هذا التعليل المباشر، إذا كان صحيحا، فإنه لا يعفي الطائفة اليهودية من تهمة التعصب وضيق الأفق الشديدين، ومن الواضح من المقال الذي لخصنا نقاطه الرئيسية أن هذه الطائفة كانت تفوق الدولة الحاكمة ذاتها كثيرا في التعصب وخنق حرية الفكر، وأنها إذا كانت قد اضطهدت اسپينوزا - وأذلت من قبله «أورييل داكوستا» حتى دفعته إلى الانتحار - فقد كان ذلك راجعا إلى مزيج من ضيق الأفق الذي جعلها ترفض أي رأي مخالف، ومن الخوف أو الجبن المفرط الذي جعلها تتوهم أن السلطات الحاكمة ستحملها جريرة ما يعلنه بعض أفرادها من الآراء المتحررة، فكانت تسارع إلى التبرؤ منهم خوفا من أن تحل عليها النقمة، مع أن السلطات الحاكمة ذاتها كانت أوسع منها أفقا إلى حد بعيد.
وليس من الظواهر الغريبة أن تعمل سلطة دينية ما على طرد مفكر ذي آراء مخالفة لها من صفوفها. وتغدو هذه الظاهرة أقل غرابة إذا كانت هذه السلطة هي المجامع الدينية اليهودية؛ فهنا تتكرر نفس الظاهرة المألوفة طوال التاريخ اليهودي، وهي مقابلة العداوة الخارجية بالمزيد من التعصب، بدلا من مقابلتها بالمزيد من التفاهم والسعي إلى القضاء على أسباب العداوة ذاتها. ويصل الأمر إلى حد ممارسة هذا التعصب على أفراد الطائفة ذاتهم لو بدر منهم أي ميل إلى الخروج عن تعاليمهم التي لا يقبلها العقل السليم، وبذلك يمارسون نفس الاضطهاد الذي لا يكفون عن الشكوى منه. وكما قال «فوير»: «فإن المأساة الحقيقية هي أن اليهود المضطهدين قد تشبعوا بعناصر من التعصب الذي يتمثل في مضطهديهم، وإن المرء ليمتلكه الأمل دائما في أن يسلك المظلومون مسلك الأبطال، ولكنه يصدم إذ يلمس مدى التشابه بينهم وبين من يضطهدونهم، ويدرك حقا أن الناس جميعا على شاكلة واحدة.»
18
ولكن الظاهرة الغريبة حقا هي أن يعمد اليهود في العصور التالية إلى إعادة «تبني» هذا المفكر الذي طردوه من بين صفوفهم، والذي اختلف معهم في الأسس الأولى لعقيدتهم وطريقتهم في الفكر والحياة، وتبرأ منهم مثلما تبرءوا منه، وغير اسمه اليهودي عمدا؛ فقد كان الأجدر بهم، في رأيي، أن يظلوا على عدائهم له إلى النهاية، ويأخذوا على عاتقهم مسئولية الصراع الفكري معه مثلما فعلوا ذلك أثناء حياته، طالما أن نفس عقيدتهم، ونفس طريقتهم في الفكر والحياة، ما زالت على ما هي عليه إلى حد بعيد، ولكن الذي حدث أن اسپينوزا أصبح، في عصر متأخر، وبعد أن «أعيد اكتشافه» في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وفي القرن التاسع عشر بوجه خاص، شخصية ضخمة في عالم الفكر - أصبح فيلسوفا رفيع المكانة، بحيث يكون من المخجل أن يقال إن الطائفة التي كان ينتمي أصلا إليها قد طردته واضطهدته، وتبرأت منه، وأنه قابل ذلك بموقف مماثل تجاهها، وبحيث يكون مما يشرف أية طائفة أن ينسب إليها. وهكذا بدأت فجأة، بعد قرنين من وفاته، لم يحفل به خلالهما اليهود على الإطلاق؛ لأن مكانته في عالم الفلسفة لم تكن قد توطدت بعد؛ بدأت محاولة من أغرب المحاولات في تاريخ الفكر، اشتركت فيها مجموعة كبيرة من الشراح اليهود، «لإعادة ضم» اسپينوزا، طريد اليهودية، إلى صفوفها، وتحوير فلسفته على أعجب نحو بحيث تغدو في النهاية متأثرة باليهودية ومنتمية إلى تراثها!
وكان لا بد لتحقيق هذا العرض من التخلص، على نحو ما، من تأثير واقعة طرد اسپينوزا من الطائفة اليهودية. وهكذا عمل اليهود على الإقلال من أهمية هذا الطرد؛ فقال «جبهارت
Gebhardt » إن «الحرم» اليهودي يفترق عن الطرد
excummunication
الكاثوليكي في أن الخير شامل يسري على كل زمان ومكان ما لم يرفع. أما الأول فهو «محلي» ينطبق على المجتمع الخاص الذي يعيش فيه اليهودي، بحيث إنه إذا انتقل إلى مجتمع آخر فيه طائفة يهودية أخرى، تعين إصدار «حرم» جديد عليه، وأكد أن اسپينوزا خلال السنوات السبع التي عاشها في لاهاي لم يكن محرما عليه الاختلاط بطائفتها اليهودية، وأن مرور 250 عاما (وقت كتابته هذا الكلام) على وفاة اسپينوزا يجعل ذلك الطرد غير ذي موضوع،
19
وكان ذلك ردا منه على خبر طريف أشار إليه في مستهل مقاله هذا، نشرته صحيفة برلينية، عند الاحتفال بمرور قرنين ونصف على وفاة اسپينوزا (أي سنة 1927م)، وقالت فيه إن طرد اسپينوزا ما زال قائما، وأن أحبار الطائفة اليهودية في أمستردام لم يرفعوا بعد حكمهم بطرده ولعنتهم عليه، وبذلك يعد اسپينوزا حتى ذلك الحي طريدا في نظر الطائفة اليهودية التي حرصت كل الحرص على أن تحتفل بعد هذه الفترة الطويلة بذكراه. وقد تلقفت هذا الخبر الصحافة الأوربية على أنه «فضيحة عالمية» وسخرت كثيرا من حرص اليهود على الاحتفال بذكرى طريدهم.
Page inconnue