فأولدنبرج ذاته، الذي وجه إليه اسپينوزا هذه الرسالة، والذي كان عالما واسع الأفق ، قد بدأ في المرحلة الأخيرة من مراسلاته مع اسپينوزا ينتقد ذلك الكتاب بطريقة ضمنية؛ فعندما طلب إليه اسپينوزا أن يحدد الأفكار التي يجوز أن تجرح المشاعر الدينية في ذلك الكتاب، ذكر، في الرسالة رقم 71، الأمور الآتية: الخلط بين الله وبين الطبيعة، وإنكار المعجزات التي يعتقد المسيحيون جميعهم تقريبا أنها هي وحدها التي تضمن بقاء الإيمان، وغموض موقفه من المسيح وتجسده وتضحيته. وفي الرسالة رقم 73 حدد النقاط التي يعتقد أنها تؤدي، في نظر القراء، إلى هدم الفضيلة الخلقية، بأنها هي فكرة الضرورة الصارمة التي لا يخرج عنها شيء، بحيث لا يعود هناك جدوى للثواب والعقاب؛ إذ إن ما هو ضروري - حتى لو كان شرا - له دائما مبرراته، وليس في الحتمية المفرطة مكان للخطيئة أو للجزاء.
ومثل هذا الانتقاد بالضبط يتكرر في رسالة أخرى وجهها «لامبرت دي ڨلتهوبزن
Lambert de Velthuysen » إلى «ياكوب أوستن
Jacob Osten » وتتضمن آراء الأول في الكتاب؛ فهو يردد أيضا نفس الفكرة القائلة بخطورة فكرة الضرورة الشاملة على الدين من حيث ما تؤدي إليه من استحالة الثواب والعقاب، ونفي الخلق والمعجزات، وإنكار لقيمة الصلاة، ويضيف: «ولقد كان في ذلك كله مخلصا لمبادئه؛ فأي مجال يمكن أن يظل باقيا لحكم الآخرة أو احتمال الثواب أو العقاب، إذا ما أخضع كل شيء للقدر، وإذا قيل إن كل شيء يصدر عن الله بضرورة مطلقة، أو أن الله ليس سوى الكون بأكمله؟» ويضيف صاحب الرسالة أن فكرة اسپينوزا عن الله تجعل الله غير مكترث بما يعتنقه الناس من آراء دينية، وأن لكل شخص أن يعتنق من العقائد أو العبادات ما يرى أنه أقدر من غيره على تقريبه إلى ممارسة الفضيلة. وينتهي من ذلك كله - في حكم يمكن أن يعد ممثلا لحكم معاصري اسپينوزا على الكتاب - إلى أن هذا البحث «يهدم في رأيي كل عقيدة وكل دين ويقلب جميع الأسس؛ فهو يدعو - خلسة - إلى الإلحاد، أو يقول بإله لا يستطيع الناس أن يشعروا نحوه باحترام الألوهية: إله يخضع، هو ذاته، للقدر، فلا يظل هناك مكان للعناية أو للمشيئة الإلهية، ولا يعود ثمة ثواب ولا عقاب ... [فالمؤلف] لا يعلم إلا الإلحاد البحت، وذلك بحجج خفية مستترة.»
هذا هو أنموذج النقد القديم لكتاب «البحث اللاهوتي السياسي»، ولكم تغيرت النظرة إلى هذا الكتاب منذ ذلك اليوم حتى عصرنا الحالي! لقد اكتشفت فيه، منذ التاسع عشر، مزايا لم يكن من الممكن التنبه إليها في عصر اسپينوزا على الإطلاق؛ إذ إن من المستحيل كشفها إلا في عصر بلغت فيه النظرة التاريخية إلى الظواهر الاجتماعية - وضمنها الظواهر الدينية - قمتها. وهكذا انقلب ذلك الذم المفرط إلى مديح لا حد له، وتنافس الكتاب المعاصرون في التحدث عن اسپينوزا بوصفه «رائدا» للبحث التاريخي للعقائد، وعصاميا فريدا في هذا الميدان. وهكذا قال «ڨيل
Weill »: «إن فضل هذا الكتاب، في نظر أعمق النقاد المعاصرين، يرجع إلى أنه وضع نظاما حقيقيا لعلم التفسير، وحدد الهدف الحقيقي الواجب بلوغه، وأعني به، قبل كل شيء، فهم النصوص بذاتها دون أية فكرة سابقة، وعلى نحو موضوعي وتاريخي تماما، ووصل إلى بعض النتائج التي لم تكشفها، منذ ذلك الحين، إلا جهود البحاثة المتعمقين الذين أعلنوها على الملأ.»
1
ويقول برنشڨك: «إن المعقولية الوضعية في «البحث اللاهوتي السياسي»، قد استبقت أفضل نتائج النقد المعاصر.»
2
كما يقول في موضع آخر: «مثلما وضع ديكارت أسس التحليل الخالص والفيزياء الرياضية، فكذلك يعد اسپينوزا واضع المنهج السيكولوجي والاجتماعي الذي هو أساس علم التفسير الحديث.»
Page inconnue