إنني أعتقد، على العكس من ذلك، أن من الأغراض التي استخدم من أجلها هذا المنهج، التعقيد المتعمد على القارئ. وسأشرح فيما بعد ما أعنيه بذلك بالتفصيل، وأود هنا أن أورد شهادة فيلسوف معروف، انتهى إلى رأي مضاد تماما لرأي ولفسون في هذا الصدد، هو نيتشه؛ فهو يرى أن اسپينوزا قد استخدم هذا المنهج «ليبث الرعب على التو في قلب المهاجم الذي يجرؤ على إلقاء نظرة على تلك الفتاة المصونة، ربة الحكمة الأثينية ...»
16
أي إنه أراد أن يخيف القارئ بالتعقيد الشديد الذي تبتدئ به كتاباته؛ حتى لا يستطيع النفاذ إلى الأعماق الحقيقية لأفكاره وتوجيه النقد اللازم لها، فإذا كان نيتشه، وهو على الأقل قارئ ممتاز، قد حكم بأن اسپينوزا يرمي إلى تعجيز القارئ، ألا يكون للمرء أن يدهش لوصف ولفسون للمنهج الهندسي بأنه طريقة تهدف إلى الإيضاح وإلى نفع القارئ؟ (3) الغرض الحقيقي من المنهج الهندسي
لست أعتقد أن اسپينوزا قد استخدم المنهج الهندسي، كما قال أصحاب الفرض الأول، لأنه يرتبط ارتباطا ضروريا بمحتوى فلسفته كلها أو أجزاء منها، وإنما الأرجح في رأيي أن المنهج الهندسي كان طريقة مصطنعة في التعبير، أخذ بها اسپينوزا لأغراض معينة. فلما كانت الأفكار، كما قلنا، تظهر بطريقة غير هندسية، فإن في استطاعة الفيلسوف باستخدام هذا المنهج أن يرتب هذه الأفكار كما يشاء؛ فهو يضع الاستدلالات وفي ذهنه النتيجة مقدما. وهكذا يستطيع أن يتحكم في تسلسل هذه الاستدلالات وفي مراحلها الوسطى، ويعرضها بالترتيب الملائم للهدف الذي حدده في ذهنه.
أما ذلك الهدف فمن المحال، كما قلنا من قبل، أن يكون مساعدة القارئ على الفهم وإيضاح الأفكار له، بل إن التجربة الشخصية لكل قارئ كفيلة بإقناعه بأن الأمر على العكس من ذلك تماما. نحن إذن نوافق، بمعنى ما، على رأي نيتشه القائل إن ذلك المنهج كان يرمي إلى التعقيد على القارئ وإخفاء الآراء الحقيقية عليه - ولكنا لا نقبل تعميم الحكم السابق على هذا النحو، وإنما نعتقد أن من الواجب تخصيصه بحيث يكون هدف المنهج هو إخفاء الآراء الحقيقية على «فئة معينة» من القراء، فما هي هذه الفئة ، ولماذا أراد اسپينوزا أن يخفي عنها آراءه؟
في رأينا أن اسپينوزا تعمد أن يخفي آراءه عن تلك الفئة التي قد تكون خطرا على فلسفته؛ أعني القراء غير المستنيرين، المتمسكين بحرفية التقاليد الدينية، فاسپينوزا أراد أن يضع ستارا بين تعاليمه وبين ذهن القارئ المتعصب ذي النفوذ، الذي قد يستطيع الإضرار به في الأوساط الدينية أو السياسية. أما القارئ اليقظ المستنير، الذي يستطيع أن ينفذ إلى مقاصده الحقيقية، ويكون لديه من الجلد ودقة التفكير ما يمكنه من تتبع الخيوط المتشابكة المتداخلة لحججه؛ فهو القارئ الذي يرحب به اسپينوزا، والذي حاول، بطريقته الخاصة المعقدة، أن يكشف له عن سره الحقيقي.
وهناك وسيلتان يمكن بهما إخفاء الآراء في المنهج الهندسي: (أ)
الوسيلة الأولى هي مجرد استخدام طريقة القضايا والبراهين والنتائج ... إلخ. فبهذه الوسيلة يستطيع الفيلسوف أن ينتقل بالقارئ تدريجيا، وربما دون أن يدرك القارئ ذلك بوضوح، إلى إثبات أعقد قضاياه دون أن يتعرض لخطر التصريح بهذه الآراء بطريقة مباشرة؛ فهو مثلا يستطيع أن يوزع فكرته بين قضايا متناثرة، ثم يحيل القارئ إلى هذه القضايا التي تفصل بينها صفحات عديدة، وعن طريق التأليف بين كل هذا يصل القارئ - إذا استطاع - إلى الفكرة التي يريدها اسپينوزا، دون أن يضطر هو إلى عرض هذه الفكرة بطريق مباشر قد يكون فيه خطر عليه. (ب)
الوسيلة الثانية، والأهم في نظرنا، هي «طريقة المعادلات» التي يتيحها المنهج الهندسي، أو الرياضي بوجه عام. فعالم الرياضة مثلا يستخدم رمزا مألوفا لديه، مثل «س»، ليدل به على أعقد الأفكار الرياضية. وقد يستخدم هذا الرمز ليدل على عدد هائل فيقول: س = 17
10 ، أو على عدد سلبي فيقول: س = −1 أو على عدد أصم فيقول: س = ، وهو في كل هذه الحالات يستخدم الرمز س - بعد أن يكون قد أوضح معناه - بكل سهولة ويسر، مع أننا لو حاولنا أن نضع القيمة الحقيقية لهذا الرمز في كل حالة لغدا هذا في نظرنا أمرا عظيم التعقيد أو مستحيلا في بعض الأحيان.
Page inconnue