39
أما المعترضون على ذلك، فإنه يرد عليهم ردا علميا صرفا، فيقول: هل اكتملت دراستكم للجسم حتى تعترضوا؟
فإذا ما أردنا وصفا للصورة العامة لعلاقة المجال الجسمي بالمجال الذهني فلن نجد أفضل مما كتبه في رسالته رقم 32، حين قال: «... إن جميع أجسام الطبيعة ... محاطة بأجسام أخرى تتحكم في وجودها وحركتها على نحو دقيق محدد، على حين تظل كمية الحركة والسكون ثابتة في جميع الأجسام، أي في الكون بأسره. ونتيجة لذلك فإن كل جسم، بقدر ما يكون خاضعا لقوانين معينة، ينبغي أن يعد جزءا من الكون بأسره، وأن يتفق ويتلاءم مع هذا الكل، ويرتبط ببقية الأجزاء ...
وهكذا نرى على أي نحو، ولأي سبب، أعد جسم الإنسان جزءا من هذه الطبيعة. أما الذهن البشري فإني أعتقد أنه بدوره جزء من هذه الطبيعة؛ فأنا أرى أن في الطبيعة قوة فكرية لا متناهية. وهذه القوة تنطوي في ذاتها موضوعيا - بقدر ما هي لا متناهية - على الطبيعة بأسرها؛ ومن ثم فإن لأفكار هذه القوة نفس نطاق الطبيعة التي لا تكون هذه الأفكار، بالطبع، إلا التعبير الفكري عنها.
وإني لأرى كذلك أن الذهن البشري إنما هو هذه القوة ذاتها، لا من حيث هي لا متناهية تدرك الطبيعة بأسرها، وإنما من حيث هي متناهية لا تدرك إلا الجسم البشري؛ ولذا أرى أن الذهن البشري جزء من الذهن اللامتناهي.»
وهنا تعود مرة أخرى فكرة صفتي الفكر والامتداد اللتين تنتظمان كل شيء، وتمثلان وجهين لشيء أو جوهر واحد. وتظهر في هذا نتيجة جديدة لنظرية «الصفتين» هذه؛ فطالما أن الكون كله، وكل شيء فيه، هو فكر وامتداد معا، فمن المحال الكلام عن مادة جامدة، مثلما يستحيل الكلام عن روح بلا جسد. وهكذا يمكن، من وجهة نظر معينة، أن يقال إن ذهننا جزء من «ذهنية» كلية أو فكر شامل، هو الجزء الذي يرتبط بالجسم ويتقيد بحدوده. ويسري مثل هذا الوصف على كل شيء، بحيث يستحيل القول: إن الجماد جسم فحسب. وهكذا يظهر لدى اسپينوزا ما يمكن أن يعد مذهبا يقول «بشمول النفس
panpsychism » أو «بحيوية المادة
hylozoism ».
ولقد علل «فوير» هذا الوجه من أوجه تفكير اسپينوزا بأنه راجع إلى تأثره بكشف «العالم الأصغر» بواسطة المجهر، حين اتضح - في أبحاث كان لعلماء عصره فضل كبير فيها - أن الحياة كامنة في أدق المخلوقات التي كان يظن أنها عدمت الحياة.
40
Page inconnue