كانت فكرة «وحدة الوجود» التي فسرت بها فلسفة اسپينوزا تفتن أصحاب النزعات الشعرية والصوفية واللاهوتية على الدوام. فهنا يجمع الفيلسوف كل أطراف الكون في وحدة واحدة، لا تفرقة فيها بين الإله وبين الطبيعة إلا من حيث إن هذا هو الوجه «الطابع» للطبيعة وذاك هو وجهها «المطبوع» وكم من الشعراء تغنوا بهذا الفيلسوف «المنتشي بالله » الذي أشاعت فلسفته، في رأيهم، الطابع الإلهي في الوجود بأسره وفي كل تفاصيله!
بل إن مجرد القول بالواحدية، دون وجهها الإلهي، يلائم هذا النوع من التفكير إلى حد بعيد. فجمع الوجود كله في وحدة واحدة هو على الدوام من الخصائص المميزة لأصحاب النزعات الصوفية في التفكير، وهم الذين لا يحفلون بالجزئيات وتفصيلاتها، وينفد صبرهم من أي بحث متأن في مجال ضيق من مجالات الوجود. وهكذا أخذ هيجل يكيل الثناء لاسپينوزا على نزوعه إلى رفض ما هو جزئي وتركيز الاهتمام على الوجود في مجموعه فحسب، فقال: «ينبغي أن يبدأ الفكر باتخاذ وجهة نظر المذهب الاسپينوزي؛ فاتباع تعاليم اسپينوزا هو نقطة البداية الأساسية في كل فلسفة ... وعندما يبدأ المرء في التفلسف، ينبغي أن يكون أول ما تفعله الروح هو أن تغوص في أثير هذا الجوهر الواحد، الذي يتلاشى فيه كل ما كان الإنسان يعده صحيحا، فهذا الإنكار لكل ما هو جزئي، وهو الإنكار الذي لا بد أن كل فيلسوف قد وصل إليه، هو تحرر العقل وأساسه المطلق.»
23
وتستهوي فكرة «تأمل الطبيعة في مجموعها» هذه مفسرا آخر، فيصف بسببها موقف اسپينوزا من العالم بأنه «مزيج من الدين والعلم، تحقق عن طريق التوحيد بين الله والطبيعة، وعبر عنه هذا التوحيد ذاته؛ فهو قد تناول القوالب الكبرى اللاهوت؛ أي الله، والحب، والخلاص، وصب فيها مادة مستمدة من الدراسات العينية في الفيزياء وعلم النفس.»
24
ولكن هل هذه هي الدلالة الوحيدة، أو الدلالة الحقيقية، لواحدية اسپينوزا؟ لا جدال في أن لهذا المذهب دلالات أخرى أعمق وأكثر انطباقا على الروح الحقيقية لفلسفة اسپينوزا.
فمن الممكن، كما قال «فوير»، أن يفسر مذهب وحدة الوجود عند اسپينوزا على أنه كان ثورة على المذاهب الدينية الأرستقراطية - ولا سيما الكلڨينية - التي كانت تجعل الخلاص من نصيب فئة محظوظة اختارها الله سلفا. وهكذا عمل اسپينوزا، كما فعل غيره من أصحاب المذاهب التقدمية والثورية في عصره، على إشاعة الروح الإلهية في الوجود كله لكي يصبح للكل نصيب من الروح الإلهية،
25
أو على الأقل لمحو الفوارق في علاقة الموجودات الجزئية بالله.
ولكن التفسير الأرجح، في رأينا، هو أن هذه الوحدة، كما فهمها اسپينوزا، تؤدي إلى القضاء على فكرة انفصال الألوهية وعلوها، وتقضي بالتالي على ما يرتبط بالفكرة السابقة من تأكيد للغائية. فعن طريق مذهب اسپينوزا، الذي كان في الواقع مذهبا «واحديا
Page inconnue