في «البحث اللاهوتي السياسي» تعرف فكرة «الأوامر الإلهية» بأنها لا تخرج عن كونها تعبيرا عن الضرورة الكامنة في قوانين الطبيعة
56
وهذا التعرف في ذاته دليل وصريح، على أن فكرة الله عند اسپينوزا لا تؤدي وظيفة ما؛ إذ إن هذه القوانين الطبيعية تسير في مجراها الضروري، وسواء نسبت إليها صفة أخرى هي أنها «أوامر إلهية» أم اكتفيت بفكرتها هي ذاتها فحسب، فلن يتغير في الأمر شيء.
وبعد ذلك، فلنقارن بين هذا التعريف «للأوامر الإلهية» بأنها تعني القوانين الضرورية للأشياء (وهو تعريف يردده اسپينوزا كثيرا في مواضع مختلفة من كتبه)، وبين حديث آخر عن الأوامر الإلهية ورد في ختام الباب الثاني من الأخلاق؛ فهو هنا يتحدث عن بعض المزايا الأخلاقية والسلوكية لفكرته القائلة بعدم وجود إرادة حرة، ويقول إن أولى هذه المزايا هي «أنها تعلمنا ألا نسلك إلا وفقا للأوامر الإلهية، وأن نشارك في الطبيعة الإلهية، ونكون أقدر على ذلك كلما ازداد كمال أفعالنا وازددنا فهما لله.»
هذه النتيجة الأخلاقية، المتعلقة بإطاعة الأوامر الإلهية والمشاركة في الطبيعة الإلهية، قد استخلصت من مجموعة من القضايا عرض فيها اسپينوزا مذهبا حتميا بحتا، هو إنكار حرية الإرادة. فإذا فهمت فكرة الله هنا بمعناها الحرفي، فسوف يتعارض ذلك أولا مع تعريفه «الطبيعي» السابق للأوامر الإلهية. وسوف يكون فيه ثانيا، فصم للارتباط المنطقي الطبيعي بين إنكار حرية الإرادة وبين النظرة العلمية الوضعية إلى الأشياء، وللارتباط العكسي بين النظرة اللاهوتية وبين الإيمان بحرية الإرادة؛ وكأن اسپينوزا قد استخدم مقدمة علمية (تؤلف، في الواقع، الجزء الأكبر من الباب الثاني بأسره) في استخلاص نتيجة لاهوتية فوق الطبيعية! وثالثا سيكون اسپينوزا عندئذ واقعا في نفس خطأ التشبيه الذي طالما حذرنا منه اسپينوزا: وهو خطأ تشبيه الآلهة بالحكام؛ إذ إنه سينظر إلى الله هنا على أنه «يأمر»، ونحن «نطيع».
هذا المثل غاية في الوضوح من حيث دلالته على التناقض الساذج الذي يقع فيه المفسرون الحرفيون لاسپينوزا، وعلى أن هذه الفكرة ذات المظهر اللاهوتي إذا ما فسرت بمعناها الذي حدده لها اسپينوزا في موضع آخر، تغدو متسقة تماما مع المجرى العام لفلسفته؛ فإطاعة الأوامر الإلهية، ومعرفة الله، وفهم الله وخدمته ... إلخ، كل هذه تعبيرات عن إدراك قوانين الطبيعة وفهم المجرى العام للحوادث ومسايرته ... إلخ.
ومع ذلك فإن اسپينوزا لم يصرح مباشرة، في هذا الموضع من الباب الثاني من «الأخلاق»، بالمعنى الذي يقصده من لفظ «الأوامر الإلهية»، ولست أشك أبدا في أن أي قارئ لا يجري المقارنة اللازمة، سيفهم هذا اللفظ، وكذلك لفظ «معرفة الله» و«المشاركة في الله» و«البركة»، وغيرها من الألفاظ الواردة في هذه الصفحات الأخيرة من الباب، بمعانيها الحرفية ذات الارتباطات اللاهوتية، بل إن كثيرا من شراح اسپينوزا يفهمون منها هذه المعاني بالفعل.
والواقع أن هذه الظاهرة، التي تتمثل بكل وضوح في هذا النص، تستحق من باحثي اسپينوزا تفكيرا عميقا في دلالتها؛ ذلك لأن الجزء الأكبر ممن كتبوا عن اسپينوزا يستبعدون تماما - كما ذكرنا في الفصل الخاص بالمنهج - أن يكون قد كتب بلغتين: لغة ظاهرة ولغة حقيقية، أو أن يكون قد تعمد «خداع» القارئ. وقد قدمنا من قبل ردا كافيا على فكرة «الخداع» هذه، أما أن اسپينوزا قد كتب بلغتين، فذلك أمر يظهر في مثل هذا المثل بوضوح لا يقبل جدلا؛ ففي الباب الثاني من «الأخلاق» يتخذ اسپينوزا موقفا علميا صارما ينظر فيه إلى كثير من الأفكار التي سلم بها معظم الفلاسفة - بل بعض العلماء - (مثل فكرة جوهرية النفس وحرية الإرادة) على أنها أساطير مخرفة، وفي نفس هذا الباب يحذرنا اسپينوزا - كما فعل مرارا في مواضع مختلفة - من تشبيه الله بالإنسان، وبالحكام والملوك خاصة، ثم يختم الباب بملحوظة يرمي فيها إلى تأكيد مزايا رأيه في إنكار حرية الإرادة، ويؤكد فكرة الضرورة بين الأشياء - ومع هذا كله يتحدث عن وجود «أوامر إلهية»، وهو تعبير له ارتباطات لاهوتية قوية يعرفها اسپينوزا جيدا، ويدرك حتما أنها ستؤثر في ذهن القارئ. فهل ينكر أحد بعد ذلك أن اسپينوزا كان يتحدث، في هذا الموضع على الأقل، بلغة مزدوجة؟ وإذا سلمنا بذلك، بالنسبة إلى هذا الموضع، فلم لا نسلم به أيضا بالنسبة إلى الأجزاء الأخرى من كتاب «الأخلاق»، ولا سيما النصف الثاني من الباب الأخير؟
57
إنني لا أستطيع أن أفسر هذه الظاهرة إلا بأنها:
Page inconnue