهدي والخليفة لم يكن ملكا بلا مالك؛ لأن مصر لم تتنازل عن هذه الملكية، ولما ادعى الفرنساويون ذلك في أزمة فاشوده احتجت إنكلترا على ادعائهم فسلم الفرنساويون بحجة الإنكليز.
أما ادعاء الاستعادة بالفتح فهذا يصح لمصر وحدها؛ لأن مصر في المالكة الوحيدة فهي التي يحق لها وحدها استعادة ملكها.
السودان مصري ومن مصر وجزء لا يتجزأ عن مصر
بقلم صاحب الدولة حسين باشا رشدي
1 (1) السودان حياة مصر
إنما السودان لهو الحياة بذاتها لمصر؛ لأنه منبع النيل، ومصر هي التي فتحت السودان في الأصل، ولم تضن في هذا السبيل بأية ضحية بالرجال أو بالمال، وهذا الفتح بدأ على عهد محمد علي، وتم على عهد إسماعيل الذي ضم مناطق البحيرات الكبرى حتى منابع النيل وبحر الغزال وخط الاستواء ثم سواحل البحر الأحمر حتى رأس غردفوي، وجعل الأوغندا تحت حماية مصر، ونال من الباب العالي إدارة سواكن وزيلع وملحقاتهما، واتخذ لنفسه لقب خديوي مصر وصاحب نوبيا ودارفور وكردوفان وسنار، واعترفت الفرمانات السلطانية التركية لمصر بامتلاك هذه الأقاليم السودانية، واعترفت الدول بهذه الفرمانات ذاتها.
وفي سنة 1885 أجلت الحكومة المصرية تحت ضغط الحكومة الإنكليزية عن أكثر هذه الأقاليم السودانية، ولكنها خرجت منها على نية العودة إليها، ومع العزم الأكيد على احتلالها ثانية عند سنوح أول فرصة ملائمة، وهذا العزم واضح كل الوضوح من المستندات الرسمية المصرية فوزارة شريف باشا فضلت الاستعفاء على قبل ترك السودان ولو تركا موقوتا.
وفي 9 ديسمبر 1894 أرسل رياض باشا إلى السير إيفلن بارنج مذكرة قال فيها:
لا يستطيع أي إنسان أن ينازع في أن النيل هو حياة مصر، وهذه حقيقة واضحة كل الوضوح لا تحتاج إلى مناقشة، وحيث إن النيل هو السودان فلا جدال في أن العلاقات والروابط التي تربط مصر بالسودان لا يمكن أن تقبل أي انفصال، وما مثلها في هذا التماسك إلا كمثل العلاقة التي تربط الروح بالجسد، وإذا تمكنت دولة من الاستيلاء على منابع النيل فإن هذا الاستيلاء يكون بمثابة حكم الإعدام على مصر.
فمن هذا كله يتبادر إذن إلى كل ذهن أن حكومة سمو الخديوي لا ترضي قط بحال من الأحوال باختيارها وبدون أن تكون مكرهة إكراها بمثل هذا التهجم على وجودها.
2
وفي الكتاب الأزرق الذي أصدره اللورد سالسبوري في سنة 1898 عن مسألة فاشوده كتاب من بطرس باشا غالي وزير الخديوي قال فيه:
إن حكومة الخديوي كما تعرف سيادتكم لم يغب عن نظرها في حين من الأحيان العودة إلى استئناف احتلال الأقاليم السودانية التي هي مصدر الحياة ذاتها لمصر، ومصر لم تنسحب من تلك الأقاليم إلا عقيب ظروف قوة قاهرة، وإن استعادة الخرطوم تفقد الغاية منها إذا لم يعد إلى مصر وادي النيل الذي ضحت مصر في سبيله الضحايا العظيمة.
ولمعرفة الحكومة المصرية أن مسألة فاشودة في هذا الأوان هي موضوع المكالمة بين بريطانيا العظمى وفرنسا، فهي (الحكومة المصرية) تكل إلي أن أطلب من سيادتكم أن تتفضلوا بحسن الوساطة لدى اللورد سالسبوري؛ ليتم الاعتراف لمصر بحقوقها التي لا تقبل نزاعا، ولكي تعاد إليها الأقاليم التي كانت تحتلها حتى قيام ثورة محمد أحمد.
3
هذا، وفي نظر أوربا ذاتها لم تفتأ تلك الأقاليم السودانية - التي تركت تركا موقوتا - معتبرة مصرية.
وإنا لنورد دليلا على صحة ذلك تصريحات عظماء الإنكليز ذاتهم بصدد حادثة فاشودة والمعاهدة الإنكليزية الطليانية 1891-1894: (1)
في 12 أكتوبر 1898 صرح اللورد سالسبوري لسفير فرنسا «أن وادي النيل كان ولا يزال ملكا لمصر ، وأن جميع العوائق وكل الانتقاص الذي أحدثه فتح المهدي وإخلاله في صفة هذه الملكية قد زال بفعل انتصار الجيش الإنكليزي المصري في أم درمان.
4 (2)
قال اللورد روزبري في خطاب ألقاه في أبسون في 12 أكتوبر 1898: «نحن نعمل الآن لنرجع إلى مصر ما يؤلف - حسب تصريحات جميع الوزارات الفرنساوية - أرضا مصرية.»
5 (3)
وأثبت اللورد كمبرلي في مأدبة أقيمت إكراما للورد كتشنر ما يلي: «أن الجلاء عن فاشودة لا يمكن أن يمس كرامة فرنسا؛ لأن الحكومة الفرنساوية ذاتها صرحت بأن الأراضي المختلف عليها هي ملك مصر.»
6
ومن جهة أخرى أن البند الثاني من الاتفاق الإنكليزي الطلياني المبرم سنة 1891 و1894 نص فيه:
يكون للحكومة الطليانية في حالة اضطرارها للعمل قياما بحاجة موقفها العسكري أن تقبل كسلة والإقليم الملاصق لها حتى الأتبرة. إلا أنه يكون معروفا لدى الحكومتين أن كل احتلال عسكري موقوت للأراضي الإضافية المعينة بهذا البند لا يلغي حقوق الحكومة المصرية على تلك الأراضي فهذه الحقوق تظل موقوفة فقط إلى أن تتمكن الحكومة المصرية من استئناف احتلال المنطقة المشار إليها.
وعند ما استعادت مصر الأقاليم السودانية التي كانت قد تركتها وقتيا عاونتها إنكلترا في ذلك، ولكن:
أولا:
إن استعادة تلك الأقاليم تمت على حساب مصر وباسمها، وكانت إنكلترا تعمل بمعاونتها بوصف أنها حليفة بالواقع لمصر، وهذا ما يستنتج استنتاجا مقطوعا به من التصريحات المذكورة آنفا، ثم إن اللورد كتشنر قائد الجيش المصري صرح للقومندان مارشان في فاشودة بقوله: «إن التعليمات التي تلقاها تقضي بأن يعيد بسط: «السلطة المصرية» على مديرية فاشودة، وأنه يحتج على رفع العلم الفرنساوي على «أملاك سمو الخديوي».
ثم كتب إليه بعد ذلك: «يجب علي أن أبلغك أني وقد رفعت اليوم العلم المصري على فاشودة بأن حكم هذه البلاد قد استعادته مصر ليدها نهائيا (راجع تقرير اللورد كرومر السنة الثالثة 1898).
الثاني:
أن القوات العسكرية التي استخدمت للاستعادة قد كانت من جانب المصريين 25 ألفا، أما التي كانت من جانب الإنكليز فقد كانت من بادئ الأمر 800 جندي، ولم يتجاوز عددها ألفي جندي.
الثالث:
أن نفقات الاستعادة 2400000 جنيه دفعت مصر ثلثيها، وإذا كانت إنكلترا قد تحملت الثلث الثالث فالخطأ ليس خطأ مصر ولكنه ناشئ من معارضة صندوق الدين التحكمية.
الرابع:
إن مصر وحدها دفعت منذ استعادة السودان نفقات الأعمال والمشروعات ما عدا خزان مكوار فبلغ ما أنفقته نحو 5600000 جنيه، ومصر وحدها هي التي دفعت العجز المتوالي في ميزانية السودان فبلغ ما دفعته في هذا السبيل 5350000 جنيه.
الخامس:
منذ استعادة السودان تنفق مصر على عشرة آلاف جندي مصري في السودان للدفاع في الخارج ولمنع كل ثورة في الداخل، فتحملت مصر من وراء ذلك إنفاق 13 مليون جنيه مع أن القوة الإنكليزية في السودان نحو ألف رجل لم تزد النفقة عليهم على مليوني جنيه.
إن مصر تحملت في سبيل السودان نفقة مالية كبيرة جدا كما تدل سجلات الحسابات، وقد تحملت هذه الأعباء رغم الديون المتراكمة عليها ورغم شدة حاجتها إلى الأموال؛ لتقوم بالأعمال العمومية لا سيما أعمال الري التي يحول بها ري الحياض إلى ري دائم، وقد كان بالإمكان إصلاح مليوني فدان لا تزرع الآن بنصف الأموال التي أنفقتها. •••
فالاستنتاج الطبيعي المعقول من كل ما تقدم هو أنه يجب اعتبار السودان جزءا من مصر لا يقبل التجزئة حتى إن اتفاق 1899 ذاته لا يعارض ذلك؛ فإن ذلك الاتفاق يشرك إنكلترا مع مصر لا في السيادة على السودان، بل في الإدارة، وإذا كان العلم الإنكليزي قد ظل يخفق على السودان إلى جانب العلم المصري فمرجع ذلك إلى الاهتمام باتقاء العراقيل التي تنجم عن تنفيذ حكم الامتيازات هناك فتحول دون تقدم تلك البلاد.
وفي الواقع أن اتفاق 1899 قد تضمن ما نصه: «من حيث إنه صار لازما اختيار طريقة للإدارة وسن قوانين للأقاليم المستعادة المذكورة» وزاد على ما تقدم قوله : «ومن حيث إنه ظاهر ولأسباب عديدة يمكن أن تدار وادي حلفا وسواكن إدارة أفعل إذا ضمتا إلى الأقاليم المستعادة» وبالفعل تم ضم حلفا وسواكن إلى الأقاليم المستعادة حتى يكون الجميع خاضعا لنظام الحكم الذي قرره الاتفاق.
وهذه وادي حلفا وهذه سواكن لم تجل عنها الجنود المصرية قط فضمهما إلى الأقاليم المستعادة يثبت أن ذلك الاتفاق ما كان يرمي إلا إلى الوجهة الإدارية، ولم يكن الغرض منه أن يخرج السودان من السيادة المصرية.
وتأييدا لهذا الإيضاح لاتفاق 1899 نستعين بحكم اللورد كرومر الذي هو بلا شك أصدق مفسر له؛ لأنه هو الذي وضعه، فإليك ما يراه القارئ في تقريره لعام 1901 و1903.
ففي تقرير 1901 ما نصه:
ألاحظ في أعمال مجلس شورى القوانين الخاصة بالاعتمادات قوله: «إن المجلس يصادق على المصروفات المقترحة للسودان؛ لأنه يعد السودان جزءا لا ينفصل عن مصر» وهذا الرأي صحيح في الحقيقة فإن نظام الحكم السياسي في السودان مقيد على كل حال بالاتفاق المعقود بين بريطانيا العظمى ومصر، وموقع عليه في 19 يناير سنة 1899، ولما كان من المحتمل أن بعض أعضاء مجلس الشورى غير ملمين تمام الإلمام بفحوى ذلك الاتفاق فإني انتهز هذه الفرصة لأبين أنه لم تكن هنالك نية أو رغبة عند صوغه في انتقاص حقوق مصر الشرعية، فقد كانت الأغراض الأساسية التي رمى إليها واضعو ذلك الاتفاق هي أولا ضمانة وجود حكومة صالحة للأمة السودانية وثانيا اتقاء الارتباكات الخصوصية التي أوجدها أسلوب الحكم الدولي بمصر في السودان.
وفي تقرير 1903 قوله:
لقد سئلت أحيانا: لماذا لا تتحمل الخزانة البريطانية قسما من نفقات الإدارة في السودان ما دامت الراية البريطانية تخفق إلى جانب الراية المصرية على ربوعه؟ وهو سؤال طبيعي، ولكن الإجابة عليه سهلة جدا على جميع الواقفين على تاريخ اتفاق 19 يناير سنة 1899 الذي بموجب نصوصه أوجدت للسودان حالة سياسية خاصة، وذلك أن حكومته شكلت لغرض صريح وهو إنقاذ السودان - وبناء على ذلك إنقاذ مصر - عند حكمها تلك المديريات من جميع تلك الأوضاع الدولية المعرقلة التي لها النصيب الأوفر في تعقيد الإدارة في مصر، ولولا هذا الاعتبار لما كان لرفع الراية البريطانية على الخرطوم - من وجهة النظر البريطانية - من سبب أدعى إلى رفعها على أسوان أو طنطا.
وفوق كل ما تقدم كيف كان بالإمكان أن يشرك اتفاق 1899 إنكلترا مع مصر في السيادة على السودان ؟ فليس إرسال بعض الجنود الذين لم يتجاوز عددهم الألفين ولا إنفاق بعض المال القليل مما يسوغ مثل هذه الشركة. فإذا كان العون الاختياري يخول من ذاته حقا ما، فإن الواجب أن يكون لمصر حق في سوريا وفلسطين؛ لأنه بفضل رجال مصر وسككها الحديدية وموانيها وإمدادها الجيش الإنكليزي بالأكل والماء والمعدات من كل نوع سهل فتح تلك البلاد، وأنفقت مصر أكثر من أربعة ملايين جنيه من المال فوق الفرق في أثمان ما جمعه الجيش الإنكليزي حتى إن هذا الفرق بلغ في القطن وحده الملايين دون حسبان الحبوب من كل صنف والمواشي التي نقصت الثلث مدة الحرب.
وقد اعترف المارشال اللنبي بقيمة المساعدة المصرية إبان حملة فلسطين وسوريا، وورد في تقرير اللورد ملنر قوله: «ليس من العدل إلا أن نذكر الخدمات التي أداها فيلق المتطوعة المصرية فإن قيمتها كانت فوق التقدير، ولم تكن عنها مندوحة لفتح فلسطين.»
إنه كان لمصر على إنكلترا دين أدبي لتساعدها على استعادة السودان. أولم يكن إخلاء السودان بفعل ضغطها على مصر؟ ألم تكن إنكلترا بمثابة القيمة على مصر؟
فقد قال السير إدوارد غراي أمام مجلس النواب الإنكليزي في 28 مارس 1895: «إن إنكلترا تشغل من وجهة الدفاع عن مصالح مصر المركز الخاص للقيم، فمطالب مصر لم نسلم بها نحن وحدنا؛ بل سلمت بها أيضا وأثبتتها كل الثبوت الحكومة الفرنساوية.» •••
وفضلا عن أن النيل هو رباط الحياة بين القطرين، فإن هناك اعتبارات اقتصادية تربط السودان بمصر.
فالسودان بلاد لا تزال بكرا وتجارته معدة للنمو وحاصلاته للزيادة بسرعة نظرا لسعة أراضيه وخصبها. فإذا كان له منفذ إلى البحر في پورسودان فإن هذا الميناء لا يستطيع وحده تصريف تجارة هذه البلاد عندما تنال بعض التقدم.
وفي مصر سيمر دائما شطر كبير من بضائع السودان، لا سيما إذا بدت المزاحمة في تجارة تلك البلاد فإنها حينئذ تفضل الطريق الأخصر، وأكبر شطر من اتجار السودان هو الآن مع مصر، وسيظل دائما كذلك، ومصر هي في العالم من البلاد التي يزدحم سكانها وهؤلاء السكان يزيدون زيادة سريعة، وقد أخذت أرضها تعجز عن أن تكفي هؤلاء السكان، وبعد بضع سنين تصبح هذه المسألة من المسائل الاجتماعية المتحرجة التي يقضي على السلالة الآتية حلها فليس في الأرض مكان معد بذاته لقبول زيادة السكان في مصر غير السودان فهو بلاد متاخمة لمصر وبلاد زراعية بحتة ومتصلة بمصر بروابط من كل نوع.
ومن جهة أخرى إن من المبدأ المسلم به من الجميع الآن والذي كان مرشدا وهاديا لسياسة الإنسانية بعد الحرب الكبرى مبدأ الجنسية المنحصر في تأليف وحدات سياسية من الطوائف المتجمعة إذا كانت من عنصر واحد، وهذا المبدأ ينطبق على مصر والسودان؛ لأن غالبية السودان من العنصر العربي يتكلم لغة المصريين، وله دين غالبيتهم، ومتخلق بأخلاقهم. (2) بحث في حالة السودان السياسية بقلم صاحب الدولة حسين رشدي باشا
إن اتفاق 1899 - بين الحكومة المصرية والحكومة الإنكليزية - هو اتفاق في نظر المصريين باطل وفي نظر الإنكليز صحيح ترتبط مصر بأحكامه.
وتستند حجة المصريين في بطلانه إلى أن تركيا لم تقر ذلك الاتفاق. ثم يزيدون على ما تقدم: أن مصر ذاتها لم تقره برضاها ولم تسلم به إلا مكرهة مقصورة بقوة إنكلترا.
ويرد الإنكليز على هذه الحجة بأن اتفاق 1899 يربط مصر؛ لأنها وقعته وإن لم تكن تركيا قد سلمت به. أما مسألة عدم تسليم تركيا فكل ما يقال فيه من الوجهة المصرية أن مصر تعاقدت على ملك الغير، وفي هذه الحالة لا يكون للمغتصب أي مصر حق إنكار عقد التعاهد، بل إن هذا الحق لصاحب الحق المغتصب وهي تركيا، ويزيد في نقصان تمسك مصر ببطلان اتفاق 1899 أن عقد الاغتصاب الذي وقعته قد تأيد بعدول تركيا عن ادعاء أي حق لها على مصر.
وإذا كانت معاهدة سيڨر لا تزال قيد التعديل فإن من المأثور أن التعديل المطلوب فيها يرمي إلى وجوه أخرى غير ذلك العدول عن حقها في مصر، وهو العدول الذي صار نهائيا.
أما الزعم بانفلات مصر من روابط اتفاق 1899 بحجة أن رضاها به كان مشوبا ومشوها بقوة الإكراه من جانب إنكلترا إكراها لم يكن بالإمكان دفعه، فهو ملابسة بين مبادئ الحق المدني ومبادئ الحق العام، وهذه معاهدات الصلح التي أكره المغلوبون على توقيعها بقوة الحديد والنار، هل يجوز لهؤلاء ألا يحترموا أحكامها؟
والذي نعتقده نحن أن اتفاق 1899 لا يربط مصر للأسباب الآتية:
أن السبب الذي دعا إلى إبرام هذا الاتفاق هو الاهتمام بمنع تنفيذ الامتيازات في السودان ووقاية مصر ولو في هذا الشطر من الأراضي المصرية من مساس نظام الامتيازات بسيادتها.
فهذا الاتفاق إذن قد عقد لمصلحة مصر لا لمصلحة إنكلترا، وفي الواقع إن إنكلترا لم يكن لها في ذاك الحين أية مصلحة خاصة من وراء ذلك الاتفاق؛ لأنها كانت تحكم مصر ذاتها.
فأيه حاجة كانت بها لأن تبرم مع مصر اتفاقا يخولها إدارة السودان؟ فهل هي كانت تلقى من الحكومة المصرية مقاومة لا ترد، وهي هي التي استطاعت أن تكره حكومة مصر على إخلاء السودان رغم إرادتها لو أنها طلبت من الحكومة المصرية بقطع النظر عن كل اتفاق - وأمامنا السابقة في مسألة غوردون - أن تسلم حكم السودان إلى حاكم عام حتى ولو كان إنكليزيا تختاره إنكلترا وله السلطة المخولة الآن للحاكم العام؟؟ سؤال لا يجاب عليه بغير «لا».
إن تلغراف غرنفيل المشهور جعل للمشورة الإنكليزية صبغة الأمر، وجعل موقف الحكومة المصرية بين أمرين: إما الخضوع، وإما الاستعفاء.
وكما أنه ليس ما يمنع أي شخص تعاقد مع آخر على مصلحة له من أن يتنازل عن تلك المصلحة، فكذلك مصر لا يمنعها مانع قانونيا عن أن تعدل عن اتفاق 1899 إذا هي ارتضت أن تتحمل في السودان نظام الامتيازات أو أي نظام يقوم مقامه.
وهذا اللورد كرومر يعترف صريحا بتقريره عن الاتفاق بأن الغرض الوحيد منه هو إنقاذ مصر في السودان من عراقيل الامتيازات. نعم، إنه أضاف إلى هذا الغرض غرضا آخر جعله في المقام الأول وهو ضمانة الإدارة الحسنة لأهالي السودان، ولكن هذا لا ينقض بوجه من الوجوه مذهبنا.
هل النظام الأساسي النافذ في السودان بمقتضى اتفاق سنة 1899 أو بعبارة أخرى هل الحكم الإنكليزي المصري المزدوج هناك يجعل لمصلحة السودان حقا مكتسبا تجاه مصر؟! إنهم إذا قالوا ذلك كان جوابنا القاطع: ليس للسودان شخصية ممتازة عن مصر، وإذا كانت له شخصية ممتازة فمصر لم تتعاقد مع السودان، ولكن ما الفائدة من الوقوف أمام هذه الافتراضات؟ فلنجابه الحقيقة وجها لوجه، والحقيقة هي - كما قلنا - أنه ليست للسودان شخصية خارجة أو منفصلة عن شخصية مصر، ومن هنا تنجم الاستحالة القانونية على السودان بأن يكتسب حقوقا تجاه مصر.
لقد قلنا ونقرر هنا القول: إن اتفاق 1899 لا يربط مصر من الوجهة القانونية، ولكن إذا وصلنا إلى العمل نجد أن مفاوضينا سيصطدمون بمقاومة شديدة من جانب إنكلترا العاضة بكل نواجذها على ذلك الاتفاق، وهذه الأموال الإنكليزية قد استخدمت أو هي على وشك الاستخدام في السودان، ومجال العمل الواسع في السودان - وهو بلاد خصبة لم تستثمر حتى الآن - ليتجلى أمام أصحاب الأعمال من الإنكليز، وخطأ الرأي العام الإنكليزي الذي يعتبر نصف السودان إن لم نقل السودان كله ملكا إنكليزيا، واهتمام الإنكليز بإنجاز الخط الحديدي الممتد من رأس الرجاء الصالح.
هذه كلها عوامل تحمل الحكومة الإنكليزية على أن تتفانى بالتمسك بذلك الاتفاق. فإذا فرضنا أنا توصلنا غدا إلى الاتفاق المرضي مع الإنكليز على التحفظات التي وردت في «التصريح لمصر» ولم يبق من وجه للخلاف إلا على السودان هل يقطع مفاوضونا المفاوضات من أجل ذلك؟؟
إن الجواب على هذا السؤال الخطير في مثل هذه الحالة يكون من حق البلاد، وبعبارة أخرى أنه يكون من شأن نواب الأمة الذين تستشيرهم الحكومة، ولكن إذا هم عقدوا العزيمة على أن يقبلوا في المسألة هوادة فلا يجوز بحال من الأحوال أن يكون مآل الحل جعل مركز مصر أدنى من المركز الذي يكون لها حسب اقتراح خطر لنا، وكان في العزم نشره لولا حب التفادي عن ذلك الآن، ولولا تساؤلنا: أليس الأفضل سياسيا الاحتفاظ بتبليغ هذا الاقتراح إلى المصريين وحدهم لا سيما ممثلي الأمة ونوابها وللحكومة وللمفاوضين في المستقبل.
وبمناسبة ذكر التحفظات الإنكليزية غير مسألة السودان نذكر عرضا أن لجنة الدستور الفرعية قد أزالت كل سبب كان يدعو إلى وجود واحد من تلك التحفظات وهو تحفظ يمس مساسا خطيرا بالاستقلال؛ لأن أقل ما يرمي إليه تثبيت سيادة إنجلترا على مصر - ونعني بذلك: التحفظ الخاص بحماية الأقليات.
فإن تلك اللجنة - إذا صح ما لدينا من المعلومات - قد قررت أن تدمج في الدستور المصري المبادئ المسماة: «بضمانات الأقليات» وأعلنت عدم إمكان المساس بتلك المبادئ. فحماية الأقليات تكون مضمونة في نظام البلاد الأساسي، والغرض الذي يرمي إليه التحفظ المحكي عنه قد أصبح محققا.
وسيكون المفوضون المصريون والحالة هذه في أحسن مركز لإبعاد هذا التحفظ الممقوت إبعادا تاما لا سيما وأنه يعد مطلبا جديدا من جانب الإنجليز؛ لأننا نعرف من مصدر موثوق به أنه لم يصدر مطلقا من المفوضين الإنجليز في خلال مفاوضات الصيف الماضي ما يؤخذ منه طلب اعتراف مصر لإنجلترا بحق حماية الأقليات بمصر» ا.ه.
هوامش
شركة الذئب والحمل
كيف يحكم السودان على عهد الشركة
اللورد كرزون والوفد السوداني 1919
عرفنا من اتفاق 1899 أن المادة الثالثة تنص على «تفويض الرياسة العليا العسكرية والمدنية في السودان إلى موظف واحد يلقب بحاكم السودان العام، ويكون تعيينه بأمر عال خديوي بناء على طلب حكومة جلالة الملكة ولا يفصل عن وظيفته إلا بأمر عال خديوي يصدر برضاء الحكومة البريطانية.»
فكل ما لمصر من الشركة في تعيين الحاكم العام توقيع الأمر العالي، وأما ترشيح الحاكم وتعيينه وعزله فمن اختصاص حكومة إنكلترا، وحكومة إنكلترا لا تعين حاكما مصريا وهذا الحاكم الإنكليزي قد خول بالمادة الرابعة من الاتفاق المشار إليه سن القوانين وإلغاءها فكل منشور من الحاكم العام هو قانون مسنون، ولقد سئل أحد كبار الإنكليز عن السبب الذي دعاهم يوم إبرام الاتفاق مع مصر إلى استثناء سواكن وترك العلم المصري وحده يخفق فوقها، فأجاب «إن سواكن من السودان هي المحل المعرض للهجوم، فقد تركناها يوم وضع الاتفاق على حالها كما يترك الجريح في ثغرة السور فيحترم المهاجم جراحه وآلامه، أو كما يوضع مستشفى الصليب الأحمر في نقطة ضعيفة من ميدان القتال» ... تلك كانت حجتهم قبل ضم سواكن وإنشاء بورسودان.
ففي يوم توقيع الاتفاق عين اللورد كتشنر حاكما عاما للسودان فأعلن فتح السودان للتجارة في 12 ديسمبر 1899، وخلفه في حكم السودان في 22 ديسمبر 1899 ونجت باشا فأصدر للسودانيين منشورا يعدهم فيه بالإصلاح ويهددهم بالعقاب إذا هم خالفوا القوانين، ثم ألف الحكومة المركزية وجعل كل رجالها من الإنكليز، وعين لكل مديرية مديرا عسكريا إنكليزيا، وعين المصريين مأمورين؛ فظهرت الحكومة السودانية بمظهرها الصحيح أي إنها حكومة إنكليزية بحتة، ولما تعلم بعض السودانيين أنزلوهم في وظائف المأمورية منزلة المصريين وأحلوهم محلهم، وبذلك صحت كلمة اللورد سالسبوري الذي سأله اللورد كمبرلي زعيم المعارضين في جلسة 6 فبراير 1899 «هل السودان صار بالفعل شطرا من الإمبراطورية البريطانية؟» فأجابه: «لقد ينقضي بعض الزمن قبل أن يصير السودان هادئا آمنا كحي بيكاويلي أو بلمول، وأذكر اللورد السائل برجل اشتهر بتاريخ إنكلترا وهو غليوم الفاتح فإنهم لقبوه بالفاتح قبل أن يفتح جميع أقاليم إنكلترا وبلاد الغال.»
كذلك كانت إنكلترا مالكة السودان، وكذلك كان السودان شطرا من الإمبراطورية البريطانية قبل أن يكون لإنكلترا يد عليه وقبل أن تخادع إنكلترا مصر بشأنه.
فقد انفرد الحاكم العام بالحكم فاختار رؤساء الحكومة السودانية جميعا من الإنكليز، وضنوا على المصريين شركائهم بالسودان بمنصب واحد من المناصب العليا، وفي سنة 1910 رأوا أن يؤلفوا للحاكم مجلسا عاما أو مجلس شورى يعاونه بالحكم لاتساع المصالح والأعمال في تلك البلاد، فألفوا هذا المجلس من الإنكليز وحدهم، وإليك نص النظام الذي وضعوه لذلك. «حيث إن الوفاق المعقود في 19 يناير 1899 بين حكومة جلالة المرحومة ملكة الإنكليز وحكومة سمو الجناب العالي الخديوي قد فوض إلى الحاكم العام الرياسة العليا العسكرية والملكية في السودان ومنحه الاختصاصات المبينة فيه، وحيث إنه بمصادقة الحكومتين المشار إليهما قد استصوب إيجاد مجلس يشترك مع الحاكم العام في إجراء ما له من السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية؛ فقد صدر الأمر بما هو آت: (1)
يسمى هذا القانون قانون مجلس الحاكم العام سنة 1910. (2)
ينشأ مجلس يعرف بمجلس الحاكم العام يؤلف من أعضاء قانونيين هم المفتش العام والسكرتير المالي والسكرتير القضائي والسكرتير الملكي، ومن أعضاء إضافيين لا ينقص عددهم عن اثنين ولا يزيد عن أربعة يعينهم الحاكم العام.
يكون تعيين الأعضاء الإضافيين لمدة ثلاث سنين، وتجوز إعادة تعيينهم، وإذا غاب أحد الأعضاء القانونيين بالإجازة أو تعذر عليه الحضور للمرض ناب عنه في المجلس الموظف الذي يقوم مقامه في وظيفته بحكم القانون أو من طريق التناوب.
وإذا غاب أحد الأعضاء الإضافيين أو تعذر عليه الحضور كذلك فللحاكم العام أن يعين بدله مؤقتا. (3)
يرأس الحاكم العام جلسات المجلس، وفي حالة غيابه تكون الرياسة لأقدم عضو بين الحاضرين مع مراعاة أحكام المادة 13. (4)
للمجلس جميع السلطة المخولة له بمقتضى هذا القانون في نظر كافة المواد التي يجب إجراؤها بمعرفة الحاكم العام في المجلس بناء على نصوص هذا القانون أو أي قانون آخر. أما غير ذلك من المواد الأخرى التي قد تعرض عليه فإنه ينظر فيها بصفة مجلس استشاري للحاكم العام. (5)
جميع القوانين واللوائح التي للحاكم العام إصدارها بمقتضى المادة الرابعة من وفاق 19 يناير 1899 يصير إصدارها بمعرفة الحاكم العام في مجلسه، ولا يسرى هذا النص على ما للحاكم العام وحده إصداره من اللوائح بمقتضى السلطة الممنوحة له بنص معمول به. (6)
يقرر الحاكم العام في مجلسه الميزانية السنوية، ويمنح جميع الاعتمادات الإضافية سواء كانت من الاحتياطي أو من الإيرادات العادية. (7)
يجري الحاكم العام في مجلسه جميع المواد التي يجب إجراؤها فيه بمقتضى أي قانون معمول به، أو على القواعد التي يقررها الحاكم العام في مجلسه. (8)
تتقرر المسائل التي يجريها الحاكم العام في مجلسه بأغلبية أصوات الأعضاء الحاضرين مع مراعاة ما هو مدون في المادتين 9 و10 فإذا تساوت الأصوات كان الترجيح لجانب الرئيس، وتدون قرارات المجلس في سجل محاضره مع بيان رأي كل عضو على انفراده، ولكل عضو خالف الأغلبية أن يطلب إثبات أسباب مخالفته في المحضر. (9)
للحاكم العام سواء حضر الجلسة أو لم يحضرها أن يخالف ما أقرته الأغلبية لأسباب تدون في محاضر المجلس، ويعتبر قراره هذا في هذه الحالة من جميع الوجوه كأنه قرار المجلس. (10)
للحاكم العام سواء حضر الجلسة أو لم يحضرها أن يوقف تنفيذ أي قرار من قرارات المجلس حتى يرفعه إلى السلطة المنصوص عنها في الفقرة الثانية من المادة الرابعة من وفاق 19 يناير 1899. (11)
للحاكم العام في مجلسه أن يسن قواعد لا تخالف هذا القانون تختص بضبط أعمال المجلس، وبيان محل اجتماعاته، وتعيين موظفيه، وتقرير واجباتهم. (12)
إذا غاب الحاكم العام بالإجازة، أو تعذر عليه القيام بأداء وظيفته لمرض، وكذلك إذا خلت وظيفته، تنتقل سلطته كلها إلى مجلس الحاكم العام إذا لم يكن هو قد عين نائبا عنه في وظيفته. (13)
للحاكم العام كلما كان بعيدا عن مجلسه أن يعين موظفا ينوب عنه في رياسته وفي ما له من السلطة كلها أو بعضها المتعلقة بالمجلس بمقتضى المواد السابقة. (14)
للحاكم العام كلما كان بعيدا عن مجلسه أن يباشر وحده ما للحاكم العام في مجلسه من السلطة كلها أو بعضها إذا أجيز ذلك بقرار من المجلس. (15)
لا يجوز تفسير أي نص من نصوص هذا القانون بما يفيد تخويل الحاكم في مجلسه سلطة لو كانت له وحده لجاءت مخالفة لنصوص اتفاق 19 يناير 1899 أو لأي اتفاق معقود حتى الآن بين حكومتي مصر والسودان ا.ه.
ذلك هو نص القانون الصادر بإنشاء مجلس يساعد الحاكم العام.
أما هذا المجلس فقد صدر قانون آخر بأن يكون مؤلفا من السكرتير المالي والسكرتير القضائي والسكرتير الملكي، وهم الأعضاء القانونيون، وللحاكم العام أن يعين أعضاء إضافيين لا يقلون عن اثنين ولا يزيدون على خمسة.
وإذا بحثت عن المصري في هذا المجلس وسواه فإنك لا تجده؛ لأن المصري موكل بالخدمة، ومسخر للقيام بالأعمال الشاقة، وليس له رأي، وليس له إرادة في تلك البلاد التي تولى الإنكليز أمرها وصرفوا همهم لفصلها عن أمها مصر.
ولقد هنأ اللورد كرزون نفسه وأمته بأن السودان لم يحذ سنة 1919 حذو مصر، وأن السودانيين أرسلوا إلى إنكلترا وفدا يقدم ولاءه لجلالة الملك، وفات اللورد أن يقول لهم: ما هي الوسائل الشديدة التي تذرعوا بها لإظهار السودانيين بهذا المظهر، ومن هو هذا الوفد؟ وكيف ألفوه؟ وكيف أرسلوه إلى لندره محجورا عليه حتى إنهم لم يدعوه يقيم يوما واحدا بالقاهرة أو يختلط بأحد من المصريين؟
وهذه كلمة اللورد كرزون ألقاها في مجلس اللوردات في شهر ديسمبر 1919 أجمل فيها الكلام عن الخطة التي تتبعها الحكومة الإنكليزية في مصر، حتى إذا ما وصل إلى السودان قال:
ولا أرى بدا من الإشارة إلى الصورة المشجعة والمضادة لهذه الصورة (يعني صورة مصر) وهي صورة السودان، فإن أهل تلك البلاد لا يزالون محافظين على النظام التام بحسن إدارة السر لي ستاك حاكمها العام، وقد قدموا برهانا واضحا على ولائهم لبريطانيا العظمى بزيارة وفد من أعيانهم لهذه البلاد في يوليو الماضي، فاستقبلهم جلالة الملك، فأعربوا له أولا ولي ثانيا عن حسن تقديرهم للعمل الذي قامت به بريطانيا العظمى لإحياء بلادهم وتنصلهم من الحوادث التي جرت في مصر، وقالوا: إن همهم الوحيد هو أن يبقوا في الإمبراطورية ولا يفصلوا عنها، وهذا الدليل السار على الولاء سببه جله أو كله العمل العجيب الذي تم على يد السر رجنلد ونجت الحاكم العام السابق؛ فإنه وقف مقدرته العالية سنين كثيرة مع زيادة خير السودان وعلى وضع أساس حكومة جاءت الأيام مصدقة لطرائق الحكم البريطاني فيها كل التصديق ا.ه. (1) وثائق رسمية بشأن السودان (1-1) مذكرة الوفد المصري
لما كان الوفد المصري في باريز وجه إلى إنكلترا وإلى الدول مذكرة بشأن السودان، وضرورة إرجاعه إلى أمه مصر، هذا نصها:
إذا كان المصريون يطلبون إرجاع السودان إليهم فليسوا مدفوعين لذلك بحب التوسع والاستعمار، وإنما هم يطلبونه باسم الحق واحتفاظا بكيانهم الوطني.
لقد كان السودان منذ الأزمنة الغابرة جزءا متمما لمصر.
وإذا كان قد فصل عنها في وقت من الأوقات فإن مصر وهي مستقلة استقلالا إداريا جعلت في مقدمة واجباتها وأعمالها إعادته إلى حظيرة الوطن الأكبر.
على أن المسألة ليست مسألة قانون أو مسألة تاريخية فقط؛ بل إن مصالح مصر والسودان مرتبطة بحكم الطبيعة ارتباطا يجعل كلا من البلدين متمما للآخر، وكلا منهما في حاجة إلى الثاني؛ ليستطيع الحياة والتقدم والرقي، فإذا تسلطت دولة أجنبية على السودان كانت مصر التي لا تعيش إلا من النيل عرضة لأفدح الأخطار.
ولقد أشار إلى ذلك المستشار المالي الإنجليزي لدى الحكومة المصرية في تقريره الصادر يوم 14 ديسمبر سنة 1914 بقوله: «إن الأرض التي يرويها النيل من جبال الحبشة والبحيرات الكبرى إلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط مهما كان الاسم الذي يطلق عليها هي كل لا يقبل التجزئة ... ونظرا لتقدم فن الهندسة ذلك التقدم الذي بلغ الأوج فإن الدولة التي تبسط حكمها على منطقة أعالي النيل تملك مراقبة المياه في مصر، وعلى ذلك فالسودان ضروري لمصر؛ بل هو ألزم لها من مدينة الإسكندرية.
على أن أهالي السودان من جهة أخرى ينتفعون كثيرا من اتصالهم بالمدينة المصرية التي لا يوافقهم سواها، فهم يعتبرون مصر بمثابة أختهم الكبرى التي يتكلمون لغتها ويرتاحون لنظاماتها وأخلاقها.
وهذا الميل المتبادل، وذلك الاتحاد في الأخلاق والأفكار، هما نتيجة طبيعية لذلك الحادث التاريخي، وهو أن العرب الذين جاءوا إلى مصر والعرب الذين توزعوا وانتشروا في السودان يرجعون لأصل واحد، ولا يخفى أن سلالة هؤلاء هم اليوم الأعظم شأنا والأكثر استنارة بين سكان السودان.
وإننا بطلبنا إرجاع السودان إلى مصر نريد أن نجعله شريكا لنا، له ما لنا وعليه ما علينا.
إخلاء السودان واستعادته
ليس هنا محل الخوض في الظروف التي أدت إلى إخلاء السودان في عام 1884، وإنما نكتفي بالإشارة إلى أن الوزارة الشريفية عارضت في هذا الإخلاء، وعندما أرغمت عليه استقالت مصرحة بأن «مصر لم يكن يحق لها الموافقة على إخلاء السودان، وأن قبول نصائح إنجلترا بدون مناقشتها يعد منافيا لدستور 28 أغسطس سنة 1878 الذي يقضي بأن الخديوي يحكم بالاشتراك مع وزرائه.»
ولما أعيد فتح السودان أرغمت مصر أيضا على قبول اتفاقية 19 يناير سنة 1899 التي جعلت السودان تحت حكم إنجلترا ومصر معا بعد أن كان إيالة مصرية، وهذه الاتفاقية التي لم تجعل لمصر إلا مركزا سلبيا بحتا واسميا محضا قد أدت في الحقيقة إلى ضم السودان إلى الإمبراطورية الإنجليزية ضما فعليا.
لكن ما هي قيمة الاتفاقية المذكورة قانونا؟
إنها اتفاقية باطلة ولا محل لأي شك في ذلك؛ فقد تمت تحت تأثير الإكراه الذي جعل وجودها فاسدا.
وفوق ذلك فإن من البديهي أن مصر بمقتضى أحكام المعاهدات الدولية والفرمانات التي تحرم عليها التنازل عن أي جزء من أراضيها لم تكن لها أية صفة في عقد مثل هذه الاتفاقية، ومما يزيدنا اشتدادا في الاحتجاج على هذه الاتفاقية أن مصالح المصريين وإحساساتهم قد ديست فيها وتعسر على العقل أن يفهم كيف تعقد شركة يختص أحد الفريقين فيها بكل الحقوق ويلزم الآخر بكل الواجبات.
بينما إنجلترا تسود وتحكم بمفردها تلك الأقطار الواسعة فإن مصر هي التي تدفع من أموالها ما يسد العجز الفاحش في ميزانيتها، فضلا عن الإنفاق على الأعمال الكبرى التي تلزم لإصلاح الأراضي، ولقد دفعت 3500000ج.م لمد الخطوط الحديدية، ومليون جنيه لميناء بورسودان.
1
ومن عجائب الأمور أن مصر بإنشائها ميناء بورسودان من أموالها الخاصة أوجدت لتجارة السودان مخرجا جديدا من شأنه أن يقلل مقدار المنفعة التي كانت تعود على مصر من تجارتها مع السودان!
وزيادة على ذلك، فإن الجيش المصري المعسكر جله في السودان هو الذي يستخدم لإخضاع الأراضي الخارجة عن الطاعة ولفتح بقاع جديدة لمصلحة النظام المشترك، ومصر وحدها هي التي تتحمل بطبيعة الحال النفقات الجسيمة اللازمة لذلك.
وليت شعري ما هي الفوائد التي تجنيها من وراء تلك الضحايا؟ إذا تساءلنا فلا من مجيب.
ليس هذا فقط، بل إن الموظفين المصريين يختفون شيئا فشيئا؛ ليفسحوا المكان للموظفين الإنجليز في المناصب الكبرى على الخصوص، وليس بعيدا ذلك اليوم الذي يخلو فيه السودان من أي موظف مصري ما عدا الحاميات العسكرية التي تدفع مصر نفقاتها.
فلهذه الأسباب كلها نلح في المطالبة بإرجاع السودان إلى حظيرة الوطن الأكبر «مصر» وفاقا للحق والعدل.» ا.ه. (1-2) في تقرير اللورد ملنر
لما قدم اللورد ملنر مذكرته إلى الوفد المصري في 8 أغسطس 1920 أهمل في هذه المذكرة ذكر السودان فأبدى له - كما جاء في التقرير - عدلي باشا ملاحظته على هذه المذكرة، وأفهم اللورد ملنر أنها خالية من ذكر السودان، وأن مسألة السودان مسألة حيوية لمصر، فأرسل اللورد ملنر إلى عدلي باشا الخطاب الآتي:
عزيزي الباشا
بخصوص الحديث الذي جرى بيننا أمس، أعود فأقول مرة أخرى إنه ليس بين أجزاء المذكرة التي أنا مرسلها إليك الآن جزء يقصد تطبيقه على السودان كما هو ظاهر من المذكرة نفسها، ولكني أرى اجتنابا لكل خطأ وسوء فهم في المستقبل أنه يحسن بنا أن ندون رأي اللجنة، وهو أن موضوع السودان - الذي لم نتناقش فيه قط نحن وزغلول باشا وأصحابه - خارج بالكلية عن دائرة الاتفاق المقصود لمصر فإن البلدين يختلفان اختلافا عظيما في أحوالهما، ونحن نرى أن البحث في كل منهما يجب أن يكون على وجه مختلف عن وجه البحث في الآخر.
إن السودان تقدم تقدما عظيما تحت إدارته الحالية المؤسسة على مواد اتفاق 1899 فيجب والحالة هذه ألا يسمح لأي تغيير يحصل في حالة مصر السياسية أن يوقع الاضطراب في توسيع نطاق تقدم السودان وترقيه على نظام أنتج مثل هذه النتائج الحسنة.
على أننا ندرك من الجهة الأخرى أن لمصر مصلحة حيوية في إيراد الماء الذي يصل إليها مارا في السودان، ونحن عازمون على أن نقترح اقتراحات من شأنها أن تزيل هم مصر وقلقها من جهة كفاية ذلك الإيراد لحاجاتها الحالية والمستقبلة» ا.ه.
ملنر
ولما عرض مشروع اللورد ملنر على الهيئات النيابية في مصر قدمت الجمعية التشريعية تحفظا بشأن السودان «بأنه جزء من مصر، وبأنه لا مندوحة عن إدخاله في الاتفاق.»
ولما قدم سعد باشا التحفظات إلى اللورد ملنر كان هذا التحفظ منها، ولما اجتمع اللورد ملنر بالوفد المصري الاجتماع الأخير وطلب تأجيل البحث في التحفظات وفي غير ذلك إلى المفاوضات الرسمية، فختم سعد باشا الكلام معه بقوله:
إن مجهوداته لا تأتي بنتيجة ما لم يطمئن أهل القطر المصري على ما جاء بالتحفظات، ويتأكدوا أن بريطانيا العظمى ألغت الحماية فعلا. (1-3) في مشروع اللورد كرزون
في 10 نوفمبر 1921 قدم اللورد كرزون إلى الوفد الرسمي المصري برئاسة عدلي باشا مشروع اتفاق بين بريطانيا العظمى ومصر، وقد جاء في هذا المشروع عن السودان ما نصه:
المادة 17
حيث إن رقي السودان السلمي هو من الضروريات لأمن مصر ولدوام موارد المياه لها تتعهد مصر بأن تستمر في أن تقدم لحكومة السودان نفس المساعدات الحربية التي كانت تقوم بها في الماضي أو أن تقدم بدلا من ذلك لحكومة السودان إعانة مالية تحدد قيمتها بالاتفاق بين الحكومتين، وتكون القوات المصرية في السودان تحت أمر الحاكم العام، وغير ذلك تتعهد بريطانيا العظمى بأن تضمن لمصر نصيبها العادل من مياه النيل، ولهذا الغرض قد تقرر ألا تقام أعمال ري جديدة على النيل أو روافده جنوبي وادي حلفا بدون موافقة لجنة مؤلفة من ثلاثة أمناء؛ يمثل أحدهم مصر، والثاني السودان، والثالث أوغندا. ا.ه. (1-4) رد الوفد المصري
قال الوفد الرسمي في رده على مشروع اللورد كرزون أن هذا المشروع تضمن المبادئ التي عرضت علينا منذ أربعة أشهر ورفضناها. «أما مسألة السودان التي لم يكن قد تناولها البحث فلا بد لنا فيها من توجيه النظر إلى أن النصوص الخاصة بها لا يمكن التسليم بها من جانبنا فإن هذه النصوص لا تكفل لمصر التمتع بما لها على تلك البلاد من حقوق السيادة التي لا نزاع فيها مع حق السيطرة على مياه النيل.» (1-5) في مشروع الدستور
ولما رفع دولة يحيى باشا مشروع الدستور إلى جلالة الملك في 19 أبريل 1923 قال في كتابه إلى جلالته: «وقد وضع النصان المختصان بالسودان بالصورة التي وردت بالدستور بناء على ما أبداه فخامة المندوب السامي من التأكيد بأن حكومة جلالة ملك بريطانيا العظمى ليس من قصدها مطلقا أن تنازع في حقوق مصر في السودان ولا في حقوقها في مياه النيل.»
وجاء في المادة 159 من الدستور ما نصه: «تجري إحكام هذا الدستور على المملكة المصرية بدون أن يخل ذلك مطلقا بما لمصر من الحقوق في السودان.»
وكان الأصل «أن السودان وإن كان جزءا من مصر لا يجزأ إلا أنه يدار بنظام خاص.»
وجاء في المادة 160: «يعين اللقب الذي يكون لملك مصر بعد أن يقرر المندوبون المفوضون نظام الحكم النهائي للسودان.»
وكان الأصل «أن ملك مصر يلقب بملك مصر والسودان.»
هوامش
نظرة في المستقبل ومستقبل مصر في السودان وحده
لا تعيش الأمة ليومها، ولكنها تنظر من حياة اليوم إلى غدها، فإذا نظرت الأمة المصرية إلى هذا الغد القريب عرفت أن أرضها ضائقة بها، وأنه لا مندوحة للسلالة الآتية عن المهاجرة، فعدد السكان الذي يناهز الآن 13 مليونا يزيد في كل سنة 3 بالمئة، وهذه الزيادة مضطردة لتحسن الأحوال الصحية، وما بقي من أرض مصر بورا أو غامرا لا يزيد على مليون و800 ألف فدان، فضلا عن إنهاك قوة الأرض بكثرة الزرع وتواليه؛ فالنيل هو الطريق الوحيد لهجرة المصريين، ومما وجدوه في الآثار القديمة قول الإله آمون: «كل بلاد يغمرها النيل في فيضانه لهي من مصر، وكل من يشرب من مياه هذا النيل فوق مدينة إلفانتين هم مصريون.»
ولقد اتجهت أنظار الباحثين إلى أرض تصلح للزراعة، ويجد فيها المصري رزقه يوم تضيق بلاده به، فاتجهت الأنظار إلى صحراء مريوط؛ فمد فيها الخديوي عباس الثاني خطا حديديا إلى حدود طرابلس الغرب وأخذ بتعمير العزب، ولكن الأرض بحاجة إلى الماء وماء المطر لا يكفي وماء النيل يحول الآن إلى ري الجزيرة، ومساحة هذه الجزيرة بين النيل الأبيض والنيل الأزرق عشرة ملايين فدان، يقول الإنكليز: إن سبعة ملايين فقط صالحة للزراعة، ويريدون بالزراعة زراعة القطن، وبما أنهم خصوا الجزيرة بماء النيل الأزرق فأي أرض يمكن أن تصلح بماء النيل الأبيض الذي تركوه لمصر وهو ماء جيري لا يصلح لتغذية النبات خلافا للنيل الأزرق الذي يحمل الطمي الذي يغذي التربة المصرية ويجعلها تربة خصبة، ومصر مهددة الآن بالحرمان من ماء هذا النهر ومن طميه، وما دامت سنة الطبيعة أن يتقاذف السكان إذا ازدحمت بهم الأرض وأرض مصر ستزدحم قريبا بسكانها وفي المنوفية الآن 360 نفسا في الكيلو متر المربع، فالتقاذف حادث لا محالة بأن ينتقل أبناء أسوان إلى دنقلة وأبناء قنا إلى أسوان، وهكذا يصعد المصريون من الدلتا مع مجرى النيل إلى السودان فيعمرونه، ومنذ استعادة السودان إلى اليوم هجر كثيرون بلادهم إلى دنقلة وبربر والجزيرة وسواها.
وقد كان اللورد كرومر والسير غارستن يتشاءمان من مصير السودان لقلة السكان فاقترح بعض الإنكليز أن ينقلوا إليه جماعات الهنود، ولكن التجربة لم تنجح ولا يمكن أن تنجح، وهذه مشروعات الري في الجزيرة يقوم بها المصريون يؤخذون عمالا مأجورين ولكن على نظام يكاد يكون عسكريا؛ لأنهم يستأجرون العامل لمدة سنة أو سنتين، ويعطون لكل واحد منهم نمرة خاصة، وكل عامل ملزم بصرف المدة التي تعهد بصرفها في السودان وباتباع النظام الذي وضعوه، وقد علمت حادثة كينيا الإنكليز ألا يكثروا من الهنود في إحدى مستعمراتهم فإنهم ملأوا كينيا بالهنود والإسكوتلانديين فقام الهنود يطلبون حقوق الإنكليز؛ لذلك عدلوا في السودان عن استخدام الهنود إلى استخدام الصوماليين.
ولما كانت الأرقام لا تخطئ فإنا نقتبس هنا بيانا قدمه سمو الأمير عمر طوسون إلى المعهد العلمي المصري في جلسة 3 مارس سنة 1924 مبينا فيه بالأرقام كيف ينتظر أن تضيق مصر بأهلها، وكيف أن هذه الزيادة في عدد السكان لا تجد لها مرتزقا في غير السودان.
وقد جعل سمو الأمير عنوان بيانه:
مالية مصر من عهد الفراعنة إلى اليوم.
والذي يهم القارئ المصري على وجه التخصيص خاتمة هذا البيان وتعزيزها بالأرقام.
عصر الفراعنة
ليس لدينا عن مؤرخي هذا العصر ما نعرف منه مساحة أرض مصر الزراعية ولا خراجها، غير أن مؤرخي العرب تداركوا هذا النقص، ولكن جسامة المبالغ والمساحة التي ذكروها تنبو بنا عن الركون إليها، وهذا ما قالوه مقدرا بالجنيه المصري:
المؤلف
الحاكم
الخراج بالجنيه المصري
ابن خرداذبه
الفراعنة
56000000
أبو صالح
يوسف بن يعقوب
14760000
ابن وصيف شاه
منقاوس
16800000
ابن وصيف شاه
فرعون موسى
43200000
المقريزي
الريان بن الوليد
58200000
المقريزي
الريان بن الوليد
60000000
أبو المحاسن
كيكاوس
60018000
المسعودي وابن إياس
الأرض المزروعة
بالفدان
18000000
ولكني رأيت بناء على براهين شرحتها في مذكرتي أن عدد سكان مصر في عهد الفراعنة كان 18 مليونا أو 20 مليونا على الأرجح، وأن مساحة المزروع منها كان 6 ملايين فدان، ثم إن بعض المؤرخين ذكروا النسبة المئوية التي كان يجبى الخراج على مقتضاها وإن لم يذكروا الخراج نفسه. فإذا راعينا هذه النسبة مع المحصول الذي كان ينتجه القطر في هذا العصر وجب أن يكون الخراج كالآتي على قول هؤلاء المؤلفين:
المؤلف
النسبة المئوية
المساحة المزروعة
الخراج بالجنيه المصري
عن الفدان بالقرش
مسبيرو ولمبروزو
10 في المئة
6000000
2100000
35
هارتمان
20 في المئة
6000000
4200000
70
عصر البطالسة
لم يتيسر لنا الاهتداء إلى أي نص عن الخراج في هذا العصر، ولكننا استنتجناه استنتاجا مما ذكره ديودور الذي زار مصر في أواخر هذا العصر حيث قال:
إن أرض مصر كانت ثلاثة أقسام بين الكهنة والملك ورجال الجيش، وقسم الكهنة كان أعظمها والثالث أقلها فرأيت أن القسم الثاني كان ثلث مساحة أرض مصر المزروعة، وحيث إنها 6 ملايين فدان كما أشرنا إلى ذلك من قبل فالأقسام الثلاثة تكون كالآتي:
قسم الكهنة: 2500000
قسم الملك: 2000000
قسم الجيش: 1500000
وقسم الملك يكون معفى من الخراج بطبيعة الحال، والقسمان الآخران خراجهما 787500ج.م بناء على حسابي وباعتبار
قرشا عن الفدان الواحد.
عصر الرومان
زار إسترابون مصر في أيام الرومان، ووصفها وصفا جغرافيا مستفيضا، ولكنه بخل بذكر شيء عن شئونها المالية، واكتفى بقوله إن مصر تدفع جزية عظيمة.
وقال مركاروت: إن الخراج كان بنسبة 20٪ من محصول الأرض.
وقد وصف إسترابون الطريقة الحسنة التي كانت تروى بها أرض مصر في ذلك العهد، ومن هذا يجب أن نستخلص أن المساحة الزراعية ومحصولها لم يكونا يقلان عما كانا في عصر الفراعنة إن لم يفوقاه، ولهذا أرى أن القطر كان في حالة سعادة يسهل معها تأدية الخراج مقدرا بمبلغ 4500000ج.م عن مساحة 6 ملايين فدان، وبواقع 85 قرشا عن الفدان الواحد.
عصر البيزانطيين
المعلومات عن الخراج في هذا العصر قليلة ولا تفيد فائدة تامة، وإذا اكتفينا بهذه المعلومات الجزئية وهذا لا مندوحة عنه اعتبرنا أن متوسط جباية الخراج عن الفدان نحو الثلاثين قرشا، فيكون مقدار الخراج عن الستة الملايين 1800000ج.م.
الخراج في عصر العرب
كانت مساحة الأرض المزروعة في مصر في خلافة عمر على ما أرى نحو الستة ملايين فدان، وقد اختلفت مقادير الخراج في عهده كما يؤخذ من عبارات المؤرخين المذكورين بعد، وعلى ذلك يكون كما يأتي:
المؤلف
مقدار الخراج بالجنيه المصري
مساحة الأرض بالفدان
متوسط الخراج عن الفدان بالقرش
ابن عبد الحكم
816666
6000000
13
اليعقوبي
420000
6000000
7
البلاذري
3300000
6000000
55
وقد مسحت أرض مصر في عصر العرب أول مرة على يد ابن رفاعة عامل سليمان بن عبد الملك عليها سنة 97ه (سنة 715م) وقضى في مسحها من الإسكندرية إلى أسوان تسعة أشهر. ذكر ذلك ابن عبد الحكم ولكنه لم يذكر نتيجة هذه المساحة، ومسحت ثاني مرة على يد ابن الحجاب قال الكندي: وولي خراجها ابن الحجاب لأمير المؤمنين هشام فخرج بنفسه فمسح أرض مصر كلها عامرها وغامرها مما يركبه النيل فوجد فيها ثلاثين ألف ألف فدان ا.ه.
وبلغ خراجها في عهده أربعة ملايين دينار (2400000ج.م) بواقع 8 قروش عن الفدان، ويؤخذ من المقريزي أن مساحتها في عهد المأمون كانت 3004732 فدانا وخراجها 4257000 دينار (2554000ج.م) بواقع 85 قرشا عن الفدان.
ومسحت ثالث مرة على يد ابن المدبر عامل الخراج في خلافة المعتز بالله فوجد فيها ما يصلح للزراعة أربعة وعشرين مليون فدان على ما ذكره المقريزي، وبلغ خراجها ثمانمائة ألف دينار (480000ج.م) بواقع قرشين عن الفدان، وبلغ الخراج في مدة حكم أحمد بن طولون على ما ذكره ابن وصيف شاه 4200000 دينار (2580000ج.م) وكان زمنه زمن رخاء، وفي حكم الإخشيد بن محمد طغج بلغ الخراج على ما ذكره المقريزي مليوني دينار عبارة عن (1200000ج.م).
وفي خلافة العز لدين الله كان خراجها في سنة 358ه على ما ذكره ابن وصيف شاه 1200000 دينار (720000ج.م) وفي سنة 359ه على ما ذكره ابن حوقل 3200000 دينار (1920000ج.م) وكذلك في سنة 360ه على ما ذكره أبو المحاسن.
وبلغ في خلافة المنتصر بالله على ما ذكره أبو صالح 3121000 دينار (1872000ج.م).
وفي حكم صلاح الدين بلغ خراج مصر عدا إقليمي منفلوط ومنقباط سنة 585ه على ما ذكره القاضي الفاضل 4653029 دينارا (2791817ج.م).
ومسحت أرضها رابع مرة في عهد المنصور حسام الدين لاجين فكانت 5733723 فدانا خراجها بلغ 10816584 دينارا (6489950ج.م) بواقع
قرشا عن الفدان.
ومسحت خامس مرة في عهد الناصر محمد بن قلاون في سنة 715ه (1315م) فبلغت 5133723 فدانا وخراجها 9428289 دينارا (5656973ج.م) بواقع
قروش عن الفدان وهي آخر مساحة عثرنا عليها في هذا العصر.
عصر العثمانيين
عثرنا في هذا العصر على ما كتبه مؤرخان فقط؛ أحدهما عن أوله والثاني عن آخره، فقد ذكر ابن إياس وكان حيا في السنين الأولى للفتح العثماني أن خراج مصر بلغ 1300000 دينار (780000ج.م) و600000 أردب من الغلال في 35 قرشا يساوي 210000ج.م فيكون المجموع 990000ج.م.
ويؤخذ مما ذكر استيف في كتاب (وصف مصر) أن الخراج بلغ 1052951ج.م قبل إغارة الحملة الفرنسية على مصر، أما مساحة الأرض في هذا العهد فكانت 4542279 فدانا بواقع 23 قرشا عن الفدان.
عصر الفرنسيين
وصلت الحملة الفرنسية إلى مصر وهي من الوجهة الزراعية في أسوأ حالة، ويؤخذ من حساب استيف أن الخراج عن سنة 1799م بلغ 22543399 فرنكا (869613ج.م) نقدا وعينا ومساحة الأرض المزروعة 4542279 فدانا بواقع 19 قرشا عن الفدان.
عصر الأسرة العلوية
ذكر مانجان عن سنة 1821م أن الخراج بلغ 660541ج.م ومساحة الأرض المزروعة 2031905 فدادين، أي بواقع
قرشا عن الفدان.
وقال كلوت بك عن سنة 1833م: إن مساحة الأرض المفروض عليها الخراج هي 3685612 وأن خراجها يبلغ 1084912ج.م، أي بواقع
قرشا عن الفدان.
وإنني مضطر لأن أنزل عن عصر محمد علي إلى عصر توفيق في سنة 1881م وأترك ما بينهما؛ لأنني لم أعثر على ما أعرف منه الخراج في هذه المدة من جهة ولأن سنة 1881 تبين لنا الوقت الوسط من حكم هذه الأسرة بين محمد علي وعصرنا الحاضر، ووقفنا على حالة البلاد في الفترة التي كانت قبل الاحتلال الإنجليزي.
أما مساحة الأرض المفروض عليها الخراج في سنة 1881م المذكورة فقد بلغت 4714406 فدادين وخراجها بلغ 4880518ج.م بواقع
قرشا عن الفدان.
وفي سنة 1921م من عهد جلالة الملك فؤاد بلغت مساحة الأرض 5615700 فدان وخراجها 5134660ج.م بواقع 90 قرشا عن الفدان.
وقد جاء في مذكرة السير مردخ ماكدونلد مستشار وزارة الأشغال العمومية عن أعمال مراقبة النيل في سنة 1919م:
إن مساحة الأرض المزروعة والقابلة للزراعة بمصر هي 7300000 فدان يستنزل منها ما هو مخصص لتربية الأسماك وقدره 200000 فدان، فيكون الباقي 7100000 فدان.
يستنزل منه المساحة المفروض عليها خراج وهي 5600000 فدان، فيكون الباقي 1500000.
وهذا المقدار هو المساحة الغير المزروعة الآن من أرض مصر والقابلة للزراعة في المستقبل.
الخاتمة
قد تبين مما سبق أن مساحة الأراضي القابلة للزراعة في القطر المصري (7100000) فدان عدا (200000) فدان تربى فيها الأسماك والمقدار الأول قسمان (5600000) فدان تجبى منها الضرائب باعتبار أنها مزروعة و(1500000) فدان غير مزروعة الآن وقابلة للزراعة في المستقبل.
وجملة سكان مصر 12718255 حسب إحصاء سنة 1917 فيكون لكل فدان شخصان وربع، وأكثر المديريات سكانا بالنسبة لمساحتها مديرية المنوفية؛ إذ يخص كل ثلاثة من سكانها فدان واحد، وما زال المصريون منذ إحصاء سنة 1917 في نمو مستمر، فإذا تركنا سني الحرب الاستثنائية جانبا نجد زيادة عدد المواليد على عدد الوفيات في سنة 1921 حسب تقرير مصلحة الإحصاء بلغت (234459) وفي سنة 1922 (243536) نسمة.
وكلما زاد عدد السكان كثر ازدياد عدد المواليد على عدد الوفيات طبعا، ولا ريب عندنا في أن متوسط هذه يبلغ سنويا 250000 بدون أدنى مبالغة.
وليس في مديرية المنوفية وهي أخصب أرض مصر قطعة لا تزرع، ومع ذلك فكثير من سكانها يهاجرون؛ لأنهم لا يجدون ما يقوم بأود معيشتهم فيها، على أننا مع هذا نسلم بقاعدة كفاية الفدان الواحد من كل أرض زراعية في مصر لمتوسط معيشة ثلاثة أشخاص، فنقول بناء على هذه القاعدة:
إن الأرض المزروعة في مصر ومقدارها (5600000) تكفي لمعيشة (16800000) نسمة، وبعد تعداد النفوس سنة 1917 بلغ مجموع زيادة المواليد عن الوفيات (871770) بتقدير مصلحة الإحصاء فإذا أضفنا إلى ذلك زيادة سنة 1923 ومقدارها (250000) وأضفنا المجموع إلى إحصاء سنة 1917 يكون عدد السكان في نهاية سنة 1923 (13800000) وبطرحه من (16800000) نسمة، وهو العدد اللازم لاستثمار المساحة المقرر عليها ضرائب يكون الباقي (3000000) نسمة وهو عجز يسد بزيادة السكان السنوية، فإذا سلم لنا أنها (250000) سنويا يتلاشى هذا العجز بعد اثنتي عشرة سنة، على أنني أقول: إن عشر سنوات فقط تكفي لذلك إذا جرت الأمور في مجراها الطبيعي.
وإذا أعدت المساحة الغير مزروعة الآن للزراعة وهي تشمل الجزء الشمالي وإقليم البحيرات للدلتا ومقدارها كما مر (1500000) لزمها من السكان (4500000) وهو مقدار يتلاشى بزيادة السكان في مدى ثمان عشرة سنة، فتكون السنوات اللازمة لملاشاة العجز كله ثلاثين سنة أو بالحري خمسا وعشرين سنة، أي ربع قرن أو نصف العمر الغالب للإنسان، وعلى ذلك نجد أنفسنا أمام إحدى حالتين، وهما:
الأولى:
إذا لم تجفف مياه إقليم البحيرات ولم يعد للزراعة وصلنا إلى آخر حد لاستطاعة القطر تحمل سكانه في مدة 12 سنة على الأكثر.
الثانية:
إذا جففت مياهه وأعد للزراعة وصلنا إلى الحد المذكور في مدة ثلاثين سنة على الأكثر.
وهاتان المدتان حتى أطولهما أقرب إلينا من حبل الوريد، ومعظم النسل الحاضر سيرى بعيني رأسه انقضاء هذه السنين، فماذا نصنع بعدئذ والزيادة مستمرة في السكان؟
لا ريب أنه يجب علينا منذ الآن التفكير في حل لهذه المعضلة الاجتماعية المتوقعة، وهو ما سنفرد له هذا المبحث. الجزء المروي والممكن ريه من القطر المصري على شكل شريط طويل دقيق ينتهي طرفه الشمالي بشكل مروحة عند البحر الأبيض المتوسط، وهذه هي التي تسمى الدلتا.
وهذا الجزء المروي يحد بصحراء العرب شرقا وصحراء لوبيا غربا، وليس في الإمكان ري أرض الصحراوين المذكورتين بمياه النيل؛ لارتفاعهما وعدم استواء مسطحهما، فسيستمر جدبهما لهذا العائق الذي لا يمكن تذليله إلى ما شاء الله، ومن المستحيل في مصر الانتفاع بأرض لا يرويها النيل فليس هناك احتمال لتوسع زراعي من هاتين الجهتين.
وفي الجهة الشمالية البحر، فإذا وجهنا زيادة عدد سكاننا إلى هذه الوجهة وافترضنا ارتحالها إلى ما وراء البحار وتركنا جانبا كراهة المصري الغربة فإننا لا نجد ما يحقق لها أي رغد من العيش للبون الشاسع بين البلادين طقسا وطبيعة وجنسية ولغة وديانة فهذه الجهة في حكم المسدودة.
أما المورد الصناعي للمعيشة فضلا عن أن مصر تنقصها المواد الأولية لتكون الصناعة فيها زاهرة يانعة فإنه مورد محدود من المستحيل أن ينتفع به عدد عظيم من السكان في مصر، ولنفرض أنهم نصف مليون أو مليون فإنه يستغرق بزيادة السكان في مدى أربع سنوات فقط، ومتى انقضى هذا الأجل القصير نجد أنفسنا أمام المعضلة بعينها من جديد.
وحاشا أن أقصد تثبيط الهمم عن الصناعة بهذا الكلام، وإنما القصد فقط بيان عدم كفاية هذا المورد، وأنه لا يحل المشكل الذي نحن بإزائه.
فالمنفذ الوحيد المفتوح أمامنا هو جهة الجنوب حيث يوجد إقليم واسع ذو سكان قليلي العدد، وأرض من طبيعة أرض مصر تروى بنفس النيل ولا يفصلها عنا فاصل؛ بل هي ومصر جسم واحد.
وإقليم كهذا حالته المعيشية وثمار أرضه مماثلة لقطرنا، المصريون وحدهم هم الذين في استطاعتهم جعله في حالة سعادة ورفاهية، وبالاختصار هو بيئة مناسبة لأمزجة المصريين على قدر ما هم أنفسهم موافقون لهذه البيئة، وهو الذي يسع الزيادة المستمرة لسكان مصر مدى مائه عام بدون أدنى مضايقة.
فالسودان هو باب السلام الوحيد الذي ظل مفتوحا لمصر على مصراعيه منذ الأزمان الخالية، ويجب أن يبقى كذلك إلى الأبد؛ لأنه لازم لها لزوم الروح للجسد.
وإلى هذا الغرض يجب أن تصوب جميع مجهودات أولئك الذين في يدهم حظ مصر، وفي قلبهم يضمرون لها النفع والمصلحة.
مراقبة مياه النهرين الكبيرين
يريدون أن يبيعوا مال النيل لمصر بيعا
يقول الإنكليز إن رقابة النهرين
1
مضمونة لمصر، وبأن مياه السودان في قبضة الحكومة المصرية، ويقدمون البرهان على ذلك بقولهم: «إن الحكومة المصرية أسرعت بعد فتح السودان إلى معرفة حالة النهرين - النيل الأبيض والنيل الأزرق - وأشار السير ويليان غارستن في وضع مسائل الري بين يدي الحكومة المصرية، وأن لا يصرح لحكومة السودان بأن تعمل عملا ذا علاقة بمياه النيلين إلا بتصريح كتابي من حكومة مصر. فقبلت حكومة السودان هذا الشرط ولا تزال مقيمة عليه إلى الآن.» «وفي نوفمبر 1914 صادق مجلس النظار على إنشاء فرع للري في السودان وهو موجود إلى الآن، وله سلطة تامة في مراقبة مياه النيلين، وفي مارس 1922 كتب أحد كبار رجال الري في وزارة الأشغال أثناء قيامه بأعمال وزيرها إلى الوكالة الإنكليزية وهي وسيطة بين الحكومتين المصرية والسودانية في أمر المياه يقول: «إن وزارة الأشغال ترغب في مساعدة حكومة السودان في تذليل الصعاب القائمة في سبيل مشروع الري هناك، ولا تسمح مطلقا بتدخل أي سلطة كانت في رقابة المياه اللازمة لمصر أو في أمر المشروعات المنوي إنشاؤها لفائدة هذه البلاد كما جرت العادة منذ فتح السودان إلى الآن.» «إن وزارة الأشغال لا تزال تشدد في الرقابة على مياه النيلين كما فعلت في الماضي فسمحت بعد إتمام خزان أسوان بري 10 آلاف فدان ريا دائما، ثم رفعت هذا المقدار إلى عشرين ألف فدان بعد تعلية ذلك الخزان، وكذلك كان في مشروع ري الجزيرة الذي يقصد منه ري 300 ألف فدان فإن حكومة السودان لم تقدم عليه إلا بعد موافقة الحكومة المصرية، وللحكومة المصرية مهندسون يراقبون المشروع المذكور وهم مسئولون أمامها، ويتناولون رواتبهم منها، وينفق على المشروع من القرض الذي عقدته حكومة السودان بإنكلترا، ولحكومة مصر تفتيش لعموم الري، وستزاد ميزانية هذا الفرع عشرة آلف جنيه ينفق معظمها على توسيع مجرى النيل وإزالة السدود.» •••
ذلك ما توخوا نشره ظانين أنهم به يغطون الحقائق، بل ظانين أنهم به يقابلون صيحة الشعب المصري «السودان لنا» إذ يدخلون على ذهن هذا الشعب أن النيل في قبضة مصر وأن مياهه تجري بإرادة مصر. فتقول مصر ويقول الشعب المصري: إن مسألة السودان منحلة. بل يظنون أنهم يقولون معهم: «كل شيء جار على أتم حال، وليس في الإمكان أحسن مما كان.»
ولكنا نتساءل هنا ما هو المقصود بقولهم: «إن وزارة الأشغال هي التي قررت ما قررت في سنة 1914؟» فهل يستطيع الذين نشروا تلك المذكرة الشبه الرسمية أن يسموا لنا مهندسا مصريا واحدا ذا إلمام صحيح بما جرى وما يجري بمياه النيل وبالسودان؟
هل في هذه البلاد مهندس مصري واحد يعرف ما تضمنته التقارير السرية التي كتبتها البعثات التي أرسلت إلى أعالي النيل متوالية متتابعة سنة بعد أخرى؟ وهل ظهر شيء في مصر أو وصل شيء إلى علم مصري واحد عن المباحث في بحيرة تسانا، وعن المشروعات المنوية فيها؟ وهل يعرف مصري واحد ما أنفق من الأموال ووزع من الهدايا على رؤساء الأحباش في تلك المنطقة وكلها من أموال مصر والمصريين؟
إنا لنذكر ولا ننسى ذلك المنشور الذي أذاعوه «بأن مصلحة ري السودان تخاطب مباشرة وكيل وزارة الأشغال الإنكليزي الذي يستخدم سكرتيرا إنكليزيا فلا تمر أوراق السودان بديوان الإدارة المصرية»! أما كفانا دليلا على حقيقة الواقع ما قاله المستر توتنهام لبعض الصحافيين بعد عودته من أعالي النيل أنه اتفق مع ولاة الأمر في الأوغندا على أن يسمحوا بأخذ الأرصاد على بحيرة ألبرت لمعرفة مناسيب المياه التي تهم مصر؟
أهذا ما يعتبرونه الرقابة على مياه النهرين الكبيرين؟ إنا لا ننسى أعمالهم، ولا يمكنا أن ننسى أن الوزارة العدلية أمرت بإيقاف البناء في القناطر الكبيرة في السودان إلى أن تتم المفاوضة بين مصر وإنكلترا، فلم يحترم حاكم السودان هذا القرار، وبينما كان الوفد الرسمي يفاوض اللورد كرزن ووزير الأشغال المصرية إلى جانبه أرسل ذلك الحاكم تلغرافا بإهمال قرار الحكومة المصرية وبمواصلة العمل في خزان مكوار الذي أوشك أن ينتهي.
فهل هذه هو احترام رأي الحكومة المصرية في مياه النيل؟ •••
على أن اللسان مهما ضبط وعقل فهو ينم عن الأفكار وما تكن الصدور، فقد نمت ألسنتهم عليهم وعما يضمرون بقولهم «في مارس 1922 كتب وزير الأشغال إلى سلطة كبرى - يريدون الوكالة البريطانية - بأن وزارة الأشغال ترغب في مساعدة حكومة السودان في تذليل العقبات القائمة في سبيل مشروع الري هناك ... إلخ» فنحن نعرف أن وزارة الأشغال صرحت بري 20 ألف فدان كما قالوا، ولكنه لم يزرع من هذه المساحة حتى الآن سوى 12 ألف فدان فماذا تكتب وزارة الأشغال يا ترى عندما تكون حكومة السودان قد زرعت 300 ألف فدان، وهي المساحة التي يهتمون الآن بإنجاز الشطر الأول من ترعها؟؟ إن كل ما تعرفه وزارة الأشغال أنها سمحت بري 20 ألف فدان فقط فمن سمح بري 300 ألف فدان وهم ينوون الزيادة الآن.
وكيف يصح أن تكون لمصر اليد العليا على مياه السودان وهم يقولون إن ذلك الموظف الكبير الذي قام مقام وزير الأشغال إبان غيابه كتب إلى «السلطة التي تعتبر وسيطة بين الحكومتين المصرية والسودانية» فهل من طريقة لفصل السودان عن مصر أكبر من هذه الطريقة، وهل من سلطة تعطى تلك السلطة الكبرى فوق هذه السلطة؟ فالوكالة البريطانية إذن هي الحكم في ماء النيل، ومتى كانت كذلك فهي المسلطة على مصر والسودان معا.
إنا نتساءل عن ذلك لأن حياة هذه الأمة ليست قصيرة المدى، بل هي حياة خالدة تتجدد.
ونحن لا ننظر إلى اليوم الذي نعيش فيه بل إلى المستقبل الذي يضطر فيه أبناؤنا إلى طلب الرزق.
بل ماذا يعنون بقولهم: «وكذلك كان في مشروع ري الجزيرة الذي يقصد منه إرواء 300 ألف فدان، فإن الحكومة لم تقدم عليه إلا بعد مصادقة الحكومة المصرية التي لها مهندسون يرقبون المشروع المذكور الخاص بحكومة السودان، وهم مسئولون أمام الحكومية المصرية عن نتيجة أعمالهم، ويتناولون رواتبهم من خزانة مصر، أما نفقات المشروع فمن القرض الذي عقد في إنكلترا.»
فهل باستطاعة أحد ممن في الأرض أو السماء أن يقول لنا من هي الحكومة المصرية التي سمحت بإرواء 300 ألف فدان في الجزيرة؟ ومتى كان هذا السماح وما هي صيغته. أم أن هذا يعد شطرا من التقارير السرية؟ وإذا كانت الحكومة أمضت هذا التصريح فبأية سلطة أمضته؟
بل من هم المهندسون المصريون الذين يراقبون المشروع وهم مسئولون أمام الحكومة المصرية ؟
إن هذه الكلمة لا يقصد منها في الحقيقة إلا تحليل الماهية الضخمة التي تدفعها خزانة الحكومة المصرية لأولئك المهندسين الذين يخاطبون وكيل الأشغال الإنكليزي، ولا تعرف الوزارة المصرية الوطنية شيئا عنهم.
يقولون: إن تلك الأعمال التي يؤخذ بها الماء لثلاثمائة ألف فدان ينفق عليها من القرض الذي عقدض في إنكلترا، ونسوا وأغفلوا عمدا أن يقولوا إن مصر تنفق جزءا من المال على هذا المشروع كأنما مال مصر حل هضمه وأكله، وأما مال سواها فهو يسجل دينا على السودان دون علم مصر.
إن مصر أقرضت السودان المال من يوم استعادته بمالها ودماء أبنائها إلى اليوم. فلماذا لم يكن الإنفاق على هذه الأعمال من قروض مصر؟ ولماذا لا تحسب قروض مصر إلى جانب هذا القرض؟
بل ما قيمة سبعة ملايين جنيه هي القرض الإنكليزي في جانب ما أنفقت مصر في الماضي، وما تنفق الآن، وما ستنفق في المستقبل؟ •••
أما تفتيش الري الذي قالوا إن مصر تنفق عليه من خزانتها وعمله «الرقابة على المياه» فهو مؤلف من الإنكليز وحدهم دون شريك لهم، وأي داع كان يدعو إلى إنفاق الأموال الطائلة والسودان لا يزرع ولا يروي ريا دائما سوى 12 ألف فدان؟
فاسألوا هذا التفتيش المبارك هل دل مصر وحكومة مصر في الوقت المناسب على حالة الفيضان، وهل أرشدها إلى الغرق أو إلى الشرق حتى تتخذ الحيطة لهذا ولذاك؟ وهل جمع لمصر المعلومات حتى تتذرع بالوسائل النافعة في الوقت المناسب؟
إن في تقرير السير مكدونالد الذي نشر في 25 فبراير 1920 والذي قامت له القيامة يوم قضية السير ويلكوكس الأرقام التي دلت على أن خزان جبل الأولياء غير ممكن ملؤه وإيصاله إلى المنسوب المقرر، وأنه عند البدء في ملئه في أول الفيضان يؤثر على حالة النهر حتى يتعذر على الفلاحين في صعيد مصر زراعة الذرة قبل نهاية شهر مسرى. فمن كان له أقل إلمام بأحوال الزراعة في هذا البلد يعرف ويدرك ما يترتب على ذلك من الضرر بمحصول الذرة، ثم بعد ذلك بالزراعة الشتوية؛ لتأخر مياه الفيضان عن دخول الحياض.
على أن الإنكليز الذين كانوا يخفون بالأمس مقاصدهم وغاياتهم ويغطونها باسم مصر ومصلحة مصر، قد كشفوا الآن الستار عن تلك المقاصد فلم يبق وجه للانخداع بأقوالهم أو بوعودهم، فقد رأينا اللورد ملنر يهمل في مذكرته إلى الوفد المصري ذكر السودان والاتفاق بشأنه بوصفه جزءا من مصر، وبوصف مسألته شطرا من المسألة المصرية، فقال في مشروعه الأول الذي عرضه على الوفد المصري في البند الثالث عشر: «تكون مسألة السودان موضع اتفاق خاص» وقال في كتابه إلى عدلي باشا في 8 أغسطس 1920 عن سبب إهمال ذكر السودان في الاتفاق «إن موضوع السودان الذي لم نتناقش فيه قط نحن وزغلول باشا وأصحابه خارج بالكلية عن دائرة الاتفاق المقصود لمصر، فإن البلدين يختلفان اختلافا عظيما في أحوالهما، ونحن نرى أن البحث في كل منهما يجب أن يكون على وجه مختلف عن وجه البحث في الآخر أن السودان تقدم تقدما عظيما تحت إدارته الحالية المؤسسة على مواد اتفاق 1899 فيجب والحالة هذه ألا يسمح لأي تقييد يحصل في حالة مصر السياسية أن يوقع الاضطراب في توسيع نطاق تقدم السودان وترقيه على نظام أنتج كل هذه النتائج الحسنة.
على أننا ندرك من جهة أخرى أن لمصر مصلحة حيوية في إيراد المياه الذي يصل إليها مارا بالسودان، ونحن عازمون أن نقترح اقتراحات من شأنها أن تزيل هم مصر وقلقها من جهة كفاية ذلك الإيراد لحاجاتها الحالية والمستقبلة.»
وهذه الاقتراحات التي أشار إليها اللورد ملنر بسطها اللورد كرزون للوفد الرسمي في مذكرته بتاريخ 10 نوفمبر 1921 بقوله:
حيث إن رقي السودان السلمي هو من الضروريات لأمن مصر ولدوام موارد المياه لها تتعهد مصر بأن تستمر في أن تقدم لحكومة السودان نفس المساعدات الحربية التي كانت تقدم إليها في الماضي، أو أن تقدم بدلا من ذلك لحكومة السودان إعانة مالية تحدد قيمتها بالاتفاق بين الحكومتين. ا.ه.
فهم يطلبون من مصر صراحة ثمن المياه التي تمر بالسودان إلى مصر، ويخيرونها بين أمرين؛ فإما أن تدفع هذه الثمن مالا عينا، وإما أن تقدم قوة عسكرية تقوم مقام البوليس في السودان لأن الإنكليز حولوا الجيش المصري إلى قوة بوليس بسيطة، وهم الآن قد حولوا أكثره إلى قوة سودانية كما نبين ذلك في مقال خاص.
هوامش
القبض على نواصي الأمم بالماء والبوليس
يتلاعبون بالسودان، ويدعون ادعاء باطلا أن لوزارة الأشغال المصرية حق الإشراف على ماء النيل والتصرف به، ويعتبرون الوكالة الإنجليزية بالقاهرة «الوسيط» بين مصر والسودان فيعطونها باسم الوساطة السلطة على ماء النيل، ويعدون على السودان القروض المالية لبناء الخزانات لري 300 ألف فدان، ولا يحسبون لمصر شيئا مما دفعت من الأموال ولا تزال تدفع إلى الآن، ويدعون ملكية البلاد باسم أموال الشركات وليس للشركة إلا منفعة ما ملكت، ويدخلون الأوغندا في الإشراف على ماء النيل ويعدونها «قوة ثالثة» حتى جعلوا ماء النيل في نظرهم مشاعا بين مصر والسودان والأوغندا، وقد يدخلون الحبشة غدا «قوة رابعة» فيزداد إشراف إنكلترا وحدها على هذه القوى الثلاث أو الأربع، ثم توقع بين هذه الأقطار لتظل لها سلطة الحكم. إن الإنكليز سائرون معنا على الطريقة التي اتبعوها في الهند، فالواجب علينا أن نعرف غرضهم وأسلوبهم؛ لنعرف كيف نحفظ حقوقنا، وكيف نحول دون لعبهم بنا، وكيف نتمسك بملك السودان الذي إذا ضاع ضاعت لضياعه مصر وثروتها واستقلالها الذي نمني النفس به ونجاهد ونكافح في سبيله.
الهند بلاد ذات مدنية قديمة معروفة بالتاريخ كمدنية المصريين. دخلها الإنكليز بشركة تجارية تسمى «شركة الهند الشرقية» وهي إذا قورنت بشركة استثمار أراضي الجزيرة في السودان كانت شديدة الشبه بها بل كانت هي هي. فتلك الشركة التجارية التي دخلت الهند صعب عليها في حين من الأحيان مواصلة عملها فاشترتها الحكومة الإنكليزية، فصارت أملاك تلك الشركة «أرضا للتاج» وهذه الأرض «أرض التاج» ليس فيها راجات ولا أمراء وهي محوطة بعدة مقاطعات مستقلة كحيدر آباد وبلوخستان، وفيها مندوب سام بريطاني كما نحن نرى الآن في السودان والأوغندا وفلسطين، وأن يكون حاكم السودان وسردار الجيش المصري لا يلقب بالمندوب فإنه بسلطته العليا على السودان وهي سلطة مستمدة من حكومة جلالة الملك، ألغى قرارا أصدرته حكومة مصر بإيقاف العمل بخزان مكوار. فحدث أن المندوب السامي في المقاطعة الهندية المستقلة طلب السماح له بتحويل المياه الضائعة بمقاطعة إلى جهة أراضي التاج؛ لإحيائها ولنفع الأهالي ممن هم تحت رعاية جلالة الملك بها، فتم لهم ما يريدون؛ لأنهم هم الذين يطلبون وهم الذين يعطون، ومهمة المندوب السامي في الهند كحكم بين المقاطعات.
وإليك نبذة مما كتبته مجلة المهندسين الهندية عن مشروع يسمى مشروع باريار، وهو أكبر مشروع للري بالهند، فقالت في 12 أغسطس 1922 عن هذا المشروع: «إن مشروع «باريار» لهو أكبر مشروع للري في الهند فلم يكن يستفاد في ما مضى من المياه الغزيرة في أراضي حكومة ترافانكور؛ لأن نهر «باريار» كان يجري من منبعه إلى مصبه في البحر دون أن تجتنى أدنى فائدة كبيرة من مياهه؛ فحكومة مدارس أدركت فوائد هذا النهر الجسيمة ففاوضت حكومة ترافنكور بشأنه للتوصل إلى اتفاق للاستفادة من المياه الضائعة، وفي النهاية تم الاتفاق بينهما، ورضيت حكومة ترافنكور بإنشاء سد وحوض عظيم على النهر تتحول به المياه إلى مقاطعات واسعة واقعة في المنطقة البريطانية.
وكان المشروع عظيما أنفق عليه ملايين من الروبيات، وعندما أكمل ظهر أنه خير وسيلة للاستفادة من ملايين الأطنان من المياه التي تجري إلى مقاطعات يسكنها ألوف من الناس، ويستخدمونها للزرع والضرع.
وقد أنشئ السد في 7 سنوات فتم إنشاؤه سنة 1895.
وتروي مياه هذا السد أراضي واسعة جدا تحولت من صحراء جدباء إلى مروج خصبة، ولم يكن هذا المشروع ثروة عظيمة للمزارعين فقط؛ بل كان عملا ماليا جليلا، وقد بدأت أرباحه بالظهور منذ ابتدائه تقريبا، وما زالت في ازدياد متواصل، وزادت في سنة 1915-1916 على مائه ألف روبية، وكان دخله نحو
في المئة، وهكذا نرى أن مشروع «باريار» لم يقتصر على إحياء ألوف من الأفدنة من الأرض الموات؛ بل عاد على الحكومة بأرباح النفقات التي أنفقتها» ا.ه.
أفلا يشتم القارئ من ذلك رائحة مشروع الجزيرة، وتحويل أحد النهرين الكبيرين إليه برضا المندوب السامي الذي وصفوه بأنه خير وسيط بين مصر والسودان كما فعل المندوب السامي بين باريار وترافنكور. •••
لا ننسى أن إنكلترا تذرعت قبل اليوم بكل الوسائل ليكون مكتشفو ينابيع النيل من الإنكليز على نفقة الحكومة المصرية؛ لأنها كانت ترمي بأنظارها إلى مصر منذ أخرجت منها ناپوليون سنة 1798، ومنذ فسخت معاهدة أميان سنة 1805، فأطلق صموئيل باكر والذين تقدموه اسم ملكتهم وولي عهدهم على منابع النيل كبحيرة فيكتوريا وبحيرة ألبرت نيانزا، لا احتراما لملكتهم وزوجها فقط؛ بل لتظل هذه الأسماء راسخة في أذهان الشعب الإنكليزي يشعر بأنه ورثها عن آبائه وأجداده لا يجوز أن ينازعه فيها منازع، وإذا كان بعد النظر في الأفراد فضيلة فإنه في سياسة الدول والأمم من أجل الفضائل وأسناها وأسماها، فالإنكليز لم يكتفوا بما تقدم بل زادوا عليه بعد احتلال السودان محو أسماء المصريين كإبراهيم وإسماعيل وغيرهما بعد أن أطلقت على الأنهر والبحيرات والمدن والمواقع والقلاع والحصون التي أقامها المصريون في تلك البقاع والأصقاع فصارت إنكليزية بعد أن كانت مصرية فامحت من تلك البلاد أسماء المصريين وحلت محلها أسماء الإنكليز.
وإذا ما أردنا شاهدا أجنبيا غير تاريخ الإنكليز في مصر والهند والسودان فلدينا كتاب أوجين أوبين في «الإنكليز بالهند ومصر» بعدما صرف هذا الباحث السنين الطوال في الهند وصرف مدة غير قصيرة في مصر، فقال في الصفحة 217: «إن مصر إقليم زراعي قوام حياته ووجوده الري، والمصريون شعب هادئ، يعرف الإنكليز عنهم ذلك، وقد دلهم طول الاختبار في بلاد الهند على أقوم طريق وأسهل سبيل في حكم المصريين، فوضعوا منذ الساعة الأولى يدهم على الري وعلى البوليس، فبواسطة البوليس والري استعبد الإنكليز مصر.»
وهذا الكلام يذكرنا بأقوال صحفهم وجرائدهم عندما هبت البلاد لطلب استقلالها، فقد قالوا إن كل استقلال تناله مصر إن هو إلا مهزلة ما دام السودان في قبضة يدنا، وهم يعنون بالسودان: الري ومنبع حياة مصر. •••
وإذا نحن ألقينا نظرة على الحالة الحاضرة نجد أن الإنكليز تمسكوا منذ الساعة الأولى بأن يكون «حكمدارات» القاهرة والإسكندرية والقناة، وهي أمهات المدن، من الإنكليز كما تمسكوا بالسودان (منبع النيل).
وإذا نحن ألقينا نظرة أخرى على مصلحة الري في مصر ذاتها نجد - كما قلنا قبل - أن وكيل الوزارة الإنكليزية هو الذي يتلقى أنباء الري بالسودان دون سواه، ونجد العنصر المصري بالري أحط مقاما مما كان عليه قبل الحرب.
فالمفتش في خزان أسوان إنكليزي ووكيله إنكليزي، والمفتش بقنا مصري ووكيله إنكليزي، وكذلك في قناطر أسيوط وري زفتى بالمنصورة، ومفتش القسم الثالث في الإسكندرية إنكليزي ووكيله إنكليزي، وكذلك في القسم الثاني بطنطا وفي القسم الأول بالقاهرة وقسم الخيرية والقسم الرابع ببني سويف.
ونجد في تفتيش عموم ري الوجه القبلي المفتش العام مصري ووكيله إنجليزي، وفي عموم ري الوجه البحري المفتش ووكيله إنكليزيان، وهؤلاء جميعا باقون حتى سنة 1927.
إن الإنكليز كما قال أوبين أوجين قد جعلوا الري غلا في عنق مصر وقيدا في رجلها دون الاستقلال، فالذين وكلتهم الأمة بطلب استقلالها موكول إليهم البحث عن هذا الاستقلال بكل أجزائه، والأمة من ورائهم تسند ظهورهم وتؤيدهم كل التأييد.
مشروعات الري الحديثة في وادي النيل والإيراد المائي اللازم لريه
(1) بيان السر مردوخ مكدونالد مستشار الأشغال
كتب السر مردوخ مكدونالد مستشار وزارة الأشغال مذكرة عن الإيراد المائي اللازم لري الأراضي المصرية، وتكلم فيها بالتفصيل عن تقدم الزراعة وطرق الري، وهي المذكرة التي انبرى المهندسون لتفنيدها، وهي مع ذلك تدلنا على أن سد مكوار لا يفيد مصر بل يضر بها، وإليك نص المذكرة:
إن كيفية جعل المقدار الطبيعي لمياه النيل وافيا في جميع موسم السنة مما يتطلبه تقدم الزراعة التي كانت ولا تزال نصب أعين القائمين بشئون الري في القطر المصري، وقد تقدمت الزراعة تقدما عجيبا خلال القرن الماضي الذي شهد تحويل الوجه البحري من نظام الري القديم نظام ري الحياض بمحصوله السنوي الوحيد، إلى النظام الحديث الري الصيفي الذي معه تستطيع الأرض أن تنتج في المتوسط محصولين في السنة أحدهما محصول القطن الثمين، وشهد القرن الماضي أيضا تحقيق تلك الفكرة الباهرة فكرة قناطر الدلتا واستخدامها فيما بعد للري.
أما في القرن الحالي فالتقدم في توسيع أراضي مصر الزراعية ازداد ازديادا عظيما؛ إذ في غضون الفترة القصيرة التي انقضت منه تم إنشاء خزان أسوان الأول وقناطر أسيوط وزفتى وإسنا والسدود الغاطسة التي عند قناطر الدلتا وخزان أسوان الثاني أو بعبارة أخرى تعلية الخزان الأول.
ولما كانت مصر بلدا زراعيا محضا كان ازدياد السكان العظيم الذي بدأ في العقود الأخيرة من القرن الماضي ولا يزال مستمرا إلى الآن - عاملا سريعا جعل التسهيلات المتزايدة لإنتاج الحاصلات لا تكاد تفي بحاجاته.
وبناء عليه ما كاد يتم آخر الأعمال العظيمة المذكورة آنفا حتى قضت الحاجة بالشروع حالا في طائفة جديدة؛ لكي تزيد حاصلات البلاد نماء بمعونة إيراد من المياه أكثر وفاء بالمطلوب.
وقد جاء في تقرير وزارة الأشغال لسنة 1914 بيان إجمالي لطائفة أعمال من هذا القبيل، والغرض من هذه المذكرة أن تكون بمثابة شرح أوفى لهذه المشروعات. ا.ه. (1-1) رأي سري باشا
وقد كتب حضرة صاحب المعالي تحت هذه المقدمة ما يأتي:
إن المشروعات الوارد وصفها في الصفحات التالية هي المشروعات التي درستها مصلحة الري بمباشرة السر مردوخ مكدونالد وتناقشت فيها معه مرارا، وقد وافقنا معا على تلك المشروعات بالشكل المقدمة فيه الآن، ولي الأمل أن الحكومة ستوافق عليها، وتضعها موضع التنفيذ في الوقت اللازم.
في 23 فبراير سنة 1920.
الإمضاء: إسماعيل سري (2) العودة إلى مذكرة مستشار الأشغال (2-1) الباب الأول
الحاجة إلى الماء في المستقبل وشدة هذه الحاجة، ضرورة التوسع في أرض الزراعة «ليس إيراد المياه الصيفي في النيل في جميع السنين تقريبا بكاف لتمام القيام بري الأراضي المتوقفة زراعتها عليه في الوقت الحاضر، وهناك في الوقت ذاته حاجة ماسة إلى التوسع في الزراعة بإدخالها في مناطق جديدة لا تزال إلى الآن في حالة البوار لعدم توفر المياه.
وهذه الحاجة ناشئة عن ضغط تزايد السكان السريع؛ إذ بلغ عددهم في الأربعين سنة الأخيرة نحو مثلي ما كان عليه من قبل، مع أن الزيادة في مساحة الأراضي المنتجة لم تجار هذا النماء بحال من الأحوال.
ويقدر هذا التزايد الآن بنحو 200000 نسمة كل عام، ولما لم تكن مصر إلا بلدا زراعيا وجب أن يسير التوسع في الزراعة بسرعة معادلة لسرعة نماء السكان إلى أن يبلغ هذا التوسع منتهاه.
إذن فالحاجة شديدة الآن إلى زيادة الضبط في التصرف بمياه النيل لغرضين؛ أولهما: منع الخسارة الفادحة التي تكاد تحدث كل عام بسبب قهري وهو ضيق نطاق الزراعة، والثاني: تدبير كمية المياه الإضافية اللازمة للنماء.
وقبل البت فيما هي أعمال الضبط هذه وما موقعها وما مقدارها يجب بادئ بدء التأكد من مساحات الأراضي التي ستستمد المياه من النيل في كل عقد من السنوات حتى تبلغ مساحة الزراعة غايتها القصوى.
مساحات الزراعة في مصر
تتضمن حدود مصر السياسية متسعا عظيما من الأراضي، إلا أن معظمها صحراء رملية واقعة بوجه عام على منسوب أعلى من النيل بكثير.
أما مصر الحقيقية والصغيرة في ذاتها فيجوز في وصفها بأن يقال بالحرف الواحد: «النهر الذي هو مصر» أي الأرض المتكونة من راسب الفيضان السنوي المتشبع بالطمي، ومعظم هذه الأراضي هي الدلتا أو مصر السفلى، وهي على شكل مثلث رأسه عند القاهرة وقاعدته على البحر، ومساحتها 4800000 فدان منها 3000000 من الأفدنة مزروعة.
وفي امتداد النيل من القاهرة جنوبا إلى أسوان وهي الحد الجغرافي لمصر العليا يجري الماء في منشق واسع في هضبة أفريقيا الشمالية؛ حيث تخلفت منه مساطيح متسعة من التربة تبلغ مساحتها نحو مليونين وخمسمائة ألف فدان يزرع منها الآن 22000000 فدان، وبذا يكون إجمالي مساحة جميع الأراضي النيلية المتكونة في مصر نحو 7300000 فدان، منها نحو 5200000 فدان مزروعة فعلا الآن، ومن هذا الإجمالي 1200000 فدان «في الوجه القبلي.»
يسري عليها نظام ري الحياض ذي المحصول السنوي الواحد، والباقي يروى ريا صيفيا وينتج بوجه عام محصولين في السنة.
فيتبين مما تقدم أن مساحة الأراضي النيلية التكوين المتيسرة للزراعة هي 7300000 فدان إلا أنه لا ينتظر أن يخصص منها للزراعة سوى 71000000 فدان؛ لأن مساحات معينة (نحو 200000 فدان) في منطقة البحيرات بالوجه البحري يجب أن تخصص لتربية الأسماك، وبذا تقدر النهاية العظمى لما يمكن زيادته من المساحة للزراعة بمصر بنحو 1900000 فدان في حين أنه فضلا عما ذكر توجد في الوقت ذاته 1200000 فدان يجب اعتبارها محولة من نظام ري الحياض إلى نظام الري الصيفي.
مقادير المياه اللازمة لمصر
والخطوة الثانية في حل المسألة هي حساب كمية المياه التي تستنفدها المساحات الحالية كل سنة، وبذا يمكن تقدير حاجات المستقبل.
ففي جميع العصور الخالية حتى عهد ليس ببعيد كان عدم الانتظام في جريان فيضان النيل سببا لتعاقب السنوات السمان والسنوات العجاف في مصر، فعندما كان الفيضان شحيحا كان يحدث نقص في المحصول، ولكن هذا النقص لم يكن ناشئا عن قلة مقدار المياه اللازم في النهر؛ بل عن أن منسوب المياه لم يكن من الارتفاع بالدرجة الكافية لأن تجعلها تفيض على جانبي النهر، أو بعبارة أدق تسيل في الترع المغذية لمناطق الحياض.
أول طريقة اتخذت للتغلب على هذه العقبة: هي إطالة هذه الترع، ونقل أفمامها إلى نقاط مواقعها على النهر أعلى مما كانت عليه من قبل.
وحدث تغيير كبير في السنوات الأولى من القرن الماضي حين أدخل محمد علي باشا النظام الحالي بتحويل الوجه البحري من ري الحياض إلى الري الصيفي، وبه كاد يكون من الممكن في المساحات التي سرى عليها هذا النظام أن ينتج حاصلان اثنان كل سنة بدلا من الواحد الذي هو نتيجة النظام القديم.
وبسبب هذا التغيير صارت الضرورة أدعى ما تكون إلى الحصول على تحكم تام في ضبط جريان النيل، وإلى إنشاء أعمال موازنة يمكن بها في أي وقت من أوقات السنة الوصول بالدقة إلى منسوب المياه اللازم لملء الترع.
وينبغي أن نلاحظ أن كثافة الزراعة ليس على وتيرة واحدة في جميع أنحاء القطر المصري، وأن المساحات المزروعة لا تتطلب في كل مكان قدرا واحدا من الماء لكل فدان، وأسباب هذا هي في الغالب اختلافات المناخ، وأن المناطق التي هي أقرب إلى الجنوب تكاد تكون بأكملها إلى الآن قاصرا ريها على نظام الحياض.
ففي المستقبل حتى لو لم يحصل توسع في الزراعة بإدخالها في مناطق جديدة وهو أمر لا يمكن تصوره في حد ذاته ستكون كميات المياه المطلوبة وتوزيعها طول مدة السنة على المساحات المزروعة الآن عرضة للتغير حسب التدرج في تحويل المساحات الباقية من أراضي الحياض في الوجه القبلي من نظامها إلى نظام الري الصيفي، وسيكون تحويل معظمها بالطريقة المألوفة في الوجه القبلي، وسيكون ريها بالراحة إما بمرور كل المياه اللازمة لها من قناطر إسنا الحالية وإما بمرور بعضها من هذه القناطر والبعض الآخر من قناطر تنشأ عند نجع حمادي، وتبقى بعدئذ مساحات صغيرة معينة ستستمد المياه الصيفية اللازمة لريها بالراحة من آلات رافعة تنشأ لهذا الغرض.
وتدل التجارب على أن البلاد يلزمها في الوقت الحاضر نحو 33000 مليون متر مكعب سنويا لري أرضها ريا كافيا لفلاح حاصلاتها؛ إذ في سنة 1913-1914 التي كان فيها انخفاض الفيضان خارقا للعادة مر بأسوان بين يوليو سنة 1913 ويونية سنة 1914 نحو 41000 مليون متر مكعب من المياه، وسيتضح أن هذا المقدار من المياه وهو أقل ما دون حتى الآن كان أكثر مما يكفي للقيام بجميع المطالب الحقيقية لو أنه وزع طول السنة حسب حاجات الزراعة، ولكن التوزيع كان بطريقة غير متساوية بحيث مرت المياه بلا حساب إلى البحر في فترة معينة في حين أنه في فترة أخرى حصل عجز حقيقي، أما الزيادة في فترة معينة فيمكن تعديلها كثيرا في سنة رديئة كالسنة المذكورة، ولكن لا يمكن منعها بتاتا نظرا إلى عنف قدوم فيضان النيل الأزرق المتشبع بالطمي.
وبمجرد الاطلاع على الجدول الآتي يتبين الحال:
جدول 1
سنة 1913-1914 حقيقة المقادير المنصبة في النهر عند أسوان
المقادير اللازمة للزراعة الحالية بدون تقييد
الزيادة
العجز
من يولية إلى ديسمبر
32000 مليون متر مكعب
22000 مليون متر مكعب
10000 مليون متر مكعب
من يناير إلى يولية
9000 مليون متر مكعب
11000 مليون متر مكعب
2000 مليون متر مكعب
الإجمالي في السنة
41000 مليون متر مكعب
33000 مليون متر مكعب
8000 مليون متر مكعب
لولا خزان أسوان لكانت مكعبات المياه الحقيقية أكثر مما هو مبين بنحو 2000 مليون متر مكعب في الفترة بين يولية وديسمبر، وأقل منه بنحو هذا المقدار في المدة من يناير إلى يونية.
وفضلا عن تدبير الماء اللازم لسد العجز المبين بعاليه بواسطة الخزن وأعمال الموازنة يقتضي الحال أيضا القيام بالمطالب التي سيستلزمها التوسع الذي سيحصل لا محالة في المساحات الحالية من حيث كمية المياه وأوقات السماح بها.
وبالنظر إلى قلة الضبط لم يتيسر لمصلحة الري فيما مضى الترخيص بتوسيع الزراعة على الوجه الذي كان يرغبه الجمهور، ومع هذا فمنذ سنة 1882 تقريبا زادت المساحة المزروعة في مصر نحو 1000000 من الأفدنة تقريبا.
وفي هذه الفترة عينها تم تحويل معظم الأراضي التي تروى الآن ريا صيفيا بالوجه القبلي أي نحو 1000000 من الأفدنة بعد أن كانت تروى من قبل بطريقة الحياض.
وبفضل الأعمال الآتي بيانها يسهل في المستقبل الحصول على المياه اللازمة لتوسيع نطاق الزراعة والتدرج المعقول في تنفيذ مطلب الجمهور من حيث استصلاح البور يقدر ب 60 ألف فدان سنويا في المتوسط، ومن حيث تحويل ري الأراضي في الوقت ذاته من نظام الحياض إلى نظام الري الصيفي ب 40000 من الأفدنة في العام الواحد.
فإذا أمكن الاحتفاظ بهذين التقديرين في التوسع تيسر لمصر الوصول إلى غاية نموها الزراعي في ظرف 30 عاما من الآن.
المساحات الزراعية بالسودان وما تتطلبه من المياه
إن المنشق الذي يجري فيه النيل هو في السودان من حدود مصر إلى الخرطوم أضيق منه في الوجه القبلي والمساحات التي يرسب فيها الطمي في تلك المنطقة أقل منها في الوجه القبلي.
ومن المشكوك فيه ما إذا كان السكان في الأيام الغابرة وصلوا إلى درجة في التضامن تمكنهم من الزراعة بنظام ري الحياض، والأرجح أن كل ما كانوا يفعلونه هو الاستفادة بالجريان الطبيعي لمياه النيل، والاستعانة معه بالمجهود الفردي باستعمال كل مزارع ما تيسر له من الآلات الرافعة العتيقة.
أما في الأزمان الأقرب عهدا بنا فقد زرعت بضع مساحات صغيرة بطريقة ري الحياض، ولكن لم يقر الرأي على التوسع في الزراعة إلا في أوائل القرن الحالي حيث أدخل نظام الري الصيفي لأول مرة إلا إذا استثنينا بضعة أفدنة متفرقة هنا وهناك.
وجنوبي الخرطوم حيث يبتدئ التفرع الرئيسي للنيل يخترق النيل الأزرق سهلا مترامي الأطراف أرضه كثيرة التعرض لهبوب الرياح.
وربما كانت الأرض الواقعة عند مجتمع النهرين أثمن بقعة في ذلك السهل؛ لأن زراعتها خصبة إلى حد ما منذ أجيال بعيدة بفضل قليل المطر الذي يصيبها كل سنة.
وفي سنة 1903 شرعت حكومة السودان في القيام بتجارب لمعرفة ما إذا كان من الممكن بواسطة الري إنتاج حاصلات قابلة للتصدير كالقمح والقطن والسكر ... إلخ. فرؤي أنه لأجل الحصول على نتيجة مرضية قد تدعو الحاجة إلى استعمال مياه الصيف، ولكن لما كان الإيراد المتيسر منها محدودا بحد لا يمكن تخطيه فقد أبرم اتفاق بين الحكومتين المصرية والسودانية على تعيين مقدار أراضي السودان التي يجوز ريها بالمياه الصيفية بجعله 10000 فدان، ومما ساعد على جعل هذا الاتفاق ممكنا هو إنشاء خزان أسوان الذي أصبح به مركز مصر أكثر ضمانا في نيل الفيضانات المنخفضة مع حفظ الحق في تعديل هذا الاتفاق عندما تضبط مياه النيل أكثر مما هي عليه، ويصبح إيراد المياه للقطرين أوفر كما حصل فعلا في سنة 1912 حين علي خزان أسوان وزيدت مساحة الصيفي في السودان إلى 20000 فدان وإلى الآن (سنة 1919) لم ينتفع تماما بهذا الحق الذي يخول زرع 20000 فدان زراعة صيفية، ومع هذا فحكومة السودان تهيئ الآن مشروعا يرمي إلى استثمار 300000 فدان في القريب العاجل يتطلب نحو الثلث من المياه في ربيع كل سنة، وهذا المشروع ممكن لأن كلا القطرين يدبر أمر الحصول على إيراد أوفر من المياه.
هذا هو البرنامج العاجل، ولكن هناك مشروعات كبرى مؤجلة للمستقبل؛ لأن مساحة ال 300000 فدان ما هي إلا وحدة مساحات يبلغ إجمالها ثلاثة ملايين من الأفدنة تقريبا. قد يكون من المستطاع إنماؤها تحت نظام الري الصيفي حوالي نهاية القرن الحالي.
ولكن قبل ذلك الحين بكثير أي بعد 30 سنة من الآن ستكون مصر قد بلغت غاية شأوها الزراعي، ويكون السودان قد أصلح فيه نحو مليون من الأفدنة فقط، وليس من الضروري النظر في أي إصلاح زراعي آخر في السودان إلا بعد الوصول إلي ذلك الحد حوالي سنة 1955.
الخلاصة
يلخص البيان التالي برقم 2 الاعتبارات السالفة بوجه الإجمال، ويدل على المساحات التي ينتظر تيسرها للزراعة في كل عقد من السنين:
جدول 2: بيان النمو الزراعي المنتظر حصوله في القطرين المصري والسوداني مقدرا بالفدادين
المساحة المزروعة في مصر
المساحة المزروعة في السودان
نظام الري الصيفي
نظام ري الحياض
نظام الري الصيفي
نظام ري الحياض
المجموع
في الوقت الحاضر
4 ملايين
مليون و200 ألف
20 ألف
80 ألف
5 ملايين و300 ألف
في سنة 1930 أي بعد إتمام خزان النيل الأبيض بعشرين سنة
50 مليون
800 ألف
320 ألف
80 ألف
في سنة 1940 أي بعده بعشرين سنة
6 مليون
400 ألف
600 ألف
7 ملايين
في سنة 1955 أي بعده بثلاثين سنة
7 ملايين و100 ألف
مليون
8 ملايين و100 ألف
لا تدخل في هذه الخانة الأراضي التي تغطيها المياه وتنحسر عنها بمجرد ارتفاع وانخفاض النهر حتى ولو كانت فيها زراعة.
مقادير المياه اللازمة
حصلت مصلحة الري من المجلس الزراعي الاستشاري للحكومة على إحصائيات، وعنيت مصلحة الطبيعيات بمقارنتها وتحويلها، وتدل نتيجة هذه المباحث على أن 50000 مليون متر مكعب في السنة تكفي أقصى مطالب القطر المصري في المستقبل، وهي عبارة عن زراعة 7100000 فدان بنظام الري الصيفي، وفي الوقت الذي فيه تكون مصر قد وصلت إلى تلك الحالة النهائية يكون قد استصلح في السودان نحو 1000000 فدان باستعمال نحو 6000 مليون متر مكعب في السنة، وبذا يكون مجموع ما تتطلبه أراضي القطرين من الماء في تلك الآونة نحو 56000 مليون متر مكعب.
وبمساعدة الأعمال اللازمة لضمان مركز مصر في جميع الظروف مضافة إلى الأعمال اللازمة للسودان ذاته يتيسر للنيل سد المطالب التي تقتضيها زيادة التوسع في السودان.
ولا يغيبن عن الذهن عند احتساب كميات المياه اللازمة للسودان أنه نظرا إلى الاعتبارات الجوية قد يستنفد كل فدان على حدته حال كونه مزروعا زراعة معينة قدرا من المياه أكثر مما يلزم لفدان مزروع في مصر بالزراعة عينها، ولكن نظام الزراعة في السودان مع هذا تراعى فيه بنسبة عظيمة من البوار.
وهذان العاملان (أكثرية الحاجة إلى الماء في كل زراعة وأقلية كثافة الزراعة في ذاتها) غير متكافئين تماما؛ ولذا يكون ما تتطلبه زراعة الفدان في الجملة أكثر في مصر منه في السودان.
ومن المقننات المائية والنتائج الملخصة في الجدول
2
يتكون الجدول
3
الآتي:
جدول 3: بيان تقريبي لمطالب الزراعة الحالية والمستقبلة مقدرة بملايين الأمتار المكعبة
في الحالة الحاضرة
عند تمام نمو مصر الزراعي
من يولية) مصر
22000
30000
إلى ديسمبر) السودان
4000
المجموع
22000
34000
من يناير) مصر
11000
20000
إلى يونية) السودان
2000
المجموع
11000
22000
الإجمالي
33000
56000
تنبيه:
أرقام هذا الجدول مجبورة إلى قرب 500 مليون، وهي تبين مقادير المياه المطلوب وجودها في النهر بعد خزان أسوان ، وقد اعتبرت حاجات السودان في الوقت الحاضر كمية مهملة.
إيراد النهر المتيسر في الوقت الحاضر
إن كميات الماء المتيسرة في سني انخفاض النيل هي التي ينبغي بالطبع أن يعول عليها في القيام بالمطالب المبينة في الجدول
3 .
ولدينا من مناسيب النهر مدونة يوما يوما في الخمسين سنة الأخيرة ما يلزم لتعيين دورية الفيضانات المنخفضة وكمية مياهها، ويظهر الجدول
4
نتائج فحص المعلومات المتيسرة، وبيان التصرف التقريبي عند أسوان في كل من السبع السنوات التي بلغ انخفاض النيل فيها أشده مع مقارنتها بكمية مياه فيضان عام 1914-1915 الذي يوازي تقريبا متوسط فيضان العشرين سنة الأخيرة.
جدول 4: التصرف التقريبي عند أسوان خلف الخزان في كل من السبع السنوات التي بلغ انخفاض النيل فيها أشده أثناء الخمسين سنة الأخيرة.
السنة
الفيضان
الصيف
التصرف
يولية-ديسمبر
يناير-يونية
مليون متر مكعب في السنة
913-914
32000
9000
41000
سنة فيضانها أشد الفيضانات انخفاضا فيما يعلم
899-900
49000
9000
58000
907-908
49000
14000
63000
سنوات شديدة انخفاض الفيضان
915-916
52000
13000
65000
902-903
53000
14000
67000
سنوات معتادة
888-889
56000
12000
68000
انخفاض الفيضان
877-878
58000
13000
710000
914-915
70000
14000
84000
وهي سنة فيضانها منخفض قليلا عن المتوسط
تنبيه:
إن شدة انخفاض فيضان سنة 1913 كانت خارقة للعادة، عرف أن أقرب فيضان إليه في الانخفاض زاد عنه في كمية الماء بنحو 50٪ في الوقت الذي كان اختزان الماء فيه مطلوبا أي من يولية إلى ديسمبر (والغاية داخله).
ولما كان مثل هذا الفيضان لا يقع إلا نادرا جدا أمكن بلا احتراز اعتباره النهاية الصغرى.
ولفيضان عام سنة 1913 أثر في حاصلات مصر الزراعية يختلف اختلافا عظيما عما كان يحدثه فيضان مثله قبل تاريخه بعشرين سنة أو أكثر؛ إذ كان من المحقق حينذاك أن يعقبه القحط، ولكن بفضل القناطر المنشأة على النيل في مواقع مختلفة أمكن رفع منسوب المياه الجارية في الترع، وبذا مدت الأراضي المقتضي ريها بكميات الماء المعتادة مهما بلغت شدة انخفاض الفيضان.
غير أنه يوجد في الوجه القبلي منطقة واحدة لا تصل المياه إلى ترعها الكبرى بهذه الكيفية، وهذه لحقتها خسارة في سنة 1913، ولو كانت الأعمال المنوي إنشاؤها في السودان موجودة حينذاك لكانت الخسارة أعظم، ولكن كل خطر على مزروعات هذه المنطقة في الشتاء والخريف في المستقبل يزول بإنشاء قنطرة أخرى عند نجع حمادي وتحديد الترع الآن الآخذة من أمام قناطر إسنا، وفي الوقت ذاته يتيسر بهذه الوسيلة تحويل المنطقة المنتفعة بهذا المشروع إلى نظام الري الصيفي، وبذلك يكون في المستقبل لعودة ظروف سنة 1913 ضرر في مناطق الحياض إبان الفيضان حتى إذا كانت جميع الأعمال المقترحة الآن تسحب ماء من الفيضان في السودان ولا يراد فصلي الصيف والربيع علاقة كبيرة بما يسبقه من مياه الفيضان، ولم يشذ فيضان سنة 1913 عن هذه القاعدة فقد أعقبه ربيع كان انخفاض الماء فيه بالغا غايته، ونجم عن هذا كما قيل شيء من النقص في محصول القطن المعتاد، ولا ريب أن النقص الناتج في تلك السنة لا يمكن أن يعزى كله إلى قلة الماء وحدها، بل هناك عوامل أخرى كعامل الآفات أعاقت إنتاج المحصول المعتاد، ويصح أن تعزى الخسارة كلها إلى هذا العامل غير أن زراعة الأرز في مساحة ال 200 ألف فدان المعتادة كادت تنعدم كلية؛ إذ لم يزرع الأرز إلا في 25 ألف فدان.
وإذن لو فرض بقاء المساحة المنزرعة كما هي عليه الآن وجب التدبر للمستقبل فيما إذا وقعت سنة كسنة 1913 بزيادة كمية الماء اللازمة لري القطن بمقدار 10٪ لأجل إمداد 180000 فدان بالماء الكافي لزراعة الأرز فيها.
وللوصول إلى هذه النتيجة يكفي خزن ما لا يزيد عن 2000 مليون متر مكعب من الماء، ولكن بسبب توسيع مساحات الزراعة وتحويل نظام الري ستدعو الحاجة إلى كميات أخرى من الماء لسد مطالب المستقبل في فصل الصيف كما هو مبين في الجدول
3 ، وسيبحث الآن في الأعمال اللازمة لهذا الغرض:
الأعمال اللازمة لسد الحاجة إلى المياه
الآن وقد عرفنا مطالب كل عقد من السنين، ومقدار الماء الذي أمكن الحصول عليه في السنين التي بلغ انخفاض النيل فيها أشده صار من الممكن أن نرسم برنامج الأعمال اللازمة لضبط النهر بحيث يسهل في جميع الأوقات تدبير الماء الكافي للري، ولكن أثناء البحث في أعمال الموازنة على النهر لصالح الإيراد الصيفي ينبغي أن لا نتناسى الضرورة القصوى ضرورة إنقاذ القطر المصري من غوائل الفيضان العالي، ولما لم يكن لمصر من وسائل الوقاية سوى الجسور ما كان لها مناص من الاعتماد عليها، ولكن هذه الجسور طالما خانتها في الماضي، ومع ما بذل من عظيم الجهود في سبيل تقويتها في السنوات الأخيرة فإنها ليست مأمونة، وإذا أمكن تخفيف وطأة الفيضانات العالية بواسطة الموازنة كان هذا أدعى إلى الاطمئنان، وإذا كان عمل واحد كفيلا بالقيام بجميع هذه الحاجات وجب بداهة الشروع فيه حالا، ولكنه لسوء الحظ ليس مثل هذا الحل البسيط متيسرا، ومن جهة أخرى فهناك أعمال يجب إنشاء كل منها في حينه لضمان أحكام ضبط النهر، وبعد البحث الدقيق في كثير من المشاريع ومختلف الوجوه من حيث ترتيب تواريخ البدء فيما إذا اختير منها اقترحت الأعمال الآتية على ترتيب سردها: (1)
خزان على النيل الأبيض، وسد بالبناء عند جبل الأوليا؛ لزيادة إيراد مصر الصيفي، وليكون بمثابة وسيلة مؤدية إلى درء غوائل الفيضانات العالية. (2)
خزان صغير على النيل الأزرق يسد عند سنار لري سهل الجزيرة. (3)
قناطر عند نجع حمادي لوقاية المزروعات النيلية في ذلك الجزء من الوجه القبلي الذي لم يحول بعد إلى الري الصيفي، ولإمداه بالمياه الصيفية عندما يتم تحويله. (4)
خزان في أعالي النيل الأزرق؛ ليزيد إيراد السودان، وليساعد على ضبط الفيضان. (5)
خزان على بحيرة ألبرت؛ لتكملة خزين الماء اللازم لسد أقصى حاجات مصر. (6)
قناة في منطقة السدود ؛ لضمان وصول ماء خزان بحيرة ألبرت إلى النيل الرئيسي.
ومن المعلومات المتيسرة يتضح أن إنجاز هذه الأعمال على الترتيب المذكور تكون نتيجة التدرج خطوة خطوة حسب ازدياد الزراعة في ضمان الحصول على الماء اللازم لسد حاجاتها حتى في أشح السنوات.
ويقتضي الحال الوقوف على معلومات أخرى قبل عمل مقايسة مضبوطة ضبطا كافيا للبت فيما إذا كان يصح من الوجهة الاقتصادية العمل أثناء ظروف أشح ما علم من السنوات، أم يكون الأرجح ماليا تحمل بعض النقص في زراعة الأرز وبعض التأخير في ري الشراقي فيما إذا وقعت هذه الظروف.
وعلة ترتيبها هكذا بأن يكون كل منها بمثابة حلقة جوهرية في سلسلة كفيلة بسعادة وادي النيل، وكل حلقة تمس الحاجة إليها لا عند نجازها فقط، بل تعد كمال السلسلة. (2-2) الباب الثاني
أعمال ضبط النيل
سنصف الآن طائفة الأعمال التي أجمل ذكرها بالفصل الثالث وصفا يتناول كلا منها على حدة فيما يختص بالغرض المقصود منه، أما وصف التصميم الفني لها فلا يدخل في نطاق هذه المذكرة.
إن مقايسات النيل الأبيض عند جبل الأولياء وخزان النيل الأزرق عند مكوار عملت حسب التصميمات الفعلية التي هيئت لهذين العملين، وأما المقايسات التي ذكرت بخصوص الأعمال الأخرى فإنما هي تخمينات تقريبية نتجت من مقارنة الأعمال المقترحة بالأعمال التي تم إنشاؤها بمصر من قبل، ولا يمكن عمل مقايسات مضبوطة لهذه المشاريع إلا بعد الإقرار على فحصها فحصا تفصيليا.
خزان النيل الأبيض (عند جبل الأولياء)
تمت الموافقة على هذا العمل، وقد شرع فيه فعلا، وسيشمل سدا من البناء المقابل على النيل الأبيض على مسافة 45 كيلو مترا جنوبي مدينة الخرطوم عند جبل الأولياء، وسيكون خزانا كبيرا يبلغ طوله نحو خمسمائة كيلو متر في مديرية النيل الأبيض، وسعته الفعلية حينما يستعمل حوضا للخزن أي كمية الماء التي تخرج منه فلا يعد احتساب النقص من التبخر ... إلخ، مقدرة بأربعة آلاف مليون من الأمتار المكعبة، ولكن لو فرض أن فيضانا خارقا للعادة في الانخفاض كفيضان سنة 1913 عاد قبل تمام التدابير للحصول على خزين من سنة لأخرى في بحيرة ألبرت فقد يكون من الجائز سحب مقدار من مياه النهر كاف لتمام استخدام خزان جبل الأوليا.
فترتيب الأعمال المقترحة مقصود به القيام بما تقتضيه هذه الظروف المفروضة حتى في مثل العام الاستثنائي المذكور يمكن أن تحفظ في هذا الخزان كمية من الماء كفيلة لإيراد مصر فدانا فدانا بإيراد لا يكون على كل تقدير أدنى مما حصلت عليه فعلا في سنة 1913-1914.
وسيأتي هذا الخزان أيضا بفائدة محققة جدا في ضبط الفيضانات العالية؛ إذ سعته أكثر مما يلزم لإضافة 4000 مليون متر مكعب إلى مياه النهر؛ لأنه في الواقع يستطيع حجز 10 آلاف مليون متر مكعب.
وسيتم ضبط المياه بإقفال بوابات الخزان بمجرد وصول مياه النيل الرئيسي عند الخرطوم إلى منسوب يكون تجاوزه مضرا بصالح القطر المصري، وبإبقائه مقفلا حتى تهبط المياه فتعود إلى منسوب يطمأن إليه، وتكون نتيجة هذا أن يوقف الوارد من النيل الأبيض بالمرة، وأن تنقص دورة الفيضان إلى هذا الحد. على أن دورة الفيضان في ذاتها معظمها إن لم نقل كلها مكون من مياه النيل الأزرق المتشبعة بالطمي التي إن لم يمكن ضبطها ضبطا كاملا سيكون في الإمكان نقصها كثيرا؛ بل سيحصل ذلك فعلا بتأثير خزان أعالي النيل الأزرق وترع الجزيرة، ولكن شدة ارتفاع الفيضان ليست وحدها مصدر الخطر على مصر؛ بل هو على الأرجح ناشئ عن طول استمرار المناسيب العالية التي تدعو إلى انزلاق جسور النيل وانقطاعها من الضغط المستمر، وسبب استطالة مدة الفيضان في مصر هو أن كمية المياه التي في النيل الرئيسي عند الخرطوم لا تهبط بسرعة هبوط النيل الأزرق، ولا يعيقها عن هذا الهبوط إلا ما ينصرف إليها من المياه المحبوسة في ذلك الخزان الطبيعي الواسع وهو وادي النيل الأبيض، فخزان النيل الأبيض يؤخر هذا التصرف وكذا يؤخر الجريان الطبيعي لمياه النيل الأبيض ذاته حتى يزول كل الخطر فيعين على حد كبير على إزالة ما يقع على الجسور من الضغط المستمر الذي هو الآن الداعي الأكبر إلى القلق، وبذا تكون نتيجة الأعمال المزمع إنشاؤها على النيلين الأبيض والأزرق جميعا هي إنقاذ مصر إلى درجة كبيرة من خطر الغرق، ولدى استعمال الخزان بمثابة جهاز صرف للفيضان فيكون النقص الناجم عن التبخر مفيدا بلا ريب، في حين أنه متى استعمل حوضا للتخزين فلا موجب لحصول نقص في الكمية الميسرة ما دام الماء مارا في الخزان والتسرب إلى البحر مستمرا.
وبعد نجاز خزان أعالي النيل الأزرق ولا سيما عند إمكان خزن المياه الكافية في بحيرة ألبرت يبطل استعمال خزان جبل الأوليا لخزن مياه الفيضان؛ بل يكون استعماله أيضا بمثابة حوض موازنة لتعديل التصرف في النيل الرئيسي.
وهذه الوظيفة جوهرية؛ لأن الماء يستغرق نحو ستة أسابيع في سيره من بحيرة ألبرت إلى الخرطوم، ومن المستحيل التنبؤ بحالة النيل الأزرق عند هذه النقطة الأخيرة إلا قبل الميعاد بأيام قلائل في حين أن الماء الذي يصلها من النيل الأبيض في أي تاريخ لا بد من خروجه من بحيرة ألبرت قبل هذا التاريخ بستة أسابيع، فإذا أريد التأكد من الحصول على مقدار الماء اللازم مروره من النيل الرئيسي خلف الخرطوم وجب اتخاذ وسيلة من وسائل الموازنة على أحد النهرين (النيل الأبيض والنيل الأزرق) على مقربة من ملتقاهما، وفضلا عن هذا فإن جريان نهر سوباط الذي يلتقي بالنيل الأبيض عند ملكاي يمكن ضبطه بواسطة خزان جبل الأوليا الذي بدونه تختل بل تضيع في الغالب مياه هذا النهر ومياه سائر الفروع التي تكون جزءا مهما من فيضان النيل الأبيض.
ولما كانت وسيلة الموازنة هذه تستعمل في أيام الفيضان فلا يمكن بناؤها على النيل الأزرق؛ لأن مياهه تكون مستقلة بالطمي في ذلك الأوان، وإذن يجب أن يكون إنشاؤها على النيل الأبيض.
وفي الواقع يوجد على هذا النهر عند جبل الأولياء موقع صخري صالح لأن يكون أساسا يبنى عليه يقوم بهذه الوظيفة الجوهرية وظيفة موازنة الإيراد المنحدر في النهر حسب حاجات زراعة القطر المصري.
والخلاصة: إن لخزان النيل الأبيض أربع وظائف يؤديها، وهي أن يكون بمثابة: (أ)
خزان لإيراد المياه يطلق منه أربعة آلاف مليون متر مكعب لاستخدامها في القطر المصري. (ب)
خزان لتصفية الفيضان يسع نحو عشرة آلاف مليون متر مكعب. (ج)
حوض موازنة يتسنى بواسطته إحكام ضبط إيراد مصر للماء المستقبل. (د)
وسيلة لخزن مياه نهر سوباط وسائر الفروع.
والنفقات المقدرة لهذا العمل 2200000 جنيه مصري يدخل فيها 300000 جنيه مصري قيمة التعويض اللازم صرفه إلى من تنزع ملكيتهم من الأهلين، وينبغي أن يتم العمل قبل شهر يونيو سنة 1925.
خزان سنار على النيل الأزرق
وهذا العمل جار إنشاؤه الآن على نفقة حكومة السودان، والغرض منه أن يمد بمياه الري بالراحة بقعة مساحتها 300000 فدان من أراضي الجزيرة بالسودان على مقربة من وادمدني، وهذا العمل يجمع بين وظيفتي قنطرة موازنة وسد؛ فمن حيث كونه قنطرة موازنة يؤدي ذات الوظيفة التي تقوم بها القناطر بمصر، ومن حيث كونه سدا فهو يكون خزانا يسع نحو 500000000 متر مكعب، مع ملاحظة أن سعة خزان أسوان يبلغ نحو ألفين وأربعمائة مليون متر مكعب.
وظروف الجزيرة بالسودان من حيث التربة والمناخ وإيراد الماء لا تسمح إلا بالزراعة الشتوية، وفوق هذا يجب بقاء الأرض بورا مدة سنة على الأقل في كل ثلاث سنين، وبناء عليه لا تمكن الزراعة إلا مئتي ألف فدان في السنة من الثلاثمائة ألف فدان التي تقرر إصلاحها، ومن القدر الأول لا يمكن زراعة القطن إلا في مائة ألف فدان فقط؛ لأن الأرض ليس في استطاعتها أن تنتج القطن أكثر من مرة في كل ثلاث سنوات مقابل نظام سنتين في كل خمسة وهو النظام المستحسن اتباعه في القطر المصري، وما عدا القطن من الحاصلات يتم حصادها في أواسط شهر يناير فلا حاجة بها إلى الماء بعدئذ، وأما القطن فلا يتم نموه إلا بعد ذلك التاريخ، ويمنع عنه ذلك الماء عادة حوالي 31 مارس، ولو أنه في بعض الأحايين تستمر الحاجة إليه حتى نصف أبريل؛ ولذا فمن البديهي أن القطن في احتياج إلى الماء في فبراير ومارس في حين لا تستطيع مصر أن تتخلى عن المقدار المنحدر إليها في النهر .
ولهذا فحكومة السودان آخذه في إنشاء خزان سنار الذي يكون ماؤه حوالي نهاية موسم الفيضان حينما يكون الماء دائما متوفرا.
وسيكون الماء المخزون كافيا لري قطن السودان في فصل الربيع، وبذا يمكن تفادي سحب المياه من النهر حين تكون مصر في احتياج إليها، والنفقات مقدرة لهذا العمل 1350000ج.م وسيتم حوالي يولية سنة 1924.
قناطر نجع حمادي
يجب أن تنشأ بجوار نجع حمادي قناطر على نمط القناطر الحالية في مصر يكون الغرض منها رفع منسوب الماء في وقت الفيضان إلى درجة يتيسر معها لحياض مديرية جرجا الحصول على إيراد كاف من الماء حتى في أشد الفيضانات انخفاضا كفيضان عام 1913 حيث اضطرت مسائح كبيرة إلى بقائها خالية من الزراعة، وستشتد الحاجة إلى هذه القناطر حينما تنشأ أعمال أخرى جنوبا إما لري الأراضي المجاورة وإما لملء خزان لإيراد صيفي من الفيضان.
وستبلغ مساحة أراضي الحياض المنتظر انتفاعها نحو خمسمائة ألف فدان لا تدخل فيها حياض مديرية أسوان المنعزلة وبضع مساحات صغير على ضفة النهر الشرقية، وبهذا الاعتبار تكون إقامة هذه القناطر خاتمة الأعمال التي شرع فيها منذ عدة سنين بقصد وقاية أراضي الوجه القبلي من الخسارة الناشئة من قصور الفيضانات المنخفضة عن الري.
وبفضل هذه القناطر سيتيسر أيضا لهذه الأراضي بعد تحويلها الحصول على الماء للري الصيفي بالراحة.
ومما يذكر في هذا المقام أن من جملة أراضي الحياض الباقية بالوجه القبلي منطقة يتوقف ريها على قناطر إسنا، وهذه المنطقة يمكن تحويلها إلى نظام الري الصيفي كلما كان الماء كافيا؛ إذ القناطر الموجودة الآن سيكون في استطاعتها إمداد هذه الأرض بماء الري الصيفي بالراحة عندما يتم تحويلها.
فلا يبقي إذا بمصر من الأراضي ما يحتاج تحويل نظام ريه إلى الري الصيفي سوى حياض أسوان الصغيرة وبعض أجزاء منعزلة أخرى قليلة المساحة على ضفة النيل الشرقية، على أنه من المتيسر تحويلها بواسطة آلات رافعة على النيل، وليلاحظ أن إبطال زراعة الحياض بالوجه القبلي ستكون نتيجته تقليل كمية المياه المأخوذة من النهر حال صعوده وعند ذروة الفيضان ذاتها، وبقدر هذه النتيجة تكون الزيادة في ارتفاعه في مصر الوسطى.
وقياسا على الأعمال التي من هذا القبيل يحتمل أن تبلغ نفقات قناطر نجع حمادي مليونا وخمسمائة ألف جنيه، وينبغي إنشاؤها قبل عام 1925.
خزان أعالي النيل الأزرق
وقد دلت المباحث التقريبية الحديثة على إقامة سد في موضع ملائم في المسايل العليا للنيل الأزرق؛ ليكون بمثابة خزان سعته 7 آلاف مليون متر مكعب حتى يتيسر بعض الضبط لمقدار الماء المنحدر في النهر، ويقترح قسمة هذا المقدار إلى قسمين:
الأربعة آلاف مليون متر مكعب الأولى تدخر إلى وقت الحاجة من سنة إلى أخرى ، والثلاثة آلاف مليون متر مكعب الثانية تستقى من الفيضانات ما عدا شديدة الانخفاض منها للانتفاع بها في السودان في الربيع التالي.
أما إذا كان الفيضان شديد الانخفاض فلا يؤخذ ماء لاستعماله في الأشهر التالية، بل على العكس يزداد الفيضان في أدواره الأخيرة بأن يضاف إليه جزء من الأربعة آلف مليون متر مكعب المدخرة من السنين السابقة الكثيرة الإيراد.
وأما إذا كان عاليا جدا فمن حيث إن الثلاثة آلاف مليون متر مكعب تنسحب من النهر في الغالب حال مرور دورة الفيضان فينقص مقدار ماء النهر في تلك الفترة نقصا كبيرا، وبذا يساعد مساعدة فعلية على تخفيض الفيضان في مصر، وإنشاء هذا الخزان من الأمور الجوهرية لإنماء السودان في المستقبل؛ لأن مصر تستمد ما تحتاج إليه من الماء من النيل الأبيض، ولكن ماء النيل الأزرق هو وحده الذي يفيد جزيرة السودان على أن مصر سيكون لها نصيب أيضا من الفائدة التي تنجم عن إنشاء ذلك الخزان؛ لأنه يعتبر من أهم أعمال ضبط النيل؛ إذ النيل الأزرق هو الذي يحدث الفيضان، وسيكون موضعه حيث المياه لا تزال خالية من الطمي؛ لتيسر خزنها عند ذروة الفيضان.
أما من حيث السودان فإنه لم ينشأ خزان في إحدى نقط المسايل العليا للنيل الأزرق كما أن ما يراد إدخاله من التحسين في سهل الجزيرة سيكون محدودا بمقدار المياه المخزونة في خزان سنار. فخزان أعالي النيل الأزرق بمحتوياته المتقدم ذكرها سيقدم إلى السودان كل ما يحتاجه من الماء حتى بعد تمام نمو أرض مصر في سنة 1925 بمدة طويلة وقبل ذلك التاريخ وإلى أن تتم أعمال السدود المتعلقة بخزان بحيرة ألبرت تستعمل المقادير الزائدة بتكبير إيراد مصر المائي، ولإتمام نماء السودان في حينه يجب زيادة حجم هذا الخزان زيادة عظيمة في العقود الأخيرة من القرن الحالي، ويرجح أن هذا يمكن إجراؤه عند الاقتضاء، وينبغي إنجاز يسع سبعمائه مليون متر مكعب حوالي سنة 1930.
ويجوز تقدير النفقات اللازمة له بمبلغ مليون جنيه ونصف مليون، ويقتضي الحال البحث في مقدار ما يتحتم على حكومة السودان القيام به من هذه النفقات.
مصر بعد 35 سنة والسودان بعد 53 سنة
لا يبقى في مصر بعد 35 سنة شبر واحد من الأرض لم يزرع، فماذا يفعل أبناء المصريين الذين يولدون بعد أن تضيق الأرض بآبائهم؟؟ إنهم لا يجدون مكانا يلجأون إليه سوى السودان، والسودان بعد 53 سنة لا يتوصل إلى إصلاح ثلث أرض الجزيرة، إذا سلمنا بقول السير مكدونالد بأن الأرض المعدة لزرع القطن في الجزيرة ثلاثة ملايين فدان، مع أن مساحة الجزيرة وهي الأرض الواقعة بين النيل الأزرق والنيل الأبيض عشرة ملايين فدان، قالوا: إن ثلاثة ملايين فدان منها صخرية، وليست أراضي السودان محصورة بالجزيرة فقط فهناك السودان الشرقي وتربته خصبة وأوديته كثيرة يسهل حصر المياه فيها، ومتى حصرت هذه المياه سهل الري، وهذه أراضي كردوفان كانوا يصفونها بأنها أهراء السودان لكثرة غلالها، وهذه بلاد دارفور ذات أرض خصبة فضلا عن المراعي الواسعة والمواشي العديدة والمعادن المتنوعة والأخشاب. فالسودان كبير جدا وغناه ناجم عن مساحاته الواسعة، ولقد عرفنا أن أول من زرع القطن في السودان هو ممتاز باشا الذي عين حاكما عاما، ولا يزال السودانيون يزرعون هذا القطن حتى الآن ويسمونه بقطن ممتاز، ومنه يصنعون الدمور السوداني الذي اشتهر في مصر ذاتها بملابس الصيف.
إن الدلتا - أي الوجه البحري من القاهرة حتى البحر المتوسط - أربعة ملايين و800 ألف فدان يزرع منها الآن زرعا دائما ثلاثة ملايين فدان ، والصعيد أي الوجه القبلي مليونان و500 ألف فدان يزرع منها الآن مليونان و200 ألف فدان، فمجموع مساحة القطر المصري سبعة ملايين و300 ألف فدان منها 5 ملايين و200 ألف فدان تزرع الآن، ولكن هناك البحيرات ومساحتها 200 ألف فدان تربى فيها الأسماك ولا يستطاع تحويلها إلى أرض زراعية، ومن المعروف المشهور أن الأهالي يودون إعداد الكثير من الأراضي البور للزراعة، ولكن الحكومة لا تجد الماء الكافي لري تلك الأراضي، مع معرفتها أن عدد الأهالي يزداد في كل عام من 200 ألف إلى 250 ألفا، وأن الحاجة ماسة إلى إصلاح 60 ألف فدان من البور؛ ليظل الرزق متوافرا للأهالي، وإلا حل بفريق منهم الضيق والعسر.
لقد كان السير جارستن يقول بتقاريره بعد استعادة السودان وقبل ظهور المطامع بمظهرها الجلي: إنه لا يجوز إعطاء السودان قطرة واحدة من الماء قبل أن تتم جميع السدود والخزانات في مصر، وقد قدر المال اللازم لهذه السدود والخزانات يومئذ بمبلغ 22 مليون جنيه، ولكن حكومة السودان أخذت منذ سنة 1902 باختبار زرع القطن في السودان فلما ثبت لها نجاح الأشموني والعفيفي حولت الأمر إلى يد الشركة فأعطتها في سنة 1903 امتيازا بزرع عشرة آلاف فدان فقط، وإذا كانوا قد قالوا إن اللقمة مفتاح الفم، فإن الشركة لم تلبث أن طلبت عشرة آلاف فدان أخرى، وكانت حجتهم لأخذ الماء أن خزان أسوان يوفر من الماء لمصر ما يؤخذ للعشرة الآلاف فدان في الجزيرة، ولما تم رفع الخزان في سنة 1912 قالوا إن رفعه يمكن حكومة السودان من إصلاح عشرة آلاف فدان أخرى، كأن هذا الخزان أنشئ لذلك، وحقيقة الواقع أنه أنشئ لغير هذا الغرض، أي لإمداد الزراعة الصيفية، فهو يخزن 2400 مليون متر مكعب فقط وهذه الكمية لا تكفي. أما خزان مكوار فقد قدروا له 500 مليون متر مكعب لري 300 ألف فدان، ولا ندخل هنا في التفصيل ولكنا نلمح الخطر من جانبين؛ الأول: تحويل قسم من مياه الري، ومصر لا تجد من الماء ما يكفيها، والثاني: تحويل طمي النيل الأزرق إلى الجزيرة وكل خصب تربة مصر من ذلك الطمي وحده، وإذا كانوا قد قالوا إن مصر بحاجة إلى 50 مليار متر مكعب من الماء وإن السودان إذا أصلح فيه مليون فدان يكون بحاجة إلى 6 مليارات متر مكعب وأن هذه الكمية من المياه لا تتوافر لمصر والسودان إلا بإنشاء الخزانات. فإن هذا العمل ذاته يقضي حتما بأن تكون مصر والسودان متحدين تحت حكم واحد فيهما يوفق بين جميع المصالح، ولا يجعل تلك المصالح متضاربة متناقضة، ولا يجعل مصر عرضة للحاجة ولاستبداد من يحكم السودان بها.
ومن العبث قول هؤلاء السياسيين الإنكليز إن المصريين يريدون حكم السودانيين، فإن المصري لا يتطلع إلى ذلك، ولكنه يقول للسوداني إنا أخوة متساوون يندمج أحدنا بأخيه وتندمج مصلحة كل منا بمصلحة الآخر حتى تكون مصلحة واحدة، فلا نفضل الجزيرة على الدلتا ولا الدلتا على الجزيرة؛ بل نعمل معا لإحياء الاثنتين لنا. فالمصري سوداني في السودان والسوداني مصري في مصر، وإذا أحيينا الجزيرة معا وعمرناها فإنا نحييها ونعمرها لأهلها وسكانها لا للشركة التي تدفع الآن لأصحاب الأراضي في تلك الجزيرة 50 قرشا ثمنا للجدعة الواحدة (والجدعة تعادل خمسة أفدنة وثلثا) قال السير مردوخ مكدونالد في تقريره عن مياه النيل (1919): إن البحث الدقيق دلنا على أن مصر تحتاج في المستقبل إلى 50 مليار متر مكعب من الماء لتروي سبعة ملايين و100 ألف فدان، وعندما تكون مصر قد بلغت هذا الحد من العمران - وهو الحد الأخير الذي لا زيادة بعده لمستزيد - يكون قد أعد في السودان مليون فدان للزراعة يحتاج إلى ستة مليارات متر مكعب من الماء؛ لأن أرض السودان تحتاج من جراء حرارة الجو إلى كمية من الماء أكبر من الكمية التي تحتاج إليها مصر، ولكن أرض السودان تحتاج إلى الراحة أكثر من أرض مصر فلا يزرع القطن في الأرض السودانية إلا مرة في كل ثلاث سنين، فإذا أعد 300 ألف فدان لزرع القطن يزرع منها في السنة مئة ألف فدان فقط.
هذا ما يقوله السير مكدونالد، وفاته أن يقول إن خصب تربة مصر ناشئ عن طمي النيل الأزرق فإذا تحول هذا الطمي إلى الجزيرة وحرمت منه مصر قل خصب مصر وزاد خصب الجزيرة.
وقد ذكر السير مكدونالد في تقريره عن انخفاض النيل سنة 1913 فقال: إن مثل هذا الانخفاض كان يحدث قديما المجاعة في مصر، وإن هذا الانخفاض لو أنه وقع وأعمال الري في السودان قد تمت لكان الضرر بمصر أشد وأكبر، ونصح هذا المهندس بإنشاء قناطر نجع حمادي ومد الترع المستمدة مياهها من قناطر إسنا.
ولا مندوحة لنا عن كلمة في خزان مكوار الذي ينشئونه الآن لري 300 ألف فدان في الجزيرة، فهذا الخزان يقوم بمهمتين: الأولى: خزن 500 مليون متر مكعب من الماء، والثانية: رفع الماء على مثال القناطر في مصر حتى تروي الجزيرة بالراحة، ولولا زرع القطن في الجزيرة لما قام الإشكال العظيم التعقيد بشأن المياه؛ لأن مشروعات السودان شتوية وتنتهي في شهر يناير، ولكن القطن في السودان يحتاج إلى الماء في شهري فبراير ومارس، أي حين حاجة مصر إلى الماء، وقد كان المهندسون المصريون وأخصهم محمود باشا فهمي يرون أن الغلال التي تنمو بأرض السودان تأتي بحاصلات للسودانيين فوق حاصلات القطن فلو أن لمراعاة مصلحة السكان دخلا في ذلك لكان الأفضل للسودانيين أن يزرعوا جميع المزروعات ما عدا القطن، ولما قام النزاع بين مصر والسودان على الماء، وهذا القول يقوله السير مكدونالد في موضوع الري، ولكن المسألة ليست مسألة مصلحة السكان ولكنها مصلحة معامل لانكشير التي أخذت أمريكا تحبس عنها قطنها، فوجهت الحكومة الإنكليزية وجهها شطر السودان ووجهت عنايتها لاحتكار ثلاثة ملايين فدان في الجزيرة حتى إنهم قالوا في مجلس نواب إنكلترا بتحديد سعر القطن السوداني، وبمنع تصديره إلى غير إنكلترا؛ لذلك أخذوا أملاك الجزيرة من الأهالي، وأنشأوا خزان مكوار لري 300 ألف فدان، ثم باشروا وضع الرسوم لخزان آخر في أعالي النيل الأزرق لخزن سبعة مليارات متر مكعب منها أربعة مليارات دائمة حتى إذا ما كان النيل واطئا استخدمت هذه الكمية من الماء للري، ولا ينقذ مصر من الشرق إلا إقامة السدود في بحيرة ألبرت وإنشاء الخزانات على النيل الأبيض إلخ إلخ، وقد أظهر الإنكليز سرعة وعجلة عجيبتين في إنشاء خزان مكوار الذي ينتهي في سنة 1925 أي في العام المقبل أما الخزان الكبير على النيل الأزرق فإنه ينتهي في سنة 1930، وقد قدروا مذ الآن نفقته بمليون ونصف مليون جنيه.
هكذا يفعلون، وهكذا تهدد مصر بقلة الماء والخصوبة، وهم يقولون كما ورد في تقويم «ضبط النيل» إن حاجة مصر إلى المياه بعد إنجاز هذه الأعمال ستكون كبيرة جدا، حتى إنه لا يفي بهذه الحاجة إلا بتحويل بحيرة ألبرت إلى خزان لمصر، ومساحة هذه البحيرة 5500 كيلو متر مربع، فإذا ارتفعت حافتها مترا واحدا خزنت خمسة مليارات ونصف مليار متر مكعب، فإذا ما أقيم سد على فوهة البحيرة بلغ المخزون 40 مليار متر مكعب.
تلك أقوالهم، ولكنها حتى الآن تقديرية يفندها كثير من المهندسين ولا يسلمون بهذا الحساب، وعلى رأس هؤلاء جميعا السير ويلكوكس، أما المهندسون المصريون فهم لا يسلمون بأنه يصل إلى أسوان من وراء نهر بحيرة ألبرت 52 مليار متر مكعب، كما لا يسلمون بأن الماء الذي يمر بخزان أسوان إذا كان النيل واطئا كنيل 1913 واحدا وأربعين مليارا، فإذا تركنا هذا الموضوع جانبا لأنه لم يدرس الدرس الكافي حتى الآن بقي أمامنا أمر واحد ثابت لا يجادل به أحد، ويعترف به جهارا علانية أصحاب مشروع ري الجزيرة، وهو أن مصر لا تجد الآن وفي الحالة الحاضرة عن النيل الأزرق بديلا.
وهذا ما يقضي على الذين يتحملون تبعة شئون الدولة المصرية تدبر الأمر ورفع الضرر.
ولما ظهرت مشروعات ري الجزيرة إلى حيز الوجود، وأعلن عنها الإنكليز، وبين المهندسون المصريون وبعض المهندسين الإنكليز ضررها وشدة خطرها - احتجت على ذلك مجالس المديريات، واحتج أعضاء الجمعية التشريعية الذين اجتمعوا في 19 مارس 1920 وطلبوا إيقاف الأعمال إلى أن يفصل بالأمر، وقرروا إعلان استقلال مصر والسودان، وهذا ما جاء في قرار الجمعية:
تحتج الجمعية التشريعية على البدء في مشروعات ري السودان، وتطلب وقف هذه المشروعات وقفا تاما حتى يبت في المسألة المصرية، ويعرض الأمر على الهيئة النيابية التي تمثل البلاد بجميع أجزائها، وذلك للأسباب الآتية:
أولا:
لأن مصر والسودان كل لا يقبل التجزئة، وكل مشروع يتعلق بهما لا يجوز تنفيذه قبل أن توافق الأمة عليه.
ثانيا:
لأن هذه المشروعات لم تلاحظ فيها مصلحة السودان منفردا ولا مصلحة مصر ولا مصلحة الاثنين معا، وقد قامت عليها اعتراضات فنية واقتصادية وسياسية وصحية من كثيرين ومنهم رجال من الإنجليز ذوو المكانة الذين أثبتوا بأن هذه المشروعات ضارة بالبلاد، وأنه لم يقصد بها سوى مصلحة الأجنبي وفائدة أصحاب رءوس الأموال والشركات من الإنجليز.
وهذا نص قرار مجلس الوزراء في جلسة 25 مايو 1921:
بما أنه يؤخذ من مذكرة وزير الأشغال العمومية أن إتمام خزان جبل الأولياء والقيام بأعمال الري المتممة له في مصر يقتضيان إنفاق مبلغ اثني عشر مليونا من الجنيهات المصرية.
وبما أن الحكومة المصرية لا يسعها تلقاء حالتها المالية الحاضرة القيام بمثل هذه النفقة الكبيرة بغير عقد قرض، وهو أمر لا يمكن التفكير فيه في الوقت الحاضر.
وبما أن حكومة السودان أخذت على عاتقها الإنفاق على أعمال خزان مكوار وترعة الجزيرة، وأنها لأجل تنفيذ هذه الأعمال حصلت على مبلغ 4900000 جنيه من قرض سنة 1919 وقدره ستة ملايين جنيه.
وبما أنه سواء فيما يتعلق بخزان جبل الأولياء أو فيما يتعلق بخزان مكوار وترعة الجزيرة لا يسع مجلس الوزراء أن يتخذ قرارا نهائيا بشأن هذه الأعمال إلا بعد الوقوف على ما تسفر عنه المفاوضات بين مصر وبريطانيا العظمى.
فلهذه الأسباب: (1)
قرر المجلس إيقاف الأعمال التي شرع فيها بجبل الأولياء، مع اتخاذ ما يلزم لصيانة ما عمل إلى الآن. (2)
يرى المجلس إيقاف الأعمال بخزان مكوار (سنار) وبترعة الجزيرة، غير أنه إذا رأت حكومة السودان مع ذلك الاستمرار في هذه الأعمال تحت مسئوليتها فإنه يجب أن يكون معلوما:
أولا:
إن الأعمال المذكورة لا يجوز أن يكون المقصود منها ري مساحة تزيد على 300000 فدان طبقا للعهد الذي قطع بهذا الشأن.
ثانيا:
إن الحكومة المصرية تحتفظ بحريتها في إبداء قرارها بشأن هذه الأعمال، وسيتوقف هذا القرار على نتيجة المفاوضات السالفة الذكر.
ونشر رسميا كذلك من مجلس الوزراء قرار آخر هذا نصه:
على أثر قرار مجلس الوزراء الصادر بتاريخ 25 مايو 1921 أرسل حضرة صاحب المعالي حاكم السودان العام إلى حضرة صاحب المعالي وزير الأشغال العمومية الرسالة البرقية الآتية: «إننا ننوي مواصلة العمل في خزان سنار إلى شهر يوليو، وذلك للمحافظة على ما عمل الآن، كما أننا ننوي استئناف العمل في الخريف القادم إذا سمحت بذلك الظروف.»
ويرى مجلس الوزراء أنه بما أن وزارة الأشغال العمومية المصرية هي المباشرة لأعمال ري الحكومة السودانية من عهد استرجاع السودان فقيامها بتنفيذ العمل في خزان سنار «مكوار» إلى شهر يولية سنة 1921 لا يترتب عليه توجيه أية مسئولية إلى تلك الوزارة، كما أنه ليس في القيام بذلك التنفيذ رجوع أو تعديل في التحفظ الصريح الذي قرره المجلس بقراره الصادر في 25 مايو سنة 1921.
وقال وزير الأشغال في جلسة 13 أبريل 1924 ردا على سؤال النائب عبد الرحمن الرافعي:
قد طلبت الوزارة من تفتيش ري السودان تقريرا وافيا عن الدرجة التي وصل إليها العمل الآن، وعند وصوله ينظر في الأمر.
مشروع ري الجزيرة
ليس لدى المصالح المصرية ولا في دواوين الدولة مستندات يرجع إليها في مسألة ري الجزيرة وقروض السودان التي بلغت حتى الآن 13 مليون جنيه ونصف مليون.
كأنما اتفاق 1899 الذي يتمسك به الإنكليز، وقد أخذ من مصر كرها وقوة، بات هو حبرا على ورق، أو دخل في ذمة التاريخ، فلا مندوحة للباحث المصري من الرجوع إلى الكتب والمجلات والصحف الإنكليزية؛ ليعرف ما هو مشروع التعمير في السودان وما هي شروطه وما هي الأغراض التي يرمون إليها من ورائه؟
وقد حدث مرة في مجلس نواب إنكلترا سنة 1920 أن أحد النواب سأل وكيل الخارجية إبان البحث بقرض سبعة ملايين جنيه للسودان: «هل اطلع المصريون على شروط هذا القرض؟» فأجابه: يكفي أن يطلعوا على المناقشة التي تجري الآن هنا ليقفوا على الحقيقة. ثم أرسلوا بعد هذا السؤال نسخة من المناقشة إلى الحكومة المصرية مطبوعة بالإنكليزية.
لذلك نرانا مضطرين إلى اختيار أخبار التعمير في السودان عن جرائدهم ومناقشات مجلسهم.
ففي مجلة «موني ماركت» و«إنفستورز كرونيكل» (مارس 1924) ما محصله: «شغلت مسألة إيجاد مناطق واسعة لزراعة القطن بال كثير من رجال السياسة وزعماء صناعة المنسوجات في إنكلترا أعواما عديدة، وتتوقف صناعة الغزل في لانكشير على وجود كميات كافية من القطن الرخيص، أما القطن الغالي فيقيد التجارة ويمنع تقدم المشروعات ويجعل الأعمال التجارية مقتصرة على سياسة «من اليد إلى الفم». على أن القطن الرخيص يجب أن يتوقف قبل كل شيء على قلة نفقات الإنتاج، وهذا يعلل ما تراه بعض الدوائر، وهو أنه يتعذر الحصول على القطن رخيصا حيث يستخدم عمال من البيض بصرف النظر عن المجهودات التي تبذل الآن للحصول على كميات كبيرة من القطن؛ إذ يقولون: إن في البرازيل والمكسيك ما يبعث على الأمل بوقوع تطورات عظيمة في زراعة القطن خلال الأعوام القليلة المقبلة.
على أن أوسع خطوة قطعت في الوقت الحاضر في سبيل زيادة محصول القطن زيادة عظيمة هي الخطوة التي قطعتها نقابة السودان الزراعية. فقد تألفت هذه النقابة سنة 1904 لتقوم بأعمال تجارية عامة تتعلق بالأراضي علاوة على زراعة القطن وإنمائه، وفي السنة الماضية تحولت المنطقة الأصلية التي رخص للنقابة بزراعتها في البداية، إلى ملكية النقابة الحرة، وهذه المنطقة تبلغ مساحتها عشرة آلاف فدان، وموقعها بجوار الزيداب شمالي الخرطوم.
وقد عقد اتفاق مدته عشر سنوات تأخذ النقابة بموجبه 25 في المئة من صافي أرباح مشروع الجزيرة العظيم، وتستولي حكومة السودان على 45 في المئة منه، والباقي للفلاحين الوطنيين الذين يقومون بزراعة الأراضي، وهذه الأنصبة يجوز تعديلها في نهاية العشر سنوات.
عقدت حكومة السودان قروضا تبلغ نحو عشرة ملايين من الجنيهات بضمان الحكومة البريطانية للإنفاق على بناء السد الكبير وحفر الترع الكبيرة اللازمة لري أراضي هذا السهل العظيم التي ستزرع قطنا، والمنتظر أن ينتهي العمل في شهر يوليو سنة 1925، وإذ ذاك يصير من السهل الحصول على الماء اللازم لري الجزء الأكبر على الأقل من الثلاثمائة ألف فدان التي يراد زرعها في البداية؛ إذ تبلغ مساحة الأراضي التي يمكن زرعها في هذا السهل نحو ثلاثة ملايين من الأفدنة.
وتشتغل النقابة ريثما يتم بناء السد في القيام بالأعمال التمهيدية كإنشاء الطلمبات في بضع محطات، وقد جاءت أعمالها هذه بنتائج مالية مرضية، ولو أن مجموع المنطقة التي زرعت في الجزيرة في العام الماضي لم يتجاوز نحو عشرة آلاف فدان.
ولما كانت النقابة تملك جميع الأسهم الممتازة (وعددها 250 ألف سهم) وتملك 475 ألف سهم من الأسهم العادية وعددها مليون سهم فإنها تستولي فعلا على نصف أرباح شركة القطن في كسلا.
والمفهوم أن الأعمال جارية الآن بسرعة لإنشاء الخط الحديدي في منطقة كسلا وهو العمل الذي يعد من الأعمال الأساسية اللازمة لترقية زراعة القطن في تلك المنطقة.
حصلت النقابة في السنة الماضية (1923) على نحو 12300 بالة قطن من زرع 14686 فدانا في مناطق مختلفة، وقد أخذت النقابة تشتهر في الأسواق المالية كشركة تدفع أرباحا وافرة، والواقع أن ما دفعته من الأرباح بلغ 25 في المئة في سنتي 1918 و1919، و35 في المئة في سنة 1920 (وقد زاد رأس مالها إذ ذاك إلى ثلاثمائة ألف جنيه) و15 في المئة في سنة 1921، و35 في المئة في سنة 1922، و
في المئة في سنة 1923 (ورأس مالها 450 ألف جنيه كما هو الآن) أما رأس مالها المصرح به فهو 750 ألف جنيه.
وقد تم إنشاء المضخات الجديدة في وادي النو، وسيزرع في هذه المنطقة عشرة آلاف فدان أخرى في سنة 1923-24 فتتضاعف بذلك مساحة المنطقة التي تزرع قطنا في الجزيرة بالنسبة إلى العام الماضي.
وتكلم رئيس النقابة في اجتماعها السنوي الذي عقدته في شهر نوفمبر الماضي عن التقدم المرضي الذي تم فيما يتعلق بالسد ومديرية كسلا وانتهاء محطة وادي النو، ومن المسائل الهامة التي ذكرها توفر العمال الأكفاء، ولدى الشركة أموال وأمانات مودعة تقدر بنحو ثمانمائة ألف جنيه، وستنفق في العامين التاليين أموالا طائلة من رأس المال؛ ولذا ينتظر صدور أسهم جديدة بشروط سخية كما حدث في العام الماضي، وهذا يعلل السبب في ارتفاع سعر السهم الذي قيمته جنيه واحد إلى سبعة جنيهات.
لا يزال المشروع في عهد الطفولة، وقد تمضي أعوام عديدة قبل أن تستطيع نقابة السودان الزراعية أن تقول إنها لا تستطيع إيجاد أعمال لاستثمار رءوس الأموال التي ستزاد تبعا لحاجة الإمبراطورية الآن وحاجتها الشديدة في المستقبل لزراعة القطن داخل دائرتها، فقد بلغ محصول النقابة من القطن في العام الماضي 12300 بالة، وما تحتاج إليه مصانع لانكشير من القطن سنويا هو 3500000 بالة. •••
وفي الشهر ذاته بسط مراسل التيمس الكلام عن مشروع ري السودان بعنوان: «مليون فدان لزراعة القطن» فقال:
خطر مشروع ري أراضي الجزيرة بالسودان ببال السر وليم جارستن في سنة 1899، وهذا المشروع يتعلق بمنطقة مساحتها ثلاثمائة ألف فدان واقعة بين خطي العرض الشمالي 14 و15، وتمتد على طول النيل الأزرق. وينتظر بعد إتمام المشروعات الإضافية في المستقبل أن تتسع هذه المنطقة حتى تبلغ مساحتها مليون فدان يمكن ريها وزرعها.
لم يفت الذين وضعوا مشروع السد أن يحسبوا حساب هذا التوسع في المشروع فيما بعد، بحيث يمكن سد الحاجة متى حان الوقت؛ فإن الخزان الذي أعد لحجز المياه بإقامة هذا السد يمتد في الواقع إلى بلدة «سنجا» أي إلى المسافة 58 ميلا على طول النهر، وسيحجز خلفه نحو 636 مليون متر مكعب من الماء، وهذا المقدار سيكون كافيا لري المنطقة الكبرى.
وهناك نقطة هامة وهي أن الماء اللازم للمشروع الحالي زائد عما تحتاج إليه مصر، ومتى حان الوقت لتوسيع نطاق المنطقة الزراعية أنشئ سد آخر على المنابع العليا للنيل الأزرق، وبهذه الوسيلة تستخدم أرض الجزيرة المياه التي كانت تصل إلى البحر وتذهب عبثا (كذا).
أما نفقات المشروع فتسدد من القروض التي عقدت في إنكلترا بضمان الحكومة البريطانية في سني 1913-14 و1919 و1920، ومجموع هذه القروض 13500000 جنيه، ويتضمن المشروع إنشاء سد في مكوار وترعة رئيسية طولها 62 ميلا، وعرض الخمسة وثلاثين ميلا الأولى منها - أي إلى النقطة التي يخرج منها الفرع الأول - نحو 87 قدما، ثم حفر ترع صغيرة طولها 535 ميلا، وترع إضافية طولها 3125 ميلا، ومجار وسط الحقول طولها 5625 ميلا.
ويبلغ مجموع الأتربة التي حفرت من الترع الصغرى والترع الإضافية والمجاري الأخرى (عدا الترعة الرئيسية) ثمانية أضعاف حجم هرم الجيزة الأكبر تقريبا، وربما يجد القارئ صورة أوضح تبين له مقدار الحفر من الحقيقة الواقعة، وهي أنه صنع من الأتربة المحفورة طوب فإنه يكفي لبناء سور ارتفاعه خمس أقدام وسمكه قدم، حول الأرض عند خط الاستواء، وتتولى شركة بكيروس الأميركية حفر الترع الكبرى، وهي تشتغل ليلا ونهارا بآلاتها الضخمة لإتمام العمل قبل الميعاد المحدد في عقد الاتفاق.
وتتولى نقابة السودان الزراعية إنشاء المجاري في المزارع وإعداد الأرض وتهيئتها للزراعة، وقد اكتسبت هذه الشركة خبرة واسعة في زراعة القطن في هذه المنطقة. أما أعمال البناء الكبرى فقد عهد بها إلى شركة الخواجات بيرسون وولده الذين تعهدوا بأن يسيروا بالأعمال سيرا سريعا يوصل للحصول على محصول القطن في سنة 1925.
وتقترح النقابة أن تقسم الثلاثمائة ألف فدان إلى عشرين منطقة مساحة كل منها خمسة عشر ألف فدان يدير كل جزء منها مفتش كبير، وستتولى النقابة أيضا الإشراف على الزراعة وتنشئ مصانع الحلج اللازمة.
وتدرك ضخامة المشروع الذي تقوم به النقابة الزراعية في السودان من معرفة المنطقة الجديدة لزراعة القطن فإنها تعادل سبعة أضعاف مساحة أكبر منطقة تزرع قطنا في أميركا وتملكها شركة واحدة.
أما السد فبناء صلب من الجرانيت (حجر الصوان) المستخرج من المحاجر المجاورة لتلال سيجادة، وهو مؤسس فوق منطقة من الصخر اللامع، بارز في النهر عند هذه البقعة.
ويقدرون ما سيستخدم في بناء هذا السد بنحو 15408000 قدم مكعب من الحجر ومائه ألف طن من أسمنت پورتلند، ويبلغ طول السد ميلين تقريبا ومتوسط ارتفاعه تسعين قدما، وسيكون به ثمانون عينا كبيرة ارتفاع الواحد منها 27 قدما وعرضها سبع أقدام، وأربع عشرة بوابة لضبط مياه الترع ارتفاع الواحدة منها 17 قدما وعرضها عشر أقدام أو أزيد بقليل، و112 مصرفا، وسيستخدم نحو 3300 طن من المصنوعات الحديدية في العيون والآلات الخاصة بها تقدمها شركة رانسومز ورابير الإنكليزية في أبسوتش.
ويصنع الأسمنت هناك من المواد المتوافرة كثيرا في الأراضي المجاورة، وقد أنشئ معمل من أحدث طراز مجهز بأفران (قماين) وطواحين دائمة العمل تصنع يوميا نحو مئة طن من الأسمنت لا يقل جودة عن الأسمنت المصنوع في إنكلترا.
وقد ساعدت جزيرة صغيرة ناشئة عن نتوء صخري في النهر على بناء السد مساعدة مادية عظيمة؛ فقد سهلت تحويل مجرى الماء، وهو عمل لا مندوحة عنه لوضع أساس السد في النهر، وقد وضعت الأسس في الجهة الغربية، وحول مجرى الماء نحوها. ثم أقيمت سدود موقوتة من الطين لتصل طرف الجزيرة الشمالي بطرفها الجنوبي بالضفة الشرقية، وبدأ السد الدائم يرتفع في المجرى الرئيسي، وقد بانت الأجزاء المؤسسة من السد على أرض جافة في حين تم إنشاء الجزء الواقع على الضفة الغربية.
ولا ريب في أن إتمام مشروع ري أراضي الجزيرة في السودان لا يكون حجر الزاوية في سياسة إنكلترا الإمبراطورية فقط؛ بل يرجى أن يكون بداية عهد من الرخاء التجاري في بلاد استقر كثير من البريطانيين فيها لإعلاء شأن حضارتها» ا.ه.
ذلك هو مشروع ري الجزيرة، وذلك ما يرمون إليه من وراء إنجازه.
الجيش المصري والسودان
مصر هبة النيل والجيش سياج الدولة
مصر هبة النيل كلمة مأثورة عن هيرودوت؛ بل حكمة صادقة توارثتها الأمم جيلا عن جيل، ولقد صرفت مصر الحديثة نحو 103 سنوات وهي تقذف بعشرات الألوف من أبنائها وبالملايين من مالها إلى فيافي السودان الشاسعة؛ لضم أبنائها السودانيين أو المصريين السود إلى أحضانها فتقرب بينها وبينهم الشقة، وتأمن على مائها وحياتها؛ إذ إن مصر والسودان شقيقان بل صنوان لا ينفصلان قد جمعت بينهما رابطة الدين واللغة والنيل والمصالح، والنيل وحده يحيي المملكة الممتدة من شواطئ البحر الأبيض شمالا إلى 200 كيلو متر جنوبي الخرطوم.
فقبلي هذا الخط يروي النيل شقة ضيقة من الأرض على ضفتيه وتسعة أعشار الأراضي الأخرى ترويها الأمطار الغزيرة التي تهطل هناك، وفي شمال هذا الخط حيث لا يهطل المطر فلا نبات ولا حيوان ولا إنسان، فالحياة كلها بالنيل أو بقرب النيل. فإذا ركبت طيارة مجتازا وادي النيل من مصبه إلى ينابيعه برزت لعينيك أولا دلتا النيل بحلة سندسية خضراء مترامية الأطراف، وأما بعد القاهرة فيبتدئ وادي النيل ضيقا بين جبلين، فترى في وسط هذا الوادي خطا أزرق هو النيل، وعلى جانبيه خطان أخضران هما ضفتاه يأخذان بالضيق تدريجيا حتى الخرطوم، وإذا سرحت النظر على طول هذه المسافة شرقا وغربا فإنك لا ترى بعد هذا الوادي المبارك الخصب غير رمال قاحلة مقفرة. إن مساحة مصر تعادل نحو مليون كيلو متر مربع، أي ضعف مساحة فرنسا تقريبا، ولكن تسعة أعشار هذه المساحة صحراء مجدبة، ومساحة مصر الزراعية أو القابلة للزراعة لا تزيد كثيرا على مساحة بلجيكا البالغة نحو ثلاثين ألف كيلو متر مربع، ويقدرون عدد السكان بالكيلو متر المربع في بلجيكا بنحو المائتين، ويعتبرونها مع بعض مقاطعات ألمانيا وإنجلترا أكثر بلاد العالم ازدحاما بالسكان، وهم لا يزيدون على السبعة ملايين ونصف مليون. فماذا يقال عن مصر ومساحتها الزراعية لا تزيد عن مساحة بلجيكا، وهي تموج بنحو أربعة عشر مليونا من السكان وسكان الكيلو متر المربع بالمنوفية 360 شخصا، ومتى تحسنت الأحوال الصحية وقلت الوفيات خصوصا وفيات الأطفال فستضيق البلاد بمن فيها، وسيجرف تيار المهاجرة هذه الزيادة إلى السودان متتبعا مجرى النيل؛ لأن النيل وحده مصدر الزرق والحياة.
إن الفضل الأكبر في فتح السودان سنة 1820 ثم باسترجاعه سنة 1898 عائد إلى الفلاح الذي هو عماد الجيش المصري. نعم، إن البريطانيين الذين كانوا نحو ثلث القوات المصرية سنة 98 قد اشتركوا بالمدافع وأبلوا بلاء حسنا وإنما كانوا بعد الانتهاء من القتال يعودون مهرولين إلى بواخرهم بالنيل التي أقلتهم من مصر إلى الخرطوم، وهذه حملة ولسلي التي أرسلوها سنة 85 لإنقاذ غوردون كان يخفرها في الصحراء الجيش المصري ولولاه ما استطاعت التقدم، ولما وصلت مراكبهم إلى شلالات دال، منعها التيار عن المرور فحملها الجيش المصري على أكتافه مسافة ثلاثة أميال.
أما الذي قطع الألف ومائتي كيلو متر من أسوان إلى الخرطوم على قدميه، والذي مد الخطوط الحديدية والتلغرافية تحت وابل من الرصاص وتحت نار محرقة، والذي ضحى دمه وماله بصحاري السودان فهو الفلاح المصري.
لقد كان هم الإنكليز من يوم احتلوا هذه البلاد أن يجعلوا مصر مزرعة تقدم القطن للانكشير، وأن يجعلوا الجيش قوة بوليس حربي في قبضتهم كهيئة البوليس والخفر لهذه المزرعة. ففي سبيل المزرعة القطنية أهملوا الشئون الصحية والتعليم وكل ما يرقي مدارك الأمة، وفي سبيل البوليس أهملوا أمر الجيش فلم يعلموه تعليما يتفق مع روح العصر؛ فصار جيش مصر الذي فتح الأقطار والأمصار على عهد محمد علي وإبراهيم ومن خلفوهما أضعف جيوش العالم، لا لأن الاتفاقات الدولية حددت عدده بثمانية عشر ألف مقاتل؛ بل لأن الإنكليز حولوه بعد الاحتلال إلى بوليس بسيط جميع قواده منهم، وأكثروا عدد الضباط الإنكليز فيه حتى إنه لم يبق لمصري مقام، واقتصروا في تعليمه على ما يكفي لإنالة أغراضهم.
قال الكولونل بوفور الفرنساوي في تقرير رفعه إلى حكومته عن جيش إبراهيم باشا: «إنني واثق كل الثقة بأنه ليس في العالم كله جندي قوي متين كالجندي المصري؛ فهو قوي العضل باسل صبور على المكاره كبير الجلد يتحمل أشد المتاعب، ولا يستطيع جندي في العالم أن يفعل ما يقدر الجندي المصري علي فعله.»
هذا الجندي المصري الباسل كانت أعماله في خدمة المدنية والحضارة أعمالا عظيمة الشأن، فهو الذي ألف الأمة السودانية أمة واحدة وقد كانوا فرقا وشيعا وسلاطين وملوكا، وهو الذي علمهم لبس الرداء، وهو الذي أبطل النخاسة منذ عهد محمد علي وقبل إبرام اتفاق 1877 بين مصر وإنكلترا، وهو الذي أنشأ المدارس في السودان، وهو الذي فتح القارة السوداء فاجتاز السودان إلى زنجبار فأدخل في حماية مصر بعد الأوغندا زنجبار بمعاهدة تعرف بمعاهدة سليم، وهو الذي يقوم الآن على حراسة النيل وعلى حفظ الأمن في تلك الأقطار المترامية الأطراف، وهو إلى اليوم يواصل عمله بجد ونشاط ففي سنة 1916-1917 أتم تسكين دارفور
1
وسواها من أطراف البلاد التي فيها من أيدي الأعداء، وهو الذي قابل في جهة الأوغندا الألمان القادمين من تانجانيكا، ولهذا نظر الإنكليز في اتفاق 1899 إذ اشترطوا أن يكون لهم حق الشركة في ما يفتح من البلاد؛ لعلمهم أن الجندي المصري هو الجندي الوحيد القادر على الفتح، وعلى صيانة هذا الفتح، وضبط الأمن بالسودان.
ولا يغيب عن ذهن القارئ المصري أن اللورد كرزون قال في مذكرته التي قدمها للوفد الرسمي برئاسة عدلي باشا أنه يجب على مصر أن تقدم دائما القوة العسكرية للخدمة في السودان مقابل ضمانة ماء النيل لمصر، ففي شروط الإنكليز ذاتهم يظل الجيش حامي النيل وحامي مياه النيل وضابط الأمن بالسودان وحارس هذا الملك.
وقد تعاقب في صفوف هذا الجيش آلاف من الضباط البريطانيين منذ الاحتلال للآن، فما نشروا تأليفا واحدا قيما يستحق الذكر أو تحسينا بالجيش تأدى لزيادة قوته المادية والمعنوية، ومن الأسف الزائد أن انحطاط جيشنا صار أمره مشهورا لدى الوطنيين والأجانب ، والجيش والسودان واحد لا فرق بينهما حتى جعلوا في اتفاق 1899 حكم السودان وقيادة الجيش شيئا واحدا، فللإنكليز عليهما السلطة التامة والسيطرة المطلقة من كل قيد فإنجلترا هي المتحكمة هناك حكم السيد بالموالي، وبيدها مالية السودان وعدليتها وداخليتها وخارجيتها ومواصلاتها ومدارسها وبوليسها ... إلخ، فمنهم الحاكم العام والمديرون والمفتشون والحكمدارات ... إلخ، وليس للمصريين من كل ذلك سوى بعض وظائف كتابية حقيرة.
وهذا إحصاء عدد الضباط البريطانيين، وعدد الضباط المصريين، ورتبهم:
مصري
بريطاني
فريق
1
1
لواء
9
12
أميرالاي
8
20
قائمقام
28
41
بكباشي
73
155
119
229
إن الأرقام أفصح من كل بيان، والأرقام تنبئ بأن عدد الضباط البريطانيين ضعف عدد الوطنيين، ولهؤلاء الضباط الأجانب جيش من المترجمين يستولي على عشرات الألوف من الجنيهات من الخزانة المصرية ليترجم لهم.
فما معنى استخدام هؤلاء المترجمين والإنجليز يقدمون الامتحانات بالعربية والناجحون منهم يستولون على المكافآت المالية الباهظة، فإن كانوا قد أجادوا الامتحان فهم لا شك يعرفون قضاء أشغالهم بالعربية فلا حاجة بهم إلى المترجمين، وإن كانوا لا يجيدون بعض اللغة العربية لقضاء حاجاتهم فما الداعي لهذه الامتحانات والمكآفات المالية.
ومن المضحكات ما جرى حديثا وهو أن جماعة تظاهروا بالانسحاب من الجيش بحجة إفساح مجال الترقي للضباط الوطنيين، وذلك بالطريقة الآتية:
كان قومندان الجنود العام بالقطر المصري حتى آخر 1923 ضابطا بريطانيا برتبة لواء، ويليه اثنان من الضباط المصريين بصفة أركان حرب، فهذا القومندان عين حديثا بوظيفة مفتش عام للجيش المصري بالقطر المصري، وتحت رئاسته أركان حرب ضابط مصري وبكباشي بريطاني لتمرن الجنود المصرية.
وسلطة المفتش هذا هي كما جاء في أوامر الجيش بنصها الشائق ومعناها الرائق: «مفتش عام الجنود المصرية بالقطر المصري هو المسئول عن تهذيب (كذا) وتمرين الجيش المصري بالقطر المصري ... إلخ، وهو مسئول عن إعداد معدات الدفاع عن القطر المصري بحالة الاضطرابات والحصول على الأخبار الخاصة بها ... إلخ.»
وقد عين مكانه بوظيفة قومندان الجنود المصرية ضابطان مصريان؛ أحدهما برتبة لواء والثاني برتبة ميرالاي، وعين لهما ثلاثة ضباط بوظيفة أركان حرب.
فترى مما تقدم أن النتيجة هي أولا: أن وظائف قومندانية الجنود المصرية بالقطر التي كانت محصورة بثلاثة ضباط أي قومندانا إنجليزيا وضابطين مصريين صار يتولاهما الآن ثمانية ضباط منهم اثنان بريطانيان وستة مصريون.
وليس لهؤلاء الضباط المصريين الذين حلوا محل البريطاني من السلطة سوى الاسم، ومن الوظيفة سوى الرتبة والماهية؛ فهم يأتمرون بأمر المفتش العام الذي ما زال بالحقيقة قومندان الجنود كما كان سابقا.
وهناك مسألة أخرى تستحق الالتفات وهي مسألة ترقية الضباط فقد باتت بطيئة جدا لا سيما أصحاب الرتب الصغيرة من رتبة بكباشي فما دون، ولذلك عدة أسباب نسردها بالإيجاز:
أولا: كثرة الضباط الإنجليز بالرتب العليا فصار الوصول إليها صعبا جدا. فلا يصل إليها إلا طويل العمر وكبير الحظ.
ثانيا: صغر الجيش وكثرة الضباط.
فترى الضابط وقد يمكث نحو 12 سنة برتبة الملازم الثاني أو الأول ونحو 15 سنة برتبة يوزباشي، فيكون قد بلغ السن الثامنة والأربعين وهي السن القانونية التي يحال بها إلى المعاش وبمعاش حقير، ولمكافحة هذا الداء أي داء بطء الترقي أدوية ناجعة:
أولا: الاستعاضة عن الضباط البريطانيين الذين يخرجون من الجيش بضباط مصريين، فيخلو نحو 250 رتبة يتبوؤها الضباط الوطنيون.
ثانيا: زيادة عدد الجيش، أي عدد الصف والعساكر فقط؛ لأن عدد الضباط الموجودين الآن بالخدمة مع الذين يعادون من المعاش والاستيداع أو يتخرجون من المدرسة الحربية كاف لإنشاء الأورط الجديدة.
أما السلطة العسكرية فكلها بيد السردار والأدجوتانت جنرال وكاتم أسرار الحربية، وبيد كل الضباط البريطانيين المتوزعين بالجيش، وليس لأي فرد من الأربعة عشر مليون مصري أدنى سلطة على الجيش.
فللسردار في الجيش وحاكم السودان في السودان والمدير بمديريته والقومندان العسكري في وحدته والمفتش في مركزه - لكل هؤلاء من السلطة ما لم يحلم به ملك إنجلترا وسلاطين آل عثمان أو قياصرة الروس على أريكة عروشهم.
وما زال دأبهم منذ وطئت قدمهم هذه البلاد أن يضعفوا هذا الجيش حتى صار اسما بدون جسم فهو لا يكاد يعد 15 ألف عسكري محارب و18 ألفا إذا أضفت إليه الوحدات غير المحاربة، ومن هؤلاء نحو 6 آلاف عسكري مصري فقط؛ لأنهم ما برحوا منذ استرجاع السودان للآن ينقصون عدد الوحدات المصرية البحتة، ويزيدون الوحدات السودانية عملا بدافع التفريق وظنا منهم بأنهم يؤلفون نواة جيش سوداني يكون خير معوان لهم؛ ليستقلوا عن مصر بالسودان في مستقبل الأيام. أجل إنهم ينقصون الوحدات المصرية ويزيدون السودانية بدون استشارة مصر وضد مصلحتها فهم يصنعون ذلك من مال مصر لمحاربة مصر.
فقد ألغوا الأورطتين السابعة عشرة والثامنة عشرة من البيادة المصرية، وأنشأوا أورطتي خط الاستواء وبحر الغزال السودانيتين حيث يعلمون العساكر النداء بالإنجليزية، ولم يبقوا من البطاريات الطوبجية المصرية العديدة سوى أربع مصرية، وأنشأوا واحدة سودانية، ومن أورط السواري المصرية لم يبقوا أيضا سوى أورطة مصرية أي نحو 150 عسكريا، وأنشأوا بدلا منها ست أورط سودانية أطلقوا عليها اسم البيادة الراكبة، وأركبوها الخيل السودانية والبغال الحبشية، وقد أبدلوا الهجانة المصرية بهجانة سودانية، وأنشأوا فرقتي العرب الشرقية والغربية السودانيتين، وقد زودوا كل هذه الوحدات السودانية بيادة وسواري بالمدافع المكسيم، بينما أنهم حرموا منها الوحدات المصرية، وبينما الأورطة السودانية تعد 800 ضابط صف وعسكري، فالأورطة المصرية لا تعد سوى 600 فقط، وقد أنقصوا الضباط المصريين في الوحدات السودانية حيث نزل عددهم إلى عشر الضباط البريطانيين والسودانيين، وأما في أورطتي بحر الغزال وخط الاستواء فلا أثر للمصري، ولا يعرف عساكر هذه الوحدات عن مصر إلا نقودها، ولهؤلاء نظام مخصوص هو أقرب لنظام ميليسا أوغندا منه إلى نظام الجيش المصري.
وأما الذخيرة فلا يصرف للجيش سوى النزر اليسير، والباقي هو محفوظ في مصر والخرطوم تحت حراسة البريطانيين، وقد أنشأوا بالخرطوم منذ سنوات عديدة مدرسة سموها كلية غوردون لتخريج قضاة ومهندسين ومعلمين ومدرسة حربية لتخريج الضباط، وقد افتتحوا حديثا مدرسة طب، وهذه المدارس مثل كل منشآت البريطانيين في الشرق تكتفي بالقشور دون اللباب، فالسوداني مثل أخيه المصري لا ينقصه الذكاء الفطري فهو قابل للعلوم، وإنما طرق تعليمه عقيمة وناقصة، فالبريطانيون لا يقصدون تعليمه بل يقصدون إزاحة المصري من السودان وإحلال البريطاني محله. خذ مثلا مدرسة وكلاء المآمير التي أنشأوها بالخرطوم فهي تخرج وكلاء مآمير سودانيين تحل محل المأمورين المصريين شيئا فشيئا ، وهكذا قل عن المدرسة الحربية وعن المهندسين والقضاة والأطباء فهم يعينون السوداني بوظيفة المصري بماهية 6 أو 8 جنيهات شهريا بدل الثلاثين والخمسين التي كان يستولي عليها المأمور أو المهندس أو الطبيب المصري، والوفر الذي يتجمد يخصص لإنشاء وظائف جديدة للبريطانيين.
عثر المسيو أوريان في محفوظات الوزارة البريطانية على تلغراف من لورد كلارندون ناظر خارجية إنجلترا إلى اللورد «كاولي» سفير بريطانيا في باريس بتاريخ 18 يوليو سنة 1858 معترضا على فتح قناة السويس، وقد نشر في مجلة مركور دي فرانس، وهذا نصه:
إذا ما تم فتح هذه القناة فإنها تفصل مصر عن تركيا، ويمكن حينئذ أن تعلن استقلالها متى أرادت. فالإسكندرية وسائر السواحل البحرية هي الآن بحالة حصينة وقوية للدفاع ضد كل اعتداء من جانب بريطانيا أو تركيا، وإذا لم تكف الحامية المصرية فهناك قوة إفرنسية يمكن إنزالها للميدان لأجل النجدة، وإن هذه القناة التي ستكون بعرض 300 قدم وعمق 80 قدما إذا أقيمت خطوط الدفاع على جوانبها وقامت السفن الحربية على الحراسة في وسط مياهها فستكون سدا منيعا ضد كل جيش عثماني يهجم عليها من ناحية سوريا.
ولقد تمت نبوءة اللورد التي تنبأها سنة 1858 بما وقع سنة 1915 حينما هاجمت الجنود التركية القناة، ولكن ذلك كان لمصلحة إنكلترا التي وضعت نصب عينها احتلال مصر فحالت دون استقلالها لتبتلعها، وهذا ما تفعله الآن في السودان، وتجد منا من يتساهل معها وينسى أن الأمة باقية خالدة، ويكفي أن تعشق حقوقها حتى تنال هذه الحقوق إما عاجلا وإما آجلا.
وإذا كان الجيش هو الذي ألف الدولة المصرية وألف وحدة السودان ومصر ومدن السودان وصانه وعمره فإن اسم الجيش لاسم مقدس في مصر وعند المصريين وهو الفلاح الذي صرف أكثر من مئة عام وهو يريق ماله ودمه في أرجاء السودان؛ ليبقي السودان لمصر ويبقي مصر للسودان، ويبقي الاثنين واحدا لا يقبل تفرقة ولا تجزئة، ويظل هو سياج هذه الدولة، ويظل اسمه وعمله فخرها إلى الأبد.
هوامش
في بحر الغزال
زيارات اللورد اللنبي للسودان
في كل عام يزور معتمد إنكلترا السودان ، وكانت زيارة اللورد اللنبي السودان في عام 1924 غير زيارته له في العام السابق، ولكنها لا تقل عنها أهمية، ولا يسع المصري إلا أن يرقبها ويتدبر نتائجها؛ ففي العام الماضي كان الغرض من تلك الزيارة جمع الذين أطلقوا عليهم اسم «أعيان السودان وأشرافه وأرباب العشائر والقبائل» ليلقوا على مسامعهم بفم بعضهم ما يريدون هم أن يكون رأي السودانيين بأنفسهم وبشقيقتهم مصر، وفي هذا العام كان الغرض التوغل في أعالي السودان حتى الحدود التي ضربوها له على ما يهوون ويريدون كالحدود التي ضربوها لمصر مع السودان. فحال السودان مع منابع النيل الآن كحال مصر مع النيل ذاته. فإذا نحن أوجسنا خيفة من كل يد تسيطر على النيل في السودان فإنه يحق للسودانيين أيضا أن يوجسوا خيفة من كل يد تسيطر على منابع النيل، فنحن والسودانيون في ذلك سواء، ونحن وهم تحت سيطرة القابضين على منابع النيل؛ لأن هذه المنابع التي كانت لنا ولهم معا صارت اليوم لا لنا ولا لهم؛ بل للإنكليز يتصرفون بها على هواهم. إن الإنكليز يسيرون هنا وفي الهند على وتيرة واحدة فهناك يقبضون على عنق البلاد بالبوليس والري، وهنا أيضا يقبضون على عنق مصر والسودان بالبوليس والري. •••
كل مصري يعرف أن النيل يؤلف من نهرين؛ النيل الأبيض والنيل الأزرق، فالنيل الأبيض: يجري من بحيرة فيكتوريا نيانزا عند خط الاستواء، ثم يجري على مسافة 290 ميلا فيصب في بحيرة ألبرت نيانزا الواقعة شمالي الأولى، وكلتا البحيرتين كانت في قبضة مصر على عهد إسماعيل باشا، وأطلق عليهما اسمان إنكليزيان؛ لأن إسماعيل باشا استعمل على تلك المنطقة صموئيل باكر الإنكليزي، فأوحت إليه حكومتة بهذه التسمية؛ لأنها كانت ترمي بنظرها إلى تلك البلاد وإلى مصر معا، فأرادت أن يسجل بالتاريخ، وأن تعرف الأمة الإنكليزية أن البحيرتين إنكليزيتان. •••
وبعد أن يخرج النيل الأبيض من بحيرة ألبرت نيانزا يجري في خط الاستواء وهو الإقليم المصري الذي كان يتولى الحكم فيه أمين باشا حتى سنة 1889 ولكنهم سلبوه سلبا، وبعد أن يجري على مسافة 670 ميلا يلتقي ببحر الغزال، وهو نهر كبير، ويتغير بعد ذلك الاسم، ثم يلتقي بالنيل الأزرق عند الخرطوم بعد أن يجري من منبعه 1530 ميلا.
أما النيل الأزرق: فيخرج من بحيرة تسانا في بلاد الحبشة، ويجري شمالا إلى الغرب حتى يدخل سنار، وتصب فيه أنهر أخرى، ويصل إلى الخرطوم بعد جريه 846 ميلا، وكلنا يعرف مساعي الإنكليز في الحبشة؛ لتكون بحيرة تسانا في قبضتهم كما هي الآن بحيرة فيكتوريا نيانزا، وكما يطمحون إلى بحيرة رودلف.
ذانك هما النهران اللذان تعيش بهما مصر والسودان معا، وتلك سياسة الإنكليز في أن تكون في يدهم حياة مصر والسودان بالقبض على منابع النيل.
وإذا كان اللورد اللنبي قد أتم مهمته في العام الماضي مع مشائخ القبائل، فإنا لا ننسى أقوال صحف لندن وردها على صحف مصر «بأن هناك غير القبائل التي يدعي المصريون قرابتها ولحمة النسب بها ووحدة اللغة والدين معها قبائل السود وهي أكثر عددا وأوسع بلادا ولا تربطها بالمصريين أقل رابطة؟» فهل السلطان «جومص كيانجو» الذي أهداه اللورد اللنبي المدالية «التي ينعم بها على رؤساء القبائل ووجوه القوم في أفريقيا» ومشائخ العشائر «الذي أنعم عليهم الحاكم العام بالهدايا» - كما قالت صحف الإنكليز - يمثلون السود؟ فيكون اللورد اللنبي قد أتم الآن مهمته في سنتين: سنة مع رؤساء العشائر والقبائل العربية المسلمة، وسنة مع رؤساء القبائل والعشائر السوداء غير المسلمة؟ •••
أما مديرية بحر الغزال فإنه يفصلها عن دارفور وكردوفان شمالا بحر العرب وبحر الغزال، ويفصلها عن محافظة فاشودة بحر الجبل، وتفصلها الجبال غربا عن الكونغو الفرنساوية، وتتصل جنوبا بالكنغو البلجيكية، وجميع سكان بحر الغزال من السود، وهم يتعاملون بالخرز والحديد.
ثارت هذه المديرية بعد قيام المهدي، وكان لبتن بك مديرا لها، ومحمود المحلاوي مفتشا عاما لمنع تجارة الرقيق فتمكن محمود من إخماد الثورة، ومن إرسال المدد إلى أمين باشا في خط الاستواء، وانتهى الأمر بأن سلم لبتن لعامل المهدي. أما أمين باشا فثبت في خط الاستواء، وله حديث عجيب يدل على نيات الإنكليز منذ ذاك الحين.
أخلى الدراويش بحر الغزال سنة 1886، وفي 14 يوليو سنة 1894 عقد الفرنساويون اتفاقا مع حكومة الكونغو على أن تكون بلاد بحر الغزال في دائرة نفوذهم، وأنشأوا مواقع عسكرية في ديم الزبير وبحر العرب وأرمبيك وإياك ومشروع الريك، ثم تقدموا إلى فاشودة فاحتلوها إلى أن اتفقوا مع الإنكليز على الخروج منها ومن بحر الغزال في سنة 1898، وفي سنة 1900 أرسل السردار قوة احتلت بحر الغزال، وجعلت واو عاصمة لتلك البلاد. •••
أما خط الاستواء فتملكه المصريون سنة 1872 وطلب ولي عهد إنكلترا من الخديوي إسماعيل أن يكون غوردون حاكما لخط الاستواء فعينه من سنة 74 إلى 76 ثم تولاها أمين باشا، ولكن الإنكليز الذين أكرهوا حكومة مصر على الجلاء عن السودان أبوا أن تظل الجرثومة المصرية في خط الاستواء فملأوا الدنيا صياحا وعويلا لمصاب «أمين باشا» وأخذوا يستصرخون الإنسانية لإنقاذه حينما كان أمين باشا بكل راحة وسكون وأمان مع الجيش المصري والعمال والموظفين. على أن الإنكليز الذين أوفدوا ستانلي «لإنقاذ» أمين باشا سنة 89 كلفوا حكومة مصر أن تدفع له 12 ألف جنيه، وأن تصحبه بكتاب إلى أمين باشا ليغادر تلك البلاد؛ لأنه رفض مغادرتها بغير أمر الخديوي، ولما عاد أمين باشا إلى زنجبار مع ستانلي أبى فريق من الجيش المصري إخلاء تلك البلاد، وظل فضل المولى مع ذلك الفريق في واد لاي، وفي سنة 92 أدخل البلجيك فضل المولى وعساكره في خدمتهم، وقتل الدراويش فضل المولى في تلك السنة. •••
والآن اسمع قصة أمين باشا لتدرك سر السياسة الإنكليزية، أي تلك السياسة التي لا يزالون يعملون لتحقيقها حتى الآن، والتي نعد سفر اللورد اللنبي إلى واو شطرا منها أو تتمة لها.
ألف الإنكليز شركة سموها الشركة الأفريقية على مثال شركة الهند الشرقية التي أوصلتهم إلى تملك الهند، وجعلوا غرضها تجاريا كتلك، وهي مثلها سياسية كلفت بتمهيد الطريق لتأليف الإمبراطورية الأفريقية فلما أخذت هذه الشركة بالعمل أيقنت أن بقاء أمين باشا حاكما مصريا على خط الاستواء يحول دون مرماها فأطلقوا عليه لقب «سجين خط الاستواء» بعد إكراه مصر على إخلاء السودان، وأرسلوا إليه ستانلي فلما سلمه أمر الخديوي بالعودة عاد معه إلى زنجبار، وهناك كشف له القنصل الألماني عن وجه الحقيقة فأبى المجيء إلى مصر، وعزم على العودة إلى وادلاي مع فريق ممن أتوا معه من هناك، ودخل في المسألة عامل جديد وهو السياسة الألمانية التي طلبت من أمين باشا وهو من أصل ألماني أن يكون في عودته تحت ظل علمهم، وحملت صحف الألمان على الإنكليز، واتهمتهم بالخيانة والغدر، فرد عليهم الإنكليز بأشد من ذلك، وأظهروا عجز أمين باشا عن العودة؛ لأن الشركة الأفريقية رفعت العلم الإنكليزي على خط الاستواء بعد خروج المصريين، واضطرار فضل المولى إلى خدمة البلجيكيين، وحدث ستانلي أحد الكتاب الألمان فقال له: «إني لما وصلت إلى أمين باشا خيرته بين ثلاثة أمور: إما البقاء في ودالاي تحت السلطة الإنجليزية والعلم الإنكليزي براتب 1500 جنيه في السنة وإعانة 12 ألف جنيه تدفع له حالا - وهو المبلغ الذي أخذه ستانلي من خزانة الحكومة المصرية - وإما أن يرحل عن وادلاي إلى جهة أخرى لنرفع على خط الاستواء العلم الإنجليزي، وإما أن يرجع معي إلى القاهرة ويترك تلك البلاد وشأنها» فرد عليه أمين باشا بأن ستانلي عرض علي أن أترك منصبي في خدمة الحكومة المصرية فرفضت، وعرض علي أن أجمع له جيشا من السود يتولى هو قيادته ثم نذهب بالجيش لأوغندا فنجعلها مركزا ثم نرجع إلى وادلاي باسم الشركة الأفريقية لا باسم الحكومة المصرية فرفضت. فهددني بتجريدي من قوتي وسلاحي وذخيرتي فاضطررت أن أرافقه.
أما ستانلي الذي أكسب الإنكليز منابع النيل في خط الاستواء فإنه رفع إلى مقام الأشراف، ورسم الخطة التي ينفذها الإنكليز اليوم فقال:
الآن وقد وضعت الشركة الأفريقية يدها على خط الاستواء، وصارت منابع النيل في قبضتنا بعدما أكرهنا المصريين على إخلاء السودان، وبات باستطاعتنا أن نفتح السودان بمد خط حديدي بين البحر الأحمر والنيل لا يكون طوله أكثر من 300 كيلو متر، ثم نسير من بربر إلى الدرجة الخمسين طولا فنأخذ الأبيض وسنار، ثم نصعد في النيل الذي يكون قد صار ملكنا إلى غاندوكرو، وبذلك يكون النهر لنا على مسافة 1500 ميل، ونصل إلى البحيرات التي هي ملكنا، والتي منها ينبع النيل؛ فيصير بذلك السودان ثم مصر مستعمرات إنكليزية.
ولا شك بأن الألمان كانوا يزاحمون الإنكليز بالمناكب في تلك الجهات، ولكن انكسارهم بالحرب أوقع مستعمرتهم في قبضة الإنكليز فلم يبق لهم مزاحم هناك ولا عقبة في طريق سكة حديد الكاپ. على أن ذلك كله تم لهم على حساب مصر وبأموال مصر وعلى أيدي المصريين الذين يخادعونهم عن أنفسهم حتى الساعة بكلمة: «ضمانة مياه النيل» وهي ضمانة لا قيمة لها كما مر بالقارئ.
الخاتمة
سياسة إنكلترا وسياسة مصر
لقد بسطنا شيئا من سياسة الإنكليز في السودان وفي تحكمهم بالري أو بالأحرى بالنيل الذي قال فيه هيرودت: «إن الله خلق العالم كله وأما النيل فإنه خلق مصر» فما هي سياستنا التي نقابل بها سياستهم، بل كيف يجب أن تكون سياستنا التي تنجح مقاصدنا وتجعلنا وتجعل أولادنا وأولاد إخواننا السودانيين أحرارا لا يخشون ضرا ولا يخافون مستقبلا مكفهرا؟!
إنا إذا ما تساءلنا هذا السؤال خلص إلينا الجواب عليه مما يطوف بأنفسنا من الميول دون أن نعللها، ودون أن نرجع الأسباب إلى مراجعها وأصولها؛ لأن النفس هي التي تملي وما تمليه النفس لا يخطئ ولا يزل.
ففي سنة 1881 فتح البرلمان المصري وعلى كرسيه 20 نائبا عن بلاد السودان، فعلى تلك الكراسي والمقاعد امتزجت مصر بالسودان امتزاجا كليا تاما، ولم يكن في قاعة المجلس نائب سوداني وآخر مصري؛ بل كان الجميع واحدا، وكان النائب المصري نائبا عن السودان ومصر وكان النائب السوداني نائبا عن مصر والسودان، فكان البلدان واحدا، وإذا لم يكن البلدان واحدا ومنافعهما مشتركة متلاحمة مترابطة كأنها منفعة واحدة نجم عن ذلك حتما تضارب المنافع، ومتى تضاربت المنافع واختلفت وقع الشقاق، ومتى وقع الشقاق تلاه الخصام، وهذا ما يرمي إليه الإنكليز بفصل السودان عن مصر حتى يظلوا الحكم بينهما وأصحاب السلطة على القطرين معا، وهذا ما يجب أن نتفادى عنه كل التفادي حتى نمنع النفور بين الأخوين بتفريق منافعهما، وحتى نمنع تسلط الأجنبي عليهما معا بحجة الدفاع عن مصلحة هذا آنا ومصلحة ذاك أونة أخرى.
ومن العيب في السياسة وسياسة بعد النظر والنظر إلى الغد. ما يقولونه ويرددونه عن «ضمانة ماء النيل لمصر» فمن هو الضامن ذلك؟ وما قيمة هذه الضمانة؟ وإلى كم تدوم؟ ألا يعد وجودها ذاته سببا للخلاف والخصام، وإذا هي نفذت في عشرة أعوام أو عشرين أو أربعين أو خمسين أو في ما هو فوق ذلك فهل تنفذ إلى الأبد، ونحن الآن نحو 14 مليونا وبعد ربع قرن - وربع قرن بل قرن كامل في حياة الأمم لا يستحق أن يذكر - يربو عدد المصريين على 20 مليونا ويربو عدد السودانيين على 12 مليونا، فأين يجد المصريون مرتزقا وهم الآن يزدحمون في أرضهم ازدحاما شديدا حتى إن الكيلو متر المربع في المنوفية يسكنه 365 شخصا، وهؤلاء السكان المزدحمون في وادي النيل ازدحاما شديدا جدا كانوا يكتفون بالأمس القريب بالضروريات القليلة الزهيدة، وهم لا تكفيهم الآن الكماليات، وغدا يزدادون مدنية وحضارة وعلما، وقد نص دستورهم على التعليم الإجباري فتزداد حاجتهم وتقل ثروتهم وتضيق أرضهم فإلى أين يكون المصير أإلى الصحراء غربا أم شرقا أم إلى الصناعات ومصر لا يحتمل أن تكون لها صناعة كبيرة إذا هي جدت في هذا السبيل؛ بل إن كل ما يمكن أن يتوافر لها الصناعات الصغيرة. فمجرى النيل هو هو طريق الرزق بقوة التقاذف الذي لا تشعر به الأمم كأن ينتقل ابن أسوان إلى دنقلة وهكذا صعودا، وابن قنا إلى أسوان، ويلحق به في قنا ابن جرجا ... وهكذا من مصب النيل إلى منبعه.
فمن جعل حلفا حدا فاصلا بين مصر والسودان فقد جعل مصر والمصريين مسجونين في واد ضيق، وجعلهم عبيدا خاضعين لمن بيده منبع النيل.
بل جعل ما هو أكبر شأنا وأشد خطرا بجعله القطرين منفصلين، فيباعد بين الأخوين مباعدة تدعو إلى النفور والشحناء والبغضاء كما نحن نرى الآن من الدعوة التي تنشر ومن والوسائل التي تتخذ، وإذا كان الإنكليز - كما قلنا قبل - قد نظروا منذ عهد إسماعيل إلى ما يجنون ثماره الآن فأطلق مستخدمو مصر منهم اسم ملكتهم والأمير زوجها وولي عهدها على منابع النيل؛ ليرسخ في التاريخ، وليرسخ في أذهان أبنائهم أن تلك المنابع لهم؛ لأنها تسمى بأسماء ملوكهم وأمرائهم. فكم يكون واجبا علينا بل لازما محتما أن نعمل على الأقل عملهم في إبقاء صلة الاتحاد والإخاء بيننا وبين إخوتنا الذين أبوا على عهد الخديوي سعيد باشا أن تجلى الجنود المصرية عن أرضهم وأن يستعيد الخديوي عماله من بلادهم، فكانوا بعيدي النظر، وكانوا على سياسة الإخاء بل على أحدث سياسة يجب الأخذ بها، وهذه السياسة يجب أن تكون سياستنا، أي سياسة الوحدة والاتحاد مع إخواننا بالسودان لا سياسة «ضمانة المياه» التي يتغنون بها الآن، وهي شديدة الخطر خطيرة النتائج على مصر والسودان معا؛ لأنها تتضمن في طياتها شرا كبيرا قوامه «فرق تسد». •••
إن بين مصر وإنكلترا عهدا وميثاقا أبرم سنة 1899 فهذا العهد والميثاق علله أحسن تعليل رئيس لجنة الدستور حسين رشدي باشا مستشهدا بأقوال اللورد كرومر الذي وضع ذلك الاتفاق، فلم يقل اللورد واضع الاتفاق أنه ينازع مصر في ملكية السودان أو بالأحرى في أن السودان ومصر واحد؛ بل قال: إن الغرض الوحيد من ذلك الاتفاق هو الحيلولة دون تسحب الامتيازات على السودان. فإذا كانت لإنكلترا منافع في السودان فإن المصريين لا ينكرونها وهم يحترمون تلك المنافع والمرافق كل الاحترام، وأما الملكية وأما فصل السودان عن مصر فصلا يؤدي في المستقبل حتما إلى النزاع والخصام فإنه لا يسلم به مصري مهما كان الأمر، والاتحاد في رأس برنامج كل حزب من الأحزاب المصرية وهو مطبوع على قلب كل مصري كبيرا كان أو صغيرا إلا الذين كفت بصيرتهم فلا يرون غدهم وهم عائشون ليومهم، وهؤلاء لا يؤخذ بقولهم ولا برأيهم في مصير أمتهم أو مستقبلها. •••
إذا كان الإنكليز والمصريون فريقين مختلفي الغاية والغرض في السودان فإن الفريق الطامع بذلك الملك الشاسع - وهو الفريق الإنكليزي - يعمل والقوة تؤيده لتنفيذ طمعه. أما الفريق الثاني صاحب الحق - وهو الفريق المصري - فإنه يستند إلى حقه فقط، وقد قال السياسيون: إن الحق قد تخلقه القوة وقد تستميله إليها. وقال الاجتماعيون: ما مات حق من ورائه مطالب. ومعنى قولهم أن كل حق لا يطالب به قد يموت.
هم يعملون ولا يكلون، وهم يعتمدون في عملهم على خلق فكرة الانفصال وتقويتها وإنمائها في نفوس السودانيين أنفسهم، وبتصوير المصريين لعيون السودانيين تصويرا ينفرهم منا ويبعدهم عنا.
فهلا رشد نفر منا فهب لزيادة أحكام الروابط والإخاء والمحبة والولاء بين مصر والسودان حتى لا تجد البذرة الفاسدة مكانا من أنفسهم وقلوبهم، وهلا قام نفر منا يختص بالدعاية السودانية فوق برامج الأحزاب وأكثر من مباحث الصحف والأقلام حينا بعد حين؟
لقد عابوا على الأمير الكبير عمر طوسون قوله في بعض رسائله: «إن لم نحكم السودان فليحكمنا السودانيون.»
وما كان في هذا القول عيب ولا عار إذا كان الغرض منه أن تكون الأمتان أمة واحدة، ومتى كانتا كذلك لا يسأل فيهما من هو الحاكم ومن هو المحكوم. ألا إن من السودانيين أبطالا في خدمة القضية المصرية وأبطالا بواسل في سبيل الاستقلال والفتح المصري، لا يمحى أثرهم من تاريخ مصر الخالدة، فكيف تنساهم مصر وكيف تنسى دماءهم التي سفكت كرما وجودا في سبيل مصر واستقلالها وتوسيع سلطانها وتوطيد أركانها.
إن بين السودان ومصر من أواصر النسب ووشائج القربى ما لا يقبل انفصالا ولا فكا.
إن بينه وبين مصر أفخاذ القبائل وبطون العشائر وروابط اللغة والدين والتاريخ.
إن بينهما روابط المنفعة الأدبية والمادية، فإذا عملت مصر وعمل المصريون لإحكام هذه الروابط، روابط الإخاء والمحبة والقربى ثم المنفعة، فقد عملت كل شيء يدفع عنها وعن السودان الغير، ويثمر الخير ويحقق الآمال، في كل مصير ومآل.
Page inconnue