ومن المعروف أن ميدان التصوير كان هو المجال الأكبر للفن في ذلك العصر، ولم تبدأ الموسيقى تحتل المركز الأهم بين الفنون إلا في القرن التالي.
وأخيرا، فهناك في رأيي دليل آخر واضح على أن كل ما كتبه اسپينوزا عن موقع القيم الجمالية في الكون لا ينبغي أن يعد تعبيرا عن إنكاره لموقع هذه القيم في مجال التجربة البشرية؛ ذلك لأن اسپينوزا كان دائما يتحدث عن القيم الأخلاقية، كالخير والشر، في نفس الموضع الذي يتحدث فيه عن القيم الجمالية، وكان يقرن كل هذه القيم معا ويصدر عليها نفس الحكم. ومع ذلك فمن المعروف أن هدف اسپينوزا النهائي كان أخلاقيا قبل كل شيء، وأنه كرس كتابه الأكبر لغاية أخلاقية، وأن حياته ذاتها كانت تطبيقا رائعا متسقا لأرفع المبادئ الأخلاقية، وإذن فلم يكن تأكيده خلو الطبيعة في مجموعها من أية غائية أخلاقية كالخير، حائلا دون إيمانه بالأخلاق - على المستوى الإنساني - وممارسته لها بكل إخلاص. ومثل هذا يمكن أن يصدق، بالتأكيد، على كل القيم الأخرى ومنها القيم الجمالية بطبيعة الحال. (5) اسپينوزا والعلم
من المحال أن يقارن المرء شهرة اسپينوزا في الميدان العلمي - بمعناه الدقيق - بشهرة ديكارت أو ليبنتس، أو حتى كانت؛ فلم يساهم اسپينوزا بنصيب ملموس في أي علم من علوم عصره، وكانت شهرته من بدايتها إلى نهايتها، ترجع إلى كونه فيلسوفا نظريا، لا عالما.
ومع ذلك فق كان لدى اسپينوزا «اهتمام» غير قليل بالعلم التجريبي في عصره: ونستطيع أن نقول: إن اشتغاله في صقل العدسات، وشهرته بوصفه صانعا ماهرا لعدسات المجاهر والمناظير المقربة، كان أمرا له دلالته الرمزية القوية؛ فقد كانت العدسات في عصره هي الأداة الكبرى لفتح آفاق علمية جديدة: آفاق العالم الأصغر في البيولوجيا، وهو العلم الذي بدأت فتوحه تتوالى في عصر اسپينوزا، وعلى يد علماء من نفس البلد الذي عاش فيه. كذلك أحرز علم الفلك تقدما انقلابيا هائلا كانت أداته الرئيسية هي المناظير الفلكية، وأخيرا؛ فقد تقدمت الأبحاث في ميدان علم الفيزياء تقدما ضخما في عصره، ولا سيما في فرع البصريات، وكان ذلك بدوره ميدانا ساهمت فيه العدسات الضوئية بنصيبها، فإذا لم يكن اسپينوزا قد ساهم مباشرة في تقدم علوم عصره، فإنه لم يكن متفرجا غير مكترث بأية حال، بل كان يتابعها بكل شغف واهتمام.
ويستطيع القارئ أن يجد في الرسائل الأولى التي يتبادلها اسپينوزا مع العالم الإنجليزي «أولدنبرج» مناقشات طويلة بينهما عن أبحاث العالم «روبرت بويل
Robert Boyle » وكتبه وتجاربه. وقد ناقش اسپينوزا هذه التجارب بالتفصيل، ورغم أنه لم يأت في مناقشته بجديد؛ فقد بدا اهتمامه بالعلم التجريبي فيها واضحا كل الوضوح. وكما قال «ماكيون»: «ليس ثمة شك في اهتمام اسپينوزا الواعي بالتقدم العلمي لعصره.»
59
ومع ذلك يذكر هذا المؤلف أن اهتمام اسپينوزا بالعلم قد حد منه تفسيره الخاص للطبيعة ودور التجريب المحدود في كشفها؛ إذ إن الفهم الحقيقي للطبيعة إنما يكون عن طريق العقل لا التجربة.
وفي رأينا أن اسپينوزا إذا لم يكن قد ساهم في علوم عصره، فذلك يرجع فقط إلى أنه اختار ميدانا آخر لنشاطه العقلي، ولا يرجع إلى كونه قد فضل العقل على التجربة؛ فهو بالفعل قد آثر التأمل العقلي، ولكن في الميدان الذي يجوز فيه هذا التأمل، ويفضل على التجريب، وهو ميدان التفلسف النظري. وليس في نصوص اسپينوزا كلها ما يدل على أنه كان يحط من شأن المنهج التجريبي في الميدان الخاص الذي يطبق فيه هذا المنهج. وقد آثر اسپينوزا لنفسه - بمحض اختياره - أن يكون فيلسوفا نظريا، لا عالما، ولكنه عبر بكل وضوح عن احترامه للعلم إذ حاول في فلسفته النظرية أن يستخلص المقدمات الضرورية العامة للروح العلمية، مثل نفي العلل الغائية، واستبعاد التفكير الأسطوري الخرافي التشبيهي بالإنسان، والإيمان بالحتمية وبالارتباط العلي للظواهر، ودافع عن هذه المبادئ - التي لا يقوم دونها علم صحيح - ضد جميع القوى اللاعقلية الجبارة التي كانت لا تزال لها السيطرة في عصره؛ وعلى هذا الأساس يمكن أن تعد فلسفته مقدمة للروح العلمية بوجه عام، ومدخلا إلى كل تفكير يريد أن يسمي نفسه علميا.
ومن جهة أخرى، فإذا كان اسپينوزا لم يساهم في علوم عصره بجديد؛ فقد ساهم في علم النفس وفي الأخلاق التجريبية حتى قيل عنه: «إن أصالة اسپينوزا ترجع إلى أنه كان أول من طبق مذهب قوانين الصيرورة على العقل مثلما تطبق على الجسم ... وفضلا عن ذلك فقد كان أول مفكر من المحدثين طبق قانون «القصور الذاتي» الذي وضعه جاليليو على علم النفس والأخلاق عندما أكد أن كل صورة من صور الحياة تسعى إلى الاستمرار في الوجود إلى أجل غير محدود. وفي رأينا أن فكرة أولوية النزوع إلى حفظ الذات كانت تمثل انفصالا تاما عن نظرية المدرسيين الذين قالوا إن جميع الأنواع الطبيعية موجهة إلى غايات محددة أو علل غائية وأن الطبيعة البشرية إنما جعلت من أجل غاية عالية ما ... وقد استبق اسپينوزا بنظريته في الانفعالات نظرية «چيمس لانجه» فضلا عن نظرية التحليل النفسي عند فرويد.»
Page inconnue