وهذا رأي سليم تماما، وكل ما في الأمر أن هذه «الرغبة اللاشعورية» التي تحدث عنها في الفقرة الأخيرة كانت في رأينا رغبة «متعمدة» في استخدام نفس الاصطلاحات اللاهوتية التقليدية للتعبير عن أكثر المعاني ابتعادا عنها، بحيث يكون قد حارب اللاهوت التقليدي بنفس سلاحه، بينما تبدو كتاباته في شكلها الظاهر متمشية مع التيار اللاهوتي العام. •••
ولقد حاول كثير من الشراح اليهود أن يقربوا بين كتاب اسپينوزا الرئيسي «الأخلاق»، وبين التراث اليهودي، واتخذت محاولاتهم هذه صورا شتى، سنعرض الآن طرفا منها:
فاستهداف اسپينوزا، في كتابه الرئيسي، غاية أخلاقية (على عكس الغاية العلمية التي استهدفها ديكارت)، يعد في نظر «روث
Roth » مظهرا من مظاهر تأثير اليهودية في تفكيره: «إن اهتمام اسپينوزا بالأخلاق موروث؛ فهو سليل شعب لم يعبأ، منذ أقدم الأزمنة، بالنظريات المجردة إلا قليلا، بينما اهتم كل الاهتمام بالسلوك العملي، وهو نتاج أدب يسوده مثال التقوى، وتاريخ يمثل صيحة واحدة طويلة في طلب العدالة؛ فهو قد ظل رغم ذاته، ورغم طائفة أمستردام، ابنا لأهل الكتاب «في أعماق نفسه».»
50
ويزيد رأيه وضوحا بعد قليل، فيقول: «إن المشكلة التي بدأ بها اسپينوزا، وهي مشكلة السلوك، ما هي إلا البحث الإنجيلي القديم عن «طريق للحياة». والعقيدة العقلية التي وجد فيها حلا لهذه المشكلة، والتي ينبغ فيها الانفعال، الذي هو الدين، من المعرفة، التي هي العلم، هي من خلق الفلسفة اليهودية في العصور الوسطى. وهكذا دخل اسپينوزا الفكر الحديث مهيأ على هذا النحو.»
51
مثل هذه الأحكام الخاطفة، الفجة، هي في رأينا مثال واضح للتشويه الذي يمكن أن يفسد به التعصب التفكير؛ فهذا الكاتب يريد أن يقرب بين اسپينوزا وبين المؤثرات اليهودية «رغم ذاته، ورغم طائفة أمستردام»؛ أي رغم الطرد (الذي كان يتعمد أن يتجنب الإشارة إليه). فما هي إذن شواهده على ذلك التقارب؟ أهي الاهتمام بالأخلاق؟ إن هذا الاهتمام حظ مشترك بين عدد كبير من الفلاسفة، ومنهم مثلا أفلاطون، وكانت، والرواقيون. ومع ذلك لم يكن واحد من هؤلاء من «أهل الكتاب!» ومع كل، فمن قال إن اسپينوزا لم يكن يعبأ بالنظريات المجردة؟! وماذا نقول في المواقف العلمية العامة التي يزخر بها كتاب «الأخلاق»؟ إن «روث» يفترض أولا وجود سمة واحدة تميز اليهود من أقدم العصور، وتطبع نفسها حتما على تفكير كل فيلسوف ينتمي إلى جنسهم، حتى لو كان ذلك «رغما عنه» - وهذا وحده افتراض «عنصري» لا يقوم على أساس علمي متين. ثم هو يجزم بأن هذه السمة هي الاهتمام «بالأخلاق»، وهو تأكيد يقبل كثيرا من المناقشة؛ إذ ليس هذا الاهتمام مميزا لمفكري اليهود على الدوام، كما أن وجوده لدى مفكر لا يعني تأثره بمؤثرات يهودية. وأخيرا فإن نظرة واحدة إلى «طريق الحياة» كما رسمه اسپينوزا تقنعنا بأنه كان هو نقيض طريق الحياة كما أوضح معالمه التراث اليهودي.
ومثل هذه الاعتراضات تسري على رأي «كايزر
Kayser » الذي بنى على حجة مماثلة، قال فيها: «[إن كتاب «الأخلاق»] يعيد إحياء نمط من الفلسفة الدينية لا يؤلف معرفة، وإنما يؤلف حكمة، فالطابع الأخلاقي والديني الأساسي لكتاب «الأخلاق» كان يعني عودة ظهور القوى الروحية القديمة لليهودية.»
Page inconnue