الجزء الاول
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
- تقديم-
إذا كان التأليف العربي على الطريق الموسوعية EncycloPedique:قد بدأ مع كتاب «مفاتيح العلوم» لمحمد بن أحمد بن يوسف الخوارزمي المتوفى سنة ٣٨٧ هـ/ ٩٩٧ م- كما يقول بروكلمان «١» - فإن القرن الثامن الهجري في مصر يمتاز بظاهرة ثقافية خاصة، وهي أنه عصر الموسوعات العلمية والأدبية الكبرى؛ فقد ظهرت فيه طائفة من العلماء الذين توفروا على جمع أشتات العلوم والفنون المعروفة يومئذ، في مؤلفات جامعة لم تعرفها الآداب العربية من قبل، وكتبت فيه عدة موسوعات جليلة ما زالت تتبوأ مقامها الفذ في تراث الأدب العربي. وأقطاب هذه الحركة ثلاثة من أكابر العلماء والكتاب المصريين هم: أحمد بن عبد الوهاب النويري، المتوفى سنة ٧٣٣ هـ/ ١٣٣٣ م صاحب كتاب «نهاية الأرب في فنون الأدب»، وأحمد بن فضل الله العمري، المتوفى سنة ٧٤٩ هـ/ ١٣٤٨ م، صاحب كتاب «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار»، وأبو العباس القلقشندي، المتوفى سنة ٨٢١ هـ/ ١٤١٨ م، صاحب كتاب «صبح الأعشى في كتابة الإنشا» «٢» .
والملفت للنظر أن بين هذين التاريخين (منتصف القرن الرابع الهجري ومنتصف القرن الثامن الهجري) . كان هناك حدث مروّع ترك بصماته السيئة
1 / 3
على تاريخ الثقافة العربية والإسلامية، عنينا الغزو المغولي ودخول جيوش هولاكو إلى بغداد سنة ٦٥٦ هـ واستباحتها وقتل العديد من علمائها وأدبائها وإحراق مكتباتها التي كانت تحوي خلاصة ما توصل إليه التأليف العربي الإسلامي، ناهيك من أنها كانت عاصمة العالم، لكونها حاضرة الخلافة الإسلامية في ذلك الوقت «١» . نقول بالرغم من ذلك نجدنا أمام تلك الأعمال التي أشرنا إليها وغير ذلك في أواسط العصر المملوكي الذي استمر من سنة ٦٤٨ هـ/ ١٢٥٠ م إلى سنة ٩٢٢ هـ/ ١٥١٧ م.
والحقيقة أن عنوان الواحد من تلك الكتب قد يفهم منه أن مؤلفه يعالج فيه موضوعا واحدا، مثل كتاب «مسالك الأبصار في ممالك الأمصار»، فهو يشير إلى الجانب الجغرافي، أو كتاب «نهاية الأرب في فنون الأدب»، فهو يشير إلى الجانب الأدبي، أو كتاب «صبح الأعشى»، فهو يشير إلى فن الإنشاء على وجه التحديد ... ولكن القاريء لأي كتاب من هذه الكتب يجده موسوعة ضخمة تجمع بين الأدب والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد والاجتماع والعلوم الدينية ونظم الحكم والتراجم والفنون والعلوم ... وغيرها من ضروب المعرفة التي تجعل منه دائرة معارف ثمينة يفخر بها الفكر العربي وتعتز بها الحضارة العربية الإسلامية في العصور الوسطى «٢» .
على أن التراث الضخم الذي خلفه لنا عصر سلاطين الممالكى لم ينشر منه سوى القليل، في حين ما زال غالبيته مخطوطا، محفوظا في دور الكتب الكبرى في العالم، مثل دار الكتب المصرية بالقاهرة، والمكتبة الأهلية بباريس، والمتحف البريطاني بلندن، ثم مكتبات تركيا وعلى رأسها أحمد الثالث وكوبر وللو
1 / 4
ونور عثمانية والسليمانية وأسعد أفندي وحكيم أوغلو وبايزيد وغيرها من المكتبات الحافلة بالمخطوطات النادرة التي ترجع إلى عصر المماليك، والتي تنتظر التحقيق والنشر لترى النور فيستفيد منها الباحثون فوائد قد تؤدي إلى تصحيح كثير من مفاهيمنا وزيادة معلوماتنا عن ذلك العصر «١» .
وإذا كان يبدو أحيانا وكأن تلك الحيوية العلمية في العصر المملوكي كانت نوعا من التعويض عن الخسائر التي أصابت الثقافة العربية على أثر الغزو المغولي، غير أن الأعمال الثقافية الكبرى لا بد لها من توفّر مجموعة من العوامل المختلفة، من سياسية واجتماعية وتاريخية ونفسية وغيرها، تكون حاضنة لها وحافزا لبزوغها وتقديم ثمارها. وإذا كنا لا ندعي إمكانية تقديم تفسير كاف لهذا الأمر، فإننا نعتقد أن العصر المملوكي امتاز ببعض (العلامات البارزة) التي كان لها أثر هام في عقد تلك الثمرات وتساقطها رطبا جنيّا بين أيدي أبناء الأمة العربية والإسلامية في تلك الفترة والأجيال اللاحقة.
أولا: لقد أعاد المماليك «الخلافة» بسرعة كبيرة واحتضنوها وأوقفوها على قدميها بعد ما اجتاحها هولاكو بجحافله. وإذا كان ثمة من يقول بأن سلطة الخليفة كانت قبل المماليك وفي أثناء حكمهم صورية مفزغة من مضمونها، وأن السلاطين والقواد كانوا في الحقيقة والواقع الخلفاء الفعليين، نقول بالرغم من ذلك فإن للخلافة قوة رمزية تاريخية متأصلة في نفوس المسلمين بحيث تشكل ركنا أساسيا- بل الركن الأساسي- في استقرار الشخصية الإسلامية على مختلف الصعد. ويكفي لبيان ذلك أن نسترجع بعض ما اجمع عليه فقهاء المسلمين من أن تعطيل الخلافة أو الإمامة هو الخطر الأعظم على الكيان الإسلامي؛ هذا بالإضافة
1 / 5
إلى ما تتضمنه «الخلافة» من رمز توحيدي جامع للأمة. يقول ابن دقماق، في ترجمته للمستعصم بالله، على أثر سقوط مقر الخلافة ببغداد أمام هولاكو، بعبارة توحي بالهلع: «.. وانقطعت الخلافة من بغداد.. وبقيت الدنيا (!) بغير خليفة إلى سنة تسع وخمسين وستماية، في أيام الملك الظاهر بيبرس البند قداري» «١» الذي استقبل الإمام أبا العباس أحمد بن الإمام الظاهر فاستخلفه وثبته على رأس الخلافة.
ثانيا: وإذا كانت سلطة الخليفة- كشخص حاكم- صورية في كثير من المعاني، فإن المماليك استطاعوا أن يعززوا في الكيان الإسلامي واقع الوحدة والقوة المركزية الجامعة؛ فقد استطاعوا توحيد مصر وبلاد الشام، وأصبحت مصر في ذلك العصر تبدو في نظر كافة الدول الإسلامية في المشرق والمغرب قاعدة الخلافة العباسية والقوة الضاربة التي تذود عن الإسلام والمسلمين؛ وأخذ الحكام المسلمون يخطبون ودّها ويطلبون مساعدة حكامها ضد خصومهم وأعدائهم.
ومن ناحية أخرى بدت مصر في ذلك العصر في نظر القوى غير الإسلامية وبخاصة المسيحية صورة مركز المقاومة الإسلامية وقلب العالم الإسلامي النابض والقوة المتحكمة في أفضل طرق التجارة بين الشرق والغرب «٢» .
ثالثا: لقد شهد الشرق الأوسط، في النصف الثاني من القرن الثالث عشر الميلادي، تحولين رئيسين على أيدي الدولة المملوكية هما: إبعاد خطر المغول عن بلاد مصر والشام، بعد ما أنزل بهم قطز في عين جالوت سنة ١٢٦٠ م هزيمة منكرة؛ والثاني كان القضاء على آخر معاقل الصليبيين في الشرق، وبذلك استكلموا ما كان بدأه صلاح الدين «٣» .
1 / 6
هذه العلامات الثلاث البارزة: من إعادة رمز الخلافة، بمدلولاتها الاجتماعية النفسية العميقة، إلى حياة المسلمين، إلى توحيد مصر والشام في دولة قوية مرهوبة الجانب، إلى تحقيق النصر الناجز على المغول والصليبيين، تشكل برأينا جزءا أساسيا من العوامل الحافزة التي أشرنا إليها، والتي تكمن وراء تلك النهضة والحيوية العلمية في ذلك العصر.
وقبل الحديث عن «صبح الأعشى» وقيمته من مختلف النواحي، يحسن بنا أن نبدأ بالتعريف بصاحب هذا العمل الموسوعي، ففي التعريف به ما يفسر بعضا من جوانب توافره على هذا النوع من التأليف الجامع. والحقيقة أن كتب التراجم لا تقدم لنا الكثير عن القلقشندي، والذين ذكروه تحدثوا عنه بمنتهى الإيجاز؛ فصاحب «النجوم الزاهرة»، والعماد الحنبلي في «شذرات الذهب»، والخطيب الصيرفي في «نزهة النفوس والأبدان»، ذكره كل منهم في وفيات سنة ٨٢١ هـ، ولم يذكروا لنا تاريخ مولده؛ غير أنهم يقولون إنه توفي عن خمسة وستين عاما، وبذلك يكون مولده سنة ٧٥٦ هـ/ ١٣٥٥ م «١» .
وهو القاضي شهاب الدين، أحمد بن عبد الله «٢» بن أحمد القلقشندي؛ ولد
1 / 7
بقلقشندة «١»، إحدى قرى مديرية القليوبية بالديار المصرية: من أصل عربي صميم، من بني بدر بن فزارة من قيس عيلان. وكان بنو فزارة وردوا مصر مع من وردها من العرب أيام الفتح الإسلامي وبعده، ونزلوا بإقليم القليوبية «٢» . وقد درس القلقشندي بالقاهرة والإسكندرية على أكابر شيوخ العصر، وتخصص في الأدب والفقه الشافعي، وبرع في علوم اللغة والبلاغة والإنشاء؛ وفي سنة ٧٧٨ هـ أجازه الشيخ ابن الملقن «٣» بالفتيا والتدريس على مذهب الإمام الشافعي. وقد تولى بعض الوظائف الإدراية إلى حين؛ بيد أن براعته في الكتابة والإنشاء لفتت إليه أنظار رجال البلاط، ومهدت له سبيل الاضطلاع بالمنصب الذي أهلته له مواهبه الأدبية والفنية، وهو العمل في ديوان الإنشاء. (وقد كان للمقر الفتحي بن فضل الله العمري فضل كبير على القلقشندي بهذا الصدد) . والتحق القلقشندي بخدمة هذا الديوان في سنة ٧٩١ هـ، في عهد السلطان الظاهر برقوق (٧٨٤ هـ- ٨٠١ هـ)، وذلك حسبما يقول لنا القلقشندي نفسه في مقدمته «٤» . وقد كانت لديوان الإنشاء أهمية خاصة في هذا العصر، وكان على المرشّح للعمل فيه أن يكون من أقطاب النثر والبلاغة، الذين تؤهلهم معارفهم الواسعة للوقوف على شؤون الحكم والسياسة الداخلية والخارجية وسير العلاقات الدبلو ماسية بين مصر وباقي الأمم؛ كما كان على كاتب الإنشاء أن يتحلى بمجموعة من الصفات اللازمة له: كصباحة الوجه وفصاحة اللفظ وطلاقة اللسان. وإيثارة الجد على الهزل، وتوقد الفهم وحسن الإصغاء ... كما تطلبوا فيه كتمان السرّ، الأمر الذي يصرّ القلقشندي على خطورته ويراه ضرورة لا يمكن التجاوز عنها فيمن يشغل وظيفة كاتب الإنشاء أو كاتب السرّ، فيقول عنها «هذه الصفة هي الشرط اللازم والواجب
1 / 8
المحتم» «١» . ولديوان الإنشاء، منذ أيام الدولة الفاطمية، تاريخ حافل، وقد كان لفترة طويلة من الزمن مدرسة أدبية يجتمع فيها أقطاب الكتابة وأئمة النثر والبلاغة.
وكان أول من تولى منصب «صاحب ديوان الإنشاء» القاضي محي الدين بن عبد الظاهر (٦٢٠ هـ- ٦٩٢ هـ) أيام الظاهر بيبرس والمنصور قلاوون والأشرف خليل «٢» . كما تولى رياسة ديوان الإنشاء قبل زمن القلقشندي بنصف قرن كاتب ممتاز، وعلامة جغرافي، وسياسي بارع، هو أحمد بن فضل الله العمري، صاحب «مسالك الأبصار»، ووضع عن نظم الكتابة والإنشاء الرسمية كتابه الشهير «التعريف بالمصطلح الشريف» «٣» وهو ما يقابل في اصطلاح عصرنا مراسيم البروتوكول والمراسلات الدبلو ماسية، فكان، حسبما يقول القلقشندي في مقدمته، أنفس الكتب المصنفة في هذا الباب، كما كان نواة عمل القلقشندي في كتابه «صبح الأعشى» . وإذا كانت كتب التراجم لا تقدم لنا شيئا عن الفترة التي أمضاها القلقشندي في ديوان الإنشاء- وهي فترة لا بد وأن تكون طويلة لكي يتسنى له أن يجمع في موسوعته تلك الكمية الهائلة من المكاتبات والرسائل وغير ذلك مما لا نستطيع حصره في هذه المقدمة- فإن كتاب صبح الأعشى يزودنا ببعض المعلومات القيمة نستطيع من خلالها الاهتداء إلى ما نبحث عنه. ففي الجزء التاسع، يذكر القلقشندي أنه كتب رسالة تهنئة بكتابة السر الشريف بالديار المصرية في الدولة الظاهرية برقوق في سلطنته الأولى إلى المقرّ البدري محمود الكلستاني. والمعروف أن بدر الدين محمود الكلستاني تولى كتابة السرّ بعد أن شغرت بوفاة بدر الدين محمد بن فضل الله في شوال سنة ٨٠١ هـ «٤» .
1 / 9
وفي الجزء الرابع عشر، ص ١٩١، يذكر أنه أنشأ رسالة في تقريض المقرّ الفتحي، أبي المعالي، صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالديار المصرية والممالك الإسلامية في شهور سنة ٨١٤ هـ. وفتح الدين فتح الله هذا تولى رئاسة ديوان الإنشاء مرتين، انتهت الثانية في شوال سنة ٨١٥ هـ.
وفي الجزء التاسع، أيضا يذكر أنه بعث بتهنئة بالصوم للمقرّ الأشرفي الناصري محمد بن البارزي، كاتب السر الشريف، في سنة ٨١٦ هـ. ومحمد بن البارزي تولى كتابة السر في ١٣ شوال سنة ٨١٥ هـ وظل بها حتى وفاته في ٨ شوال سنة ٨٢٣ هـ.
مما تقدم نستطيع أن نستنتج أن القلقشندي ظل قائما بالعمل في ديوان الإنشاء حتى نهاية سنة ٨١٦ هـ على اقل تقدير، وربما حتى تاريخ وفاته سنة ٨٢١ هـ، إذ ليس لدينا أي نص ينفي ذلك أو يؤيده. ويترتّب على هذه الحقيقة حقيقة أخرى، وهي أن القلقشندي- وإن كان قد انتهى من تأليف كتابه «صبح الأعشى» في شوال سنة ٨١٤ هـ «١» - إلا أنه ظل يضيف إليه طوال السنوات الباقية من حياته طالما كان لا يزال يعمل بديوان الإنشاء؛ ودليلنا على ذلك أننا نجد العديد من صفحات كتابه فراغات من الواضح أن المؤلف تركها عمدا ليملأها فيما بعد بما يستوفيه من المعلومات.
وإذا كان القلقشندي لم يستطع طوال فترة عمله أن يكون على رأس ديوان الإنشاء، فإن ذلك لا يعني أنه لم يكن يمتلك المؤهلات الأدبية والعلمية لذلك، بل ربما كان يربأ بنفسه أن يسلك إليه سبل التزلف والرشوة، كما كان سائدا في ذلك العصر «٢» .
1 / 10
ننتقل الآن إلى كتاب الصبح نفسه لنتعرف على الغيض من فيض بحره الزاخر
أولا: في تسمية الكتاب
الحقيقة أن التسمية الأصلية للكتاب هي «صبح الأعشى في كتابة الإنشا»، وهي التسمية التي ذكرها المؤلف في مقدمته «١»؛ ونعتقد أنها أكثر ملائمة لمضمون الكتاب وللغرض الذي من أجله وضعه كاتبه، من سائر التسميات الأخرى وهي: «صبح الأعشى في صناعة الإنشا» و«صبح الأعشى في فنون الإنشا» و«صبح الأعشى في معرفة الإنشا» و«صبح الأعشى في قوانين فالمؤلف يتوجه اساسا إلى شخص محدد (موظف)، وهو «كاتب الإنشاء»، يزاول وظيفة محددة، وهي وظيفة «كتابة الإنشاء»؛ وهو يريد أن يزوّده بجميع مستلزمات قيامه بهممته الديوانية على أكمل وجه. إذن فالهمّ الأساسي لدى القلقشندي في كتابه هو «كتابة الإنشاء» كوظيفة في الدواوين السلطانية، وليس «صناعة الإنشاء» كموهبة أو مقدرة تتوفر لدى الأديب أو أي شخص آخر خارج «الديوان»؛ فالكتابة هنا لا تعني التأليف بالمطلق وامتلاك أدواته، حتى يصح لدينا استبدال لفظها بلفظ «صناعة»، وإنما إضافتها إلى الإنشاء هي تماما كإضافة «الديوان» إلى «الإنشاء» في قولنا: «ديوان الإنشاء» . ولعل عبارة «كاتب السر» كمرادف الصطلاحيّ «لكاتب الإنشاء» توضح بعض الشيء ما ذهبنا إليه «٢» .
وإذا كنا قد اخترنا إثبات التسمية المعروفة لكتاب القلقشندي وهي «صبح الأعشى في صناعة الإنشا» فذلك لأنها الأكثر شيوعا وشهرة، وهو من باب تقديم
1 / 11
المفضول على الفاضل في مثل هذه الحال.
أما بخصوص القسم الأول من التسمية وهو «صبح الأعشى»، فإن القلقشندي يرى أن كتابه يوصل «كاتب الإنشاء» إلى غايته القصوى في امتلاك مواد الكتابة ومستلزمات وظيفته الديوانية الخطيرة. فالأعشى: من ساء بصره بالليل والنهار؛ والمعنى ينظر إلى الانصباب والصبوة؛ فكأن القلقشندي يعتبر كتابه صبحا ينصبّ منه النور فيرى الأعشى سبيله «١» .
ثانيا: في مصادر صبح الأعشى ومنهج القلقشندي
(أ) اعتمد القلقشندي في جمع مادة موسوعته وتأليفها على نوعين أساسيين من المصادرهما: محفوظات ديوان الإنشاء من الوثائق والمراسلات السلطانية والدبلو ماسية، والثاني أمهات الكتب والمصنفات في مختلف ميادين العلم والأدب التي طرق أبوابها في كتابه.
لقد أمضى كاتبنا أعواما طويلة في البحث والتنقيب واستخراج الوثائق والكتب والمراسلات الخلافية والسلطانية وغيرها من مختلف أصناف المكاتبات الرسمية والدبلو ماسية التي تكدّست في ديوان الإنشاء خلال العصور المتعاقبة، وكانت كمية هائلة حتى قال المقريزي: «... ولما زالت دولة الظاهر برقوق، ثم عادت، اختلت أمور كثيرة، منها أمر قاعة الإنشاء بالقلعة، وهجرت وأخذ ما كان فيها من الأوراق وبيعت بالقناطر ونسي رسمها» «٢» . إذن فقد اجتمعت لدى القلقشندي من ذلك مادة غزيرة لم يسبق أن اجتمعت من قبل لكاتب في موضوعه؛ فهذا الرجل أمضى ربع قرن في ديوان الإنشاء، أي في خزانة أسرار الدولة، مطلعا على كل ما يرد إليها ويصدر عنها، مزوّدا بالعلم الغزير والذهن اليقظ المستنير،
1 / 12
وممنوحا الثقة والاحترام، كل ذلك ساعده على التصرف بما وقع بين يديه وتحت بصره بطريقة الناقل الأمين والباحث الموثّق.
وإذا كانت غالبية المكاتبات والمراسلات والوثائق التي أتى بها القلقشندي إنما ترتبط بعصر المماليك بالذات، فذلك أن هذا العصر هو عصر القلقشندي نفسه، والذي عاش فيه وعاصر أحداثه واطلع في ديوان الإنشاء على خباياه وأسراره، وأسهم بقلمه في كتابة بعض وثائقه؛ هذا بالإضافة إلى أن العصر المملوكي في مصر يمثل أنشط عصور التاريخ المصري في السياسة الخارجية، وتحديدا في العصور الوسطى. وقد تبين أن من ضمن الرسائل التي أوردها القلقشندي رسائل نادرة فقدت أصولها، فلا توجد إلا في كتابه منها: الرسالة التي وجهها الملك الأيوبي (الجواد) إلى (فرانك) ملك بيت المقدس «١»؛ فإن العثور على نصها في غير صبح الأعشى أمر مستحيل، خاصة أن القلقشندي لم يذكر مصدره الذي نقلها عنه «٢» . ومن الرسائل النادرة أيضا، الرسالتان المتبادلتان بين أبي الحسن المريني، صاحب فاس، وبين السلطان الناصر محمد بن قلاوون «٣» .
ومن ذلك أيضا الرسالة الودّية المتميزة التي أرسلها صلاح الدين الأيوبي إلى (بردويل) ملك بيت المقدس يعزيه فيها بوالده ويهنئه بالملك بعده. وبردويل هو «بلدوين الخامس» الذي خلف أباه بلدوين الرابع على ملك بيت المقدس سنة ٥٨١ هـ «٤» . وإذ تعتبر الرسائل الديوانية الصادرة عن دواوين الإنشاء في حكومات الدول الإسلامية، والتي نسميها «وثائق»، من أهم المصادر التاريخية في توثيق الخبر التاريخي. فالرسالة الديوانية أو الوثيقة، إذا ما صحّ صدورها عن ديوان
1 / 13
الإنشاء، يمكن أن تعتبر الحكم الفصل في صحة خبر المؤرخ من عدمه «١» .
أما الكتب والمصنفات التراثية التي أخذ منها والتي ذكرها في متن كتابه، فلا يمكننا الإحاطة بها جميعا في هذا المقام لكثرتها وتنوع مجالاتها، نذكر منها: كتابي «التعريف بالمصطلح الشريف» و«عرف التعريف» لابن فضل الله العمري؛ و«التثقيف» لابن ناظر الجيش؛ «ومواد البيان» لعلي بن خلف، من كتاب الدولة الفاطمية؛ و«معالم الكتابة» لابن شيت؛ و«الأوائل» للعسكري؛ و«الأموال» لأبي عبيد؛ و«ذخيرة الكتاب» لابن حاجب النعمان و«صناعة الكتاب» لأبي جعفر النحاس؛ و«قوانين الدواوين» . لابن مماتي؛ و«تقويم البلدان» للمؤيد صاحب حماة؛ و«تاريخ الدولة الفاطمية» لابن الطوير؛ و«الروض المعطار» للحميري؛ و«عجائب المخلوقات» لابن الأثير؛ ء «العقد الفريد» لابن عبد ربه؛ و«القلم والدواة» لمحمد بن عمر المدائني؛ و«اللباب» للسمعاني؛ و«المثل السائر» لابن الأثير؛ و«مسالك الأبصار في ممالك الأمصار» للعمري؛ و«المسالك والممالك» لابن خرداذبّة؛ و«المشترك» لياقوت الحموي ... وهناك بعض الكتب التي أخذ منها ولم يذكر مؤلفيها مثل: «حسن التوسّل في صناعة الترسّل» «٢» وهو لشهاب الدين محمود الحلبي المتوفى سنة ٧٢٥ هـ؛ و«الدرّ الملتقط في تبيين الغلط» «٣» وهو للحسن ابن محمد الصنعاني المتوفى سنة ٦٥٠ هـ؛ و«الريحان والريعان» ولعله كتاب «ريحان الألباب وريعان الشباب في مراتب الآداب» «٤» لأبي القاسم محمد بن إبراهيم الإشبيلي، كاتب صاحب أشبيلية، أبي حفص. ومنها أيضا كتاب «الأطوال» و«رسم المعمور»، ولم نعثر على مؤلفيهما.. إلى ما هناك من
1 / 14
أمهات الكتب في مختلف ميادين الآداب والعلوم والفنون.
إلى جانب هذين المصدرين الأساسيين، كان هنالك المشاهدة العيانية والمعايشة للأحداث؛ وقد قدم لنا من مشاهداته ومعايشته للأحداث مادة هامة ضمنها كتابه في أماكن مبعثرة وفي خاطرات وآراء لها أهميتها الكبيرة، خصوصا إذا كانت صادرة عن رجل مثل القلقشندي يتحلى بالعلم والورع والأمانة، الأمر الذي سنتعرض إليه في كلامنا على منهجه في التأليف.
(ب) وإذا نظرنا إلى كتاب «صبح الأعشى» نظرة مدققة فاحصة، فسوف نجد أن مؤلفه يتبع منهاجا علميا واضحا يقوم على وحدة الفكرة من ناحية، وعلى أسلوب التفريع داخل إطار محدد مرسوم، من ناحية أخرى. وهو في أثناء ذلك ناقل أمين، لا ينسب آراء غيره لنفسه، وهو ذو رأي سديد وفكرة صائبة دونما ادعاء. ولاستقراء منهجه هذا سوف نتفحص بعضا من موضوعاته التي عالجها في كتابه.
يقسم القلقشندي كتابه إلى عشر مقالات، تسبقها مقدمة وتلحق بها خاتمة.
ولو أخذنا المقالة الثانية، نجده قد أفردها للحديث عن الجغرافيا بمختلف فروعها، أي المسالك والممالك بلغة ذلك العصر. ويقسم الكاتب مقالته الجغرافية إلى أربعة أبواب: الأول في ذكر الأرض على سبيل الإجمال، والثاني في ذكر الخلافة ومن وليها من الخلفاء ومقراتهم، والثالث في ذكر مملكة الديار المصرية، أما الرابع فموضوعه الممالك والبلدان المحيطة بملكة الديار المصرية.
والواقع أن هذا المنهج الذي اختاره القلقشندي لمقالته منهج سليم إلى حد بعيد، من وجهة النظر الجغرافية «١»؛ فهو يبدأ بالصورة العامة للأرض وما اشتملت
1 / 15
عليه من الأقاليم الطبيعية، ويعنى بصفة خاصة بالبحار التي يتكرر ذكرها بذكر البلدان، سواء ما كان منها خارجا من البحر المحيط، أو ما ليس له اتصال بهذا البحر، ثم يفرد فصلا خاصا بكيفية استخراج جهات البلدان والأبعاد الواقعة بينها.
فإذا وضعنا في الذهن أن القلقشندي لم يكن يستهدف وضع كتاب لأصحاب الجغرافيا، بل كان هدفه تصنيف الملعومات الجغرافية العامة التي يحتاج إليها الكاتب، لأدركنا أهمية هذا الفصل الخاص بالعموميات؛ فلا معنى أن نعرف بلدا بأنه يقع على البحر الفلاني، في حين أن البحر الفلاني نفسه غير معروف لمن نتحدث إليه.
ثم ينتقل القلقشندي إلى الحديث عن الخلافة. والواقع أنه في هذا الباب من المقالة لم يقصد التحدث عن الخلافة كخلافة، بقدر ما قدّم لنا فصلا هاما عن «الجغرافية السياسية» للدولة الإسلامية. ولو أن جغرافيا أراد أن يرسم خريطة لحدود الدولة الإسلامية وتطورها على مر العصور، لما وجد مصدرا يتصف بالإيجاز الواضح يعينه في رسم خريطته أفضل من الباب الذي كتبه القلقشندي عن الخلافة. بعد ذلك ينتقل إلى جغرافية الديار المصرية ومضافاتها، أو ما يدخل تحت حكمها بلغة العصر الحديث. وهكذا يستوفي القلقشندي مقالته بهذا الأسلوب العلمي المتدرّج الذي يحافظ على وحدة الفكرة، بالرغم من التفريع الكثير الذي نلاحظه في أسلوبه وأسلوب القدماء بوجه عام.
وأهم ما يلفت نظرنا في منهج القلقشندي هو أنه كاتب أمين، ينسب كل منقولاته إلى أصحابها، لا يدعي منها شيئا لنفسه، هذا إلى جانب أمانته ودقته في النقل، فلا يتصرف في ما ينقله؛ وإذا أراد أن يضيف شيئا أو يدلي برأي خاص، فإنما يفعل ذلك مع التزام كامل باحترام آراء غيره، خاصة الذين ينقل عنهم.
ولعل ما أورده القلقشندي عن «قلعة القاهرة» يوضح أمانته ومنهجه العلمي في النقل والكتابة. وهذا الحكم إنما جاء بعد عدة دراسات تاريخية أثرية قام بها عدد من المستشرقين الفرنسيين يمثلون مدرسة ذات أسلوب عمل خاص كرست
1 / 16
جهودها لإحياء معالم عواصم مصر الإسلامية: الفسطاط، والقطائع، والقاهرة المعزية، والقلعة «١» . فهذه المدرسة تعتمد، في المقام الأول، على استخراج النصوص التاريخية الخاصة بالمعالم الأثرية من المصادر المعاصرة، ثم تقوم بتطبيق هذه النصوص التاريخية على الطبيعة في ضوء ما تبقى من أحياء وآثار وأطلال ومعالم. وقد اعتمدت تلك الدراسات أساسا على كتاب «الخطط» للمقريزي؛ إلا أن «كازانوفا» (في دراسته التاريخية الوصفية للقلعة) خرج وقد اهتزت ثقته بما جاء في كتاب «الخطط» من وصف لأسرار القاهرة والقلعة. ففضلا عما لاحظه، في عديد المواضع، من إغفال المقريزي الإشارة إلى من نقل عنه ممن سبقه من المؤرخين (وتحديدا ابن فضل الله العمري)، فقد أخذ عليه الكثير من المتناقضات. كما خرج من هذه الدراسة بنتيجة هامة، وهي أن أدق وصف للقلعة هو ما كتبه شهاب الدين أحمد بن محي الدين بن فضل الله العمري في موسوعته «مسالك الأبصار»، وأن هذه الدقة في الوصف إنما جاءت نتيجة عمله في ديوان الإنشاء. وإذا كان كل من القلقشندي والمقريزي قد نقلا عن ابن فضل الله العمري هذا الوصف للقلعة مع فارق كبير من حيث الأمانة والدقة في النقل، فقد أغفل المقريزي الإشارة إلى العمري، بينما أشار القلقشندي إلى ذلك صراحة.
وفضلا عن ذلك فقد أضاف القلقشندي إلى وصف القلعة الذي نقله عن العمري ملاحظاته الخاصة المستمدة من المشاهدة العيانية والتجربة الحية. وقد أثبت كازانوفا دقة وصحة هذه الملاحظات، بل أوضح أنه لولا ذلك لما أمكنه أن ينتهي إلى ما انتهى إليه في دراسته التاريخية والوصفية للقلعة «٢» .
وإذا انتقلنا إلى منهجه في الكتابة التاريخية، نجده متميزا على جميع من سبقه في الكتابة عن تاريخ مصر في العصور الوسطى؛ فإذا كانت كتب الحوليات الشهيرة التي تعالج تاريخ مصر في العصور الوسطى، والتي كتبها مجموعة من
1 / 17
مشاهير المؤرخين أمثال المقريزي وابن حجر والعيني وأبو المحاسن وابن إياس، تكاد تسير كلها على نمط واحد وتكاد تتفق كلها في قدر واحد من المعلومات، من ناحية ما حدث في هذه السنة أو تلك من حرب أو فتنة ومن غلاء أو رخاء، ومن وفاة سلطان أو قيام آخر ... فإذا ذكر أحد أولئك المؤرخين شيئا عن الأسعار في سنة من السنوات، فإنه لا يشير إلى النقود المتداولة وأقسامها وأنواعها، أو إلى المقاييس والمكاييل المستخدمة، مثل ما فعل القلقشندي في كتابه «صبح الأعشى» ... وهكذا نجد المؤرخين من كتاب الحوليات يطوون السنوات طيّا ويركزون عنايتهم على جوانب معينة يلتزمون الكلام عنها. وهنا يأتي دور كتاب مثل «صبح الأعشى» ليسد تلك الثغرات في تاريخ مصر في العصور الوسطى، بما يحويه من معلومات خطيرة عن النظم الداخلية والعلاقات الخارجية، فضلا عن الأضواء التي يلقيها على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والدينية ...
هذا إلى جانب تمتع القلقشندي بحاسة تاريخية قوية؛ فهو إلى جانب كونه أديبا وفقيها، يبدو في كتابه بصورة المؤرخ الواعي المحيط ببواطن الأمور، القادر على الربط والاستنتاج، المستوعب لكثير من كتب السير والتواريخ «١» .
وإذا تتبعنا منهج القلقشندي في كتابه «صبح الأعشى» في جميع أبوابه ومواده نجدنا دائما أمام رجل الفكر المنظم والأمانة العلمية والإحاطة الموسوعية.
ويزداد إعجابنا كلما انتبهنا إلى أن هذا العمل الموسوعي الضخم هو من إنتاج فرد بعينه، في حين نرى أن الأعمال الموسوعية الكبرى تتظافر فيها جهود عدد كبير من العلماء والباحثين، وربما تعاقب على إنجازها غير جيل.
وإذا كانت العصور الوسطى هي عصور الجهل والظلام في اعتبار معظم الأدبيات الغربية، فإننا نحد أنفسنا أمام واجب المزيد من الكشف عن تلك المنارات العربية الإسلامية في تلك العصور (أمثال القلقشندي وغيره) لإعادة
1 / 18
التأكيد على أن الشمس كانت مشرقة ساطعة في الجانب الشرقي الإسلامي من الكرة.
ثالثا: أسلوب القلقشندي في الكتابة وشخصيته الأدبية «١» .
القلقشندي أديب صانع مجتهد، وهو صاحب قلم سيّال يرتكز على ثقافة واسعة في جميع ميادين العلم والأدب والفن. وهو أيضا ذو أسلوب مشرق الديباجة سلس المأخذ والعطاء.
وفي كتابته ينسج القلقشندي على منوال أدباء عصره من أصحاب الأساليب المصنوعة، والعبارات المنمقة المسجوعة، الحافلة بالمحسنات البديعية من سجع وجناس وترصيع وتضمين وتورية ومقابلة وطباق، إلى غير ذلك من أساليب الصنعة التي اعتمدها أصحاب «المدرسة الإنشائية الأسلوبية» «٢» والتي كان على رأسها القاضي الفاضل. ويتجلي أسلوب القلقشندي هذا في مقدمته، وفي الرسائل التي أنشأها في مناسبات عديدة، وفي مقامته الطويلة التي أسماها «الكواكب الدرّية في المناقب البدرية» «٣»، وفي رسالته في المفاخرة بين العلوم «٤» . ونحن نلاحظ أن أسلوب القاضي الفاضل يملك على كاتبنا عقله ووجدانه، فقد تقمص القلقشندي شخصية القاضي الفاضل حتى أننا لو لم نكن نعرف مسبقا لمن هذا الأسلوب ما ترددنا لحظة واحدة في نسبته إلى القاضي الفاضل (عبد الرحيم بن علي بن السعيد اللخمي المتوفى سنة ٥٩٦ هـ. وكان من وزراء صلاح الدين ومقربيه. قيل عنه: كانت الدولة بأسرها تأتي إلى خدمته) «٥» .
وإذا كان القلقشندي أديبا كاتبا من الطراز الأول، فإنه عندما حاول الشعر
1 / 19
لم يستطع أن يقدم لنا أكثر من مجرد نظم لا يمكن أن يضعه في مصاف الشعراء.
ولعل حماسه للنثر واشتغاله فيه من خلال عمله في ديوان الإنشاء، جعله يتعصّب له ويفضله على الشعر، فهو يقول: «والنثر أرفع منه درجة، وأعلى رتبة، وأشرف مقاما، وأحسن نظاما، إذ الشعر محصور في وزن وقافية، يحتاج الشاعر معها إلى زيادة الألفاظ، والتقديم فيها والتأخير.... والكلام المنثور لا يحتاج إلى شيء من ذلك، فتكون ألفاظه تابعة لمعانيه، ويؤيد ذلك أنك إذا اعتبرت ما نقل من معاني النثر إلى النظم وجدته قد انحطت رتبته ...» «١» . ولعل القلقشندي في غمرة حماسه للنثر لم يلتفت إلى ما في الشعر من سحر وجمال، فحجب ذلك عمدا في بعض المواقف، ثم ما لبث جلال الشعر أن دفع به إلى الاعتراف به في صفحات كثيرة من كتابه «٢» وفي الفصول المتعددة التي كتبها القلقشندي عن البلاغة نجده عالة على البلاغيين المتخصصين- لا سيما صاحب مواد البيان-، ونحن لا نعتبر ذلك عيبا عند القلقشندي ذلك أنه لم يدع أنه بلاغي، وإنما موقفه موقف المعلم الذي يرجع إلى المصادر المشروعة التي يأخذ منها مادة درسه، ثم ينقحها ويهذبها ويحسن عرضها على تلاميذه. وهو إلى ذلك يمتلك ملكة نقدية مصقولة الحواشي صافية الذوق أعطت كتابه وجها جميلا في فن القول ووجوه نقد الكلام والتمييز بين غثه وسمينه ومألوفه ووحشيه، كل ذلك في صبر ووفرة وقدرة تدعو إلى الانحناء أمامه تقديرا لجهوده الجبارة.
ومما لا شك فيه أن صبح الأعشى- من حيث النصوص الأدبية التي احتواها- يعتبر أغنى مرجع عربي في هذا الشأن، نظرا لوفرة عدد الرسائل والخطب التي ضمتها دفتاه.
1 / 20
رابعا: محتويات الكتاب
قلنا إن الكاتب وزع محتويات كتابه على مقدمة وعشر مقالات وخاتمة، استغرقت أربعة عشر مجلدا (حسب طبعتنا والطبعات السابقة) أي حوالي سبعة آلاف صفحة:
أ- ففي المقدمة
، يتناول القلقشندي الحديث عن مسائل أولية وتعريفات تمهيدية، كالتنويه بفضل القلم وشرف الكتابة، وتطور الإنشاء خلال العصور، وتفضيل النثر على النظم، وصفات الكتاب وآدابهم، وتاريخ ديوان الإنشاء وتطوره منذ أول الإسلام إلى أيام كاتبنا، ثم أحواله في مختلف الدول الإسلامية، وقوانين الدواوين ومراتب أصحابها، والتعريف بالوظائف الديوانية في مصر الإسلامية.
وهذه المقدمة البديعة تصلح أن تكون وحدها مؤلفا مستقلا.
ب- المقالة الأولى
: وفيها يتحدث الكاتب عن مجموع المعارف التي يحتاجها الكاتب في ديوان الإنشاء للقيام بمهمته الخطيرة على أكمل وجه؛ وهي معارف لغوية وأدبية وتاريخية وما يحتاج إليه الكاتب من أنواع الأقلام والورق وغيرها. ويخصص في هذه المقالة صفحات رائعة عن الخط العربي وتاريخه، مصحوبة بالرسوم التوضيحية المفصلة، مستندا في ذلك إلى أئمة الخط في ذلك العصر وقبله. (استغرقت المقدمة والمقالة الأولى الجزئين الأول والثاني وقسما من الثالث) .
ج- المقالة الثانية
: في المسالك والممالك (الجغرافيا)؛ ذكر فيها الأرض والخلافة والخلفاء (الجغرافيا السياسية) والديار المصرية والشامية، والممالك والبلدان المحيطة بها. وقد استغرقت المقالة الثانية ما تبقى من الجزء الثالث، والجزء الرابع، وقسما من الجزء الخامس.
د- المقالة الثالثة
: في أمور تشترك فيها أنواع المكاتبات والولايات وغيرها، من ذكر الأسماء والكنى والألقاب، وبيان مقادير قطع الورق، وما يناسب كل مقدار منها من الأقلام، ومقادير البياض الذي يراعيه الكاتب في كتابته.. وبيان
1 / 21
المستندات وكافة الملخصات.. وبيان الفواتح والخواتم، مع تفصيل خاص لما يتعلق بذلك كله في ديوان الإنشاء المصري. وقد استغرقت هذه المقالة ما تبقى من الجزء الخامس، وقسما من السادس.
هـ- المقالة الرابعة
: وهي نظرا لمحتوياتها وحجمها، أهم مقالات الكتاب وأضخمها. وقد استغرقت ما بقي من الجزء السادس، والجزئين السابع والثامن، وقسما من التاسع. يقدم لنا فيها المؤلف فهرسا مطولا لألقاب الملوك وأرباب السيوف والعلماء والكتاب والقضاة، مرتبة على حروف المعجم. ثم يشرح لنا أساليب الكتابة، من استفتاح ومقدمات ودعاءات وصلوات وغيرها مما اصطلح عليه. ومن أهم فصول هذه المقالة، فصل يعالج فيه الكاتب مصطلحات المكاتبات الدائرة بين ملوك أهل الشرق والغرب من جهة، وكتاب الديار المصرية في مختلف العصور، منذ صدر الإسلام إلى عصره؛ ويفتتح ذلك بذكر الكتب الصادرة عن النبي ﷺ إلى زعماء الجزيرة وغيرهم من أهل الكفر مثل كسرى وقيصر والنجاشي. ويلي ذلك استعراض للمكاتبات الصادرة من الملوك إلى الخلفاء. ويعنى عناية خاصة بالكتب الصادرة عن ملوك الديار المصرية إلى نواب السلطنة، وإلى العمال والقضاة ورجال الدولة في مصر والشام؛ ومنها ما هو موجه إلى ملوك التتار وإيران وأرمينية، أو إلى ملوك المغرب والسودان والبرنو والروم والترك، وإلى ملوك الفرنج الأرض الكبيرة (فرنسا) وقشتالة ولشبونة وأراجون، ثم إلى البابا وقيصر القسطنطينية وحكام جنوة مثل البودسطا والكبطان.... ويعنى القلقشندي من جهة أخرى بالمكاتبات الواردة إلى البلاط المصري من جميع الجهات التي ذكرناها. وهو في ذلك يقدم لنا نماذج من معظم المكاتبات المذكورة.
والمقالة الخامسة
: وتتناول مسألة الولايات، وطبقاتها من الخلافة والسلطنة، وولايات أرباب السيوف والأقلام، ثم الألقاب من خلافية ومملوكية، ثم البيعات وما يكتب فيها، ثم العهود وأنواعها، مع نماذج من كل ذلك. وقد استغرقت المقالة الخامسة ما بقي من التاسع، والعاشر والحادي والثاني عشر.
1 / 22