ولي بعد ذلك كلمة أخرى عن المجال الذي دار حوله اهتمامنا في هذا البحث. فكثير من شراح اسپينوزا يركزون اهتمامهم في التعبيرات والصيغ الميتافيزيقية التي تحفل بها كتابات اسپينوزا، ولا سيما «الأخلاق». وهكذا تجد أبحاثهم عنه تتركز في موضوعات جافة كالجوهر والماهية واللامتناهي والصفة والحال، بحيث يبدو فيها غير مختلف كثيرا عن فلاسفة العصور الوسطى الذين قضوا حياتهم في التعامل مع ألفاظ شكلية وكيانات ميتافيزيقية لا علاقة لها على الإطلاق بواقع الإنسان. ونحن، مع تسليمنا بأن هذه الموضوعات كانت لها مكانتها، ومكانتها الكبيرة أحيانا، في كتابات اسپينوزا، فإنا نؤكد أن دلالتها لديه تختلف كل الاختلاف عنها لدى الفلاسفة المدرسيين؛ إذ إنها لم تكن عنده غاية نهائية للفكر على الإطلاق، وإنما كانت وسيلة لعرض آراء تمس موقف الإنسان وحضارته، بأحدث معاني هذه الكلمات، مساسا مباشرا. وهذا الوجه الأخير، في رأينا، هو الوجه الحقيقي الهام في فلسفة اسپينوزا، وهو الأجدر كثيرا بالبحث من كل ما عداه؛ ومن هنا فإنا لم ندخل في تفاصيل الأوجه الشكلية لفلسفة اسپينوزا إلا من حيث دلالتها على موقفه الأصيل من الإنسان وحضارته؛ إذ إنك كثيرا ما تجد في كتابات اسپينوزا قضايا لو أخذت بمعناها الشكلي أو الحرفي لما كانت تختلف كثيرا عن القضايا العقيمة المألوفة لدى الفلاسفة المدرسيين، ولكن هذه القضايا، إذا ما وضعت في سياقها الحقيقي في إطار فلسفة اسپينوزا، وفهمت الدلالة الخاصة التي أضفاها على مصطلحاتها، تكتسب معنى مشحونا بالثورة وبالدلالات الإنسانية العميقة. وهكذا فإن الاكتفاء بالتفسيرات الشكلية لهذه القضايا، على نحو يقارب ببنها وبين التراث السابق عليها ولا سيما في العصور الوسطى، يؤدي في رأينا إلى إغفال مؤسف لأهم ما تتضمنه فلسفة اسپينوزا من عناصر، بل للروح الحقيقية المميزة لهذه الفلسفة، في سبيل شكل سطحي وقشور زائلة. وبعبارة أخرى: فسوف نركز اهتمامنا على تلك العناصر الباقية في فلسفة اسپينوزا - تلك العناصر التي كان لها، وما زال، تأثيرها في حضارة الإنسان وفي فهمه لذاته وللعالم المحيط به، لا تلك العناصر العارضة التي تتمثل في تصورات وحجج مدرسية لا يمكن أن يكون لها في الإنسان أي تأثير باق. •••
وأخيرا؛ فقد أفادني في جمع مواد هذا الكتاب اطلاعي على المجموعة الضخمة من المراجع الخاصة بفلسفة اسپينوزا في المكتبة الأهلية ومكتبة جامعة كولمبيا بنيويورك - وفيهما مجموعتان ضخمتان من المؤلفات والأبحاث الهامة في هذا الموضوع على التخصيص. ومع ذلك فلا بد أن أنبه إلى أن الرأي الذي كونته عن اسپينوزا قد تكون بناء على تفسير مستمد من قراءة مؤلفاته ذاتها فحسب. أما المراجع المذكورة في هذا الكتاب - وهي غير قليلة - فلا تهدف إلا إلى دعم هذا التفسير، إما بطريقة إيجابية مباشرة ، أو بطريقة سلبية عن طريق إثبات استحالة التفسيرات المخالفة، وهو الأغلب. وكل ما أستطيع أن أقوله عن هذه المراجع هو أنني لم أجد منها ما يفسر فلسفة اسپينوزا تفسيرا متسقا إلى حد مرض، وأنني قد اضطررت إلى أن أقف من كثير منها موقف الناقد القاسي؛ وذلك لإيماني القاطع بأن اسپينوزا فيلسوف لم يفهم بعد حق الفهم، وأنه قد نصب للمفسرين السذج شراكا؛ وقع فيها، لسوء الحظ، معظم من كتبوا عنه؛ ولذا كان الرجوع إليهم يفيد في الانتقاد أكثر مما يفيد في الاسترشاد؛ ومن هنا فإني أود أن يعدني القارئ مسئولا عن التفسير الذي سيجده في هذا الكتاب لفلسفة اسپينوزا، وعن كل ما قد يستحق استحسانه أو استهجانه في هذا التفسير.
فؤاد زكريا
نيويورك في يناير 1962م
الفصل الأول
حياة اسپينوزا ومؤلفاته
من الأهداف التي بررت، في نظر اسپينوزا، اتباع المنهج الهندسي في التفكير، تغليب الطريقة «اللاشخصية» في الكتابة؛ فهو يريد أن يكتب كما لو لم يكن لشخصيته الفردية أية أهمية بالنسبة إلى الحقائق الموضوعية الواضحة التي كان يعرضها. وهكذا يبدو أن اسپينوزا، باتباعه هذا المنهج، كان يدعونا إلى تجاهل تفاصيل حياته عند الكتابة عنه، وإلى عرض أفكاره بنفس الطريقة اللاشخصية التي عرضها هو ذاته بها - أعني عرضها بوصفها أفكارا خالصة لا أهمية لشخصية كاتبها أو للظروف الخاصة التي عاش فيها. كما أن من التعليلات التي يمكن أن نفسر بها ظهور معظم كتبه بغير اسمه الحقيقي، أو دون اسم على الإطلاق، أنه كان يود من قارئه أن يتأمل أفكاره خالصة دون أن يشغل نفسه بشخصية الكاتب أو عصره.
ولكن إذا كان اسپينوزا قد استهدف ذلك بحق، فهل يجوز للباحث أن يلبي رغبته هذه؟ أليست في حياته الاجتماعية والفردية معالم عديدة تفسر الكثير من أفكاره وتلقي ضوءا على غوامضها؟ لقد كان اسپينوزا، بحق، متفاعلا مع مجتمعه بحيث تأثر تفكيره بأحداث هذا المجتمع، وتمشى مع ظروف عصره إلى حد بعيد، وبحيث كسرت تعاليمه نطاق الموضوعية الصلبة التي حاول اسپينوزا أن يغلفها بها عن طريق المنهج الهندسي .
ولا تقتصر الصعوبات التي تعترض التفسير التاريخي لفلسفة اسپينوزا على تعارض ذلك التفسير مع منهج اسپينوزا فحسب، بل إنها تمتد إلى محتوى فلسفته ذاتها. وقد لاحظ «كاسيرر» ذلك، مؤكدا أن مذهب اسپينوزا يبدو في صورة تعلو على التاريخ ولا تحتاج إلا إلى ذاتها، وأنه يتحدث دائما عن «العقل» بمعناه المطلق، وينظر إلى الأمور من «وجهها الأزلي»، ولا يلقي بالا إلى التغير والتطور، ويصف كل ما هو تاريخي أو زماني بأنه من صنع الخيال،
1
Page inconnue