مقدمة
1 - حياة اسپينوزا ومؤلفاته
2 - دلالة المنهج الهندسي
3 - الاتجاه العلمي عند اسپينوزا
4 - الله أو الطبيعة
5 - اسپينوزا والعقائد الشائعة
6 - نظرية الأخلاق
7 - الفلسفة السياسية
8 - اسپينوزا واليهودية
خاتمة
أسماء المراجع المذكورة في البحث
مقدمة
1 - حياة اسپينوزا ومؤلفاته
2 - دلالة المنهج الهندسي
3 - الاتجاه العلمي عند اسپينوزا
4 - الله أو الطبيعة
5 - اسپينوزا والعقائد الشائعة
6 - نظرية الأخلاق
7 - الفلسفة السياسية
8 - اسپينوزا واليهودية
خاتمة
أسماء المراجع المذكورة في البحث
اسپينوزا
اسپينوزا
تأليف
فؤاد زكريا
مقدمة
في هذا الكتاب سوف يظهر اسپينوزا في صورة مختلفة كل الاختلاف عن تلك الصورة أو الصور التي تتبادر إلى الأذهان كلما عرض لها اسم هذا الفيلسوف. ولست أدعي أن هذه الصورة هي وحدها الصحيحة، وأن كل ما عداها باطل، ولكني أستطيع أن أقول مطمئنا من جهة، إنها رسمت بعد دراسة دقيقة للصور الأخرى المخالفة لها، وعن إدراك كامل للنظرة التقليدية إلى هذا المفكر العملاق. وأستطيع أن أقول مطمئنا من جهة أخرى، إن هذه الصورة الجديدة التي سنرسمها أكثر اتساقا من كل ما عداها، وإنها أقدر من غيرها على الجمع والتوفيق بين مواقف كثيرة لهذا الفيلسوف يظن في معظم الأحيان أنها منطوية على تناقض لا يرفع.
وأبدأ فأقول: إن تفكير اسپينوزا من ذلك النوع الذي يغري بأشد التفسيرات تضادا؛ فكتاباته، ولا سيما كتابه الأكبر «الأخلاق»، تغري كل عصر بأن يفسرها تبعا لمقتضياته الخاصة، وكل كاتب بأن يجد فيها انعكاسا لاتجاهاته الفكرية المفضلة. وهذه في الحق ظاهرة من أعجب الظواهر في تاريخ الفلسفة؛ فها هو ذا فيلسوف استخدم «المنهج الهندسي» في كتابه الرئيسي، وأراد من هذا الكتاب أن يكون نظيرا لمؤلف إقليدس الهندسي في عالم الفلسفة، وأكد أنه إنما أراد أن يعالج الانفعالات والمشاعر البشرية مثلما يعالج عالم الهندسة النقط والخطوط والمسطحات، وأن ينظر إليها نظرة علمية موضوعية تجردت من كل عناصر التفسير الشخصي أو الذاتي. مثل هذا الهدف كان كفيلا بأن يوحد آراء الشراح أو أن يقرب على الأقل بينها ويوجهها كلها وجهة متسقة، ولكن الأمر العجيب حقا هو أن ذلك الفيلسوف الذي أخفى شخصيته في كتاباته لأن العنصر في رأيه ينبغي أن يختفي ويتوارى، وأعلن ضرورة استبعاد العنصر الذاتي من التفكير الفلسفي، قد تأثر بذاتية المفسرين أكثر من أي مفكر آخر. وصحيح أن كل الفلاسفة الكبار يتعرضون حقا لتفسيرات متباينة، ولكن توجد في كل حالة، رغم ذلك، أسس مشتركة أو مبادئ عامة يتفق عليها الجميع، أو تقترب وجهات نظرهم بشأنها. أما في حالة اسپينوزا فالأسس الأولى لفلسفته، بل لشخصيته الفكرية ذاتها ولموقفه الحضاري نفسه، مختلف عليها إلى حد لا يترك مجالا لأي تقريب أو توفيق بين الآراء المتعارضة حوله.
فالصورة التقليدية لشخصية اسپينوزا هي صورة الفيلسوف المعتكف عن الناس، المنعزل عن العالم، الغارق في التأمل بين جدران بيته، بعيدا عن صخب العالم الخارجي وضجيجه. هذه الصورة التي ورثت عن مؤرخي حياته الأولين، ظلت هي التي يرسمها له أصحاب الاتجاهات التقليدية المحافظة. وقد اتخذت هذه الاتجاهات شتى الصور، ووصل بعضها إلى تشبيه فلسفته بالمذهب الهندوسي، والتقريب بين صفات الله عنده وبين «براهما» وبين رأيه في النفس والآراء الهندوسية في الروح المسماة «أتمن
atmn » وبين كتاب الأخلاق وكتاب الأوبانشاد!
1
ومع ذلك فإن البحث الحديث في حياة اسپينوزا قد غير هذه الصورة التقليدية تغييرا تاما؛ إذ أكد كثير من الكتاب أن اسپينوزا كان أبعد الناس عن أن يكون صوفيا غارقا في التأملات، أو مفكرا منعزلا منطويا على نفسه، وإنما كان، كما أكد «بول سيڨك»: «... بعيدا كل البعد عن أن يكون ناسكا هنديا غارقا في التفكير في الأزلية إلى حد نسيان الحاضر. فقد كان، على عكس ذلك، رجل عمل، حريصا على أن يضمن الظفر لأفكاره التي عدها خليقة بتغيير وجه الأرض ...»
2
ومن ذلك الحين برزت صورة اسپينوزا بوصفه فيلسوفا شارك مشاركة إيجابية في مشاكل عصره وسعى عمليا إلى حلها. ومع ذلك فهذه الصورة ذاتها تتباين كل التباين.
فأصحاب الاتجاهات التقدمية تختلف كلمتهم حوله؛ فمنهم، مثل «فوير
Feuer »، من يؤكد أنه كان، في مرحلة واحدة من حياته على الأقل، مفكرا ثائرا يختلط بالجمعيات السرية الثورية التي كانت موضوعا للشك في عصره، كجمعيات «المينونيين
Mennonites » و «الكويكر» والمجمعيين
Collegiants ،
3
وأنه، مع نزوعه إلى التصوف، كان مفكرا «يساريا» بالمعنى الحديث، يؤمن باشتراكية التملك وبضرورة التخلي عن أخلاق المال وقيم التجار. ومنهم من يصوره مفكرا متحالفا مع البورجوازية، يفلسف قيم الطبقة الرأسمالية الآخذة في الظهور في عصره ويقبل هذه القيم بكل ما فيها من خير وشر، ويدافع عن طريقتها الجديدة في الحكم بكل قوته.
4
أما المفكرون اليهود، ولا سيما ذوو الاتجاهات الصهيونية المتعصبة منهم؛ فقد استغلوا كون اسپينوزا قد ولد لأبوين يهوديين، فحاولوا أن ينسبوا إليه - كما سنرى فيما بعد - شتى الأفكار المناصرة لدعواتهم، متجاهلين تماما واقعة خروجه على الطائفة اليهودية وطرده منها وإعلانه العداء الصريح لها.
وفي العهد النازي نجد من المفكرين الألمان من جعلوا منه عدوا خطيرا للأمة الألمانية - أو للجنس الجرماني على الأخص.
5
وأحدث ما في هذه التفسيرات، بطبيعة الحال، هو ذلك الذي يستغل اسپينوزا في الحرب الباردة، وبالفعل نجد من الكتاب من يؤكد أن اسپينوزا يفيد أمريكا في محاربتها للشيوعية، وأن تعاليمه يمكن أن تقتبس أثناء وضع الخطط اللازمة للدفاع ضد العدوان السوڨييتي في مجال الفكر، ويجد في بعض نصوصه ما يعتقد أنه يؤيد الرأي القائل بوجوب حل المنازعات بين الدول بالالتجاء إلى الأمم المتحدة!
6
كل هذا، وغيره كثير، يقال على الفيلسوف الذي كان أكثر من غيره حرصا على الكتابة بأسلوب غير شخصي، وعلى تجنب الإهابة بالعوامل الذاتية في كتاباته.
أما المنهج الهندسي؛ فقد كان خليقا بأن يستهوي العلماء أو ذوي الأذهان العلمية قبل غيرهم. وقد كان هذا بالفعل شأن ذلك المنهج. ومع ذلك تعود المفارقات السابقة إلى الظهور مرة أخرى في هذا السياق؛ فمن العجيب حقا أن هذا المنهج، الذي روعيت فيه الكتابة بلغة جافة، وعلى صورة نظريات وبراهين هندسية، والذي أكدت فيه الحتمية والضرورة العلمية بكل قوة، وانطوى على حملة شديدة على كل تشبيه بالإنسان، وإنكار لوجود أي مغزى أو دلالة لقيم البشر في الكون ذاته؛ هذا المنهج ذاته قد استهوى الشعراء إلى أبعد حد. وكان كتاب «الأخلاق»، الذي طبق فيه هذا المنهج من أقوى الكتب إلهاما لروح الشعر، وكم تغنى به شعراء مثل جيته ونوفالس! وهذا أمر غريب حقا، إذا أدركنا أن من مقومات الشعر الأساسية وجود نوع من تشبيه الطبيعة بالإنسان، أو صبغ الكون بصبغة القيم البشرية، ومن الإيمان بالانفعالات والعواطف (التي كانت عبودية في نظر اسپينوزا)، وبنوع من الحرية (التي أنكرتها حتمية اسپينوزا).
وهكذا يؤدي كتاب «الأخلاق» إلى نتائج تتعارض تماما مع صورته الظاهرة، ومنهجه الشكلي، ومع المقاصد والغايات التي أعلن مؤلفه نفسه أنه كان يستهدفها.
ولكن السؤال الأكبر في هذا الصدد هو: هل كان اسپينوزا يستهدف هذه المقاصد والغايات التي أعلنها بحق؟ إن التفسير الذي يتبادر إلى الأذهان هو أنه كان مفكرا سيء الحظ، لقيت كتاباته من الآخرين استجابة مناقضة لما كان يرمي إليه، ولكن هناك تفسيرا، أو على الأصح احتمالا، أعمق من ذلك، هو: ألا يجوز أن اسپينوزا كان بارعا إلى حد أنه كتب بأسلوب وبصورة يحقق بها نتائج لا تخطر على الإطلاق ببال القارئ لأول وهلة، بحيث تتخذ كتاباته مظهرا بعيدا كل البعد عن المعاني العميقة التي يمكن أن تستخلص منها؟ ألا يجوز أنه كان يريد فعلا أن تفسر كتاباته على نحو مخالف لما توحي به لأول وهلة؟
هذا هو الاحتمال الخطير، الذي سنبحثه في هذا الكتاب بالتفصيل، ونقدم من الأدلة ما يثبت أنه، إن لم يكن هو الاحتمال الصحيح، فإنه على الأقل هو الأرجح. •••
مثل هذه الغاية التي نستهدفها في هذا البحث، وأعني بها محاولة كشف المعاني الخفية في كتابات اسپينوزا، تقتضي منهجا في البحث لا يتقيد بالشكل الظاهر للألفاظ والتعبيرات، بل لا يتقيد بالأفكار والآراء التي تعمد اسپينوزا أن تفهم لأول وهلة من كتاباته.
وهنا ينبغي أن نضع تقابلا أساسيا بين طريقتنا في بحث اسپينوزا، وبين طريقة نعدها أنموذجا لما نرمي نحن في هذا البحث إلى تجنبه؛ وأعني بها طريقة الأستاذ «ولفسون
Wolfson » في كتابه «فلسفة اسپينوزا». هذا الكتاب الضخم، الحافل بالشواهد على غزارة علم صحابه وسعة اطلاعه وجلده وصبره في البحث، إلى حد لا يملك المرء معه إلا أن يشعر بالتواضع الشديد؛ يمثل جزء كبير منه، في رأينا، مجهودا فكريا ضائعا أو طاقة ضخمة جبارة تنفق في سبيل هدف عقيم.
ففي هذا الكتاب يأتي المؤلف بقائمة طويلة من المفكرين يفترض أن اسپينوزا قد تأثر بهم - بعضهم كان تأثيره فيه مباشرا، والبعض الآخر تأثر به اسپينوزا في فقرات أو قضايا منفردة من كتاب الأخلاق. وهكذا نجد فصول كتاب «ولفسون» حافلة بالمقارنات البارعة بين اسپينوزا وبين الفلاسفة الوسيطيين والمحدثين، ويثبت المؤلف علمه الغزير حين يكشف عن التوازي الدقيق بين قضايا كتاب الأخلاق، كل على حدة، وبين كتابات هؤلاء الفلاسفة.
ولكن، ما قيمة كل هذا الجهد المضني آخر الأمر؟ إن كل ما أثبته «ولفسون» هو أن اسپينوزا قد تأثر في «شكل» كتاباته باتجاهات فكرية سابقة. وهذا صحيح، بل إننا لنذهب إلى أن اسپينوزا قد «تعمد» هذا التأثر؛ أي إنه تعمد أن تبدو تعبيراته في شكلها الظاهر مماثلة لتعبيرات الفلاسفة التقليديين، ولكنه كان ينتهي من هذه التعبيرات المتشابهة إلى نتائج مضادة تماما لأفكار هؤلاء الفلاسفة؛ ذلك لأنه أراد أن يحارب الاتجاهات السابقة بنفس سلاحها، وأن يستخدم نفس حججها أو اصطلاحاتها، لكي يثبت أن التحليل السليم لهذه الحجج أو الاصطلاحات يؤدي إلى نتائج تخالف تماما نتائجهم؛ فالتأثر في هذه الحالة «لحظة مؤقتة» في المنهج، وخطة مرسومة متعمدة، وهو يتخذ دلالة تختلف تماما عن دلالة التأثر المألوف لدى الفلاسفة بالاتجاهات الفكرية السابقة عليهم، بل إن مجرد اعتقاد الشراح بأن هذا التشابه في الشكل، وفي المصطلح، هو «تأثر» بالمعنى المألوف، هو في الحق اعتقاد ساذج يدل على أن المغزى الحقيقي لخطة اسپينوزا ومنهجه في التفلسف قد فاتهم.
وإذن، فالجهد الهائل الذي بذله أستاذ مثل «ولفسون» هو في رأينا جهد معظمه عقيم؛ إذ يركز كله على التشابه الشكلي السطحي بين اسپينوزا وبين غيره من السابقين عليه، مع أن هذا التشابه لا قيمة له إذا كان المضمون ذاته، والنتيجة النهائية للتفلسف، والأهداف التي يرمي الفكر إلى تحقيقها، مختلفة عن هذه الاتجاهات السابقة اختلاف السماء عن الأرض! ومن العجيب أن ولفسون ذاته يدرك هذا الاختلاف في المحتوى، كما تشهد كتابات أخرى له عديدة عن اسپينوزا، غير أن إدراكه هذا لم يثنه عن بذل هذا الجهد المضني لغرض هو في ذاته عقيم أو ثانوي الأهمية على أحسن الفروض.
ولنضرب مثلا واحدا للجهد الضائع في هذا الكتاب؛ ففي أثناء عرض اسپينوزا لإحدى نظرياته، يقول: «إنني لم أعتد الجدل حول الأسماء أو الألفاظ»؛ وهنا يتناول ولفسون هذه العبارة وحدها، وبصورتها المفردة هذه، ويرهق نفسه في البحث عن عبارات موازية لدى الفلاسفة العرب واليهود في العصور الوسطى، ويكشف بالفعل في ذلك عن علم غزير واطلاع واسع،
7
ولكن هذه كلها لا تعدو أن تكون محاولة «استعراضية» عقيمة من وجهة نظر التفكير العميق والوزن السليم للأمور؛ إذ إن العبارة السابقة عبارة مألوفة يمكن أن يدلي بها أي شخص دون أن يكون قد تأثر بغيره. ومن الصعب أن نتصور أن مفكرا كبيرا مثل اسپينوزا قد وصل به الهزال الذهني إلى حد أنه لا يستطيع أن يقول بعبارة كهذه إلا إذا كان قد تأثر فيها، عن وعي أو بلا وعي، بآخرين سبق أن قرأها لديهم.
والحق أن الفيلسوف الناضج لا يأخذ أفكارا منفردة أو عبارات متفرقة من هنا ومن هناك ليكون منها بناءه الفلسفي، وإنما قد يتأثر باتجاهات فكرية «كاملة» فحسب. ومن المحال أن يكون اسپينوزا قد التقط هذه القضية من «فلان». وهذه الفكرة من «فلان»، في الوقت الذي كان فيه اتجاهه الفكري العام مضادا لتفكيرهما بل هادما للأسس التي قام عليها.
وجميع الفلاسفة الذين حاول ولفسون أن يقرب بين اسپينوزا وبينهم قد يكونون مشابهين له في تعبيرات لفظية معينة، ولكن اتجاههم العام كان مخالفا تماما لاتجاهه. وهذا يصح على ديكارت، الذي قال عنه باحث ديكارتي مشهور إن تأثيره في فلسفة اسپينوزا كان ضئيلا، وإن المعالم الرئيسية لفلسفة اسپينوزا كان يمكن أن تظهر لو لم يكن قد قرأ كتاباته على الإطلاق،
8
ويصح على فلاسفة العصور الوسطى الذين سنثبت فيما بعد استحالة تأثر اسپينوزا بهم من ناحية تفكيره الحقيقي (لا من ناحية شكل كتاباته)، ويصح أخيرا على القدماء الذين كان تقويم اسپينوزا لهم خارجا تماما عن المألوف، ولا يوجد له نظير إلا لدى الفلاسفة الماديين المحدثين من ذوي النزعات اليسارية الصريحة، يقول في الرسالة رقم 56: «إن سلطة أفلاطون وأرسطو وسقراط ... إلخ، ليست لها في نظري قيمة كبيرة ...» بينما يرفع في نفس الموضع مكانة أبيقور وديمقريطس ولوكريتيوس.
وإذن فالفائدة الوحيدة التي يمكن أن تجنى من مثل هذه المقارنات المرهقة التي قام بها ولفسون، هي إثبات أن اسپينوزا قد استخدم التشابه الشكلي بينه وبين السابقين عليه معولا لهدم فلسفاتهم، ولإثبات أن هذا النوع من التفكير يقضي على ذاته تماما. وهذا الرأي بالطبع مبني على القول إن الشكل اللفظي لكتابة اسپينوزا كان ضئيل القيمة، وأن لهذه الكتابة معاني خفية من وراء هذا الشكل. والحق أن مسايرة المعاني الظاهرة لألفاظ اسپينوزا وتعبيراته كانت هي الصفة الغالبة لدى معظم من كتبوا عنه، ومنهم شراح لهم مكانتهم الكبيرة في عالم الفلسفة. فالكثرة الغالبة من الكتب المؤلفة عن اسپينوزا تبدأ مثلا بذكر رأيه في فكرة الله، فتشير إلى رأيه في وحدة الوجود والطبيعة، وكذلك في إضافة صفة الجسمية إلى الله، ثم تواصل الكلام عن بقية آراء اسپينوزا عن الله وكأن شيئا لم يحدث، وكأن اسپينوزا يماثل أي فيلسوف أو مفكر آخر في نظرته إلى فكرة الله، وكل ما في الأمر أنه أضاف صفة أخرى جديدة إلى الفكرة، هي صفة الهوية مع الطبيعة، أو المادية، ولا شيء غير ذلك. ومثل هذا يقال على فكرة الخلود، وفكرة الحب الإلهي، وغيرها من الأفكار التي اكتسبت عند اسپينوزا في واقع الأمر، معنى مخالفا تماما لكل معانيها السابقة.
والأمر الذي يغفله هؤلاء الشراح، هو أن المعاني الثورية الجديدة لهذه الأفكار ينبغي أن تزيل عنها جميع ارتباطاتها القديمة وتضفي عليها ارتباطات لم تكن معروفة على الإطلاق؛ فمنذ اللحظة التي يعلن فيها اسپينوزا مثلا، أن فكرة الله مساوية للطبيعة، وأن المادية صفة من صفات الله، تصطبغ الفكرة بصبغة لم تعرف من قبل، بل تغدو فكرة «أخرى» جديدة تماما، ولا صلة لها بكل الأفكار السابقة في هذا المجال. ويكون من واجب الشارح أن يفسر كل قضية وكل عبارة ترد فيها كلمة «الله» تفسيرا جديدا، وأن يستحضر في ذهنه على الدوام معانيها الجديدة في كل سياق ترد فيه، ويحذر الانسياق وراء المعاني القديمة المألوفة للكلمة.
وهنا تكون فلسفة اسپينوزا اختبارا عسيرا لقدرة المرء على التخلص من الارتباطات المألوفة للألفاظ - ونقول: إنه اختبار عسير؛ لأن معظم هذه الألفاظ قد اكتسب معاني موغلة في القدم إلى حد أصبحت معه راسخة كل الرسوخ في أذهان البشر، فضلا عن أن لها ارتباطات نفسية وانفعالية قوية في نفوس الناس. والأمر الذي أراد اسپينوزا أن يثبته أن هذه المعاني وهذه الارتباطات النفسية ليست صحيحة بالضرورة، بل إن الفكر البشري يكون أكثر اتساقا إذا ما استخدم هذه الألفاظ بمعان جديدة وجعل لها ارتباطات نفسية مغايرة، أو حاول القضاء على كل ما لها من هذه الارتباطات.
والأمر الملاحظ في كل دراسة عميقة للمؤلفات التي كتبت عن اسپينوزا أن القليلين جدا هم الذين عرفوا كيف يخلصون أذهانهم من هذه الارتباطات الذهنية والنفسية القدمية للألفاظ التي استخدمها اسپينوزا بمعان ودلالات جديدة. وإن مثل هذه الدراسة لتعطينا مثلا بليغا لمدى تأثير اللغة في تفكير الناس، ومدى سيطرة اللفظ على الأذهان التي تنقاد وراءه وتظل تردد محتوياته العقلية أو الانفعالية التي ألفتها، مهما طلب إليها أن تتناسى هذا كله وتبدأ في النظر إلى الأمور من زاوية جديدة.
وما أشبه محاولة اسپينوزا تحديد معان جديدة للفظين مثل «الله»، و«الخلود»، بمحاولة الهندسات اللاإقليدية تحديد معان جديدة للفظين، مثل «المثلث» أو «المتوازي»؛ فقد عرفت هذه الهندسات المثلث بأنه شكل يبلغ مجموع زواياه أكثر (أو أقل) من قائمتين، والمتوازيين بأنهما خطان لا يمكن تقابلهما. وطلبت من القارئ أن يسايرها في هذه المعاني الجديدة. ونستطيع أن ندرك موقف معظم شراح اسپينوزا على حقيقته إذا تصورنا باحثا في الهندسة يعجز ذهنه عن التخلي عن المعاني التي ألفها لكلمة «المثلث» و«المتوازي»، أو يساير المعاني الجديدة بعض الوقت، ثم يعود ذهنه، بحكم التعود، إلى المعاني القديمة من آن لآخر، فتكون الصورة النهائية لفهمه لهذه الألفاظ مزيجا غريبا من القديم والحديث. هذا «القصور الذاتي» للأذهان، في عجزها عن مسايرة المعاني الجديدة التي يطلب إليها أن تأخذ بها، هو العقبة الكبرى في وجه الفهم الصحيح لفلسفة اسپينوزا، وهو المسئول الأول عن ذلك التباين الهائل في تفسيرات هذه الفلسفة. وقد حاولنا في هذا البحث أن نتخلص من هذا القصور بقدر المستطاع، وأن نكشف عن التناقض أو عدم الاتساق الذي يقع فيه الشراح نتيجة له. أما الحكم النهائي على التفسيرات المختلفة لفلسفة اسپينوزا؛ فهو في رأينا مماثل للحكم على أية مجموعة من النظريات العلمية؛ إذ تفضل دائما النظرية التي تفسر أكبر عدد من الوقائع بأقصى درجة ممكنة من الاتساق، وأحسب أنه إذا كان لهذا البحث في فلسفة اسپينوزا فضل، فهذا الفضل هو أنه مبني على تفسير لهذه الفلسفة يضم - على نحو متسق - عددا كبيرا من عناصرها التي تبدو غير متآلفة فيما بينها، على حين أن ما اطلعت عليه من الشروح لهذه الفلسفة يعجز دائما - بدرجات متفاوتة - عن تقديم تفسير متسق لهذه العناصر، بل ويؤكد أصحابه، في كثير من الأحيان، أن عدم الاتساق طابع أساسي في فلسفة اسپينوزا، وكأنهم بذلك ينبهون القارئ إلى ضرورة الحذر مما يقدمونه إليه من التفسيرات! •••
ولي بعد ذلك كلمة أخرى عن المجال الذي دار حوله اهتمامنا في هذا البحث. فكثير من شراح اسپينوزا يركزون اهتمامهم في التعبيرات والصيغ الميتافيزيقية التي تحفل بها كتابات اسپينوزا، ولا سيما «الأخلاق». وهكذا تجد أبحاثهم عنه تتركز في موضوعات جافة كالجوهر والماهية واللامتناهي والصفة والحال، بحيث يبدو فيها غير مختلف كثيرا عن فلاسفة العصور الوسطى الذين قضوا حياتهم في التعامل مع ألفاظ شكلية وكيانات ميتافيزيقية لا علاقة لها على الإطلاق بواقع الإنسان. ونحن، مع تسليمنا بأن هذه الموضوعات كانت لها مكانتها، ومكانتها الكبيرة أحيانا، في كتابات اسپينوزا، فإنا نؤكد أن دلالتها لديه تختلف كل الاختلاف عنها لدى الفلاسفة المدرسيين؛ إذ إنها لم تكن عنده غاية نهائية للفكر على الإطلاق، وإنما كانت وسيلة لعرض آراء تمس موقف الإنسان وحضارته، بأحدث معاني هذه الكلمات، مساسا مباشرا. وهذا الوجه الأخير، في رأينا، هو الوجه الحقيقي الهام في فلسفة اسپينوزا، وهو الأجدر كثيرا بالبحث من كل ما عداه؛ ومن هنا فإنا لم ندخل في تفاصيل الأوجه الشكلية لفلسفة اسپينوزا إلا من حيث دلالتها على موقفه الأصيل من الإنسان وحضارته؛ إذ إنك كثيرا ما تجد في كتابات اسپينوزا قضايا لو أخذت بمعناها الشكلي أو الحرفي لما كانت تختلف كثيرا عن القضايا العقيمة المألوفة لدى الفلاسفة المدرسيين، ولكن هذه القضايا، إذا ما وضعت في سياقها الحقيقي في إطار فلسفة اسپينوزا، وفهمت الدلالة الخاصة التي أضفاها على مصطلحاتها، تكتسب معنى مشحونا بالثورة وبالدلالات الإنسانية العميقة. وهكذا فإن الاكتفاء بالتفسيرات الشكلية لهذه القضايا، على نحو يقارب ببنها وبين التراث السابق عليها ولا سيما في العصور الوسطى، يؤدي في رأينا إلى إغفال مؤسف لأهم ما تتضمنه فلسفة اسپينوزا من عناصر، بل للروح الحقيقية المميزة لهذه الفلسفة، في سبيل شكل سطحي وقشور زائلة. وبعبارة أخرى: فسوف نركز اهتمامنا على تلك العناصر الباقية في فلسفة اسپينوزا - تلك العناصر التي كان لها، وما زال، تأثيرها في حضارة الإنسان وفي فهمه لذاته وللعالم المحيط به، لا تلك العناصر العارضة التي تتمثل في تصورات وحجج مدرسية لا يمكن أن يكون لها في الإنسان أي تأثير باق. •••
وأخيرا؛ فقد أفادني في جمع مواد هذا الكتاب اطلاعي على المجموعة الضخمة من المراجع الخاصة بفلسفة اسپينوزا في المكتبة الأهلية ومكتبة جامعة كولمبيا بنيويورك - وفيهما مجموعتان ضخمتان من المؤلفات والأبحاث الهامة في هذا الموضوع على التخصيص. ومع ذلك فلا بد أن أنبه إلى أن الرأي الذي كونته عن اسپينوزا قد تكون بناء على تفسير مستمد من قراءة مؤلفاته ذاتها فحسب. أما المراجع المذكورة في هذا الكتاب - وهي غير قليلة - فلا تهدف إلا إلى دعم هذا التفسير، إما بطريقة إيجابية مباشرة ، أو بطريقة سلبية عن طريق إثبات استحالة التفسيرات المخالفة، وهو الأغلب. وكل ما أستطيع أن أقوله عن هذه المراجع هو أنني لم أجد منها ما يفسر فلسفة اسپينوزا تفسيرا متسقا إلى حد مرض، وأنني قد اضطررت إلى أن أقف من كثير منها موقف الناقد القاسي؛ وذلك لإيماني القاطع بأن اسپينوزا فيلسوف لم يفهم بعد حق الفهم، وأنه قد نصب للمفسرين السذج شراكا؛ وقع فيها، لسوء الحظ، معظم من كتبوا عنه؛ ولذا كان الرجوع إليهم يفيد في الانتقاد أكثر مما يفيد في الاسترشاد؛ ومن هنا فإني أود أن يعدني القارئ مسئولا عن التفسير الذي سيجده في هذا الكتاب لفلسفة اسپينوزا، وعن كل ما قد يستحق استحسانه أو استهجانه في هذا التفسير.
فؤاد زكريا
نيويورك في يناير 1962م
الفصل الأول
حياة اسپينوزا ومؤلفاته
من الأهداف التي بررت، في نظر اسپينوزا، اتباع المنهج الهندسي في التفكير، تغليب الطريقة «اللاشخصية» في الكتابة؛ فهو يريد أن يكتب كما لو لم يكن لشخصيته الفردية أية أهمية بالنسبة إلى الحقائق الموضوعية الواضحة التي كان يعرضها. وهكذا يبدو أن اسپينوزا، باتباعه هذا المنهج، كان يدعونا إلى تجاهل تفاصيل حياته عند الكتابة عنه، وإلى عرض أفكاره بنفس الطريقة اللاشخصية التي عرضها هو ذاته بها - أعني عرضها بوصفها أفكارا خالصة لا أهمية لشخصية كاتبها أو للظروف الخاصة التي عاش فيها. كما أن من التعليلات التي يمكن أن نفسر بها ظهور معظم كتبه بغير اسمه الحقيقي، أو دون اسم على الإطلاق، أنه كان يود من قارئه أن يتأمل أفكاره خالصة دون أن يشغل نفسه بشخصية الكاتب أو عصره.
ولكن إذا كان اسپينوزا قد استهدف ذلك بحق، فهل يجوز للباحث أن يلبي رغبته هذه؟ أليست في حياته الاجتماعية والفردية معالم عديدة تفسر الكثير من أفكاره وتلقي ضوءا على غوامضها؟ لقد كان اسپينوزا، بحق، متفاعلا مع مجتمعه بحيث تأثر تفكيره بأحداث هذا المجتمع، وتمشى مع ظروف عصره إلى حد بعيد، وبحيث كسرت تعاليمه نطاق الموضوعية الصلبة التي حاول اسپينوزا أن يغلفها بها عن طريق المنهج الهندسي .
ولا تقتصر الصعوبات التي تعترض التفسير التاريخي لفلسفة اسپينوزا على تعارض ذلك التفسير مع منهج اسپينوزا فحسب، بل إنها تمتد إلى محتوى فلسفته ذاتها. وقد لاحظ «كاسيرر» ذلك، مؤكدا أن مذهب اسپينوزا يبدو في صورة تعلو على التاريخ ولا تحتاج إلا إلى ذاتها، وأنه يتحدث دائما عن «العقل» بمعناه المطلق، وينظر إلى الأمور من «وجهها الأزلي»، ولا يلقي بالا إلى التغير والتطور، ويصف كل ما هو تاريخي أو زماني بأنه من صنع الخيال،
1
ومع كل ذلك فقد كان هذا المحتوى الفكري الذي عده صاحبه «غير تاريخي» مرتبطا كل الارتباط بعصره، ولا غناء عن بحث هذا الارتباط في أية دراسة لتلك الأفكار.
والعقبة الكبرى التي تعترض الباحث في حياة اسپينوزا، أن مصادر هذه الحياة غامضة إلى حد بعيد. وأهم المصادر التقليدية المعروفة هي: تاريخ حياته كما كتبه الطبيب لوكاس (أو لوقا)
Lucas
وتاريخ حياته كما كتبه القس «كوليروس
Colerus » واسمه الحقيقي
Köhler ، ثم نبذة عن حياته في مقال بعنوان «اسپينوزا» في «القاموس التاريخي النقدي» الذي وضعه الفيلسوف الفرنسي «بيل
Bayle »، وهذه النصوص كلها أوردت وحققت في ذلك الكتاب القيم الذي وضعه فرويدنتال
Jakob Freuadenthal
عن حياة اسپينوزا، وجمع فيه وثائق غاية في الأهمية تتعلق بحياة اسپينوزا وأسرته ومؤلفاته ورأي المعاصرين واللاحقين فيه،
2
وقد كتب «لوكاس» مدافعا عن اسپينوزا بحماسة، ولكن روايته كان فيها الكثير من الخطأ، ويغلب عليها الأسلوب الإنشائي والمبالغات الانفعالية الساذجة، وهكذا حاول أن يرسم لاسپينوزا صورة تتفق مع نظرته الرومانتيكية إليه. أما «كوليروس» فكان ينتقد اسپينوزا بشدة، وكان أسلوبه أدق وأكثر واقعية، ولكن روايته بدورها لم تكن تخلو من الأخطاء، كما أنها أغفلت جوانب عديدة هامة في حياة اسپينوزا.
والأمر الذي تفتقر إليه هذه الكتابات كلها هو أنها لم تكتب عن معرفة شخصية مباشرة باسپينوزا ذاته، وإنما كتبت بعد وفاته واستمدت من مصادر بعضها ثانوي الأهمية. وهنا يحق للباحث أن يتساءل: لماذا لم يقم أحد أصدقاء اسپينوزا المقربين بكتابة تاريخ مفصل لحياته، وخاصة عندما كانوا بصدد نشر مؤلفاته المختلفة؟ إن الرد الوحيد الممكن في نظرنا، على هذا السؤال الذي أثاره بعض من كتبوا عن اسپينوزا،
3
هو أن هؤلاء الأصدقاء قد رغبوا في إحاطة بعض وقائع حياة اسپينوزا بنطاق من الغموض، مثلما فرض هو ذاته نطاقا من السرية على تعاليمه في هذه المؤلفات المختلفة، وليس من المستبعد أن يكون ذلك الامتناع من جانبهم تلبية لرغبة منه. •••
كانت هولندا، في الفترة التي ولد فيها اسپينوزا، تمر بتحولات اجتماعية هامة؛ ففي أثناء حياة اسپينوزا، استقلت المقاطعات السبع في الأراضي الواطئة عن الحكم الإسباني الغاشم، وتحولت بسرعة إلى دولة تجارية من الطراز الأول، وهو الطابع الذي كان قد بدأ يظهر فيها بوضوح حتى قبل ذلك الاستقلال؛ ففي سنة 1602م أسست شركة الهند الشرقية التي كانت أشبه بدولة داخل الدولة، كما تكونت في 1621م شركة الهند الغربية على أسس مماثلة، وحققت هذه الشركات للبلاد إمبراطورية واسعة الأطراف، ما زالت آثارها باقية حتى اليوم، غير أن تحرر هولندا من النظام الإقطاعي الذي كان سائدا في العصور الوسطى وأوائل العصور الحديثة قد اقترن بنهضة علمية وفكرية لا يمكن إنكارها؛ فالأمر الذي لا شك فيه - والذي شهد به اسپينوزا نفسه - أن بلاده كانت، بالقياس إلى غيرها من البلدان في ذلك العصر، تشجع التسامح الديني وحرية الفكر، وإن يكن ذلك التحرر الفكري نسبيا فحسب. وأدى ذلك إلى نهضة علمية وفنية وفلسفية كبيرة؛ ففي ميدان العلوم، تمت في هولندا كشوف هامة في الطبيعة والفلك والميكانيكا، وكان من معاصري اسپينوزا العالم الطبيعي المشهور «هيجنز
Huygens » والعالم البيولوجي الكبير «ليڨنهويك
Leuuwenhock ». أما في ميدان الفن فقد اشتهرت المدرسة الهولندية في الرسم وعلى رأسها «رمبرانت» الذي رسم لوحة مشهورة لاسپينوزا. وفي ميدان الفلسفة، كانت هولندا هي البلد الذي آوى ديكارت حين هاجر من فرنسا، كما كان الفكر الحر، الخارج على التقاليد السياسية والدينية، أمرا مألوفا، وإن كان المفكرون المتحررون لقوا، رغم ذلك، نصيبهم من الاضطهاد. •••
في هذا الجو الاجتماعي والعلمي ولد اسپينوزا في أمستردام، في 24 نوفمبر 1632م. وقد سمي عند ولادته «باروخ
Baruch » (وترجمتها اللاتينية
Benedictus )، وكانت أسرة اسپينوزا من الأسر الإسبانية اليهودية المهاجرة، من فئة تسمى «المارانو
Marranos » وهم يهود إسبانيا الذين اضطروا، تحت ضغط الحكام، إلى إخفاء دينهم الحقيقي واعتناق الكاثوليكية مؤقتا، ثم عادوا إلى كشف حقيقتهم عندما سنحت لهم فرصة الهجرة. وكان أبو اسپينوزا «ميخائيل» تاجرا ميسور الحال، لديه شركة تجارية، لا بأس بها، كما كانت له مكانة مرموقة في الجالية اليهودية المشهورة بأمستردام.
وقد تلقى اسپينوزا تعليمه في المدرسة التلمودية المحلية بأمستردام؛ إذ ألحقه بها أهله لكي تتوثق ارتباطاته بطائفته اليهودية بتعلم لغتها العبرية وتراثها. ومما لا شك فيه أن هذا العمل لم يحقق إلا نتيجة عكسية؛ إذ إن الطابع اللاهوتي المحافظ لتعليمه في هذه المدرسة قد دفعه إلى الثورة عليه، فضلا عن أن أهله قد اضطروا إلى البحث عن معلمين آخرين له، لكي يدرس لغات العلم الحديث، ولا سيما اللاتينية، وكان أشهر هؤلاء المعلمين ڨان دن إنده
Van den Ende
الذي كان معلما وطبيبا في أمستردام، وبلغ حظا كبيرا من الشهرة، حتى إن أكبر أسر أمستردام كانت تعهد إليه بتعليم أبنائها، ويذكر «كوليروس» في ترجمته لحياة اسپينوزا أن هذا الأستاذ كان يلقن تلاميذه، إلى جانب اللاتينية، شيئا آخر هو تعليمات الإلحاد. وربما كان ذلك حكما مبالغا فيه، غير أن الأمر الذي لا شك فيه هو أنه كان من النفوس الثائرة على التقاليد، وأن اسپينوزا تأثر بثورته هذه منذ صباه.
ولم تكن الطائفة اليهودية في أمستردام تخلو من أمثلة لمفكرين ثاروا على رجعية التراث الديني المحافظ، الذي فرضه ربانيو هذه الطائفة عليهم، بل لقد كانت هذه الطائفة تتناقل أنباء شخصيات مشهورة عرفت بثورتها على الجمود والتعصب الديني في ذلك العصر. ومن أشهر هذه الشخصيات أورييل داكتوستا
Uriel Da Costa
الذي كان ينتمي إلى الجيل السابق على اسپينوزا، وقد وقف في وجه رجال الدين المحافظين في طائفته، وكان هو الذي بدأ بحركة تفسير الكتب المسيحية واليهودية المقدسة تفسيرا تاريخيا، وأنكر خلود النفس. ولا شك في أن كتب اسپينوزا قد مضت إلى أبعد من ذلك بكثير، ولكن لا بد أن اسپينوزا كان في ثورته بادئا من حيث انتهت شخصية «داكوستا» المتحررة التي سبقته بجيل واحد.
فماذا كان موقف الطائفة اليهودية في أمستردام من مفكر متحرر مثل داكوستا؟ لقد طردته مرتين في مجمعها، ولقي نتيجة ذلك الطرد ألوانا شتى من الاحتقار والمذلة؛ فكان اليهود يبصقون في وجهه ويلقون على بيته القاذورات والجيف. واحتمل الرجل ذلك كله سبع سنوات كاملة، كان قد استسلم خلالها مرة لأعدائه، وطلب الغفران، ولكن حملات الكراهية والتعذيب استمرت رغم ذلك، حتى لم تعد أعصابه تحتمل، فأعلن توبته وطلب المغفرة للمرة الثانية، ولكن السلطات الدينية اليهودية لم تكتف بذلك، وإنما طلبت إليه أن يعترف أمام جمع غفير بذنوبه وخطاياه، ففعل، ثم جلد أمام هذا الحشد تسعا وثلاثين جلدة تتخللها قراءات تستنزل اللعنات عليه، وأخيرا طلب إليه أن يركع أمام باب المعبد، فمر الجمع من فوقه إمعانا في إذلاله.
وكان ذلك أكثر مما تحتمله أعصاب الرجل، فعاد إلى داره وهو في أشد حالات النقمة والسخط، وكتب رسالة سجل فيها كل ما مر به، ثم أطلق على نفسه النار فمات لساعته. وكان اسپينوزا في ذلك الحين في سن الثامنة.
ومن العجيب أن الكتاب اليهود يتفننون في اختلاق المبررات لهذا الاضطهاد الشنيع للفكر الحر؛ ف «براون
Browne » مثلا يقول: إن هؤلاء اليهود المهاجرين، من بعد كل ما عانوه في مواطنهم الأصلية من اضطهاد على يد الإسبان والبرتغال على الأخص، كانوا حريصين على ألا يقبلوا في صفوفهم أي انشقاق، وكانوا يرون أن كل من ليس معهم فهو عليهم؛ ومن هنا لم يتسامحوا عند ظهور أي خروج على مبادئهم.
4
وهذا تبرير غريب حقا؛ فالمفروض أن الطائفة التي تعاني الاضطهاد تأخذ على عاتقها أن تضع حدا لهذا الاضطهاد، وتبدأ في ذلك بنفسها على الأقل، فتفتح صدرها رحبا للانتقادات الموجهة إليها - ومع ذلك، ألم يتكرر هذا المنطق المعكوس في عصرنا الحديث، حين أوقع اليهود نفس ألوان الاضطهاد التي ذاقوها في الحكم النازي على الأبرياء من عرب فلسطين؟!
وعلى أية حال، فمن الواضح أن تقاليد الطائفة اليهودية في أمستردام كانت من التزمت والجمود إلى حد أثار غضبة كل من اتسم بنزعة تحررية من أبنائها، لا سيما والجو الخارجي في الدولة الهولندية كان يشجع، إلى حد ما، على الانطلاق وحرية الفكر. وهكذا تكررت القصة مع اسپينوزا نفسه، وإن لم تكن اتخذت نفس هذه الصورة العنيفة الدامية في نهايتها.
فقد أدت هذه المؤثرات جميعا، إلى خروجه عن نطاق العزلة القاطعة التي كانت الطائفة اليهودية في أمستردام تفرضها على أفرادها، وإلى ثورة اسپينوزا على تلك الطائفة وخروجه عليها. واتخذت هذه الثورة أولا شكل مناقشات متحررة جريئة، بدأت منذ أيام الدراسة ذاتها، ثم تحولت إلى عدم اكتراث بالطقوس والشعائر اللانهائية العدد التي يتبعها المجتمع اليهودي. وأخذت علامات الثورة والتحدي تزداد ظهورا بالتدريج، إلى أن اتخذت شكلا لا يمكن كهنة اليهود السكوت عليه، فقرروا طرده من الطائفة اليهودية.
5
وإذا صح ما يقوله «كوليروس»، فإن شيوخ هذه الطائفة قد عرضوا عليه مرارا أن يرجع عن «مروقه»، ولكنه لم يلق بالا إليهم، وذهب بهم الأمر إلى حد عرض رشوة عليه، في صورة معاش يتقاضاه بانتظام، على أن يترك دينهم وشأنه، ويبتعد بأفكاره الخطيرة عنه، ولكن اسپينوزا رفض هذا العرض «لأنه لم يكن منافقا، ولم يكن يبحث إلا عن الحقيقة». ويقال أيضا أن الطائفة قد استخدمت سلاحا آخر هو التهديد؛ فقد طعن اسپينوزا ذات مرة بسكين لم يصل إلا إلى ملابسه. وكان من الطبيعي بعد هذا كله أن يطرد اسپينوزا من الطائفة اليهودية، ويفرض عليه «الحرام» وهو في الرابعة والعشرين من عمره (سنة 1656م).
وكان من الواضح بعد ذلك أن أمستردام لم تعد مكانا مأمونا لاسپينوزا. وهكذا انتقل إلى عدة أماكن ريفية هادئة، أو بلدان صغيرة، ليتفرغ للكتابة ويبتعد في الوقت ذاته عن الجو المحفوف بالخطر في أمستردام. ومن هذه البلاد «رينسبورج
Rhynsborg »، ولاهاي.
في هذه الفترة التي ابتعد فيها اسپينوزا بنفسه عن مخاطر الحياة وسط مجتمع معاد له في أمستردام، كان يرزق من حرفة صناعة العدسات البصرية وصقلها، وهي صناعة أجادها إلى حد بعيد، بدليل أن كبار علماء عصره كانوا يتعاملون معه فيما يحتاجون إليه منها.
وقد ذكر «كوليروس» أن احتراف اسپينوزا لصناعة العدسات كان إخلاصا منه للتقاليد اليهودية القديمة، التي تحث اليهود على تعلم حرفة يعيشون منها، إلى جانب معرفته للشرع الديني؛ إذ إن هذه المهنة تجنب الإنسان الشر وتقوم سلوكه. وهكذا فإن اسپينوزا، تبعا لهذا الرأي، لم ينس هذه النصيحة حتى بعد انفصاله عن مجتمع اليهود. ويؤيد هذا التعليل «براون»، ويضيف إليه أمثلة متعددة لبعض من كبار المفكرين اليهود كانوا صناعا يدويين،
6
ولكن «فوير
Feuer » يعترض بقوة على هذا التعليل، فيثبت أن عددا قليلا من يهود أمستردام هم الذين كانوا يشتغلون بحرفة يدوية، وأن القيم السائدة بين هذه الطائفة كانت هي القيم التجارية، ويضيف إلى ذلك قوله: «إن اسپينوزا لم يبحث عن حرفة يدوية يرتزق منها عندما كان التأثير اليهودي أقوى ما يكون عليه، وإنما أصبح صانعا عندما ترك الأعمال التجارية وكنيس أمستردام.»
7
وإذن فالتعليل الصحيح لاحتراف اسپينوزا مهنة صقل العدسات وارتزاقه منها هو رغبته المتعمدة في التخلي عن القيم التجارية السائدة بين الطائفة اليهودية التي انفصل عنها. ومن المؤكد أن ذلك القرار لم يكن هينا بالنسبة إليه؛ إذ إنه على عكس ما قيل عنه وقتا ما، لم يكن فقيرا معدما، بل كانت لأسرته أعمالها التجارية الناجحة. والواقع أن البحث الحديث الذي أخذ يجلو ببطء شديد غوامض حياة اسپينوزا، يتجه إلى القضاء تدريجيا على أسطورة فقر اسپينوزا هذه؛ فقد انضم اسپينوزا منذ صباه إلى أبيه في إدارة أعماله، وعندما توفي أبوه، أصبح مديرا لهذه الأعمال، وبذلك اكتمل اندماجه في عالم الاقتصاد وأخذه بالقيم التجارية في عصره.
ويكاد يكون من المؤكد أن اسپينوزا قد أدرك، في وقت نضوجه الفكري، أن من المحال عليه أن يجمع بين هذه القيم التجارية وبين المثل الفكرية التي تزايدت سيطرتها على ذهنه بالتدريج، فقد كان عليه أن يختار بين أمرين: إما أن يجعل كسب المال غاية لحياته، أو أن يقمع في نفسه الرغبة في كسب المال حتى يستطيع التفرغ لرسالته الفكرية. وبعد تفكير لا بد أنه كان طويلا، انتهى إلى إيثار الثقافة الروحية على المال، فتخلى عن الأعمال التجارية التي ورثها عن أبيه.
وتشهد بداية كتابه في «إصلاح العقل» بحدوث هذا التحول بكل وضوح؛ فهو لا ينكر أنه كان مهتما بالمال في أوائل حياته، ولكنه يؤكد أنه قد انصرف عن هذا الاتجاه حالما أدرك خطره على حياته الفكرية: «فقد بدا لأول وهلة أنه ليس من الحكمة أن يتنازل المرء عما هو في متناول يده من أجل شيء لم يكن عندئذ موثوقا به؛ إذ كنت أستطيع إدراك الفوائد التي تجنى من الجاه والثروة، وكنت أعلم أنني سأضطر إلى التخلي عن السعي وراء هذه الغايات إذا ما أردت أن أكرس حياتي جديا للبحث وراء شيء مختلف جديد.» وفي القاعدة المؤقتة الثالثة من تلك القواعد التي وضعها لحياته، يذكر أنه قد زهد في المال بحيث لا يريد أن يحتفظ منه إلا بما يلزم لحفظ الحياة والصحة.
وهنا ينبغي أن نفرق بين زهد اسپينوزا هذا وبين أنواع أخرى من الزهد؛ فهناك فلاسفة يزهدون لأنهم طبيعة حالهم محرومون، غير أن اسپينوزا كان يملك كل الوسائل التي تكفل له ثراء هائلا، ومع ذلك تركها بمحض إرادته. وهناك أيضا زهد ناجم عن إنكار للماديات وعزوف عن المتع وعن نظرة سوداوية إلى كل ما هو بهيج في الحياة، ولكن اسپينوزا لم يكن من أصحاب هذا الاتجاه على الإطلاق؛ فهو لم يحتقر العالم المادي ولم يترفع عن متع الحياة، بل لقد سوى بين العالم المادي وبين العالم الروحي تماما، أو على الأصح محا التفرقة بينهما، ودعا صراحة في الكثير من كتاباته إلى الإقبال إيجابيا على متع الحياة. فلا بد إذن أن زهده كان راجعا إلى نظرة معينة في العلاقة بين اتخاذ المال غاية وبين السعي إلى الكمال العقلي، وهي علاقة كانت في رأيه تنافرا تاما؛ فزهده في هذه الحالة كان أشبه بزهد العلماء لإغراقهم في بحوثهم، غير مقترن بأية نظرة سلبية إلى الأوجه الأخرى لحياة الإنسان.
وأخيرا، فإن كثيرا من المفكرين يدعون إلى الزهد في المال بألسنتهم ويتهافتون عليه بأفعالهم. أما اسپينوزا فقد طبق ذلك على حياته بالفعل، وبطريقة تدعو إلى الإعجاب؛ فبعد وفاة أبيه، حاولت شقيقتاه سلبه حقه في الميراث، فاحتكم إلى القضاء، الذي حكم لصالحه، وبعد صدور الحكم فاجأ الجميع بتنازله عن نصيبه في الميراث - إلا سريرا متينا وستارة، كما يقول كوليروس. وهناك احتمال قوي في أن يكون تنازله هذا عن الميراث تعبيرا منه عن عدم إيمانه بفكرة وراثة المال ذاتها؛ فحرص، قبل تنازله، على أن يثبت حقه شرعيا، ثم تنازل بعد ذلك، متعمدا أن يثبت عدم اهتمامه بالقانون أو الشريعة القائمة، وأن يؤكد أنه تنازل إيمانا منه بالمبدأ ذاته، رغم كون القانون مؤيدا له، ويقال أيضا إن صديقه «سيمون ديڨريس
Simon de Vries » - وكان ميسور الحال، قد عرض عليه، حين اقتربت منيته دون أن يكون له وريث، أن يجعله وريثا لكل ماله، فرفض هذا العرض، ولم يقبل - بعد إلحاح شديد - إلا معاشا ضئيلا، نقصه هو ذاته فيما بعد بمحض إرادته. •••
فالصورة الأولى التي ينبغي أن تمحى، ونحن بصدد البحث في حياة اسپينوزا، هي صورة الفيلسوف المعدم أو الزاهد كراهية في الحياة. والصورة الثانية التي ينبغي إزالتها، هي صورة المفكر المنعزل المتباعد عن أحداث عصره.
فقد كان اسپينوزا مندمجا في شئون عصره كل الاندماج؛ إذ اتصل بكل الجمعيات الفكرية والدينية ذات الآراء المتحررة، وكان له دور فعال فيها، بل كانت آراؤه وكتاباته تعد من أقوى الدعامات التي ارتكزت عليها هذه الجمعيات، وهو ثانيا قدا تصل بمجموعة كبيرة من رجال عصره المرموقين في ميادين الفكر والعلم والسياسة. وأخيرا؛ فقد كانت له شهرته الكبيرة في هذه الأوساط، وكان أثناء حياته شخصية هامة يسعى إلى لقائها كثير من مريدي الثقافة في كافة أنحاء البلاد الأوربية.
أما عن الطوائف الفكرية والدينية التي اتصل بها اسپينوزا وساهم فيها بدور فعال، فأولها هي طائفة «المجمعيين أو المحفليين
Collegiants » وكان مركزها بلدة «رينسبرج» حيث اعتكف اسپينوزا بعد رحيله عن أمستردام، ويرجع اسم هذه الطائفة إلى أنها كانت تطلق على كل مجموعة منها اسم «المجمع أو المحفل
Collegia » بدلا من أن تسميها «كنيسة ». وقد عملت هذه الطائفة على التخفيف من غلواء الكلڨينية، ولا سيما في فكرة «الجبر». وقد ظهرت حركتها سنة 1619م عندما أعلن الأخوان «فان در كوده
Van der Kodde » أنهما ليسا بحاجة إلى رجال دين أو لاهوت لمعرفة الله؛ إذ إن الروح الإلهية كامنة في الجميع، ولكل نفس الحق في فهمها والتحدث عنها.
8
ومثل هذا يقال عن الطائفة «المينونية
Monnonites »، وهي طائفة تنسب إلى «سيمون مينو
Simon Menno »، الذي قام في بوهيميا في أواخر القرن السادس عشر يدعو إلى الحرية الدينية، ويقاوم تأثير الكلڨينية واللوثرية. وكان صاحب هذه الدعوى يؤمن بعدم جدوى العقائد الثابتة والطقوس والمظاهر الخارجية للعبادة، وإنما كان الأهم في نظره هو طهارة القلب كما تتمثل في فعل الخير وحب الجار والتسامح. وكان أفراد هذه الطائفة يرفضون استخدام أي لون من ألوان العنف في نشر مبادئها، ويحملون دون أي تحفظ على الحروب؛ فحرموا حمل السلاح، وذهب بعضهم إلى حد الامتناع عن الاضطلاع بالمسئوليات والالتزامات العامة حتى لا يضطروا إلى إراقة الدماء في الحرب.
هذه الطوائف كانت ذات رسالات فكرية وعلمية وسياسية إلى جانب رسالاتها الدينية. بل إنا نستطيع أن نقول إن الوجه الديني في نشاطها كان أقل الأوجه أهمية، والذي كان يحدث دائما في تلك الفترة من تاريخ الحضارة هو أن الخلافات الفكرية والثقافية كانت تتخذ دائما مظهرا دينيا سطحيا، وكان أصحاب المذاهب السياسية والفكرية المتحررة يدعون إلى آرائهم الجديدة عن طريق إنشاء طائفة أو جماعة دينية جديدة تتولى الدفاع عن مواقفها أو مهاجمة خصومها في إطار مظهر ديني. ولم يكن النشاط الذي تمارسه تلك الجمعيات عندئذ يختلف كثيرا عن نشاط الجماعات الثورية السياسية الحالية، وكل ما في الأمر أن الأفكار المتحررة كانت عندئذ مضطرة إلى التعبير عن نفسها من خلال مواقف دينية معينة. وهكذا كان اسپينوزا بانضمامه إلى تلك الجمعيات يمارس في الوقت ذاته نشاطا سياسيا وثقافيا ذا طابع ثوري، ويشارك في حركة النقد الضخمة التي زعزعت فيما بعد أسس المجتمع الغربي في جميع الميادين.
ولقد كانت حلقة أصدقاء اسپينوزا في هذه الجمعيات تضم نخبة من رجال عصره النابهين المتحررين (ومن الجدير بالذكر أنها لم تكن تضم صديقا يهوديا واحدا!) ومن هؤلاء الأصدقاء: لودڨيج (أو لويس) ماير
Lodewijk Meyer ، وكان طبيبا مولعا بالآداب، وپيتر بالنج
وكان ينتمي إلى الطائفة المينونية، ويتميز بآرائه المتحررة، «وچارج چلس
Jarig Jelles » وقد ترجم بعض مؤلفات اسپينوزا إلى الهولندية، و«سيمون دي فريس
Simon de Vries » الذي كان من أخلص أصدقائه والمعجبين به. وكانت حلقة من تلاميذ اسپينوزا تجتمع لمناقشة المسائل الهامة في أمستردام، وعلى رأسها سيمون دي فريس هذا، ثم يتصلون به في مقره ليجلي لهم بعض الغوامض التي استعصت عليهم. وقد شرح سيمون هذا نظام هذه الحلقة بالتفصيل في إحدى رسائله إلى اسپينوزا (الرسالة رقم 8 عام 1663م).
على أن مكانة اسپينوزا العلمية لم تقتصر على تلاميذه المباشرين وأصدقائه الشخصيين فحسب، وإنما ذاعت شهرته بين كثير من كبار رجال عصره، سواء في هولندا وفي خارجها؛ فقد تقرب إليه كثير من الحكام؛ إذ يقال إن الأمير الفرنسي «كونديه
Condé » قد أبدى رغبته في مقابلته ومناقشته في مسائل علمية وأراد أن يراه في «أوترخت» أثناء قيادته للقوات الفرنسية الزاحفة على هولندا. وقد اختلفت الروايات في هذه المقابلة وهل تمت أم لم تتم، والأرجح أنها لم تتم. ولكن اتهام اسپينوزا بها قد عرضه لكثير من الأخطار في بلاده؛ إذ إنه اتهم بالاتصال بالأعداء، كذلك تختلف الآراء في صلته بالحاكم الهولندي المشهور «يان دي ڨت
Jan de Witt »: فقال البعض إنه كان صديقا شخصيا لذلك الحاكم، وأكدوا أن النزعات التحررية لدى ڨت، الذي طرد أسرة أورانج من الحكم سنة 1650م وكان أقوى خصوم المذهب الكالڨيني والتعصب الديني بوجه عام، كانت تتلاءم مع دعوة اسپينوزا إلى حرية الفكر وفصل الدين عن الدولة. كما قيل إن دي ڨت كان يسترشد بآراء اسپينوزا في الحكم، وذهب البعض إلى حد القول إن «البحث اللاهوتي السياسي» كان محاولة من اسپينوزا لإيجاد تبرير فلسفي لنظام الحكم الجمهوري المستنير الذي يرأسه دي ڨت. هذا فضلا عن أن دي ڨت ذاته كان ذا عقلية علمية دقيقة، وكانت له دراساته الواسعة في الرياضيات والطبيعيات، فضلا عن إلمامه الكبير بالشئون المالية والسياسية والاجتماعية. كذلك قيل إن اسپينوزا كان وثيق الصلة بعمدة أمستردام «هوده
Hudde » الذي كان في الوقت ذاته من ألمع الشخصيات ثقافة في أمستردام، وكان عالما رياضيا بارزا، ومع ذلك فإن باحثة في اسپينوزا، هي «مادلين فرانسيس
Madeleine Francès » تشك في هذه الصداقات المزعومة بين اسپينوزا وهؤلاء الحكام، وترى أنه إذا كانت قد جرت اتصالات بينه وبينهم، فلم يكن ذلك راجعا إلى اشتراكه معهم في الآراء، أو إلى كونهم قد أرادوا تطبيق تعاليمه على سياستهم في الحكم، وربما كانت هذه الاتصالات قد جرت في موضوعات متفرقة ولأسباب متباينة لا علاقة لها بالاتفاق التام في الأفكار السياسية والفلسفية.
9
ولكن إذا كانت هذه شواهد مشكوكا فيها، فإن هناك شواهد أخرى مؤكدة على علو مكانة اسپينوزا في الأوساط العلمية لا في بلاده فحسب، بل في أوروبا بأسرها؛ فقد عرض عليه أمير بافاريا أستاذية الفلسفة في جامعة هيدلبرج، وورد هذا العرض في الرسالة رقم 47 التي كتبها «فابريتيوس
Fabritius » مدير هذه الجامعة إلى اسپينوزا، والتي ذكر فيها أن الأمير من أكثر الناس تقديرا للأذهان الرفيعة، وأضاف: «وسيكون لك أكبر قدر من حرية التفلسف وهي الحرية التي يعتقد الأمير أنك لن تسيء استخدامها في تعكير صفو الدين المعترف به رسميا.» وفي ذلك بطبيعة الحال تلميح إلى معرفة الأمير بما قيل عن مروق اسپينوزا، وابتهال إليه في الوقت ذاته ألا يتحرر أكثر مما ينبغي عندما يشغل هذا المنصب. وقد رفض اسپينوزا هذا العرض رفضا مهذبا، قال فيه: «إنني لم أكن ميالا إلى التعليم العلني العام ... ومن جهة أخرى فلست أدري ما هي الحدود التي ينبغي أن تنحصر فيها حريتي في التفلسف حتى لا يقال عني إنني عكرت صفو الدين السائد؛ فالمنازعات الدينية لا تصدر عن حماسة للدين بقدر ما تصدر عن انفعالات متعددة أو حب للمخالفة يحرف الكلام عن معناه الأصلي ويدينه، حتى لو كان هذا الكلام تعبيرا عن تفكير سليم. وهذا أمر جربته في حياتي المنعزلة الخاصة، فما بالك بي إذا ما سموت إلى هذا المقام الرفيع!»
ويقدم «سيجون
Segond » سببا معقولا لرفض اسپينوزا هذا العرض؛ فقد سبق أن أهدى ديكارت إلى إحدى شقيقات أمير باڨاريا هذا نفسه كتاب مبادئ الفلسفة في عام 1644م؛ وعلى ذلك فمن المحتمل أن تكون «الفلسفة» التي قصد الأمير أن يدرسها اسپينوزا بحرية، ودون إخلال بالدين الشائع، هي الفلسفة الموجودة في كتاب اسپينوزا «مبادئ الفلسفة الديكارتية». ومما لا شك فيه أن الأمير لو كان يقصد كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» لما قال إن اسپينوزا يستطيع أن يقوم بتدريس الفلسفة دون إخلال بالدين الشائع؛ لأن هذا الكتاب الأخير كفيل بإحداث ثورة في الأوساط الدينية مهما كان الوجه الذي ينظر إليه منه؛ وعلى ذلك، فمن المحتمل أن الأمير، تمشيا مع إعجاب أسرته كلها بديكارت، وتقديرا منه لطريقة عرض اسپينوزا لفلسفة ديكارت في كتاب «مبادئ الفلسفة الديكارتية»، قد طلب إلى اسپينوزا أن يكون شارحا لديكارت، وأن يمارس حريته في هذه الحدود، فكان من الطبيعي أن يرفض اسپينوزا هذا العرض.
10
والأمر المؤكد، على أية حال، هو أن هذا الرفض يقدم إلينا مثلا آخر لعزوف اسپينوزا عن فرص قد يتمناها الكثيرون غيره، إذا ما شعر بأن فيها أقل تهديد لحريته في البحث والتفكير.
وقد سعى كثير من علماء العصر إلى الاتصال باسپينوزا وتبادل الأفكار معه، نذكر منهم على سبيل المثال: العالم الطبيعي هيجنز
Christian Huygens
و«هنري أولدنبرج
Henry Oldenburg »، الذي كان أمين سر الجمعية الملكية في لندن وقت إنشائها حديثا، والذي اتصل باسپينوزا في مراسلات عديدة على فترات زمنية مختلفة، وعن طريق هذا الأخير اتصل اسپينوزا بالعالم الإنجليزي المشهور «روبرت بويل
Robert Boyle » وناقش نظرياته وتجاربه العلمية، وبالإضافة إلى هذا كله، كان ليبنتس من أكثر الناس حرصا على الاتصال باسپينوزا والإفادة منه فكريا، وإن يكن قد بذل كل جهده لإخفاء هذا الاتصال، والأمر المؤكد أن كلا من الرجلين قد أعجب بالآخر عقليا، ولكنه حرص على أن يلتزم جانب الحذر منه؛ فاسپينوزا كان يؤمن بضرورة التحري بكل دقة عن ليبنتس قبل تقديم مؤلفاته إليه. وقد أكد ذلك أكثر من مرة لتلميذه «تشيرنهاوس
Tschirnhaus » (الذي كان واسطة بينه وبين ليبنتس) وطلب إليه أن يدرس شخصية ليبنتس دراسة أدق قبل أن يطلعه على مؤلفاته، وأبدى شكه في المهمة التي سافر ليبنتس من أجلها إلى فرنسا «في الوقت الذي كان فيه مستشارا في فرانكفورت».
أما ليبنتس فقد تراسل، من ناحيته، مع اسپينوزا مرات عديدة بتوسط تشيرنهاوس، ثم تعرف إليه مباشرة في إحدى سفراته لهولندا، وناقشه طويلا في آرائه الفلسفية، وسجل محادثاته معه، واستعار مخطوطا لمؤلفاته غير المنشورة، ويتفق كثير من الباحثين في فلسفة ليبنتس على أن دينه لاسپينوزا كان أعظم كثيرا مما اعترف به - ولكن أسباب عدم الاعتراف هذا معروفة؛ إذ كان اسپينوزا شخصية ثار حولها كثير من الجدل وحامت حولها الشبهات، وعرف بآرائه المتطرفة في تحررها في ميدان الدين والسياسة. أما ليبنتس فكان بطبيعته طموحا نهازا للفرص ولم يكن يقبل أن يمسه أي سوء لاتصاله بمثل هذا الثائر. وهكذا حرص قدر طاقته على أن يمحو من كتاباته المنشورة كل أثر لاتصاله باسپينوزا، فيما عد بعض الانتقادات الشديدة التي لا يمكن أن تجلب إليه ظلا من الشك. وقد بلغ الحرص بليبنتس حدا أخفى معه عن كثير ممن كان يراسلهم، ومنهم المنطقي «أرنولد
Arnauld » مجرد كونه يعرف اسم مؤلف «البحث اللاهوتي السياسي»، الذي هاجمته الأوساط الدينية هجوما عنيفا اشترك فيه بعض أساتذة ليبنتس نفسه،
11
ثم طلب من صديق مشترك لهما، وهو «شولر
Schuller »، أن يعمل على عدم إظهار اسمه في مؤلفات اسپينوزا المختلفة، وعلى أن يحذف هذا الاسم قدر استطاعته من الرسائل. •••
والأمر الذي حرصنا على أن نؤكده في هذا كله هو أن اسپينوزا، لم يكن في حياته ذلك الزاهد في الحياة عن إنكار أو كراهية لها، كما أنه لم يكن ذلك المفكر المنعزل الغارق في تأملاته بين جدران أربعة، بل كان محبا للحياة، حريصا على المشاركة في شئون مجتمعه والتفاعل الإيجابي بها، ولم يكن في ذلك بالطبع ما يتنافى مع رغبته في التفرغ لعمله العلمي بالاعتزال عن الناس من آن لآخر فترات طويلة.
وفي إحدى فترات عزلته هذه، اشتد عليه المرض الذي كان يعانيه فترة طويلة، وهو علة في الرئة ربما كانت سرطانا أو التهابا حادا، يرجح أن سببه هو استنشاقه المستمر لغبار زجاج العدسات التي كان يصقلها، ثم حلت نهايته فجأة، وبهدوء تام، يوم الأحد 21 فبراير سنة 1677م. (1) مؤلفات اسپينوزا
نشر اسپينوزا أثناء حياته كتابين فقط، ولم يصدر باسمه سوى واحد منهما فقط، هو «مبادئ الفلسفة الديكارتية»
Renati Descartes Principia Philosophiae ، وملحقه الصادر بعنوان «أفكار ميتافيزيقية
Cogitata Metaphysica ». وقد نشر هذا الكتاب في أمستردام عام 1663م، وقدم له صديق اسپينوزا، الطبيب لودڨيك ماير وهذا الكتاب يمثل عرضا لفلسفة ديكارت بالمنهج الهندسي المفضل لدى اسپينوزا ورغم أن شخصية اسپينوزا ذاته لا تظهر بوضوح في هذا الكتاب، فإن المرء يستطيع أن يلمحها هنا وهناك في أفكار منفصلة، ولا سيما في ملحق الكتاب.
أما الكتاب الثاني فهو «البحث اللاهوتي السياسي»
Tractatus Theologico-Politicus ، ورغم أن هذا الكتاب قد نشر في أمستردام عام 1670م، فإن اسپينوزا بالغ في الاحتياط إذ نشره غفلا من اسمه، وكتب على الغلاف أنه طبع في هامبورج، والكتاب يتضمن بحثا مفصلا لموضوع حرية الفكر، ولا سيما في الموضوعات الدينية، ويهدف إلى تأكيد ضرورة فصل الدين عن الدولة، ويحمل بشدة على كل حكم سياسي يدعي أنه يستمد سلطته من مصدر إلهي. وهكذا كانت موضوعات الكتاب - التي سنتناولها فيما بعد بالتفصيل - شائكة إلى حد يبرر تماما حذر اسپينوزا عندما أراد إخفاء اسمه، وإن تكن شخصيته قد عرفت بعد مضي وقت غير طويل.
وبعد وفاة اسپينوزا، نشر تلاميذه وأصدقاؤه سنة 1677م مجموعة من مؤلفاته بعنوان «المؤلفات المخلفة
Opera posthuma » وذكر اسم المؤلف بحروفه الأولى فقط
B. D. S. ، وكان ذلك المجلد يحوي المؤلفات الآتية: (1) «الأخلاق، مبرهنا عليها بالطريقة الهندسية
Ethica ordine geometrico demonstrata »، وهذا الكتاب يمكن أن يقال إنه عاصر اسپينوزا خلال الجزء الأكبر من حياته الناضجة؛ فمنذ وقت مبكر، قد يكون عام 1663م أو 1665م، أخذ اسپينوزا يرسل نظريات أو قضايا منه إلى أصدقائه طالبا إليهم التعليق عليها، وكان اسپينوزا يعد الكتاب للنشر عام 1675م ، كما يفهم من رسالته رقم 68، غير أن السخط الذي أحدثه «البحث اللاهوتي السياسي» في الأوساط الدينية داخل بلاده وخارجها جعله يحجم عن نشر الكتاب، واستمر خلال العامين الأخيرين يصقل المخطوط ويهذبه حتى وفاته. والكتاب مؤلف من خمسة أجزاء؛ في الله، وفي طبيعة العقل وأصله، وفي طبيعة الانفعالات وأصلها، وفي عبودية الإنسان أو قوة الانفعالات، وفي حرية الإنسان أو قوة العقل. وهو يتخذ شكل نظريات أو قضايا هندسية يعرض نصها في البداية، ثم يقدم البرهان عليها. وقد تسبقها تعريفات وبديهيات أو تليها نتائج ولكن في الكتاب، بالإضافة إلى ذلك، بضع أجزاء كتبت بأسلوب مسترسل غير هندسي. وهذه الأجزاء تعد من أروع صفحات الكتاب من حيث الجرأة والتحرر الفكري. (2) «البحث السياسي
Tractatus Politicus »، وهو كتاب لم يتم اسپينوزا إلا جزءا ضئيلا منه، ومن المؤكد أن أبعاده الأصلية كانت كبيرة، كما يتضح من الخطة التي عرضها اسپينوزا لتأليفه ذلك الكتاب في الرسالة رقم 84، بل إن اسپينوزا لم يكن قد راجع الأجزاء التي ألفها بدقة، بل ترك الكثير منها غامضا، ولكن المؤكد أن اسپينوزا كان في هذا الكتاب أكثر تحفظا مما كان في بحثه اللاهوتي السياسي السابق؛ إذ إن استرداد أسرة أورانج للحكم، وقضاءها على عهد «دي ڨيت» الجمهوري، قد جعل الجو في البلاد أقل ملاءمة لآرائه المتحررة مما كان من قبل بكثير. (3) «إصلاح العقل
De intellectus emendatione »، وهو بدوره بحث حالت وفاة اسپينوزا دون إكماله، وإن يكن «داربون
Darbon » يؤكد أن كل ما كان يمكن أن يحويه هذا الكتاب من أفكار قد ذكر كله، وبدقة كاملة، في كتاب الأخلاق، ويحذر من الاعتقاد بأن كتاب «إصلاح العقل» لو كان قد أكمل لألقى ضوء جديدا على فلسفة اسپينوزا، أو كشف عن نواح مجهولة فيها،
12
وكثيرا ما شبه هذا الكتاب «بالمقال في المنهج» عند ديكارت إذ إن «إصلاح العقل» بدوره بحث في المنهج، ولكن ينبغي أن يذكر المرء أن المنهج الذي سعى اسپينوزا إلى عرضه في هذا الكتاب كان يستهدف غاية أخلاقية. أما عند ديكارت فالاهتمام الأكبر ينصب على المعرفة النظرية - وإن يكن كتاب اسپينوزا قد تضمن أيضا أبحاثا في المعرفة، مثلما تضمن «المقال في المنهج» أبحاثا في الأخلاق. (4)
الرسائل
Epistolae ، وقد نشرت في هذه الطبعة الأصلية 74 رسالة متبادلة بين اسپينوزا ومراسليه، ثم أضيفت إليها رسائل أخرى كشفت فيما بعد، فأصبح مجموعها 86. ورغم ما لوحظ على اسپينوزا، من أنه كان مفكرا ضنينا يتحفظ مع مرسليه ويحذرهم، ولا يكشف لهم عن كل ما في سريرته، بل يجد لذة في حفظ المسافة بينه وبينهم
13 - رغم هذا كله فللرسائل فائدتها الكبرى من حيث إنها تكشف، ولو بطريق غير مباشر، عن بعض الجوانب الشخصية في حياة اسپينوزا، وهي الجوانب التي كان يحرص على إخفائها قدر استطاعته، فضلا عن أنه كان يعرض فيها آراءه، في بعض الأحيان، بطريقة أكثر استرسالا وتبسطا مما يعرضها به في مؤلفاته الأخرى. وقد تبودلت هذه الرسائل بين اسپينوزا وبين فئات مختلفة من الكتاب، منهم أصدقاؤه الذين كانوا أكثر فهما له، ومنهم المراسلون الذين لا تربطه بهم صلة فكرية أو شخصية متينة، وهؤلاء كان يلتزم الحذر معهم على الدوام، ويحاول الكتابة إليهم على قدر أفهامهم. (5)
رسالة في النحو العبري، وهي بطبيعة الحال ليست لها أهمية فلسفية.
وبالإضافة إلى هذه المؤلفات تنسب إلى اسپينوزا كتابات أخرى، منها رسالة قصيرة عن «قوس قزح»، تدل على اهتمامه بالشئون العلمية ومحاولته أن يشارك فيها، وأخيرا فقد عثر خلال القرن التاسع عشر على مخطوط لكتاب يتناول نفس موضوعات كتاب «الأخلاق»، ولكنه يعرضها بطريقة غير هندسية، وهو بلا شك أقدم عهدا من الأخلاق. وقد ألف بالهولندية، وعنوانه «بحث موجز في الله وفي الإنسان وسعادته» وقد اختلف في هذا الكتاب؛ إذ اعتقد البعض أنه مشروع سابق لكتاب «الأخلاق»، ورجح الآخرون أنه كتاب مستقل قائم بذاته، وما زال من المؤلفين من يشكون في نسبة هذا الكتاب إلى اسپينوزا، مثال ذلك أن هاليت
Hallett
ما زال، عام 1957م، يظن أن الكتاب قد يكون من تأليف أحد تلاميذ اسپينوزا المقربين إليه، وأنه وضع لشرح تعاليم اسپينوزا لحلقة التلاميذ التي كانت تجتمع بانتظام لدراسة أفكاره.
14
طبعات كتب اسپينوزا وترجماتها
كانت أهم الطبعات في القرن التاسع عشر هي طبعة «ڨان فلوتن
Van Vloten » و«لاند
Land »، في لاهاي، سنة 1882م و1883م، في ثلاثة مجلدات. أما الطبعة التي تعد كاملة في الوقت الحالي فهي طبعة «كارل جبهارت
Carl Gebhardt »، في هيدلبرج، سنة 1923م، وهي في أربعة مجلدات.
أما الترجمات الإنجليزية فمنها ترجمة كتابي الأخلاق
Ethics
وإصلاح العقل
The Correction of Understanding
في مكتبة
Everyman ، وقام بها «بويل
A. Boyle
لندن 1910م»، وهي ترجمة تفتقر إلى الدقة في كثير من الأحيان.
وهناك أيضا ترجمة «ولف
A. Wolf » للبحث الموجز في الله وفي الإنسان وسعادته. وقد صدرت في لندن (سنة 1910م) بعنوان
Spinoza’s Short Treatise on God, Man and his Wellbeing ، وترجمة لرسائل اسپينوزا
The Correspondance of Spinoza (لندن 1910م).
وأخيرا، توجد ترجمة جيدة لا تعوزها الدقة، هي ترجمة «إلويس
R. H. M. Elwes » للمؤلفات الرئيسية لاسپينوزا. وقد صدرت بعنوان
The Chief Works of Spinoza ، (نيويورك، مكتبة دوڨر (
Dover Publications 1951 )) وتحتوي هذه الترجمة على مجلدين: الأول، ويشمل البحث اللاهوتي السياسي، ثم البحث السياسي، والثاني هو إصلاح العقل، ثم الأخلاق، ثم عدد كبير من الرسائل.
أما في الفرنسية، فهناك ترجمة أپون
Charles Appuhn (باريس سنة 1907م-1934م)، والترجمة الحديثة التي اشترك فيها رولان كايوا
Roland Caillois
ومادلين فرانسيس
Madeleine Francès
وروبير مزراحي
Robert Misrahi ، والتي أصدرتها في سنة 1954م دار «جاليمار» في سلسلة
Bibliothèque de la Pléade
بعنوان
Spinoza Oeuvres complètes ، وفي في مجلد واحد من 1600 صفحة. •••
وقد راعينا في الترجمات التي اخترنا الإشارة إليها في هذا الكتاب، الجودة وسهولة حصول القارئ على نسخ منها. وهذه الشروط تتوافر في ترجمة إلويس
Elwes
الإنجليزية؛ لذلك كانت هي التي أشرنا إليها ... «صدد البحث اللاهوتي السياسي»، و«البحث السياسي» و«إصلاح العقل» أما في بقية مؤلفات اسپينوزا - ومنها ما هو غير موجود في هذه الترجمة الإنجليزية - فقد كانت إشاراتنا إلى الترجمة الفرنسية الحديثة التي صدرت عن دار «جاليمار
Gallmard ». (2) تطور تفكير اسپينوزا
ينبغي، قبل أن نختم هذا الفصل، أن نبحث بإيجاز فيما إذا كان تفكير اسپينوزا قد مر بمراحل متميزة في تطوره، أم أن هذا التطور كان تعميقا لفكره المتسق فحسب.
ففي رأي «فوير
Feuer » أن تفكير اسپينوزا قد مر بثلاث مراحل يمكن أن تعد متميزة: الأولى هي مرحلة الشباب التي اشترك فيها في جمعيات كانت دينية رسميا، ولكن كانت لها في ذلك الحين رسالة سياسية واجتماعية ثورية لا شك فيها، وعندما اقترب من سن الثلاثين، أخذ على هذه الجمعيات، ولا سيما «المينونية» عزلتها وسلبيتها، فبدأ يشترك علميا في سياسة بلاده، واحتل مكانه بين المدافعين عن النظام الجمهوري، وانتقل إلى لاهاي، وألف كتاب «البحث اللاهوتي السياسي » ليدافع عن النظام الجمهوري السائد، وبعد حوادث عام 1672م، التي قتل فيها الأخوان «دي ڨيت»، وهزم فيها النظام الجمهوري وعادت ملكية أسرة أورانج، أصبح يميل إلى التشاؤم، وضعفت ثقته بالديمقراطية واتجه تفكيره إلى محاولة إيجاد مكان للإنسان الحر في ظل أي نوع من أنواع الحكم.
15
وعلى العكس من ذلك يشير «ماكيون
Mkeon » إلى صعوبة القول بتطور تاريخي لتفكير اسپينوزا: إذ إن اسپينوزا كان يراجع مؤلفاته ويعدلها مرارا وعلى فترات زمنية طويلة، حتى كان الواحد منها يمتد سنوات طويلة في مرحلة الإعداد والتنقيح وحدها. كما أن تواريخ هذه المؤلفات تتداخل إلى حد يستحيل معه نسبة كل منها إلى فترة معينة. وهكذا يستنتج أن تطوره قد اتخذ شكل تعميق لأفكاره السابقة وليس إنكارا لها، وأنه كان في كل مرحلة جديدة يسير في نفس الاتجاه الأساسي، وإن يكن تفكيره يتخذ صورة مختلفة في كل حالة.
16
وهذا الرأي الأخير هو في رأينا الأصح؛ فرأي «فوير»، حتى لو صح، له نطاق محدود؛ إذ إنه لا يتعلق إلا بتطور التفكير السياسي لاسپينوزا. ورغم أن اهتمام «فوير» بالظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية في تفكير اسپينوزا اهتمام مشكور؛ لأن الكثيرين غيره من الكتاب قد أهملوها إلى حد مؤسف، فما زال تفكيره النظري والأخلاقي لا يجد مكانا في هذا الإطار الذي وضعه لتطوره الفكري، كما يلاحظ أن المرحلة الأولى، التي يتحدث عنها فوير، لم يظهر فيها إنتاج مميز لها، وبالتالي لا نستطيع أن نحكم على تفكير اسپينوزا فيها على نحو واضح.
ومن جهة أخرى؛ فقد لاحظنا من قبل أن تأليف كتاب «الأخلاق» قد عاصر حياة اسپينوزا الفكرية الناضجة كلها تقريبا، ولو تأملنا مجموعة رسائله لوجدنا في أول رسالة يكتبها اسپينوزا نفسه (الرسالة رقم 2 ردا على أولدنبرج ) تعريفات للجوهر والله والصفة
attribute
والحال
mode
تتفق مع آخر ما قاله اسپينوزا في هذه الموضوعات، ولوجدناه يتحدث فيها عن تدوين أفكاره بطريقة هندسية، وعن إرسالها إلى أولدنبرج ليفحصها، وكان ذلك منذ عام 1761م. فمن العسير في هذه الحالة التحدث عن تطور فكري بمعنى وجود مراحل متميزة في تفكيره. ومن الطبيعي أن نظرته السياسية إلى عصره قد تطورت بتطور الأحداث السياسية ذاتها، وفي هذا كان «فوير» محقا دون شك، غير أن موقفه الفلسفي العام، من حيث منهج التفكير واتجاهه إلى التحرر الذهني وتمجيده للإنسان ومعقوليته الكاملة ونزعاته العلمية الواضحة، كل هذه الصفات الرئيسية كانت ملازمة له من البداية إلى النهاية.
الفصل الثاني
دلالة المنهج الهندسي
لم يكن اسپينوزا أول من ربط بين المنهج الهندسي وبين الكتابة الفلسفية؛ فقد استخدم هذا المنهج جزئيا في العصور القديمة، في كتابات فورفوريوس وپرقلس
وكان طريقة شائعة للشرح والبرهان بين فلاسفة العصور الوسطى.
1
أما في عصر اسپينوزا ذاته فقد أدت نهضة العلوم الرياضية، ونجاحها الهائل في ميداني الفلك والفيزياء، إلى دعوة الكثير من المفكرين، مثل ديكارت وهبز، ثم ليبنتس فيما بعد، إلى الاقتداء بالدقة الرياضية في صياغة الأفكار الفلسفية، وإلى جعل الرياضة أنموذجا ومثلا أعلى للمعرفة البشرية في كافة ميادينها، وإذن فلم يكن اتباع اسپينوزا للمنهج الهندسي في كتابي «مبادئ الفلسفة الديكارتية» و«الأخلاق» بدعة ليست لها سوابق في تاريخ الفكر الفلسفي، ولكن الذي نود أن نثبته في هذا الفصل هو أن استخدام اسپينوزا لهذا المنهج في كتاباته كانت له دلالة خاصة تزيد على كونه مجرد اقتداء بمثل أعلى سائد في عصره.
ولا بد لأي بحث منظم عن الدلالة الحقيقية لهذا المنهج، أن يقدم إجابة على سؤال أساسي هو: هل كان المنهج الهندسي عند اسپينوزا أصيلا؛ أعني هل كان اسپينوزا مقتنعا بأن هذه هي الطريقة الطبيعية الملائمة للتعبير عن آرائه الفلسفية، بحيث تكون صورة تفكيره، كما قال «چويكم»، مرتبطة ارتباطا وثيقا بمادته،
2
أم أن المنهج لم يكن أصيلا، بمعنى أنه قد اصطنعه عمدا لتحقيق أغراض خاصة، أو لتجنب أضرار معينة كان يمكن أن يجلبها عليه التعبير المباشر؟ سنبدأ أولا بعرض الآراء المختلفة التي تساق لتأييد كل من هذين التفسيرين. (1) المنهج الهندسي بوصفه طريقة أصيلة للتعبير (أ)
أول تبرير لاستخدام هذا المنهج هو أنه أفضل وسيلة للتعبير عن الأفكار بدقة كاملة، وقد امتدح «لودڨيك ماير» المنهج الهندسي لهذا السبب في مقدمته التي صدر بها كتاب «مبادئ الفلسفة الديكارتية»؛ فهو أفضل طريقة للوصول إلى اليقين، وللتخلص من الخلط الذي اتسمت به الفلسفات السابقة. وهنا يعد اتباع اسپينوزا لهذا المنهج تحقيقا لأمنية سبق أن أعرب عنها ديكارت، ومهد لها الطريق بكشوفه الرياضية، وبمحاولته تطبيق منهج الرياضة على الفلسفة في «الرد على الاعتراض الثاني» (الملحق بكتاب «التأملات»). (ب)
ويقرب من ذلك القول بأن اسپينوزا أراد أن يتجنب الأسلوب البلاغي والإطناب الذي يرتبط عادة بالكتابة المسترسلة،
3
وأن يكتب على نحو يوصله مباشرة إلى الحقائق، ويضمن لقارئه أقل قدر ممكن من المؤثرات الانفعالية التي تبعد ذهنه عن الموضوع الحقيقي.
4 (ج)
وهناك رأي يربط ربطا قويا بين صورة تفكير اسپينوزا ومحتواه ويؤكد أن استخدام اسپينوزا للمنهج الهندسي لم يكن أمرا عارضا أو اختياريا، هو الرأي القائل إن المنهج الرياضي يستبعد الطريقة الغائية في التفكير، وأنه يتفق مع روح المعقولية والإيمان بالعلم السائدة في فلسفة اسپينوزا، ويتضمن دعوة إلى التفكير الدقيق واستبعاد الغائية والخيال المؤدي إلى التشبيه بالإنسان.
5
ويؤيد هذا الرأي اسپينوزا ذاته؛ إذ يقول في مقدمة كتاب «البحث السياسي»: «لقد اعتزمت، في خوضي موضوع السياسة، أن أبرهن بطريقة مؤكدة يقينية في الاستدلال ... على أكثر الأشياء اتفاقا مع الواقع الفعلي. ولكي أبحث موضوع هذا العالم بنفس حرية الروح التي نستخدمها عادة في الرياضيات؛ فقد بذلت كل جهدي حتى لا أسخر أو أنعى أو أغضب، بل لأفهم أفعال البشر. ولهذه الغاية نظرت إلى الانفعالات كالحب والكراهية والغضب والحسد والطموح والشفقة وغير ذلك مما يعكر صفو الذهن، لا على أنها رذائل في الطبيعة البشرية، بل على أنها خصائص مرتبطة بهذه الطبيعة، مثلما يرتبط الحر والبرد والعواصف والرعد وما شابه ذلك بطبيعة الجو، وهي كلها ظواهر، وإن تكن معكرة، فإنها مع ذلك ضرورية، ولها أسبابها الضرورية.»
6 (د)
ويربط «برنشڨك
Brunschwicg » بين المنهج الهندسي عند اسپينوزا وبين نظريته عن الحقيقة، فيقول: «إن الحقيقة عند اسپينوزا طابع كامن في الفكرة، والفكرة تتصف بالحقيقة لا لأنها تطابق شيئا خارجا عنها، وإنما لأنها كافية
adéquate ؛ أي لأنها فعل ذهني متكامل؛ فالفكرة لا تستمد قيمتها من عدد الأشياء التي تصدق عليها ... وكل معرفة تشكل على مثال الهندسة، بفضل تقدم الذهن الذي يضع ذاته في مواجهة ذاته، وينشر سلسلة الحقائق العقلية بفضل خصوبته الخاصة وحدها.»
7
فهنا يغدو المنهج الهندسي خير منهج يعبر عن أفكار فيلسوف يرى أن الحقيقة هي معيار ذاتها، وأن الفكرة الصحيحة تستمد صحتها من ذاتها، وذلك بطبيعة الحال تفسير مثالي متطرف لموقف اسپينوزا، توجد ضده شواهد لا تقل عن الشواهد المؤيدة له قوة، وربما كانت كفتها هي الأرجح. (ه)
وأخيرا، فإن «ڨندلبنت
Windelband » يربط بين المنهج الهندسي عند اسپينوزا، وبين رأيه في علاقة الله بالعالم. فاسپينوزا في رأيه، يتأثر بالفكرة الدينية القائلة إن الأشياء تصدر عن الماهية الإلهية الواحدة، ومثل هذه الفكرة «تقتضي منهجا للمعرفة الفلسفية تستمد في الآن نفسه من فكرة الله أفكار الأشياء جميعا؛ ففي الفلسفة الحقة ينبغي أن يكون نظام الأفكار هو ذاته النظام الفعلي للأشياء، ولكن هذا يستتبع وجوب النظر إلى العملية الفعلية التي تصدر بها الأشياء عن الله من خلال تشبيهها بالظهور المنطقي للنتيجة من أساسها (مقدمتها) أو سببها. وهكذا كانت طبيعة المنهج الذي حدده اسپينوزا للمشكلة الفلسفية تتضمن مقدما الطابع الميتافيزيقي لحلها.»
8
وفي موضع آخر يشرح «ڨندلبنت» الفكرة ذاتها شرحا أدق، فيقول: إن اسپينوزا لا يعترف بأن علاقة الله بالعالم علاقة خلق، وإنما يتلو العالم بالضرورة من طبيعة الله، مثلما يتلو من تعريف المثلث كون مجموع زواياه قائمتين؛ فالعلاقة إذن منطقية رياضية، أشبه بعلاقة المقدمة أو الأساس بالنتيجة، وهي كذلك لا زمانية، شأنها شأن الموضوعات الهندسية.
9
وهكذا فإن علاقة «الاستتباع» الرياضية بين الله والعالم هي التي تجعل استخدام المنهج الهندسي - في رأي ڨندلبنت - أمرا لا مفر منه في فلسفة كفلسفة اسپينوزا.
وهذا الرأي، كما هو واضح، يفترض مقدما قضايا معينة سوف نثبت، خلال البحث، خطأ البعض منها؛ فهو يفترض أن اسپينوزا في تحديده للعلاقة بين الله والعالم، متأثر بالأفكار الدينية، وفي هذا فهم غير صحيح لفكرة الله عند اسپينوزا. هذا فضلا عن أن القول إن علاقة الله بالأشياء أشبه بالعلاقة بين تعريف المثلث وبين خصائصه المختلفة، لا يستتبع بالضرورة أن «تعرض» هذه الأفكار ذاتها بالطريقة الهندسية، بل إن من الممكن أن تتخذ عملية «العرض» أي شكل آخر. (2) المنهج الهندسي بوصفه طريقة مصطنعة للتعبير
كان أصحاب الآراء السابقة جميعهم يؤكدون أن المنهج الهندسي أمر تحتمه فلسفة اسپينوزا، وأنه بوصفه شكلا للتعبير، يرتبط أوثق الارتباط بمحتوى الأفكار التي يعبر عنها.
وسنبحث الآن في التفسير الثاني، الذي ينظر فيه إلى المنهج الهندسي على أنه طريقة مصطنعة في التعبير، وبالتالي على أنه يستخدم، لا لإيضاح آراء اسپينوزا وإلقاء ضوء عليها، وإنما لإخفاء جوانب معينة، أو لإظهارها، في أعين فئة معينة من الناس، بمظهر مخالف لحقيقتها.
وأول ما ينبغي أن نبحثه في هذا الصدد، هو السؤال: هل كانت طريقة اسپينوزا في تدوين أفكاره تتفق مع طريقة ظهور هذه الأفكار؟ أعني هل تكونت أفكار اسپينوزا ذاتها على شكل قضايا وبراهين ونتائج، أم أنها تكونت بطريقة مسترسلة متصلة، ثم نظمها هو فيما بعد بالمنهج الهندسي، واتخذ من هذا المنهج طريقة لعرض هذه الأفكار؟ لا شك أن الاحتمال الثاني هو الصحيح؛ فلا بد أن الأفكار قد ظهرت أولا بالطريقة التي تظهر بها في جميع الأذهان، وبعد ذلك صاغها اسپينوزا في قالب هندسي، فالمنهج إذن يمثل خطة متعمدة في عرض الأفكار بتسلسل خاص قد يكون مخالفا تماما للتسلسل الذي ظهرت به في ذهن صاحبها، وبأسلوب مخالف للأسلوب الذي كان يمكن أن يعرضها به لو تركها تعبر عن ذاتها دون تغيير لمجراها الطبيعي.
هذه الحقيقة تؤدي بنا مباشرة إلى التفكير في الأسباب التي ربما كانت قد دفعته إلى اصطناع هذا المنهج وتعمده. أما القول بأن اسپينوزا قد استخدم هذا المنهج لتأكيد النظرة الرياضية إلى الأشياء، فهو، كما يقول ولفسون، قول غير دقيق؛ ذلك لأن النظرة الرياضية إلى موضوعات الفلسفة لا ترتبط بالضرورة بطريقة هندسية في التعبير أو العرض الأدبي. وكل ما تؤدي إليه النظرة الرياضية في الفلسفة هو إنكار غائية الطبيعة وحرية الإنسان. غير أن هذه أفكار لا تقتضي التعبير عنها بالصورة الهندسية وحدها، فليس من الصحيح أن الشكل الهندسي في التعبير هو وحده الملائم للمحتوى الرياضي في التفكير.
10
ومن الواجب أن نتذكر في هذا الصدد أن ما يصح على الهندسة لا ينبغي أن يصح على الفلسفة بالضرورة، فعندما يتبع ذلك المنهج في الرياضيات، يعرف كل رمز بدقة، ويستطيع الرياضي أن يتحكم في استدلاله بحيث لا يحدث أي تحريف في معاني الرموز أثناء عملياته الاستدلالية، أما عندما يستخدم في الفلسفة، فإن خطر التحريف يكون قائما على الدوام؛ إذ إن أداة الفلسفة هي اللغة المعتادة، ومن المحال أن تتصف عملية الاستنباط فيها - ولا سيما إذا سارت مراحل طويلة - بنفس الدقة التي تتصف بها في الرياضة. ولو حدث في إحدى حلقات هذه العملية أقل انحراف عن المعنى الدقيق للفظ ما، لازداد هذا الانحراف اتساعا كلما مضى الاستنباط شوطا أبعد، ولأصبحت النتائج النهائية غير موثوق بها على الإطلاق.
ولقد أخذ هيجل على اسپينوزا أنه لا يثبت، في البداية، الحقيقة المطلقة لأفكاره الأولى، وإنما يسلم بها فحسب. وهذا أمر إذا جاز في الهندسة فإنه لا يجوز في الفلسفة، «إذ ينبغي أن يعرف المضمون في الفلسفة على أنه ذو صحة مطلقة.»
11
ولكن الذي يحدث أن الكلمات وحدها هي التي تعرف، بوصفها ألفاظا. أما محتواها الفعلي فلا نعرف عنه شيئا،
12
ويضيف «ياسپرز» إلى هذا النقد عنصرا آخر هو أن التصورات الأساسية لدى اسپينوزا ليس لها طابع الوضوح الذي تتسم به التعريفات والبديهيات الهندسية،
13
وأخيرا فإن «أوبرڨك» يوجه إلى المنهج الهندسي النقدين السابقين، ويضيف إلى ذلك أن اسپينوزا، على عكس إقليدس، لم يكن متسقا مع نفسه في استخدام ألفاظه؛ إذ كان أحيانا يستخدم الألفاظ في أول الحجة بمعانيها المألوفة، ثم يستخدمها في آخرها بمعانيه هو الخاصة، ولا يصل إلى النتيجة التي يطلبها إلا بمثل هذا الخلط المنطقي.
14
فهل غابت هذه الحقائق كلها عن ذهن اسپينوزا؟ وهل بدأ كتابه في «الأخلاق» بوضع تعريفات مسلم بها، تتضمن في ذاتها كل النتائج التالية لمذهبه، دون أن يدري أنه يخالف بذلك أساس المنهج الهندسي كله لأنه افترض مقدما كل ما يطلب البرهنة عليه؟ إن معالم فلسفة اسپينوزا تتحدد كلها من تعريفاته الأولى للجوهر والصفة والله، فهل غابت عنه حقيقة المنهج الهندسي إلى هذا الحد، أم أنه كان يدرك ذلك، ولكنه استخدم «طريقة العرض الهندسية» لتحقيق أغراض أخرى «غير هندسية» كانت في ذهنه؟ وإذا كان هذا صحيحا، فما هي هذه الأغراض؟
إن «ولفسون» يعلل استخدام المنهج الهندسي بأنه راجع إلى وضوح هذا المنهج من حيث هو طريقة تعليمية، ومن حيث إنه أداة لنفع القارئ. وهكذا يقول: «لقد استخدم المنهج الهندسي دائما لنفع القارئ، وللوضوح الذي يمكن به عرض الحجة في هذا المنهج، لا لأن المذهب الفلسفي ذاته يقتضيه.»
15
ونحن نوافق على الشطر الثاني من هذا الرأي؛ لأن محتوى مذهب اسپينوزا في رأينا لا يقتضي حتما التعبير عنه بالمنهج الهندسي، ولكنا نرفض بكل قوة الشطر الأول، بل إنا لندهش من صدور مثل هذا الحكم الساذج من باحث مثل ولڨسون. وحسبنا أن نحتكم إلى الواقع نفسه، لنجده يكذب هذا الرأي؛ فهل شعر أي قارئ بأن المنهج الهندسي قد نفعه، أو يسر فهمه لاسپينوزا؟ إن الجميع، ومنهم معظم الشراح المحترفين، يشكون من تعقد كتابة اسپينوزا بهذا المنهج، الذي يقتضي من المرء تركيزا شديدا، ورجوعا دائما إلى قضايا وبراهين سابقة، حتى ليعجز الذهن في كثير من الأحيان عن تتبع الحجة، فمما لا شك فيه أن مهمة القارئ، نتيجة لهذا المنهج، تغدو أصعب بكثير مما لو كان الكتاب قد عرض بأسلوب مسترسل. ولكم يشعر المرء بالارتياح أثناء قراءته لكتاب الأخلاق، كلما صادف إحدى هذه «الملحوظات » الطويلة الرائعة التي يعرض فيها اسپينوزا أفكاره بطريقة مباشرة غير هندسية، وأستطيع أن أقول: إنني لم أجد كاتبا واحدا، من بين جميع من قرأت لهم، يقول: إن المنهج الهندسي يسر عليهم فهم اسپينوزا، فكيف يقول ولفسون، بعد هذا كله، إن المنهج الهندسي قد استخدم «لنفع القارئ»؟
إنني أعتقد، على العكس من ذلك، أن من الأغراض التي استخدم من أجلها هذا المنهج، التعقيد المتعمد على القارئ. وسأشرح فيما بعد ما أعنيه بذلك بالتفصيل، وأود هنا أن أورد شهادة فيلسوف معروف، انتهى إلى رأي مضاد تماما لرأي ولفسون في هذا الصدد، هو نيتشه؛ فهو يرى أن اسپينوزا قد استخدم هذا المنهج «ليبث الرعب على التو في قلب المهاجم الذي يجرؤ على إلقاء نظرة على تلك الفتاة المصونة، ربة الحكمة الأثينية ...»
16
أي إنه أراد أن يخيف القارئ بالتعقيد الشديد الذي تبتدئ به كتاباته؛ حتى لا يستطيع النفاذ إلى الأعماق الحقيقية لأفكاره وتوجيه النقد اللازم لها، فإذا كان نيتشه، وهو على الأقل قارئ ممتاز، قد حكم بأن اسپينوزا يرمي إلى تعجيز القارئ، ألا يكون للمرء أن يدهش لوصف ولفسون للمنهج الهندسي بأنه طريقة تهدف إلى الإيضاح وإلى نفع القارئ؟ (3) الغرض الحقيقي من المنهج الهندسي
لست أعتقد أن اسپينوزا قد استخدم المنهج الهندسي، كما قال أصحاب الفرض الأول، لأنه يرتبط ارتباطا ضروريا بمحتوى فلسفته كلها أو أجزاء منها، وإنما الأرجح في رأيي أن المنهج الهندسي كان طريقة مصطنعة في التعبير، أخذ بها اسپينوزا لأغراض معينة. فلما كانت الأفكار، كما قلنا، تظهر بطريقة غير هندسية، فإن في استطاعة الفيلسوف باستخدام هذا المنهج أن يرتب هذه الأفكار كما يشاء؛ فهو يضع الاستدلالات وفي ذهنه النتيجة مقدما. وهكذا يستطيع أن يتحكم في تسلسل هذه الاستدلالات وفي مراحلها الوسطى، ويعرضها بالترتيب الملائم للهدف الذي حدده في ذهنه.
أما ذلك الهدف فمن المحال، كما قلنا من قبل، أن يكون مساعدة القارئ على الفهم وإيضاح الأفكار له، بل إن التجربة الشخصية لكل قارئ كفيلة بإقناعه بأن الأمر على العكس من ذلك تماما. نحن إذن نوافق، بمعنى ما، على رأي نيتشه القائل إن ذلك المنهج كان يرمي إلى التعقيد على القارئ وإخفاء الآراء الحقيقية عليه - ولكنا لا نقبل تعميم الحكم السابق على هذا النحو، وإنما نعتقد أن من الواجب تخصيصه بحيث يكون هدف المنهج هو إخفاء الآراء الحقيقية على «فئة معينة» من القراء، فما هي هذه الفئة ، ولماذا أراد اسپينوزا أن يخفي عنها آراءه؟
في رأينا أن اسپينوزا تعمد أن يخفي آراءه عن تلك الفئة التي قد تكون خطرا على فلسفته؛ أعني القراء غير المستنيرين، المتمسكين بحرفية التقاليد الدينية، فاسپينوزا أراد أن يضع ستارا بين تعاليمه وبين ذهن القارئ المتعصب ذي النفوذ، الذي قد يستطيع الإضرار به في الأوساط الدينية أو السياسية. أما القارئ اليقظ المستنير، الذي يستطيع أن ينفذ إلى مقاصده الحقيقية، ويكون لديه من الجلد ودقة التفكير ما يمكنه من تتبع الخيوط المتشابكة المتداخلة لحججه؛ فهو القارئ الذي يرحب به اسپينوزا، والذي حاول، بطريقته الخاصة المعقدة، أن يكشف له عن سره الحقيقي.
وهناك وسيلتان يمكن بهما إخفاء الآراء في المنهج الهندسي: (أ)
الوسيلة الأولى هي مجرد استخدام طريقة القضايا والبراهين والنتائج ... إلخ. فبهذه الوسيلة يستطيع الفيلسوف أن ينتقل بالقارئ تدريجيا، وربما دون أن يدرك القارئ ذلك بوضوح، إلى إثبات أعقد قضاياه دون أن يتعرض لخطر التصريح بهذه الآراء بطريقة مباشرة؛ فهو مثلا يستطيع أن يوزع فكرته بين قضايا متناثرة، ثم يحيل القارئ إلى هذه القضايا التي تفصل بينها صفحات عديدة، وعن طريق التأليف بين كل هذا يصل القارئ - إذا استطاع - إلى الفكرة التي يريدها اسپينوزا، دون أن يضطر هو إلى عرض هذه الفكرة بطريق مباشر قد يكون فيه خطر عليه. (ب)
الوسيلة الثانية، والأهم في نظرنا، هي «طريقة المعادلات» التي يتيحها المنهج الهندسي، أو الرياضي بوجه عام. فعالم الرياضة مثلا يستخدم رمزا مألوفا لديه، مثل «س»، ليدل به على أعقد الأفكار الرياضية. وقد يستخدم هذا الرمز ليدل على عدد هائل فيقول: س = 17
10 ، أو على عدد سلبي فيقول: س = −1 أو على عدد أصم فيقول: س = ، وهو في كل هذه الحالات يستخدم الرمز س - بعد أن يكون قد أوضح معناه - بكل سهولة ويسر، مع أننا لو حاولنا أن نضع القيمة الحقيقية لهذا الرمز في كل حالة لغدا هذا في نظرنا أمرا عظيم التعقيد أو مستحيلا في بعض الأحيان.
ويبدو أن اسپينوزا قد حرص على أن يستفيد من هذه الصفة في المنهج الرياضي إلى أقصى حد ممكن؛ ففي المعادلات الرياضية، على ما يبدو، طرف مألوف، هو الرمز، الذي تستطيع أن تفهمه بأي معنى تشاء، ثم طرف آخر هو الدلالة الحقيقية لهذا الرمز، وهي دلالة كثيرا ما تكون عظيمة التعقيد، وبتطبيق «طريقة المعادلات» هذه في الفلسفة، وجد اسپينوزا الحل الذي ينشده، والذي يكفل له عرض أجرأ الآراء وأبعدها عن المألوف في عصره، على نحو ينأى بها عن أفهام العامة، أما الخاصة الذين سيصلون إلى فهمها، فهؤلاء لا خطر منهم على الإطلاق.
ذلك لأن الطرف المقابل للرمز الرياضي س في معادلة مثل س =
هو لغة الفلسفة التقليدية، والطرف المقابل للجذر الأصم هو تعريفات اسپينوزا الخاصة لهذه اللغة. الطرف الأول هو اللغة المدرسية واللاهوتية التقليدية، وهي لغة مألوفة مأمونة يكفي أن يستخدمها المرء في كتابته ليعتقد الناس أنه يتمشى تماما مع تراثهم ويكمله. والطرف الثاني هو المعاني الثورية الجديدة، التي خلت تماما من جميع العناصر الأسطورية، والتي كان يحتشد بها ذهن اسپينوزا المفرط في معقوليته. والحل في نظر اسپينوزا هو أن يضع الطرفين معا في معادلة واحدة، كما يفعل علماء الرياضة، وينبع القارئ إلى هذه المعادلة في البداية؛ فهو يقول أولا: إن س =
ثم يظل يستخدم بعد ذلك الرمز البريء، المألوف، المأمون س، بعد أن نبهك إلى معناه الحقيقي لديه، وبعد ذلك يستطيع أن يطمئن إلى أن القارئ الذكي سوف يستحضر في ذهنه دائما المعنى المعقد
كلما صادف أمامه س. أما القارئ الساذج الذي يجيء منه الخطر الحقيقي، فسرعان ما ينسى ذلك، ويعتقد، كلما شاهد س، أنها نفس الحرف البريء المظهر الذي يألفه في عالمه المعتاد ، وبذلك يكون اسپينوزا قد حقق هدفين مزدوجين: أولهما ألا يصل إلى معانيه إلا القادرون ذهنيا على بلوغها، وثانيهما أن يقدم أفكاره إلى السذج في صورة ترضي أذهانهم الضعيفة ولا تنطوي على تحد أو استفزاز لمشاعرهم.
وأول دليل على هذا التفسير لدلالة المنهج الهندسي، هو ما يعترف به الجميع من أن اسپينوزا كان يستخدم المصطلحات التقليدية بمعان جديدة؛ فمن المؤلفين القدماء نجد «بيل
Bayle » يقول في قاموسه: «إذا كان المرء يعجز عن فهم ما يعنيه، فذلك بلا شك لأنه أضفى على الألفاظ معنى جديدا كل الجدة، دون أن ينبه قارئه إليه» (والجزء الأخير باطل قطعا). كذلك قال الشاعر الألماني الكبير جيته (وكان من أكبر المعجبين باسپينوزا) إن كل شخص يستطيع أن يفهم من كتابات اسپينوزا غير ما يفهم الآخر، وأخيرا يقول شوپنهور: «لقد ارتكب اسپينوزا، على العموم، هذا الخطأ الكبير، وهو أنه تعمد إساءة استخدام الألفاظ للدلالة على تصورات تشير إليها في العالم كله أسماء أخرى، وبذلك نزع عنها المعنى الذي ينسبه إليها الجميع.
17
على أن هذه المعاني الجديدة لم تكن اعتباطية تماما، كما اعتقد هؤلاء المفكرون، وإنما كان اسپينوزا يعدها أكثر اتساقا مع طبيعة الألفاظ والتعبيرات التي يعرفها، فاستخدام هذا المنهج يحقق في رأيه هدفين؛ إذ يعطي لآرائه الثورية مظهرا بريئا، ويؤدي في الوقت ذاته إلى تفسير أكثر اتساقا للمشاكل التقليدية التي أخطأ فهمها القدماء.
وفي ضوء هذا التفسير للمنهج الهندسي، نستطيع أن نقول إن المنهج، بهذا المعنى، لا يقتصر على كتاب «الأخلاق» وحده. حقا إن هذا الكتاب - من بين كتب اسپينوزا الناضجة - هو وحده الذي ألف في صورة قضايا مبرهن عليها هندسيا، غير أن اسپينوزا يستخدم في المؤلفات الأخرى بدورها «طريقة المعادلات»، بمعنى أنه يأتي بتعريفات جديدة لألفاظ مألوفة ويعتمد على قدرة ذهن القارئ على تتبع هذه المعاني على الدوام. وسنضرب لذلك أمثلة قليلة من كتاب «البحث اللاهوتي السياسي».
فلنتأمل مثلا تعريفا كهذا: «أعني بمعونة الله، النظام الثابت المحدد للطبيعة، أو سلسلة الحوادث الطبيعية ... بحيث إن القول بأن كل شيء يحدث وفقا لقوانين طبيعية، والقول إن كل شيء يحدث بأمر الله، يعنيان نفس الشيء ... وهكذا فإن كل ما تستطيع الطبيعة البشرية أن تزود به نفسها بجهودها الخاصة في سبيل حفظ وجودها، يصح أن يطلق عليه اسم العون الإلهي الباطن، بينما أن كل ما يعود على الإنسان بالنفع بفعل أسباب خارجية يمكن أن يسمى بالعون الإلهي الظاهر.»
18
وفي موضع آخر يعرف اسپينوزا الأمر الإلهي، والإرادة والعناية الإلهية، بأنها نظام الطبيعة كما يتلو بالضرورة من قوانينها الأزلية.
19
ويعرف اسپينوزا الطاعة الإلهية بأنها حسن معاملة الناس فحسب، ثم يعرف الإيمان بعد ذلك بأنه «معرفة لله بدونها تستحيل طاعته ويتضمنها فعل الطاعة هذا وحده.»
20
والنتيجة الواضحة هي أن الإيمان يغدو في هذه الحالة معادلا للمعاملة الطيبة للناس فحسب.
في هذه الحالات السابقة - التي يحفل ذلك الكتاب بأمثالها - يستخدم اسپينوزا «طريقة المعادلات»، دون أن يكون قد استخدم المنهج الهندسي صراحة. وهو يضع معادلات غاية في الخطورة، يأتي فيها بألفاظ تقليدية مثل الأمر الإلهي، والمعونة الإلهية، والعناية الإلهية، وبتعريفات جديدة تتفق تماما مع الروح العلمية ومع المعقولية. وهو يمضي بعد ذلك في استخدام هذه الألفاظ والتعبيرات التقليدية، بعد أن نبه القارئ اليقظ إلى ما يقصده منها، ولكن كم من قراء اسپينوزا يتبع تعاليمه هذه؟ وكم منهم يبعث في ذهن كلمة «القانون الطبيعي» كلما صادف لدى اسپينوزا لفظ «الأمر الإلهي أو العناية الإلهية» مثلا؟ وكم منهم يتذكر القيمة الحقيقية للرموز المألوفة التي يستخدمها في كتاباته؟
إن القليلين جدا ممن كتبوا عن اسپينوزا هم الذين تنبهوا إلى وجود هذه المحاولة لإخفاء آرائه الحقيقية في كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» ومن هؤلاء القليلين سنذكر اثنين: (أ)
فمنهم «ماثيو أرنولد» الذي يقول: «إن أي قارئ ذكي لا يستطيع أن يقرأ البحث اللاهوتي السياسي دون ... أن يحس بأنه يفتقر، بمعنى ما، إلى أساس وبأنه في حاجة إلى دعائم، وبأن هذا الأساس وهذه الدعائم لا توجد، على أية حال، في الكتاب نفسه، ومن الواجب، إن كان لها وجود، أن تلتمس في الكتابات الأخرى للمؤلف.»
21 (ب)
ومنهم «ليوشتراوس» الذي يقول عن اسپينوزا: إنه كان في ذلك الكتاب «حذرا بمعنى أنه لم يذكر الحقيقة كلها بوضوح وصراحة، بل أبقى عباراته، بقدر إمكانه، في الحدود التي تفرضها تلك المطالب التي عدها مطالب مشروعة لمجتمعه.»
22
ثم يضع القاعدة الآتية: «إن القاعدة السليمة لقراء «البحث اللاهوتي السياسي» هي أنه، في حالة التناقض، ينبغي أن ينظر إلى الرأي الأشد تضادا مع ما يعتقد اسپينوزا أنه هو رأي العامة، على أنه هو المعبر عن رأيه الصحيح ... فاتباع هذه القاعدة في القراءة هو الوسيلة الوحيدة التي تمكننا من فهم تفكير اسپينوزا كما كان يعنيه تماما، ومن تجنب خطر الانخداع بأساليبه الاسترضائية
his accommodations ».
23
وفي رأينا أنه إذا كان اسپينوزا قد تعمد هذا الإخفاء في البحث اللاهوتي السياسي، فقد كانت وسيلته إلى ذلك هي اتباع «طريقة المعادلات» التي أشرنا إليها، والتي يمكن، بشيء من التوسع، أن تعد بدورها تعبيرا عن المنهج الهندسي.
فالمنهج الهندسي إذن أوسع نطاقا مما يبدو لأول وهلة، وهو في جميع مؤلفات اسپينوزا (كما ذكرنا في المقدمة) يمثل اختبارا نفسيا لقدرة الذهن على التخلص من الارتباطات التقليدية للألفاظ إذا طلب إليه ذلك. وإذا حكمنا على الأمر من عدد الذين رسبوا في هذا الاختبار - ومنهم عدد ضخم من كبار المفسرين والفلاسفة المحترفين - فلا بد أن المعاني التقليدية للألفاظ ترسخ فيها، لا سيما إذا كانت كالألفاظ اللاهوتية مشحونة بارتباطات نفسية قوية، إلى حد تضطر معه هذه الأذهان إلى الرجوع إليها رغما عنها مهما طلب إليها أن تستبدل بها غيرها. •••
ولكن هذا التفسير الذي نقول به للمنهج الهندسي يحتاج إلى دعامة أخرى بدونها ينهار فرضنا هذا من أساسه. فلماذا كان اسپينوزا حذرا وما هي مظاهر هذا الحذر عنده؟ للإجابة على هذا السؤال ينبغي أن نرجع إلى مؤلفات اسپينوزا ذاتها، وإلى ظروف حياته وعصره، لنستخلص منها أسباب الحذر ومظاهره، وسوف نأتي في القسم التالي بالشواهد الكفيلة بإثبات هذا الرأي على نحو قاطع. (4) أسباب حذر اسپينوزا ومظاهره
كان حذر الكتاب من نتائج آرائهم الجريئة في القرن السابع عشر حقيقة واقعة، وصحيح أن اسپينوزا قد عاش فترة من حياته في ظل جمهورية مستنيرة هي جمهورية «دي ڨيت»، غير أن القوى التي كانت تقاوم اتجاه التسامح هذا كانت عديدة؛ فقد كانت هناك الأوساط الدينية المتعصبة من جهة، والدوائر السياسية الاستبدادية التي تشجع في سبيل الوصول إلى مآربها أشد الحركات الدينية رجعية، وأشد الاتجاهات الاجتماعية ظلما. وبالفعل أحرزت هذه السياسة الرجعية انتصارها الحاسم الذي قتلت فيه «دي ڨيت» وشقيقه ومثلت بهما وعاد التعصب وضيق الأفق ظافرا من جديده، على يد أسرة أورانج. فإذا كنا نجد من الكتاب من يقول: إن اسپينوزا كان فيلسوف النظام الجمهوري في عهد «دي ڨيت»، فذلك في الواقع لم يكن تملقا منه أو رغبة في مسايرة الحكم، وإنما كان دفاعا عن تلك الفترة القصيرة من الحرية الفكرية، أو على الأصح عن قدرته على إعلان آرائه دون التعرض لخطر شديد.
ومع ذلك فقد كانت الأخطار موجودة وشديدة، حتى أثناء العهد الجمهوري، وكل ما في الأمر هو أن الحاكم، في هذه الحالة الأخيرة، كان يتولى بنفسه ضد الهجمات عن المفكرين الأحرار. والحق أننا ما زلنا في القرن العشرين نجد مجتمعات كثيرة تعد آراء كتلك التي أبداها اسپينوزا أخطر من أن يسمح بنشرها، فما بالك بالقرن السابع عشر، وفي تلك الظروف الخاصة التي عاش فيها اسپينوزا؟
لقد كان مصدر الاضطهاد في عهد اسپينوزا مزدوجا؛ فبالإضافة إلى خطر الحكام والسلطات الدينية الرسمية، كان هناك خطر الطائفة اليهودية التي طردته من بين صفوفها وحرمت كتبه. وعندما وجدت هذه الطائفة أنه لم يرجع عن موقفه منها، وأنه ظل يتحداها بتفكيره المتحرر، حاولت أن تستعدي عليه السلطات المدنية من جهة والسلطات الدينية المسيحية من جهة أخرى. وكانت هذه الطائفة، كما سنرى فيما بعد، تعتقد أن آراءه هذه تهدد كيانها بأسره، وربما جلبت عليها نقمة المجتمع المسيحي الذي تعيش هي أقلية فيه. وهكذا كانت أسرع إلى التبرؤ منه وإلى تحذير السلطات من آرائه حتى لا يلحقها الضرر من انتسابه إليها.
وإذن فقد كان موقف اسپينوزا حرجا يدعوه إلى الحذر إلى أقصى حد؛ فهو أولا قد طرد من طائفته بسبب ما قيل من مروقه وخروجه على الدين؛ أي إن الشبهات كانت تحوم حوله منذ البداية. وهو ثانيا قد أعرب بالفعل فيما بعد عن آراء جريئة إلى أقصى حد، ولا سيما في «البحث اللاهوتي السياسي» الذي كانت جرأته فيه تفوق إلى حد لا يتصور أكثر الآراء تحررا في عصره، وهو ثالثا قد شعر بالفعل ببوادر الاضطهاد تحل عليه، فكان من الطبيعي أن يأخذ في التأهب لها.
ولقد أورد «فرويدنتال» أكثر من خمسين وثيقة من كنائس مسيحية ويهودية، ومن جهات مدنية وسياسية، ومن معاهد علمية وجامعية، تندد كلها بكتب اسپينوزا ولا سيما «البحث اللاهوتي السياسي»، وتحرم ذلك الكتاب أو تحكم على صاحبه رسميا بالمروق،
24
كما قال بيل
Bayle
في مقاله المشهور عن اسپينوزا في قاموسه أن اسم «الاسپينوزيين» أصبح يطلق على «من ليس لهم دين، ولا يعبئون كثيرا بإخفاء ذلك.» بل إن «كوليروس»، مؤرخ حياة اسپينوزا، قد حمل عليه بشدة لأنه لم يعرف عن الله إلا الاسم فقط، ويفهمه بطريقة لم يعرفها أحد من المسيحيين حتى ذلك الحين - ويتساءل كوليروس: «أليس هذا أخطر إلحاد عرفه العالم؟ إن هذا هو ما حدا بالسيد «پورمانوس
Burmannus »، راعي كنيسة الإصلاح في «انكهوسه
Enkhuise » إلى أن يسمي اسپينوزا، عن حق أفجر زنديق عرفه العالم.» ويعدد كوليروس بعد ذلك النقاد الذين ألفوا كتبا في تفنيد آراء اسپينوزا، ومنهم الفلاسفة ورجال الدين والأساتذة، بل والتجار أحيانا، وهي كتب تتسم كلها بأنها تستعدي عليه سلطة الإيمان أكثر مما تناقشه على نفس المستوى العقلي الذي كان يتحدث منه.
ويبدو أن تهمة «الاسپينوزية» أصبحت في ذلك العصر تلقى جزافا على كل رأي يراد قمعه أو كل شخص يراد التنكيل به أو كل انحراف عن النظام السائد سواء في الدين أو السياسة، وسواء أكان الانحراف يرمي إلى الهدم أم إلى البناء - وواضح أن «للاسپينوزية»، في هذه الناحية، مقابلا يناظرها في عصرنا هذا إلى حد بعيد! وهكذا وصل الأمر إلى حد أن الكتاب كانوا يتبارون في انتقاد مذهب اسپينوزا وسب صاحبه، تملقا منهم للسلطات المسيطرة. أما إذا اشتبه في أن مفكرا معينا كان يعطف على اسپينوزا؛ فقد كان هذا المفكر يسارع إلى تفنيد اسپينوزا والحملة عليه علنا، ويتخذ من ذلك وسيلة لتبرئة نفسه أمام الرأي العام، وأمام السلطات الدينية والمدنية، وهكذا يقول فريدمان: «إنه ليس من المبالغة أن نقول: إن الجو العقلي في ذلك العصر كان له تأثير مثبط، بل مفسد للعقول وكان يزيف العملية الفكرية ذاتها لدى الكثير من هذه العقول.»
25
ولقد سبق أن أشرنا من قبل إلى تأثير شهرة اسپينوزا هذه بالمروق في كثير ممن اتصلوا به، ولا سيما ليبنتس؛ فقد حرص ليبنتس بقدر استطاعته على أن يخفي كل أثر لارتباط اسمه باسم اسپينوزا، ولم يذكر عن مقابلاته لاسپينوزا سوى أنها كانت عرضية تناولت موضوعات عامة، مع أن ليبنتس كان من أحرص الناس على الاطلاع على كل ما كتبه اسپينوزا، فضلا عن أنه ناقشه فيها مناقشات مستفيضة أثناء زيارته له في هولندا.
وهكذا كان الجو في ذلك العصر يحتم على الكاتب إما أن يتمشى مع الآراء السائدة أو أن يكون حذرا في كتابته، ويضع قناعا على شخصيته الحقيقية. وقد اختار ليبنتس الطريق الأول، أما اسپينوزا فقد اختار الطريق الثاني، وآثر أن يستمر في طريق التحرر الفكري، معا محاولته، بقدر الإمكان، ألا يعرض نفسه لسخط السلطات المسيطرة في عصره. وسنرى فيما بعد إلى أي حد نجحت هذه المحاولة.
فلننتقل الآن، بعد بحث أسباب الحذر، إلى ضرب أمثلة لمظاهر هذا الحذر عند اسپينوزا، ومن الطبيعي أن الجزء الأكبر من هذه الأمثلة سوف يستمد من رسائله؛ إذ إنها هي التي تكشف، أكثر من غيرها، عن موقفه الشخصي من المشاكل التي واجهها، على حين أن مؤلفاته ذاتها كانت تبتعد عن النواحي الشخصية من حياته قدر الإمكان. ويمكن القول بوجه عام، إن رسائل اسپينوزا تمثل كلها دليلا واحدا متصلا على أن الحذر كان حقيقة أساسية في حياته، وعلى أنه كان يرى في الآخرين «خطرا دائما»، فلم يفصح لهم عن سريرته أبدا.
26 (أ)
وأول ما يطرأ على الذهن هنا، من مظاهر الحذر، هو طبيعة الحال إخفاء اسپينوزا لاسمه في كتاباته؛ فالكتاب الوحيد الذي ظهر باسمه خلال حياته هو «مبادئ الفلسفة الديكارتية»، وهو أيضا الكتاب الوحيد الذي لا يتضمن آراءه الفلسفية الخاصة، ومع ذلك فإن اسپينوزا كان يرمي من نشر ذلك الكتاب إلى تنبيه الحكام إلى مكانته الفلسفية، لعل واحدا منهم يضمن له بعد ذلك نشر آرائه الأخرى دون خوف؛ فهو يقول في رسالته رقم 13: «ربما كشف هذا الكتاب عن وجود أشخاص ذوي مكانة رفيعة في بلادي، يرغبون في الاطلاع على مؤلفاتي الأخرى التي أعرض فيها آرائي الخاصة، وربما عملوا ما من شأنه أن يمكنني من نشرها دون خطر. ولو حدث ذلك، فلن أتوانى بالطبع عن نشر البعض منها، وإلا فسوف ألزم الصمت بدلا من أن أفرض آرائي على مواطني وأكتسب عداوتهم.» وقد سبق أن تحدثنا عن نشره «البحث اللاهوتي السياسي» بغير اسمه، وكتابة اسم ناشر آخر في مدينة أخرى على غلاف الكتاب، وعندما نشرت مؤلفاته المخلفة، حرص أصدقاؤه على أن يحذفوا أسماء مراسليه إذا كانوا هولنديين معاصرين، حتى لا يتعرضوا للخطر. (ب)
ولقد دارت بين اسپينوزا وبين «أولدنبرج» مراسلات طويلة يلح عليه فيها هذا الأخير على نشر كتبه، ويلزم الأول الحذر لأنه يعرف خطورتها أكثر مما يعرف ذلك أولدنبرج. وتكرر هذا الإلحاح، وهذا الرفض الحذر، مرات عديدة:
ففي الرسالة رقم 3 يطلب أولدنبرج إلى اسپينوزا أن يجيبه إجابة واضحة على أسئلة معينة حول فكرة الجوهر والله ... إلخ، ويلح عليه أن يقتنع «بأن جميع الشروح التي ستتفضل بها علي ستظل في طي الكتمان لئلا يؤدي إفشائي لها إلى إفسادها أو إلى الإضرار بك.» ويبدو أن أولدنبرج يحاول في هذه الرسالة كسب ثقة اسپينوزا بالحديث عن جماعته العلمية التي تفسر الأشياء كلها تفسيرا ميكانيكيا، «دون حاجة إلى الالتجاء إلى الصور غير المفهومة والكيفيات الخفية، وهي الملجأ الهين للجهلاء.»
ويفضي اسپينوزا إلى أولدنبرج في الرسالة رقم 6 ببعض مشروعاته ، فيقول: «لقد ألفت في هذا الموضوع [العلة الأولى] وفي تطهير الذهن مؤلفا كاملا، وأنا أعمل الآن على تدوينه وتنقيحه. ولكني أترك هذا المؤلف أحيانا؛ إذ لم أتخذ بعد قرارا بشأن نشره؛ فأنا أخشى فعلا أن يصدم رجال اللاهوت في زمننا هذا، وأن يهاجموني بطريقتهم الكريهة، وأنا على ما تعلم من خوف المشاحنات.» وفي الرسالة ذاتها يطلب إليه أن ينبئه بالنقاط التي قد تغضب مثل هؤلاء الناس، إذ إنه «... لا يقول بذلك الانفصال بين الله والطبيعة، الذي قال به الكتاب الآخرون، على قدر علمي بهم؛ ولهذا أطلب رأيك» ... فيرد عليه أولدنبرج في الرسالة السابعة ملحا عليه أن ينشر كل ما كتبه، ويدعوه إلى أن يتجاهل ذوي الأفق الضيق: «فلتطرح جانبا يا سيدي كل خوف من إغضاب جهلاء عصرنا؛ فقد طال امتداح الناس للجهل والحمق أكثر مما ينبغي.»
وفي الرسالة 14 يعاود أولدنبرج إلحاحه على اسپينوزا، فيقول: «اسمح لي أن أعرب لك أيضا عن أسفي لرفضك نشر المؤلفات التي تعترف بأنها تنتسب إليك في بلد فيه من الحرية ما يتيح للمرء أن يفكر ويعبر عن أفكاره كما يشاء، ولكم كنت أود أن تتحرر من هذه المخاوف لا سيما وفي إمكانك أن تحذف «اسمك، فتكون بذلك بمنأى عن كل خطر».»
ويتكرر إلحاح أولدنبرج في الرسالة رقم 31؛ إذ يقول: «لم التردد يا صديقي؟! ومم تخاف؟! جرب وابدأ وقم بهذا العمل الهام، وستجد أصوات الفلاسفة جميعا ترتفع لحمايتك ... إن الشك لا يساورني أبدا في وجود شيء في ذهنك يهدد بالخطر وجود الله والعناية الإلهية؛ وطالما أن هذه الدعامة قد حفظت، فسيكون الدين مرتكزا على أساس متين، وسوف يتسنى الدفاع عن جميع الأفكار الفلسفية أو تبريرها، فلتكف إذن عن التباطؤ ولا تقطع جهودك.»
ويبدو أن اسپينوزا قد أحسن الظن وقتا ما بالجو السائد في عصره، أو أنه خضع لهذا الإلحاح ولغيره، فحاول أن ينشر كتاب «الأخلاق» بالفعل؛ إذ يقول لأولدنبرج في الرسالة رقم 68: «إنه كان يعتزم الذهاب إلى أمستردام لتسليم الكتاب إلى الطابع، ثم بلغه أن هناك شائعات قوية تتردد بأنه سيطبع كتابا يثبت فيه عدم وجود إله، وانتهز رجال الدين هذه الفرصة فقدموا ضده شكاوى إلى الحكام والأمراء، بل إن أنصار ديكارت أنفسهم لم يخفوا كراهيتهم له. وهكذا قرر إرجاء النشر حتى يرى ما تسفر عنه الحوادث.» (ج)
وحينما علم اسپينوزا أن شخصا سيترجم كتابه «البحث اللاهوتي السياسي» إلى اللغة الهولندية، سأل صديقه «يلس
Jelles » في الرسالة رقم 44، عن صحة هذا الخبر، وألح عليه أن يحول دون ذلك إذا استطاع؛ إذ إن الكتاب سيمنع من التداول حتما إذا ما نشر بالهولندية. (د)
وتحفل رسائل اسپينوزا بالشواهد على أنه لم يشأ أن يطلع أحدا على كتاباته إلا من كان في رأيه قادرا على فهمها فهما صحيحا؛ ففي الرسالة رقم 70 يحدثه صديقه «شولر» عن صديق ثالث لهما هو «تشيرنهاوز» سأله العالم الهولندي الكبير «هويجنز
Huygens » إن كانت لدى مؤلف البحث اللاهوتي السياسي كتب أخرى، فرد تشيرنهاوز بأنه لا يعرف إلا «مبادئ الفلسفة الديكارتية»، ويقول صاحب الرسالة بعد ذلك: «إن تشيرنهاوز لم يضف إلى ذلك شيئا عنك، وهو يأمل ألا يكون في هذا ما يكدرك». وفي الرسالة ذاتها يبلغه أن تشيرنهاوز يرى في ليبنتس أهلا للاطلاع على مؤلفات اسپينوزا «بشرط أن توافق أنت على ذلك ... أما إذا لم توافق، فلا تخش شيئا؛ إذ إنه سيحتفظ بكتاباتك التي لم يذكر عنها شيئا حتى الآن.»
وهكذا يبدو أن اسپينوزا قد نقل الحذر إلى أصدقائه وتلاميذه، وأنه كان يطلب إليهم أن يستشيروه أولا قبل نقل آرائه إلى أي شخص، ومن الواضح أنه كان يودع لديهم نسخا، وربما أجزاء، خطية من قضايا كتاب الأخلاق، وألا يسمح لهم بأن يطلعوا عليها أحدا إلا بعد موافقته؛ إذ إن هويجنز قد اطلع، كما رأينا، على البحث اللاهوتي، كما أن «مبادئ الفلسفة الديكارتية» كان منشورا باسم اسپينوزا. فلا بد أن إشارة تشيرنهاوز إلى المؤلفات الأخرى كانت تعني نسخة خطية تامة أو ناقصة من «الأخلاق». (ه)
وأخيرا، فليس أدل على أن الحذر كان حقيقة واقعة في حياة اسپينوزا، من أنه قد نقش على خاتمه كلمة «حذار!» باللاتينية (
Caute ) وجعل من هذه الكلمة شعارا له في حياته. (4-1) عودة إلى المنهج الهندسي
هذه الشواهد السابقة كلها تقطع بأن مشكلة التفرقة بين المعنى الظاهر، والمعنى الفعلي الباطن لكتابات اسپينوزا كانت مشكلة حقيقية، وأن المرء لا يستطيع أن يفهم فلسفته حق الفهم إذا تغاضى عن هذه الفكرة الهامة، فكرة وجود «قناع» أو «سر » في فلسفة اسپينوزا. وفي رأينا أن الدلالة الكبرى للمنهج الهندسي هي أنه يتيح للكاتب مثل هذا القناع الذي يخفى سره الحقيقي.
وحين نقول ذلك لا نعني أن هذا هو الغرض الوحيد من استخدام المنهج الهندسي؛ فقد صرح اسپينوزا نفسه بأنه أراد أن يستخدم هذا المنهج ليستبعد من تفكيره كل عامل شخصي، ولكي يبحث في انفعالات البشر بنفس الموضوعية التي يبحث بها عالم الهندسة في النقط والخطوط والسطوح. ونحن لا ننكر هذا الهدف على الإطلاق، ولكننا نعتقد في الوقت ذاته أن المنهج الهندسي، إذا ما نظر إليه في ضوء ظروف اسپينوزا التي أشرنا إلينا من قبل، يغدو في يده وسيلة لإخفاء آرائه الحقيقية عن القراء السطحيين، بحيث لا يتوصل إليها إلا المدققون، الذين يكون لديهم من العمق العقلي ما لا يجعلهم خطرا عليه.
ولقد توسعنا من قبل في فهم المنهج الهندسي، من حيث إنه يلجأ إلى طريقة المعادلات، وقلنا إنه بهذا المعنى يمكن أن يعد مطبقا في مؤلفات اسپينوزا، ولا سيما «البحث اللاهوتي السياسي»، ولكن الأمر الذي لا شك فيه أن أكمل وأدق تطبيق له كان في كتاب «الأخلاق»، الذي استخدم فيه الأسلوب الهندسي من جهة، و«طريقة المعادلات» من جهة أخرى، بكل براعة.
وما دام المنهج الهندسي في رأينا وسيلة للحذر، وما دام مطبقا على أكمل وجه ممكن في كتاب «الأخلاق». فلا بد أن هذا الكتاب هو أشد كتب اسپينوزا حذرا، وأبعدها عن التعبير، بطريقة مباشرة، عن آراء اسپينوزا. وهذا الرأي مناقض تماما لرأي «فريدمان»، الذي يقول فيه: إن اسپينوزا كان يحتاط في «البحث اللاهوتي»، بينما لم يكن يحتاط أبدا في كتاب «الأخلاق»: «الذي أماط فيه اللثام، دون مواربة، عن جوهر تفكيره.»
27
ونحن نعترف بأن اسپينوزا كان حذرا في كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» بقدر ما استخدم فيه «طريقة المعادلات»، كما ذكرنا من قبل ولكن لا جدال في أنه، مع حذره هذا، لم يتمكن من إخفاء آرائه؛ إذ إن هذا الكتاب كان هو السبب فيما لحقه من اضطهاد، بينما كتاب «الأخلاق » لم ينشر في حياته على الإطلاق، وسنرى فيما بعد أمثلة عديدة لآراء أبداها اسپينوزا في هذا الكتاب وكان أقلها كفيلا باستعداء السلطات الدينية عليه.
ونستطيع أن نقول إن التجربة المريرة التي عاناها اسپينوزا من «البحث اللاهوتي» قد أقنعته بأن حذره في هذا المجال غير كاف. وهكذا قرر أن يتمسك بطريقة العرض الهندسية. وكان الوقت أمامه فسيحا؛ فقد رأينا كيف أن كتاب «الأخلاق» قد عاصره طيلة حياته الناضجة كلها تقريبا. وقد كان الجزء الأكبر منه تاما في 1665م، وعندما ظهر «البحث اللاهوتي السياسي» في 1670م، ظلت أمامه سبع سنوات كاملة حتى وفاته عام 1677م، لا عمل له فيها (بالإضافة إلى الرسائل القصيرة التي لم يتمها في السياسة وإصلاح العقل) إلا صقل هذا الكتاب وزيادة إحكامه، ومن الطبيعي أنه كان يستفيد خلال ذلك بالتجارب التي اكتسبها من رد الفعل على «البحث اللاهوتي»، ويستخدم طريقة العرض الهندسية في توزيع أفكاره بين أجزائه المختلفة وعرضها على النحو الذي يضمن له أكبر قدر من السلامة الشخصية، ولو لم نفترض ذلك لكان اسپينوزا قد ظل طوال السنوات السبع الأخيرة من حياته خاملا تقريبا. فكيف إذن يقال على كتاب صيغ بمثل هذه الطريقة المصطنعة، ومر بكل مراحل الصقل هذه، أنه تعبير «مباشر» عن آراء صاحبه؟ (5) هل كان اسپينوزا يفتقر إلى الشجاعة والإخلاص في تعبيره؟
من أقوى الاعتراضات التي توجه إلى القول بوجود معان خفية لآراء اسپينوزا تكمن من وراء تعبيراتها الظاهرة - وهو القول الذي يرتكز عليه تفسيرنا لدلالة المنهج الهندسي - أن ذلك معناه أن اسپينوزا كان مخادعا بمعنى ما؛ لأنه لم يصرح مباشرة بما في ذهنه. وهذا أمر يتنافى مع ما عرف عنه من شجاعة عقلية.
ويستنكر «سليڨان
Sullivan » هذا الافتراض بشدة قائلا: «إن مثل هذه النظرة الپرجماتية إلى كلمات اسپينوزا بعيدة عن مزاجه العقلي ونزاهته الذهنية إلى حد يكاد يجعلها مستحيلة التصديق.»
28
ويقول في موضع آخر: «لم يبلغ التهور بأحد، فيما أعلم، حدا يجعله يعد هذا اليهودي الطريد مفتقرا إلى الإخلاص، إن من الممكن وصفه بأنه كتوم. وقد كان كذلك بالفعل عادة، ولكنه عندما كان يصرح بما في ذهنه كان قطعا يعني ما يقول.»
29
ويعبر «موريس كوهين» عن الفكرة ذاتها حين يصف اسپينوزا بأنه «غير هياب
fearless »، ويصف القول بأنه عبر عن آرائه الجريئة بلغة دينية لكي يبعد عن نفسه الأذى الشخصي بأنه قول «ممتنع إلى حد يبعث على الرثاء
pathetically absurd ».
30
ومن هذين المثلين نرى أن الاعتراضات التي يمكن أن توجه إلى التفسير الذي نقدمه ها هنا تنحصر في القول بأن هذا التفسير يؤدي إلى القول بأن اسپينوزا كان يفتقر إلى الشجاعة من جهة، وإلى الإخلاص من جهة أخرى، وهما صفتان تؤكد لنا أبسط دراسة لحياته وشخصيته أن نصيبه منها كان أكبر من نصيب معظم كبار المفكرين من معاصريه. (أ)
ولكي نرد على النقطة الأولى، ينبغي أن نرجع إلى مفهوم الشجاعة عند اسپينوزا ذاته لنجد فيه الجواب.
فتعريفه للشجاعة هو: «أعني بالشجاعة
animositas
الرغبة التي يسعى بها كل إنسان إلى حفظ وجوده وفقا لما يمليه العقل فحسب.»
31
هذا التعريف قد يكون مخالفا تماما للتعريفات الشائعة التي لا تذكر شيئا عن حفظ الوجود، ولا عما يمليه العقل. غير أن تضمن تعريف اسپينوزا لهذين العنصرين يدلنا على طريقته الخاصة في فهم الشجاعة؛ فهو يعد نفسه شجاعا حين يسعى إلى حفظ وجوده، لا خوفا على نفسه، وإنما لن ذلك هو ما يمليه عليه العقل. ومعنى ذلك أن التهور، والتضحية المقصودة لذاتها دون أن يكون من ورائها فائدة لأحد، ولا نصرة لمبدأ ما، ليست في رأيه من الشجاعة في شيء، وطالما أنه صاحب هدف يريد أن يعبر عنه تعبيرا كاملا، فلا قيمة للبطولة الزائفة إذا لم يكن من ورائها انتصار لهذا الهدف أو نشر له، وإذا كانت نتيجتها الوحيدة هي الإضرار به، باسم الشجاعة، على نحو يقضي على الإمكانيات الهائلة لتفكيره.
ولنتأمل ما يقوله اسپينوزا في هذا الصدد في موضع آخر من كتاب «الأخلاق»: «إن فضيلة الرجل الحر تتمثل في توقيه للأخطار بقدر ما تتمثل في تغلبه عليها.»
32
وفي البرهان على هذه القضية يقول: «إن قهر التهور يقتضي من الفضيلة أو العزم ما لا يقل عما يقتضيه قهر الخوف.» وفي نتيجة لهذه النظرية ذاتها يقول: «إن الرجل الحر يبدي من الشجاعة إذا انسحب في الوقت المناسب بقدر ما يبديه إذا أقدم على النضال؛ أي إن الرجل الحر يبدي نفس القدر من الشجاعة أو حضور الذهن، سواء اختار أن يقبل على المعركة أم أن يدبر عنها.»
هذه النظريات والبراهين والنتائج السابقة مرتبطة أوثق الارتباط بتاريخ حياة اسپينوزا، وهي تعبير منه عن تجربته الخاصة في هذه الحياة ومبادئه التي طبقها فيها. ومن القرائن القوية التي تدل على ارتباطها بحياته أنه تحدث في النظريات التي تلي السابقة مباشرة عن علاقة الإنسان الحر بالجهلاء إذا ما عاش بينهم، وهو تسلسل لا يبرره إلا الارتباط بين فهمه لشجاعة الإنسان الحر، التي تتمثل في توقي الخطر مثلما تتمثل في التغلب عليه، وبين الظروف التي يعيش فيها هذا الإنسان الحر وسط جهلاء، وهي نفس الظروف التي عاش فيها اسپينوزا.
ويتحدد الطرف الثاني في مشكلة اسپينوزا من القضية التي ترد بعد ذلك بقليل، والتي يقول فيها: «إن الإنسان الحر لا يغش أبدا، بل يسلك دائما سلوكا أمينا.»
33
وهكذا تصبح المشكلة الكبرى عنده هي: كيف يوفق الإنسان الحر بين السلوك الأمين، وبين وقاية نفسه وسط الجهلاء، وهي الوقاية التي قد تكون، كما رأينا، مظهرا من مظاهر الشجاعة؟ إن الإجابة على هذا السؤال موجودة في كتابات اسپينوزا ذاتها؛ ففي أول قاعدة مؤقتة وضعها اسپينوزا في كتاب «إصلاح العقل» ليسترشد بها في سلوكه خلال بحثه عن الغاية القصوى للإنسان، يقول بالمبدأ التالي: «التحدث بلغة تقرب إلى أفهام عامة الناس، وعمل كل ما من شأنه ألا يعوقنا عن بلوغ غايتنا ... وعلى هذا النحو نكسب جمهورا يستقبل الحقيقة استقبالا وديا.»
34
على هذا النحو إذن يكون التوفيق بين الغايتين: نقل أفكاره إلى القراء، وعدم استفزاز مشاعرهم، ولا سيما العامة والجهلاء؛ فالمنهج الذي يتبعه هو من جهة، منهج، «التحدث بلغة قريبة من أفهام العامة» - وقد استخدم اسپينوزا من الاصطلاحات والعبارات التقليدية ما يفي بهذا الغرض، ولكنه، من جهة أخرى، يشترط «عمل كل ما من شأنه ألا يعوقنا عن بلوغ غايتنا»؛ أي إنه يقبل مثل هذا التحوط والإخفاء، على ألا يكون ذلك على حساب الحقيقة كما يفهمها؛ فهو يريد أن يعبر عن هذه الحقيقة كاملة، ولكن على النحو الذي يضمن عدم استفزاز العامة، وليس في هذا، بالنسبة إلى الظروف التي عاش فيها اسپينوزا، أي افتقار إلى الشجاعة.
ولقد وجد من المفسرين بالفعل من ينظر إلى مظاهر الحذر والتحوط هذه على أنها مظاهر للجبن، ولقي هذا التفسير ترحيبا شديدا في الأوساط النازية؛ إذ نجد في هذه الأوساط كاتبا مثل «جرونسكي» يعدد مظاهر «الجبن» عند اسپينوزا، وضمنها قاعدة التحوط السابقة، وكذلك امتناعه عن نشر مؤلفاته باسمه ... إلخ. ليجد في هذه كلها أدلة على نفاق اسپينوزا وجبنه،
35
ومثل هذا التفسير، بطبيعة الحال، يتغاضى تماما، من جهة، عن طبيعة العصر الذي عاش فيه اسپينوزا، وهو عصر لم تكن قد اختفت فيه تماما مظالم محاكم التفتيش وتعصب العصور الوسطى وضيق أفقها، ويغفل من جهة أخرى جرأة آراء اسپينوزا الحقيقية، التي بلغت حدا بجعلها لا تقارن حتى بأكثر الآراء تقدمية في ذلك العصر، وربما لم تبدأ نظائرها في الظهور إلا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وفي أشد المجتمعات تحررا فحسب. وفضلا عن ذلك، فإن أصحاب هذا الرأي يغفلون الأمر الواقع، وهو أن اسپينوزا قد اتهم فعلا، رغم كل حرصه، بالمروق والخروج على الدين، ولطخت سمعته إلى أبعد حد، حتى أثناء حياته، ولو كان الجبن من خصاله لسحب آراءه هذه على التو. وأخيرا فإن صاحب هذا النقد يتجاهل تصرف مفكر «چرماني» أصيل، هو ليبنتس، حين حرص على إخفاء كل أثر لاتصاله باسپينوزا وتصرف معظم أعضاء المجامع العلمية الألمانية في ذلك الحين، حين كان كل منهم يجعل من تجريح اسپينوزا والطعن فيه وسيلة لتملق السلطات الحاكمة، أو لدفع الشبهات عن نفسه. (ب)
أما الاعتراض الثاني، وهو القائل بأن من المستحيل ألا يكون اسپينوزا مخادعا غير مخلص في عرضه لأفكاره. فالرد عليه، كما هي الحال في الرد على الاعتراض السابق، هو أن نؤكد أن استخدام اسپينوزا المنهج الهندسي وسيلة لإخفاء آرائه عن فئة معينة من الناس، لا يعني على الإطلاق أنه كان مخادعا أو غير مخلص.
ذلك لأن هناك طريقتين مختلفتين في إخفاء الآراء: إحداهما أن يكتب المفكر ليرضي سلطات أو جهات معينة، أو ليجني لنفسه نفعا خاصا، وفي هذه الحالة يحذف تماما ما هو جريء من أفكاره، أو يكتب فلسفتين، إحداهما ليعبر بها عن نفسه والأخرى ليتملق بها السلطات. وهذا هو النوع الذي ينطوي على خداع، وهو ينطبق، إلى حد ما، على ليبنتس.
والنوع الثاني، الذي يتمثل لدى اسپينوزا، هو ذلك الذي يحرص فيه المفكر على إخفاء آرائه عن فئة معينة من الناس، دون أن يضحي بأي من هذه الآراء أو يحذف شيئا منها وليس في هذا النوع أي خداع أو افتقار إلى الإخلاص. فرغم كل ما يتميز به اسپينوزا من حذر شديد، فإنه لم يخف أية فكرة من أفكاره، ولم يكتب إلا ما كان يؤمن به، ولكنه كان يكتب ذلك «بطريقة» حذرة. فجميع أفكاره الجريئة موجودة دون أن يحذف منها شيء، وكل ما على القارئ هو أن ينقب عنها.
ولم تقتصر أمانة اسپينوزا الفكرية على ذلك، بل إنه أعطى القارئ المفتاح الكفيل بإرشاده إلى آرائه الحقيقية؛ فقد قدم إلى هذا القارئ تعريفات لألفاظ وعبارات تقليدية - لا خطر منها - بمعان ثورية جديدة كل الجدة، وذكر له، من جهة أخرى، أن منهجه هندسي؛ أي إنه ينتظر من القارئ أن يتقيد بهذه التعريفات ويستبدل دائما بالرموز قيمها الفعلية كما حددها له. فإذا عاد بعض القراء فأرجعوا ألفاظه، مرة أخرى، إلى معانيها الشائعة، وإذا أهملوا استخدام تعريفات لأنها، مثلا، بعيدة عن الموضع الذي وردت فيه لأول مرة، أو لأنهم نسوا هذه التعريفات، أو لأن المعاني التقليدية الراسخة لهذه الألفاظ والتعبيرات قد فرضت نفسها عليهم وانزلقت إلى أذهانهم دون أن يشعروا، فلن يكون الخطأ في هذه الحالة خطأ اسپينوزا، وإنما خطأ هؤلاء القراء، ولا يحق لأي شخص، في هذه الحالة، أن يتهمه بالخداع والافتقار إلى الإخلاص.
وإذن، فاسپينوزا، إذا صح تفسيرنا لمنهجه، بريء تماما من تهمة تعمد الخداع، وكل ما نستطيع أن نقوله عنه هو أنه كان حذرا، ولقد كان له في هذا الحذر كل العذر. ولكنه لم يهادن أحدا على الإطلاق أو يساومه على أفكاره، وظل متمسكا بهذه الأفكار من البداية إلى النهاية، وأرشدنا، فضلا عن ذلك كله، إلى الطريق الصحيح لفهمه. ومع ذلك فما أقل أولئك الذين عرفوا كيف يسلكون هذا الطريق، ويطبقون «معادلاته» الفكرية على نحو شامل متسق! وما أكثر الذين رسبوا في امتحانه النفساني الشاق: امتحان قدرة القارئ على التخلص من ارتباطات غير دقيقة لألفاظ وتعبيرات معينة، وعلى فهمها بالمعاني الصحيحة المتسقة التي طلب إلينا صراحة أن نفهمها بها! (6) تعريفات لبعض مصطلحات اسپينوزا
إذا تأملنا فلسفة اسپينوزا من خلال منهجها الهندسي كما فسرناه في هذا الفصل، لوجدنا أن التعريف الصحيح لمصطلحاتها ينبغي أن يستغرق الجانب الأكبر من أي عرض لهذه الفلسفة، بل إن بعض أوجه هذه الفلسفة لا تعدو أن تكون إيضاحا للمعاني الاسپينوزية الخاصة لمصطلحات مألوفة مثل الجوهر أو الله أو الطبيعة، والحرية والضرورة، والأزلية، والتقوى والخير، والكمال والواقع ... إلخ. فخير عرض وأكمل شرح لهذه الفلسفة هو ذلك الذي يركز اهتمامه في تحديد معاني هذه الألفاظ. وهكذا فإن مشكلة التعريف بالمصطلحات هي، بمعنى معين، مشكلة عرض فلسفة اسپينوزا بأسرها.
ومع ذلك فلا مفر من أن نبدأ بإيضاح موجز لبعض المصطلحات الرئيسية التي يستخدمها اسپينوزا، على أن يعد هذا العرض مجرد نقطة بداية تمكن القارئ من تتبع هذا البحث، الذي لن تكون فصوله التالية إلا إسهابا لهذه التعريفات. فلا بد للقارئ من تعريف مبدئي مؤقت يستعين به على خوض المشاكل المعقدة التي ينطوي عليها تحديد اسپينوزا بدقة.
ولقد ذكرنا في الفصل السابق أن اسپينوزا تعمد استخدام المصطلح الفلسفي التقليدي، كما شاع في العصور الوسطى على الأخص؛ لكي يضفي على فلسفته طابعا متحفظا أو ملائما لمقتضيات العصر، ولكنه في الوقت نفسه وضع لهذه المصطلحات معاني ثورية سابقة لعصره إلى حد بعيد. ومهمتنا في هذا المدخل الذي نقدمه الآن هي أن نعرض بعض هذه المصطلحات التقليدية، ونشير من بعيد إلى المعاني التي وضعها لها اسپينوزا، على أن يذكر القارئ دائما - كما قلنا من قبل - إن بقية هذا البحث لن يكون إلا تعميقا لمعاني هذه المصطلحات. •••
وأول مسألة ينبغي أن نبحثها في هذا الصدد، هي طبيعة التعريف عند اسپينوزا. وسوف نسترشد في بحث هذه المسألة بآراء اسپينوزا ذاته كما عرضها في الرسالة رقم 9 (إلى سيمون دي فريس). ففي هذه الرسالة يفرق اسپينوزا بين نوعين من التعريف: «تعريف ينطبق على موضوع لا نبحث إلا عن ماهيته، التي تكون هي وحدها موضوع التساؤل، وتعريف يقترح للبحث فقط»؛ فالأول هو تعريف الأشياء الحقيقية الموجودة بالفعل، وهي الأشياء التي نريد معرفة ماهيتها، ومثل هذا النوع من التعريف يحتاج دائما إلى برهان. أما النوع الثاني من التعريف فهو فرضي استنباطي يقترحه الباحث ولا يشترط فيه إلا الاتساق، وهو على هذا الأساس لا يحتاج إلى برهان؛ إذ إنه ليس إلا وسيلة لاستنباط حقائق أخرى فيما بعد، ولجعل البحث التالي ممكنا، ويضرب اسپينوزا لذلك مثلا بالفرق بين وصف معبد سليمان، وبين وصف معبد يتصوره الشخص أو يضع تصميمه في ذهنه؛ ففي هذه الحالة الأخيرة لا يمكن الاعتراض على أي تعريف لهذا المعبد بأنه باطل.
ويرى اسپينوزا أن تعريفاته التي أتى بها للجوهر والصفة ... إلخ. هي تعريفات من النوع الثاني؛ ولذا لم يكن ينبغي أن يطلب لها برهان، وإنما يكفي أن تكون متسقة. وهذا أمر يرتبط - كما هو واضح - بطبيعة الموضوعات التي تتناولها هذه التعريفات؛ إذ إن هذه موضوعات ميتافيزيقية وليست «أشياء» واقعية. ومع ذلك فإن الكثيرين غيره قد عالجوا هذه الموضوعات كما لو كانت واقعية، ولهذا الاختلاف بطبيعة الحال تأثيره الكبير في الموقف الفلسفي العام لكل من الطرفين. (1)
الجوهر: «أعني بالجوهر ما يوجد في ذاته، ويتصور بذاته؛ أي ما لا نحتاج في تكوين تصور له إلى تصور أي شيء آخر .»
36
هذا التعريف هو امتداد منطقي للتعريف التقليدي المألوف، ولا سيما لدى ديكارت، ومع ذلك فإن اسپينوزا يستخلص النتيجة المحتومة لهذا التعريف، وهي النتيجة التي لم يستخلصها ديكارت ذاته، فيقول: إن الجوهر بهذا المعنى لا يمكن إلا أن يكون واحدا، أو على الأصح أنه لا وجود إلا لجوهر واحد لا يخرج عنه شيء. وهذا هو المجال الجديد الذي أدخل فيه اسپينوزا هذه الفكرة التقليدية، وهو كما سنرى فيما بعد مجال له نتائج فلسفية عظيمة الأهمية.
والجوهر بهذا المعنى لا بد أن يكون لا متناهيا. وقد انتقد اسپينوزا بالتفصيل في رسالة رقم 12 إلى «لودڨيك ماير» فكرة الجوهر المتناهي أو المنقسم، مؤكدا أن المعنى الوحيد المتسق مع ذاته لفكرة الجوهر هو ذلك المعنى الذي ترتبط فيه باللانهائية ارتباطا وثيقا. ومن الممكن أن يعد تأكيد فكرة اللانهائية هنا تأكيدا، في الوقت ذاته، لقدم الجوهر، بمعنى أنه غير مخلوق؛ إذ لو كان الجوهر متناهيا أو جزئيا لوجب حتما السؤال عن أساسه أو أصله أو السبب في وجوده، وهو سؤال يستبعده اسپينوزا منذ البداية.»
كما أن الجوهر بهذا المعنى أزلي، وتعريف اسپينوزا للأزلية
aeternitas
هو: «أعني بالأزلية الوجود ذاته، بقدر ما يتصور على أنه يتلو بالضرورة من مجرد تعريف ما هو أزلي.»
37
وهو في الشرح يجعل من هذا الوجود مرادفا للحقيقة الأزلية، التي لا يمكن تصورها من خلال فكرة المدة أو الاستمرار أو الزمان وهكذا يعمل اسپينوزا منذ البداية على فصل الأزلية عن الزمان، وتصبح هي أزلية الماهية؛ أعني أزلية الضرورة المنطقية؛ فهي الوجود الأزلي للشيء كما يتلو «بالضرورة» من تعريفه. وهذه الأزلية بعيدة كل البعد عن المعاني الشائعة، ولا سيما المعاني ذات الارتباطات الدينية، لهذا اللفظ؛ إذ إن هذه المعاني الأخيرة ترتبط بفكرة الزمان والمدة رغما عنها. أما أزلية اسپينوزا فهي أزلية الضرورة المنطقية فحسب.
وفضلا عن ذلك فهذا الجوهر موجود بالضرورة؛ أي إن «وجود ينتمي إلى طبيعة الجوهر»،
38
ومعنى انتماء الوجود إلى طبيعة الجوهر أنه لم يلحق به بفضل شيء خارج عنه، وأنه ليس شيئا اكتسبه الجوهر من الخارج؛ أي إن الجوهر ليس مخلوقا.
39
ولكي يعبر اسپينوزا عن فكرة الوجود الضروري غير المخلوق هذه، يستخدم فكرة «علة ذاته
Cause sui »؛ فالجوهر الواحد الشامل هو علة ذاته، بمعنى أنه «ما تنطوي فيه الماهية على الوجود؛ أي بعبارة أخرى: ما لا تتصور طبيعته إلا موجودة،
40
وسوف نتناول فكرة «علة ذاته» هذه بالتفصيل فيما بعد، وحسبنا أن نشير هنا إلى دلالتها على فكرة الوجود الضروري، غير المخلوق، للجوهر الواحد، الذي يمكن أن يفهم على أنه يعني الله أو الطبيعة. (2)
الصفة
attribute : «أعني بالصفة ما يدركه العقل في الجوهر مكونا لماهيته.»
41
ومثل هذا التعريف كان ينبغي أن يسبقه تعريف آخر للفظ «الماهية»، طالما أن اسپينوزا هنا بصدد تحديد معان دقيقة لكل لفظ من ألفاظه. ولكنا لا نهتدي إلى تعريف كهذا إلا في بداية الجزء الثاني من «الأخلاق»، حين يقول: «أعني بما ينتمي إلى ماهية الشيء، ذلك الذي إذا وجد، وجد الشيء أيضا بالضرورة، وإذا غاب، غاب الشيء أيضا بالضرورة، أو بعبارة أخرى: ذلك الذي لا يوجد الشيء ولا يتصور بدونه، ولا يوجد هو ذاته ولا يتصور بدون الشيء.»
42
فالصفة بهذا المعنى هي الجوهر ذاته، كما يتكشف للمعرفة، أو كما يفكر العقل في طبيعته. وهذا الجوهر يتكشف لنا، في رأي اسپينوزا، على وجهين: وجه مادي ووجه ذهني؛ أي إننا نعرف من الجوهر صفتين: الفكر والامتداد، ولكن ذلك لا يمنع، في رأيه، من وجود عدد لا متناه من الصفات الأخرى للجوهر، لا تصل إليها المعرفة، وحين نتحدث هنا عن المعرفة أو العقل، فليس المقصود هو القول بأي نوع من أنواع النسبة إلى ذهننا نحن، وإنما المقصود هو أن الصفة هي الجوهر كما ينظر إليه من خلال الإدراك العقلي بما هو كذلك. أما القول بأن اسپينوزا يقصد هنا نوعا من الإشارة إلى ذهننا نحن، فهو، كما قال «هاليت»، قراءة لاسپينوزا من خلال التطورات المثالية التي كان متحررا منها تماما؛ إذ ليست الصفة هي الجوهر كما ينسب إلى العقل البشري أو حتى الإلهي، وهي ليست «مظهرا» يرجع إلى نسبة عقلنا، وإنما هي الجوهر ذاته، كما يدركه العقل كلما بحثه.»
43
ويبنى هذا التعريف لصفات الجوهر على القول بأن صفتي الجوهر، كما يدركهما العقل، ليستا مجالين منفصلين «ينقسم إليهما» الجوهر؛ فالجوهر، من حيث هو يشمل الوجود بأسره، لا يتضمن مجالين منفصلين يقف كل منهما إلى جوار الآخر، وكأن الامتداد جزء من الجوهر والفكر جزء آخر منه، وإنما تنتظم كل من هاتين الصفتين الجوهر بأسره، كل تبعا لنوعها الخاص. وهذا هو تفسير عبارة «لا متناه من حيث نوعه» التي يستخدمها اسپينوزا لبيان طبيعة الصفة؛ فصفة الامتداد لا نهائية، وتشمل كل خصائص الامتداد، بل هي تشمل الجوهر كله أو الكون بأسره، منظورا إليه على أنه كائن ممتد، وكذلك الحال في الفكر، الذي لا يشغل مجالا خاصا من الكون «إلى جانب» الامتداد، وإنما هو ذاته الكون كله، منظورا إليه من خلال صفة الفكر. وبعبارة أخرى فالواقع كله، وكذلك كل جزء منه، يتصف بالصفتين معا. ولهذه الفكرة كما سنرى فيما بعد، أهميتها الكبرى في حل مشكلة علاقة الجسم بالنفس، والمادية والروحية عند اسپينوزا.
ولا بأس في هذا الصدد من أن نختبر رأيا طريفا في معنى لفظ «الصفة» وموقعه في فلسفة اسپينوزا، هو رأي «ميرز
Myers »؛ فهو يفسر تعدد صفات الجوهر بأنه يعني تعدد النظم أو النسق
systems
التي تنظر بها إلى الواقع، ويقول: «لقد بين اسپينوزا أن من الممكن وجود عدد لا محدود من النسق (وهي نقطة يزيدها نمو المعرفة تأكيدا)، كما بين أن كلا من هذه النسق يمكن أن يكون فريدا من نوعه
sui generis ؛ أي نسقا صحيحا، لا ينطوي على تناقض داخلي ، ويكون لا متناهيا في نوعه.»
44
وفي موضع آخر يقول: «... إن أفضل طريقة لفهم معنى الصفات عند اسپينوزا هي أن ننظر إليها في ضوء المنظورات (أو النسق) اللامتناهية للموضوع الميتافيزيقي.»
45
وإلى هنا يكون هذا التفسير سليما ومقبولا، ولكنه يمضي بعد ذلك إلى القول بأنه «في الوقت الذي تم فيه كتاب «الأخلاق»، لم يكن من الممكن أن تكون لأية واقعة أو موقف معين سوى دلالتين ممكنتين فحسب؛ أعني من حيث هي فكرة، ومن حيث هي تمثل شيئا ممتدا. أما اليوم فإن هذه الواقعة أو هذا الموقف يغدو له من الدلالات بقدر ما توجد من السياقات المنهجية التي يمكن أن يكون جزءا منها، ولا شك في أن عدد هذه السياقات يتجه، نظريا، إن لم يكن عمليا، إلى اللانهائية.»
46
وهكذا يربط المؤلف اقتصار اسپينوزا على نسقين أو منظورين فقط (هما الفكر والامتداد) وبين حالة العلم في عصره، حين كانت للرياضة والفيزياء أهمية كبرى، بينما كانت بقية العلوم في مهدها أو لم تكشف بعد. وهو يرى أن كل علم آخر وصل بعد ذلك إلى مرحلة التقدم، كالاجتماع والكيمياء والأنثروبولوجيا وعلم الحياة ... إلخ. يمكن أن يعد نسقا أو منظورا ينضم إلى المنظورين الممكنين اللذين قال بهما اسپينوزا. (وبهذا يكون اسپينوزا قد توقع على الأقل إمكان كشف منظورات أخرى، حين قال إن صفات الجوهر لا متناهية، وإن لم نكن نعرف منها إلا اثنتين.)
وهذا التفسير في رأينا فيه قدر غير قليل من الإسراف؛ ذلك لأن الفكر والامتداد لا يقاسان بأية منظورات أخرى، كالمنظور الكيميائي أو البيولوجي مثلا، وإنما هما في مجال التجريد حدان نهائيان لا يقف إلى جانبهما شيء؛ أي إن ظواهر الكيمياء أو البيولوجيا مثلا يمكن، في نهاية الأمر، أن ترد إما إلى الفكر أو إلى الامتداد أو، على الأصح، إليهما معا مع فارق في درجة التأكيد. وكشف أي مجال علمي جديد لا يعني أننا نعرف الجوهر أو الكون، من خلال هذا المجال، عن طريق صفة أخرى تقف على قدم المساواة مع صفتي الامتداد والفكر ويكون لها قدر ما لهما من العمومية والتجريد؛ وعلى ذلك يمكن القول، بمعنى معين: إن قول اسپينوزا باقتصار المعرفة على صفتي الفكر والامتداد هو قول مستقل عن حالة العلم في أي عصر، لأنه يتعلق بتلك الصفات التي يمكن أن يرد إليها، آخر الأمر، أي وجه أو منظور آخر يكشف للواقع. (3)
الأحوال
modes : «أعني بالحال ما يطرأ على الجوهر، أو ما يوجد في شيء غير ذاته ويتصور بشيء غير ذاته.»
47
فأحوال الجوهر هي مكونات الكون أو محتوياته الجزئية، وأهم ما تتصف به هو اعتمادها على غيرها لكي توجد وتتصور. فهي لا تتصف بالضرورة وجودا ولا تصورا. وهي على هذا النحو تتمثل في الأشياء الفردية التي يحفل بها عالم التجربة، وهي رغم كونها «ما يطرأ على الجوهر»، ورغم كونها تفتقر إلى الضرورة، موجودات لا شك في حقيقتها، ولا يمكن أن تعد مظاهر خادعة أو زائلة، كما أنها ليست تشويها للجوهر أو تزييفا له، كما وصفت الأشياء الجزئية في كثير من المذاهب المثالية التالية، وإنما تقوم بغيرها وتفهم بغيرها، بحيث إن أي تفسير لها لا يمكن أن يكون كافيا إذا ما نظر إليها من خلال ذاتها، ولا بد أن تربط بالسياق العام الذي تنتمي إليه، والذي يتصف هو وحده بالضرورة المطلقة.
هذه هي المصطلحات الرئيسية الثلاثة التي يستخدمها اسپينوزا بتوسع، والتي ينبغي الإلمام بتعريف عام لها قبل خوض تفاصيل فلسفته. ومع ذلك ففي فلسفته دون شك عشرات المصطلحات الأخرى، وكلها ذات أهمية، ولكن الأفضل ترك هذه المصطلحات الأخرى لتشرح في سياقها من هذه الفلسفة، أما هذه المصطلحات الرئيسية التمهيدية التي شرحناها فقد تضلل القارئ إذا ما تركت دون إيضاح مبدئي؛ ولذا اقتصرنا عليها في هذا الباب.
الفصل الثالث
الاتجاه العلمي عند اسپينوزا
كان ديكارت عالما ورياضيا بقدر ما كان فيلسوفا، ولكنه رغم كشوفه الأصيلة الهامة في هذه الميادين كان، في اتجاهه الفلسفي العام، أبعد عن الروح العلمية الأصيلة من اسپينوزا، وإن لم يكن هذا الأخير قد ترك لنا كشفا واحدا هاما في ميدان العلم بمعناه الدقيق؛ فديكارت كان لا يزال يقيد تفكيره الفلسفي بكثير من قيود العصور الوسطى، وكان يؤمن - أو هكذا على الأقل كتب - بأن كل تفسير فلسفي للأشياء ينبغي أن يرتد آخر الأمر إلى نوع من الإيمان بقدرة فوق الطبيعية هي وحدها التي تضمن للذهن ثقته بنفسه وبما يعرفه، وتعصمه من الشك مهما كان طاغيا. أما اسپينوزا فقد تخلص تماما من هذه الآثار الباقية من روح العصور الوسطى، وكان يؤمن بأن قدرة العقل البشري غير محدودة، وبذلك أزال كل عقبة ممكنة تحول دون اقتحام العقل لجميع ميادين المعرفة.
ومع ذلك فإن عددا لا يستهان به من المفسرين يضع للنزعة العلمية عند اسپينوزا، بدوره، حدودا، ويؤكد أنها اقترنت لديه بنزعة صوفية لا تقل عنها قوة. ويلخص «ألكسندر» هذا الاتجاه بقوله إن المتصوف، في شخص اسپينوزا، قد امتزج برجل العلم امتزاجا وثيقا،
1
وتعليل مثل هذه الثنائية في فهم فلسفة اسپينوزا أمر يسير إلى أبعد حد في ضوء تفسيرنا الخاص لمنهجه؛ ذلك لأنه، كما قلنا، يتعمد استخدام المصطلح التقليدي المدرسي الذي توجد له، في أذهان الشراح، أقوى الارتباطات اللاهوتية والصوفية، ولكن هذه المصطلحات تتخذ عنده معاني ثورية تتفق كلها مع الروح العلمية بأدق معانيها، وتسبق المفاهيم السائدة في عصره إلى مدى بعيد؛ ومن هنا كان من الطبيعي أن نجد هذا الازدواج في تفسير موقف اسپينوزا من العلم؛ فإذا تأملت «شكل» كتاباته، كان لزاما عليك أن تقول بوجود نزعات لاهوتية وصوفية قوية لديه، وإذا حاولت أن تستخلص، من هنا ومن هناك، المعاني الحقيقية، غير الظاهرة بوضوح، لهذه الألفاظ، اتضح لك اتجاهه العلمي الدقيق بجلاء. وسنجد في كل فصول هذا البحث أن تلك الثنائية في تفسيره - أعني ثنائية التفسير المحافظ والتفسير المتحرر - قائمة على الدوام، كما سنجد أن أفضل وسيلة للتغلب عليها هي تلك التي حددناها من خلال فهمنا الخاص لدلالة منهجه.
وقد عبر «سليڨان» عن هذه الثنائية الممكنة في فهم اسپينوزا تعبيرا واضحا، فقال: «... إن جميع التناقضات الممتنعة البادية في تفكير اسپينوزا إنما هي تعبيرات كثيرة عن تناقض واحد له سبب واحد؛ فاسپينوزا مادي ومثالي، ومؤمن بالطبيعة وبما فوق الطبيعة
naturalist and supernaturalist
في آن واحد. وسبب هذا الاتجاه المزدوج لديه لا يعدو أن يكون ذلك الطابع الموزع لذهنه، الذي كانت تجتذبه النظرة الدينية التقليدية إلى الإنسان وإلى الله، وهي النظرة التي ورثها من مجموعة كبيرة من الأسلاف اليونانيين والرومان واليهود والمسيحيين، وتجتذبه في الآن نفسه، وبقوة متساوية، المذاهب الطبيعية والميكانيكية كمذهبي ديمقريطس وهبز .»
2
ويواصل «سليڨان» كلامه فيقول: «إن موقف اسپينوزا يختلف بين المثالية أو المادية تبعا لفهمك للجوهر الواحد، وهو الله، من خلال الفكر أو من خلال المادة، وتبعا لردك الامتداد إلى الفكر أو الفكر إلى الامتداد ...»
3
وفي موضع آخر يعرض هذه الثنائية بتشبيه طريف قائلا: «من الممكن تشبيه فلسفة اسپينوزا بشكل وأرضية، على طريقة الجشطلت، وليكن شكلا مؤلفا من مكعبات بيضاء ثم سوداء متراصة كل لون فيها إلى جوار الآخر، بحيث يبدو تارة أن إحدى مجموعتي المكعبات هي البارزة وأن الأخرى هي الأرضية أو القاعدة، ثم ينقلب الشكل فجأة إلى عكس ذلك. هذه هي الحال في اسپينوزا.»
4
وهكذا كنا نجد كلا من الفريقين يؤكد انتساب اسپينوزا إليه بنفس القوة؛ فالمثاليون والرومانتيكيون، مثل هيجل ونوڨالس، لا يتصورون فلسفة اسپينوزا دون تفسيراتها اللاهوتية أو الصوفية، والماديون، مثل «لامتري
La Mettrie »، ودولباخ
D’Holbach ، بل مثل إنجلز
Engels ، وپليخانوف
، يؤكدون أن اسپينوزا قد استبق فلسفاتهم المادية وكان من روادها العظام.
والأمر المؤكد، الذي سنعمل على إثباته في هذا الفصل، هو أن اسپينوزا كان، قبل كل شيء، متشبعا بالروح العلمية إلى أقصى حد، وأن مذهبه بعيد كل البعد عن الاتجاهات اللاهوتية والصوفية التي نسبت إليه. فإذا فسرت المادية بأنها هي تأكيد الحتمية وقانونية الطبيعة والقضاء على الغائية وجميع التفسيرات الغيبية، فلا جدال، عندنا، في أن اسپينوزا كان ماديا بهذا المعنى. أما إذا نظرت إلى المادية على أنها هي التفسير الآلي أو الميكانيكي للظواهر، فلا شك في أن اسپينوزا يكون قد تجاوز تلك النظرة إلى الأمور بكثير؛ لأنه لم يقل أبدا إن المادة جامدة آلية صلبة، بل لم يخصص أي جزء من كتبه للبحث عن الطبيعة النهائية للمادة التي يتكون منها العالم، ولكن الحقيقة المؤكدة، من وراء كل تفسير لاسم هذا المذهب الفلسفي أو ذاك، هي أن اسپينوزا قد تشبع بالروح العلمية في نظرته الفلسفية إلى العالم، وأنه لم يقبل مهادنة أو حلولا وسطى في أي موضع بحث فيه مدى قدرة العقل على فهم العالم وتفسير ظواهره.
وسوف يتسلسل بحثنا في هذا الفصل على الوجه الآتي:
فالقائلون بوجود عناصر صوفية غير علمية في نظرة اسپينوزا العامة إلى العالم يرتكزون على أسس معينة من أهمها: (أ) رأيه في المعرفة الحدسية. (ب) ونظرته الواحدية الشاملة إلى العالم؛ ولذا سنبحث كلا من هذين الموضوعين على حدة، لنثبت استحالة تفسير آراء اسپينوزا فيهما تفسيرا صوفيا. وبعد ذلك ننتقل إلى الأدلة الإيجابية على موقفه العلمي السليم، الذي يتضح من خلال رأيه في (ج) العلاقة بين النفس والجسم و(د) فكرة سيادة الضرورة. وينتهي الفصل بملاحظات على موقفه من العلم بوجه عام. (1) فكرة الحقيقة والمعرفة الحدسية
لا بد للإجابة على السؤال عما إذا كانت نظرية المعرفة عند اسپينوزا تنطوي على عناصر صوفية أو مضادة للنزعة العقلية، من أن تستعرض بعض آرائه الرئيسية في المعرفة، ولا سيما تلك التي يعتقد بوجود مثل هذه العناصر فيها، بشيء من التفصيل. «فكرة الحقيقة، والأفكار الكافية»: ليست الفكرة
idea
عند اسپينوزا كيانا مجردا يطابق موضوعا أو يتفق معه أو يصدق عليه، وإنما «هي ذاتها ذلك الموضوع»، من وجهة نظر الفكر، فليس ثمة فكرة وموضوع، وإنما هناك حقيقة واحدة، ينظر إليها من ناحية فتكون فكرة، ومن ناحية أخرى فتكون موضوعا.
هذا الرأي القائل إن الفكرة وموضوعها حقيقة واحدة، هو أساس نظرية الحقيقة عند اسپينوزا، وهي النظرية التي لا تجعل التطابق بين الفكرة وموضوعها معيارا للحقيقة، وإنما تؤكد أن معيار حقيقة الفكرة كامن في الفكرة الصحيحة ذاتها، وأن الفكرة صحيحة بقدر ما تكون كافية.
5
فما هي هذه الفكرة «الكافية»
adequate idea ؟ يعرفها اسپينوزا بقوله: «أعني بالفكرة الكافية فكرة إذا ما نظر إليها في ذاتها ، دون إضافة إلى الموضوع، كانت لها كل خصائص الفكرة الصحيحة أو مميزاتها الباطنة.»
6
وهكذا فإن أهم ما يؤكده اسپينوزا هنا هو استبعاد مفهوم «المطابقة» أو «المعيار الخارجي» للفكرة الصحيحة؛ لأنه لا يوجد «تواز» بين الأفكار والأشياء، وإنما الأفكار هي ذاتها الأشياء منظورا إليها من خلال الذهن، ويعبر اسپينوزا عن هذا الرأي تعبيرا أوضح فيقول: «لا يجهل أحد لديه فكرة صحيحة، أن الفكرة الصحيحة تنطوي على أقصى قدر من اليقين؛ إذ إن وجود فكرة صحيحة لديك، ليس إلا تعبيرا آخر عن معرفتك للشيء بصورة كاملة أو بأفضل صورة ممكنة. والحق أنه ليس في وسع أحد أن ينكر ذلك، ما لم يعتقد أن الفكرة شيء جامد، كالصورة في إطار، وليست حالا من أحوال التفكير؛ أعني عملية الفهم ذاتها، وإني لأسأل: من ذا الذي يعلم أنه يفهم شيئا ما لم يكن قد فهمه بالفعل؟ وبعبارة أخرى: من ذا الذي يعلم أنه موقن بشيء ما، ما لم يكن قد أيقن بذلك الشيء بالفعل؟»
7
ويبدو أن اسپينوزا يرد هنا على أولئك الذين قد يعترضون عليه بأن معيار «كفاية» الفكرة خداع؛ لأن المشكلة أصلا هي أن بعض الأفكار تبدو منطوية على كل الخصائص الكامنة للفكرة الصحيحة دون أن تكون بالفعل كذلك، وبذلك يكاد يبدو أنه يضع معيارا نفسانيا باطنا أشبه بوضوح الأفكار وتميزها عند ديكارت. على أن الواضح من قول اسپينوزا بأن الأفكار هي ذاتها الموضوعات، هو أن الفكرة الكافية عنده هي ذاتها تعبير آخر عن موضوع كاف، أو على الأصح مكتف بذاته، لا يعتمد على غيره، بحيث تعكس الفكرة، في مجالها الخاص، استقلال الوجه الذي تعبر عنه من الواقع.
ومن الطبيعي أنه إذا كانت الفكرة الصحيحة على هذا النحو من الإيجابية، وإذا كانت هي ذاتها وجها من أوجه الوجود في واقعيته؛ فلا بد أن تكون الفكرة الباطلة سلبا أو عدما فحسب، وألا ينطوي الخطأ على أي عنصر إيجابي. وهكذا يقول اسپينوزا: «ليس في الأفكار شيء إيجابي يجعلها تسمى باطلة.»
8
فالبطلان لا يعبر عن أية صفة فعلية، وإنما هو انعدام الإيجاب أو الافتقار إليه: «فالبطلان هو انعدام المعرفة، الذي تنطوي عليه الأفكار غير الكافية، أو الجزئية، أو المختلطة.»
9
ومثل هذا الرأي في طبيعة الخطأ يتفق تماما مع رأيه في طبيعة الفكرة الصحيحة من حيث إنها هي التعبير المباشر عن إيجابية الوجود. (1-1) أنواع المعرفة
وعلى أساس التدرج بين البطلان والحقيقة، يظهر تقسيم اسپينوزا المشهور لأنواع المعرفة إلى ثلاثة: (أ)
النوع الأول: وينقسم إلى معرفة نكونها عن الأشياء الخاصة بواسطة حواسنا، وتتمثل لنا فيها الأشياء جزئية مختلطة لا ترتيب فيها - ثم إلى معرفة سماعية تؤدي بنا إلى تكوين فكرة عن الأشياء مشابهة لما نتخيله عنها فحسب. (ب)
والنوع الثاني: وهو ينشأ «من وجود أفكار لدينا مشتركة بين جميع الناس، وأفكار كافية عن خصائص الأشياء. وهذه أسميها «بالعقل».» (ج)
والنوع الثالث: وهو الحدس، «ينتقل من فكرة كافية عن الماهية المطلقة لبعض صفات الله إلى المعرفة الكافية لماهية الأشياء.»
10
ويعرض اسپينوزا في «إصلاح العقل» أنواع المعرفة هذه على نحو مختلف إلى حد ما، فيقسمها إلى أربعة أقسام: (1)
معرفة سماعية تختار اعتباطا. (2)
معرفة مستمدة من التجربة الغامضة التي لم يختبرها العقل، والتي تقبل لمجرد عدم وجود ما يناقضها في العقل. (3)
المعرفة الناشئة من الاستدلال على ماهية شيء، من ماهية شيء آخر، ولكن ليس بطريقة كافية. وهذه المعرفة تتمثل في الاستدلال من المعلول على العلة، أو من قضية عامة على دوام وجود صفة ما. (4)
المعرفة الكافية للشيء عن طريق ماهيته وحدها، أو سببه القريب.
11
ومع ذلك فالتقسيم الثلاثي الأول هو الأكثر شيوعا في كتابات اسپينوزا؛ إذ إنه في معظم كتاباته يدمج النوعين الأولين في التقسيم الرباعي ليكون منهما نوعا واحدا.
وعلى أساس هذا التقسيم المشهور لأنواع المعرفة عد اسپينوزا فيلسوفا ذا نزعة صوفية، إذ وجد كثير من شراحه في النوع الثالث من المعرفة، وهو المعرفة الحدسية، مجالا واسعا للتفسيرات الصوفية فأكد «رويس» أن الطابع الصوفي أساسي في فلسفة اسپينوزا، على الرغم مما يوحي به منهجه الرياضي أو الهندسي من معقولية لا تعرف الانفعالية إليها سبيلا،
12
ورأى «ڨندلبنت» أن نظرية اسپينوزا في المعرفة الحدسية تسير في طريق الصوفية؛ إذ إن هذه النظرية عنده هي الفهم المباشر لظهور كل الأشياء منطقيا من الله، فتلك معرفة تعلو على الإدراك الحسي والنشاط العقلي، وترقى إلى مرتبة تأمل موضوعها «من منظور الخلود».
13
ومع ذلك ففي رأينا أن من أكبر الأخطاء التي يمكن أن يقع فيها الباحث في فلسفة اسپينوزا أن يرى في فكرته عن المعرفة الحدسية أو النوع الثالث من المعرفة مظهرا لاتجاه إلى تجاوز العقل واقتحام ذلك الميدان فوق العقلي الذي لا تكون له من نتيجة إلا التصوف.
ذلك لأن النوع الثالث من المعرفة يرتبط ارتباطا وثيقا بالنوع الثاني؛ أي إن المعرفة الحدسية ترتبط بالعقلية وتنشأ منها،
14
بحيث تبدو في واقع الأمر تكملة وتتويجا لها. ولا يمل اسپينوزا من تأكيد ارتباط هذه المعرفة بالعقل؛ إذ يقول مثلا: «إن النوع الثالث من المعرفة يعتمد على العقل بوصفه علته الشكلية، بقدر ما يكون العقل ذاته أزليا.»
15
هذا الحديث عن العقل، وتأكيد أهميته بالنسبة إلى المعرفة الحدسية ذاتها، ليس حديث متصوف على الإطلاق. وإذا كان قد وصف العقل في هذه الحالة بأنه أزلي، فذلك لا يغير من طبيعة الأمر شيئا؛ ذلك لأن المعرفة الحدسية؛ أي النوع الثالث، هي معرفة «عن طريق العقل» لتلك الحقائق الأزلية التي تتكشف لنا في أعلى مراحل تأملنا الفلسفي. وأهم هذه الحقائق الأولية هي الوحدة الشاملة للطبيعة، وخضوعها كلها لنظم وقوانين واحدة. وعندما يصل إنسان إلى هذه الحقيقة الأزلية، تتملكه انفعالات إيجابية طاغية كالسرور الناجم عن الشعور بالمشاركة مع الطبيعة بأسرها. وهكذا يظهر الانفعال في اللحظة التي تصل فيها المعقولية إلى قمتها، ويترابط هذان العنصران اللذان يتنافران في كل فلسفة أخرى ترابطا تاما في فكرة «الحب العقلي لله
Amor Dei intellectualis » الذي لا يعدو، في ضوء فلسفة اسپينوزا، أن يكون تعبيرا عن مشاركة العقل في الطبيعة في مجموعها وشعوره بوحدته التي لا تنفصم معها حين يدرك ما فيها من قانونية ومعقولية ونظام لا ثغرة فيه.
16
ولا يتنافى هذا التفسير على الإطلاق مع قول اسپينوزا: إن النوع الثالث من المعرفة يتعلق بأشياء فردية - تمييزا له من النوع الثاني الذي يتعلق بأشياء عامة أو كلية؛
17
ذلك لأن السياق في هذه الحالة هو سياق الاستدلال من الأشياء الجزئية على الماهية الكلية للأشياء، أو على الطبيعة الإلهية. وبهذا يكون المقصود من القول إن النوع الثالث من المعرفة يتعلق بالأشياء الفردية هو أنها نوع من الحدس الذي نصل به إلى الماهية الكلية للأشياء عن طريق فهم طبيعة شيء خاص يشارك في هذه الماهية الكلية ويوضحها بوصفه وجها أو مظهرا لها، فإذا فهم الإنسان طبيعة ذهنه - وهو بالقياس إلى الطبيعة في مجموعها شيء فردي جزئي - ففي وسعه أن يفهم ماهية الطبيعة بأسرها، أو الماهية الإلهية، عن طريق إدراكه لاعتماد ماهية الذهن على ماهية الطبيعة. ومثل هذه المعرفة الناشئة عن إدراك الاعتماد التام للماهية الجزئية على الماهية الكلية، تتغلغل في الذهن مباشرة، وتغدو حدسا مباشرا يختلف عن المعرفة الاستدلالية التي تستمد من قضايا عامة، وإن يكن في وسع هذا النوع الأخير (أي النوع الثاني من المعرفة) أن يوصل بطريقته الخاصة إلى النتيجة ذاتها.
وإذن فأوصاف اسپينوزا للمعرفة الحدسية لا تنطوي على أي إقلال من شأن العقل، وإنما هي، إن شئت، تعبير عن طريقة أخرى من طرق استخدام العقل، تختلف عن الطريقة الاستدلالية، وربما كانت هي التعبير عن أبهر إدراك وتبصر يصل إليه العقل حين يعلم أنه يعكس في داخله قوانين الطبيعة في مجموعها، وأن فهمه لذاته يزيد من فهمه للنظام الكلي للأشياء، مثلما أن إدراك انتظام الأشياء في مجموعها هو ذاته توسيع لنطاق العقل ولآفاته. ومهما بدا حديث اسپينوزا عن هذا النوع من المعرفة موحيا باتجاهات صوفية، ولا سيما حين يقرنه بالحديث عن المعرفة الحدسية لله فإنه في معظم الأحوال يتناول هذا الموضوع في سياق لا يكف فيه عن تأكيد أن العقل هو أشرف ما لدى الإنسان، وأن فهم الأشياء هو أسمى غاياته،
18
ومن المحال أن تكون الصوفية (بمعنى تجاوز حدود العقل الذي يعد عاجزا عن تحصيل أرقى أنواع المعرفة) من صفات ذلك الفيلسوف الذي تحفل كتاباته كلها بتمجيد العقل، والذي لم يقبل - كما سنرى فيما بعد - أي تفسير مخالف للعقل حتى في مجال الإيمان ذاته. وإني لأعتقد أنه، إذا كانت لدى اسپينوزا أية نزعة صوفية، فما هي إلا صوفية الروح العلمية، التي لا تقوم على رفض العقل أو حتى على تجاوزه، وإنما تظهر من خلال العقل ذاته حين يمارس قدرته على الفهم إلى أقصى مداها، ويرى نفسه مقتربا من تحقيق هدفه الأسمى في فهم الأشياء. وما أظن أن في العلم، مهما بلغ نهوضه، حقيقة أعظم من إدراك القانونية والنظام في الطبيعة، أو هدفا أسمى من إشعار الذهن بتلك المتعة الرفيعة التي تتملكه كلما أدرك أنه، في نظامه وقانونيته، ليس إلا انعكاس للطبيعة بأسرها. •••
وكما أن إعلاء شأن المعرفة الحدسية عند اسپينوزا لم يكن ناشئا عن وجود نزعة صوفية لديه، فكذلك لم يكن إقلاله من شأن المعرفة الحسية ناشئا عن وجود مثل هذه النزعة لديه؛ فالإقلال من شأن المعرفة الحسية يرتبط في الفلسفة عادة بإنكار وجود العالم الخارجي. وهذه الفكرة الأخيرة تفتح مجالا لجميع النزعات اللاعقلية أو فوق العقلية أو الشكاكة، على أحسن الفروض. أما في حالة اسپينوزا، فلم يظهر أي أثر لهذه الاتجاهات، وكانت فلسفته في المعرفة خالية تماما من جميع أعراض المثالية.
فمن المؤكد أن اسپينوزا لم يكن يشك في وجود العالم الخارجي على الإطلاق، بل لم يثر هذه المسألة أصلا (وهذا في رأينا من أوضح مظاهر الطابع الصحيح - أو بالأحرى «الصحي»، لتفكيره)؛ فإقلاله من أهمية الحواس لم يكن يعني سوى أن دورها في تكوين محتوى الذهن البشري من المعرفة، ولا سيما المعرفة العلمية، أقل أهمية من دور العقل. أما وظيفتها الأصلية المألوفة في إدراك العالم الخارجي بما فيه من أشياء، فتظل قائمة لا تمس.
ولقد كان استبعاد اسپينوزا، منذ البداية، لمشكلة وجود العالم، واعترافه بهذا الوجود دون مناقشة، هو الذي جعل كانت يسميه «توكيديا»
dogmatic ؛ ويعني بذلك أنه كان يعترف، بطريقة «غير نقدية »، بإمكان معرفة العالم الخارجي معرفة كافية.
19
ونستطيع أن نقول إن هذا الاعتراف المباشر بالعالم الخارجي هو الذي يميزه أيضا عن ديكارت؛ فقد كانت نقطة بداية ديكارت هي يقينية الفكر ووجود الأنا المفكر. أما نقطة بداية اسپينوزا فهي وجود الطبيعة في مجموعها. وعلى حين خلقت هذه البداية لديكارت صعوبات لا حد لها فيما يتعلق بإثبات وجود العالم الخارجي ثم إيضاح العلاقة بين الفكر، وهو نقطة البداية المؤكدة، وبين الامتداد، فإن اسپينوزا قد تخلص من كل هذه الإشكالات، ولم يساوره أي شك - منهجي أو غير منهجي - في وجود العالم، بل بدأ بذلك الوجود كاملا بكل أوجهه، ولم تكن العلاقة بين الفكر والامتداد في رأيه إلا علاقة بين طريقتين في النظر إلى موضوع واحد.
ومن المؤكد أن اسپينوزا كان يعد التفكير في مشكلة وجود العالم أو عدم وجود تفكيرا عقيما لا جدوى منه. وهذا هو المغزى الوحيد لقضيته القائلة إن «الوجود ينتمي إلى طبيعة الجوهر»
20
ثم وصفه هذه القضية فيما بعد بأنها حقيقة عامة من نافلة القول
truism .
21
ومثل هذا الإلحاح والإصرار على أن وجود الجوهر أمر بديهي، وعلى أنه فكرة سابقة لكل مناقشة وجدل، بل ولكل شك، يعني، إذا ما فسرنا الجوهر على أنه مجموع الوجود، أنه لم يكن يؤمن بمشكلات المعرفة المتعلقة بوجود العالم، أو بأنه، على حد تعبير «چويكم»: «لا يفرق بين ما هو موجود وما هو معروف.»
22
مثل هذا الاعتراف بوجود العالم، أو على الأصح رفض إمكانية الشك فيه أو إنكاره منذ البداية، قد يبدو في نظر أصحاب النزعات المثالية دليلا على «توكيدية» اسپينوزا، أو افتقارا منه إلى الروح النقدية، بينما هو في نظر خصومهم أقوى دليل على سلامة التفكير الفلسفي عنده، ولكن مهما كان حكم المرء عليه في هذا الصدد، فلا شك في رأينا في أن «النزعة الصوفية» ليست ضمن التفسيرات الممكنة لموقفه هذا، وإنما يتعارض هذا الموقف تماما مع التشكيك الصوفي في وجود العالم، ومع كل النزعات الذاتية والمثالية التي تمهد الطريق للتصوف. ويثبت تحليل موقف اسپينوزا في هذه الحالة أيضا استحالة القول بوجود مثل هذه النزعات اللاعقلية لديه. (2) الواحدية العلمية
كانت فكرة «وحدة الوجود» التي فسرت بها فلسفة اسپينوزا تفتن أصحاب النزعات الشعرية والصوفية واللاهوتية على الدوام. فهنا يجمع الفيلسوف كل أطراف الكون في وحدة واحدة، لا تفرقة فيها بين الإله وبين الطبيعة إلا من حيث إن هذا هو الوجه «الطابع» للطبيعة وذاك هو وجهها «المطبوع» وكم من الشعراء تغنوا بهذا الفيلسوف «المنتشي بالله » الذي أشاعت فلسفته، في رأيهم، الطابع الإلهي في الوجود بأسره وفي كل تفاصيله!
بل إن مجرد القول بالواحدية، دون وجهها الإلهي، يلائم هذا النوع من التفكير إلى حد بعيد. فجمع الوجود كله في وحدة واحدة هو على الدوام من الخصائص المميزة لأصحاب النزعات الصوفية في التفكير، وهم الذين لا يحفلون بالجزئيات وتفصيلاتها، وينفد صبرهم من أي بحث متأن في مجال ضيق من مجالات الوجود. وهكذا أخذ هيجل يكيل الثناء لاسپينوزا على نزوعه إلى رفض ما هو جزئي وتركيز الاهتمام على الوجود في مجموعه فحسب، فقال: «ينبغي أن يبدأ الفكر باتخاذ وجهة نظر المذهب الاسپينوزي؛ فاتباع تعاليم اسپينوزا هو نقطة البداية الأساسية في كل فلسفة ... وعندما يبدأ المرء في التفلسف، ينبغي أن يكون أول ما تفعله الروح هو أن تغوص في أثير هذا الجوهر الواحد، الذي يتلاشى فيه كل ما كان الإنسان يعده صحيحا، فهذا الإنكار لكل ما هو جزئي، وهو الإنكار الذي لا بد أن كل فيلسوف قد وصل إليه، هو تحرر العقل وأساسه المطلق.»
23
وتستهوي فكرة «تأمل الطبيعة في مجموعها» هذه مفسرا آخر، فيصف بسببها موقف اسپينوزا من العالم بأنه «مزيج من الدين والعلم، تحقق عن طريق التوحيد بين الله والطبيعة، وعبر عنه هذا التوحيد ذاته؛ فهو قد تناول القوالب الكبرى اللاهوت؛ أي الله، والحب، والخلاص، وصب فيها مادة مستمدة من الدراسات العينية في الفيزياء وعلم النفس.»
24
ولكن هل هذه هي الدلالة الوحيدة، أو الدلالة الحقيقية، لواحدية اسپينوزا؟ لا جدال في أن لهذا المذهب دلالات أخرى أعمق وأكثر انطباقا على الروح الحقيقية لفلسفة اسپينوزا.
فمن الممكن، كما قال «فوير»، أن يفسر مذهب وحدة الوجود عند اسپينوزا على أنه كان ثورة على المذاهب الدينية الأرستقراطية - ولا سيما الكلڨينية - التي كانت تجعل الخلاص من نصيب فئة محظوظة اختارها الله سلفا. وهكذا عمل اسپينوزا، كما فعل غيره من أصحاب المذاهب التقدمية والثورية في عصره، على إشاعة الروح الإلهية في الوجود كله لكي يصبح للكل نصيب من الروح الإلهية،
25
أو على الأقل لمحو الفوارق في علاقة الموجودات الجزئية بالله.
ولكن التفسير الأرجح، في رأينا، هو أن هذه الوحدة، كما فهمها اسپينوزا، تؤدي إلى القضاء على فكرة انفصال الألوهية وعلوها، وتقضي بالتالي على ما يرتبط بالفكرة السابقة من تأكيد للغائية. فعن طريق مذهب اسپينوزا، الذي كان في الواقع مذهبا «واحديا
monist » أكثر منه مذهب «وحدة وجود
pantheistic »، تؤكد الحتمية الكاملة في العالم، وتشيع فيه فكرة الضرورة، وتركز جهود الإنسان في معرفة العالم الطبيعي نفسه بعد أن يتضح له أن هذا العالم هو كل ما في الوجود.
والحق أن من الظواهر الغريبة حقا في تفسير فلسفة اسپينوزا أن نرى معظم الشراح ينسبون إليه نزعات صوفية أو لاهوتية لمجرد كونه قد تحدث عن «الحكمة الشاملة» وجعل لفلسفته موضوعات كلية لا جزئية. ومثل هؤلاء الشراح يفسرون على هذا النحو كل مذهب له مثل هذا الطابع الشامل، وكأن هناك ارتباطا ضروريا بين التفكير ذي الطابع العام الشامل وبين النزعات الصوفية أو اللاهوتية. ويغفل هؤلاء الشراح حقيقة لا شك فيها، هي أن كثيرا من العلماء والفلاسفة من ذوي «الحكمة الشاملة» لم يكونوا يفكرون من خلال مقدمات صوفية أو دينية؛ فهم يغفلون دعوة «كونت» إلى إقامة عقيدة البشرية على أساس العلم وحده، ويغفلون أحكام «نيتشه» الشاملة على الإنسان وحضارته من خلال فلسفة لا مكان فيها للتصوف بمعناه الديني، ويغفلون كل الاتجاهات الأدبية «التنبؤية» التي قامت على أساس نزعات طبيعية خالصة.
وإذا كان من الخطأ في ميدان التفكير الفلسفي والأدبي أن يربط المرء بين النظرة الشاملة إلى الكون وبين الاتجاهات الصوفية أو الدينية ربطا ضروريا، فإن هذا الخطأ يغدو أعظم في ميدان التفكير العلمي؛ فالعالم يؤمن، في مجاله الخاص، بنوع من «الواحدية»، وذلك حين يبني تفكيره على أساس الضرورة في الكون، ووجود علة لكل ظاهرة، ووحدة الطبيعة واطرادها، وسريان قوانين واحدة عليها. هذه كلها مقدمات ضرورية للروح العلمية، مهما كان اتجاهها التالي، ومن المحال أن يحكم على العالم مقدما بأنه خرج عن نطاق المعقولية الشاملة لمجرد وجود هذه النزعات التعميمية الشاملة لديه. وفضلا عن ذلك فكثيرا ما يشعر العالم بنوع من الحماسة الفياضة والسرور الطاغي والحب الشامل للطبيعة كلما اتسع نطاق نظرياته وأدرك انطباقها على مجالات أوسع في التجربة ولنضف إلى ذلك تلك الأخلاق الإنسانية الرفيعة التي يضعها كثير من الباحثين المتعمقين لأنفسهم، والتي تزداد نقاء كلما تعمق العالم في بحثه وازدادت حكمته توغلا في الطبيعة، حتى لتصل إلى حد التفاني التام في سبيل اكتساب المعرفة وربما التضحية بالنفس من أجلها، ولكن هل يعني ذلك أن هذه الاتجاهات ترتبط لديهم بالروح الدينية بالضرورة؟ ربما جاز أن يطلق المرء على هذه الاتجاهات اسم «الصوفية العلمية»، ولكن هذه تختلف تماما عن الصوفية المنبثقة من الدين والتي تستهدف غايات فوق الطبيعة. وإنه لغريب حقا أن يشارع مؤرخو الفلسفة إلى وصف كل اتجاه تتمثل فيه مثل هذه النظرة الشاملة إلى الكون، أو مثل هذا النظام الشخصي والأخلاق الذاتية الرفيعة التي يفرضها الباحث على ذاته، بأنه يعبر عن ميل صوفي (بالمعنى فوق الطبيعي) أو ديني لدى الباحث، مع أن هذه النزعات قد تظهر في إطار يختلف عن ذلك تماما، ولا يعترف فيه إلا بالطبيعة وقوانينها الضرورية. وليس من الصحيح أن ينظر إلى مجال التصوف بمعناه الديني على أنه هو وحده الذي يحتكر كل نظرة انفعالية شاملة إلى الطبيعة أو إلى الإنسان أو إلى التاريخ؛ لأن الانفعال المستمد من التبصر فيما هو كلي أو عام من حق الجميع، وهو بلا جدال حق يمارسه أصحاب الاتجاهات العلمية الدقيقة، ممن لا يتعدى إيمانهم النطاق الطبيعي الدقيق. وفي اعتقادنا أن «واحدية» اسپينوزا، وما يبدو فيها من صوفية، لم تكن إلا من هذا النوع، ولم تستمد إلا من إدراكه للضرورة الشاملة المتحكمة في الكون، والتي تستبعد القول بأي كائن يعلو على الطبيعة أو غاية تتجاوز نطاقها. (3) العلاقة بين الذهن والجسم
يعد رأي اسپينوزا في العلاقة بين الذهن والجسم من أوضح المظاهر الإيجابية للروح العلمية في تفكيره؛ إذ إنه كان مختلفا كل الاختلاف عن الاتجاهات السابقة للرأي في هذه المسألة، وظل خارجا عن المألوف في تاريخ الفلسفة حتى بعد أجيال عديدة من ظهوره. ولقد كان النقد الأساسي الذي وجهه إلى النظريات السابقة في هذا الموضوع، ولا سيما نظرية ديكارت الثنائية القاطعة، هو ما كانت تتسم به من طابع غير علمي؛ فهو يحمل بشدة، في أسلوب ساخر، على تلك الهوة العميقة التي وضعها ديكارت بين الجسم والنفس، ويزداد سخرية من هذه النظرية حين تحاول عبور هذه الهوة عن طريق فكرة واضحة التفاهة كفكرة الغدة الصنوبرية، ويعرب عن دهشته من أن يقول بمثل هذه الآراء فيلسوف اتخذ من الوضوح والتميز معيارا لتفكيره، ومن نقد الصفات الخفية شرطا ضروريا لمنهجه.
26
وأساس الحل الذي يأتي به اسپينوزا لمشكلة العلاقة بين الذهن والجسم هو رأيه الذي سبق أن عرضناه في «صفات الجوهر»؛ فكل من الصفتين: الفكر والامتداد، ينتظم الكون بأسره، وكل شيء فيه لا على أساس تقسيم الكون إلى مجالين منفصلين تشغل كل من هاتين الصفتين واحدا منه، وإنما على أساس أن الكون وكل شيء فيه يحمل الصفتين معا في آن واحد، بحيث تكون هذه الصفة هي الجوهر ذاته، أو مكوناته، منظورا إليه من إحدى وجهتي نظر ممكنتين.
ونستطيع أن نعد حل اسپينوزا لمشكلة الذهن والجسم في الإنسان نقلا مباشرا لهذه الفكرة من مجال الكون بأسره إلى مجال الإنسان؛ إذ إن الذهن لا يعدو أن يكون صفة الفكر كما تتمثل في الإنسان، والجسم صفة الامتداد فيه. أما الإنسان ذاته فيمكن أن يعد ذهنا كله وجسما كله، تبعا لوجهة نظرنا إليه. ويعبر اسپينوزا عن هذه الفكرة بوضوح فيقول: «... إن الذهن والجسم شيء واحد ، ينظر إليه في الحالة الأولى من خلال صفة الفكر وفي الحالة الثانية من خلال صفة الامتداد؛ وبناء على ذلك فإن ترتيب الأشياء وتسلسلها يكون واحدا، سواء نظرنا إلى الطبيعة من خلال إحدى الصفتين أو من خلال الأخرى.»
27
ولقد رأينا في صدد الحديث عن علاقة الفكرة بموضوعها عند اسپينوزا، أنه لا يعد هذه العلاقة اتصالا بين طرفين متغايرين، وإنما الفكرة عنده هي ذاتها الموضوع، وليس لها كيان بذاتها؛ فهي الموضوع منظورا إليه من خلال صفة الفكر. وفي ضوء هذا الفهم للعلاقة بين الفكرة وموضوعها نستطيع أن نفهم تشبيه اسپينوزا للعلاقة بين الذهن والجسم بعلاقة الفكرة بموضوعها: «فموضوع الفكرة التي تؤلف الذهن البشري هو الجسم، أو هو بعبارة أخرى: لا يعدو أن يكون حالا من أحوال الامتداد موجودا بالفعل.»
28
ورغم وضوح أفكار اسپينوزا في هذه المشكلة إذا ما نظر إليها في ضوء العناصر العامة لفلسفته؛ فقد أسيء فهم مقصده الحقيقي في كثير من الأحيان، مثال ذلك أن ولفسون يصف رأي اسپينوزا القائل إن «الذهن فكرة الجسم» بأنه «لا يعدو أن يكون طريقة جديدة للتعبير عن تعريف أرسطو للنفس بأنها صورة الجسم.»
29
ورغم أن رأي أرسطو قد يكون أقرب الآراء التقليدية إلى ما قصده اسپينوزا، فما زال من الصحيح مع ذلك أن الصورة عنده، رغم استحالة انفصالها عن المادة، أعلى منها مرتبة بالفكر على الأقل. هذا فضلا عن إمكان وجود مادة مطلقة في أدنى درجات سلم الوجود عنده، وصورة مطلقة في أعلى هذه الدرجات. أما عند اسپينوزا، فلا يمكن أن تكون بين هذين الوجهين للحقيقة الواحدة مفاضلة؛ لأن كل شيء قابل لأن ينظر إليه من خلال أحدهما أو الآخر.
ويرى «داربون» أن اسپينوزا يقول «بالتوازي» بين الذهن والجسم، وأن هذه هي طريقته في إثبات اتحاد الذهن بالجسم،
30
وتعبير «التوازي» هذا من التعبيرات المألوفة في وصف نظرية اسپينوزا هذه، ولكنه تعبير غير دقيق؛ لأن التوازي يقوم بين شيئين مختلفين متميزين يحتل كل منهما مجاله الخاص، بينما العلاقة بين الذهن والجسم عند اسپينوزا هي، كما رأينا، علاقة وجهي حقيقة واحدة.
ولكن الخطأ الأكبر، في رأينا، هو أن تفهم فكرة اسپينوزا فهما مثاليا، فتفسر دلالتها بأنها هي صبغ ما يجري في الجسم بصبغة ذهنية أو روحية. ومثل هذا التفسير يظهر لدى «سو
Saw »، التي تفسر قول اسپينوزا إن نظام الأفكار وترابطها هو ذاته نظام الأشياء وترابطها (وهو القول الذي يعد رأيه في الجسم والذهن تطبيقا جزئيا له) بأنه يعني أن «الواقع هو الترابط المنتظم للأفكار »
31 - وهو تفسير إذا نقل إلى مجال العلاقة بين النفس والجسم لكان معناه رد ما يحدث في الجسم إلى العنصر الذهني.
هذا التفسير باطل تماما لعدة أسباب: (أ)
فاسپينوزا قد بدأ، في عبارته السابقة، بالكلام عن نظام الأفكار، ورده إلى نظام الأشياء؛ أي إنه فسر الأول بالثاني، والترتيب هنا غاية في الأهمية؛ لأنه لو كان قد قال: إن النظام والارتباط بين الأشياء هو ذاته النظام والارتباط بين الأفكار، لكان المعنى في هذه الحالة مختلفا كل الاختلاف، ومؤيدا للتفسير المثالي. (ب)
والسبب الثاني هو أن اسپينوزا، رغم تأكيده أن مجال الأفكار والأشياء واحد، قد أبدى ميولا مادية واضحة، وظهر ذلك بكل وضوح عندما طبق رأيه العام في العلاقة بين الفكر والامتداد على مشكلة الجسم والذهن، وسنتناول هذه النقطة الآن بالتفصيل لأهميتها الكبيرة، ولما تلقيه من ضوء على الاتجاهات الحقيقية لفلسفة اسپينوزا.
فقد رأينا اسپينوزا يحرص على أن يعد الجسم موضوعا للفكرة التي يكونها الذهن البشري؛ وعلى ذلك فالذهن لا يمكن أن يفهم إلا إذا فهم موضوعه؛ أي الجسم. ويبدو أن اسپينوزا قد شعر أن الذهن وحده هو الذي كان يحظى على الدوام باهتمام الفلاسفة، وأن الجسم وقدراته كان موضوعا للتجاهل والاحتقار من جانب الفلاسفة، والدليل على ذلك قوله: «إن أحدا لم يوضح حتى الآن حدود قوى الجسم؛ أي إن التجربة لم تكشف لأحد بعد عما يستطيع الجسم أداءه بقوانين الطبيعة وحدها، بقدر ما ينظر إلى الطبيعة أنها ممتدة. فلم يكتسب أحد حتى الآن من المعرفة الدقيقة بتركيب الجسم ما يمكنه من تفسير جميع وظائفه ، كما أنني لست بحاجة إلى أن أشير هنا إلى ما يلاحظ في الحيوانات الدنيا من أفعال عديدة تفوق حكمة البشر بكثير، وإلى أن المصابين بمرض السير أثناء النوم يقومون أثناء نومهم بأفعال كثيرة لا يجرءون على القيام بها وهم أيقاظ، فهذه الأمثلة تكفي لإثبات أن الجسم يستطيع بقوانين طبيعته الخاصة وحدها أن يقوم بأفعال كثيرة يحار لها العقل. وفضلا عن ذلك فلا أحد يعرف كيف، أو بأي الوسائل ، يقوم الذهن بتحريك الجسم، ولا عدد درجات الحركة التي يستطيع الذهن أن يبعثها فيه، أو مدى السرعة التي يمكنه تحريكه بها. وهكذا فإن الناس عندما يقولون: إن أصل هذا الفعل الجسمي هو الذهن الذي يسيطر على الجسم، إنما يستخدمون ألفاظا لا معنى لها، أو يعترفون بألفاظ ملتوية بأنهم يجهلون سبب الفعل الذي يتحدثون عنه دون أن تتملكهم لذلك دهشة.»
32
وهكذا حرص اسپينوزا على أن يتخلص من هذا الأسلوب الساذج في معالجة الأمور، وقرر أن يكمل النقص في معلومات الفلاسفة عن طريق محاولة إيضاح طبيعة الذهن ذاته من خلال موضوعه الذي هو الجسم. وقد بلغ اهتمامه بهذا الموضوع حدا يجعل التفسير المادي لفلسفته أمرا غير بعيد الاحتمال - وإلا فكيف يفسر المرء كون الحديث عن «الجسم» يحتل الجزء الأكبر من الباب الثاني من «الأخلاق» وهو الباب الذي كان يبحث، حسب عنوانه، في «أصل الذهن وطبيعته»؟
في ملحوظة القضية 13 من الباب الثاني من «الأخلاق»، يحدد اسپينوزا معالم اتجاهه - الذي كان جديدا كل الجدة بالنسبة إلى ما سبقه في تاريخ الفلسفة - بأنه محاولة فهم طبيعة الذهن البشري من خلال الجسم «فبقدر تفوق أي جسم على غيره في ملائمته لأداء أفعال عديدة أو تلقي انطباعات متعددة في وقت واحد، يكون الذهن الذي يتخذ من ذلك الجسم موضوعا له، أقدر من غيره على تكوين عدة إدراكات في آن واحد» ...
وتلي ذلك مجموعة من القضايا التي تتضمن كلها تمجيدا للجسم وإظهارا لأهميته في إيضاح طبيعة القدرات الذهنية للإنسان. وهكذا يقول: «إن الذهن البشري قادر على إدراك عدد كبير من الأشياء، ويكون أقدر على ذلك بقدر ما يتمكن جسمه من تلقي عدد أكبر من الانطباعات.»
33
ثم يأتي بعدة قضايا تتضمن تفسيرا ماديا لقدرات الذهن التي تتم دائما من خلال الجسم - ومنها تفسير مادي للذاكرة
34
يستبق به اسپينوزا فكرة تداعي المعاني عند هيوم، فيقول: «إذا ما تأثر الجسم البشري ذات مرة بجسمين أو أكثر في آن واحد، فإن ذهنه عندما يتخيل أيا منهما فيما بعد، يتذكر الآخر بدوره على التو.»
35
وفي ملحوظة القضية ذاتها يقول: «والآن ندرك بوضوح ما هي الذاكرة؛ فما هي إلا ترابط معين للأفكار يتعلق بطبيعة الأشياء الخارجة على الجسم البشري، وهو ترابط ينشأ في الذهن وفقا لنظام وترابط الأحوال التي تطرأ على الجسم البشري.» بل إن معرفة الذهن لذاته لا تتم إلا من خلال ما يدركه الذهن من الأفكار الخاصة بتغيرات الجسم.
36
ومع ذلك فمن الضروري أن نحذر تفسير هذه الأفكار عند اسپينوزا بأنها تعني أن للجسم تأثيرا مباشرا في الذهن؛ فهذا أبعد ما يكون عما يقصده. إن كل ما يقوله هو أن قدرات الذهن تفسر من خلال قدرات جسمه؛ أي إن الحقيقة الواحدة، التي هي الإنسان، تكون ذا ذهن أوسع قدرة إذا كان جسمها، الذي هو الوجه الآخر للحقيقة نفسها، أقدر على تكوين الانطباعات والاتصال بالعالم المحيط به. ولكنه في الوقت ذاته يحذر بشدة من فهم هذه الآراء على أنها تشير إلى تأثير لأحد الوجهين في الآخر، فيقول: «لا الجسم يستطيع أن يدفع الذهن إلى التفكير، ولا الذهن يستطيع أن يدفع الجسم إلى الحركة أو السكون أو أية حالة تختلف عن هاتين، إن وجدت.»
37
وفي ملحوظة القضية نفسها يحدد موقفه من هذه المسألة بوضوح فيقول: إن التغيرات التي تحدث في الجسم؛ أي حركات الجسم وسكناته، تحدث لأسباب جسمية فحسب، وليس للذهن دور فيها، ويدافع اسپينوزا دفاعا طويلا عن فكرة استحالة تأثير الإرادة الواعية في الأفعال الجسمية، على أساس أننا - كما قلنا من قبل - لا ندرك تماما مدى قدرة الجسم؛ ولذلك ينبغي أن نكف عن الإهابة بأسباب خفية (كالإرادة) لتفسير ما نجهله، ومن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى إثارة مسألة حرية الإرادة، التي سنتحدث عنها فيما بعد حديثا مفصلا، ولكن لا مفر هنا من اقتباس رأيه بقدر ما يتصل بموضوع النفس والجسم، «... فالناس يظنون أنفسهم أحرارا، لمجرد كونهم واعين بأفعالهم، وغير واعين بالأسباب المتحكمة في هذه الأفعال ... وهذه الاعتبارات كلها تثبت بوضوح أن الأوامر الذهنية تقترن دائما برغبات جسمية، أو أنهما على الأصح شيء واحد ، نسميه أمرا عندما ننظر إليه ونفسره من خلال صفة الفكر، ونسميه تحددا عندما نتأمله من خلال صفة الامتداد، ونستنبطه من قوانين الحركة والسكون.»
38
وفي رأيي أن فكرة اسپينوزا عن ازدياد قدرة الذهن - وبالتالي قدرة الكائن الحي بأسره - كلما ازدادت الانطباعات الواقعة على جسمه وكلما ازداد اتصاله بالأجسام الأخرى في العالم المحيط به. هذه الفكرة تعبر عن مبدأ علمي وجد أقوى تأكيد له في نظرية التطور في القرن التاسع عشر. فمن اليسير جدا الانتقال من فكرته هذه إلى المبدأ التطوري القائل ببقاء الأنواع الأقدر على «التكيف» مع العالم المحيط بها. والمذهبان معا مذهب اسپينوزا ونظرية التطور - يؤكدان أهمية تعامل الجسم مع العالم الخارجي في ارتقاء الحياة، ويكاد اسپينوزا ذاته يقول: إن الحيوان يحتل مكانة عالية في سلم الأحياء إذا كان أقدر من غيره على الاتصال بالعالم والتعامل معه على شتى الأنحاء؛ أي كلما ازدادت «حكمة جسمه» وكمال تركيبه.
39
أما المعترضون على ذلك، فإنه يرد عليهم ردا علميا صرفا، فيقول: هل اكتملت دراستكم للجسم حتى تعترضوا؟
فإذا ما أردنا وصفا للصورة العامة لعلاقة المجال الجسمي بالمجال الذهني فلن نجد أفضل مما كتبه في رسالته رقم 32، حين قال: «... إن جميع أجسام الطبيعة ... محاطة بأجسام أخرى تتحكم في وجودها وحركتها على نحو دقيق محدد، على حين تظل كمية الحركة والسكون ثابتة في جميع الأجسام، أي في الكون بأسره. ونتيجة لذلك فإن كل جسم، بقدر ما يكون خاضعا لقوانين معينة، ينبغي أن يعد جزءا من الكون بأسره، وأن يتفق ويتلاءم مع هذا الكل، ويرتبط ببقية الأجزاء ...
وهكذا نرى على أي نحو، ولأي سبب، أعد جسم الإنسان جزءا من هذه الطبيعة. أما الذهن البشري فإني أعتقد أنه بدوره جزء من هذه الطبيعة؛ فأنا أرى أن في الطبيعة قوة فكرية لا متناهية. وهذه القوة تنطوي في ذاتها موضوعيا - بقدر ما هي لا متناهية - على الطبيعة بأسرها؛ ومن ثم فإن لأفكار هذه القوة نفس نطاق الطبيعة التي لا تكون هذه الأفكار، بالطبع، إلا التعبير الفكري عنها.
وإني لأرى كذلك أن الذهن البشري إنما هو هذه القوة ذاتها، لا من حيث هي لا متناهية تدرك الطبيعة بأسرها، وإنما من حيث هي متناهية لا تدرك إلا الجسم البشري؛ ولذا أرى أن الذهن البشري جزء من الذهن اللامتناهي.»
وهنا تعود مرة أخرى فكرة صفتي الفكر والامتداد اللتين تنتظمان كل شيء، وتمثلان وجهين لشيء أو جوهر واحد. وتظهر في هذا نتيجة جديدة لنظرية «الصفتين» هذه؛ فطالما أن الكون كله، وكل شيء فيه، هو فكر وامتداد معا، فمن المحال الكلام عن مادة جامدة، مثلما يستحيل الكلام عن روح بلا جسد. وهكذا يمكن، من وجهة نظر معينة، أن يقال إن ذهننا جزء من «ذهنية» كلية أو فكر شامل، هو الجزء الذي يرتبط بالجسم ويتقيد بحدوده. ويسري مثل هذا الوصف على كل شيء، بحيث يستحيل القول: إن الجماد جسم فحسب. وهكذا يظهر لدى اسپينوزا ما يمكن أن يعد مذهبا يقول «بشمول النفس
panpsychism » أو «بحيوية المادة
hylozoism ».
ولقد علل «فوير» هذا الوجه من أوجه تفكير اسپينوزا بأنه راجع إلى تأثره بكشف «العالم الأصغر» بواسطة المجهر، حين اتضح - في أبحاث كان لعلماء عصره فضل كبير فيها - أن الحياة كامنة في أدق المخلوقات التي كان يظن أنها عدمت الحياة.
40
ولكن هذا التعليل غير كاف؛ إذ إن اسپينوزا لم يكتف بتوسيع نطاق الحياة أو نسبتها إلى بعض جوانب العالم التي لم تكن تنسب إليها الحياة من قبل. وإنما كان للفكرة لديه وظيفة «منطقية» قبل كل شيء؛ فهي وسيلته إلى القضاء على الثنائية القاطعة بين الفكر والمادة، وهي مظهر لعبوره الحاسم للهوة بين عالم الامتداد وعالم الفكر. وإذا كان قد وجد من المفكرين السابقين من يقولون بشيوع الحياة، أو «الروح» في أغلب الأحيان، في الكون، فإن غرض هؤلاء المفكرين كان يختلف تماما عن غرض اسپينوزا؛ فقد كان هؤلاء يرمون إلى تأكيد سيادة الوجه الروحي في الكون، وربما إلى إثبات وجود «روح مطلقة» تتخلله. أما هو فقد استخدم، على نحو بارع، فكرة شيوع الفكر في كل جوانب الكون - إلى جانب شيوع الامتداد في نفس هذه الجوانب - لا لكي يدعم الرأي القائل بالروح المطلقة، بل ليقضي تماما على إمكان ظهور هذا الرأي.
ولقد وجد من الشراح من انتقدوا كثيرا من آراء اسپينوزا التفصيلية في علاقة الذهن بالجسم، ومن نبهوا إلى صعوبات جمة في فهم المعنى الحقيقي لقوله إن «الذهن فكرة الجسم».
41
وربما كان لمثل هذه الانتقادات ما يبررها، ولا سيما إذا توغلت في المقارنة بين القضايا والبراهين، وحاسبته بدقة على كل لفظ يقوله في كل موضع، غير أني أعتقد أن نظرية اسپينوزا تظل رغم ذلك مساهمة مفيدة في حل مشكلة الذهن والجسم؛ فهو من الناحية السلبية يقضي على التصور الشائع لهما على أنهما جوهران متميزان، وهو التصور الذي يجر وراءه كل الأخطاء اللاهوتية والميتافيزيقية التي حفلت بها كتابات الفلاسفة، وبذلك يكون قد أسدى إلى حضارة الإنسان خدمة كبرى إذا أثبت إمكان قيام نظرية لا تأخذ بفكرة الجوهرين المستقلين: الجسمي والروحي. أما من الناحية الإيجابية، فإن اسپينوزا كان يخوض هنا مجالا شديد العمق والتعقيد، ومن الطبيعي أن تكون صعوبة التعبير، بالنسبة إلى من يريد بحث هذه المسألة دون افتراض كيانات خفية، أشق كثيرا مما هي لدى أولئك الذين يسهل عليهم التخلص من كل صعوبة بإرجاعها إلى «الروح»، وأعتقد أنه ليس من الصعب - رغم ذلك كله - أن يفهم المرء تفسير اسپينوزا لعلاقة الذهن والجسم بالقول إنهما وجهتا نظر مختلفتان لحقيقة واحدة. ولا بد للمرء آخر الأمر من الرجوع إلى هذا التفسير، أو ما يشبهه، إذا شاء فهما لهذه المشكلة لا تتخلله عناصر غير علمية؛ فالحل الذي أتى به اسپينوزا، رغم كل صعوباته اللفظية أو الشكلية، يبدو أقرب الحلول إلى الروح العلمية الصحيحة. أما الحل الصحيح، فإنه، كما قال اسپينوزا، يتوقف أولا على معرفة الجسم وقدراته، وها نحن أولاء، في النصف الثاني من القرن العشرين، لم نكد نبدأ بعد استطلاع هذا الميدان الحافل، ميدان معرفة قدرات جسم الإنسان، ولا سيما قدرات «المخ»، والتحكم فيها. ومما لا شك فيه أن كثيرا من غوامض العلاقة بين الذهن والجسم ستحل كلما تقدمت الكشوف في هذا الميدان الشاق، ولكنا، على أية حال، كلما اكتشفنا جديدا، سنظل دائما مدينين بالفضل لاسپينوزا لأنه حذرنا من كل الحلول الهينة التي نتخلص فيها من صعوباتنا بافتراض كيانات خفية نعترف بأننا لا نعلم عنها شيئا، ومن كل الأحكام المتسرعة التي نصدرها جزافا عن العلاقة بين الذهن والجسم دون أن نكون قد تعمقنا أسرار عالم الجسم وعرفنا قدراته. (4) فكرة الضرورة
لقد كان القول بسيادة الضرورة، وما زال، من أهم الصفات التي تميز الروح العلمية، وليس معنى ذلك أن هذه الروح تفترض وجود قوة «ترغم» الظواهر على السير في طريق معينة، بل إن كل ما تفترضه هو أن مجرى هذه الظواهر، إذا ما نظر إليه في ذاته دون إقحام لأية علل خارجية فيه، يكون منتظما خاضعا لقوانين مستمدة منه ومعبرة عنه، وأن الظواهر الفردية لا تحدث خبط عشواء، بل ينبغي أن تكون لها علة تفسرها، وأنه حتى في الحالات التي لا يستطيع فيها العلم أن يحدد هذه العلة؛ لأن تطوره لم يصل إلى ذلك بعد، ينبغي «من حيث المبدأ» أن نعترف بضرورة وجود هذه العلة، وبضرورة وجود القانون الذي يحكم العلاقة بين الظواهر وعللها. ولقد ظهرت فلسفة اسپينوزا في المرحلة الأولى للعلم الحديث، وهي المرحلة التي كان فيها مبدأ الضرورة، بوصفه مثلا أعلى تسعى إليه كل معرفة بشرية، لا يزال بعيدا كل البعد عن التحقق - بل إنه لا يزال كذلك حتى الآن في مجالات غير قليلة، رغم مل ما أحرزناه من تقدم، ولكن عدم تحققه لا يعني عدم صحته . والقول بأننا لا نعرف من قوانين الكون إلا قدرا ضئيلا إلى أبعد حد، لا يبرر على الإطلاق إنكار فكرة الضرورة، بوصفها هدفا يسعى إليه العلم؛ ففي كل تقدم علمي جديد، وفي كل فهم للمزيد من أسرار الكون، نزداد اقترابا من تحقيق المثل الأعلى للضرورة الكونية الشاملة، وإن كنا نعلم أننا سنظل دائما بعيدين عن تحقيقه كاملا، فقصور إدراكنا للقوانين الكونية الشاملة، لا يعني تكذيب «المبدأ» القائل إن الأشياء تخضع لضرورة شاملة لو عرفنا قوانينها الكاملة لاكتمل علمنا بالكون.
مثل هذه النظرة إلى العالم وما فيه من ظواهر طبيعية، كانت، على بساطتها، من أصعب الأعمال التي حققها الفكر البشري؛ فقد ظل المفكرون على الدوام يضعون العقبات في وجه هذه الضرورة الكونية المتحكمة، التي لم يكن فيها إرضاء لنزعة الإنسان إلى أن يرى صورته، وآماله وأحلامه ومخاوفه، منطبعة على الكون. وهكذا حرص كثير من المفكرين، طوال تاريخ الفكر الفلسفي، على أن يتركوا وسط هذه الضرورة الطبيعية ثغرات يجدون فيه مجالا لطبع الصورة البشرية على الكون. ولا نستطيع أن نقول إن هذا الميل إلى الخلاص من موضوعية الضرورة قد زال حتى في يومنا هذا.
وإذا كان القول بسيادة القانونية والضرورة في الطبيعة أمرا صعبا، فإن القول بسيادتهما في مجال «الإنسان» أصعب كثيرا؛ فقد اعتاد الإنسان أن يستثني نفسه من التيار العام للظواهر الطبيعية، وأن يعد نفسه «سيدا» لها، يفرض عليها قوانين لا يخضع هو ذاته لها. وكان ينظر إلى عدم الخضوع هذا على أنه أكبر مظاهر علو مكانته وارتفاع شأنه في الكون. وكان لا بد له من نظام عقلي شديد لكي يقتنع بالمبدأ العام القائل إنه قد لا يكون إلا جزءا من الطبيعة، يسري عليه، في ميوله وانفعالاته، كل ما يسري عليها، وأن ما يتوهمه في نفسه أفعالا إرادية حرة لا ضابط لها ولا قانون، هي في حقيقة الأمر، لو عرفت الأسباب، أفعال ضرورية لا تختلف عن أي سلوك آخر لسائر مظاهر الطبيعة. ورغم كل ما أحرزه الإنسان في مجال السيطرة على العالم الطبيعي من تقدم، فما زالت فكرة «القانونية» في مجاله الخاص تلقى أشد مقاومة، ولا يستطيع أحد أن يقول إنها، حتى الآن، قد أصبحت هي الغالبة.
ومع ذلك، فرغم أن فكرة سيادة الضرورة والقانونية في الطبيعة، وفي الإنسان على الأخص، ما زالت تلقي في أذهان كثيرة مقاومة شديدة؛ ففي وسع مؤرخ الفلسفة أن يقول بكل اطمئنان إن اسپينوزا كان مؤمنا بهذه الفكرة إيمانا مطلقا، وأنه فعل الكثير لنشرها في وقت كانت فيه الفكرة المضادة؛ فكرة العشوائية، والاتفاق، و«الحرية»، والغائية، هي المسيطرة على الأذهان، وهي التي تعد - بما تؤدي إليه من فتح المجال واسعا لكل النزعات الصوفية غير العلمية - دليلا على الامتياز العقلي، أو على الأقل دليلا على المزيد من التقوى والورع، وهما صفتان لم يكن المفكر في ذلك العصر يسلم لو اتهم بالافتقار إليهما. فعند اسپينوزا تظهر في هذا المجال نزعة علمية لا شك فيها، تقاس بأشد النزعات العلمية قوة حتى في عصرنا هذا. (4-1) الضرورة في الكون وفي الإنسان
يعرض اسپينوزا مشكلة الضرورة والحتمية في «الرسالة القصيرة»، من خلال المصطلح السائد في العصور الوسطى، على النحو الآتي: هل يستطيع الله أن يفعل غير ما فعل؟ ويرد على هذا السؤال، بنفس لغة المدرسين، فيقول إنه ليس من الكمال الإلهي أن يفعل الله غير ما فعل، وأنه حتى لو أحدث تغييرا فيما ظل يسير عليه لما كان هذا دليلا على المزيد من القدرة ... وينتهي من ذلك إلى أن الله كان لا بد أن يفعل ما فعل، وإلى أن الحرية الاعتباطية ليست على الإطلاق من الصفات الإلهية، ويؤكد ضرورة أحداث الطبيعة نافيا عنها كل القيم العرضية.
42
هذا مثال واضح للأفكار العلمية الخالصة التي يعرضها اسپينوزا بلغة المدرسين؛ فالسؤال: هل كان الله يستطيع أن يفعل غير ما فعل؟ ليس إلا تعبيرا - من خلال لغة العصور الوسطى - عن السؤال: هل تسود الضرورة أو العرضية في الطبيعة؟ ولا جدال في أن اسپينوزا ينتهي إلى الدفاع عن سيادة الضرورة بكل ما يملك من تحمس، ولكنه يصوغ هذا الدفاع، أيضا، في لغة مدرسية، فيقول إن الله لم يكن يشرف بفعل أي شيء غير ما فعل. وبهذه الألفاظ الظاهرة البراءة يعبر اسپينوزا عن المبدأ الاسپينوزي الذي يرتكز عليه العلم، وهو أن كل شيء يسير تبعا لنظام أو قانون لا تغيير فيه، ويسد الطريق، في الوقت ذاته، على فكرة المشيئة الإلهية الاعتباطية بكل ما لها من نتائج لاهوتية متعددة.
وفي كتاب «الأخلاق» يتحدث اسپينوزا بمزيد من التفصيل عن مبدأ سيادة الضرورة في الكون، فيصف هذا المبدأ أولا بأنه ينتمي إلى طبيعة العقل البشري، أو أنه هو الطريقة التي ينبغي أن ينظر بها العقل البشري (إذا أحسن استخدامه بالطبع) إلى الأشياء، قائلا: «ليس من طبيعة العقل أن ينظر إلى الأشياء على أنها عرضية، وإنما على أنها ضرورية.»
43
ولنلاحظ أن النتيجة الثانية لهذه القضية تقول: «إن من طبيعة العقل أن ينظر إلى الأشياء من منظور الأزلية
sub quodam aeternitatis specie » وبذلك يكون نظر العقل إلى الأشياء من منظور الأزلية مرتبطا بتحكم الضرورة، وتنفى عن فكرة «الأزلية» في هذا الصدد كل ارتباطاتها الدينية، وتصبح تعبيرا عن ذلك الوجه الدائم للأشياء، الذي تكتسبه لمجرد كونها خاضعة لقانون ضروري يستبعد كل عنصر عرضي فيها. ويلخص اسپينوزا موقفه في قضية نستطيع أن نسميها «قضية الضرورة المطلقة» فيقول: «لا شيء في الكون عرضي، بل كل شيء يتحدد وجوده، ويسلك، على نحو معين وفقا لضرورة الطبيعة الإلهية.»
44
ولنذكر هنا، في صدد العبارة الأخيرة، ربطه بين «الطبيعة الإلهية» وبين «الضرورة»، وتأكيده، الذي أشرنا إليه من قبل، أن الضرورة تسري على الأفعال الإلهية ذاتها، وبذلك يكون المعنى الحقيقي للعبارة هو في واقع الأمر «وفقا للضرورة الكونية» أو «وفقا لقوانين الطبيعة».
أما الأشياء الفردية فيقول عنها: إن «كل شيء فردي، متناه، متحدد في وجوده، لا يوجد أو يتحدد فعله إلا بعلة أخرى هي بدورها متناهية وذات وجود متحدد. وهذه بدورها تتحدد بشيء متناه متحدد. وهكذا إلى ما لا نهاية.»
45
ومعنى ذلك أنه لا توجد قوى خارجية تتحكم في الأشياء الموجودة في هذا العالم، وأن ظواهر الطبيعة ينبغي أن تفسر بقواها الخاصة فقط، وأن من الواجب البحث عن علة طبيعية فقط - لا أي نوع آخر من العلل - لكل ما في الكون.
ومن طبيعة الجسم الفردي أنه يحتفظ بطبيعته إذا تغيرت حركته وظلت مع ذلك محتفظة بمقدارها العام، أو إذا عرضت حركة جديدة فيه كل حركة قديمة زالت، أو إذا كان مركبا وحلت فيه أجسام فردية محل أجسام أخرى زالت، وكانت لها نفس طبيعتها. وعلى أساس هذه الفكرة الميكانيكية الخالصة، فكرة الأجسام الفردية التي تظل محتفظة بطبيعتها العامة رغم اختلاف حركاتها الداخلية، يفسر اسپينوزا الكون كله تفسيرا مماثلا، ويرسم له صورة ميكانيكية تسودها القانونية المطلقة، فيقول: «نستطيع أن نرى، مما سبق، كيف أن الفرد المركب يمكن أن يتأثر على أنحاء شتى، ويظل مع ذلك محتفظا بطبيعته. ولقد ظللنا حتى الآن نبحث في الفرد المؤلف من أجسام لا يتميز بعضها عن الآخر إلا في الحركة والسكون، والسرعة والبطء؛ أي من أبسط أنواع الأجسام. أما إذا تصورنا فردا آخر مؤلفا من عدة أفراد لهم طبائع متباينة، فسنجد أن عدد التأثرات التي يمكن أن تحل عليه دون أن يفقد طبيعته يتضاعف كثيرا ... فإذا ما تصورنا نوعا ثالثا من الأفراد، يتألف من أفراد من هذا النوع الثاني، فسنجد أنه يمكن أن يتأثر على أنحاء أعظم كثيرا من هذه، دون أن تتغير حقيقته، ومن السهل أن نمضي على هذا النحو إلى ما لا نهاية، ونتصور الطبيعة بأسرها على أنها فرد واحد، تتغير أجزاؤه؛ أي جميع الأجسام، على أنحاء لا متناهية، دون أن يطرأ أي تغيير على الفرد في مجموعه.»
46 •••
أما على المستوى الإنساني،
47
فإن نفس فكرة الضرورة هي السائدة؛ ذلك لأن الحرية التي تنسب إلى الإرادة البشرية ليست، في واقع الأمر، إلا جهلا بالأسباب. والواقع أن كل ما هو جزئي؛ أي كل ما يرتبط في وجوده بغيره، ويستمد منه عناصر ضرورية لهذا الوجود، هو بحكم هذا الارتباط ذاته فاقد لحريته، «فالشيء يكون حرا
libera
إذا وجد بضرورة طبيعته فحسب، وإذا تحدد فعله بذاته فحسب، ومن جهة أخرى يكون الشيء ضروريا، أو على الأصح مرغما
coacta ، إذا تحكم شيء خارج عنه في وجوده أو فعله على نحو ثابت محدد.»
48
ولنلاحظ، في صدد النص السابق، أن استدراكه الذي استبدل فيه كلمة «مرغم» بكلمة «ضروري» كان استدراكا لا بد منه، بل كان ينبغي عليه حذف كلمة «الضروري» تماما من سياق الجزء الثاني من التعريف؛ ذلك لأن اسپينوزا هو الذي أكد مرارا الفارق بين «الضرورة» و «القهر»، وربط، من جهة أخرى، بين الضرورة والحرية؛ فالضرورة في رأيه تحدد باطن، أما القهر فهو خضوع لقوة خارجية. ومن الممكن، بهذا المعنى، أن يكون الشيء ناتجا عن الضرورة والحرية في آن واحد: «فرغبة المرء في أن يحيا ويحب ... إلخ، ليست نتيجة لقهر، ولكنها مع ذلك ضرورية.»
49
وبعبارة أخرى: فاسبپينوزا لا يفهم الحرية إلا من حيث هي مرتبطة بمثل هذه الضرورة الذاتية. أما الحرية الأخرى، حرية الإرادة، وحرية الاختيار على غير أساس، فهي التي يرفضها اسپينوزا تماما.
وعلى أساس هذه التفرقة بين معنيي كلمة «الحرية» نستطيع أن نفسر ظاهرة قد تبعث في نفس القارئ، لأول وهلة، قدرا غير قليل من الدهشة؛ ذلك لأن اسپينوزا لا يمل من تكرار القول بأن فكرة الحرية واهمة، وأنها مظهر خداع لا وجود له. ولكنه في نفس الكتاب الذي يؤكد فيه هذه الفكرة بكل قوة - أعني كتاب «الأخلاق» - يؤكد أن هدفه هو عرض أخلاق «الإنسان الحر» ويكرس الباب الأخير منها للحديث عن حرية الإنسان. فكيف إذن نوفق بين هذين المظهرين في فلسفته؟ لا شك في أن الحرية، كما عناها اسپينوزا في «الباب الخامس»، هي تلك الحرية الناجمة عن التحكم الذاتي، كما رأينا في تعريفه السابق؛ ففي هذا الباب يتحدث اسپينوزا عن الطريق الذي يسير فيه العقل حين يكتشف الضرورة الكامنة في الكون، فيحرر ذاته عن طريق فهم طبيعته وعلاقته بالعالم فهما كاملا. مثل هذا التحرر الناجم عن إدراك الإنسان لموقعه الحقيقي في الكون، قد يسمى من جهة «ضرورة»؛ لأن فكرة الضرورة هي التي تغدو الفكرة المسيطرة على نظرته إلى نفسه وإلى الأشياء عندئذ، ولكنه يمكن أن يسمى أيضا «حرية» لأن الحقيقة تحرر الإنسان؛ ومن هنا كشف عنوان الباب عن سبب هذه الحرية، وهو العقل؛ إذ كان موضوع البحث فيه هو: «في قوة العقل أو حرية الإنسان». (4-2) الحملة على الغائية
ترتبط الحملة على الغائية بتأكيد فكرة الضرورة ارتباطا وثيقا: ذلك لأن العامل الأساسي الذي حال دون تأكيد فكرة الضرورة في كل العصور هو رغبة الإنسان في تأمل الطبيعة وفقا لغاياته الخاصة؛ فهو يترك الطبيعة فيها للصدفة والاتفاق حتى يجد فيها مجالا لتأكيد الغايات المتفقة مع طبيعته وأمانيه، وحتى يستطيع أن يقول إن ظواهر الطبيعة «تهدف» إلى غايات شبيهة بغاياته الخاصة؛ ومن هنا كان نفي الغائية، في واقع الأمر، وجها آخر من أوجه تأكيد اسپينوزا لفكرة الضرورة.
وتتضمن مقدمة الباب الرابع من «الأخلاق» عرضا دقيقا لحملة اسپينوزا على الغائية، كتب بأسلوب مسترسل تشيع الروح العلمية الصحيحة في كل كلمة فيه: «فالطبيعة لا تعمل مستهدفة غاية ما؛ ذلك لأن الكائن الأزلي اللامتناهي، الذي نسميه الله أو الطبيعة، يسلك وفقا لنفس الضرورة التي يوجد بها ... أي إن السبب أو العلة التي تجعل الله أو الطبيعة موجودا، والسبب الذي يجعله يسلك، هو سبب واحد ... وليس لوجوده وفعله أصل ولا غاية؛ ومن ثم فإن العلة التي تسمى غائية ليست إلا الرغبة البشرية، بقدر ما تعد أصلا أو علة لأي شيء.» وبعبارة أخرى: فإن نفس القوانين التي تستخلص من السير الفعلي للطبيعة، هي ذاتها ما يسمى بقوانين المسلك الإلهي، ومن المحال أن تستهدف الطبيعة أية غاية، بل إن مسارها كله ضروري، ومستمد من ضرورة وجودها فحسب.
ويؤكد اسپينوزا في تذييل الباب الأول من «الأخلاق» أن أخطاء الناس وتغرضاتهم ترتد كلها إلى خطأ واحد أساسي: «فالناس في عمومهم يظنون أن كل الأشياء الطبيعية تسلك، مثلهم، مستهدفة غاية ما، بل إنهم يوقنون بأن الله ذاته يدبر كل شيء مستهدفا غاية معينة؛ إذ يقولون إن الله خلق كل شيء من أجل الإنسان، ولكنه خلق الإنسان ليتلقى منه عبادته.» ويعلل اسپينوزا هذا الاعتقاد بالغائية بأنه راجع إلى اعتياد الإنسان استخدام الأشياء الطبيعية «وسائل» لتحقيق غاياته. ولما كان الإنسان يصنع كثيرا من هذه الأشياء بيديه؛ فقد اعتقد أن في الطبيعة صانعا أو عدة صناع
50
مهمتهم تشكيل الطبيعة وفقا لما يرضي الإنسان. ومن جهة أخرى؛ فقد اعتقدوا أن ما تسببه الطبيعة من كوارث ونكبات، سببه غضب الآلهة على الناس لانعدام تقواهم، رغم ما يرونه بأعينهم من أن هذه الكوارث تصيب التقي وغير التقي معا، وحتى لو تنبه أحدهم إلى ذلك، فإنه يؤثر أن يقول إن ذلك راجع إلى حكمة لدى الآلهة تتجاوز نطاق فهمه، ويفضل أن يحكم على عقله بالعجز بدلا من أن يراجع تفسيره منذ البداية. ويؤكد اسپينوزا أن القول بأن الله يسلك وفقا لغاية ما، إنما هو حكم على الله بالحرمان من أشياء يرغب في تحقيقها. وهو يفسر التجاء الناس إلى التفسير الغائي بجهل الأسباب: «إذ إنهم يعلمون أن الجهل ما إن يختفي، حتى تزول تلك الدهشة التي هي وسيلتهم الوحيدة إلى الدفاع عن آرائهم وحفظ سلطتهم. وهكذا يختار الناس من الصفات ما يلائم أمزجتهم أو يوافق خيالهم، وينسبونها إلى الأشياء ذاتها، لاعتقادهم بأن هذه الأشياء إنما صنعت من أجلهم.»
والحق أن تذييل الباب الأول من الأخلاق، الذي أوردنا هنا قليلا من حججه، هو من أروع الصفحات التي كتبها ذهن متحرر تماما من الأوهام وصل بتفلسفه إلى قمة الروح العلمية النقية من كل شائبة. وأشك جدا في أن كثيرا من المفكرين المعاصرين، حتى المشتغلين بالشئون العلمية منهم، يمكنهم الوصول إلى هذه المرتبة الرفيعة في تأمل الطبيعة على نحو خلا تماما من كل الأوهام الغائية التي طالما أفسدت تفكير البشر. وإني لأذكي هذا التذييل ليكون قراءة إجبارية لكل من يزمع اتخاذ البحث العلمي - بأية صورة من صوره - ميدانا للعمل. والأمر الذي يدعو إلى الإعجاب حقا أن يتملك هذا اليقين العلمي ذهنا في القرن السابع عشر، الذي كان التفكير العلمي فيه ما يزال مختلطا بكثير من شوائب العصور الوسطى، حتى لنجد بين كبار فلاسفته، ممن مارسوا البحث العلمي ممارسة حقيقية، مثل ديكارت وليبنتس، من تحفل كتاباتهم بآثار النزعة الغائية اللاعلمية، وإنا لنتفق تماما مع حكم «سيڨك» القائل: «إن اسپينوزا من أكبر أعداء نظرية الغائية. وهو لم يكتف بإنكارها كما فعل الكثيرون غيره. بل لقد عمل على إثبات استحالتها إيجابيا، وعلى إيضاح أصولها التاريخية والنفسية، وعرض نظرية ترمي إلى الحلول محلها.»
51
فإذا كان إنكار الغائية وحده يعد من أقوى مظاهر الروح العلمية السليمة، فلا جدال في أن محاولة تفسيرها نفسيا وتاريخيا تعد مساهمة أعظم في دعم هذه الروح العلمية، وهي مساهمة تدعو إلى الاستغراب حقا بالنسبة إلى العصر الذي عاش فيه اسپينوزا.
ويقدم اسپينوزا تفسيرا لسلوك الأحياء - ومنها الإنسان ذاته - خلا تماما من كل نوع من الغائية. ويقوم هذا التفسير على نزوع
conatus
الكائنات كلها إلى حفظ وجودها، وهو نزوع طبيعي بحت، لا شأن له بأية غاية. وهو يصف نزوع الكائنات إلى الاستمرار في الوجود بأنه ماهيتها الفعلية، ويعقب على هذه الملاحظات العامة بقوله: «إن هذا النزوع، عندما يتعلق بالذهن وحده، يسمى بالإرادة، وعندما يتعلق بالذهن والجسم مقترنين يسمى بالميل الاشتهائي
Appetitus
وما هو في الواقع إلا ماهية الإنسان، التي تتلو منها بالضرورة كل النتائج الرامية إلى حفظه والتي يتحتم على الإنسان بالتالي أداؤها. ... والرغبة هي الميل الاشتهائي مصحوبا بالإدراك الواعي له. وهكذا فمن الواضح مما قلناه أننا لا نسعى على الإطلاق إلى أي شيء أو نتمناه أو نتوق إليه أو نرغبه؛ لأننا نعتقد أنه شيء طيب، بل إننا على العكس من ذلك نراه شيئا طيبا لأننا نسعى إليه أو نتوق إليه أو نرغبه.»
52
مثل هذا التفسير - الذي طالما نوه عنه الباحثون باستباقه لبعض النظريات الحديثة في علم النفس، مثل نظرية چيمس-لانجه في علاقة الانفعالات بأسبابها - كان انقلابيا بالنسبة إلى عصر اسپينوزا، وهو، وإن يكن قائما على أساس نظري بحت، محاولة لها قيمتها الكبرى لاستبعاد كل العناصر الغائية من مجال السلوك البشري، ولإيجاد مبدأ واحد طبيعي صرف - بل قد يعد ميكانيكيا من وجهة نظر معينة - هو مبدأ نزوع الكائن إلى حفظ وجوده أو الاستمرار في وجوده، وعن طريق هذا المبدأ، الذي لا يداخله أي عنصر غائي أو تقويمي، ينتقل اسپينوزا تدريجيا إلى تفسير كل أوجه السلوك البشري على نحو لا تكون فيه إلا مظاهر لاتجاه مطرد، لا ينطوي على أي تباين كيفي، يسعى فيه الإنسان، كسائر الكائنات الحية، إلى حفظ وجوده وإبقائه مستمرا، ولا تكون الغايات الظاهرة للسلوك إلا تعبيرا معقدا ، غير دقيق، عن هذا النزوع الأصلي. •••
ولا شك أن القضاء على الغائية في سبيل تأكيد فكرة الضرورة، يرتبط حتما بفلسفة خاصة في القيم تنكر كل ما لهذه القيم من طابع أنتولوجي أو وجود واقعي، وتتضح معالم هذه الفلسفة عند اسپينوزا في عبارته الموجزة: «الواقع والكمال عندي لفظان مترادفان.»
53
ولا جدال في أن الطرف الثابت في هذا الترادف، عند اسپينوزا، هو الواقع، والطرف الذي يرد إلى الآخر هو الكمال، فليس لهذه العبارة أية صلة بالنظريات التي تجعل الكمال صفة من صفات الواقع أو تضفي على الكمال دلالة أنتولوجية، بل إنها، على العكس من ذلك، ترمي إلى تأكيد أن ما نسميه كمالا أو نقصا إنما يرجع إلى نظرتنا الخاصة إلى الأمور، وأن الأشياء لا تحمل من الصفات إلا ما هو واقعي فيها، وكل ما عدا ذلك من صنعنا نحن.
ويعبر اسپينوزا عن هذه الفكرة تعبيرا أوضح في مقدمة الباب الرابع من الأخلاق، فيقول: «ليس الكمال والنقص إلا طريقتين في التفكير، أو فكرتين، نكونهما عن طريق مقارنة أفراد النوع الواحد بعضهم ببعض؛ وعلى ذلك ... فأنا أعني بالواقعية والكمال شيئا واحدا ... فبقدر ما ... نجد أن بعض [الأفراد] لديها من الوجود أو الواقعية أكثر مما لدى غيرها، نقول، إلى هذا الحد، إن بعضها أكمل من بعضها الآخر، وكذلك فبقدر ما ننسب إليها أي شيء ينطوي على السلب - كالحد، والنهاية، والاختلال ... إلخ - نسميها، إلى هذا الحد، ناقصة؛ لأنها لا تؤثر في ذهننا بقدر ما تؤثر الأشياء التي نسميها كاملة، لا لأن فيها أي نقص كامن، أو لأن الطبيعة قد أخطأت؛ ذلك لأن طبيعة الشيء لا تنطوي إلا على ما يتلو من ضرورة طبيعة علته الفاعلة، وكل ما يتلو من ضرورة طبيعة علته الفاعلة يحدث بالضرورة.» والمقصود هنا بما يتلو من ضرورة العلة الفاعلة الشيء، الصفات الواقعية أو الفعلية لهذا الشيء، والتي هي وحدها المنتمية إلى ماهيته أو طبيعته. أما كل ما عدا ذلك من صفات فهو من صنعنا.
ولا شك أن القارئ يدرك أن المعنى الحقيقي لكلمتي: الكمال والنقص هنا، في ضوء المصطلح الفلسفي الحديث، هو فكرة «القيم». فالذي يعنيه اسپينوزا هو أن كل ما يتصوره الإنسان من قيم إنما هو من صنع الإنسان ذاته، وأن الأشياء في ذاتها ليست كاملة أو ناقصة، جميلة أو قبيحة، طيبة أو رديئة، وإنما هي واقعية تحدث كما تحدث. وتلك فكرة قد تبدو بديهية واضحة في نظر الكثيرين، غير أن تأمل نماذج الفكر البشري في مختلف عصوره يثبت أنها كانت أبعد ما تكون عن الوضوح في أذهان عدد لا يستهان به من كبار الفلاسفة بل والعلماء، والدليل على ذلك هو إقحام الأفكار الغائية في تفسير الظواهر الطبيعية، وهو أمر لم تتخلص منه علوم كثيرة حتى يومنا هذا (كعلم البيولوجيا مثلا).
ولو شئنا أن نتحدث عن تفسير لظهور القيم، عند اسپينوزا، لقلنا إن هذا التفسير إنما هو ضيق حدود الذهن الإنساني، وعدم قدرته على استيعاب الطبيعة بأطرافها اللامتناهية. وهكذا يحد الإنسان نظرته إلى الطبيعة بمجال معين يتأمله من خلال أمانيه ورغباته الخاصة، ويفسره على أساسها، بينما لو كان قادرا على إدراك مجموع العلاقات اللانهائية المتشابكة في الطبيعة لاختفت هذه القيم التي صنعها تماما، ولظهر كل شيء على حقيقته جزءا من نسق هائل لا نهائي التعقيد في الكون. «فحدود الطبيعة ليست هي قوانين العقل البشري، الذي لا يفعل شيئا سوى السعي إلى تحقيق الصالح الحقيقي للجنس البشري وحفظه، وإنما هي قوانين أخرى لا نهائية، تتعلق بالنظام اللانهائي للطبيعة الكونية، التي لا يكون الإنسان إلا ذرة منها، وتبعا لضرورة هذا النظام وحدها يتحدد وجود كل الكائنات الفردية وسلوكها على نحو ثابت؛ وعلى ذلك فكلما بدا لنا شيء في الطبيعة عجيبا أو ممتنعا أو شرا، فما ذلك إلا لأن معرفتنا بالأشياء جزئية، ولأننا في أغلب الأحيان جاهلون بنظام الطبيعة من حيث هي كل وإحكامها، ولأننا نريد أن يسير كل شيء وفقا لما يمليه عقلنا، مع أن ما يراه عقلنا شرا ليس في الواقع شرا فيما يتعلق بنظام الطبيعة الكونية وقوانينها، وإنما فيما يتعلق بقوانين طبيعتنا نحن وحدها، مأخوذة على حدة.»
54
وطالما أننا بصدد الكلام عن نظرية اسپينوزا في القيم. فمن المفيد أن نتحدث عن آرائه في بعض القيم التفصيلية، ولكن لما كان البحث في الخير والشر داخلا في باب الأخلاق التي سنعالجها في فصل آخر، والبحث في الحقيقة والبطلان داخلا في مجال المنهج ونظرية المعرفة، وهما موضوعان سبق لنا معالجتهما، فلا بأس في هذا المقام من أن نقول كلمة عن القيم الجمالية، وهو موضوع قلما تعرض له شراح اسپينوزا.
كان اسپينوزا، في المواضع القليلة التي تعرض فيها للقيم الجمالية والفنية، يقوم بتشريح هذه القيم وتحليلها من وجهة نظر العالم والفيلسوف لا من وجهة نظر الفنان؛ فهو يبحث في أصلها، وموقعها في العالم الواقعي، وعلاقتها بحياة الإنسان، ولا يبحث في الدلالة الجمالية الخالصة لهذه القيم؛ أي إنه، بالاختصار، ينظر إلى الفن من الخارج، لا من الداخل. وتتضح نظرته العلمية إلى طبيعة الجمال في قوله في الرسالة رقم 54: «إن الجمال ليس صفة في الشيء موضوع البحث بقدر ما هو أثر في ذلك الذي يتأمله، ولو كانت قدرتنا على الإبصار أقوى أو أضعف، ومزاجنا مختلفا، لبدت لنا الأشياء الجميلة قبيحة، والقبيحة جميلة. ولا بد أن أجمل الأيدي تبدو شنيعة إذا ما نظرنا إليها بالمجهر. ومن الأشياء ما يبدو جميلا عن بعد، حتى إذا ما اقتربنا منه ظهر قبحه. وهكذا فإن الأشياء إذا ما نظر إليها في ذاتها أو في علاقتها بالله، لا تكون جميلة ولا قبيحة. وعلى من يزعم أن الله خلق العالم ليكون جميلا، أن يعترف ضرورة بأن الله قد صنع العالم من أجل رغبة الإنسان وعيونه، أو بأنه صنع رغبة الإنسان وعيونه من أجل العالم.»
وحين يحاول تعليل أصل الجمال والقبح علميا، يذكر أننا نحكم بالجمال على ما يلائمنا نحن فحسب، بغض النظر تماما عن طبيعته الواقعية فيقول: «... إذا كانت الحركة التي توصلها الأشياء إلى أعصابنا نافعة للصحة، سميت الأشياء المسببة لها جميلة، وإذا بعثت الأشياء حركة مضادة سميت قبيحة ...
وكل ما يؤثر في آذاننا يقال إنه يسبب ضوضاء أو صوتا أو انسجاما. وفي هذه الحالة الأخيرة، كان من الناس من بلغ بهم الهوس حد القول إن الله ذاته يطرب للانسجام. ولم يعدم العالم فالفلاسفة أقنعوا أنفسهم بأن حركة الأجرام السماوية تبعث الانسجام - وهي أمثلة تكفي للدلالة على أن كل شخص يحكم على الأشياء وفقا لحالة ذهنه، أو على الأصح يتوهم خطأ أن صور خياله تنطبع على الأشياء ذاتها.»
55
مثل هذه النصوص، وغيرها، قد دعت بعض الشراح إلى أن يصدروا عليه أحكاما من النوع الذي أشار إليه «هامشاير»، حين أورد ملاحظة قال فيها «پولوك
» إنه برغم ما يتضمنه كتاب «الأخلاق» من دراسة دقيقة لقوى الإنسان وانفعالاته فإن اسپينوزا لم يتحدث عن الفن إلا عرضا. ويبدو أنه لم يعلق أهمية على التجربة الجمالية في مذهبه في السعادة البشرية، ثم علل ذلك بأنه مظهر لانعزاله العام عن المؤثرات اليونانية ومؤثرات البحر المتوسط (وبالتالي لتأثير حضارة العهد القديم فيه).
56
هذا الحكم في نظرنا، وإن كان صحيحا في ظاهره، لا ينصف اسپينوزا على الإطلاق؛ ذلك لأن من الواجب التفرقة دائما بين من يتحدث عن الفن بوصفه عالما أو فيلسوفا نظريا، وبين من يتحدث عنه بوصفه فنانا أو متذوقا للفن. ولا جدال في أن اسپينوزا قد تحدث من وجهة النظر الأولى فقط، ولم يتعرض لوجهة النظر الثانية أبدا، وعلى ذلك لا يصح الحكم عليه بالاستهانة بالتجربة الجمالية؛ فهدف اسپينوزا الدائم كان نقد الاتجاهات المشبهة بالإنسان؛ أي وصف الأشياء ذاتها من خلال ما يمر بخيال الإنسان، ومن هذه الزاوية فقط كان حكمه على قيم الجمال والقبح؛ فكل ما يريد أن يقوله هو أنك إذا نظرت إلى الأشياء من وجهة نظر الأزل، أو من حيث هي أجزاء من الطبيعة الشاملة، أو في علاقتها بالله (وهي كلها تعبيرات مختلفة عن معنى واحد في نظره)، فمن الواجب ألا تعدها جميلة أو قبيحة؛ لأن هذه صفات تضفيها أنت على الأشياء؛ فالجمال والقبح، وبقية القيم، تنتمي إلى مجال وجهة النظر البشرية وحدها. وهذا ليس معناه إنكار هذه القيم، وإنما الأمر الذي لا يمل ترديده هو ألا نخلط بين مجال تفسير الأمور من وجهة نظر الطبيعة الضرورية للأشياء، وبين مجال نظرتنا الإنسانية إليها من خلال خيالنا وأمانينا ومشاعرنا؛ ففي المجال الأول ينبغي أن نكون موضوعيين تماما، ونتجرد من كل ما له صلة بمنظورنا البشري البحت. أما المجال الثاني فهو الذي تظهر على مستواه مشكلة الفن.
وبعبارة أخرى: فلسنا نرى على الإطلاق أي تعارض بين إنكار اسپينوزا للوجود الواقعي للقيم الجمالية، وبين اعترافه بهذه لقيم ذاتها في مجال التجربة الفنية النابعة من المشاعر والخيال، وهل يحول تحليل العالم الطبيعي للأصوات الموسيقية إلى مجرد أرقام تعبر عن الذبذبات ودراسته لطبيعة الصوت دراسة نظرية جافة، دون استمتاعه بهذه الموسيقى إذا ترك معمله ودخل قاعة العزف؟ وهلا يستطيع الفنان دائما أن يقول: صحيح أن الانسجام بين هذه الأصوات ليس صدى لانسجام كوني ضروري، ولكنه مع ذلك يطربني؟
إنني أكاد أجزم بأن كل ما قاله اسپينوزا عن الجمال، في صدد نقد الغائية وتأكيد سيادة الضرورة، لم يكن ذا صلة بحكمه على الفن من حيث هو تجربة إنسانية على الإطلاق. ومن المؤكد أن معركته من أجل إرساء دعائم التفكير العلمي كانت أهم في نظره من أية غاية أخرى. وقد يستطيع المرء، قياسا على نظريات أخرى له، أن يتكهن باتجاه نظرية الفن لديه لو كان قد اتجه بتفكيره إلى هذا الميدان؛ فآراء اسپينوزا العامة في الانفعالات توحي بنظرية نفعية في الفن؛ إذ كان دائما يؤثر الانفعال الذي يبعث السرور على ذلك الذي يبعث الألم، ويدعو الإنسان إلى الشعور بالبهجة وطرح الصور الأليمة الحزينة من حياته، ويؤكد دائما معنى السعادة والفرح في حياة الإنسان. ولا جدال في أن هذه الآراء العامة لو طبقت على مجال الفن فستؤدي إلى إخضاع ما هو جميل لما هو نافع للإنسان أو باعث للسعادة فيه، أو ما هو عنصر إيجابي في دفع حياة الإنسان إلى الأمام - وهذه كلها من القضايا التي يقول بها أصحاب النظريات الأخلاقية أو الاجتماعية في الفن .
57
أما القول بأن اسپينوزا لم يكن يحفل بالتجربة الفنية على الإطلاق فليس في رأينا صحيحا. ومن القرائن التي تكذبه أن اسپينوزا كان مهتما بالتصوير. وقد اتصل بفنان هولندا الأعظم «رمبرانت» ورسم له هذا الأخير لوحة مشهورة ما زالت هي التي تصدر كثيرا من الكتب المؤلفة عنه، وفضلا عن ذلك فقد عرف عنه أنه كان يرسم في أوقات فراغه صورا مختلفة، منها صور لبعض أصدقائه، ومنها صورة رسمها لنفسه بملابس الثائر الإيطالي الشهير «مازانيلو
Masanillo »،
58
ومن المعروف أن ميدان التصوير كان هو المجال الأكبر للفن في ذلك العصر، ولم تبدأ الموسيقى تحتل المركز الأهم بين الفنون إلا في القرن التالي.
وأخيرا، فهناك في رأيي دليل آخر واضح على أن كل ما كتبه اسپينوزا عن موقع القيم الجمالية في الكون لا ينبغي أن يعد تعبيرا عن إنكاره لموقع هذه القيم في مجال التجربة البشرية؛ ذلك لأن اسپينوزا كان دائما يتحدث عن القيم الأخلاقية، كالخير والشر، في نفس الموضع الذي يتحدث فيه عن القيم الجمالية، وكان يقرن كل هذه القيم معا ويصدر عليها نفس الحكم. ومع ذلك فمن المعروف أن هدف اسپينوزا النهائي كان أخلاقيا قبل كل شيء، وأنه كرس كتابه الأكبر لغاية أخلاقية، وأن حياته ذاتها كانت تطبيقا رائعا متسقا لأرفع المبادئ الأخلاقية، وإذن فلم يكن تأكيده خلو الطبيعة في مجموعها من أية غائية أخلاقية كالخير، حائلا دون إيمانه بالأخلاق - على المستوى الإنساني - وممارسته لها بكل إخلاص. ومثل هذا يمكن أن يصدق، بالتأكيد، على كل القيم الأخرى ومنها القيم الجمالية بطبيعة الحال. (5) اسپينوزا والعلم
من المحال أن يقارن المرء شهرة اسپينوزا في الميدان العلمي - بمعناه الدقيق - بشهرة ديكارت أو ليبنتس، أو حتى كانت؛ فلم يساهم اسپينوزا بنصيب ملموس في أي علم من علوم عصره، وكانت شهرته من بدايتها إلى نهايتها، ترجع إلى كونه فيلسوفا نظريا، لا عالما.
ومع ذلك فق كان لدى اسپينوزا «اهتمام» غير قليل بالعلم التجريبي في عصره: ونستطيع أن نقول: إن اشتغاله في صقل العدسات، وشهرته بوصفه صانعا ماهرا لعدسات المجاهر والمناظير المقربة، كان أمرا له دلالته الرمزية القوية؛ فقد كانت العدسات في عصره هي الأداة الكبرى لفتح آفاق علمية جديدة: آفاق العالم الأصغر في البيولوجيا، وهو العلم الذي بدأت فتوحه تتوالى في عصر اسپينوزا، وعلى يد علماء من نفس البلد الذي عاش فيه. كذلك أحرز علم الفلك تقدما انقلابيا هائلا كانت أداته الرئيسية هي المناظير الفلكية، وأخيرا؛ فقد تقدمت الأبحاث في ميدان علم الفيزياء تقدما ضخما في عصره، ولا سيما في فرع البصريات، وكان ذلك بدوره ميدانا ساهمت فيه العدسات الضوئية بنصيبها، فإذا لم يكن اسپينوزا قد ساهم مباشرة في تقدم علوم عصره، فإنه لم يكن متفرجا غير مكترث بأية حال، بل كان يتابعها بكل شغف واهتمام.
ويستطيع القارئ أن يجد في الرسائل الأولى التي يتبادلها اسپينوزا مع العالم الإنجليزي «أولدنبرج» مناقشات طويلة بينهما عن أبحاث العالم «روبرت بويل
Robert Boyle » وكتبه وتجاربه. وقد ناقش اسپينوزا هذه التجارب بالتفصيل، ورغم أنه لم يأت في مناقشته بجديد؛ فقد بدا اهتمامه بالعلم التجريبي فيها واضحا كل الوضوح. وكما قال «ماكيون»: «ليس ثمة شك في اهتمام اسپينوزا الواعي بالتقدم العلمي لعصره.»
59
ومع ذلك يذكر هذا المؤلف أن اهتمام اسپينوزا بالعلم قد حد منه تفسيره الخاص للطبيعة ودور التجريب المحدود في كشفها؛ إذ إن الفهم الحقيقي للطبيعة إنما يكون عن طريق العقل لا التجربة.
وفي رأينا أن اسپينوزا إذا لم يكن قد ساهم في علوم عصره، فذلك يرجع فقط إلى أنه اختار ميدانا آخر لنشاطه العقلي، ولا يرجع إلى كونه قد فضل العقل على التجربة؛ فهو بالفعل قد آثر التأمل العقلي، ولكن في الميدان الذي يجوز فيه هذا التأمل، ويفضل على التجريب، وهو ميدان التفلسف النظري. وليس في نصوص اسپينوزا كلها ما يدل على أنه كان يحط من شأن المنهج التجريبي في الميدان الخاص الذي يطبق فيه هذا المنهج. وقد آثر اسپينوزا لنفسه - بمحض اختياره - أن يكون فيلسوفا نظريا، لا عالما، ولكنه عبر بكل وضوح عن احترامه للعلم إذ حاول في فلسفته النظرية أن يستخلص المقدمات الضرورية العامة للروح العلمية، مثل نفي العلل الغائية، واستبعاد التفكير الأسطوري الخرافي التشبيهي بالإنسان، والإيمان بالحتمية وبالارتباط العلي للظواهر، ودافع عن هذه المبادئ - التي لا يقوم دونها علم صحيح - ضد جميع القوى اللاعقلية الجبارة التي كانت لا تزال لها السيطرة في عصره؛ وعلى هذا الأساس يمكن أن تعد فلسفته مقدمة للروح العلمية بوجه عام، ومدخلا إلى كل تفكير يريد أن يسمي نفسه علميا.
ومن جهة أخرى، فإذا كان اسپينوزا لم يساهم في علوم عصره بجديد؛ فقد ساهم في علم النفس وفي الأخلاق التجريبية حتى قيل عنه: «إن أصالة اسپينوزا ترجع إلى أنه كان أول من طبق مذهب قوانين الصيرورة على العقل مثلما تطبق على الجسم ... وفضلا عن ذلك فقد كان أول مفكر من المحدثين طبق قانون «القصور الذاتي» الذي وضعه جاليليو على علم النفس والأخلاق عندما أكد أن كل صورة من صور الحياة تسعى إلى الاستمرار في الوجود إلى أجل غير محدود. وفي رأينا أن فكرة أولوية النزوع إلى حفظ الذات كانت تمثل انفصالا تاما عن نظرية المدرسيين الذين قالوا إن جميع الأنواع الطبيعية موجهة إلى غايات محددة أو علل غائية وأن الطبيعة البشرية إنما جعلت من أجل غاية عالية ما ... وقد استبق اسپينوزا بنظريته في الانفعالات نظرية «چيمس لانجه» فضلا عن نظرية التحليل النفسي عند فرويد.»
60
ومن جهة أخرى فقد كانت الدراسات التاريخية التي قام بها للأناجيل في «البحث اللاهوتي السياسي» - كما سنرى فيما بعد - استباقا عبقريا للبحوث التاريخية المقارنة التي لم يبدأ ظهورها في هذا الميدان إلا منذ القرن التاسع عشر، ومن الممكن أن يعد بحق رائدا لعلم التحليل التاريخي للأناجيل، في عصر لم تكن مجرد فكرة التفسير التاريخي للظواهر الاجتماعية تخطر فيه على بال أحد - فما بالك إذا كانت تلك الظواهر ذات طابع ديني؟ •••
ولكن أعظم ما ساهم به اسپينوزا من أجل العلم هو، في رأينا، فلسفته النظرية ذاتها - تلك الفلسفة التي كانت تقوم في جميع نواحيها على المعقولية التامة، وتستبعد كل التفسيرات الغيبية، وتدعو بلا ملل إلى القضاء على آثار الجهالة والتخلف العقلي، وتجعل من الكون نظاما ضروريا واحدا قابلا للفهم. وعلى أساس هذه النظرية العلمية الدقيقة إلى الكون حاز اسپينوزا على إعجاب عدد ضخم من أكبر العلماء، ولا سيما أينشتين الذي كان يؤكد دائما إعجابه بنظرته الحتمية إلى الواقع وإخضاعه العالم لقوانين دقيقة، فضلا عن تحليله العلمي للسلوك البشري ذاته؛
61
ولذا فإن أفضل خاتمة لهذا الفصل، في رأينا، هي اقتباس بعض العبارات العميقة التي أبدى بها أينشتين تقديره الواضح لروح اسپينوزا العلمية: «رغم أن اسپينوزا عاش قبل عصرنا بثلاثمائة عام، فإن الموقف الروحي الذي كان عليه أن يتعامل معه يشبه الموقف الروحي الحالي إلى حد بعيد. ولم يكن مرد ذلك فقط إلى أنه كان مقتنعا كل الاقتناع بالترابط العلي لجميع الظواهر، في وقت لم تكن فيه الجهود التي بذلت لبلوغ معرفة بالعلاقة العلية للظواهر الطبيعية قد أحرزت فيه إلا نجاحا ضئيلا. ولقد امتد اقتناع اسپينوزا لا إلى الطبيعة الجامدة فحسب، بل إلى المشاعر والأفعال البشرية أيضا. ولم يكن لديه شك في أن فكرتنا القائلة إن لدينا إرادة حرة (أي مستقلة عن العلية) كانت خداعا ناتجا عن جهلنا بالأسباب المتحكمة فينا، ولقد وجد في دراسة هذه العلاقة العلية دواء شافيا من الخوف والحقد والمرارة، هو الدواء الوحيد الذي يمكن أن يلجأ إليه إنسان روحي بحق. وأثبت تبريره لهذا الاقتناع، لا بصياغته الواضحة الدقيقة لأفكاره فحسب، بل بسلوكه المثالي الرائع في حياته أيضا.»
62
الفصل الرابع
الله أو الطبيعة
(1) مقدمة (1-1) موقع الفكرة في فلسفة اسپينوزا
يبحث أول باب من الأبواب الخمسة في كتاب اسپينوزا الرئيسي، «الأخلاق»، موضوع «الله». وهو يؤكد في الباب الثاني، الذي يتحدث فيه عن طبيعة الذهن البشري، أنه يعالج هذا الموضوع الأخير من حيث علاقته بنظرته العامة إلى الماهية الإلهية. ومثل هذا التأكيد موجود ضمنا في كل الأبواب الأخرى للكتاب. وهكذا يبدو أن اسپينوزا يبدأ بأهم موضوع في نظره، وهو البحث في الماهية الإلهية، على أساس أن آراءه في هذا الموضوع هي التي ستحدد معالم الحلول التي يأتي بها لكل المشكلات الأخرى التي سيبحثها فيما بعد.
ومع ذلك فمن الممكن القول إن فكرة الله عند اسپينوزا ليست مجرد واحدة من الأفكار التي تعالجها فلسفته، فكل فلسفة اسپينوزا يمكن أن تعد - بمعنى معين - تفكيرا في الله. ففكرة الله عنده شاملة لكل شيء. ولما كان فهم الأشياء هو، في رأي اسپينوزا، فهم لله أيضا، فإن كل تفكير في أي موضوع فرعي من موضوعات المعرفة يعد في الوقت ذاته تفكيرا في الله، كما أن معالم فكرة الله لا تتضح على حقيقتها إلا بعد فهم جميع الأوجه الأخرى لمعرفة الأشياء فهما فلسفيا، ويعبر «هيلر» عن هذا الرأي تعبيرا واضحا إذ يقول: «إن البحث في الله يستغرق فلسفة اسپينوزا من ألفها إلى يائها.»
1
كذلك تقول «سو
Saw » برأي مماثل؛ إذ تؤكد أن فلسفة اسپينوزا بأسرها إنما هي تبرير للاهوت من حيث هو علم، وترى في هذه الفلسفة، بالتالي، ردا على من ينكرون إمكان قيام الميتافيزيقا وما تتضمنه من أبحاث متعلقة باللاهوت. وهكذا تصبح كل فلسفة اسپينوزا في نظرها مظهرا من مظاهر إمكان علم الإلهيات.
2
ومع ذلك فمن الممكن القول، من وجهة نظر أخرى، إن فكرة الله؛ إذ يتسع نطاقها إلى هذا الحد، «تتلاشى» في هذه العناصر الأخرى لفلسفة اسپينوزا، بحيث يصبح إيضاح هذه العناصر الأخرى لفلسفته هو الهدف الأساسي، ولا تكون فكرة الله إلا تعبيرا عن الماهية الجامعة لهذه العناصر، وهي الماهية التي لا توجد مستقلة عن موضوعها. ويزداد هذا الرأي قوة إذا نظر إلى فلسفة اسپينوزا بأسرها من خلال معادلته الأساسية: الله = الطبيعة. فهذه المعادلة، إذا ما فهمت دلالتها على حقيقتها، تجعل البحث في اللاهوت غير ذي موضوع، ما دام البحث في الطبيعة ذاتها، سواء في مجموعها وفي تفاصيلها، يستنفد بذاته كل أطراف المعرفة. وفي هذه الحالة تغدو فكرة الله عنصرا يمكن حذفه من فلسفة اسپينوزا، على أساس أنها مجرد مصطلح من مصطلحات العصور الوسطى التي اعتاد اسپينوزا أن يعبر بها عن أفكاره المغايرة تمام المغايرة لكل الفلسفات المدرسة .
فإذا صح هذا الفهم الأخير، فكيف نوفق بينه وبين ذلك الاهتمام الذي أبداه اسپينوزا ذاته بالفكرة؟ من الممكن أن يقال إن ذلك الاهتمام، الذي جعله يعطي للفكرة موقع الصدارة في مذهبه، إنما يدل بطريقة غير مباشرة على أن تغيير نظرتنا إلى هذه الفكرة هو، في رأيه، أساس حلنا لجميع المشكلات الفلسفية الأخرى؛ أي إنه يرى أن الفارق بين النظرة الأسطورية والنظرة العلمية إلى الكون هو الذي يتحكم في جميع تفسيراتنا للمشاكل الفلسفية وحلولنا لها. وبعبارة أخرى، فإن الإنكار التام للتفسير اللاهوتي لفلسفة اسپينوزا لا يتعارض، بدوره، مع إعطاء فكرة الله أهمية رئيسية في فلسفته؛ إذ إن الحديث عن هذه الفكرة سيغدو عندئذ وسيلة لعرض آرائه العلمية الجديدة في الكون أو الطبيعة، وهي الآراء التي كانت تمثل بالفعل نظرة انقلابية بالنسبة إلى جميع الفلسفات السابقة عليه. (1-2) دلالة فكرة الله في لغة اسپينوزا
منذ عصر اسپينوزا نفسه، ظهر الخلاف الذي لا يزال قائما إلى اليوم، حول الدلالة الحقيقية لفكرة الله عنده، واتخذ ذلك الخلاف نفس الشكل الذي لا يزال يتخذه إلى اليوم - وهو شكل التضاد الكامل بين رأيين، يؤكد أحدهما أن اسپينوزا كان يعني كل وصف قال به لفكرة الله، وأن الفكرة تحتل لديه، بالتالي، موقعا أساسيا، وأن آراءه، تبعا لذلك، لا تتعارض تعارضا أساسيا مع التراث الديني بمعناه العام، ويؤكد الآخر أن لغة اسپينوزا الظاهرية ينبغي ألا تفهم فهما حرفيا، وأن البحث عن معانيها الخفية كفيل بأن يكشف عن أشد أنواع الإلحاد من وراء تعبيراته البريئة المظهر.
ويظهر هذا التضاد منذ اللحظة الأولى لدى مؤرخي حياته المشهورين: لوكاس
Lucas
وكوليروس
Colerus ؛ فالأول يدافع عن اسپينوزا ويؤكد أنه لا يجد أي تعارض بين ما قاله اسپينوزا وبين تعاليم المسيح، ويصل به تحمسه له إلى حد أن يقول: «لقد قرأت لمعظم الفلاسفة، وإني لأؤكد عن صدق أنني لم أجد فيهم من يعرض الألوهية بأفكار أروع من تلك التي عرضها بها ... اسپينوزا في كتاباته.»
ويقول «كوليروس» بعكس هذه الآراء تماما؛ فكتاب «الأخلاق» يبدأ في رأيه أولا بداية رائعة: «ومن ذا الذي يشك، حين يقرأ هذه البداية البديعة، في أن فيلسوفا مسيحيا هو الذي يتحدث؟» ولكن عندما يختبر المرء ما يقوله اسپينوزا عن الله اختبارا دقيقا، «يجد أن إلهه ليس إلا شبحا، وإلها خياليا، هو أبعد ما يكون عن الله ... فهو يستبيح لنفسه استخدام اسم الله وفهمه بمعنى لم يعرفه أحد من المسيحيين حتى اليوم.» وهكذا يفسر كوليروس إله اسپينوزا بأنه «ليس سوى الطبيعة - التي هي لا متناهية حقا، ولكنها جسمية ومادية - منظورا إليها في كليتها وبجميع أحوالها»؛ ولهذا كله لم يجد كوليروس مفرا من أن يصف مذهب اسپينوزا، آخر الأمر، بأنه «أفجر إلحاد عرفه العالم.»
وبقدر ما كانت فكرة الإلحاد هي الشائعة عن اسپينوزا طوال عصره، وخلال القرن الثامن عشر، فإن النزعة الرومانتيكية في القرن التاسع عشر قد أدت بالمفكرين والشعراء إلى حكم مضاد تماما، يتضح في كلمة «نوڨالس» المشهورة، التي وصف فيها اسپينوزا بأنه «رجل منتش بالله»، بل إن هيجل يرد على الرأي القائل بإلحاد اسپينوزا، على أساس أن هوية الله مع الطبيعة تلغي فكرة الله، فيقول إن الأصح هو القول بأن هذه الهوية تلغي الطبيعة؛ ولهذا يقترح، بدلا من تسمية مذهبه بالإلحاد (أي اللاإلهية
A-theismus ) أن يسمى باللاكونية (أو اللاطبيعية
A-cosmismus )، بحيث لا يكون للكون وجود في ذاته؛ لأن كل ما يوجد إنما يوجد في الله.
3
وهكذا يقول: «إن مزاعم أولئك الذين يتهمون اسپينوزا بالإلحاد مخالفة للحقيقة على خط مستقيم، فلدى اسپينوزا من الله أكثر مما ينبغي.»
4
ولكي تكتمل الصورة، فإن التضاد القديم يعود إلى الظهور بين هيجل وبين الهيجلية اليسارية؛ إذ ينظر «فويرباخ» إلى مادية اسپينوزا بعين التقدير، ويتحدث «پليخانوف» عن اسپينوزية ماركس وإنجلز،
5
ويعترف إنجلز - على ما يقال - بأنه يؤمن بفكرة اسپينوزا القائلة: إن الامتداد والفكر صفتان لجوهر واحد؛ لأن الفكرة ليست لها من دلالة سوى الدلالة المادية.
6
هذا الازدواج والتضاد في تفسير فكرة الله عند اسپينوزا - وبالتالي في تفسير الاتجاه العام لفلسفته - أمر طبيعي؛ ذلك لأنه حين يصبح الله علة كامنة أو حالة في العالم، يغدو من الطبيعي أن تتشعب التفسيرات في اتجاهين متضادين: اتجاه يذهب إلى أنه صبغ الطبيعة والكون بالصبغة الإلهية، واتجاه آخر لا يستخلص من ذلك سوى أن اسپينوزا قد أنكر فكرة العلة الأولى، وفكرة الخلق، ووجود علاقة مزدوجة بين الله والطبيعة؛ وبالتالي أنكر كل موجود يعلو على الطبيعة.
هذان الاتجاهان ممكنان «نظريا» على الدوام. ومن المحال أن يتمكن الباحث من المفاضلة بينهما طالما كان يفسر فلسفة اسپينوزا تفسيرا حرفيا. ومع ذلك، فهناك في رأينا وسائل للمفاضلة بين هذين التفسيرين. وهذه الوسائل تؤدي حتما إلى إنكار التفسير اللاهوتي، وتأكيد التفسير «الطبيعي» للفكرة. (أ)
إحدى هذه الوسائل هي ربط الفكرة بالسياق العام لحياة اسپينوزا ومذهبه، فحين تختبر الفكرة في سياق حياته، التي كانت حافلة بمظاهر الثورة على التقاليد ولا سيما الدينية منها، والتي كان من وقائعها الحاسمة طرده من الطائفة اليهودية وعدم اعتناقه أي مذهب آخر بعد ذلك؛ عندئذ يبدو التفسير «الطبيعي» مرجحا على التفسير اللاهوتي إلى حد بعيد.
ويزداد هذا الترجيح قوة إذا ما نظر إلى الفكرة في ضوء بقية أوجه مذهب اسپينوزا، بل إن هذه الأوجه تكاد تفقد كل معنى لها إذا فهمت فكرة الله عنده فهما لاهوتيا؛ فلماذا، مثلا، اعترض اسپينوزا على فكرة حرية الإرادة؟ ولماذا سعى إلى القضاء على ثنائية النفس والجسم، مؤكدا أنهما وجهان لحقيقة واحدة؟ ولماذا أكد الحتمية وسيادة العلية، وحمل بقوة على كل تفسير للظواهر من خلال فكرة العرضية أو الاتفاق؟ ولماذا كرس كل هذه الجهود لمحاربة فكرة الغائية؟ إن كل وجه من هذه الأوجه في مذهبه لا يكون مفهوما على الإطلاق إلا في ضوء تغليب فكرة الطبيعة في المعادلة المشهورة: الله = الطبيعة. وإذا كانت نصوص اسپينوزا وأسلوبه المباشر يؤديان في كثير من الأحيان إلى بث الحيرة في نفس القارئ، ويدفع الكثير من الشراح إلى الإتيان بتفسير صوفي أو روحي لفكرة الله عنده، فعلى هؤلاء أن يذكروا دائما أن هذه الفكرة ترتبط بسياق عام ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار، وأن هذا السياق يتضمن مجموعة كاملة من الآراء التي تؤدي كلها - سواء شاء المرء أو لم يشأ - إلى استبعاد العناصر الروحية وتأكيد الفهم الحتمي الدقيق للعالم. ولا جدال في أن الاحتكام إلى هذا السياق كلما تعذرت المفاضلة بين التفسيرات يؤدي إلى وضع حد لكل شك على الفور. (ب)
والوسيلة الثانية هي النظر إلى الفكرة من خلال التفسير الذي قدمناه للمنهج الهندسي، وهو التفسير الذي أكدنا فيه التجاء اسپينوزا إلى طريقة استخدام المصطلح المدرسي واللاهوتي التقليدي بمعان جديدة كل الجدة، وقلنا بوجوب البحث من وراء الألفاظ البريئة عن معانيها الثورية العميقة الكامنة. وبتطبيق هذا المنهج على المشكلة التي نحن بصددها، تغدو فكرة الألوهية هي المحور الذي تدور حوله عملية التعبير الحذر عند اسپينوزا، ويكون أقوى مظاهر الحذر عنده هو تكرار لفظ «الله» في فلسفته إلى الحد الذي يوحي للقارئ الساذج بأن الفكرة، بكل ارتباطاتها المقصودة تكون مختلفة كل الاختلاف عن هذه الدلالة الظاهرة.
وبعبارة أخرى: فعلينا هنا أن نجيب على سؤال أساسي: هل يتحدد موقف اسپينوزا من فكرة الله على أساس كثرة استخدامه لها؟ ألا يمكن أن يكون قد أنكر أصول الفكرة ذاتها رغم تكراره الشديد لها؟ وهل العلامة الوحيدة لإنكار الفكرة هي الامتناع عن استخدام اللفظ ذاته، أم أن هناك علامات أخرى أهم وأخطر؟ من المؤكد أن معظم من كتبوا عن اسپينوزا، أو من تأملوا أفكاره بطريقة رومانتيكية، قد تأثروا بالوجه اللفظي لفلسفة اسپينوزا وتجاهلوا معانيها الحقيقية إلى حد بعيد، واستبعدوا تماما أن يكون اسپينوزا قد أنكر فكرة الله، طالما أنهم رأوا اللفظ ذاته يردد على الدوام. أما المعاني ذاتها فقد توارت أهميتها إلى حد كبير في ظل الارتباطات الانفعالية القوية التي يثيرها «اللفظ» مجردا، في الأذهان. أما اسپينوزا ذاته، فهو، على الأرجح، لم يكن ممن يهتمون بالألفاظ، وطالما ردد أنه لا يعبأ بالاسم الذي نطلقه على أي معنى، ما دام المعنى ذاته معترفا به، وهو على أية حال لم يكن يهمه في قليل أو كثير، أن يدخل في صراع مع لفظ
Deus
اللاتيني؛ لأن أي لفظ - بما هو كذلك - هو أقل الأشياء أهمية، ولأن هذا اللفظ، على التخصيص، كان يتخذ في مختلف الحضارات وعصور التاريخ معاني متباينة. والأمر الذي كان اسپينوزا يحرص بالفعل على أن يكافحه هو المعاني الباطلة التي أدخلت على هذا اللفظ، أو على الأصح التشويهات التي طالما أقحمت على المعرفة البشرية من خلال هذا اللفظ. في هذا الميدان فقط كان كفاحه. •••
ورغم أن نسبة القائلين بالتفسير الحرفي لفكرة الله عند اسپينوزا هي الغالبة إلى حد بعيد، فإن التفسير الذي نقول به ها هنا ليس منعدم الصلة تماما بالاتجاه العام في تفسير اسپينوزا؛ فهناك بالفعل شراح آخرون قد وجهوا أنظار قرائهم إلى احتمال وجود تفسير آخر مضاد تماما لحرفية الألفاظ في فلسفة اسپينوزا. وكل ما في الأمر هو أن هؤلاء الشراح قد اقتصروا في تفسيراتهم على أوجه محدودة من فلسفته، ولم يستطع أحد منهم أن يمضي في تفسيره هذا إلى النهاية، وكانوا دائما، في مرحلة أو في أخرى، يقولون بوجود أوجه معينة في هذه الفلسفة لا تتمشى مع هذا التفسير، ويجدون فيها ظواهر يستحيل، في نظرهم، إخضاعها لهذا النمط العام، والبحث الحالي - فيما أعلم - هو الوحيد الذي يضع منذ البداية فرض التفسير «عكس الحرفي» لفلسفة اسپينوزا، ويحاول المضي فيه إلى النهاية. (أ)
من هؤلاء المفكرين الذين قالوا بوجود معان أخرى مضادة من وراء استخدام اسپينوزا المتكرر للفظ «الله»، «باركر
Barker »؛ ففي مقاله المشهور «ملاحظات على الباب الثاني من «الأخلاق» لاسپينوزا» يقول: «من المؤسف (وربما كان، مع ذلك، من المحتم) أن اسپينوزا قد استخدام لفظ
Deus
على النحو الذي استخدمه عليه، ولكن الأدعى من ذلك إلى الأسف أن يرضى مترجموه وشراحه بسوء استخدامه للكلمة، فيلجئوا إلى المرادف المألوف لها في لغتنا؛ ذلك لأن ما يدل عليه لفظ
Deus
عند اسپينوزا ليس هو «الله» في استخدامه اللغوي المعتاد. ولن آخذ على عاتقي أن أقرر إن كان اسپينوزا ذاته قد استطاع استخدام اللفظ اللاتيني دون أن يتأثر على أي نحو بارتباطاته المعتادة. ولكني أعتقد أن من العسير إلى حد بعيد على القارئ الذي ينطق لغة حديثة
7 (حتى لو كان يستخدم نصا لاتينيا)، أن يتجنب التأثير، بل التضليل، الذي تؤدي إليه الارتباطات المعتادة لكلمة «الله»،
8
ولهذا السبب يحرص «باركر» على تجنب لفظ
Deus
اللاتيني أو لفظ «الله
God » قدر المستطاع، ويستبدل به لفظ «الطبيعة
Natura » في صيغته اللاتينية وبحرف كبير في البداية؛ لكي يعبر عن المعاني الحقيقية التي لم تكن في ذهن اسپينوزا عندما استخدم لفظ
Deus .»
مثل هذا الفهم لمعنى لفظ «الله» عند اسپينوزا دقيق إلى حد بعيد، ومع ذلك فنحن نأخذ على المؤلف - رغم اقترابه من الصواب - أمورا منها:
أنه لم يدرك الدلالة الحقيقية لاستخدام اسپينوزا هذا اللفظ، وهي أنه «تعمد» هذا الاستخدام؛ فالأمر لم يكن أمرا «يؤسف له»، ولم يكن هناك «سوء استخدام»، وكأن المسألة هي لفظ أسيء اختيار موضعه، وإنما كانت - كما قلنا من قبل - تنفيذا لخطة متعمدة دفعته إليها ظروف العصر الذي كان يعيش فيه. وهكذا لم يحاول المؤلف أن يجيب على السؤال الهام الآتي: لماذا استخدم اسپينوزا التعبيرات الدينية الصريحة، طالما أن هذا رأيه الحقيقي عن الله؟
كذلك لا يجزم المؤلف إن كان اسپينوزا قد تأثر بالارتباطات المألوفة لكلمة «الله» أم لا - مع أن من الممكن القطع في هذه المسألة برأي حاسم، ينتهي إليه المرء حتما إذا تأمل السياق العام لفلسفته، الذي خلا تماما من جميع العناصر الغائية والتشبيهية والمتعالية. أما كون القارئ العادي معرضا للوقوع في خطأ فهم اللفظ بارتباطاته الدينية المألوفة، فذلك أمر مقصود ولا شك؛ إذ إن اسپينوزا كان بالفعل يخشى ثورة هذا «القارئ العادي» لو أطلعه على أفكاره مباشرة وكان يتعمد تجنب استفزازه، في الوقت الذي أعطى فيه القارئ اليقظ مفاتيح لأفكاره الحقيقية. ومع ذلك فإن معظم مفسري اسپينوزا كانوا، للأسف الشديد، من فئة «القراء العاديين» هذه؛ والدليل على ذلك ما نلمسه جميعا من انتشار هائل للتفسيرات الصوفية واللاهوتية لآرائه. (ب)
ويتخيل «ولفسون» في الجزء الأول من كتابه «فلسفة اسپينوزا» حديثا خياليا يخاطب فيه اسپينوزا خصومه الخياليين من فلاسفة العصور الوسطى فيقول إنه سيستخدم كلمة «الجوهر» - الشائعة في العصور الوسطى - في معان تجمع كل الصفات التي كان هؤلاء الخصوم يعزونها إلى كلمة «الله»، ويقول لهم: «ولما كنت غير معتاد على التنازع على الأسماء وحدها، فسوف أستبقي لفظكم الخاص، وهو لفظ «الجوهر»، بوصفه بديلا فلسفيا عن لفظ «الله» المليء بالتقوى، وسوف أكشف بتعبيراتكم ذاتها، عن فهم جديد لطبيعة الله وعلاقته بالعالم.» وبعد أن يتم تحديد هذا الفهم الجديد من خلال لفظ «الجوهر»، يواصل اسپينوزا كلامه المتخيل قائلا: «هكذا، وصفت الجوهر، كما أقول به، بجميع الأوصاف التي تستخدمونها في تعريفكم الشكلي لله، والآن ... سوف أجمع بين لفظي الله والجوهر وأقول: الله، أو الجوهر المؤلف من صفات لا متناهية تعبر كل منها عن ماهية أزلية لا متناهية، موجود بالضرورة (القضية 11)، وبعد أن أوضحت الآن ما أعنيه بلفظ الله، فإن لم أعد أخشى أن يساء فهمي؛ ولذلك فسوف أسقط لفظ الجوهر من الآن فصاعدا، واستخدم بدلا منه لفظ الله.»
9
ومن الواضح أن ولفسون يعترف، من خلال ما يقوله هنا على لسان اسپينوزا، بوجود عملية «إخفاء» أساسية تعمد فيها اسپينوزا أن يصوغ معانيه الجديدة في قوالب مدرسية تقليدية، وحرص على أن يوضح أولا المعاني الجديدة التي يستخدم بها كلمة «الله» قبل أن يدخلها في كتاباته، وهذا كله اتجاه سليم في فهم اسپينوزا، ولكن المؤسف أن ولفسون نفسه، كما سنرى في مواضع متعددة، لم يتمسك به دائما، وطالما انزلقت إلى كتاباته المعاني والارتباطات التقليدية للألفاظ الحرفية، بحيث كان في كثير من الأحيان يقع فيما حذر القارئ منه. (ج)
ويرى «ليوشتراوس» أن استخدام اسپينوزا للفظ «الله» في مستهل كتابه الرئيس يخفي، ولا يكشف، نقطة بدايته الحقيقية؛ أي إنه عرض آراءه في «الأخلاق» بطريقة «تركيبية»، وأخفى «التحليل» الذي لا بد قد سبق هذا التركيب. ومعنى ذلك أن اسپينوزا قد «أخفى الاستدلال الكامل، الفلسفي والاجتماعي أو السياسي، المؤدي إلى تلك التعريفات التي يروع لها القارئ، وفي الوقت ذاته هدأ القارئ عندما يفتح ذلك الكتاب. فإذا كان صحيحا أن إله اسپينوزا لفظ مهدئ
an appeasing term ،
10
فإنه يتعين على المرء عندئذ أن يعيد كتابة «الأخلاق» بأسرها، دون أن يستخدم هذا اللفظ؛ أي بالبدء من المبادئ الإلحادية الخفية لدى اسپينوزا.»
11 (د)
وإذا كان ليوشتراوس قد افترض إمكان إعادة كتابة «الأخلاق» مع حذف لفظ «الله» الذي يعده لفظا أدخل على الكتاب لتهدئة مشاعر القارئ أو عدم استفزازها بالمعاني الثورية التي تضمنها الكتاب، فإن هناك رواية قديمة انتشرت بعد وفاة اسپينوزا بزمن غير طويل، مؤداها أن كتاب «الأخلاق» وضع أصلا دون أن يأتي فيه لفظ «الله» وأن هذا اللفظ أدخل فيما بعد تحوطا وحذرا. وهكذا فإن هذه الرواية تفترض بالفعل حدوث ما دعا إليه «ليوشتراوس»، وتذكر أن ذلك ما قام به اسپينوزا نفسه في بادئ الأمر ونظرا إلى ما لهذه الرواية من دلالة هامة، فسوف نذكرها هنا بنصها:
12
لقد بلغني من شخص جدير بالثقة، نقل إلي هذه الرواية كتابة بخط يده، أن اسپينوزا قد ألف كتابه المزعوم «الأخلاق» مبرهنا عليها «هندسيا» باللغة الفلمنكية، وأنه أعطاه إلى طبيب يدعى لويس ماير ليترجمه إلى اللاتينية، وأن كلمة «الله» لم تكن موجودة فيه قط، ولم تكن توجد إلا كلمة «الطبيعة»، التي زعم أنها أزلية.
وقد حذره الطبيب من أن ذلك سيجر عليه مشاكل ضخمة؛ إذ سيقال إنه ينكر وجود إله، وأنه يستبدل به الطبيعة، وهي لفظ أليق بالمخلوق منه بالخالق. فوافق اسپينوزا على هذا التغيير، وظهر الكتاب على النحو الذي نصحه به ماير. وفي وسع المرء أن يدرك بسهولة، عند قراءة ذلك الكتاب، أن لفظ الله ليس إلا لفظا وهميا، إن جاز هذا التعبير ، يستخدمه لتضليل القارئ.
هذه الرواية باطلة دون شك، وذلك على الأقل في الجزء الذي جاء فيه أن الكتاب قد «ترجم» إلى اللاتينية؛ إذ إن اسپينوزا قد ألفه باللاتينية مباشرة دون شك، ومع ذلك فإن صحة الرواية أو بطلانها ليس هو المهم في الأمر، وإنما المهم هو أن معاصري اسپينوزا، أو الأجيال التالية له مباشرة، قد فهمت المقصد الحقيقي لاسپينوزا أفضل مما فهمه كثير من الكتاب المحدثين؛ فالرواية ذات دلالة رمزية على الاتجاه الحقيقي لفكر اسپينوزا. ومن الصعب أن نتصور أن اسپينوزا قد «أضاف» لفظ «الله» فيما بعد بناء على نصح أو تحذير قدم إليه، ولكن الدلالة الهامة للرواية هي أن من الممكن حذف لفظ «الله» من كتاب اسپينوزا الرئيسي والاستعاضة عنه بلفظ «الطبيعة» (وهو أمر لا يخالف تعاليم اسپينوزا ذاته، بل هو استجابة مباشرة لمعادلته المشهورة: الله = الطبيعة)، دون أن يستتبع ذلك أي تناقض؛ أي إن من الممكن، بعبارة أخرى: تفسير فلسفة اسپينوزا تفسيرا متسقا (بل «أكثر» اتساقا، في الواقع، من معظم التفسيرات الشائعة)، إذا جعلت الفكرة الرئيسية فيه هي فكرة الطبيعة، لا فكرة الله، فإذا كان هذا هو مغزى تلك الرواية، فإن القائلين بها (حتى لو كانوا قد اختلقوها) قد فهموا اسپينوزا على نحو أفضل من فهم معظم الكتاب المعاصرين له.
وإنه لمن الأمور التي تدعو إلى الدهشة حقا أن يكون فهم معاصري اسپينوزا، على بساطتهم العقلية، أفضل كثيرا من فهم الكتاب الحاليين له، رغم كل ما يتميزون به من علم أغزر وتجارب أعمق. ويعلل «ليوشتروس» ذلك بأنه راجع إلى أن ظاهرة التخفي في التعبير عن الآراء
exotericism ، وأسباب هذا التخفي، كادت أن تصبح منسية تماما،
13
وهذا تعليل عميق؛ إذ إن المرء إذا كان منتميا إلى مجتمع يكون من الضروري فيه إخفاء الآراء المخالفة للتقاليد الدينية أو الاجتماعية أو السياسية السائدة، يغدو أقدر على كشف المعاني الخفية من وراء التعبيرات المستترة للآخرين؛ فالمجتمع الذي عاش ظاهرة الصراع الفكري والتخفي والاضطهاد، أقدر على قراءة ما بين السطور من ذلك الذي نسي هذه الظاهرة وتخلص منها. ونستطيع أن نضيف إلى ذلك تعليلا آخر، هو أن تدين نقاد اسپينوزا من معاصريه كان تدينا مباشرا لا يعرف التواء ولا تحويرا؛ فالمتدين كان متعصبا لعقيدته بصورتها الحرفية، وكان يدرك بسليقته كل ما لا يتنافى مع هذه الصورة الحرفية ولا يتردد في نقده. أما مفكرو اليوم، ولا سيما ذوو النزعات الدينية منهم، فإنهم قد اعتادوا الأساليب الملتوية المطاطة في التفسير، وهي الأساليب التي تتيح لهم تأويل أي نص يتعارض مع حرفية العقيدة على نحو كفيل بتقريبه، بأكثر الطرق تصنعا، من فهمهم الخاص للدين. بل إن فهمهم هذا ذاته قد وسع وحور بحيث يمكنه أن يتفق مع أي مذهب هو في نظر المنطق السليم مضاد للعقائد في صورتها الأصلية. وهذا ما جعل المحدثين يجدون دائما في فلسفة اسپينوزا ما يتفق مع العقائد الشائعة، بعد تأويلهم لتلك الفلسفة وتحويرهم لهذه العقائد. وفي هذا، دون شك، إساءة لفهم اسپينوزا من وجهة نظر التفسير الموضوعي السليم.
إن مشكلة تفسير فكرة الله عند اسپينوزا هي، في رأينا، مشكلة المفاضلة بين الألفاظ والمعاني. فلغة اسپينوزا تبدو نقية ورعة متمشية مع كل التقاليد الدينية الشائعة في عصره. ولكن معانيه تسير في طريق مخالف لذلك كل الاختلاف؛ إذ تهدم الأفكار الأساسية التي يرتكز عليها ذلك التراث الديني الشائع. وهنا يكون على المرء أن يفاضل بين أخذ الألفاظ بمعانيها الحرفية، فيكون عليه حتما أن يصف اسپينوزا بالتناقض، وبين مراعاة المعاني الأصيلة في فلسفته، والتخلي عن حرفية الألفاظ وتطويعها لما تقتضيه هذه المعاني، وعندئذ يزول كل تناقض، وتبدو فلسفته متسقة من بدايتها إلى نهايتها.
ولقد أشار اسپينوزا، في أكثر من موضع، إلى سوء فهم العامة لفكرة الله، فقال مثلا: «ليس لدى الناس معرفة لله تماثل في وضوحها معرفتهم للأفكار العامة؛ إذ إنهم يعجزون عن تخيل الله مثلما يتخيلون الأجسام، وهم أيضا يربطون بين لفظ الله وبين صور الأشياء التي اعتادوا رؤيتها، وهو ما يبدو أمرا لا مفر منه؛ إذ إنهم بعد كل شيء بشر، وهم يتأثرون دواما بالأجسام الخارجية. والحق أن من الممكن إرجاع كثير من الأخطاء إلى هذا الأصل؛ أعني كونهم لا يطلقون الأسماء على الأشياء بطريقة دقيقة ... وكم ثار من الخلاف بسبب عدم إيضاح الناس معانيهم بدقة، أو عدم فهمهم معاني الآخرين على النحو الصحيح.»
14
وإذن فقد كان اسپينوزا يربط ربطا واعيا بين الخلاف حول فكرة الله وبين نظرة الناس إلى علاقة الألفاظ بمعانيها. ونستطيع أن نقول إنه عندما وضع منهجه الهندسي، واستخدم ما أسميناه من قبل بطريقة «المعادلات» في التعبير عن معانيه الحقيقية، كان يقوم باختبار لقدرة العقول على متابعة المعاني الجديدة التي غلفت في ألفاظ مألوفة لها في أذهان الناس ارتباطات انفعالية قوية، أو قدرتها على فهم فلسفته ذات الاتجاه العلمي الواضح من وراء القوالب المدرسية أو اللاهوتية التي صيغت بها، ولكن الذي حدث هو أن مجرد الاحتفاظ باللفظ التقليدي قد دفع معظم الأذهان إلى الاحتفاظ بالمعاني التقليدية كلها، أو على الأقل، إلى الرجوع إليها من آن لآخر بطريقة لا شعورية، مخالفة في هذا كله تعاليم مؤلفها نفسه.
والواقع أننا لو شئنا أن نلتزم الدقة الكاملة لقلنا إنه لا جدوى من إثارة مشكلة اعتراف اسپينوزا بفكرة الله أو عدم اعترافه بها؛ ذلك لأن مجرد إثارة هذه المشكلة يعني تركيز الاهتمام في «اللفظ» ذاته، وهو في الواقع مظهر لمدى سيطرة الألفاظ على الأذهان بحيث تطغى على المحتوى العقلي الذي تشير إليه؛ فالمشكلة، إذا ما شئنا أن نعبر عنها بدقة، لا تصاغ على النحو الآتي: هل اعترف اسپينوزا بفكرة الله أم لم يعترف؟ وإنما ينبغي أن تصاغ على هذا النحو: هل تتفق صفات المبدأ الأساسي للظواهر في فلسفة اسپينوزا، مع الصفات التقليدية اللاهوتية لفكرة الله أم لا تتفق؟ فإذا اتضح أن الإجابة على هذا السؤال إنما تكون بالنفي، فعندئذ لا يكون ثمة جدوى من الجدل حول «الاسم» الذي أطلقه اسپينوزا على هذا المبدأ الأساسي، إذ لن تعود لهذا الاسم أية دلالة فلسفية حقيقية طالما أن طبيعة مدلوله ذاتها قد اختلفت، وتصبح الدلالة الوحيدة له اجتماعية، مرتبطة بحياة اسپينوزا ذاته وظروف عصره.
ونستطيع أن نضرب للمعنى الذي نقصده ها هنا مثلا كفيلا بإيضاحه إلى حد بعيد، وهو مثل مستمد من حياتنا السياسية المعاصرة، فربما كان أقرب تشبيه إلى تفاوت معاني كلمة «الله» بين اسپينوزا وبين اللاهوتيين، في عصرنا هذا، هو اختلاف معنى كلمة «الديمقراطية» لدى كل من النظامين الاجتماعيين الرئيسيين الموجودين اليوم، فهناك نظامان اجتماعيان متضادان تماما، يؤكد كل منهما أنه هو الذي يمثل «الديمقراطية »، ولكن كلا منهما يستخدم الكلمة - كما هو معروف - بمعنى مخالف تماما لمعنى الآخر؛ فالمؤمن بالنظام الرأسمالي يقول: الديمقراطية في نظري هي الانتخاب الحر المباشر، وتعدد الأحزاب، والإقلال من تدخل الدولة إلى الحد الأدنى، وترك الاقتصاد (وغيره من القطاعات إذا أمكن) حرا دون تخطيط، وترك الصحف تعبر عما تشاء من الآراء. أما المؤمن بالنظام الاشتراكي فإنه يأتي بمعنى جديد للفظ الديمقراطية، فيقول: إن الديمقراطية هي تنظيم المجتمع على نحو تضمن فيه للجميع فرص متكافئة، ويقضى على الفوارق الطبقية، وتتحول ملكية وسائل الإنتاج إلى المجتمع لا إلى الفراد، ويتدخل ذلك المجتمع - ممثلا في الحكومة - في تنظيم الاقتصاد وتخطيطه (وربما في غير الاقتصاد من القطاعات أيضا). وهو ينتقد فكرة حرية الصحافة في الديمقراطية الرأسمالية بأنها ليست حرية على الإطلاق؛ لأن تلك الصحف التي تزعم أنها حرة إنما تخضع في الواقع للمصالح الطبقية لملاكها والمعلنين فيها، وتعبر بالتالي عن آرائهم وحدهم.
15
ورغم أن الارتباطات الرأسمالية لكلمة «الديمقراطية» أقدم عهدا وأكثر شيوعا في العصر الحديث، فإن ذلك لا يمنع المؤمن بالاشتراكية من الدفاع أيضا عن «الديمقراطية»، وذلك بعد أن يجعل مضمونها مطابقا لتعريفه الخاص لها. وبهذا يكون قد قبل «اللفظ»، ولكن بمعنى جديد تماما. فهل يجوز، لمجرد كونه قبل هذا اللفظ، أن نقول: إنه قد اقترب من المؤمن بالرأسمالية؟ إن الواجب في هذه الحالة، بالطبع، هو أن نغض النظر تماما عن الهوية بين الألفاظ، ونبحث عن المعاني الحقيقية من ورائها، وألا يمنعنا تشابه ألفاظ الفريقين من القول بأن موقفيهما متضادان تماما، وكما أن من العبث أن يقال إن الاشتراكي قد اقترب من الرأسمالي لأن كليهما يدعو إلى «الديمقراطية»، فمن العبث أيضا أن يقال: إن اسپينوزا قد اقترب من وجهة النظر اللاهوتية أو المدرسية لمجرد كونه قد ردد كلمة «الله» مثلهم. فلا بد، في الحالتين، من غض النظر عن اللفظ وتركيز الاهتمام على الحقيقة الكامنة من ورائه، وتحديد المواقع الحقيقية لكل طرف على أساس معانيه، لا ألفاظه.
ومع ذلك فإن المشكلة عند اسپينوزا تزداد تعقدا؛ لأنه لم يقتصر على استخدام لفظ «الله» بمعان جديدة فحسب، وإنما كان حريصا كل الحرص على الاحتفاظ بمجموعة كاملة من التعبيرات التقليدية، مثل «إطاعة الأوامر الإلهية»، و«الحب الإلهي»، و«تقوى الله» ... إلخ. وذلك كله يزيد من احتمال وقوع القارئ في خطأ التفسير المضاد لمعانيه الحقيقية، وهو بلا شك يعلل وجود هذا العدد الهائل من التفسيرات غير الدقيقة لفلسفته. وبعبارة أخرى: فاسپينوزا لم يقتصر على استخدام الألفاظ التقليدية بمعان جديدة فحسب، بل إنه يحاول دائما أن يستخدم هذه الألفاظ في تركيبات توحي بأنها ما زالت محتفظة بمدلولاتها القديمة؛ وهدفه من ذلك هو أن يثبت أن المعاني الجديدة كفيلة بتحقيق جميع الأغراض التي كانت تستخدم من أجلها المعاني القديمة، رغم تمشي الأولى مع النزعة العلمية واستبعادها للخرافة.
وهنا يغدو المجهود الذي ينبغي أن يبذل في تفسيره مجهودا مضاعفا: هو إثبات أن المعنى الجديد للفظ متسق حتى من خلال عشرات التركيبات والتعبيرات التي توحي بعكس ذلك، والتي يميل القارئ بطبيعته إلى تفسيرها بالطريقة التقليدية، وكشف المغزى الحقيقي لحرصه المتعمد على أن يظهر كما لو لم يكن مخالفا للتراث. (2) الصفات الإلهية وفكرة الطبيعة
كانت فكرة «الله أو الطبيعة» هي الفكرة الأقوى ظهورا في فلسفة اسپينوزا. وقد وجد هذا التعبير تفسيرات متعددة، رغم وضوحه الظاهر، وقيل: إن الهوية التي يضعها اسپينوزا بين الله وبين الطبيعة ليست كاملة، بل إن الكثيرين من الشراح، رغم اعترافهم بالمبدأ الرئيسي القائل: إن اسپينوزا يقرن دائما بين الله وبين الطبيعة وبين الجوهر، قد تجاهلوا هذا المبدأ في كثير من الأحيان ، وكانت تنزلق في كتاباتهم، عن وعي أو دون وعي، كثير من المعاني التقليدية لفكرة الله، وهي نفس المعاني التي كرس اسپينوزا ذهنه لانتقادها.
وينبغي أن تكون نقطة البداية في بحثنا لهذا الموضوع هي تحديد المقصود على وجه الدقة من تلك المعادلة التي جمع فيها اسپينوزا بين الله والطبيعة، وذلك ببحث الصفات التي نسبها اسپينوزا إلى فكرة الله، ومقارنتها من جهة بالصفات التي يعزوها التراث الديني إلى هذه الفكرة، ومن جهة أخرى بالصفات التي يمكن أن تعزى إلى الطبيعة. وعلى أساس هذا البحث المقارن نستطيع أن نجيب على السؤال: هل كان المقصود من فكرة الله عند اسپينوزا هو النظام الكلي للأشياء، أو الطبيعة في مجموعها، أم أن المقصود منها شيء يزيد على الطبيعة؟
ولهذا البحث في الصفات الإلهية، ومدى انطباقها - أو عدم انطباقها - على مفهوم الطبيعة أهميته القصوى في تفسير فلسفة اسپينوزا؛ ذلك لأن الكثير من المفسرين يتحدثون عن إله اسپينوزا كما لو كان هو ذاته الإله التقليدي، وكل ما في الأمر أن صفات معينة قد تغيرت فيه، دون أن يطرأ على الدلالة العامة للفكرة أي تغير. وسوف تمر بنا خلال هذا الفصل أمثلة متعددة لهذه الطريقة في تفسير اسپينوزا، وهي في اعتقادنا دليل حاسم على أن اسپينوزا فيلسوف لم يفهم بعد فهما كاملا. •••
استخدام اسپينوزا، للتفرقة بين تصوري الله والطبيعة، تعبيري «الطبيعة الطابعة
natura naturans » و«الطبيعة المطبوعة
natura naturata » وهو يفرق بين هذين التعبيرين على النحو الآتي: «أعني بالطبيعة الطابعة ما يوجد في ذاته، وما يتصور بذاته؛ أي ما للجوهر من صفات تعبر عن الماهية الأزلية اللامتناهية. وبعبارة أخرى: ... أعني بها الله، بقدر ما يعد علة حرة.
وأعني بالطبيعة المطبوعة كل ما يتلو من ضرورة طبيعة الله، أو أية صفة من صفات الله، بقدر ما تعد أشياء توجد في الله، ولا يمكن أن توجد أو تتصور من دون الله.»
16
هنا تكون الطبيعة الطابعة هي النظام الشامل للأشياء، من حيث إنه ذو وجود ضروري، ولا يمكن أن يتصور بغيره لأن شيئا لا يخرج عنه ، كما أن العلية فيه باطنة؛ أي لا يتحكم فيه شيء خارج عنه. أما الطبيعة المطبوعة فهي الأوجه الجزئية أو المكونات الموجودة في العالم من حيث هي تعبير جزئي عن «الصفات» الشاملة للجوهر: ومن أمثلتها الأجسام الفردية، التي هي أوجه لصفة «الجسمية» الشاملة في الجوهر، وهي أوجه لا تفهم قوانينها بذاتها، بل ينبغي دائما ربطها بالكامل الشامل الذي تنتمي إليه.
ويصف اسپينوزا الطبيعة بصفات ترتبط عادة بالصفات الإلهية ارتباطا وثيقا، فيقول مثلا «وإذا فالطبيعة، التي لا تأتي من أية علة، والتي نعلم مع ذلك أنها موجودة، ينبغي بالضرورة أن تكون كائنا كاملا، من صفاته الوجود.»
17
والمشكلة الحقيقية - إذا كانت الطبيعة في مجموعها تتصف بالأوصاف الإلهية التقليدية - هي أن نحدد نوع الأوصاف التي يعزوها اسپينوزا عادة إلى فكرة الله، لنقرر مدى اتفاقها مع فكرة الطبيعة، وسوف نجد أن البحث في هذه الأوصاف ينقسم إلى موضوعات ثلاثة: (2-1) استبقاء الأوصاف المشتركة بين الفكرتين
في التعريف السادس من مجموعة التعريفات التي يستهل بها اسپينوزا كتاب الأخلاق، يعرف الله بأنه «كائن لا متناه لصفة مطلقة؛ أي إنه جوهر ينطوي على صفات لا متناهية، تعبر كل منها عن ماهية أزلية لا متناهية.»
وينبغي أن نلاحظ هنا، أولا، الدلالة البالغة لنفس فكرة وضع تعريف لله ضمن التعريفات الأولى في كتابه. فمن المشكوك فيه إلى حد بعيد أن يكون هناك أي فيلسوف آخر قد استهل كتابا رئيسيا له بعبارات منها؛ أعني بالله كذا وكذا ... ذلك لأن اللفظ في نظر الفلاسفة التقليديين مفهوم بذاته، لا يحتاج إلى تعريف (إلا إذا جاء ذلك التعريف وسط البحث لإثبات نقطة معينة فحسب). أما إدراج لفظ «الله» ضمن مجموعة أخرى من الألفاظ التي يراد تنبيه القارئ إلى معانيها الجديدة، فهذا أمر لا نلمسه إلا لدى اسپينوزا، وهو عنده يعني أن ينبه القارئ تنبيها صريحا إلى أن تلك الفكرة ليست تلك التي ألفها واعتادها طوال حياته. وفي محاولة التعريف الاستهلالي هذه خروج تام على المألوف في عالم الفلسفة واللاهوت حتى ذلك العصر؛ لأن المفروض أن معنى كلمة الله «يفرض ذاته» على المفكر، وليس المفكر هو الذي يحدد هذا المعنى بقوله: «أعني»؛ فهنا تصبح الفكرة أداة في يد الفيلسوف لإثبات مواقف معينة، وليست فكرة تفرض نفسها على العقل البشري وتأتي معها بمعانيها دون أن يملك هذا العقل تغييرها أو التحكم فيها.
فما هي الأوصاف التي تستخلص من هذا التعريف؟ إنها هي الشمول واللانهائية المطلقة، أي مجموع الوجود بما فيه من صفات لا نهائية، كل صفة منها تعبير عن وجه لا نهائي، مكتف بذاته، من الأوجه التي يمكن أن يفهم بها الوجود.
هذا التعريف هو النمط الذي يتكرر، مع اختلافات بسيطة، في المواضع المختلفة من كتابات اسپينوزا؛ ففي الرسالة رقم 2، مثلا، يعرف الله بأنه «موجود يتألف من صفات لا متناهية، كل منها لا متناه أو مطلق الكمال في نوعه ...» وفي أول قضية يتحدث فيها عن الله، في كتاب الأخلاق، يقول: «الله، أو الجوهر المؤلف من صفات لا متناهية، كل منها يعبر عن ماهية أزلية لا متناهية، يوجد بالضرورة.»
18
ثم يعبر عن شمول فكرة الله أوضح تعبير فيقول: «كل ما يوجد، يوجد في الله، ولا يمكن أن يوجد شيء أو يتصور دون الله.»
19
وهكذا يحدد اسپينوزا لفكرة الله، في تعريفاته الأساسية، الأوصاف الآتية: الوجود الضروري، واللانهائية، والأزلية، والشمول، كل هذه الأوصاف لا تتعارض على الإطلاق مع مفهوم «الطبيعة من حيث هي مبدأ خلاق» أو «الطبيعة بوصفها النظام الكلي الشامل للعالم». ولقد رأيناه من قبل يصف الطبيعة بأنها موجودة بالضرورة. أما كونها لا نهائية وشاملة لكل ما هو موجود، وأزلية (في قوانينها التي لا تتبدل)، فهذا أمر يقره أي تفكير سليم.
ويقرر اسپينوزا أن الوجود والماهية، في الله، شيء واحد،
20
ومن الممكن أن تستخلص من ذلك صفة «الوحدة» ومع ذلك فإنه يرى في موضع آخر أن إطلاق هذه الصفة فيه قدر من الافتقار إلى الدقة: «فنحن لا نستطيع تصور الأشياء متصفة بصفة العدد إلا بعد ردها إلى جنس مشترك، فإذا كان في يدك مثلا دينار ودرهم، فلن يخطر بذهنك العدد: اثنان، إلا إذا أدرجت الدينار والدرهم تحت جنس واحد، هو قطعة النقود ... ومن هذا يتضح أن الشيء لا يمكن أن يقال عنه إنه واحد، أو وحيد، إلا بعد تصور شيء آخر له نفس تعريف الأول. غير أنه لما كان وجود الله هو ذاته ماهيته. ولما كنا لا نستطيع أن نكون عن ماهيته فكرة عامة، فمن المؤكد أن من يقول عن الله إنه واحد أو وحيد إما أنه لم يكون فكرة صحيحة عنه، أو يتحدث عنه بطريقة تفتقر تماما إلى الدقة.» (2-2) إضافة أوصاف لا تنطبق إلا على فكرة الطبيعة
والوصف الذي يخطر على الذهن توا، في هذا الصدد، هو وصف «الامتداد»، الذي كان في رأي اسپينوزا من أوصاف الله، شأنه تماما شأن وصف «الفكر».
وتظهر فكرة «مادية الله» بوضوح في التعريف الأول في مستهل الباب الثاني من الأخلاق، إذ يقول: «أعني بالجسم ذلك الحال
mode
الذي يعبر على نحو محدد عن ماهية الله بقدر ما يعد شيئا ممتدا.» وفي القضية الأولى من ذلك الباب نفسه يبرهن اسپينوزا على أن «الفكر من صفات الله؛ أي إن الله كائن مفكر.» وفي القضية الثانية يحيل القارئ إلى برهانه على القضية السابقة؛ لكي يثبت به القضية الموازية: «الامتداد من صفات الله؛ أي إن الله كائن ممتد.» فالله إذن عند اسپينوزا كائن مفكر وممتد وما يقال عنه في مجال الفكر يقال مثله تماما في مجال الامتداد (وله بالطبع صفات لا متناهية بالإضافة إلى هاتين، ولكنا لا ندرك سواهما).
ويدرك اسپينوزا أن هناك اعتراضات متعددة توجه إلى فكرة وصف الله بالامتداد، ولكنه يتولى الرد عليها كلها، ومن هذه الاعتراضات أن المادة متناهية ومنقسمة، وبالتالي لا يمكن أن ينتمي ما هو متناه منقسم إلى الماهية الإلهية. أما اسپينوزا فقد أثبت، على العكس من ذلك، أن المادة لا متناهية، أو على الأصح أن الجوهر المادي لا متناه ولا منقسم. وعلى ذلك فإذا قال المعترضون بعد ذلك: إن وصف المادية لا يليق بالكمال الإلهي، فإنه يرد بأن المادة، بوصفها لا متناهية، لا يمكن أن تكون غير جديرة بالماهية الإلهية، وطالما أنها تابعة - ككل شيء آخر - عن طبيعة الله فلا بد أنها تتمشى بدورها مع الكمال الإلهي. ويعبر اسپينوزا عن ذلك بقوله: «إن جميع من فكروا على أي نحو في الطبيعة الإلهية، ينكرون أن يكون لله جسم. وهم يجدون على ذلك دليلا واضحا في أننا نعني بالجسم كمية متحددة، طولها كذا وعرضها كذا وعمقها أو ارتفاعها كذا، ولها شكل معين. وهكذا تكون نسبة مثل هذا الشيء إلى الله، الذي هو كائن لا نهائي على نحو مطلق، هي أكثر الأمور امتناعا.
21
ومن ذلك نستطيع أن نستخلص المعنى الذي يقصده اسپينوزا من القول إن لله امتدادا؛ فهو لا يعني أن له مقدارا محددا من المادة، ذا أبعاد معلومة وإنما يعني أن الامتداد اللانهائي صفة من صفاته؛ أي وجه من الأوجه التي يمكن أن ينظر بها إليه أو تفهم بها طبيعته. ومن المؤكد أن أحوال الامتداد فقط، أي الأشكال التي يتخذها، هي التي تتعدد وتقبل الانقسام. أما الطبيعة الأصيلة للمادة فلا تقبل انقساما ولا تعددا، وهي لا نهائية مثلما أن العالم، التي هي وجه من أوجه النظر إليه، لا نهائي بدوره.»
وكما قلنا من قبل في صدد تعريف الجوهر وصفاته، فمن الخطأ أن يقال: إن اسپينوزا يقول بوجود صفات مختلفة تتميز بها فكرة الله - أو الجوهر الشامل - بحيث تفسر كل صفة منها جانبا معينا في الفكرة، فأبعد الأمور عما يقصده اسپينوزا هو أن الله، بوصفه جوهرا، «تحمل عليه» صفات معينة، كالفكر والامتداد، وإنما كان هدفه الحقيقي هو أن يؤكد أن كلا من هذه الصفات «هي ذاتها» الجوهر منظورا إليه من الوجه الذي تمثله هذه الصفة. وكل صفة تستغرق الجوهر «كله»، وتمثله تمثيلا كاملا بطريقتها الخاصة؛ وعلى ذلك فحين يقول اسپينوزا إن الله ممتد يعني أن من الممكن النظر إلى فكرة الله من وجه الامتداد بحيث يكون هذا الوجه شاملا لكل جوانب الفكرة، مثلما أن الوجه الفكري يمكنه بدوره أن يشمل كل جوانبها من ناحيته الخاصة.
وهكذا نصل مرة أخرى، على مستوى الكون الشامل، إلى فكرة اسپينوزا الرئيسية القائلة: «إن نظام الأفكار وترابطها هو ذاته نظام الأشياء وترابطها»؛
22
وعلى ذلك «فسواء نظرنا إلى الطبيعة من خلال صفة الامتداد، أو من خلال صفة الفكر، أو من خلال أية صفة أخرى فسوف نهتدي إلى نفس النظام، أو نفس سلسلة العلل؛ أعني أن نفس الأشياء تتعاقب في كل حالة ... وبقدر ما ننظر إلى الأشياء بوصفها أحوالا للامتداد، ينبغي أن نفسر الطبيعة كلها عن طريق صفة الامتداد وحدها، وكذلك الحال في الصفات الأخرى ...»
23
وينبغي أن نتنبه جيدا إلى هذه العبارة الأخيرة، لما لها من دلالة خطيرة على اتجاه تفكير اسپينوزا؛ فطالما أنك تبحث الأشياء من حيث هي ممتدة، فمن الواجب ألا تقحم في تفسيرك لها أي عنصر آخر سوى العناصر المتصلة بالامتداد، ومثل هذا يقال على النظرة إلى الأشياء من خلال صفة الفكر ومعنى ذلك أن اسپينوزا ينبه إلى ضرورة تجنب الخلط بين المجالين، الممتد والفكري، في تفسير الظواهر؛ وهو خلط طالما وقعت فيه النظرة اللاهوتية إلى الأشياء، إذ تضع «غايات» للظواهر الطبيعية، أو تنظر إلى الحوادث المنتمية إلى مجال الامتداد على أنها تفنيد لحظة عليا ذات طابع فكري، بل وتعد كشف العناصر الفكرية المتدخلة في مجرى الحوادث الممتدة أول شرط لفهم هذه الحوادث. •••
هذه بعض النصوص التي توضح وجهة نظر اسپينوزا من فكرة «مادية الله»، ولا جدال في أن وصف الله بالمادية، أو بالامتداد، يخالف تماما كل تراث فلسفي وديني سابق عليه، فصفة المادية صفة جديدة كل الجدة، أضافها اسپينوزا إلى فكرة الله، واعترف هو ذاته بأنه كان فيها مخالفا لكل من سبقوه.
ومن المؤكد أن هذه الإضافة، وحدها، كفيلة بأن تحسم موضوع العلاقة بين الله والطبيعة عند اسپينوزا. فإذا كان قد تبقى في الأذهان شك في أن فكرة الله عنده قد تكون مختلفة، إلى حد ما، عن فكرة الطبيعة، فإن هذا الشك ينبغي أن يتبدد تماما حالما يدرك الذهن الدلالة الحقيقية لنسبة صفة الامتداد إلى فكرة الله . وبعبارة أخرى: فإن الأذهان التي لا تعترف بأن اسپينوزا يقصد النظام الكلي للأشياء، أو الطبيعة في مجموعها، كلما استخدم كلمة «الله»؛ هذه الأذهان تقف حائرة تماما أمام وصف اسپينوزا لله بأنه ممتد. ولولا أن المشاعر الدينية لدى الكثير من المفكرين تؤثر - لا شعوريا على الأقل - في قدرتهم على التحليل الموضوعي لما كان المعنى الحقيقي لفكرة «الله» كما يستخدمها اسپينوزا موضوعا لجدل كثير منذ اللحظة التي يعلن فيها اسپينوزا أن الله يتصف بالامتداد مثلما يتصف بالتفكير.
24
ففي أي مذهب يجعل الله حقيقة مستقلة عن الطبيعة، يمكن أن يعد الله ممتدا؟ يكفي أن يستعرض المرء في ذهنه الصفات التي ترتبط بفكرة «الله» ليجد أن من المستحيل التوفيق بين أي معنى مألوف لهذه الفكرة وبين فكرة كون الله ممتدا. فصفة الامتداد ناشزة تماما وسط الصفات الأخرى التي تنسبها المذاهب الدينية والفلسفية عادة إلى فكرة الله، وهي وحدها كفيلة، إذا ما تمسكنا بها، بأن تجعل كثيرا من الصفات المألوفة مستحيلة؛ فكيف يكون الله خيرا، مثلا، إذا كان ممتدا؟ وعلى العكس من ذلك، فإن صفة الامتداد متسقة تماما مع معنى «النظام الكلي للأشياء» أو «الطبيعة في مجموعها»: ولا يمكن أن يوجد أي تناقض عندما يدرج الامتداد ضمن الصفات الأخرى لمجموع الطبيعة. وقد يقال إن صفة الفكر في هذه الحالة، هي التي تغدو متنافرة مع بقية أوصاف الطبيعة، ولكن هذا غير صحيح، فظاهرة الفكر موجودة في الطبيعة، تتمثل في نوع واحد من أنواعها على الأقل، هو الإنسان؛ أي إننا إذا تأملنا جميع العناصر التي تكشف عنها الطبيعة في مجموعها، فسنجد حتما أن الفكر واحد من هذه العناصر؛ وبذلك لا نكون قد خرجنا على الإطلاق على مفهوم الطبيعة كما نألفه إذا قلنا إن الطبيعة تتصف بالفكر مثلما تتصف بالامتداد. أما في حالة فكرة الله، فمن المؤكد أن مفهوم الامتداد يتعارض مع كل معانيها المألوفة. أما إذا حاولنا أن نتخلص من هذه الصعوبة بإدخال تعديل أساسي في مفهوم فكرة الله بحيث يتمشى مع إمكان الاتصاف بالامتداد، فلا جدال في أن المفهوم الناتج بعد هذا التعديل سيكون شيئا جديدا كل الجدة، لا يكاد يتصل بين المفهوم السائد في شيء، بل يصبح فكرة جديدة مختلفة تماما عن الفكرة التي تنصرف إليها أذهاننا كلما قيل لفظ «الله» أمامها - فكرة يكون لفظ «مجموع الطبيعة» هو في واقع الأمر أصلح الألفاظ للانطباق عليها. ولنذكر هنا مرة أخرى ما رددناه مرارا من قبل، من أن الأمر الذي ينبغي أن نهتم به ليس هو الألفاظ ؛ أعني ليس الصورة الكلامية للفظ «الله»، وإنما المعاني الكامنة من وراء اللفظ، بحيث إنه إذا طرأ على هذه المعاني تغيير حاسم، واستبقى اللفظ ذاته في صورته الكلامية فحسب، فليس لنا أن ندع هذه الصورة الكلامية تؤثر فينا بارتباطاتها القديمة، وإنما الواجب - لكي يكون التحليل دقيقا - أن نتخلى عن كل هذه الارتباطات ونتأمل المعاني الجديدة في ضوئها الخاص.
ومع ذلك فإن الكثيرين من شراح اسپينوزا لا يودون أن يعترفوا بأن المساواة التامة بين ما يقصده اسپينوزا من فكرة الله وبين فكرة الطبيعة في مجموعها هي أمر يحتمه - ويكشف حقيقته - القول بأن الامتداد من صفات الله. وهكذا تراهم يفسرون هذا القول الأخير على أنحاء تترك مجالا للتفرقة التي لا يريدون التخلي عنها، في تفسيرهم لفلسفة اسپينوزا، بين فكرتي الله والطبيعة.
مثال ذلك أن «برييه
Bréhier » يفسر صفة الامتداد الإلهية هذه بأنها صفة ينبغي ألا تفهم إلا في سياق الفيزياء الديكارتية، التي تميز بين الامتداد من حيث هو موضوع للفهم والامتداد من حيث هو موضوع للتخيل؛ فالامتداد الثاني هو المنقسم المؤلف من أجسام جزئية. أما الامتداد بالنسبة إلى الفهم فهولا متناه ولا منقسم. ويخلص من ذلك إلى أن «رأي اسپينوزا لا يغدو ممكنا إلا لأن الامتداد يصبح مبدأ للمعقولية.»
25
والفكرة التي يرتكز عليها برييه، في رأيه هذا، هي تلك التي يعبر عنها نص اقتبسناه من قبل، فرق فيه اسپينوزا بين الأجسام من حيث هي جزئية قابلة للانقسام لها أبعاد وأشكال محدودة، وبين فكرة الامتداد من حيث هي تعبر عن صفة لا متناهية ولا منقسمة . وبعبارة أخرى فالامتداد في هذه الحالة يغدو شيئا مغايرا «للأجسام الممتدة». وهذا كله صحيح، ولكن هل معناه أن الامتداد يغدو، كما يزعم برييه، «مبدأ للمعقولية»؟ وماذا يكون الفرق بينه وبين الفكر عندئذ؟ إن كل أصالة اسپينوزا إنما ترجع إلى خروجه على ثنائية ديكارت، عن طريق تأكيد هوية ما تنطبق عليه صفة الفكر مع ما تنطبق عليه صفة الامتداد (لا القول بجوهرين منفصلين والبحث عن وسيلة للجمع بينهما، كما فعل ديكارت ). وهو لا يسعى مطلقا إلى رد الامتداد إلى الفكر؛ لأنه لا الامتداد ولا الفكر، في رأيه، ذو كيان مستقل، أو ينطبق وحده على كيان مستقل، وإنما هما طريقتان للنظر إلى نفس الأشياء، كل منهما متسقة مع ذاتها تماما، وتؤدي إلى نفس ما تؤدي إليه الأخرى، ولكن تبعا لمجالها الخاص، فمشكلة «الرد» ليست قائمة هنا على الإطلاق، ولو كانت في ذهن اسپينوزا أية فكرة عن رد الامتداد إلى الفكر أو تقريبه منه - كما فعل ديكارت - لتغير الطابع العام لفلسفته بأسرها تغيرا تاما، ولفقدت أصالتها التي تميزها تماما عن الفلسفات السابقة، وضمنها فلسفة ديكارت ذاتها. وإذن فالامتداد الذي ينسبه اسپينوزا إلى الله هو حقا مغاير للامتداد المنسوب إلى الأشياء الجزئية، ولكنه ليس «مبدأ للمعقولية» وإنما هو صفة الامتداد، بمعناها المطلق، كما يتصف بها النظام الكلي للأشياء.
وينظر «ولفسون» إلى المسألة من زاوية أخرى، فيرى أن القول بالامتداد صفة لله كان نتيجة فرضها على اسپينوزا إخفاق الحلول التي تقول بصدور المادة عن إله لا مادي، ويشرح ذلك بقوله: «إن اسپينوزا ... لم يصل إلى رأيه هذا عن طريق مجرد الأخذ بأقوال الرواقيين أو «برونو» أو «مور
More »، وإنما اضطر إلى ذلك ... نتيجة لمنطق الموقف، ولاختباره النقدي الدقيق لمختلف الحلول التي أتى بها مفكرو العصور الوسطى لمشكلة ظهور المادة من إله لا مادي، فحين وجد أن جميع الحلول التي اقترحت لهذه الصعوبة عن طريق نظرية الصدور
emanation
غير مقبولة، ورفض أن يأخذ بنظرية الخلق من العدم أو نظرية قدم المادة الأزلية وبقائها مع الله منذ الأزل، اضطر إلى الانتهاء إلى أن الله ليس لا ماديا.
26
وهكذا يبدو، من قول ولفسون، كما لو كان اسپينوزا مصرا، من جهة، على القول بإله، ومن جهة أخرى على القول بعالم مادي، ثم يحاول تفسير العلاقة بينهما، فلا يقتنع بالتفسيرات المبنية على أساس لا مادية الله، «فيضطر» إلى القول بماديته، ويرغمه على ذلك «منطق الموقف». والأمر الذي لا يحسب له ولفسون، في هذا النص، أي حساب، هو أن اسپينوزا كان «من البداية » لا يؤمن بإله لا مادي، ولا يريد فصل الله عن العالم أو الطبيعة، وبالتالي كان يريد القضاء تماما على كل المعاني المألوفة في العصور الوسطى لفكرة الله، ولكنه بدلا من أن يعلن ذاك صراحة، استبقى اللفظ وجعل المادية من صفاته، وتلك لا تعدو أن تكون طريقة أخرى للوصول إلى الهدف نفسه. وبعبارة أخرى: ففكرة المادية عند اسپينوزا تعبير عن موقفه العقلي «الأصيل»، وليست مجرد نتيجة أرغمه على الأخذ بها تناقض الخصوم.
وأخيرا، فهناك دليل آخر له في رأينا أهمية كبيرة في إثبات التفسير الذي نقول به، أعني تفسير فكرة مادية الله بأنها تعبير واضح عن المعنى الحقيقي لفكرة الله عند اسپينوزا، وهو معنى «النظام الكلي للأشياء» فحسب، ذلك الدليل مستمد من حملة اسپينوزا العنيفة على كل نظرة إلى الألوهية تكون «تشبيهية بالإنسان»، وهي الحملة التي تحدثنا عنها من قبل في صدد الكلام عن موقع القيم في الكون، وسوف نتناولها بعد قليل بمزيد من البحث في صدد الكلام عن الأوصاف التي ينفيها اسپينوزا عن فكرة الله؛ ذلك لأننا إذا احتفظنا بأي ظل من المفهوم المألوف لفكرة الله، وهو مفهوم «مشخص» بطبيعته، ثم أضفنا إلى ذلك المفهوم صفة المادية، فعندئذ يكون اسپينوزا قد وقع في أسوأ أنواع التشبيه بالإنسان إذ يكون قد تصور إلها مشخصا وماديا في آن واحد، وبذلك يكون قد وقع في أخطاء أسوأ كثيرا من تلك التي أخذها على خصومه من لاهوتيي العصور الوسطى؛ أعني أخطاء الرجوع إلى آلهة العقائد البدائية والأساطير!
وإذن فأي تفسير يظل فيه أي عنصر من المفهوم التقليدي ينبغي أن يرفض على التو طالما أن فكرة المادية قد أدخلت. وبعبارة أخرى: فإما أن نقول إن اسپينوزا كان يعني، من فكرة مادية الله، كون المادة وجها من أوجه النظام الكلي للأشياء؛ أي الطبيعة في مجموعها، أو أن نسلم بأن اسپينوزا وقع، منذ اللحظة الأولى لتفلسفه، في خطأ أسوأ من ذلك الذي كرس حياته كلها لمحاربته؛ وعلى ذلك فإذا قال شراح اسپينوزا إنه تأثر في فكرة مادية الله، بالعقيدة اليهودية التي كانت تضفي على الله صبغة مادية في كثير من الأحيان،
27
فلن يكون لنا من رد على هذه الآراء - التي تصدر في أغلب الأحيان عن شراح من المؤمنين باليهودية - سوى أنها تزييف للأسس الأولى التي قام عليها تفكير اسپينوزا، وذلك لاعتبارات عقيدية متعصبة لا شأن لها بالعلم على الإطلاق. فليست المادية التي يقصدها اسپينوزا هي مادية الشجرة أو الجبل، وأبعد الأمور عن ذهنه أن يفترض وجود إله ثم يضفي عليه صورة مادية جزئية، بل إن فلسفته كلها ليست إلا محاولة لتخليص الأذهان من هذا التفكير البدائي الساذج، والاستعاضة عنه بنظرة إلى العالم متمشية تماما مع روح العلم. فإذا سلم المرء بهذه المقدمات، فمن المحال أن يجمع بين فكرة مادية الله وبين أية نظرة أخرى تقليدية إلى فكرة الله، ولا بد له أن ينتهي إلى تلك النتيجة الضرورية، وهي أن المقصود هنا شيء مغاير تماما لكل ما كان معروفا عن فكرة «الله»، حتى رغم وجود اللفظ؛ أعني شيئا لا ينطبق عليه إلا لفظ مثل «مجموع الطبيعة» - هذا إذا كان لدى المرء أقل حرص على أن ينقذ اسپينوزا من التناقض الذي يوقعه فيه المفسرون عمدا، ورغما عن كل آرائه الصريحة، لكي يرضوا نزعات معينة في نفوسهم على حساب التحليل الموضوعي النزيه. (2-3) حذف أوصاف تتعارض مع فكرة الطبيعة
والفئة الثالثة من الأوصاف التي عزاها اسپينوزا إلى فكرة الله هي أوصاف تعزى عادة إلى هذه الفكرة، في المفهوم التقليدي لها، ولكن اسپينوزا يستبعدها وينتقدها. وليس من قبيل المصادفة أن هذه الأوصاف التي استبعدت كلها لا تصلح للانطباق على فكرة الطبيعة. فلهذا الاستبعاد دلالة لا شك فيها، هي أن اسپينوزا حيثما كان يجد تعارضا بين المفهوم التقليدي لفكرة الله وبين فكرة الطبيعة، كان يعدل هذا المفهوم بحيث يزول كل تعارض. والتعليل الوحيد لذلك هو، بطبيعة الحال، حرصه على تأكيد الهوية التامة بين الفكرتين. (1) «العرضية وحرية الإرادة»: كانت فكرة حرية الإرادة، بمعنى التحرر التام للمشيئة من جميع القيود والقوانين، من الأوصاف المألوفة التي كان اللاهوتيون يعزونها دائما إلى فكرة الله. وقد انتقد اسپينوزا هذا القول بحرية الإرادة - مفهومة بهذا المعنى - وانتفد معها فكرة العرضية التي ترتبط بها وتنتج عنها، وأكد فكرة الضرورة التي تسري على جميع المجالات، حتى المجال الإلهي، ثم أثبت بعد ذلك أن هذا هو الفهم الوحيد المتسق لفكرة الله، وأن كل فهم مبني على الآراء التي انتقدها متناقض مع نفسه حتما.
ولو شئنا الدقة اللفظية لقلنا إن اسپينوزا يعترف بالحرية الإلهية، ولكن هذه الحرية عنده لا تعني القدرة على الفعل وعدم الفعل، وإنما هي الحرية المعبرة عن الطبيعة الإلهية الضرورية،
28
فهو ينكر الفكرة القائلة إن الله يستطيع ألا يفعل ما يفعل، وهي الفكرة التي تكون الفهم الشائع للحرية الإلهية، ويؤكد أن المشيئة، إذا ما فهمت بهذا المعنى، لا يمكن أن تكون من صفات الفعل الإلهي،
29
فالحرية الإلهية كما يفهمها هي أن الله يفعل حسب قوانينه الخاصة، ولا يوجد ما هو خارج عنه ليرغمه، وبالتالي فليس ثمة قوة تدفعه إلى تغيير مسلكه، أو على الأصح، تغيير القوانين التي تسير لعيها طبيعته، وبهذا المعنى الحتمي لفكرة الحرية؛ أي بمعنى الفعل حسب القوانين الذاتية دون إرغام خارجي، يكون الله وحده هو العلة الحرة،
30
إذ إن كل ما عداه يتأثر بعوامل خارجية، بينما هذا التأثر لا يسري عليه. والخلاصة أن الحرية الإلهية ترتبط بفكرة الصرورة أوثق الارتباط؛ فهي حرية «الطبيعة»؛ أي الحرية الناجمة عن اتباع القوانين الذاتية، ولكنها تنفصل تماما عن فكرة الإرادة أو المشيئة الخارجة على كل قانون؛ إذ إن مثل هذا الخروج ، إذا فهم على حقيقته، لا يكون حرية في الواقع، وإنما يكون خضوعا لعوامل خارجية هي التي تحض على مخالفة القوانين الأصلية، ومثل هذا الخضوع بعيد كل البعد عن الطبيعة الإلهية.
ويؤكد اسپينوزا أن القول بأن الله متسق دائما مع نفسه، وأنه ظل يمارس دائما نفس النوع من النشاط طوال الأزل، فيه مزيد من الإعلام للقدرة الإلهية، وإن فكرة الأزلية ذاتها لتحتم القول بضرورة الفعل الإلهي، [فالخصوم ذاتهم يعترفون] بأن جميع الأوامر الإلهية قد صدق الله عليها ذاته منذ الأزل ... ولكن ليس في الأزل معان مثل متى، أو قبل، أو بعد؛ وعلى ذلك فإن الكمال الإلهي وحده يستتبع ألا يأمر الله أبدا، أو يكون قد أمر، بأي شيء سوى ما هو موجود، وأن الله لم يوجد قبل أوامره، ولا يمكن أن يوجد دونها.»
31
والواقع أن فكرة المشيئة، أو القدرة على الفعل تبعا للقوانين الضرورية وعدم الفعل تبعا لهذه القوانين، إنما هي، كما يؤكد اسپينوزا تشبيه للطبيعة الإلهية بطبيعة الناس، ولا سيما الملوك؛ أي إن الطبيعة الإلهية تتصور في هذه الحالة على مثال طبيعة الملوك المستبدين، الذين لا يسلكون إلا اعتباطا، ولا يلتزمون بقانون،
32
ولكن من المحال، في رأي اسپينوزا، أن يبدأ المرء في فهم الطبيعة الإلهية إلا إذا حرص بكل دقة على أن يتجنب الخلط بين القدرة الإلهية وبين القدرة البشرية وحق الملوك
33 «فالكائن الأزلي اللامتناهي، الذي نسميه بالله أو الطبيعة، يفعل بنفس الضرورة التي يوجد بها ... والسبب أو العلة التي يوجد من أجلها الله أو الطبيعة، والسبب الذي من أجله يفعل، هو سبب واحد.»
34
أما فكرة العرضية، التي يعتقد عادة أن فيها إعلاء للطبيعة الإلهية أو توسيعا لنطاق قدرتها، فإن مصدرها الوحيد هو الجهل، «فالشيء لا يمكن أن يسمى عرضيا إلا بالنسبة إلى نقص معرفتنا.»
35
وإذا اكتمل علمنا، فإن الضرورة هي التي تغدو سائدة؛ إذ إن الأشياء، إذا ما نظر إليها في ضوء المعرفة الكاملة بها، تكون إما ضرورية أو مستحيلة. وهي لا تبدو عرضية إلا نتيجة لجهلنا بالأسباب. وهكذا كان دفاع اسپينوزا عن فكرة الضرورة، حتى في مجال الفعل الإلهي، هو في واقع الأمر دفاع عن قابلية الأشياء للمعرفة، وليس أدل على ذلك من قوله: «إن من الواجب رفض فكرة حرية المشيئة الإلهية، لا لأنها عقيمة فحسب، بل لأنها أيضا عقبة كأداء في طريق المعرفة.»
36
هذه النصوص من أوضح نصوص اسپينوزا دلالة، وليس من الصعب الاستدلال على المعاني الحقيقية الكامنة من ورائها؛ إذ إن القشرة اللاهوتية التي غلفت بها هذه النصوص رقيقة هشة إلى أبعد حد، وهي تكشف بشكل مباشر عن الاتجاه العلمي الواضح المتضمن فيها.
ذلك لأن مجرد إدخال فكرة الضرورة في مجال اللاهوت هو في ذاته ثورة على كل ما كان يقال في هذا المجال؛ إذ إن اللاهوتيين كانوا يرون في فهمهم الخاص لفكرة الله وسيلة لإيجاد مخرج من فكرة الضرورة وحتمية القانون الطبيعي، ولإظهار العالم بصور ينقاد فيها لنوع من الأوامر الاعتباطية الشبيهة بأوامر حاكم لا يعترف بقانون؛ فالهدف الواضح لاسپينوزا هو تأكيد فكرة الضرورة وسيادة القانون في جميع أرجاء الكون، ومع ذلك فهو يعبر عن هذه الفكرة، على طريقته المعهودة، بالقول إن فكرة الضرورة أليق بالكمال الإلهي من فكرة الحرية العشوائية التي تتمثل في تحدي القانون أو تغييره عمدا، ويكون المعنى المقصود بالفعل من ذلك هو أن صفة الضرورة أصلح للانطباق على العالم الذي يسير بقوانين ثابتة، منها على التصور اللاهوتي لكائن مشخص عال على الطبيعة ذي مشيئة حرة. وبعبارة أخرى: فإن الفهم العلي للعالم يحتم استبعاد فكرة الخروج العشوائي على القانون والنظام المطرد من مجال تلك الحقيقة التي نتخذها حدا نهائيا لجميع تفسيراتنا وأفكارنا، فماذا يكون الدور الحقيقي لفكرة الله، عندئذ، خارج القوانين الطبيعية الضرورية، التي يصفها اسپينوزا بأنها «أزلية»؛ أي لم تبدأ في الوجود ولن تتبدل أو تبطل أبدا؟ من المؤكد أن اسپينوزا لم يجعل لهذه الفكرة أي دور يخرج عن الدور الذي تقوم به فاعلية الطبيعة ذاتها، ولا يجد المرء مفرا كلما أمعن النظر في هذا الموضوع، من القول إن الفكرة عنده إضافة لفظية لا داعي لها، ومن الممكن أن تستقيم فلسفته تماما بدونها، وهو يكاد يعبر مباشرة عن قصده الحقيقي حين يقول «يعتقد البعض أن الله علة حرة؛ لأنه في اعتقادهم يستطيع ألا يحدث الأشياء التي قلنا إنها تتلو من طبيعته؛ أي الأشياء الواقعة في نطاق قدرته، أو يجعلها غير واجبة الحدوث منه، ولكن هذا أشبه بقولهم أن الله كان يستطيع أن يجعل طبيعة المثلث لا تحتم أن يكون مجموع زواياه الداخلة قائمتين، أو أن معلولا معينا لا ينتج من علته، وهو قول ممتنع.»
37
وإذا عبرنا عن فكرة اسپينوزا هذه من خلال المصطلح الحديث، لقلنا إن العلاقة بين الله وبين الأشياء تعد عندئذ علاقة «تحليلية» والضرورة فيها هي نفس الضرورة التحليلية التي تربط بين المثلث ومجموع زواياه الداخلة. ومثل هذا النوع من العلاقة يستبعد أية علية خارجية أو عالية، وهو بلا شك ينطبق كل الانطباق على العلاقة التي تربط الأشياء الجزئية بمجموع العالم من حيث هو ينطوي على كل ما يمكن تصوره من الإمكانيات. (2) «الخيرية»: الوصف بالخيرية من أكثر الأوصاف الإلهية شيوعا في كل مذهب يقول بأي نوع من الانفصال بين الله والطبيعة؛ إذ يكون الخير عندئذ هو الغاية التي يستهدفها الله في توجيهه للعالم. ولقد رأينا من قبل كيف انتقد اسپينوزا فكرة تأكيد وجود القيم - كالخير أو الجمال - على مستوى الضرورة الكونية. ولما كان مجال البحث هنا على نفس ذلك المستوى، فإنه يطبق نقده هذا على فكرة الخيرية الإلهية لينفيها بدورها.
ومن الواضح أن نفي هذه الصفة يرتبط ارتباطا وثيقا بنفي صفة العرضية والمشيئة الحرة، التي عرضنا لها من قبل، فسيادة الضرورة في الطبيعة تعني عدم وجود غايات. والقول إن الخير غاية إلهية، معناه في رأي اسپينوزا أن هناك قوة خارجية تتحكم في الأفعال الإلهية. وهذا لا يختلف كثيرا عن القول بالمشيئة الحرة. وإنما الصورة التي يكونها اسپينوزا هي صورة فعل محض لا تغيير فيه، ولا غائية يخضع لها. وهو يرد على من يقولون إن الفعل الإلهي يستهدف دائما تحقيق ما هو خير بقوله إنهم يفترضون شيئا ما خارجا عن الله يستهدفه الله، بوصفه أنموذجا أو غاية محدودة، في أفعاله،
38
وهو محال نتيجة لما أثبته مرارا من أن فكرة الله شاملة لكل شيء. والواقع أن صفة الخير هذه صفة مستمدة من المجال البشري، ولا يمكن تصورها بدون الإنسان. أما الكائن الشامل لكل شيء فلا ينبغي تصوره من خلال مثل هذه الأوصاف؛
39
ذلك لأن الكائن الشامل لا ينظر إليه إلا من خلال العقل، ولا تنطبق عليه إلا القوانين الضرورية. وحيث يسود العقل وتسري الضرورة المطلقة لا يكون للخير - أو للشر - أي مجال. وإنما الخير والشر ينطبقان على مجال الآمال والمخاوف والقيم البشرية فحسب. فليس في الطبيعة، من حيث هي ضرورية، خير ولا شر، وليس للحادث إذا ما نظر إليه من حيث علاقاته الضرورية بمجموع حوادث الكون أية صلة بقيمة من هذه القيم؛ ذلك لأنه «لو كان البشر قد ولدوا أحرارا، لما كونوا أية فكرة عن الخير والشر.»
40
وفي برهان اسپينوزا على هذه القضية ذاتها يقول: «أعني بالحر من لا يقوده إلا عقله؛ ومن ثم فإن من ولد حرا، وظل حرا، لا تكون لديه إلا أفكار كافية
adequate ؛ وعلى ذلك ... فليست لديه فكرة عن الشر، وبالتالي (طالما أن الخير والشر متضايفان) عن الخير.»
ولنتأمل جيدا دلالة فكرة تضايف الخير والشر؛ فالشر، كما يؤكد اسپينوزا، هو سلب وعدم، وليس صفة لها وجود أو كيان، ومن المحال أن يكون في طبيعة الأشياء ذاتها شر، ولكن حيث لا يوجد الشر لا يوجد الخير أيضا. والحادث الواحد يمكن أن يفسر على أي نحو نشاء، طالما أننا ننظر إليه من منظورنا البشري، ومن حيث هو حادث جزئي منعزل عن التيار العام للضرورة الطبيعية، إن الزلزال ذاته، الذي لا نكاد نتصوره إلا كارثة فادحة، وهو بالفعل كذلك في نظر معظم الناس، قد يكون سببا في إنعاش صناعة البناء أثناء فترة التعمير التالية. وقد تذكره كثير من النفوس بالخير لأنه قضى على منافس أو جلب ميراثا قبل الأوان أما إذا نظرت إلى الأمور في ذاتها، وتأملت الزلزال وسط سلسلة الحوادث الطبيعية السابقة عليه واللاحقة له، فلن يكون إلا حادثا ضروريا كان ينبغي أن يقع على هذا النحو، ولا يجوز لك، طالما أنك تتحدث من منظور الضرورة، أن تحكم عليه بأنه خير أو شر.
فإذا كان الخير والشر متضايفين في الإنسان، ألا يكون معنى ذلك أنهما متضايفان في الله؟ وإذا كان الإنسان الحر لا يعرف الخير، أليس معنى ذلك بالأحرى أن فكرة الخير لا شأن لها بالطبيعة الإلهية أيضا؟ إن اسپينوزا يكاد هنا يذكر رجال اللاهوت بحقيقة طالما غابت عن أذهانهم؛ فهؤلاء لم يكن لهم من هدف، من قديم الزمان، إلا إثبات أن الشر لا يمكن أن ينتج عن الطبيعة الإلهية، وإنما هو حكم على الظواهر من خلال منظورنا البشري المحدود، ولا شأن لله ذاته بالشر. وهذا صحيح كل الصحة، ولكن النتيجة الخطيرة التي فاتتهم في هذا كله هي أنك حين تنفي الشر عن الإرادة الإلهية تنفي عنها الخير أيضا. فكما أنك لا تستطيع أن تفهم لفظ «ابن» دون لفظ «أب»، فكذلك لا يمكن فهم الخير دون الشر. والفكرتان معا متضايفتان، إن وجدت إحداهما فلا بد أن توجد الأخرى وإن غابت واحدة غابت معها الثانية. والنتيجة الحتمية الوحيدة للمحاولات اللاهوتية لإثبات أن الشر معنى يوجد في المنظور البشري وحده، هي أنها تؤدي إلى استبعاد كل القيم (التي هي حقا بشرية آخر الأمر) عن الطبيعة الإلهية. أما أن تستبعد وتستبقي المتضايف معها، فذلك تناقض لا شك فيه. (3) «العلية الخالقة»: ينفي اسپينوزا عن فكرة الله أي وصف له صلة بفكرة العلية الخالقة، ففكرة الخلق ذاتها هي في نظره تشبيه للقوى الإلهية بقوى الإنسان حين «يحدث» شيئا أو يكون علة له.
41
فالطبيعة عنده ليست في حاجة إلى علة، بل إن اسپينوزا يحاول أن ينزع عن أذهان الناس ميلهم المأثور إلى تطبيق العلية على كل شيء، حتى على الكون في مجموعه؛ فهو يؤكد أن العلية لا تنطبق إلا على الأشياء الجزئية، ولكنها لا تنطبق على الجوهر، أو الطبيعة في مجموعها، ومن العبث أن نبحث عن علة للجوهر مثلما نبحث عادة عن علل للأشياء الجزئية، فهو هنا يدعو إلى التوقف عن البحث عن علة للطبيعة بأسرها، ويحاول تعويد الأذهان على قبول فكرة الطبيعة الموجودة منذ الأزل، غير الناتجة عن علة.
42
ولو تحقق له هذا العرض، لزال بذلك أقوى سبب يؤدي بالناس إلى افتراض موجود خارج عن الطبيعة عال عليها، يكون علة لها؛ فالعلية داخل المجموع علية باطنة. وهذا هو ما يعنيه اسپينوزا بفكرته القائلة إن الجوهر «علة ذاته
Causa sui » - وهي فكرة سنعرض لها فيما بعد بمزيد من التفصيل. وبعبارة أخرى: فليس لك أن تلتمس للطبيعة في مجموعها علة؛ لأن هذه الطبيعة أزلية لا تستطيع أن تقول إنها لم تكن في أي وقت موجودة ثم وجدت.
أما الأشياء الجزئية فتعليها يرجع إلى أشياء أخرى جزئية مثلها، ويعبر اسپينوزا عن تلك الفكرة بالأسلوب المدرسي المحافظ الذي اتخذه لكتاباته، فيقول «إن علة الفكرة الفردية هي فكرة فردية أخرى، أو الله لا من حيث إنه لا متناه، بل من حيث هو متأثر بفكرة شيء فردي آخر يكون الله علة له، ويكون علة لهذا الأخير من حيث هو متأثر بفكرة شيء فردي ثالث. وهكذا إلى ما لا نهاية
43
وفي هذه الحالة تكون الأشياء الفردية هي علة بعضها البعض، وكلما حاولنا التوقف عند العلية الإلهية محاولين أن نهتدي إليها خالصة، وجدناها بالفعل متأثرة بفكرة شيء فردي آخر، ويظل هذا التأثر ساريا إلى ما لا نهاية. وبعبارة أخرى: فإذا جاز لنا أن نتحدث عن فاعلية إلهية في الأشياء الجزئية. فلا بد أن يكون ذلك من خلال أشياء جزئية أخرى. وهذا يؤدي في الواقع إلى الاستغناء تماما عن العلية الإلهية والاكتفاء بتأثير الأشياء الفردية بعضها في البعض. (4) «التشخيص والتشبيه بالإنسان»: ليس هذا وصفا جديدا من الأوصاف التي يستبعدها اسپينوزا من فهمه لفكرة الله، وإنما هو في رأيه خلاصة كل الأوهام والأفكار الباطلة التي لصقت بأذهان الناس عن هذه الفكرة، وهو منشأ كل الأخطاء التي ارتكبها رجال اللاهوت. فأصل البلاء كله، والعلة الأصلية لكل ما دار بأذهان الناس من أوهام في هذا الصدد، هو كما أكد اسپينوزا في تذييل الباب الأول من الأخلاق، نزوع الناس إلى تشبيه الله بالإنسان، أو تصوره على مثال الإنسان؛ فهو أصل الاعتقاد بالمشيئة الحرة؛ إذ يجد الناس في حكامهم، ولا سيما المستبدين منهم، نزوعا إلى السلوك بلا قاعدة ولا قانون، وإلى التصرف في كل شيء حسبما يشاءون، فيصورون آلهتهم على هذا النحو ذاته. وحين يحكم الإنسان على بعض الظواهر بأنها خير لأنها أفادته هو ذاته على نحو ما، يتصور أن الطبيعة في مجموعها تستهدف مثل هذا الخير، وأنها تسير في طريق أريد منه أن يخدم الإنسان دون سواه. وحين يمارس الإنسان فاعليته على أشياء معينة، ويحدث باستخدام المادة الطبيعية، أشياء لم يكن لها وجود، يتصور أن الكون كله قد حدث أو خلق بعد أن لم يكن له وجود، وأنه يحتاج إلى فاعل مثلما يحتاج نتاج الإنسان إلى صانع. وهكذا ترتد كل الأخطاء العقلية التي يقع فيها الناس في هذا الصدد، إلى خطأ واحد أصيل، هو وصف الأشياء على مثال صورة الإنسان، وتفسيرها وفقا لغايات الإنسان وأغراضه الخاصة.
ويسخر اسپينوزا من هذا الاتجاه إلى التشبيه بالإنسان في الرسالة رقم 54 فيقول: «في اعتقادي أن المثلث لو وهب ملكة الكلام، لقال إن الله مثلث في المحل الأول، ولو وهبت الدائرة هذه الملكة لقالت إن طبيعة الله دائرية قبل كل شيء، وكذلك يقول أي كائن إن الله يتصف بصفاته هو، ويجعل الله شبيها به، بينما تعد كل طريقة أخرى في الوجود قبيحة في نظره.»
والنظرة الصحيحة إلى العالم هي تلك النظرة التي خلت تماما من كل إشارة إلى العلل الغائية؛ فالظواهر لا تحدث «لكي» تحقق غرضا ما (هو دائما غرض بشري في نظر الإنسان)، والطبيعة لا تستهدف إرضاء الإنسان، كما أنها في الوقت ذاته لا تتعمد إغضابه، وإنما هي تسير في مجراها الضروري، الذي يستطيع كل كائن أن يفسره على هواه، ولكنه من وجهة نظر العقل لا يقبل تفسيرا إلا من خلال فكرة الضرورة فحسب. «إن الطبيعة لا تسلك مستهدفة غاية ما؛ إذ إن الكائن الأولي اللامتناهي، الذي نسميه الله أو الطبيعة، يسلك بنفس الضرورة التي يوجد بها ... وليس لوجوده ولفعله أصل ولا غاية ... وعلى ذلك فالعلة التي تسمى غائية ليست إلا الرغبة البشرية بقدر ما تعد أصلا أو علة لأي شيء.»
44
أما تذييل الباب الأول من «الأخلاق»، الذي أشرنا إليه من قبل، فإنه يتضمن صفحات تعد من أقوى وأعنف الانتقادات التي وجهت إلى فكرة العلل الغائية وإلى كل محاولة لتشبيه الآلهة بالإنسان. ولا بد أن تسيطر على ذهن من يقرأ هذا التذييل بإمعان فكرة لا مفر منها، هي أن كاتب هذا الكلام، ولا سيما في العصر الذي عاش فيه اسپينوزا، لا يمكن أن يكون في قرارة نفسه معترفا بأي إله سائد في عصره، أو بأي إله مشخص، ينظر إليه على أنه قوة منفصلة عن العالم أو مسيطرة عليه (ولست أدري هل يتبقى من الفكرة بعد ذلك شيء؟) ففي هذا التحليل التشريحي الصارم لأوهام الناس وأخطائهم الشائعة، وهي أوهام وأخطاء لم تسلم منها، في واقع الأمر، كل المذاهب الدينية والفلسفية السائدة في عصر اسپينوزا والعصور السابقة عليه، يستحيل أن يكون هناك مكان لما يعلو على الطبيعة، أو ينفصل عنها على أي نحو، ولا يمكن أن تكون هناك حقيقة سوى الطبيعة الشاملة أو النظام الكلي للأشياء. ويكفي هذا التذييل وحده لإقناع الذهن بأن كل تفسير لاسپينوزا من خلال أي مفهوم لاهوتي تقليدي، لا بد أن يتنافر تنافرا شديدا مع الروح التحليلية الصارمة التي تسود هذا التذييل.
ونستطيع أن نقول إن اسپينوزا حين انتقد النظرة التشبيهية إلى فكرة الله، لم يكن ينتقد فقط أولئك الذين يصورون الآلهة بصورة إنسانية مباشرة، ويجعلون لها جسما ويدين، ويتخيلونها غاضبة غيورة منتقمة. فمعنى التشبيه الذي يحمل عليه يتسع إلى أبعد من ذلك بكثير، ويمتد إلى ميادين عديدة ينزلق فيها الذهن إلى فكرة التشبيه دون أن يشعر. وكما قلنا من قبل، فنسبة أية قيمة بشرية، كالخير، إلى فكرة الله، فيها تشبيه بالإنسان وغائية ينبغي ألا تسري على نظام الكون في مجموعه؛ لأن الكون لم يصنع من أجل الإنسان، ولا من أجل أي كائن، ولا في سبيل أية غاية من تلك الغايات التي نضعها، نحن البشر، لحياتنا، وبنفس هذا المنطق يمكن القول إن أي نوع من التفاهم أو الاتصال أو التقارب بين المبدأ الإلهي وبين الإنسان فيه تشبيه. وهكذا يحتم تفكير اسپينوزا على المرء، إذا شاء أن يكون متسقا مع نفسه، أن يصف كل ما يتصل بالمجال الإلهي بأنه لا شأن له بالإنسان (لا بمعنى أنه مضاد للإنسان، أو يتعمد عدم الاكتراث به، وإنما بمعنى أن الضرورة السائدة فيه لا تستهدف إرضاء الإنسان ولا إغضابه، بل تسير في طريقها الحتمي فحسب)، فمجال القوانين الإلهية لا صلة لها بغاياتنا، بل إن أمانينا وقيمنا تنحصر في عالمنا الجزئي الخاص، ولا يكون لها معنى إلا في داخله، ولا تعني شيئا إلا في ذلك المجال، «فالتعقل، والإرادة، إذا كانت تؤلف الماهية الإلهية، ينبغي أن تكون بعيدة عن التعقل والإرادة لدى البشر بعد القطب عن القطب، بل لا يكون بين الاثنين من عنصر مشترك، في الواقع، إلا الاسم، ولا يكون بين الاثنين من مطابقة إلا ما يوجد بين مجرة «الكلب» السماوية وبين الكلب الذي هو حيوان ينبح.»
45
ولست أدري بأي معنى يمكن أن تفهم فكرة الألوهية في هذا السياق، غير معنى النظام الكلي للأشياء أو الطبيعة في مجموعها. وليحاول أي شخص أن يتخيل ماذا يتبقى من المفهوم التقليدي لهذه الفكرة بعد حذف كل هذه الأوصاف، وليذكر بعد ذلك أن اسپينوزا طالما وضع كلمتي الله والطبيعة على أنهما تشيران إلى حقيقة واحدة، ثم ليتساءل: أليس هذا واضح الدلالة على أن لفظ
Deus
كان عنده لفظا زائدا؛ أي مجرد لفظ كلامي صوتي؟ ألم تكن كل المعاني التي تعزى إلى هذا اللفظ عادة غائبة تماما عن ذهنه؟ ألا تنطبق أوصافه كلها، بكل اتساق، على مفهوم الطبيعة أو مجموع الكون؟ وما قيمة ترديد الاسم على الدوام، إذا كانت الحقيقة التي يدل عليها هذا الاسم هي حقيقة لا يعني المنظور البشري بكل ما فيه أي شيء بالنسبة إليها؟ إن كل ما كان يعنيه البشر عندما تصوروا لأنفسهم آلهة منذ أقدم العصور، هو أن يجدوا في الكون قوة تفهمهم وتتصل بهم على نحو، وتقدر أمانيهم على الأقل، إن لم تكن تحققها بالفعل، فإذا نفى مفكر هذا الاتصال، وانتقد بشدة أي تشبيه للآلهة بالإنسان، فماذا يكون قد تبقى لدى هذا المفكر من الأوصاف التي ظل البشر يعزونها دائما إلى الآلهة، بل ماذا يكون «المبرر» للقول بإله عندئذ؟ ألا تكون الفكرة، بأوصافها هذه، منطبقة على الطبيعة وحدها فحسب؟ (3) دلالة إخفاق براهين وجود الله عند اسپينوزا
لم يستخدم اسپينوزا، في محاولاته لإيجاد براهين عقلية على وجود الله، برهان العلية في صورته المألوفة؛ إذ إن هذا البرهان يفترض الرجوع في سلسلة العلل حتى يستنفد العالم كله، وبعد ذلك يؤدي بنا ميلنا الطبيعي إلى البحث عن علة لكل شيء، إلى افتراض وجود كائن آخر تقف به هذه السلسلة عند حد، ولا بد أن يكون هذا الكائن، عندئذ، عاليا على العالم يمارس عليته دون أن يكون هو ذاته منتميا إليه على أي نحو.
ويبدو أن اسپينوزا قد طبق مبدأ الاقتصاد في الفكر على مسألة العلية الكونية هذه، فأدى به ذلك التطبيق إلى الوقوف، في سلسلة التعليلات، عند العالم في مجموعه؛ ذلك لأن افتراض كائن آخر «بعد» العالم للتخلص من مشكلة العلية داخل هذا العالم، سيؤدي حتما إلى ظهور نفس المشكلات التي حاولنا، بافتراضنا له، أن نتخلص منها؛ إذ إننا لو كنا لا نستطيع الكف عن ترديد السؤال: ما سبب كذا؟ فسيكون من المحتم علينا أن نظل نوجه هذا السؤال في صدد أي كائن نفترضه، سواء أكان داخلا في نطاق العالم أم عاليا عليه. ومع ذلك فالذي يحدث هو أننا نقنع أنفسنا بضرورة الوقوف في سلسلة العلل عند حد معين. وهكذا نفترض كائنا عاليا على العالم يكون وسيلة لإيقاف هذه السلسلة عند حد، ولكن إذا كان من المحتم أن نقف عند حد، وإذا لم يكن أمامنا مفر من أن نكبت، عند نقطة معينة، رغبتنا الطبيعية في البحث عن سبب لكل شيء، فلم لا تكون هذه النقطة التي نتوقف عندها هي الكون في مجموعه؟ إن مبدأ الاقتصاد في الفكر يوفر علينا - طالما أن مشكلة التوقف فجأة في سلسلة العلل ستظهر على أي حال - أن نفترض أي كيان خارج عن الطبيعة لنحل به مشكلة العلية فيها، ويقنعنا بالتوقف عند حد الطبيعة ذاتها. وهكذا يتناول اسپينوزا جميع الأوصاف التي كانت تعزى عادة إلى العلة فوق الطبيعية، وينسبها إلى آخر حلقة سابقة عليها سلسلة التعليلات؛ أعني آخر حلقة يمكن أن يتصورها العقل بوضوح دون أن يكون مرتكزا على فروض غيبية. وكانت مهمة اسپينوزا - كما حددها لنفسه - هي أن يثبت أن ما ينطبق على هذه العلة فوق الطبيعية يمكن أن ينطبق أيضا على العالم أو الطبيعة في مجموعها، وأننا لا نخسر في هذه الحالة الثانية شيئا، بل إن الأوصاف التقليدية كلها يمكن أن تنطبق على مجموع الطبيعة باتساق يختفي فيه ذلك التناقض الذي تتسم به كلما نسبت إلى حقيقة تتجاوز الطبيعة.
على هذا النحو يبدو أن اسپينوزا قد فكر عندما استبعد كل حجة تتعلق بالعلية فوق الطبيعية. وكان النوع الوحيد الذي تصوره من العلية هو العلية الكامنة في الطبيعة؛ أعني علية النظام الكلي للأشياء، الذي لا بد أن يكون أساسا لكل ما يحدث داخله من الظواهر، بل وأساسا لذاته بمعنى ما.
وهكذا ظهرت لدى اسپينوزا فكرة ما هو «علة ذاته
Causa sui »، وهي فكرة كنت بلا شك تحتل موقعا أساسيا في فلسفته؛ لأن أول تعريف في كتاب «الأخلاق» يتعلق بها، ومن المؤكد أن أهميتها لا ترجع إلى كونها فكرة مستمدة من المصطلح الفلسفي في العصور الوسطى، وغنما هي ترجع إلى استخدام اسپينوزا الخاص لها، الذي نقلها فيه إلى مجال جديد تماما، وجعلها وسيلة لإثبات اكتفاء الطبيعة بذاتها.
في هذا التعريف الأول من كتاب «الأخلاق» يقول اسپينوزا: إن علة ذاته هو «ما تنطوي فيه الماهية على الوجود، أو ما لا تتصور طبيعته إلا موجودة.» وقد علق «هيجل» على هذا التعريف بقوله: «إن «علة ذاته» تعبير جدير بالانتباه؛ إذ إننا بينما نخيل لأنفسنا عادة أن المعلول يقف مقابل العلة، فإن علة ذاته هو العلة التي تؤثر في «آخر» وتنفصل عنه، ولكنها في الوقت ذاته لا تنتج إلا ذاتها، وتمحو هذا التمييز بالتالي في ذلك الإنتاج. فوضعها لذاتها على أنها «آخر» هو عدم أو تدهور، وهو في الوقت ذاته نفي هذا العدم؛ فهذه الفكرة نظرية بحت
speculative
وهي في الواقع فكرة أساسية في كل نظر فلسفي.»
46
ومن الواضح أن هيجل قد أخذ هذه الفكرة على علاتها، ولم يحاول أن يبحث لها عن دلالة غير دلالتها الظاهرة، ولم يسأل نفسها إن كان المقصود من هذه الفكرة هو أن تنطبق على كائن فوق الطبيعة أم هو أن يبدأ تفلسفه بتأكيد اكتفاء الطبيعة في مجموعها بذاتها.
ومن المعترف به أن هذه الفكرة، إذا ما نظر إليها حرفيا، تتعرض لانتقادات كثيرة. وقد أشار «أوبرڨك» إلى بعض هذه الانتقادات فقال: إن الشيء لكي يكون علة ذاته، ينبغي أن يوجد قبل ذاته، وإلا لما استطاع أن يكون علة لشيء، فإذا كان اسپينوزا قد عرف ما هو علة ذاته بأنه ما تنطوي ماهيته على وجوده، فينبغي أن يرد على ذلك بأن الماهية لا يمكنها أن تسبب الوجود ما لم تكن موجودة بالفعل من قبل، بحيث يكون ما يتعين إحداثه بالعلية موجودا قبل أن تحدثه العلية. وبعبارة أخرى: فاسپينوزا هنا يضفي كيانا موضوعيا على تمييز لا يتصور إلا بالتجريد، بين الماهية والوجود. أما الشطر الثاني من التعريف، وهو «ما لا تتصور طبيعته إلا موجودة»، فإنه ينطوي على جميع أخطاء الحجة الأنتولوجية، التي وقع فيها من قبل أنسلم وديكارت؛ فكل حجة تستند إلى تعريف تقتضي مقدما إثبات وجود المعرف. وهذه مصادرة منطقية تجاهلها اسپينوزا والباقون. وهكذا يكون المعنى الوحيد الذي يمكن تصوره، في نظر المؤلف، لما هو علة ذاته، هو معنى «اللامعلول
causeless ».
47
وإذا كان النقد السابق يرتكز على الفهم المألوف لفكرة «العلية» وهو الفهم الذي يفترض مقدما فكرة التعاقب الزمني بين العلة والمعلول، فإن «هاليت» يسخر من كل محاولة لانتقاد فكرة «علة ذاته» من خلال هذا المعنى المألوف للعلية، ويؤكد أن المقصود أساسا بالعلية هنا ليس كون العلة «لديها» القوة، بل كونها «هي ذاتها» القوة، وإذا كانت هذه القوة مطلقة فإن فعلها (أو معلولها) يكون موجودا بذاته معها؛ فالحقيقة الأولى
primordial real
هي إذن الثنائية في وحدة العلة أو القوة والمعلول أو الفعل.
48
وسواء أكان هذا التفسير أو ذاك هو الصحيح، فإن المسألة الأهم هي أن كليهما يشير - بطريق مباشر أو غير مباشر - إلى ضرورة الابتعاد عن الفهم الحرفي للفكرة إذا أردنا من هذه الفكرة أن تكون مثمرة؛ فالقول: إن المعنى الوحيد المعقول لفكرة «علة ذاته» هو أنها «اللامعلول»؛ يعني أن فكرة اسپينوزا تخفق إذا فهمت من خلال المصطلح والتفكير المدرسي، وكذلك الحال في تفسير الفكرة من خلال وحدة القوة والفعل في الحقيقة الواحدة، ولا يجد المرء عندئذ مفرا من القول إن استخدام الاصطلاح المدرسي التقليدي كان مصطنعا؛ فالمأزق لذي تنتهي إليه الحجج والتعبيرات المدرسية يؤدي إلى البحث عن تفسير مقنع من وراء الثوب اللفظي الذي تسري عليه كل هذه الانتقادات. وفي هذه الحالة لا يكون أمامنا مفر من أن نفسر فكرة «علة ذاته» عند اسپينوزا على هذا النحو: إذا كان هناك شيء هو علة ذاته؛ أي لم ينتج عن علة خارج ذاته، فهذا الشيء هو مجموع الطبيعة، الذي لا يمكن تصوره إلا موجودا، وفي الطبيعة تكون العلية داخلية بحق؛ فهذا المجموع الكلي للأشياء ينطوي في ذاته على كل ما يمكن أن يطرأ على الأشياء من تغيرات، وفي قوانينه الأزلية توجد بالقوة بذور كل تغير أو حادث ممكن في العالم وهو ذاته قديم لا يمكن أن يكون من صنع حقيقة خارجة عنه.
ومن الطبيعي أن يوجه إلى هذا التفسير السؤال الآتي: ولماذا لا يمكن تصور مجموع الطبيعة إلا موجودا؟ أليست هناك مشكلة فلسفية كاملة اسمها مشكلة إثبات وجود العالم؟ والرد على هذا السؤال هو أن هذه المشكلة، التي كانت قائمة لدى الكثيرين من الفلاسفة، ولا سيما المثاليين منهم، لم تكن من المشاكل المعترف بها أصلا في فلسفة اسپينوزا، فوجود العالم عنده لم يكن موضوع تساؤل، وكتاباته كلها لا تتضمن حرفا واحدا ينم عن الشك في أن هذا العالم قد لا يكون موجودا، أو يهيب بحقائق أخرى (كحقيقة «الصدق الإلهي» عند ديكارت) ليستمد منها الثقة بوجود العالم، فإذا كان تأكيد وجود العالم هو نقطة البداية الأولى للتفلسف، كما أوضحها اسپينوزا في السطر الأول من كتاب «الأخلاق» فإن اسپينوزا يمكن أن يعد «توكيديا» أو «دجماطيقيا» بحق في هذا الميدان. ومع ذلك فإن فلسفته ربما كانت أقوى محاولة جادة بذلت لإثبات أن «التوكيدية» في هذا الميدان أسلم وأقرب إلى الفهم العلمي الدقيق لطبيعة الكون من الاتجاهات النقدية المؤدية إلى الشك أو اللاأدرية أو الإنكار المطلق لحقيقة العالم، وفي اعتقادي أن اسپينوزا سوف يفهم فهما أفضل، ويقدر أكثر مما قدر حتى الآن، في اليوم الذي تكف فيه الفلسفة ذاتها عن التساؤل الممل، والعقيم، عما إذا كان العالم موجودا أو غير موجود، وتعد فيه هذا الوجود - كما فعل اسپينوزا - نقطة بداية واضحة بذاتها، لا مشكلة تضيع طاقة الفكر في محاولة إيجاد «الحلول» لها. •••
وتختلف قيمة البراهين المفصلة التي ساقها اسپينوزا لإثبات وجود الله تبعا للتفسير العام لتفكيره؛ فإذا فهمت كتاباته بمعانيها الحرفية وضمنها كتاباته الكثيرة التي يرد فيها لفظ «الله»، كان من الضروري عندئذ أخذ هذه البراهين مأخذ الجد، ومحاسبته عليها حسابا دقيقا، سواء من حيث الخطأ وعدم الاتساق. أما إذا نظر إلى هذه الكتابات - كما فعلنا في هذا البحث - على أنها تنطوي على معان لا تكشف عنها لغته المدرسية اللاهوتية مباشرة، وإنما تستمد بعد مقارنة لمختلف أفكاره ومواقفه الرئيسية من فلسفة عصره وحضارته، فعندئذ تفقد هذه البراهين قيمتها إلى حد بعيد، وتغدو مجرد تكملة شكلية لبناء لفظي لم يكن صاحبه يعول عليه كثيرا، وفي هذه الحالة الأخيرة لا يكون المرء مضطرا إلى محاسبته على أخطائه أو عدم اتساقه عند عرضه لهذه البراهين، بل إن هذه الأخطاء تعد في واقع الأمر أدلة أخرى غير مباشرة على أن هذه البراهين لم تكن موضوعا لاهتمامه الكامل؛ لأنها هي ذاتها كانت تتعلق بفكرة لها عنده قيمة لفظية فحسب.
وعلى أساس فهمنا الخاص لفلسفة اسپينوزا ومنهجه، لن نتناول من هذه البراهين إلا جانبها السلبي؛ أعني دلالة إخفاقها على ضآلة أهميتها في نظر اسپينوزا؛ ففي البرهان الثاني الذي يقدمه اسپينوزا في النظرية من الباب الأول للأخلاق، يقول: «إن الشيء الذي لا يوجد سبب أو علة تمنع من وجوده، لا بد أن يوجد بالضرورة.» وهذه حجة باطلة؛ إذ لا شيء يمنع من وجود «السمك الماسي» مثلا، ومع ذلك فهو غير موجود، ولو فرض أنه اكتشف يوما، فلن يقول أحد: إن وجوده ضروري، وأن مجرد عدم وجود ما يمنع من وجوده يجعل ذلك الوجود ضروريا. وفي هذا البرهان، وكذلك في البرهان التالي مباشرة المبني على أساس أن «عدم القدرة على الوجود عجز»، وبالتالي أن الله بوصفه كاملا، لا بد أن يكون موجودا - خلط بين مجال الوجود ومجال الوجوب، وهو خلط كانت فلسفة اسپينوزا بأسرها محاولة كبرى لتخليص الأذهان منه، لا سيما وهو الذي عرف كمال الشيء (أو قيمته) بأنه مجرد واقعيته.
وهذه نقطة جديرة بالانتباه حقا؛ فمن الاعتراضات المعروفة والمسلم بها على كل من استخدموا الحجة الأنتولوجية في البرهنة على وجود الله، أنهم يخلطون بين مجال الواقع أو الوجود ومجال القيم أو الوجوب. إنهم يتصورون أن مجرد وجود فكرة في الذهن تتصف بجميع صفات الكمال، وكون الوجود الحقيقي كمالا بدوره، يعني أن هذه الفكرة لا بد أن تتصف أيضا - ضمن كمالاتها - بالوجود الحقيقي. فأقل ما يقال عنهم هو أنهم يفترضون وجود كمال دوني شامل، أو يصبغون المبدأ الأول للكون بصفات الكمال المطلق - نفس ذلك الكمال الذي نفهمه، نحن البشر، ولكن على أقصى نطاق يمكن تصوره، فكيف نوفق بين استخدام اسپينوزا لهذه الحجة، وبين تأكيده أنه لا كمال للشيء إلا واقعيته، وأن الكون في شموله لا يتصف إلا بالضرورة، وأنه يستبعد تماما كل وصف من أوصافنا التقويمية؟ من المؤكد أن هذا البرهان لو أخذ، في فلسفة اسپينوزا، مأخذ الجد، فإنه يهدم فلسفته كلها من أساسها؛ إذ لا يعود هناك مبرر، عندئذ، للحملة على الغائية، أو على التشبيه بالإنسان، أو لتأكيد فكرة الضرورة. وهكذا يكون على المرء عندئذ إما أن يؤكد وجود تناقض أساسي في فلسفة اسپينوزا، أو أن يحاول تفسير التجاء اسپينوزا إلى البرهان الأنتولوجي على أنه جزء من بنائه الفلسفي الشكلي فحسب، وليس جزءا من المعاني الحقيقية التي تتضمنها فلسفته.
أما إذا نظر إلى البرهان الأنتولوجي على أنه ليس، عند اسپينوزا، برهانا متعلقا بفكرة الله، وإنما يتعلق بالنظام الكلي للأشياء، أو الطبيعة، فعندئذ يختفي قدر كبير من التناقض أو عدم الاتساق الظاهر فيه، مثال ذلك أن «سيڨك» يعترض على اسپينوزا لعدم التجائه إلى الطرق التقليدية في إثبات وجود العالم: كفكرة العلية أو المحرك الأول أو وجود النظام في الكون، وينتقد التجاءه إلى إثبات وجود الله من تصور الله ذاته، أو من تحليل معنى الفكرة، قائلا إن فكرة وجود الله ليست واضحة بذاتها، بدليل عدم إدراك الكثيرين لها على التو.
49
مثل هذا الاعتراض صحيح طالما أعتقد أن البرهان يتعلق فعلا بوجود الله. أما إذا حل لفظ «الطبيعة» محل «الله» في هذه الحالة، فإن دلالة البرهان تختلف تماما؛ إذ يغدو البرهان ذاته مجرد إشارة إلى أن وجود الطبيعة ظاهر من مجرد التفكير فيها، أو أنه على الأصح ليس في حاجة إلى دليل. وهكذا فعندما يقول اسپينوزا: إن ماهية الله تتضمن وجوده، يعني أن الحقيقة الأساسية، وهي الطبيعة في مجموعها، موجودة بذاتها، وأن مجرد القول بها يستتبع أن تكون موجودة، وهو تعبير آخر عن استبعاده - الذي أشرنا إليه من قبل - لمشكلة إثبات وجود العالم.
ولو تأملنا التفسير الذي انتهى إليه «چويكم» - وهو من أدق شراح كتاب «الأخلاق» - لبراهين اسپينوزا على وجود الله لوجدنا أنه يؤيد هذا الرأي إلى حد بعيد. فهذه البراهين في رأيه تتلخص في فكرة واحدة هي: «إذا سلمت بأن أي شيء موجود فعلا
is actual . فلا بد أن تسلم بأن الله موجود فعلا بالضرورة.» وهو يعقب على هذا الشرح بقوله: «إن صحة هذا الاستدلال تتوقف على ما يعنيه اسپينوزا بفكرة الله؛ فقيمته تتوقف على ما تعنيه عبارة الوجود الضروري لله.»
50
ثم يزيد عبرته هذه إيضاحا فيقول: «والسبب في صحة برهانه على الوجود الضروري لله هو أن الإله عنده ... هو الواقع الوحيد الشامل؛ فالتجربة من حيث هي كل ينبغي أن تكون موجودة؛ لأنها كل؛ أي لأنها في جميع أوجهها ذات نسيج واحد، ولأن كل جزء منها ينطوي، بالتالي، على النسيج بأسره: وعلى ذلك فإذا لم يكن للكل وجود، ووجود ضروري، فلن يعود من الممكن، بأي معنى من المعاني، أن يوجد شيء أو يتصور.»
51
ومن نتائج هذا الشرح أن براهين اسپينوزا على وجود الله لا تعود صحيحة إذا طبقت على الفكرة التقليدية عن الله، أو على أية حقيقة فيما عدا «الواقع الكلي» أو «مجموع التجربة». وهكذا فإن صحة الحجة الأنتولوجية تتوقف في رأيه، على «الطبيعة الفريدة لفكرة الله عنده، فإذا طبقت الحجة الأنتولوجية على أي شيء ما عدا النسق الكامل والفريد للتجربة، فإن نقد كانت لها يقضي عليها حتما ... أما حين نفسر لفظ «الله» على أنه يعني مجموع الواقع
Reality ... فعندئذ لا يكون في استطاعتك أن تمتنع عن تصور الله إلا إذا امتنعت عن التفكير أو الشك أو الشعور؛ أو بالاختصار، إذا امتنعت عن الوجود.»
52
ورغم ما أدخله «چويكم» في تفسيره هذا من تعبيرات مثالية فسر بها اسپينوزا من خلال مذاهب لم تظهر بعده إلا بزمان طويل، مثل «مجموع التجربة» أو «نسقها الكامل»، وهي تعبيرات تتمشى مع اتجاه «چويكم» العام في التفكير، فإن له مع ذلك فضل التنبيه إلى ضرورة الربط بين التفسير الممكن لطبيعة براهين اسپينوزا وبين المعنى الحقيقي المقصود من كلمة «الله»، ثم الإشارة إلى أن التفسير المتسق الوحيد هو ذلك الذي تعني تلك الكلمة فيه «مجموع الواقع»، بحيث تصبح الدلالة الحقيقية للبرهان هي أن افتراض أبسط وجود في هذا العالم يحتم التسليم بوجود «الواقع» أو الطبيعة في مجموعها.
وإذن ففي البراهين التي قدمها اسپينوزا لإثبات وجود الله، تتضح مرة أخرى تلك الحقيقة التي تكشفت لنا من قبل مرارا، وهي أن العبارات التي تحدث فيها اسپينوزا عن «الله» تظل متناقضة تناقضا أساسيا مع نفسها ومع سائر أوجه فلسفته طالما فهمت هذه الكلمة بمعناها الحرفي، ولكن هذا التناقض يزول، ويغدو كل شيء واضحا جليا، إذا استبدل بهذا الفهم الحرفي فهم آخر يصبح فيه اللفظ معادلا «لمجموع الطبيعة». وهنا أيضا يمكن أن يقال إن هدف اسپينوزا هو أن يثبت أن ما قاله الفلاسفة واللاهوتيون من قبل عن فكرة «الله»، يمكن أن ينطبق، بمزيد من الاتساق، على فكرة المجموع الكلي للأشياء.
أما أولئك الذين يأخذون هذه البراهين، بصورتها الحرفية، مأخذ الجد، ويرهقون أنفسهم في البحث عن صلات أو ارتباطات أو خلافات بينها وبين نظائرها لدى مختلف الفلاسفة المدرسيين، فليس لنا عليهم إلا رد واحد، هو: تأملوا جيدا جميع أطراف فلسفة اسپينوزا، ولا سيما الأوصاف التي عزاها، بطريقته الخاصة، إلى فكرة الله، وقولوا لنا بعد ذلك: على أي شيء كان اسپينوزا يريد بالفعل أن يبرهن؟ إن مقارنة اسپينوزا بالفلاسفة المدرسيين مهما تضمنت من شواهد على علم الشارح وسعة اطلاعه - تكشف في واقع الأمر عن سذاجة في العقل لا حد لها؛ فقد كان هؤلاء المدرسيون الوسيطيون يريدون فعلا البرهنة على وجود كائن عال على العالم، يتصف بالخير ويوجه العالم نحوه، بحيث يكون مسار العالم ذاته غائيا ومستهدفا قيما بشرية، وتلك كلها معان رفضها اسپينوزا رفضا قاطعا صريحا، فإذا جاء بعد هذا الرفض القاطع الصريح واستخدم نفس حججهم، فلا مفر للمرء عندئذ من أحد أمرين: أن يقول إن اسپينوزا بلغ من التناقض حد البلاهة التي لا تليق بفيلسوف، أو أن يستخلص لبراهينه الأنتولوجية دلالة مختلفة كل الاختلاف عن كل دلالاتها السابقة، ترتبط بمجموع فلسفته وتتمشى مع اتجاهها العام، ومن المؤسف أن أكبر شراح اسپينوزا قد وقعوا في الخطأ الأول، ولم يعبئوا حتى بأن يسألوا أنفسهم عن محتوى تلك الحقيقة التي يفترض أن اسپينوزا يستخدم من أجل إثباتها هذه البراهين الموروثة عن العصور الوسطى، مع أنهم لو قارنوا بين محتوى تلك الحقيقة عنده ومحتواها عند اللاهوتيين لأدركوا على التو أن استخدام كل هذه الحجج التقليدية إما أن يكون منطبقا على النظام الكلي للأشياء، أو لا يكون له، عدا ذلك، أي مكان في السياق العام لفلسفة اسپينوزا. (4) نطاق فكرتي الله والطبيعة
كانت النتيجة الواضحة التي أدى إليها بحثنا للأوصاف التي نسبها اسپينوزا إلى فكرة الله، وكذلك الأوصاف التي نفاها عنها، وتلك التي أدخلها على الفكرة مخالفا بذلك كل تراث سابق - هي أن التفسير المتسق لفكرة الله عنده هو ذلك الذي يجعلها في هوية مع مجموع الطبيعة أو النظام الكلي للأشياء. كذلك أدى البحث في براهين وجود الله عنده إلى نتيجة مماثلة؛ فإخفاق هذه البراهين ليس، في رأينا، راجعا إلى تهاون عقلي أو تناقض منطقي في تفكيره، وإنما هو راجع إلى أن الموضوع الذي كان يبرهن عليه مختلف كل الاختلاف عن ذلك الموضوع الذي سعى الفلاسفة المدرسيون إلى البرهنة عليه، بحيث يكون اسپينوزا متناقضا مع نفسه بالضرورة إذا فسرت كلمة «الله» عنده بمعناها الحرفي، ولكنه يكون متسقا تمام الاتساق إذا ما نظر إلى هذه البراهين على أنها محاولة منه لكي يثبت - بلغة لاهوتية تقليدية - أن وجود الطبيعة ضروري قديم وأن مجرد تصورها يستتبع حتما القول بوجودها، وأنها هي ما لا تتصور ماهيته إلا موجودة.
والنتيجة التي ينبغي أن يخلص إليها المرء من هذا كله هي أن اسپينوزا لم يتخل عن نزعته التحليلية الدقيقة في هذا المجال بدوره، وأنه حرص كل الحرص على أن يستبعد كل فكرة عن كائن عال على الطبيعة أو متحكم فيها وهو منفصل عنها، أو موجه لها نحو غاية تفهم على مثال غايات الإنسان؛ فكل فكرة لدينا عن مثل هذا الكائن ينبغي أن ترد إلى مجموع الطبيعة ذاتها، من حيث إنها الحد النهائي الذي يفهم من خلاله كل تفكير وكل وجود.
ولقد أدرك بعض شراح اسپينوزا هذا المعنى لفكرة الله عنده بوضوح، وإن يكن الكثير منهم لم يستخلص - للأسف - كل متضمنات التفسير الصحيح الذي انتهوا إليه، مثال ذلك أن «موريس كوهن» يقول في مقال سبقت الإشارة إليه: «إذا كان ثمة شيء يتضح من كتاب «الأخلاق»، فذلك هو رفض اسپينوزا لكل نوع من التأليه المشبه بالإنسان؛ فالقول إن لله أية صفات شخصية كالإرادة أو العقل البشري، وأنه يسلك من أجل غاية واعية هي تحقيق ما هو خير لنا؛ هذا القول ينكره اسپينوزا مرارا بكل شدة، ومن الواضح أن اسپينوزا كان يعني من لفظ «الله» ما نسميه اليوم بعالم الواقع الذي هو موضوع كل علم، ونسق الطبيعة أو ترابطها الضروري.»
53
ويقول «هرمان دونكر»: «إن اسپينوزا لم يعترف إلا بالجوهر الشامل لكل شيء، الذي يمارس فاعليته في كل شيء. أما أنه أطلق على هذا الجوهر اسم «الله» - «الله أو الجوهر أو الطبيعة» - فما ذلك إلا خدعة لاهوتية، وترضية، ظاهرية للعقلية السائدة.»
54
أما العلماء فإنهم ولا شك يرحبون كل الترحيب بأي فهم من هذا النوع لفكرة الله. وهكذا قيل عن فهم اسپينوزا لفكرة الله إنه «هو الفهم الذي يصلح للعلماء»،
55
واقتبس صاحب هذا القول تصريحا لأينشتين يقول فيه: «إنني أومن بإله اسپينوزا.» وآخر للعالم لشتنبرج
Lichtenberg
يقول فيه إن فلسفة اسپينوزا «هي عقيدة الغد».
ومع ذلك فمن الممكن أن يجد المرء لدى اسپينوزا ذاته قرائن مباشرة على أن فكرة الله لا تخرج عنده عن مجال الطبيعة، وأنه حين قال «لله أو الطبيعة» لم يكن يعني حقيقتين وإنما حقيقة واحدة (وهو أمر أدركه كثير من الشراح)، وأن من الواجب - بالتالي - أن يدرك قارئ اسپينوزا أنه في كل موضع يتحدث فيه عن «الله»، يقصد بالفعل مجموع الطبيعة أو النظام الضروري للأشياء (وهو أمر يعترف به كثير من شراحه في الموضع الخاص به من شروحهم، ولكن معظمهم يغفلونه في بقية المواضع)، وسنعرض فيما يلي بعض هذه القرائن المباشرة: (4-1) هوية مجالي الله والطبيعة (1)
في أهم القضايا التي تعبر عن فلسفة مادية خالصة في كتاب «الأخلاق»، وهي القضايا من 10 إلى 20 من الباب الثاني، لا يرد ذكر للفظ «الله» في نص القضايا ذاتها، ولكن اللفظ يستخدم دائما في براهين هذه القضايا. وهذه القضايا تأتي مباشرة بعد القضية التاسعة، التي ورد فيها هذا اللفظ لآخر مرة قبل هذه المجموعة، ونص القضية 9 هو «إن الله يكون علة لفكرة شيء فردي موجود بالفعل، لا من حيث إنه لا متناه، بل بقدر ما يكون متأثرا بفكرة أخرى لشيء موجود بالفعل، يكون هو علته، بقدر ما يكون متأثرا بفكرة ثالثة. وهكذا إلى ما لا نهاية» في هذه القضية يقول اسپينوزا صراحة: إن من الممكن التحدث عن الله على أنه «متأثر» بفكرة شيء متناه - فأي إله هذا الذي «يتأثر» بفكرة شيء جزئي؟ من المؤكد أن لهذه القضية دلالة مباشرة على أن المقصود هنا هو المقارنة بين «الطبيعة» من حيث وجهها اللامتناهي من ناحية، وبين «الطبيعة» من حيث وجهها المتناهي الذي يكون فيه للأشياء الجزئية تأثيرها؛ ففي هذا الوجه المتناهي تكون الأشياء الجزئية، بالفعل، هي التي يؤثر بعضها في البعض، ويكون من الممكن حذف الحد المتوسط بينها، فبدلا من أن يقول اسپينوزا مباشرة إن الجسم المادي لا يتأثر إلا بجسم مادي، يقول إن الله هو علة الجسم المادي عن طريق تأثره بجسم مادي آخر يكون لله علته عن طريق تأثره بجسم ثالث ... إلخ. وهكذا تكون مهمة فكرة الله هنا «توسطية» فحسب، ويكون من الممكن في الواقع حذفها تماما والاقتصار على تأثير الأجسام، الأول والثاني والثالث، بعضها في البعض. وبعد أن أوضح اسپينوزا في هذه القضية معانيه التي لا يكون فيها لفكرة الله بالفعل أي دور حقيقي، ينتقل بعد ذلك إلى تفسير مادي صرف للعلاقة بين الذهن والجسم، وللقوى الذهنية والجسمية، ولا يرد في هذه المجموعة من ذكر لكلمة «الله» إلا في البراهين فحسب، وليس من الصعب أن يدرك المرء أن «براهين» القضايا في كتاب «الأخلاق» هي أكثر الأجزاء تكلفا، وهي التي يقوم عليها البناء المصطنع في المنهج الهندسي، ووظيفتها الحقيقية هي تبرير قضاياه على نحو تبدو فيه ضرورية لا تترك مجالا للاعتراض، بحيث لا يملك من لا تروقه القضية ذاتها - من الوجهة الأيديولوجية - إلا أنه يسلم بها طالما أن البرهان عليها يتسم بالضرورة الهندسية. وهكذا يدل اقتصار ظهور فكرة «الله» على البراهين في هذه القضايا المتطرفة في ماديتها على أن الفكرة تقوم بنفس مهمة «التوسط» التي ضربنا لها مثلا من قبل؛ وهو توسط يخفف كثيرا من تأثير توالي الأفكار المادية بعضها وراء البعض، ويكون «حاجزا» يقلل من وقع هذه الأفكار. (2)
في «البحث اللاهوتي السياسي» تعرف فكرة «الأوامر الإلهية» بأنها لا تخرج عن كونها تعبيرا عن الضرورة الكامنة في قوانين الطبيعة
56
وهذا التعرف في ذاته دليل وصريح، على أن فكرة الله عند اسپينوزا لا تؤدي وظيفة ما؛ إذ إن هذه القوانين الطبيعية تسير في مجراها الضروري، وسواء نسبت إليها صفة أخرى هي أنها «أوامر إلهية» أم اكتفيت بفكرتها هي ذاتها فحسب، فلن يتغير في الأمر شيء.
وبعد ذلك، فلنقارن بين هذا التعريف «للأوامر الإلهية» بأنها تعني القوانين الضرورية للأشياء (وهو تعريف يردده اسپينوزا كثيرا في مواضع مختلفة من كتبه)، وبين حديث آخر عن الأوامر الإلهية ورد في ختام الباب الثاني من الأخلاق؛ فهو هنا يتحدث عن بعض المزايا الأخلاقية والسلوكية لفكرته القائلة بعدم وجود إرادة حرة، ويقول إن أولى هذه المزايا هي «أنها تعلمنا ألا نسلك إلا وفقا للأوامر الإلهية، وأن نشارك في الطبيعة الإلهية، ونكون أقدر على ذلك كلما ازداد كمال أفعالنا وازددنا فهما لله.»
هذه النتيجة الأخلاقية، المتعلقة بإطاعة الأوامر الإلهية والمشاركة في الطبيعة الإلهية، قد استخلصت من مجموعة من القضايا عرض فيها اسپينوزا مذهبا حتميا بحتا، هو إنكار حرية الإرادة. فإذا فهمت فكرة الله هنا بمعناها الحرفي، فسوف يتعارض ذلك أولا مع تعريفه «الطبيعي» السابق للأوامر الإلهية. وسوف يكون فيه ثانيا، فصم للارتباط المنطقي الطبيعي بين إنكار حرية الإرادة وبين النظرة العلمية الوضعية إلى الأشياء، وللارتباط العكسي بين النظرة اللاهوتية وبين الإيمان بحرية الإرادة؛ وكأن اسپينوزا قد استخدم مقدمة علمية (تؤلف، في الواقع، الجزء الأكبر من الباب الثاني بأسره) في استخلاص نتيجة لاهوتية فوق الطبيعية! وثالثا سيكون اسپينوزا عندئذ واقعا في نفس خطأ التشبيه الذي طالما حذرنا منه اسپينوزا: وهو خطأ تشبيه الآلهة بالحكام؛ إذ إنه سينظر إلى الله هنا على أنه «يأمر»، ونحن «نطيع».
هذا المثل غاية في الوضوح من حيث دلالته على التناقض الساذج الذي يقع فيه المفسرون الحرفيون لاسپينوزا، وعلى أن هذه الفكرة ذات المظهر اللاهوتي إذا ما فسرت بمعناها الذي حدده لها اسپينوزا في موضع آخر، تغدو متسقة تماما مع المجرى العام لفلسفته؛ فإطاعة الأوامر الإلهية، ومعرفة الله، وفهم الله وخدمته ... إلخ، كل هذه تعبيرات عن إدراك قوانين الطبيعة وفهم المجرى العام للحوادث ومسايرته ... إلخ.
ومع ذلك فإن اسپينوزا لم يصرح مباشرة، في هذا الموضع من الباب الثاني من «الأخلاق»، بالمعنى الذي يقصده من لفظ «الأوامر الإلهية»، ولست أشك أبدا في أن أي قارئ لا يجري المقارنة اللازمة، سيفهم هذا اللفظ، وكذلك لفظ «معرفة الله» و«المشاركة في الله» و«البركة»، وغيرها من الألفاظ الواردة في هذه الصفحات الأخيرة من الباب، بمعانيها الحرفية ذات الارتباطات اللاهوتية، بل إن كثيرا من شراح اسپينوزا يفهمون منها هذه المعاني بالفعل.
والواقع أن هذه الظاهرة، التي تتمثل بكل وضوح في هذا النص، تستحق من باحثي اسپينوزا تفكيرا عميقا في دلالتها؛ ذلك لأن الجزء الأكبر ممن كتبوا عن اسپينوزا يستبعدون تماما - كما ذكرنا في الفصل الخاص بالمنهج - أن يكون قد كتب بلغتين: لغة ظاهرة ولغة حقيقية، أو أن يكون قد تعمد «خداع» القارئ. وقد قدمنا من قبل ردا كافيا على فكرة «الخداع» هذه، أما أن اسپينوزا قد كتب بلغتين، فذلك أمر يظهر في مثل هذا المثل بوضوح لا يقبل جدلا؛ ففي الباب الثاني من «الأخلاق» يتخذ اسپينوزا موقفا علميا صارما ينظر فيه إلى كثير من الأفكار التي سلم بها معظم الفلاسفة - بل بعض العلماء - (مثل فكرة جوهرية النفس وحرية الإرادة) على أنها أساطير مخرفة، وفي نفس هذا الباب يحذرنا اسپينوزا - كما فعل مرارا في مواضع مختلفة - من تشبيه الله بالإنسان، وبالحكام والملوك خاصة، ثم يختم الباب بملحوظة يرمي فيها إلى تأكيد مزايا رأيه في إنكار حرية الإرادة، ويؤكد فكرة الضرورة بين الأشياء - ومع هذا كله يتحدث عن وجود «أوامر إلهية»، وهو تعبير له ارتباطات لاهوتية قوية يعرفها اسپينوزا جيدا، ويدرك حتما أنها ستؤثر في ذهن القارئ. فهل ينكر أحد بعد ذلك أن اسپينوزا كان يتحدث، في هذا الموضع على الأقل، بلغة مزدوجة؟ وإذا سلمنا بذلك، بالنسبة إلى هذا الموضع، فلم لا نسلم به أيضا بالنسبة إلى الأجزاء الأخرى من كتاب «الأخلاق»، ولا سيما النصف الثاني من الباب الأخير؟
57
إنني لا أستطيع أن أفسر هذه الظاهرة إلا بأنها:
أولا:
سخرية من القارئ الساذج، الذي ستظل لكلمة «الله» ومركباتها هنا ارتباطاتها التقليدية في ذهنه.
ثانيا:
تنبيه القارئ الفطن تنبيها واضحا؛ فهو في هذا الموضع يكاد يقول: إنك تدرك طبعا أن من المستحيل أن أكون قد ناقضت نفسي بهذه الشدة وبهذه السرعة. فلا بد أن لي قصدا آخر، وإذا كنت قد طلبت منك، منذ قليل، ألا تصور الله بصورة البشر، ثم استخدمت في هذا الموضع تعبير «الأوامر الإلهية». فلا بد أنني أقصد هنا من تعبيرات: الأوامر الإلهية وطاعة الله وخدمته، أمورا مختلفة تماما تحل فيها التعبيرات السابقة تعبيرات أخرى هي: القوانين الطبيعية وفهمها ومسايرتها والرضاء بها ... إلخ؛ ولكني مضطر إلى استخدام التعبيرات الأولى حتى أسكت ألسنة الناقدين، وأنا واثق من أنك ستفهم، حينما تجد تناقضا صارخا كهذا، مقصدي الحقيقي على التو!
ففي حالة كهذه، إذن، تظهر بكل وضوح المشكلة الحقيقية في طريقة كتابة اسپينوزا، وهي أنه لم يأت في كتاباته بأفكار جديدة خارجة عن التراث فحسب، بل كان حريصا كل الحرص على أن يستخدم نفس اللغة والتعبيرات القديمة؛ أعني كان حريصا على أن يظهر كما لو لم يكن يخالف المعاني القديمة والتراث السائد. ونستطيع أن نقول إن طريقته هذه في الكتابة، إذا كانت ترمي إلى إبعاد أنظار العامة عن الاتجاه الحقيقي لتفكيره، فإنها في الوقت ذاته اختبار عسير يؤدي إلى تمييز «الصبية من الرجال» من بين قرائه! (3)
وفي الرسالة رقم 54 يقول اسپينوزا في صدد الحديث عن اتصاف الواقع بالضرورة المطلقة التي لا شأن لها بأحكامنا الخاصة: «وهكذا فإن الأشياء إذا ما نظر إليها في ذاتها، أو في علاقتها بالله، لا تكون جميلة ولا قبيحة.» فالتعبير المستخدم هنا يعترف فيه صراحة بأن النظر إلى الأشياء في علاقتها بالله «مرادف» للنظر إلى الأشياء في ذاتها، أو بعبارة أخرى: للنظر إلى الأشياء في سياقها الضروري العام وسط الظواهر الطبيعية الأخرى (لا بالنسبة إلى ذهن الإنسان فحسب). وهنا اعتراف صريح من اسپينوزا بأنه يستخدم لغتين، إحداهما لاهوتية والأخرى علمية. (4)
وقرب نهاية تذييل الباب الأول من «الأخلاق»، يرد اسپينوزا على المعترضين الذين يقولون: لو كانت كل الأشياء تتلو من الضرورة الإلهية، فلم لم يخلق الله الناس بحيث لا يسترشدون إلا بحكم العقل؟ فيقول في رده «إن هذا راجع إلى أن الله لم يكن يفتقر إلى المادة التي يخلق منها كل الأشياء، من أرفعها كمالا إلى أحطها، أو، إذا شئت أن أتحدث بمزيد من الدقة، فإن قوانين الطبيعة ذاتها كانت كثيرة إلى الحد الذي يكفي لإنتاج كل ما يمكن أن يتصوره ذهن لا نهائي ...»
هذا النص الصغير، ومعه النص السابق، أوجه إليه، بكل إخلاص، أنظار أولئك الذين يستنكرون - بشهامة - أن يكون اسپينوزا قد تحدث بلغتين؛ فهو هنا يذكر، في صراحة تغني المرء عن بذل أي جهد ذهني لفهم معناه الحقيقي، أن لديه طريقتين للكلام: طريقة يحدث بها الناس على قدر عقولهم، هي تلك التي يستخدم فيها التعبيرات اللاهوتية، وطريقة أخرى يستخدم فيها «تعبير الضرورة الطبيعية»، وإذا كان اسپينوزا في النص السابق قد جعل التعبيرين اللاهوتي والعلمي مترادفين، فإنه في النص الأخير يصدر تأكيدا غاية في الأهمية، وهو أن التعبير لعلمي هو «الأدق»، ولعل في هذا النص دليلا مباشرا كافيا على الاتجاه الحقيقي لميول اسپينوزا، في معرض المفاضلة بين لغتيه، أو بين «الوجهين الصوفي والعلمي» اللذين يمكن أن تفهم بهما فلسفته، على حد تعبير الشراح الآخرين الذين حيرتهم مشكلة المفاضلة بينهما. (4-2) إنكار الشراح لهوية المجالين
كان من المفيد، في رأينا، أن نبدأ بتقديم هذه الأدلة القاطعة على المعنى الحقيقي الذي استخدم فيه اسپينوزا جميع التعبيرات التي ترد فيها كلمة «الله»؛ فمثل هذه البداية تساعد كثيرا على تبين أوجه الخطأ لدى الكتاب الذين حاولوا أن يوجدوا فاصلا بين فكرتي الله والطبيعة عنده.
وهؤلاء الكتاب ينقسمون إلى فئتين؛ فئة تستبقي المعنى التقليدي لفكرة الله، وفئة أخرى تعترف بأن هذا المعنى قد تغير عند اسپينوزا، ولكنها تظل تسعى إلى إيجاد فارق بين فكرتي الله والطبيعة في فلسفته، وسوف نتناول الآن مثلة لهاتين الفئتين على التوالي.
فكتب «سيڨك» عن اسپينوزا تحفل بأمثلة للفهم التقليدي لفكرة الله، وهو يتحدث في كثير من المواضع عن الفكرة كما لو كانت تعني إلها مشخصا،
58
وكل ما في الأمر أن له بعض الصفات المخالفة للإله التقليدي، وهو ينتقد إله اسپينوزا هذا، ولكن على أساس أنه إله مماثل لغيره، سوى أن فيه بعض الصفات التي لا تتفق مع المفهوم الواجب لفكرة الله؛ فهو انتقاد داخل في إطار فكرة الألوهية كما هي معروفة منذ القدم.
ولكن أوضح أمثلة الفهم المشوه لفكرة الله عند اسپينوزا، هو في رأيي تفسير «بروشار
Brochard » له؛ فهو يحاول أن يثبت أنه لا يوجد في كتاب «الأخلاق» ما يتعارض مع فكرة الإله المشخص التقليدية، وهو يعترف بوجود «صعوبات» في هذا التفسير مثلا، مثل القول بمادية الله، ولكنه يتخلص من هذه الصعوبات بالقول إن غيره (كالرواقيين) قد وقعوا فيها (وهو في ذاته ليس حلا للصعوبة على الإطلاق!) بل إنه ليذهب إلى حد القول إن اسپينوزا، حتى في تلك الأوصاف التي لا تتمشى مع الفم التقليدي للفكرة، «لم يكن يدرك، على ما يبدو، أنه يخرج بمثل هذه التعبيرات عن التراث. وهكذا يظل يتحدث عن الله وكأن للفكرة، باستثناء الأوصاف المشار إليها، نفس معناها لدى الجميع.» ويخلص من ذلك إلى القول: «إن الاسپينوزية مذهب توحيدي متطرف.»
59
وهكذا يوصف اسپينوزا في هذا البحث، على التوالي، بأنه قال بإله مشخص، وبالتوحيد، وبكل المعاني التقليدية لفكرة الله (حتى رغم خروجه عنها دون أن يشعر) ورأي المؤلف هذا يمثل قمة السذاجة في تفسير اسپينوزا، وتكشف كتاباته عن مدى الخطأ الذي يقع فيه من يفسر اسپينوزا تفسيرا حرفيا؛ إذ ينسب إليه نفس الأفكار التي كانت الغاية الوحيدة له هي نقدها، ويغفل كل ما هو عميق في معانيه، متمسكا بالثوب اللغوي السطحي لأسلوبه.
وفي اعتقادي أن مجرد استخدام الشراح للفظ «الله»، دون إلحاقه دائما بالمعاني الحقيقية المقصودة من ورائه، هو خطأ أساسي في طريقة عرض فلسفة اسپينوزا، وهو خطأ نكاد نصادفه في كل ما ألف عنه من الكتب؛ فاسپينوزا ذاته كان يستخدم اللفظ، دون أن يوضح معناه دائما؛ لأنه لم يكن يستطيع في ذلك العصر أن يعبر عن معانيه بطريقة أصرح من هذه، ولكن ليس لمن يكتب عن اسپينوزا في عصرنا الحالي أي عذر في أن يظل يستخدم اللفظ دون أن يلحقه بمعانيه الحقيقية، إذ إن ضرورة «الحذر» تنتفي عندئذ، فضلا عن أن الفهم الحقيقي لمعاني اسپينوزا لا يستقيم أبدا طالما أن الكلمة تذكر دون تعليق أو شرح. إن المشكلة ها هنا نفسية في المحل الأول؛ فلهذه الكلمة، فوق كل ما عداها من ألفاظ اللغة، ارتباطات نفسية لا بد أن تطرأ على ذهن كل من يقرؤها، وليس من الدقة العلمية في شيء أن يظل الشارح يردد كلمة «الله» وهو يعلم جيدا أنها ستبعث حتما في ذهن قرائه معاني تقليدية لا مفر منها، وأنها ستنقله إلى مجال من مجالات المعنى مختلف تماما عن ذلك الذي كان في ذهن اسپينوزا عندما أوضح أفكاره التي ورد فيها هذا اللفظ. •••
أما الفئة الثانية من الشراح فلا تصل إلى حد القول بالفهم التقليدي مباشرة لفكرة الله، وإنما تعترف بالفوارق الواضحة بين معنى الفكرة عند اسپينوزا ومعناها التقليدي، ولكنها تسعى، رغم ذلك، إلى إيجاد نوع من التمييز بين فكرتي الله والطبيعة عنده. ولنضرب لهذه الفئة بعض الأمثلة: (أ)
يقول «هاليت
Hallett »: «إن الله من وجهة نظر الأصل
genetically
سابق على العالم، أما من وجهة النظر الأنتولوجية فهما يمثلان الهوية الجامعة بين اللامتناهي على نحو غير متحدد، والمتحدد على نحو لا متناه، وبهذا المعنى الدقيق يتحدث اسپينوزا عن «الله أو الطبيعة» - إذ إنه، رغم أن الله بالمعنى الدقيق تماما هو طبيعة طابعة، فإن هوية الطبيعة الطابعة مع الطبيعة المطبوعة تؤكد صحة التعبير السابق، ومع ذلك لا ينبغي بالطبع أن يخلط بين الطبيعة المطبوعة وعالم المدة الزمنية المألوف في التجربة العادية - أي «النظام المألوف للطبيعة»، الذي يتصف بالكثرة والتعقد والانقسام - وإنما هي التركيب الأزلي للكون بأسره، الذي هو لا نهائي واحد لا ينقسم، والذي لا يكون عالم المدة الزمنية إلا عدما
privation
له. وهكذا تنهار الاعتراضات الشائعة على التوحيد بين الله والطبيعة؛ إذ إن عالم المدة الزمنية، بما فيه من نقائص عديدة، ليس في نظر اسپينوزا إلهيا بالضرورة ...»
60
ورغم أن المؤلف يدافع في هذا النص عن هوية الله والطبيعة، فإنه يؤكد أن هذه الهوية تقوم في ظل فهم خاص للطبيعة، تكون فيه الطبيعة المطبوعة ذاتها مخالفة لعالم التجربة العادية، الذي هو في الواقع «عدم» لها؛ وبذلك يستبقي المؤلف لفكرة الله نوعا من الترفع على عالم المدة الزمنية هذا؛ ومع ذلك فمن المشكوك فيه إلى حد بعيد أن يكون هذا العالم الأخير، في نظر اسپينوزا، متصفا بأي نوع من «النقص»، كما قال المؤلف؛ إذ إن النقص أمر ينتمي إلى المنظور البشري وليس صفة تنتمي إلى طبيعة الأشياء. كما أن المرء إذا وصف الطبيعة المطبوعة بالأزلية والوحدة واللانهائية، فماذا يتبقى بعد ذلك للطبيعة الطابعة؟ إن المؤلف، كما هو واضح، يكاد يقول هنا بثلاث حقائق متميزة: الطبيعة الطابعة، والطبيعة المطبوعة (وهذه الأخيرة يمكن أن تصبح في هوية مع الأولى لأنها أزلية مثلها) ثم عالم المدة الزمنية أو التجربة المألوفة، وهو على مستوى أدنى من المستوى السابق، ولا أظن أن نصوص اسپينوزا تؤيد المؤلف في هذا التقسيم الثلاثي؛ إذ إن اسپينوزا تحدث فقط عن حقيقتين ثم أكد هويتهما، وهو لم يميز بينهما من وجهة نظر «الأصل»، كما أنه لم يقل بوجود «نقص» بالمعنى المطلق، يمكن أن يعزى إلى العالم بأي معنى من معانيه، وإنما أقحمت هذه الأفكار في تفسير المؤلف لاسپينوزا لكي يكون فيها إرضاء إلى الميل التقليدي إلى وصف عالم التجربة المألوفة بأنه «ناقص»، ومعتمد - من وجهة نظر «الأصل» - على فكرة الله. (ب)
وحين يعرض «ولفسون» لمشكلة، وجود أو عدم وجود انفصال بين الله والعالم عند اسپينوزا، يؤكد أن نصوص اسپينوزا ذاتها لا تلقي ضوءا على هذه المسألة لأن فيها ما يؤيد الانفصال وفيها ما ينكره،
61
ومع ذلك يستخدم ولفسون المنهج التاريخي محاولا الاهتداء عن طريقه إلى حل للمشكلة، فيقول إن العلاقة بين الله وعالم الأشياء كعلاقة الكل بمجموع أجزائه عند أرسطو، فهي ليست علاقة هوية تامة، بل إن للكل نوعا من «الوجود التصوري»؛ وعلى ذلك تكون هناك تفرقة تصورية
Conceptual
بين الله ومجموع أحواله.
62
ويدرك ولفسون الاعتراض الذي سيوجه إليه حتما في هذا الصدد، وهو أن الله يغدو عندئذ «كائنا عقليا
ens ratlonis »، ثم يرد على هذا الاعتراض على نحو غاية في التكلف والاصطناع، فيقول إن الله «كائن عقلي» بمعنى أن العقل «يكتشف» وجوده الحقيقي. أما في الواقع فإن الله «كائن حقيقي
ens reale ».
63
والحق أنني قرأت مليا هذه الصفحات التي بحث فيها ولفسون مشكلة إمكان أو عدم إمكان وجود تمييز بين الله والعالم؛ إذ إن هذه المشكلة حاسمة في رأيي، ولكني لم أجد في هذه الصفحات - على التخصيص - ما يرضي الذهن المدقق على الإطلاق، بل إن ولفسون يسوق رده على الاعتراض الذي أشرنا إليه أخيرا، مستندا إلى رأيه الخاص، ولا يدعمه بأية أسانيد قوية من كتابات اسپينوزا ذاتها، وكان من الواضح في نظري أن هذه الصفحات، التي تناولت مشكلة أساسية في فلسفة اسپينوزا، كانت بالفعل، من حيث مدى حججها ومنطقها، أضعف صفحات الكتاب كله، بحيث لا يملك القارئ إلا أن يشعر بأنه تهرب هنا من المشكلة أو حاول أن يتخلص منها بسرعة، وبأنه لم يصل إلى دليل معقول أو حجة مقنعة تثبت فكرة تميز الله عن العالم. (ج)
ويعترف «ألكييه» - في مجموعة محاضرات ألقاها في السربون عام 1959م - بأن إله اسپينوزا هو الطبيعة وجوهره جوهر العالم، ويؤكد أن ذلك ليس موضوع مناقشة. ثم يقول: «ومع ذلك فلا يمكن لهذا السبب أن ينظر إلى تفكير اسپينوزا على أنه نوع من المذهب الطبيعي
naturalisme ، يقضي، إن جاز هذا التعبير، على البعد الديني بكل ما فيه من أمل وحب وسمو. فلست أعتقد أن هذا التفسير صحيح. بل يبدو لي، على العكس من ذلك، أن هدف اسپينوزا في كل هذا هو أن يثبت أنه، حتى في العالم الرياضي الذي هو عالمه، وكذلك عالم عصره والعلم الجديد، يمكن، بل يجب، إنقاذ الدين، أو على الأقل كل ما هو إيجابي فيه - بحيث إن إله اسپينوزا يستحق في رأيي بالفعل اسم الإله. وفيه من أوجه عدة، بل من أوجه هائلة العدد، صفات الإله التقليدي، أو على أية حال، إله ديكارت وإله اللاهوتيين.»
64
ورغم أن هذا الرأي في عمومه أوسع أفقا من كثير من الآراء الأخرى لمفسري اسپينوزا، فإنه مبني على مقدمة يؤكدها الكثيرون ممن عالجوا هذا الموضوع، هي في رأيي مقدمة باطلة. تلك هي المقدمة القائلة إن أي مذهب طبيعي
naturalisme
لا مكان فيه لصفات «الأمل والحب والسمو» وأنه لا يمكن أن يكون لهذه الصفات مجال إلا في مذهب يقترب من المذاهب الدينية التقليدية - هذه المقدمة باطلة تماما، وتتضمن في ذاتها قدرا كبيرا من الخلط الذي أدى إلى تلك المحاولات المتباينة للتقريب بين إله اسپينوزا وإله اللاهوتيين؛ فالصفات السابقة هي بالفعل من صفات «البعد الديني» - على حد تعبير المؤلف - ولكنها ليست من صفاته الأساسية التي ترتبط به وحده، ومن الممكن أن توجد في مذهب لا يعترف بهذا «البعد الديني» أصلا. وليس صحيحا على الإطلاق أن أي مذهب يترك مجالا لهذه الصفات ينبغي أن يكون دينيا بالمعنى التقليدي، كما أنه ليس صحيحا أن هذه الصفات لا تتصور إلا في إطار ديني تقليدي.
والواقع أن الطرفين اللذين حتم علينا المؤلف أن نختار بينهما ليس بينهما استبعاد متبادل على الإطلاق؛ فهو يتصور أن على المرء إما أن يقول بنزعة طبيعية تستبعد الألوهية تماما، أو أن يجعل للأمل والحب مجالا. وهذا الرأي شائع بين من كتبوا عن اسپينوزا إلى حد يدعو إلى الدهشة؛ فحتى أولئك الذين يعترفون تماما بأن إلهه يعني الطبيعة، يؤكدون أنه عاد إلى الإله التقليدي، بمعنى من المعاني، حين جعل في فلسفته مجالا لمشاعر كهذه، وهم في ذلك يريدون أن يجعلوا هذه المشاعر احتكارا للمذاهب اللاهوتية التقليدية فحسب، وكأن من المحال أن تظهر هذه المشاعر في مذهب طبيعي صارم، على أن الأمر لا يلزم أن يكون كذلك على الإطلاق؛ فمن قال إن صاحب التفكير العلمي الصارم، الذي يستبعد تماما أي مبدأ فوق الطبيعة، محرم عليه أن يشعر بالأمل والحب والسمو ويتغنى بهذه المشاعر؟ وإذا كان المبدأ الأقصى للتفسير، عند مفكر ما، يقف عند حد الطبيعة، فما الذي يمنعه من أن يحس نحو هذه الطبيعة في مجموعها بالحب والتمجيد والتبجيل؟ هل هذا محرم عليه، أو هل هناك في طبيعة الأشياء ما يحول دونه؟ وهل نقول: إن مثل هذا المفكر قد تخلى عن نزعته الطبيعية، أو تجاوزها ودخل في مجال «البعد الديني» لمجرد كونه قد جعل لهذه المشاعر مجالا في تفكيره؟ لست أعتقد أن هذا جائز على الإطلاق، وإنما أعتقد أن تصوير المشكلة على أنها اختيار لا مفر منه بين المذهب الطبيعي وبين مشاعر الأمل والحب ... إلخ؛ هذا التصوير باطل تماما، وبالتالي لا ينبغي أن يقال عن المفكر إنه قد تخلى عن مذهبه الطبيعي، وعاد إلى القوالب الفكرية التقليدية، لمجرد كونه قد جعل لمثل هذه المشاعر مكانا في فلسفته. (5) فكرة الأزلية والحب الإلهي (5-1) مشكلة «تناقض» اسپينوزا
يؤدي بنا الموضوع الذي عالجناه في القسم السابق إلى بحث مشكلة الجزء الأخير من كتاب «الأخلاق»، الذي أكد فيه اسپينوزا فكرتي الأزلية والحب الإلهي إلى حد جعل معظم مفسريه يقولون - قياسا على طريقة التفكير التي عرضت في القسم السابق - إن اسپينوزا، الذي كان فيلسوفا ذا نزعات مادية واضحة في بقية الكتاب، قد تناقض مع نفسه في النصف الثاني من الباب الأخير من «الأخلاق» تناقضا أساسيا. ومهمتنا في هذا الجزء هي أن نحلل طبيعة هذا «التناقض» المزعوم، ونبحث فيما إذا كان التفسير الوحيد الممكن لهذا الجزء الأخير من كتابه هو التفسير المؤدي إلى القول بتناقض الفيلسوف، أم أن من الممكن إيجاد تفسير لا يكون فيه لهذا التناقض مجال.
هذا القول بوجود تناقض بين الجزء الأخير من «الأخلاق » وبين بقية أجزاء الكتاب يمثل، في رأينا، أوضح دليل على إخفاق التفسير الحرفي لفكرة «الله» عند اسپينوزا، بل هو قمة هذا الإخفاق؛ فالقول بالتناقض هنا إنما هو إعلان صريح عن عجز هذه التفسيرات الحرفية، وهو عجز يتمثل أوضح ما يكون في صدد تلك القضايا لشائكة التي ختم بها اسپينوزا كتاب الأخلاق. وهكذا يكون علينا أن نختار بين أحد أمرين: إما أن نخرج بفكرة الله عند اسپينوزا عن معانيها الحرفية نهائيا، أو أن نعترف بقصور التفسير وإخفاقه، كما يتمثل في القول بوجود «تناقض» أساسي لدى اسپينوزا.
ولكي ندرك مدى انتشار الاعتراف بوجود هذا «التناقض» (وهو، بالأحرى، اعتراف من المفسرين «بالهزيمة») يكفي أن يطلع المرء على القائمة المطولة التي سنوردها الآن (وهي ليست كاملة على الإطلاق) لآراء القائلين بتناقض اسپينوزا في الجزء الأخير (وأرجو المعذرة من القارئ إذا أطنبت هنا في الإشارة إلى آراء الآخرين؛ إذ إن كشف أخطاء التفسيرات الأخرى لا يقل فائدة في فهم فلسفة اسپينوزا عن التحليل المباشر لعناصر تلك الفلسفة): (1)
يرى «أويكن
R. Eucken » أن كتاب «الأخلاق» يسير على نهج المذهب الطبيعي
Naturalismus ، بل المادي، طوال الوقت، إلا في النهاية، حين يصل إلى مرحلة تأكيد عظمة الإنسان وتحرره؛ فهنا تعود الروحية إلى الظهور. وهكذا يخفق اسپينوزا تبعا لهذا الرأي، في تأكيد الواحدية
Monismus ، وتعود ثنائية المادية والروحية إلى الظهور بوضوح.
65
ومعنى ذلك أن كتاب «الأخلاق» ينطوي على تناقض داخلي شديد بين نهايته وبين الاتجاه الغالب عليه في جميع أجزائه الأخرى. (2)
ويؤكد «هفدنج» أن فكرة حب الله لذاته حبا لا نهائيا تنطوي على إعلاء لصفات نفسية على نفس النحو الذي عابه اسپينوزا على غيره.
66
وهو يفسر فكرة الحب الإلهي تفسيرا صوفيا، ويرى في هذا التصوف تعارضا مع أفكاره النفسية ذات الطابع العلمي الدقيق.
67 (3)
ويشير «بروشار» أيضا إلى وجود تعارض أساسي بين الجزء الأخير من كتاب «الأخلاق» وبين بقية كتابات اسپينوزا. وفي رأيه أن هذا الجزء الأخير قد يكون هو الجزء الأساسي في الكتاب، بحيث إن اسپينوزا - في رأيه - يعد القارئ لنتائج غير متوقعة في النهاية. «فالكتاب يبدأ بمذهب جديد تماما، وينتهي بنظر مستمدة من الفلسفة القديمة.» ولو نظرنا إلى الاسپينوزية في هذا الضوء، لوجدناها تبدو أشبه ببناء عتيق جدا أضيف إليه مدخل حديث جدا،
68
ولست أدري ما هي الحكمة في تمهيد اسپينوزا ذهن القارئ لنتائج غير متوقعة، ولماذا لم يجعل هذه النتائج متوقعة؟ أكان ذلك مجرد حرص منه على استفزاز الآخرين وإثارة مشاعرهم بوضع مقدمات مخالفة لمبادئهم الأساسية، من أجل الانتهاء إلى نتائج يسلمون جميعا بها؟ أليس جديرا بشارع اسپينوزا أن يجرب - على الأقل - تفسير هذه النتائج في ضوء مقدماتها، بدلا من أن يفترض، على أساس شكلها اللفظي، أنها مناقضة لهذه المقدمات؟ (4)
ويرى «داربون»
Darbon
أن فكرة الحب الإلهي للبشر، كما تعرض في الصفحات الأخيرة من كتاب «الأخلاق»، تتعارض مع بقية محتويات الكتاب المتعلقة بطبيعة الله. وهو يستبعد على التو أن يكون اسپينوزا قد تعمد حشر هذه الفكرة الخارجة عن سياق فلسفته العامة لكي ييسر نشر الكتاب أو ليسكت ألسنة النقاد، وإنما يرى أن اسپينوزا قد بدأ كتابه بالحديث عن إله لا يريد ولا ينفعل ولا يشعر بعاطفة؛ إله فلسفي لا يرضي شعور الإنسان الديني على الإطلاق، ولكنه تدارك نفسه في الصفحات الأخيرة من الكتاب، «ويبدو في هذه اللحظة الأخيرة أن اسپينوزا يأسف لأنه لم يستطع، في هذه النقطة الأساسية، أن يرضي الشعور الديني، وشعوره الديني الخاص بالتأكيد. وهكذا يحاول في النهاية أن يحول الله إلى الحب ولكن المحاولة تأتي متأخرة، ويتعارض معها ... كيان المذهب كله.»
69 (5)
ويؤكد «ريڨو
Rivaud » غموض نصوص اسپينوزا في الجزء الأخير من كتاب «الأخلاق»، ويتحدث، في هذا الصدد، عن وجود تيارين مختلفين لدى اسپينوزا: تيار متحرر تأثر فيه إلى حد ما بالفكر اليهودي في العصور الوسطى، وبالفكر الإسلامي من خلاله، وهو تيار يؤدي به إلى واقعية دقيقة، وتيار آخر صوفي مضاد، يؤدي به إلى فكرة الحب الإلهي.
70 (6)
وتنتقد «روت سو
Ruth L. Saw » اسپينوزا لأنه يتحدث في أول كتاب الأخلاق عن الله بوصفه مساويا للجوهر، ويتحدث في آخره عن الله بلغة أخرى تختلف عن لغة «الله = الجوهر» هذه. وهي ترى أن خلطه هذا بين مستويين مختلفين للغة يوقعه فيما لا يكف عن تحذيرنا منه،
71
ومع ذلك فهي تعود إلى الدفاع عن هذا الجمع بين اللغتين، مؤكدة خلال ذلك أن الله عند اسپينوزا كان إلها «مشخصا»، وأن اسپينوزا قد جمع بين هاتين اللغتين لكي يوفق بين نزعاته العلمية وعقيدته اليهودية الموروثة، فتقول: «لقد استحدث اسپينوزا الصفات التي ينبغي أن يملكها الإله ليكون ذا فعالية في العالم المادي، ولكن كان في ذهنه الشخص الذي يلائمه هذا الوصف؛ إذ ينتهي الأمر بالجوهر اللامتناهي إلى أن يكون شخصا، وموضعا يصلح للحب والتفاني والتقديس، وعندما يصل اسپينوزا إلى آخر «الأخلاق»، يدع لغته تصبح ملائمة لوصف مثل هذا الشخص، وأعتقد أن تلك عملية مشروعة؛ إذ إن اسپينوزا، الذي كان في ذهنه شخص عرفه أجداده عن طريق الوحي، وإن يكن قد رفض طريقتهم في الحديث عن هذا الشخص، قد استخلص من فكرة الكائن المتصف بهذه الأوصاف أنها لا تلائم إلا هذا الشخص. وعندما وصل إلى هذه المرحلة، ترك نفسه يتحدث كأن الكائن الذي استخلص أوصافه هو الشخص الذي كان يعرفه.»
72
وليس المهم في هذا السياق هو قول المؤلفة أن فكرة الله عند اسپينوزا «مشخصة» (وهو قول شديد البطلان)، أو أنه استمد الفكرة من أجداده - من اليهود - (وهو لا يقل عن الأول بطلانا)، وإنما المهم أنها تعترف بوجود فارق بين الأوصاف الأخيرة والأوصاف السابقة عليها في كتاب «الأخلاق»، وأن هذه الأخيرة هي التي تنطبق على فكرة الإله المشخص . (7)
ورغم أن «پولوك
» لا يقول بتناقض بين الجزء الأخير من الأخلاق وبين بقية فلسفة اسپينوزا، فإنه يؤكد وجود اختلاف كبير، مفاجئ، بين لغة هذا الجزء واللغة التي درج اسپينوزا على استخدامها في الكتاب، فيقول: «من الأمور الجديرة بالملاحظة أن الصبغة اللاهوتية لفلسفة اسپينوزا تضعف بالتدريج كلما مضينا قدما في كتاب «الأخلاق». وفي البابين الثالث والرابع تزداد كلمة «الله
Deus » اقترابا بالتدريج من أن تكون مرادفة للطبيعة
natura . ومع ذلك، ففي اللحظة التي يبدأ فيها المرء في الاعتقاد بأن القناع اللفظي قد خلع تماما، نصل إلى الحب العقلي لله في الباب الخامس. وهنا يتبين أن الله، على أية حال، لم يرد إلى الطبيعة، وإنما رفعت الطبيعة إلى مرتبة الله. فاسپينوزا يبدأ وينتهي بألفاظ لاهوتية.»
73
وهكذا يعترف المؤلف بأن هذا الجزء الأخير هو وحده الذي يحول دون تأكيد ترادف لفظي الله والطبيعة، ويسلم بوجود اختلاف حاسم، في الاتجاه الفكري ذاته، بين هذا الجزء وبقية أجزاء فلسفة اسپينوزا. وهذا هو الذي دعاه إلى أن يحاول تفسير هذا الاختلاف عن طريق التقدم، بحذر شديد، بالفرض القائل إن هذا الجزء الأخير نوع من «البحث التكميلي»، إذا قبلناه كان ذلك خيرا، وإذا لم نقبله فلن يتأثر بقية الكتاب. وربما كان للمرء أن يقول إن هذه السلسلة من القضايا كانت في الواقع «تفكيرا لاحقا
afterthought ».
74
ولن نرد على هذا الاقتراح الأخير الآن، بل يكفي للرد عليه في هذا المقام أن نحيل القارئ إلى ما سيؤكده «سليڨان» في النص المقبل وولفسون في النص الأخير من أن اتجاه اسپينوزا في هذا الجزء كان هو الغاية الحقيقية لفلسفته، وللهدف الذي يؤدي إليه الكتاب بأسره. (8)
ويرى «سليڨان» أن القسم الأخير من الباب الخامس في «الأخلاق» لا يفهم إلا إذا كان اسپينوزا يؤمن بنوع من خلود الذهن، بحيث يكون الخلاص الذي تحدث عنه ها هنا هو الغاية النهائية التي يتجه إليها كتاب الأخلاق بأسره. ثم يقول: «إن كل اعتقاد مخالف ينطوي على افتراض أن اسپينوزا يكتب عن هذه المسائل وهو يظهر غير ما يبطن، وأنه لم يكن يعني ما كان يقوله، ويكتب لأغراض مغايرة فحسب. ومثل هذه النظرة البرجماتية إلى ألفاظ اسپينوزا بعيدة عن مزاجه العقلي ونزاهته الذهنية إلى حد أنها لا تكاد تصدق.»
75
وهكذا يخلص من ذلك إلى القول بأن اسپينوزا كان يؤمن حقيقة بأزلية العقل البشري، وإن كان يعترف باستحالة التوفيق بين أزلية العقل وبين آرائه الأخرى في علاقة النفس بالجسم.
76 (9)
ويرى «فوير
Feuer » أن فكرة الحب الإلهي متناقضة مع بقية عناصر فلسفة اسپينوزا، وينظر إلى انتهاء اسپينوزا إلى هذه الفكرة على أنه مظهر لاستسلامه نتيجة لتحطم آماله الثورية على صحرة الواقع في الفترة الأخيرة من حياته «فالحب العقلي لله هو الملاذ الأخير للمصلح السياسي المهزوم.»
77
وبعبارة أخرى: ففي الفترة التي كانت حياة اسپينوزا فيها عامرة بالأمل والثورة، كان يقول بالحتمية والضرورة وببقية أفكاره العلمية الصارمة. أما عندما دهمه اليأس؛ فقد لاذ بالتصوف، وإذا شئنا ردا على مثل هذا الفرض، فليس لنا إلا أن نتساءل: هل تخلى اسپينوزا عن معقوليته ومنطقيته وتفسيره الحتمي والعلمي للظواهر العلمية عند نهاية حياته؟
والرد على ذلك هو النفي القاطع؛ إذ إن نظرته كانت تزداد دقة وصرامة بمضي الوقت، بل إن نفس الجزء «الصوفي» في كتاب الأخلاق تتخلله نظريات وملاحظات مادية وحتمية لا تخطئها العين. (10)
والمثل الأخير هو «ولفسون»، الذي يعلق على فكرة اسپينوزا الواردة في الجزء الأخير من كتاب الأخلاق، والقائلة أن حب الله هو الشفاء الأعظم للنفس، فيقول: «لا يبدو أن هذا الدواء الأسمى ... يعد الناس في الحياة الحاضر بشيء يزيد على هذه الثقة بالإله التقليدي. ويبدو أن من الغريب حقا أن ترسو سفينته، بعد كل معاركه مع الأحبار والفلاسفة المدرسيين، وبعد كل أبحاثه عن فلسفة جديدة، إلى تلك الأرض الصوفية القديمة ذاتها؛ أعني اللوذ بالله، ولكن ربما لم يكن اسپينوزا يرمي إلى أن يعد الناس بأكثر من ذلك ... فالهدف الذي شرع يعمل له منذ البداية هو أن يثبت حقائق معينة عن طبيعة الله، وأن ينكر عليه بعض العناصر التشخيصية التي أضفاها عليه اللاهوتيون، حتى أعمقهم نظرا ، وأن يبين أن مثل هذا الإله، حتى بعد نزع الطابع التشخيصي عنه، يظل مع ذلك قوة تعمل لخير حياة الإنسان.»
78
وهكذا ينضم ولفسون إلى مجموعة القائلين بأن اسپينوزا قد عاد في هذا الجزء إلى المفهوم التقليدي، بل الصوفي، لفكرة الله، ويؤكد وجود تناقض مع اتجاهات اسپينوزا السابقة في الكتاب عن طريق إبداء دهشته مما سبق أن أثاره اسپينوزا من الخلافات والمشاكل مع السابقين، وهي دهشة يكون لها ما يبررها تماما إذا كان هدف اسپينوزا بالفعل هو العودة إلى صوفية الالتجاء إلى الله. ومن الغريب حقا أن باحثا فلسفيا مثل «ولفسون» يتحدث بكل وضوح عن رفض اسپينوزا للصفات التشخيصية لفكرة الله، ولتشبيهه بالإنسان، ثم يتحدث في نفس المكان عن كون إله اسپينوزا «ملاذا» للإنسان، وكونه موضوعا للحب وللثقة، وكونه دواء لعلل النفس، بل يصف الله عنده بأنه «الواهب الأعظم، والمنعم الأكبر، وصخرة خلاصنا، وملاذنا في الملمات ...»
79
فماذا تكون هذه الصفات، إن لم تكن صفات تشخيصية وتشبيهية؟ إننا لا نعصم اسپينوزا من تهمة عدم الاتساق، فأعظم المفكرين مهددون على الدوام بها، ولكن هل يعقل أن يكون قد تناقض مع نفسه إلى هذا الحد؟ وهل يمكن أن يكون الفيلسوف الذي حذر الناس على الدوام من تشبيه الآلهة بالإنسان، ومن الاعتقاد بغائية الحوادث الطبيعية، والذي أكد الحتمية وقضى على أي وجود مطلق للقيم في عالم الواقع - هل يمكن أن يكون حقا قد قصد هذه الأفكار بمعناها هذا؟
في هذه النماذج السابقة لآراء شراح اسپينوزا، رأينا كيف يؤدي البحث في النصف الثاني من الباب الخامس من «الأخلاق» إلى إثارة مشكلة تناقض اسپينوزا بكل وضوح. والواقع أن هذا الجزء تحدث بالفعل عن الأزلية، وعن الحب الإلهي، وعن الخلاص و«البركة»، وسعادة الإنسان، واستخدم لغة لا تختلف على الإطلاق عن لغة جميع المذاهب اللاهوتية التقليدية. وهكذا كان شراح اسپينوزا يجدون على الدوام صعوبة في فهم هذه اللغة التقليدية بأي معنى سوى معناها الحرفي؛ إذ إنها تضم مجموعة من أقوى الألفاظ والتعبيرات ارتباطا بالمعاني الدينية التقليدية. ومع ذلك كان من الواضح في نظرهم، أو في نظر معظمهم على الأقل، أن أفكار اسپينوزا في هذا الجزء لو كانت تقليدية كذلك بالفعل، لتناقضت تماما مع أفكاره في بقية أجزاء الكتاب، وكذلك في كتاباته الأخرى. وهكذا يضطرون إلى التسليم - كما رأينا في الأمثلة السابقة - بوجود تناقض أساسي في فلسفة اسپينوزا، يتمثل في علاقة هذا الجزء الأخير ببقية أجزاء فلسفته.
وكما قلنا من قبل، فنحن لا ننزه اسپينوزا عن الوقوع في التناقض، ومع ذلك فقد أمضى اسپينوزا في تأليف كتاب الأخلاق خمس عشرة سنة، كان يصقل خلالها قضاياه وحججه على الدوام، فهل يعقل أن تناقضا صارخا كهذا قد فاته؟ إن هذه الحقيقة وحدها كفيلة بأن تجعلنا نرفض وجود تناقض في هذه الحالة على التخصيص؛ إذ إن هذا ليس تناقضا بسيطا، وإنما هو تناقض في أول الأسس التي قامت عليها فلسفته، ولو سلمنا به لجعلنا اسپينوزا أضعف الفلاسفة منطقا؛ إذ إن الآخرين كانوا على الأقل يتناقضون حين يتسرب الخطأ إلى استدلالاتهم دون وعي منهم. أما هنا فالتناقض يغدو واعيا ومتعمدا ومتعلقا بالأسس الأولى للمذهب نفسه.
وفي اعتقادي أن القول بتناقض اسپينوزا ليس إلا اعترافا صريحا بإخفاق كل تفسير لفلسفته لا يقوم على المنهج الذي أشرنا إليه، وهو منهج القول إن اسپينوزا كان يتحدث بلغة المدرسين واللاهوتيين متعمدا حتى يخفف من وقع معانيه الثورية العلمية الدقيقة، التي لا تمت إلى المجال اللاهوتي بصلة. وقد أحجم جميع من كتبوا عن اسپينوزا - تقريبا - عن هذا الفرض، ومن المؤكد أن القليلين جدا منهم، إذا كانوا قد أشاروا إليه، فإنهم لم يعرفوا كيف يسيرون فيه من البداية إلى النهاية. والسبب الرئيسي في ذلك هو اعتقادهم بأن في هذا الفرض اتهاما لاسپينوزا بالغش والخداع، ونيلا من نزاهته العقلية وأمانته الخلقية. وقد سبق لنا أن أوضحنا (في الفصل الخاص بالمنهج) أن طريقة اسپينوزا هذه في الكتابة لم تكن ترجع إلى أي ضعف أخلاقي لديه، وأنه ليس ثمة ارتباط على الإطلاق (ولا سيما في عصر اسپينوزا) بين الكتابة الحذرة وبين الرغبة المتعمدة في الخداع، وأن اسپينوزا قد أرضى ضميره تماما إذ اعطى قارئه كل التنبيهات الكفيلة بإرشاده إلى معانيه الحقيقية، بحيث إنه إذا لم يصل الناس إلى هذه المعاني لم يكن الذنب في ذلك ذنب الفيلسوف نفسه، وإنما ذنب قرائه. ولسنا هنا نتهم شراح اسپينوزا بالقصور العقلي، ولكن هناك عوامل مختلفة تضافرت في جعلهم يحجمون عن مثل هذا التفسير؛ منها إقحام الكثيرين منهم لمشاعرهم الدينية القوية في تفسير اسپينوزا؛ مما أدى إلى فرض معان تقليدية عليه قسرا، ومنها رغبة المفسرين اليهود، وهم كثيرون، في ترك مجال تنفذ منه المؤثرات اليهودية إلى فلسفته؛ إذ إن هذه الفلسفة لو فسرت تفسيرا علميا خالصا فسوف توصد أبوابها في وجه المؤثرات اليهودية إلى الأبد، ومنها ذلك النفور - الناتج عن دوافع أخلاقية نبيلة، ولكنها غير منطبقة على هذا المجال - من القول بأن اسپينوزا تعمد أن يظهر غير ما يبطن.
كل هذا أدى إلى تكوين صورة مشوهة لإله اسپينوزا، ظهر فيها تارة متفقا تماما مع فكرة الطبيعة، ومتمشيا مع الحتمية والقانونية الكونية، وماديا، ومستبعدا كل صفات مشبهة بالإنسان، وتارة أخرى «ملاذا» و«ملجأ»، وموضوعا للحب، ومصدرا للخلاص، ولا سبيل إلى رفع هذا التناقض المؤسف إلا إذا خطا المفسرون الخطوة الجريئة الضرورية، والتي يقتضيها البحث الدقيق لجميع أطراف فلسفة اسپينوزا، وقالوا إن فكرة الله عنده «لفظ» يرمي إلى تهدئة الخواطر (ومن الغريب أن هذا هو تعبير ولفسون - نفس ولفسون الذي جعل من اسپينوزا في نهاية الأمر صوفيا بالمعنى التقليدي!) ثم مضوا في فلسفته بأسرها على هذا الأساس؛ بحيث إنهم في كل مرة يصادفون لفظ «الإله» يستبدلون به لفظ «الطبيعة»، أو «الضرورة الكونية» أو «النظام الكلي للأشياء» أو «مجموع ما يوجد» - تبعا للسياق، ويقيني أن عملية الاستبدال هذه (أو عملية فك الرموز في المنهج الرياضي) إذا أجريت بطريقة يقظة متسقة، واقترنت باستبدال مماثل لكل الألفاظ والتعبيرات التي نبهنا هو ذاته، في موضع أو آخر، إلى معناها الحقيقي في فلسفته، فإنها ستؤدي إلى تفسير تام الاتساق لهذه الفلسفة.
وكما أننا طبقنا من قبل منهج استبدال المعاني الجديدة بالألفاظ القديمة في أجزاء أخرى لفلسفة اسپينوزا، فسوف نطبقه الآن على أكثر أجزائها صعوبة؛ أعني القسم الأخير من كتاب «الأخلاق»، الذي أثار مشكلة التناقض منذ البداية. (5-2) فكرة الأزلية
ليس لفكرة الأزلية
aeternitas
عند اسپينوزا أية صلة بمعاني الخلود أو البقاء «بعد» هذه الحياة، فما هي إلا إحدى طرق الوجود التي يحققها الذهن في هذا العالم. وليس للفكرة عنده أية صلة بما هو ممتد في الزمان، وبما يسري عليه ما هو «قبل » وما هو «بعد»، بل إن ما يتصف بالأزلية هو ما لا يسري عليه الزمان؛ فالقانون العلمي - كقانون بقاء الطاقة مثلا - أزلي بهذا المعنى، وإذا كشفت في المستقبل حالات لا يسري عليها هذا القانون، فسيظل من الصحيح مع ذلك أن هذا القانون ينطبق على مجاله الحالي. ويكون الذهن أزليا طالما أنه يحيا في عالم المعرفة الذي يؤدي به إلى كشف مثل هذه القوانين وتأمل الكون من خلالها. وبعبارة أخرى فللعالم وجهان: وجه زماني تسير فيه الظواهر اليومية في مسارها المعتاد، وتبدو فيه هذه الظواهر جزئية منفصلة لا رابط بينها، ووجه آخر يربط فيه بين هذه الظواهر في قوانين مطردة تفسرها، ولا يخضع لتغيير الجزئيات أو الفرديات، وفي هذا الوجه الأخير ينظر إلى الأشياء «من منظور الأزل
sub specie aeternitatis »، وإذا كان الوجه الأول هو وجه التجربة اليومية المألوفة للإنسان، فإن الوجه الثاني هو الوجه الذهني؛ أي العالم كما يتمثل لذهن ينظر إليه نظرة جامعة تكشف قوانينه وتفهم أسراره.
وليس من الضروري أن يكون الذهن قادرا على كشف جميع قوانين الأشياء حتى يقال عنه إنه ينظر إليها من منظور الأزل. كما أنه ليس من الضروري أن تظل القوانين التي يكشفها صحيحة على الدوام حتى تنطبق على الذهن صفة «الأزلية» هذه؛ فالأزلية في الواقع «اتجاه» أو «موقف» قبل كل شيء. إنها الاتجاه إلى تأمل الأشياء من منظور شامل لا يتأثر بالتغييرات الجزئية، والاتجاه إلى المعرفة والتفسير العقلي. فإذا تمكن الذهن من أن يصل إلى ذلك «الحدس» الذي يجعله يدرك قانونية العالم وضرورة الظواهر الطبيعية، ويستبعد كل تفسيراته التشبيهية من مجال الفهم العلمي للظواهر، فعندئذ يكون ذلك الحدس ذاته - الذي أسماه اسپينوزا بالمعرفة من النوع الثالث - هو أوضح مظاهر الأزلية في ذهنه، بغض النظر عن المحتوى الفعلي لمعرفة ذلك الذهن. فلا يهم إن كان الذهن يعيش في عصر نيوتن، ويتقيد بقيود العلم المعروفة في هذه المرحلة، أو يعيش في عصر أينشتين، ويوسع آفاقه بالقدر الذي امتدت إليه المعرفة خلال ثلاثة قرون؛ وإنما يكون الذهن «أزليا» إذا أقبل على دراسة الكون وهو يدرك أن هذا الكون قابل لأن يعرف، وأنه يخضع لقوانين ضرورية - بغض النظر عن درجة كشفه لهذه القوانين - وأن مجراه ليس عشوائيا وليس خاضعا لمشيئة لا ضابط لها.
فإذا أدركنا أن كلمة «الله» عند اسپينوزا تعبر عن مجموع الطبيعة أو النظام الكلي للأشياء، أمكننا أن نفسر على التو ربطه بين فكرة الأزلية وفكرة الله؛ فحين يقول إن الأزلية هي طريقة وجود الله، يكون المعنى هو أن الكون، في وجهه الشامل، لا يتصف بأنه ممتد زمنيا، بل إن أجزاءه وأحواله (
modes ) ومكوناته الفردية هي التي تتصف بالامتداد الزمني، وإنما يتصف الكون في وجهه الشامل، بأنه ضروري لا بداية ولا نهاية لقوانينه ونظامه. وكل تفسير آخر لفكرة «الأزلية» من خلال المعاني الفلسفية أو الدينية التقليدية للكلمة يصطدم حتما بنصوص صريحة لدى اسپينوزا تؤكد استحالته، وسوف نجد أن الدلالة الواضحة تماما لهذه النصوص، من حيث انفصالها عن كل المفاهيم التقليدية للفظ الأزلية، تمدنا بدليل آخر على أن كلمة «الله» في عبارة «الله أزلي» لا يمكن أن يكون لها في هذا المجال أيضا أي معنى له صلة بمعانيها التقليدية، بل إنها تدعم في واقع الأمر التفسير الذي قدمناه ها هنا، من أن هذه الكلمة لها عند اسپينوزا في جميع الأحوال معان مثل مجموع الوجود أو النظام الضروري الشامل للكون. •••
في كتاب «أفكار ميتافيزيقية» يعرف اسپينوزا الأزلية الإلهية قائلا إن الله أزلي بنفس المعنى الذي تكون فيه ماهية الدائرة أزلية،
80
وفي أول قضية في النصف الأخير من كتاب الأخلاق - وهو النصف الذي ينتقل فيه إلى الكلام عن معاني الأزلية والحب الإلهي ... إلخ، والذي استهله بقوله: «لقد أتممت الآن الحديث عن كل ما يتعلق بهذه الحياة الحاضرة» - يقول اسپينوزا: «لا يستطيع الذهن أن يتخيل أي شيء، أو يتذكر ما مضى، إلا طالما ظل الجسم باقيا.»
81
ولهذا النص الأخير غرض مزدوج: (أ)
فهو أولا يود أن يؤكد بطلان المعنى الشائع للخلود، وهو الخلود الذي يجمع بين أمرين يستحيل في نظره الجمع بينهما: بقاء الروح بلا جسم، ثم دوامها إلى ما بعد الحياة الحاضرة، وتذكرها لأمور حدثت في هذه الحياة؛ ففي رأي اسپينوزا أن الكلام عن «عالم آخر»، يفترض أنه يلي هذا العالم زمنيا، وكذلك الكلام عن الخلود بمعنى البقاء في الزمان إلى أجل غير محدد، وأخيرا الكلام عن تذكر الروح لهذه الحياة الحاضرة في حياة مقبلة - هذا كله يفترض مقدما وجود جسم؛ إذ إن التذكر يستحيل بلا جسم، والبقاء الممتد في الزمان يفترض الجسم مقدما. وهو يشرح هذه الفكرة بمزيد من الوضوح في ملحوظة القضية 34 من هذا الباب فيقول: «إذن تأملنا الآراء الشائعة للناس، وجدناهم يشعرون فعلا بأزلية أذهانهم، غير أنهم يخلطون بين الأزلية وبين البقاء الزمني، ويعزونها إلى الخيال أو الذاكرة التي يعتقدون أنها تظل باقية بعد الموت»؛ وعلى ذلك فليست الأزلية عند اسپينوزا، كما أوضح «برنشڨك»، «شيئا يضاف إلى الفرد من الخارج، أو هبة يتلقاها ساعة الموت أو يوم الحساب بوصفها ثوابا على خير أداه من قبل، وإنما هي حقيقة باطنة في الوجود، ومتداخلة فيه، تتبدى في شعور حالي وتجربة عميقة.» (ب)
وعلى ذلك فإن اسپينوزا إذا كان قد أشار قبل ذلك إلى أنه قد أتم الحديث عن الحياة الحاضرة، فإنه لا يمكن أن يكون قد قصد من ذلك أن يتكلم عن حياة أخرى بالمعنى التقليدي لهذه الكلمة. وهذا بالفعل ما يتعمد أن ينبهنا إليه في القضية السابقة؛ إذ يشير إلى استحالة هذا المعنى التقليدي، وبالتالي إلى أن الأزلية التي سيتحدث عنها، «والحياة الأخرى» كما يعنيها، هي حياة داخل هذه الحياة؛ أعني حياة الذهن الذي يدرك الماهيات الأزلية للأشياء من وراء وجودها الجزئي المتحدد.
وإن جميع القضايا التي تحدث فيها اسپينوزا عن فكرة الأزلية لتعبر عن أحد هذين الوجهين لرأيه في المشكلة؛ فهي إما تنتقد الرأي الشائع في الأزلية - أو على الأصح في الخلود - أو توضح المعنى الخاص الذي فهم به فكرة الأزلية، وتربط هذا المعنى بالأوجه الأخرى لفلسفته، ومن الملاحظ أن القضايا التي تعبر عن الوجه الأول - أي الوجه الناقد - ليست كلها متسلسلة، وإنما تتداخل مع القضايا المعبرة عن رأيه الخاص في الأزلية. وهذا التداخل يؤدي وظيفة هامة بالنسبة إلى منهج اسپينوزا في الكتابة: ذلك لأنه كلما مضى في تقديم رأيه الخاص في الأزلية، كان من الطبيعي أن يعود ذهن القارئ تدريجيا إلى المعاني التقليدية للفظ. وهكذا يحرص اسپينوزا على أن يأتي من آن لآخر بقضية ناقدة لهذه المعاني التقليدية كلما بدا أن ذهن القارئ معرض للرجوع إليها، حتى يذكره دواما بالمستوى الجديد الذي يتحدث منه.
وفي رأيي أن الترتيب الصحيح الذي ينبغي أن تؤخذ به القضايا المتعلقة بالأزلية، وهو ذلك الذي يبدأ فيه المرء من القضايا المتأخرة ليشرح من خلالها القضايا المتقدمة. ولنتأمل جيدا دلالة القضية الآتية: «من كان جسمه قادرا على أداء أكبر عدد من الأفعال، كان الجزء الأكبر من عقله متصفا بالأزلية.»
82
هذه القضية وردت بعد مجموعة كبيرة من القضايا التي تتصف في ظاهرها بطابع صوفي واضح. وأحسب أن القارئ ذا النزعة الصوفية يصاب بخيبة أمل كبيرة حين يجد اسپينوزا يربط - على نحو يبدو غير مفهوم - بين أزلية العقل وبين مقدرة الجسم، ويشعر بأن اسپينوزا بعد أن حلق به في آفاق التصوف العليا قد تخلى عنه فجأة وتركه يهوي، بكل تخبط واضطراب، إلى عالم الجسم ثانية! ومع ذلك، فلنذكر أن اسپينوزا قد ربط، في الباب الثاني من «الأخلاق»، بين مقدرة الذهن ومقدرة الجسم، وذهب إلى أن الذهن يكون أوسع قدرة كلما ازدادت قدرة الجسم الذي يرتبط به على تلقي المؤثرات من العالم المحيط به. ولما كانت أزلية الذهن - بمعناها الخاص عند اسپينوزا - تتوقف على مدى ما فيه من المعارف، وبالتالي على مدى كشفه للنظام الضروري للأشياء، فمن الطبيعي بعد هذا كله أن يكون الذهن أقرب إلى الأزلية كلما ازدادت قدرة الجسم الذي يرتبط به. وهكذا يبين لنا اسپينوزا أنه لم ينس، في هذا الجزء «الصوفي» الأخير، مذهبه المادي القوي الذي عرضه في الباب الثاني، ويكاد يرد بنفسه على من وصفوه بالتناقض وأكدوا أنه تخلى عن كل نزعاته السابقة عندما انحرف بمذهبه فجأة نحو «التصوف» في هذا الجزء الأخير من كتاب «الأخلاق».
وحين يربط اسپينوزا بين فكرة الأزلية وفكرة الجسم، يضع تفرقة بين الجسم من حيث وجوده الحالي، الذي هو وجود زماني لا علاقة له بالأزلية، وبينه من حيث وجوده الضروري، الذي هو وجود أزلي: «إن كل ما يفهمه الذهن من منظور الأزل، لا يفهمه لكونه يدرك الوجود الفعلي للجسم، وإنما لكونه يدرك ماهية الجسم من منظور الأزل.»
83
هذه الماهية الجسمية الضرورية تتصف بأنها موجودة في الله: «ففي الله توجد بالضرورة، مع ذلك، فكرة تعبر عن ماهية هذا الجسم البشري أو ذاك من منظور الأزل.»
84
ومن الواضح أن معنى كلمة «الله» هنا هو «النظام الضروري للأشياء»؛ ففي ذلك النظام يندرج الجسم البشري الفردي ويتخذ صبغة الضرورة الناجمة عن اندماجه في الكل الشامل، الذي يتضمن فكرة «أزلية» عن كل من مكوناته، ويزداد هذا المعنى لفكرة الله اتضاحا من النص الآتي: «إننا ندرك الأشياء على وجهين: إما بوصفها موجودة في زمان ومكان محددين، أو بوصفها متضمنة في الله وناتجة عن ضرورة الطبيعة الإلهية، وكل ما ندركه حقيقيا أو واقعيا على هذا النحو الثاني، ندركه من منظور الأزل، وتكون أفكاره متضمنة للماهية الإلهية الأزلية اللامتناهية.»
85
وعلى ذلك فإذا قال اسپينوزا في القضية الثانية والعشرين «إن العقل البشري لا يفنى نهائيا مع الجسم، وإنما يتبقى منه شيء أزلي» - إذا قال ذلك؛ فهو أولا يقصد الجسم بمعناه المتحدد زمانيا ومكانيا، ويكون المقصود أن العقل؛ إذ يكون أفكارا عن ماهيات الأشياء - ومنها ماهية الجسم ذاته - تتجاوز نطاق وجودها الفعلي الجزئي، وبالتالي تتجاوز نطاق الوجود الفعلي الجزئي لجسمه هو ذاته، يمكن أن يعد بهذا المعنى أزليا بالنسبة إلى الجسم. ومع ذلك فليس لهذا البقاء الأزلي أية صلة بالاستمرار الزمني المعروف؛ لأن اسپينوزا، كما رأينا، قد استبعد كل هذه المعاني التقليدية منذ البداية.
وقبل أن أترك الحديث عن فكرة الأزلية أود أن أشير إلى ظاهرة لم يتنبه إليها أولئك القائلون «بتناقض» اسپينوزا؛ فهو في براهينه على هذه المجموعة من القضايا يردنا على الدوام إلى القضايا المادية الصريحة التي عرضها في الباب الثاني من كتاب «الأخلاق». وإنه ليكون من الغريب حقا، إذا كانت لهجة اسپينوزا قد تغيرت فجأة في الجزء الأخير بالحديث عن معان من بينها الأزلية، أن يلجأ للبرهنة على قضاياه في هذا الجزء إلى القضايا الواردة في أشد الأبواب السابقة مادية، ومن المؤكد أن مجرد استبقائه لقضايا الباب الثاني واعتماده عليها في براهينه على قضايا هذا الجزء، هو في ذاته دليل على أن المجرى الفكري متصل من أول الكتاب إلى آخره، وعلى أن من الواجب البحث عن تفسير آخر متسق لأفكاره ذات المظهر الصوفي في الجزء الأخير من الكتاب؛ لأنه كتب هذا الجزء وفي ذهنه أشد الأجزاء السابقة تعارضا مع كل نزعة صوفية أو لاهوتية. (5-3) فكرة الحب العقلي لله
في الرسالة رقم 21 رد اسپينوزا على رسالة سابقة بعث بها إليه «بلينبرج
Blyenbergh »، واتضح لاسپينوزا منها أن مراسله هذا يؤمن بكل الأفكار اللاهوتية التقليدية دون مناقشة أو تفكير، فقارن بين اعتقاده هو بأن الله لا يحمل صفات بشرية، وبين الاعتقاد العامي الذي يؤمن به «بلينبرج»، والذي يجعل الله يقوم بين الناس بدور القاضي، وقال: «إنني أنظر إذن إلى الأفعال حسب صفاتها، لا حسب قوة فاعلها، والثواب الذي ينجم عن الأفعال يتلو في رأيي منها بوصفه نتيجة لها، بنفس الضرورة التي يتلو بها من طبيعة المثلث أن مجموع زواياه قائمتان، ويكفي لفهم اعتقادي أن تدرك أن كل سعادتنا تنحصر في حب الله ، وأن هذا الحب يتلو بالضرورة من معرفة الله، وهي أنفس ما لدى البشر ... غير أني أعترف بأن كل من يخلطون بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية عاجزون عن بلوغ هذه المرتبة من الفهم.»
هذا النص، الذي أردت أن أبدأ به بحثي لهذا الموضوع المعقد، يصلح مدخلا سليما إلى تفسير معنى القضايا التي تحدث فيها اسپينوزا عن هذا الموضوع؛ فهو يتحدث هنا، في موضع واحد، عن ضرورة النظر إلى الله بمعزل عن صفات البشر، وفي الوقت ذاته عن كون الحب الإلهي أنفس ما لدى البشر. ولو فهمت هذه العبارة الأخيرة بأي معنى حرفي، لكان في وسع قارئه أن يعترض عليه توا بأن معنى الحب بشري بدوره، وبأننا لا نستطيع أن نحب إلا كائنا نتصوره على مثالنا على نحو ما. وهكذا يكون اسپينوزا قد تناقض مع نفسه تناقضا صارخا في موضع واحد كهذا؛ إذ إنه يعود في آخر النص، وبعد الحديث عن حبنا لله، إلى تحذيرنا من تشبيه الله بالشر. والمسلك الوحيد الممكن إزاء نص كهذا هو أن نلتمس تفسيرا غير التفسير الحرفي أو التقليدي لفكرة الحب الإلهي. وهكذا تبدأ محاولة البحث عن معان أخرى وراء المعاني التقليدية الظاهرية للقضايا التي تعالج هذه الفكرة.
ولا بد للوصول إلى هذه المعاني الأخرى الخفية من إيضاح معنى بعض الأفكار والتعبيرات الرئيسية التي يستخدمها اسپينوزا في هذا السياق، مثل: معرفة الذهن لله، وعلاقة الذهن البشري بالذهن الإلهي.
ومن أقرب النصوص إلى إيضاح معنى التعبير «معرفة الذهن لله» عند اسپينوزا، النص الآتي: «إن كمال الذهن ليس إلا معرفة الله وصفاته والأفعال التي تتلو من ضرورة طبيعته. وهكذا فإن الغاية القصوى أو الرغبة التي يسعى بها من يسترشد بالعقل إلى حكم كل رفاقه، هي تلك التي توصله إلى فهم كامل لنفسه ولجميع الأشياء الداخلة في نطاق عقله.»
86
وهكذا يتحدث اسپينوزا في أول النص عن معرفة العقل لله، ويتحدث في آخره - بمعنى مرادف - عن معرفة العقل لنفسه وللأشياء الداخلة في نطاقه. والنص واضح الدلالة على أن المعنيين مترادفان؛ أي إن المقصود بمعرفة الذهن لله هنا هو معرفة كل ما يستطيع الذهن أن يصل إليه عن النظام الضروري للطبيعة، وضمنها معرفته لنفسه.
أما العلاقة بين الذهن البشري والعقل الإلهي فيوضحها قول اسپينوزا: «... إن الذهن البشري جزء من العقل الإلهي اللامتناهي؛ وعلى ذلك فعندما نقول: إن الذهن البشري يدرك هذا الشيء أو ذاك، فإنا نؤكد بذلك أن الله لديه هذه الفكرة أو تلك، لا بما هو متناه، بل بما هو يتبدى من خلال طبيعة الذهن البشري، أو من حيث هو يكون ماهية الذهن البشري ...»
87
وبعبارة أخرى: فعندما يفكر الإنسان، فمن الممكن القول أيضا إن الذي يفكر هو الله، من حيث إنه يتمثل من خلال الذهن البشري، وبذلك لا يكون الفكر الإلهي إلا صفة الفكر التي هي موجودة بالفعل في النظام الضروري للأشياء، وهي صفة إذا نظر إليها في مظهرها الكلي كانت لا متناهية، ولكن لها مظاهر متناهية هي تفكير هذا الذهن أو ذاك، وبذلك لا تكون العلاقة بين الذهن البشري والعقل الإلهي علاقة بين حقيقتين متميزين، بل تكون علاقة حقيقة جزئية بحقيقة كلية تتجاوز الأولى، وإن تكن في الوقت ذاته تعبر عن نفسها من خلالها. أما إذا فهمت عبارة «التفكير الإلهي» بالمعنى المألوف المغاير لهذا؛ أي بمعنى وجود كائن مشخص يفكر بالفعل، فإن ذاك يكون ولا شك تشبيها بالإنسان على نحو يأباه تفكير اسپينوزا في اتجاهه الحقيقي، ولا جدال في أن هذا التفسير التقليدي يذيع كثيرا حتى بين الشراح الذين يدركون تماما - في مواضع أخرى - نفور اسپينوزا من كل تشبيه للآلهة بالبشر (ومن هؤلاء الشراح فرويد نتال)، وعلى أساس مثل هذه التفسيرات التقليدية شاع القول بتناقض اسپينوزا، بينما التناقض في معظم الأحيان هو تناقض الشراح أنفسهم. أما إذا فهمت عبارة «الله يفكر» على أنها تعبير عن صفة الفكر الشاملة الموجودة في الكون، والتي يعد كل تفكير بشري وجها جزئيا لها، فعندئذ يصبح اسپينوزا متسقا مع نفسه تماما.
ولقد وصف اسپينوزا الحب الإلهي «بأنه حب عقلي لله
Amor Dei intellectualis »، ولفظ «العقلي» له هنا أهمية أساسية، وإن كان كثيرا ما يغفل. فمن الممكن القول بوجه عام إن تعبير «الحب العقلي» فيه نوع من التناقض في الألفاظ؛ لأن الحب بمعناه المألوف انفعالي، ولأن العقل، بمعناه الدقيق، يمارس فاعليته في المعرفة لا في الحب؛ وعلى ذلك فالتعبير وحده كفيل بأن ينقلنا إلى مجال جديد كل الجدة، مغاير للمجال المألوف الذي يتحدث فيه الناس عن «الحب». ومن المؤكد، كما قلنا من قبل، أن تعبير «الحب الإلهي» لو فهم بأي معنى صوفي أو انفعالي لكان فيه تشبيه لله بالإنسان على النحو الذي لا يكف اسپينوزا عن تحذيرنا منه.
ولكي يؤكد اسپينوزا هذه التفرقة قال: «ليس لله انفعالات، كما أنه لا يتأثر بعواطف اللذة ولا الألم قط.» والنتيجة الهامة التي يستخلصها من هذه القضية هي: «إذا شئنا الدقة؛ فالواجب أن نقول: إن الله لا يحب ولا يكره أحدا.» ولكنه في القضية التالية (18) يقول: «لا يستطيع أحد أن يكره الله.» ثم يقول في القضية التي تليها (19): «من يحب الله لا يسعى إلى أن يبادله الله الحب.»
ففي القضية الأولى يؤكد اسپينوزا استحالة انطباق الحب، بالمعنى الانفعالي، على الله. وإذا كان سيعود فيما بعد فيتحدث عن نوع من الحب الإلهي للإنسان، فإن هذا الحب ينبغي أن يفهم بمعنى غير المعنى الانفعالي الذي يتحدث عنه في هذه القضية. ومع ذلك فهو في هذه المجموعة من النصوص يجعل علاقة الحب بين الله وبين الإنسان «لا تماثلية»، فيقول إنه إذا كان الله، بالمعنى الدقيق، لا يحب أحدا ولا يكرهه، فمن الواجب أن يظل حب الإنسان لله قائما حتى مع استحالة كونه متبادلا.
فكيف فهمت هذه النصوص؟ (أ)
لقد فهمها «ألكييه
Alquié » مثلا على أنها نوع من العلاء بالعقيدة التقليدية: فاسپينوزا حين قال إن حبنا لله ليس معناه أن ننتظر حبا مقابلا من جانب الله، كان يقصد تنقية هذا الحب من مظهر الأنانية التي تجعلنا نتوقع المبادلة في كل حب نشعر به، بحيث ننتظر أن يرد هذا الحب إلينا آخر الأمر،
88
وهكذا أراد أن يطهر العقيدة من هذه الاتجاهات، وبذلك يكون هذا الحب الإلهي، الذي لا ينتظر المرء فيه مبادلة، أنقى من كل المظاهر التقليدية. وتبعا لهذا التفسير يتخذ الحب الإلهي عند اسپينوزا نفس الطابع التقليدي، وإن يكن مشوبا بمحاولة للإصلاح والتطهير، ولا شك أن ذلك الفهم يفترض أن المقصود هنا هو الحب الانفعالي، الذي يوجه إلى إله ذي صبغة مشخصة، وهي معان مضادة تماما لكل ما يقصده اسپينوزا نفسه. (ب)
ويعلل «فوير
Feuer » فكرة الحب الإلهي تعليلا سيكولوجيا، فيقول إن تعلق اسپينوزا بهذه الفكرة ربما كان حنينا لا شعوريا من طفل فقد حب أمه التي ماتت وهو في السادسة، كما يقترح تفسيرا لفكرة الحب الإلهي غير المتبادل، فيقول إن هذه الفكرة قد تكون محاولة لا شعورية منه للتكيف مع طفولته في ظل أب صارم لا يبدي نحوه حبا،
89
ومن الواضح في رأينا، أنه ليس لأحد أن يفكر في خوض ميدان التعليلات السيكولوجية إلا إذا تأكد قبل ذلك من المعنى الحقيقي لما يعلله، ومع ذلك فإن «فوير» قد افترض مقدما أن فكرة الحب الإلهي لها نفس معناها الحرفي التقليدي، وعللها على هذا الأساس. أما إذا تزعزع هذا المعنى التقليدي فإن كل هذه المحاولات السيكولوجية تنهار من أساسها. (ج)
أما ولفسون فيقول: إن إله اسپينوزا مشخص بالمعنى الذي يكون فيه الإنسان متجها إليه بالحب، ولكنه غير مشخص (وبالتالي مختلف عن الإله التقليدي) من حيث إنه لا يسلك تجاه الإنسان نفس هذا السلوك،
90
ومعنى ذلك أن ولفسون يتصور إله اسپينوزا على أنه «مشخص جزئيا»، أو من ناحية تطلع الإنسان إليه، مع أن اسپينوزا عندما انتقد فكرة التشخيص لم ينتقد منها وجها واحدا بعينه، بل انتقد جميع مظاهرها على الإطلاق.
هذه أمثلة للتخبط الذي يقع فيه كل من يريد الاحتفاظ بأية صلة، ولو كانت طفيفة، بين إله اسپينوزا وبين الإله التقليدي. وفي هذه الحالة أيضا تتضح فائدة التفسير الرمزي، أو غير المباشر، لفكرة الله عند اسپينوزا؛ فإذا فهمت فكرة الله على أنها تعني عنده النظام الضروري للكون، أو مجموع ما يعرف ، فإن الحب الإنساني لله يغدو، عندئذ، نوعا من حب الكون، أو تعبيرا عن سعي الإنسان الدائم إلى بلوغ المثل الأعلى للمعرفة. وتبعا لهذا التفسير، يكون من السهل إلى حد بعيد فهم الطبيعة غير المتبادلة لهذا الحب؛ فكون الإنسان لا ينتظر من الله حبا متبادلا، معناه أنه يقبل هذا النظام الضروري للكون، أو هذا المصير، وإن يكن النظام الضروري ذاته لا يستهدف غاية بشرية، ولا يسعى إلى إرضاء الإنسان، بل لا يكترث به ويقف منه موقفا «سويا»، لا لشيء إلا لأنه ضروري. ومعناه - إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية المعرفة - أن الإنسان، في الوقت الذي يظل فيه ساعيا إلى بلوغ المثل الأعلى للمعرفة طوال حياته، لا يمكنه أن يبلغ هذا المثل الأعلى على الإطلاق، بل يظل في سعيه على الدوام، دون أن يحقق هدفه الكامل من المعرفة؛ أي دون أن تلبي المعرفة الشاملة مطالب ذهنه الطموح، وفي ظل هذا التفسير يغدو من أيسر الأمور أن ندرك كيف يكون الحب الإلهي «عقليا»؛ إذ إن علاقة المعرفة، أو الفهم أو الاتصال بالطبيعة الضرورية للأشياء، هي علاقة عقلية قبل كل شيء.
على أن رأي اسپينوزا في الحب الإلهي لا يقف عند هذا الحد؛ فإذا كان قد أكد، عندما تحدث بالمعنى الدقيق، أن الله لا يحب البشر، أو على الأصح أن البشر ينبغي ألا ينتظروا من الله حبا مبادلا لهم، فإنه يعود فيقول إن من الممكن التحدث، بمعنى آخر، عن وجود حب إلهي للإنسان، وتفكيره في هذا الصدد يتسلسل على هذا النحو.
فهو في القضية السادسة والثلاثين (من الباب الخامس نفسه) يقول: «إن حب الذهن لله عقليا، هو نفسه ذلك الحب الذي يحب به الله ذاته، لا من حيث هو لا متناه، بل من حيث إن من الممكن تفسيره عن طريق ماهية الذهن البشري، منظورا إليه في صورة الأزلية. وبعبارة أخرى: فإن الحب العقلي الذي يبديه الذهن لله هو جزء من الحب اللامتناهي الذي يحب به الله ذاته.»
وفي نتيجة هذه القضية يقول: «ويترتب على ذلك أن الله، بقدر، ما يحب نفسه، يحب الإنسان، وبالتالي، أن حب الله للناس، وحب الذهن لله عقليا، هما شيء واحد.»
والآن، جرب أن تفسر فكرة «الله» في هذه النصوص تفسيرا تقليديا، وسوف تجد مذهب اسپينوزا بأسره ينهار، ويشيع فيه التناقض بين النظرة الطبيعية المادية الصارمة والنظرة الصوفية الحالمة، ويصبح النص الواحد من هذه النصوص كافيا لهدم كل ما سبق أن قاله عن فهم الطبيعة من خلال فكرة القانونية والضرورة الشاملة. أما إذا طبق عليها التفسير الذي قلنا به، أعني التفسير الرمزي غير المباشر، فإن كل شيء يغدو واضحا مفهوما.
ذلك لأن التفكير صفة من صفات «الجوهر»؛ أي إنه حقيقة موجودة في النظام الكلي للأشياء. وتفكير الذهن في الله، كما سبق أن أوضحنا، يعني معرفة الذهن لكل ما يستطيع أن يصل إليه عن النظام الضروري للأشياء، وعندما يفكر الإنسان، فمن الممكن القول - كما سبق أن أشرنا أيضا - إن الذي يفكر هو الله، من حيث إنه يتبدى من خلال الذهن البشري. وبعبارة أخرى: فإن التفكير البشري هو جزء من صفة (أو ظاهرة) التفكير العامة الموجودة في الكون، والقول إن الذهن البشري يسعى إلى فهم نفسه (إذا تذكرنا أن الكون، في وجه من أوجهه، هو أيضا صفة الفكر)، وسواء أقلنا إن الله هو مجموع ما يعرف، أو أنه تعبير آخر عن النظام الضروري للأشياء من حيث هو مثل أعلى للمعرفة البشرية؛ ففي كل هذه الحالات يمكن أن يقال إن الذهن في سعيه إلى كشف قوانين الكون، يعتمد تماما على الله (بالمعاني السابقة للكلمة)، وأن الفكر الكوني هو عندئذ الذي يسعى - في مظاهره الجزئية - إلى فهم نفسه، أو، باللغة التقليدية، إن الحب العقلي لله، من جانب الذهن، هو جزء من الحب اللامتناهي الذي يحب به الله نفسه؛ وعلى هذا الأساس وحده يمكن أن تفسر العبارة السابقة الشديدة الغموض: «إن حب الله للناس، وحب الذهن لله عقليا، هما شيء واحد.» فجميع التفسيرات التقليدية أو القريبة من التقليدية تخفق تماما في هذه الحالة؛ لأن حب الذهن لله عقليا من نوع مخالف لحب الله للناس تبعا لجميع الآراء التقليدية، أما في التفسير الذي تقترحه، فإن مجرد كون الذهن البشري يفكر، ويضع العلم غاية له، معناه أن صفة الفكر في الكون تمارس فاعليتها، ومعناه - حسب لغة اسپينوزا التقليدية - أن الله، في هذا الوجه المتناهي، هو الذي يفكر. وبعبارة أخرى: فممارسة الفاعلية الفكرية في الكون، وهي الممارسة التي تنتقل من فرد إلى فرد، ومن جيل إلى جيل، وتزداد تقدما وانتشارا على الدوام، لا تتم إلا من خلال الأذهان الفردية، التي هي جزئية بحق، ولكن سعيها الدائم، الذي يتجاوز نطاق الأفراد والأزمان، لا متناه بالمعنى الصحيح.
في هذا السعي الدائم إلى المعرفة، الذي يبدو فيه الذهن البشري حلقة في سلسلة لا متناهية، يبلغ الإنسان كماله، فإذا كان ثمة «خلاص» للإنسان، وإذا كان ثمة «بركة» أو سعادة قصوى يمكن أن ينالها، فهذه هي، «فمما قلناه يتجلى بوضوح أين يكون خلاص الإنسان أو بركته أو حريته؛ أعني في الحب الدائم الأزلي لله، أو في حب الله للناس. هذا الحب، أو البركة، هو الذي يطلق عليه في الإنجيل، عن جدارة، اسم المجد؛ إذ إنه سواء كان مصدر هذا الحب هو الله أو الذهن، فإنه يصح عليه اسم طمأنينة الروح، التي ... لا تختلف حقيقة عن المجد.»
91
في هذا النص تبلغ لغة اسپينوزا - المزدوجة الدلالة - قمتها، ويصل في النهاية إلى نفس الصيغة التي وصلت إليها الأديان، ولكن بعد إثبات مطول، ربما كان قد استغرق كتاب «الأخلاق» كله، للهوية بين المعرفة الإلهية أو الحب الإلهي وبين العلم ومعرفة الضرورة التي تحكم الكون. فعندما يتخذ الإنسان من ذلك العلم الصحيح هدفا له، يغدو كل شيء واضحا أمامه، وتزول كل الآلام والانفعالات الهوجاء لأن كل شيء يفسر من خلال الضرورة الكلية للكون، ويصل الإنسان إلى التحرر الحقيقي - التحرر من الانفعال والخوف الناتج عن الجهل بالأسباب، وعن إغفال الطبيعة الضرورية لكل الحوادث.
92
ويكتسب العقل راحته الكبرى عندما تظهر الضرورة الكونية الأزلية أمامه واضحة شفافة.
وظاهر الصيغة ديني لا شك فيه، وعلى أساس هذا الشكل الظاهري لها وقع كثير من الكتاب في خطأ تفسير اسپينوزا تفسيرا تقليديا. فقال برييه
Bréhier
مثلا: «إن مذهب اسپينوزا، منظورا إليه في مجموعه، إنما هو مذهب للخلاص عن طريق معرفة الله.»
93
وقال فرويد نتال شارحا هذه الفكرة: «إننا إذ ننظر إلى الأشياء كما توجد في الله وكما تتلو من الطبيعة اللامتناهية لله، وإذ ندرك أنفسنا وانفعالاتها كما ترتبط بالله، نرتقي من حالة أدنى في الوجود إلى أكمل حالة يتسنى لنا بلوغها، فعندئذ ندرك أسمى ما هنالك من مراتب الغبطة والسكينة. على أن علة هذه الغبطة هو الله، ومعرفتنا هذه له بأنه هو علة هذه الغبطة، تبعث فينا أعمق وأنقى انفعال يمكننا أن نمارسه، وهو حب الله.»
94
ومع ذلك فإن معنى هذه الصيغة التقليدية لا يفهم إلا من خلال التمهيد المطول، الذي يستغرق الكتاب كله، والذي أعد اسپينوزا ذهن القارئ له. وهو هنا في واقع الأمر يريد أن يقول: إن مذهبي بدوره، وهو المذهب الذي يخلو من جميع العناصر فوق الطبيعية أو التشبيهية أو اللاعلمية، يمكن أن يوصل - على أساس أفضل - إلى نفس الغاية التي تتخذها الأديان هدفا أسمى لها، ففيه أيضا خلاص (عن طريق إدراك النظام الكلي للأشياء) وفيه أيضا حرية (عن طريق فهم موقع كل شيء في السلسلة الضرورية الشاملة) وفيه أيضا طمأنينة وبركة (عن طريق إدراك وحدة الكون والذهن الذي هو مظهر جزئي له) وفيه أيضا حب (هو حب المعرفة والعلم).
إن في هذا الجزء عناصر تبدو صوفية ولا شك، ولكن الصوفية في هذه الحالة إنما هي صوفية العلم الذي لا تداخله أية مسحة من النزعة إلى ما فوق الطبيعة. والخطأ الذي وقع فيه المفسرون عندما صادفوا مثل هذه العبارات التي حلق فيها اسپينوزا بالفعل في آفاق لا يدانيها، في علو غايتها، إلا آفاق المذاهب الدينية التقليدية، هو أنهم تصوروا أنه لا بد لذلك أن يكون قد عاد آخر الأمر إلى المعاني التي رفضها كلها في البداية، ومع ذلك فليست كل العبارات ذات المظهر الصوفي، كما رأينا، إلا تتويجا للمذهب العلمي الدقيق الذي ظل يبنيه حجرا حجرا طوال الكتاب، وهو لم يتخل هنا عن أية فكرة من أفكاره السابقة، بل لقد استجمعها كلها، كمؤلف سيمفونية ضخمة، لينسج منها خيوط الخاتمة الجبارة. ومن المؤكد أنه كان سيعد مذهبه ناقصا لو لم يكن قد وجد فيه مجالا لجميع الغايات والأهداف التي تتخذها لنفسها العقائد المنافسة لمذهبه. ومهما أشاد بفضيلة العقل والمنطق، وبقيمة التخلص من الأوهام والخرافات، وبأهمية النظرة العلمية الدقيقة إلى الكون؛ فقد كان سيجد حتما أناسا يقولون له: ولكنا سنجد في عقائدنا خلاصا وراحة وطمأنينة للنفس لا نجدها في مذهبك الصارم! وهكذا كان الجزء الأخير من الكتاب - تبعا للتفسير الذي نقول به - هو الخاتمة الطبيعية الضرورية لكل ما سبقه، وليس على الإطلاق متناقضا أو متنافرا مع الأجزاء السابقة عليه، أو مقحما عليها دون انسجام.
ولعل السبب الأكبر في اشتداد تناقض التفسيرات حول هذا الجزء، ووقوع معظم شراح اسپينوزا في أخطاء واضحة بصدده، هو ذلك الاعتقاد الباطل، والشائع لسوء الحظ، بأن النظرة الشاملة الحدسية إلى الكون في مجموعه، وإدخال مقولات «الخلاص» وطمأنينة النفس وما إليها، مرتبطة ارتباطا حتميا بالموقف اللاهوتي التقليدي، ولكن هل هذا الارتباط ضروري بحق؟ وهل لا تستطيع أن تنظر إلى «الكون» وإلى «النظام الكلي للأشياء» باحترام وتبجيل وحب إلا من خلال موقف لاهوتي؟ وهل يتحتم أن تكون النظرة العلمية إلى العالم، التي لا تداخلها أية أوصاف «فوق الطبيعية»، جامدة غير مكترثة، لا تعرف الحب ولا الغبطة؟ وهل ينبغي القول بمبدأ فوق الطبيعي لكي يكون مثل هذا الحب ممكنا؟ وهل هذا الحب محرم على العالم الذي يستبعد كل فرض عال على الطبيعة؟ وهل يستحيل على المفكر أن يتعاطف ويندمج بكل كيانه في موضوع تفكيره إلا إذا تجاوز حدود هذا الموضوع وافترض كيانات خارجة عنه؟ لو رجعنا إلى تجربة العلماء لوجدنا الكثيرين منهم يردون على هذه الأسئلة كلها بالنفي القاطع؛ إذ إن أشدهم تمسكا بالتفسير الطبيعي الصارم لا يجد ذلك متعارضا مع شعوره بالحب نحو موضوع بحثه، وكلما تعمق العالم في بحثه ازداد نطاق هذا الموضوع اتساعا، حتى نصل إلى ذلك الحب الكامل للطبيعة وللمجموع الكلي للأشياء، الذي أحس به علماء كثيرون لم تدخل تفكيرهم أية عناصر خارجة على الطبيعة أو عالية عليها. •••
هذا هو تفسيرنا للجزء الأخير من كتاب «الأخلاق»، وهو تفسير قائم على الفهم الذي أوضحناه خلال هذا البحث لفكرة «الله» عند اسپينوزا. ويمتاز هذا التفسير بأنه يقضي تماما على التناقض المزعوم بين هذا الجزء وبين بقية أجزاء الكتاب، ويجعله خاتمة طبيعية لكل الأفكار التي عرضها اسپينوزا في كتابه بالتدريج.
وإنه ليكون أمرا غريبا بحق لو كان اسپينوزا قد هدف آخر الأمر، كما يقول شراحه، إلى تأكيد الخلود والحب الإلهي بمعناهما الحرفي، وإلى أن يعود، بشكل أو بآخر، إلى الموقف الديني التقليدي كما عرفه في حداثته، أو إلى نوع من التصوف الذي لا يأباه اللاهوتيون. ومبعث الغرابة في ذلك هو أنه، تبعا لهذا الفرض، يكون قد مهد لهذا الهدف أسوأ تمهيد بعرض آرائه المادية التي طالما جلبت عليه الاتهامات وأثارت حوله الشكوك؛ فالأمر يكون عجيبا حقا لو كان هذا الفيلسوف الذي كان الحذر حقيقة أساسية في حياته، والذي بذل جهدا جبارا لاتقاء شر خصومه ممن ينفرون من آرائه الجريئة، قد وضع كل هذه المقدمات الاستفزازية التي تجلب عليه المزيد من الشك ومن الاتهام والغضب والنقمة والخطر، من أجل الوصول إلى غاية هادئة خاضعة لا تغضب المتمسكين بالتقاليد! ولن يكون لذلك تعليل سوى أنه نوع من الرغبة المتعمدة في إيقاع الأذى بالنفس؛ أي «المازوكية» الفكرية، أو نوع من العناد والمشاكسة، ذلك الذي يدفعه إلى أن يجلب على نفسه مصائب كان يعمل لها ألف حساب، في الوقت الذي كانت فيه غاياته الحقيقية لا تختلف كثيرا عن غايات من يخشى أذاهم!
إن الاعتبارات «التاريخية» - أعني تلك المستمدة من ظروف حياة اسپينوزا - هي وحدها كفيلة برفض التفسير القائل بتناقض النهاية الصوفية لكتاب «الأخلاق» مع بقية أجزائه ذات الاتجاه المادي. أما الاعتبارات «المنطقية» فنحسب أننا أوضحناها في هذا الفصل بما فيه الكفاية.
الفصل الخامس
اسپينوزا والعقائد الشائعة
(1) كتاب «البحث اللاهوتي السياسي»
لما كانت آراء اسپينوزا الرئيسية في العقائد الشائعة في عصره قد عرضت في «البحث اللاهوتي السياسي»؛ فقد رأينا أن نبدأ هذا الفصل بالحديث عن هدف الكتاب والتأثيرات التي أحدثها بين معاصريه وبين الباحثين في وقتنا الحالي.
وقد كتب اسپينوزا في الرسالة رقم 30 يبلغ مراسله «أولدنبرج» (في عام 1665م) أنه بصدد تأليف بحث عن الكتاب المقدس؛ وذلك للأسباب الآتية: (1)
تحامل رجال اللاهوت، فأنا أعلم أنهم هم الذين يحولون بين الناس وبين استخدام عقولهم في التفلسف؛ ولذا أحاول كشف هذا التحامل وتخليص العقول الواعية منه. (2)
رأي العامة في؛ إذ إنهم لا يكفون عن اتهامي بالإلحاد، وأنا مضطر إلى محاربة هذا الرأي بقدر استطاعتي. (3)
حرية التفلسف وحرية الرأي، التي أريد الدفاع عنها بكل الوسائل؛ إذ إن نفوذ رجال الدين وطبيعتهم العدوانية يقضيان عليها.
وفي مقدمة «البحث اللاهوتي السياسي» ذاته، يحدد اسپينوزا لنفسه من تأليف الكتاب أغراضا مشابهة؛ فهو يحمل على رجال اللاهوت؛ لأنهم يتخذون من قداسة الكتب المقدسة نقطة بداية، ويجعلون ذلك مبدأ في الدراسة والتفسير، بينما هو يدعو إلى استخلاص هذه النتيجة - إذا أمكن استخلاصها - في نهاية البحث وبعد التفكير الكامل فيه. والضرر الذي يترتب على نظرة رجال اللاهوت هذه، هو أنهم يستغلون طابع القداسة هذا في خنق حرية الفكر وكتم أصوات خصومهم، بل وفي السيطرة السياسية أيضا، وكأن مصالح الدين لا تتحقق إلا إذا كبتت الحريات على هذا النحو الغاشم.
والأمر الذي يدافع عنه اسپينوزا في هذا الكتاب هو أن كفالة الحرية السياسية وحرية التفكير في الأمور الدينية - وهي الحرية التي كانت مكفولة نسبيا في العهد الجمهوري الذي كان يعيش فيه وقت تأليف ذلك الكتاب - لا تتعارض مع مصلحة الدولة، ولا مع مصلحة الدين ذاته، فأفضل النظم في نظره هو ذلك الذي ينفصل فيه الدين عن الدولة انفصالا تاما، وتصبح الدولة هي وحدها المسئولة عن جميع المسائل المتعلقة بحياة رعاياها الاجتماعية والسياسية والفكرية. وقد أعرب اسپينوزا عن هذا الهدف في المقدمة فقال:
وإذ وجدت أننا نعيش، لحسن حظنا، في جمهورية تكفل فيها لكل فرد حرية لا قيود فيها، ويعبد فيها كل فرد الله حسبما يمليه عليه ضميره، وتقدر الحرية فوق أي شيء آخر؛ فقد رأيت أن عملي لا يكون جحودا ولا عقيما إذا ما أثبت أن هذه الحرية إذا ما منحت، فلن يلحق النظام العام ضرر، بل إنه بدونها لا تزدهر التقوى ولا يرتكز النظام العام على أسس متينة.
ولقد وجد بعض شراح اسپينوزا في ذلك الدفاع المتحمس الذي أورده في مقدمة ذلك الكتاب، والذي أكد فيه أن كل ما قاله لا يتعارض مع النظام الجمهوري القائم، وأنه على استعداد لإثبات ذلك، ولسحب ما يتأكد من أنه متعارض مع ذلك النظام بالفعل؛ وجدوا في ذلك مظهرا لنوع من التملق للسلطات الحاكمة، ولكن تأمل دلالة الحملة الشديدة، التي سبقت كلامه هذا، على الخرافات الدينية وعلى إساءة رجال الدين استغلال سلطاتهم لمنع حرية الفكر، بل لأغراض شريرة في كثير من الأحيان، كل ذلك يجعل التفسير المرجح لموقفه هذا هو دعم السلطة الموجودة «لأنها» كانت تشجع الحرية الفكرية، ولا سيما في شئون الدين، وليس مجرد نفاق أو تملق لها؛ فهو لا يرمي من تأليف الكتاب إلى دعم النظام القائم لمجرد أنه هو النظام القائم، وإنما لأن هذا النظام يتبع مبادئ يعدها سليمة، وبذلك يكون هدفه الحقيقي هو الدفاع عن المبادئ ذاتها لا عن ذلك النظام.
أما الهدف الذي أخفق اسپينوزا في تحقيقه إخفاقا تاما؛ فهو ذلك الذي تحدث عنه في الرسالة التي أوردنا نصا منها في البداية، وأعني به أن يدفع عن نفسه تهمة الإلحاد التي وجهها العامة إليه؛ فالأمر المؤكد أن هذا الكتاب قد دعم هذه التهمة ولم يخففها على الإطلاق، بل إن معظم متاعب اسپينوزا مع السلطات الدينية والثقافية القائمة عندئذ كانت ترجع إلى ذلك الكتاب بعينه؛ لأن كتاب «الأخلاق» لم ينشر إلا بعد وفاته.
فأولدنبرج ذاته، الذي وجه إليه اسپينوزا هذه الرسالة، والذي كان عالما واسع الأفق ، قد بدأ في المرحلة الأخيرة من مراسلاته مع اسپينوزا ينتقد ذلك الكتاب بطريقة ضمنية؛ فعندما طلب إليه اسپينوزا أن يحدد الأفكار التي يجوز أن تجرح المشاعر الدينية في ذلك الكتاب، ذكر، في الرسالة رقم 71، الأمور الآتية: الخلط بين الله وبين الطبيعة، وإنكار المعجزات التي يعتقد المسيحيون جميعهم تقريبا أنها هي وحدها التي تضمن بقاء الإيمان، وغموض موقفه من المسيح وتجسده وتضحيته. وفي الرسالة رقم 73 حدد النقاط التي يعتقد أنها تؤدي، في نظر القراء، إلى هدم الفضيلة الخلقية، بأنها هي فكرة الضرورة الصارمة التي لا يخرج عنها شيء، بحيث لا يعود هناك جدوى للثواب والعقاب؛ إذ إن ما هو ضروري - حتى لو كان شرا - له دائما مبرراته، وليس في الحتمية المفرطة مكان للخطيئة أو للجزاء.
ومثل هذا الانتقاد بالضبط يتكرر في رسالة أخرى وجهها «لامبرت دي ڨلتهوبزن
Lambert de Velthuysen » إلى «ياكوب أوستن
Jacob Osten » وتتضمن آراء الأول في الكتاب؛ فهو يردد أيضا نفس الفكرة القائلة بخطورة فكرة الضرورة الشاملة على الدين من حيث ما تؤدي إليه من استحالة الثواب والعقاب، ونفي الخلق والمعجزات، وإنكار لقيمة الصلاة، ويضيف: «ولقد كان في ذلك كله مخلصا لمبادئه؛ فأي مجال يمكن أن يظل باقيا لحكم الآخرة أو احتمال الثواب أو العقاب، إذا ما أخضع كل شيء للقدر، وإذا قيل إن كل شيء يصدر عن الله بضرورة مطلقة، أو أن الله ليس سوى الكون بأكمله؟» ويضيف صاحب الرسالة أن فكرة اسپينوزا عن الله تجعل الله غير مكترث بما يعتنقه الناس من آراء دينية، وأن لكل شخص أن يعتنق من العقائد أو العبادات ما يرى أنه أقدر من غيره على تقريبه إلى ممارسة الفضيلة. وينتهي من ذلك كله - في حكم يمكن أن يعد ممثلا لحكم معاصري اسپينوزا على الكتاب - إلى أن هذا البحث «يهدم في رأيي كل عقيدة وكل دين ويقلب جميع الأسس؛ فهو يدعو - خلسة - إلى الإلحاد، أو يقول بإله لا يستطيع الناس أن يشعروا نحوه باحترام الألوهية: إله يخضع، هو ذاته، للقدر، فلا يظل هناك مكان للعناية أو للمشيئة الإلهية، ولا يعود ثمة ثواب ولا عقاب ... [فالمؤلف] لا يعلم إلا الإلحاد البحت، وذلك بحجج خفية مستترة.»
هذا هو أنموذج النقد القديم لكتاب «البحث اللاهوتي السياسي»، ولكم تغيرت النظرة إلى هذا الكتاب منذ ذلك اليوم حتى عصرنا الحالي! لقد اكتشفت فيه، منذ التاسع عشر، مزايا لم يكن من الممكن التنبه إليها في عصر اسپينوزا على الإطلاق؛ إذ إن من المستحيل كشفها إلا في عصر بلغت فيه النظرة التاريخية إلى الظواهر الاجتماعية - وضمنها الظواهر الدينية - قمتها. وهكذا انقلب ذلك الذم المفرط إلى مديح لا حد له، وتنافس الكتاب المعاصرون في التحدث عن اسپينوزا بوصفه «رائدا» للبحث التاريخي للعقائد، وعصاميا فريدا في هذا الميدان. وهكذا قال «ڨيل
Weill »: «إن فضل هذا الكتاب، في نظر أعمق النقاد المعاصرين، يرجع إلى أنه وضع نظاما حقيقيا لعلم التفسير، وحدد الهدف الحقيقي الواجب بلوغه، وأعني به، قبل كل شيء، فهم النصوص بذاتها دون أية فكرة سابقة، وعلى نحو موضوعي وتاريخي تماما، ووصل إلى بعض النتائج التي لم تكشفها، منذ ذلك الحين، إلا جهود البحاثة المتعمقين الذين أعلنوها على الملأ.»
1
ويقول برنشڨك: «إن المعقولية الوضعية في «البحث اللاهوتي السياسي»، قد استبقت أفضل نتائج النقد المعاصر.»
2
كما يقول في موضع آخر: «مثلما وضع ديكارت أسس التحليل الخالص والفيزياء الرياضية، فكذلك يعد اسپينوزا واضع المنهج السيكولوجي والاجتماعي الذي هو أساس علم التفسير الحديث.»
3
الأمر الذي لا شك فيه، أن هذا المنهج التفسيري الذي اتبعه اسپينوزا في هذا الكتاب، ووقوفه من النصوص الدينية موقف الباحث العلمي الموضوعي الذي لا يحكم إلا على أساس ما يمليه عقله - لا ما تمليه مشاعره أو عواطفه - كان مرتبطا أوثق الارتباط بدعوته إلى حرية التفكير والبحث، التي جعلها هدفا لذلك الكتاب. ونستطيع أن نقول إنه في هذه الدعوة الأخيرة أيضا - لا في دعوته إلى التفسير العلمي للنصوص الدينية فحسب - قد استبق أشد الاتجاهات تحررا في العصر الحديث، وأنه يعد مبشرا بأفكار لم تبدأ في التبلور إلا منذ عهد الثورة الفرنسية على الأقل.
4 (1-1) أسلوب البحث اللاهوتي السياسي
يبدو، لأول وهلة، أن الأسلوب المسترسل الذي كتب به اسپينوزا «البحث اللاهوتي السياسي» لا يتيح له اتباع الطريقة غير المباشرة في الكتابة، التي كان يساعده عليها، إلى حد بعيد، منهجه الهندسي في كتاب «الأخلاق»، وبالفعل كانت آراء اسپينوزا في «البحث اللاهوتي السياسي» صريحة إلى حد غير قليل، وكان ذلك الكتاب، كما قلنا، هو المسئول الأول عن شهرة اسپينوزا في عصره، وفي العصر التالي له مباشرة، بالمروق.
ومع ذلك فإن المرء يستطيع أن يدرك في هذا الكتاب أيضا نوعا من التحفظ في الكتابة . ويكاد المرء يشعر، كلما أمعن قراءة هذا الكتاب، بأن اسپينوزا لو كان قد ترك نفسه يعبر مباشرة عن آرائه الحقيقية، دون أن يفرض على نفسه أي قيد، لجاء هذا الكتاب - الذي هو في صورته الراهنة من أجرأ الكتب بالنسبة إلى عصره - أشد عنفا من ذلك بكثير، ولاختفت منه تماما أية مسحة لاهوتية قد تظهر فيه من آن لآخر، ولسنا نحن وحدنا الذين نقول بهذا الرأي، بل إن «ليوشتراوس» - كما ذكرنا من قبل - يؤكده أيضا، كما أحس «ماتيو أرنولد» بنفس الشعور حين قال معلقا على «البحث اللاهوتي السياسي»: «من المهم أن نلاحظ أنه (أي اسپينوزا) لا يعبر فيه أي موضع بوضوح عن رأيه في الطابع الأساسي للإنجيل؛ فهو يأخذ الإنجيل على حاله، مثلما ينظر إلى الظواهر الطبيعية، ويناقشه كما يجده ... وإذ يمضي اسپينوزا على أساس هذا المبدأ، فإنه يترك القارئ اليقظ حائرا وساخطا إلى حد ما ... إذ نشعر بأنه يبدأ مما هو بالنسبة إليه فرض، ونريد أن نعرف رأيه الحقيقي في هذا الفرض. وكل ما يأتي به إلينا من تجديدات إنما ينحصر في الحدود التي رسمها له هذا الفرض.»
5
وفي موضع آخر من المقال نفسه يقول «ماتيو أرنولد»: «لا يستطيع أي شخص ذكي أن يقرأ البحث اللاهوتي السياسي دون أن «يشعر» بأن الكتاب يفتقر، بمعنى ما، إلى أساس، ويفتقر إلى دعائم، وبأن هذا الأساس وهذه الدعائم لا توجد، على أية حال، في الكتاب نفسه، وإنما ينبغي، إذا كانت موجودة ، أن تلتمس في الكتب الأخرى للمؤلف.»
6
وبالفعل نجد أمورا أساسية يسلم بها في كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» دون مناقشة تؤديها أو تعارضها، ولا يمكن أن يفهم رأي اسپينوزا فيها إلا بالرجوع إلى كتاب «الأخلاق» على الأخص. ونستطيع أن نقول إن الكتابين، على هذا الأساس، متكاملان؛ فكتاب «الأخلاق»، وإن يكن مكتفيا بذاته بكل ما لهذه الكلمة من معنى، يبحث في الأسس والدعائم الأولى للفكر النظري وللأخلاق، و«البحث» يعالج ميدانا تطبيقيا هو موقع الدين في الدولة، ولكن كثيرا من المشاكل التي تركت فيه دون جواب لا يمكن أن تفهم إلا بالرجوع إلى ما قيل عنها في الأخلاق.
ويتضمن كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» شواهد عديدة، بعضها مباشر وبعضها غير مباشر، على أن اسپينوزا بذل في هذه الحالة أيضا مجهودا لتخفيف وقع آرائه باصطناع لغة لاهوتية ظاهرة للتعبير عن معان مخالفة تماما للمعاني اللاهوتية. وكما قلنا من قبل في صدد الكلام عن المنهج، فإذا كان قد استخدم المنهج الهندسي في الأخلاق وسيلة لتحقيق هذه الغاية، فإنه يستخدم هنا ما يمكن أن يعد فرعا للمنهج الهندسي، وهو ما أسميناه «بطريقة المعادلات»، للوصول إلى هذه المعاني المزدوجة.
ولنردد ها هنا، مرة أخرى، بعض أمثلة هذه الطريقة كما تستخلص من هذا الكتاب: (1) «أعني بمعونة الله، النظام الضروري الثابت للطبيعة أو سلسلة الحوادث الطبيعية ... بحيث إن القول بأن كل شيء يحدث وفقا للقوانين الطبيعية، والقول إن كل شيء مكتوب بأمر الله، يعنيان في رأيي شيئا واحدا ... وعلى ذلك فإن كل ما تستطيع الطبيعة البشرية أن تزود به نفسها، بجهودها الخاصة، لحفظ وجودها، يصح أن يطلق عليه اسم المعونة الإلهية الباطنة، بينما أن كل ما يعود على الإنسان بالنفع من علل خارجية يمكن أن يسمى بالمعونة الإلهية الخارجية (الظاهرة).»
7 (2)
وفي موضع آخر يرى اسپينوزا أن السعي إلى معرفة الله [أي فهم استمرار الطبيعة] يمكن أن يسمى أمرا إلهيا؛ لأن الفكرة الإلهية كامنة فينا، وهي التي تدفعنا إلى هذا السعي.
8
ومعنى ذلك أن الأمر الإلهي في رأيه كامن في الإنسان، ليس له أي مصدر خارجي، وهو أمر يصدره الإنسان لنفسه في سبيل تحقيق أشرف غاياته، وهي الفهم العقلي للأشياء. (3)
ويعرف اسپينوزا الإيمان بأنه «معرفة لله، بدونها تستحيل طاعته، وقد يتمثل في هذه الطاعة وحدها.»
9
وقبل ذلك بصفحات قلائل يقول: «إن طاعة الله لا تكون إلا في حبنا للجار.»
10
أي إن طاعة الله إنما تكون في حسن معاملة الناس فحسب؛ وعلى ذلك يكون معنى التعريف الأول هو: الإيمان معرفة لله، بدونها تستحيل المعاملة الطيبة للناس، ويتمثل في هذه المعاملة وحدها. والتعريف، في صورته الحقيقية هذه، يوحد بين الإيمان وحسن التعامل مع الناس، وبالتالي لا يجعل لاختلافات مضمونات العقائد أي أثر فيه. وقد يقال إن هذه أفكار توجد صراحة في كثير من العقائد. وهذا أمر لا ننكره، ولكنه ليس هو الموضوع الأساسي في هذا المجال، وإنما الموضوع الأساسي هو: هل يوحي التعريف الأول الذي أوردناه ها هنا، في ظاهره، بمثل هذه المعاني؟ ألا يبدو في مظهره تعريفا متمشيا مع جميع التقاليد اللاهوتية، ولا يستطيع أشد اللاهوتيين تمسكا بالحرفية أن يأخذ عليه أي مأخذ؟ (4)
وفي الفصل الأول من الكتاب، حين يتحدث اسپينوزا عن المصادر التي سوف يستمد منها بحثه في الطرق التي يتصل بها الله بالبشر، يقول: إن هذه المصادر هي كتب الأنبياء - وهو يعني بهم أنبياء اليهود بطبيعة الحال. ثم يقول: «ولما لم يكن هناك، بقدر ما أعلم، أي نبي حي في هذه الأيام، فلا مفر لنا من قراءة كتاب الأنبياء الراحلين ...»
11
ومن المؤكد أن هذه الجملة، ولا سيما عبارة «بقدر ما أعلم»، فيها نوع من الاستخفاف بالموضوع بأسره. وهذا الاستخفاف الذي يبديه اسپينوزا هنا، بطريقة مستترة، ينعكس على الكتاب كله؛ إذ إن ما يبدو فيه من احترام ظاهري لوجهة نظر أنبياء اليهود، إن هو إلا من قبيل «أخذ الناس بقدر عقولهم»، كما اعتاد اسپينوزا أن يفعل في كثير من مواقفه الفكرية.
ولسنا نود أن نمضي في تعديد الشواهد على اتباع اسپينوزا الأسلوب غير المباشر في هذا الكتاب بدوره، ويكفي أن نقول: إن كل حديثه عن الدين - مثل حديثه عن الله في الفصل السابق - يتخذ معنى جديدا كل الجدة إذا كانت الطاعة الإلهية لا تعدو أن تكون حب الجار، وإذا كان الوحي الديني في نظره ثانوي الأهمية، وشعائر الدين - كما سنرى فيما بعد - لا تفيد من حيث قيمتها العملية، وإذا كان القانون أو الأمر الإلهي لا يعدو أن يكون تعبيرا عن النظام الضروري للأشياء. فاستخدام اسپينوزا للفظ الدين، أو الإيمان، لم يكن بدوره إلا من قبيل المجاراة والتهدئة فحسب. أما معانيه الحقيقية فكانت في واد آخر تماما. ومع ذلك فلا بد من التسليم بأن هذا الأسلوب غير المباشر لم يكن ناجحا كل النجاح في هذا الكتاب؛ إذ إن طريقة الكتابة المسترسلة تؤدي إلى الكشف عن معانيه الحقيقية دون عناء كبير. وهذا ما يفسر الضجة الكبرى التي أحدثها الكتاب في الأوساط الدينية في عصره على الأخص، وهي الضجة التي ظل اسپينوزا يعاني آثارها طوال حياته. (2) موقف اسپينوزا من المسيحية
وبعد كل ما قلناه في القسم السابق، نستطيع أن نقول إن الدليل الأكبر على اتباع اسپينوزا للأسلوب غير المباشر في التعبير عن آرائه، هو الاختلاف الشديد بين الشراح حول موقفه من المسائل الدينية، ولا بد لإيضاح طبيعة هذا الاختلاف من شرح رأي اسپينوزا في اليهودية والمسيحية كل على حدة، ثم عرض آرائه في الروح الدينية بوجه عام. ولما كنا سنخصص فصلا مستقلا لشرح موقف اسپينوزا من اليهودية، فسوف ننتقل هنا مباشرة من الحديث عن موقفه من المسيحية، إلى بحث رأيه العام في الروح الدينية.
والظاهرة التي تلتف النظر في كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» هي أن اسپينوزا أظهر محاباة واضحة للمسيحية بالنسبة إلى اليهودية.
فتعاليم موسى في الوصايا العشر كانت في رأيه مكيفة تبعا لأذهان اليهود، وترمي إلى تحقيق رفاه مملكتهم فحسب؛ أي إن موسى كان يخاطب اليهود بوصفه مشرعا وقاضيا، وكان يتناول في تشريعه الجانب الظاهر من سلوك الإنسان. أما المسيح فقد تناولت تعاليمه حياة الإنسان الباطنة، وكان الجزاء عنده روحيا أكثر منه دنيويا.
12
وحين يحلل اسپينوزا مختلف طرق الاتصال بين الله وبين الأنبياء حسبما جاء في الأناجيل، يرى أن الأوصاف الواردة في الأناجيل لا تدل على حدوث اتصال مباشر بين الذهن الإلهي وبين أي ذهن آخر سوى المسيح؛ فالاتصال الإلهي بموسى كان مخاطبة أو كلاما، والكلام يحتاج دائما إلى المخيلة لتفسيره أو فهمه. أما الاتصال ببقية الأنبياء اليهود فكان عن طريق أحلام أو علامات أو أمارات معينة؛ أي إنه كان يتم دائما بتوسط، والحالة الوحيدة التي تم فيها اتصال مباشر من ذهن إلى ذهن ، دون توسط اللغة أو الخيال، هي حالة المسيح.
13
ولقد أدت هذه المحاباة الواضحة للمسيحية في «البحث اللاهوتي» إلى اعتقاد بعض الشراح أن اسپينوزا، حين نبذ اليهودية، قد اتجه بتفكيره إلى المسيحية عن إيمان صحيح بها، أو أنه تأثر بتعاليمها وفضلها على سائر العقائد.
وقد ظهر هذا الرأي واضحا في كتابات الأب «دونين بوركوڨسكي
Dunin-Borkowski »، الذي جعل لتأثير التعاليم المسيحية المحل الأول في تحديد اتجاه اسپينوزا الفكري،
14
كذلك يظهر رأي مماثل لدى «برنشڨك»، الذي أبدى اهتماما كبير بالنصوص التي أعرب فيها اسپينوزا عن إعجابه بشخصية المسيح، وأكد تبعا لذلك أن المسيح قد ضرب لاسپينوزا المثل بخروجه على اليهودية، ورفضه كل عبادة ذات طابع مادي، فضلا عن المثل الذي ضربه له بحياته الروحية وتضحيته.
15
بل إن بعض الشراح اليهود ذاتهم قد وجدوا في «البحث اللاهوتي السياسي» ميلا واضحا إلى المسيحية؛ فأكد «هيلر
Heller » أن «بحث اسپينوزا للاهوت العهد القديم والعهد الجديد يتسم بتحيز واضح للمسيحية.»
16
ورأى «ليوشتراوس» أن هذا الكتاب قد وضع من وجهة نظر مسيحية، أو وجهة نظر تحتل فيها المسيحية المكانة الأولى، وعلق على ذلك بقوله: «لا يسع المرء إلا أن يعتقد أنه أراد أن يقدم إلى المسيحيين النصيحة الآتية: أن يتخلوا عن الآثار اليهودية المادية التي شوهت المسيحية منذ بدايتها، أو أن يعودوا إلى التعاليم الروحية الخالصة للمسيحية الأصلية ... فالغرض الأساسي من «البحث اللاهوتي السياسي» هو تحرير المسيحية من تراثها اليهودي.»
17
ولكن الاعتقاد بأن اسپينوزا كان ميالا إلى المسيحية أو متحيزا لها، وبأنه قد اقترب كثيرا من الإيمان بها بعد تخليه عن اليهودية، يكذبه على نحو قاطع ما قاله في رسالة رقم 73 (إلى أولدنبرج)؛ ففي هذه الرسالة يتحدث عن الاختلاف بين رأيه عن الله والرأي الذي يقول به المسيحيون المحدثون، من حيث إنه يرى أن الله هو العلة الكامنة في شيء، وليس العلة العالية على الأشياء. ثم يفسر الفكرة المسيحية القائلة إن المسيح هو الابن الأزلي لله، بأنها تعني أن المسيح كان يعبر عن «الحكمة الإلهية الأزلية كما تتمثل في جميع الأشياء، ولا سيما في العقل البشري؛ وهي الحكمة المؤدية بالفعل إلى الخلاص. أما فكرة اتخاذ الله صورة بشرية، فيقول عنها: لقد أشرت صراحة إلى أنني لا أفهم المقصود منها، بل إن هذا القول لا يبدو لي أقل امتناعا من القول بأن الدائرة قد اتخذت صورة المربع.» فإذا أدركنا أن اسپينوزا كان أصرح في تعبيره عن آرائه في رسائله منه في كتبه، وإذا علمنا أن الاعتراضات الواردة في هذه الرسالة تتعلق بأركان أساسية في العقيدة المسيحية، لتبين لنا أن رأيه الحقيقي في المسيحية كان لا بد مختلفا عن الرأي الذي عبر عنه في «البحث اللاهوتي» حين جعل هذه العقيدة هي الأقرب إلى التعبير عن التعاليم الإلهية، وحين سلم بحرفيتها وأبدى نوعا من الإعجاب بها.
ولقد أدرك كثير من شراح اسپينوزا وجود هذا التناقض في كتابته عن المسيحية. ونسبه بعضهم إلى رغبة اسپينوزا في مجاملة الجماهير.
18
وفي هذا المعنى قال «جوليان ڨيل»: «إن حرص اسپينوزا على مسايرة الآراء المسيحية ليتبدى جليا ... في إشادته في كثير من المواضع بالمسيح والحواريين، وفي إحجامه عن دراسة الأناجيل المسيحية من وجهة النظر النقدية، وفي إصراره المتحيز على امتداحها على حسب العهد القديم.»
19
وأخيرا، فإن ليوشتراوس يذكر صراحة أن اسپينوزا لم يكن يعد المسيحية أفضل من اليهودية، بل كان يدرك أن السلطات الحاكمة، والأغلبية الموجودة، تؤمن بالمسيحية، وكانت مهاجمة اليهودية في نظره أقل خطرا من مهاجمة المسيحية؛ بينما يؤكد أن القارئ الواعي لا بد أن يدرك أن انتقاداته التي وجهها إلى اليهودية لا بد أن تسري في الوقت ذاته على المسيحية.
20
وفي اعتقادنا أن هذا الرأي الأخير صحيح، وأن ما يبدو في «البحث اللاهوتي» من محاباة للمسيحية ليس، في واقع الأمر، إلا مظهرا من مظاهر إخفاء اسپينوزا لآرائه الحقيقية. ولنذكر هنا الرأي الذي سبق أن اقتبسناه لماتيو أرنولد، وهو الرأي القائل: إن اسپينوزا لا يناقش الإنجيل ولا يبدي رأيه فيه، بل يتناوله كما هو، ويأخذه كما لو كان يضع فرضا معينا، دون أن يحدد لنا موقفه من هذا الفرض. وهذا ، في الواقع، هو التعليل الصحيح لما يبدو من إعجاب اسپينوزا بالمسيحية؛ فهو يتناول تعاليمها كما هي، ويفترض أنها صحيحة، ثم يستخلص التفسيرات المنطقية لما في هذه التعاليم من أفكار، ولكن الأمر لا يعدو أن يكون افتراضا فحسب؛ إذ لو كان يؤمن بها حقا لما تحدث عنها على نحو ما رأينا في رسالة إلى «أولدنبرج»، وعلى أية حال، فإن انتقاداته التي ركزها على العهد القديم هي، في نظر كل من يختبرها عن كثب، ذات طابع أوسع بكثير من أن تنطبق على تعاليم العهد القديم وحده؛ فهي في الواقع انتقادات موجهة إلى الروح الدينية في عمومها، كما سنرى في الأقسام التالية. (3) العقل والإيمان عند اسپينوزا
وضع اسپينوزا في «البحث اللاهوتي السياسي» حدا فاصلا بين العقل والإيمان، أو بين الفلسفة واللاهوت، وأكد أن لكل منهما مجاله الخاص الذي لا يتعدى على مجال الآخر: «فمجال العقل هو ... الحقيقة والحكمة، ومجال اللاهوت هو التقوى والطاعة، واللاهوت لا ينبئنا بشيء، ولا يحضنا على شيء، ولا يأمرنا بشيء سوى الطاعة، وهو لا يتجه إلى معارضة العقل ولا يستطيع ذلك؛ وإنما يكتفي بتعريف مبادئ الإيمان ... بقدر ما تكون ضرورية للطاعة، ويدع العقل يحدد حقيقتها بدقة؛ ذلك لأن العقل هو نور الذهن، وبدونه تغدو كل الأشياء أحلاما وأوهاما» وبالاختصار ففي وسعنا أن ننتهي من ذلك إلى النتيجة النهائية القائلة: «إن من الواجب ألا نسعى إلى إخضاع الإنجيل للعقل، ولا العقل للإنجيل.»
21
ومثل هذا الرأي في العلاقة بين العقل والإيمان أدى بكثير من شراح اسپينوزا إلى الاعتقاد بأنه قد جعل التفكير الفلسفي والإيمان الديني متساويين، كل في ميدانه الخاص، وأنه دافع عنهما بنفس القوة. فقال «بروشار» مثلا: «إن أحدا لم يدافع عن حقوق العقل بمثل هذه القوة، وإن أحدا لم يتحدث عن الإيمان بمثل هذا الاحترام. فإذا كان يعد شكاكا
incrédule
لأنه يرى الوحي غير كاف، فإنه شكاك يؤمن بالوحي، وروحه دينية بعمق.»
22
وعلى هذا النحو نفسه فهم «برنشڨك» تفكير اسپينوزا على أنه محاولة للتوفيق بين الفلسفة - كما تتمثل لدى ديكارت - وبين الإيمان كما يتمثل في المسيحية: «فالغاية التي استهدفها هي تنقية ديكارت وتنقية الدين؛ أي تنقية ديكارت باستبعاد العنصر اللاعقلي اللامنهجي من مذهبه ... وتنقية الدين ... بالتشبه بالمسيح الذي جاء ليضع حدا لكل العبادات المتحجرة؛ لأنه لا يرى الدين إلا روحيا فحسب؛ فالمهمة التي أراد اسپينوزا إنجازها هي أن يضم في وحدة روحية جامعة ديكارت الحقيقي والمسيح الحقيقي.»
23
وفي موضع آخر يعلق برنشڨك على الجزء الأول من النص الذي اقتبساه عن اسپينوزا في بداية هذا القسم فيقول: «هذه هي الفكرة الأخيرة التي انتهى إليها اسپينوزا من دراسته للدين المنزل بالوحي؛ فقد برر الكتاب المقدس وأكد قداسته، وبرر العقل وأكد قداسته، دون أن يجعل سلطة الأول تنال من استقلال الثاني.»
24
مثل هذا التفسير لموقف اسپينوزا من مشكلة العلاقة بين العقل والإيمان يغفل، في رأينا، أهم أوجه هذا الموقف، حقا إنه يرتكز على بعض نصوص مستمدة من كتاب اسپينوزا نفسه، ولكن هذه النصوص، إذا ما وضعت في سياقها الحقيقي، تكتسب في واقع الأمر دلالة مختلفة كل الاختلاف؛ فالتفسير الذي يبدو لأول وهلة لهذه النصوص هو أن اسپينوزا فصل بين مجالي العقل والوحي لكي يحفظ لكل منهما حقوقه إزاء الآخر، ولكن الواقع هو أن هدفه الحقيقي، المستمد من ظروف عصره، كان إبعاد سلطة رجال الدين عن كل الأمور المتعلقة بالمعرفة، وهي الأمور التي كانوا يدعون لأنفسهم سلطة كاملة فيها، ويتدخلون فيها على أساس أن لهم الكلمة الأخيرة حتى في هذا المجال ذاته؛ ففي العصر الذي تكون سلطة رجال الدين فيه هي الغالبة، تتخذ الدعوة إلى فصل العقل عن الوحي دلالة مختلفة كل الاختلاف؛ إذ يصبح الوجه الذي يدافع فيها عن العقل أقوى من الوجه الذي يدافع عن الوحي بكثير، ولو ظهرت مثل هذه الدعوة في القرن العشرين مثلا، حيث يكتسح العقل كل مجالات المعرفة البشرية، لأصبحت دلالتها عكس الدلالة السابقة؛ أي لأصبحت دفاعا عن الوحي أكثر منها دفاعا عن العقل. وبعبارة أخرى: فتفسير الدعوة إلى فصل العقل عن الوحي ينبغي أن يستمد من ظروف كل عصر ، وأن يعد دفاعا عن الجانب «الأضعف» نسبيا منهما في ذلك العصر. ولما كان عصر اسپينوزا، رغم حرية الفكر النسبية فيه، قد ظل يتضمن كثيرا من عناصر التعصب الديني المتخلف عن العصور الوسطى، وكانت كلمة رجال الدين فيه، رغم كل شيء، هي الغالبة، بينما يضطر أصحاب النزعات الثائرة فيه إلى التعبير عن آرائهم بطريقة حذرة مستترة، فلا بد أن يكون الاتجاه الحقيقي لفكرته هذه دفاعا عن العقل أكثر منه دفاعا عن الوحي.
ولكنا لسنا في حاجة إلى مثل هذه التحليلات والاستنتاجات لكي ندرك الغرض الحقيقي لاسپينوزا؛ إذ إن كتاباته ذاتها تحفل بالنصوص التي يستحيل أن يخطئ المرء فهم مرماها؛ إذ إنها كلها تمجيد صريح للعقل وإعلاء له على كل شيء.
فهو يرفض بشدة كل محاولة لإعطاء العقل مكانة ثانوية بالنسبة إلى الوحي، ويقول: «إني لأدهش ممن يرغب في إخضاع العقل؛ تلك الموهبة الرفيعة والنور العلوي، للحرف الجامد الذي ربما كان الخبث البشري قد أفسده؛ وأدهش لأن الناس لا يرون أي جرم في التحقير من شأن العقل الذي هو التعبير الحق عن كلمة الله؛ فيسمونه فاسدا وأعمى ومضللا، على حين أنهم يرون من أشنع الجرائم التي تنسب مثل هذه الصفات إلى الحرف، الذي لا يعدو أن يكون انعكاسا وخيالا لكلمة الله. إن الناس ليظنون أن التقوى هي ألا يثق المرء بعقله وبحكمه على الإطلاق. أما الشك في إيمان من نقلوا إلينا الكتب المقدسة فهو الفجور في نظرهم، ولكن مثل هذا السلوك ليس من التقوى في شيء، وإنما هو جنون محض.»
25
وفي مجموعة الرسائل التي تبادلها اسپينوزا مع «بلينبرج»، ذكر هذا الأخير (في الرسالة رقم 20) أن الوحي عنده يعلو على العقل، وقال: «إذا ما اتضح لي، بعد دراسة فاحصة، أن المعرفة الطبيعية تتعارض مع كلام الله أو لا تتفق معه، فإن لكلام الله في عقلي سلطة تجعلني أشك في المفهومات الواضحة المزعومة ...» وكان هذا القول سببا في هجوم اسپينوزا عليه بعنف في الرسالة رقم 21 إذ قال: «إنني لأدرك الآن أن أي برهان، مهما كانت متانة الأسس التي يرتكز عليها، لا قيمة له في نظرك إذا لم يتفق مع التعاليم التي تنسبها أنت أو من تعرفهم من رجال اللاهوت إلى الكتاب المقدس. فإذا كنت تعتقد أن الله يعبر عن نفسه في الكتاب المقدس بطريقة أوضح وأدق من تلك التي يعبر بها عن نفسه في النور الطبيعي للذهن - الذي هو بدوره من صنعه والذي يحفظه بحكمته الإلهية - فإن لك كل الحق في إخضاع ذهنك لمعتقدات الكتاب المقدس. ولو كنت موضعك لما فعلت غير ذلك. أما أنا فأعترف دون مواربة بأنني لا أفهم الكتاب المقدس، وإن كنت قد كرست لدراسته عددا من السنين ... ولقد أصبحت، بفضل ممارسة قدرتي الطبيعية على الفهم، وهي القدرة التي لم تخذلني قط، رجلا سعيدا. وأنا بالفعل استمتع بها، وأقضي حياتي بعيدا عن الحزن والهم، هادئا مرحا مسرورا.» وعندما أصر «بلينبرج» في الرسالة التالية، على موقفه الذي يخضع فيه العقل للوحي، رد عليه اسپينوزا في الرسالة رقم 23 قائلا إنه لا جدوى من استمرارهما في التراسل، طالما أنهما مختلفان على هذه المبادئ الأساسية، وكان من بين ما جاء في رده: «لقد كتبت في رسالتك الثانية أيضا تقول إن أمنيتك ورغبتك الوحيدة هي المحافظة على الإيمان والأمل، بينما أنت لا تكترث بمختلف الآراء التي تناقشنا حولها في صدد الذهن الطبيعي. وهكذا رأيت، وما زلت أرى، أن رسائلي لا قيمة لها بالنسبة إليك ... والواقع أنني عندما كتبت إليك (رسالتي الأولى) كنت أظنك فيلسوفا خالصا، لا تقبل (شأن عدد كبير من أتباع العقيدة المسيحية) معيارا للحقيقة سوى الذهن الطبيعي، لا اللاهوت.»
ولما كان أي شخص يؤمن بالوحي لا يستطيع أن ينكر أن التفكير العقلي يرجع إلى الله ويستمد منه، فإن اسپينوزا يستغل هذه الفكرة ليقول: إن العقل البشري ينبغي، على هذا الأساس، أن يكون هو الأصل الأول لكل وحي إلهي، فيقول في الفصل الأول من «البحث اللاهوتي»: «ولما كنا نرى أن ذهننا ينطوي في ذاته على الطبيعة الإلهية ويشارك فيها، ويستطيع لهذا السبب وحده، أن يكون أفكارا تفسر الظواهر الطبيعية وتحض على الأخلاق الحميدة، فإن ذلك يستتبع القول بأن لنا الحق في أن ننظر إلى طبيعة الذهن البشري (منظورا إليه على هذا النحو) على أنه هو العلة الأولى للوحي الإلهي.» وهكذا يستخلص اسپينوزا من نفس منطق التدين، باستدلال دقيق، نتيجة خطيرة تجعل من العقل أساسا للوحي ذاته.
وهكذا يكون من الخطأ، في هذا السياق أيضا، أن نقرب بين اسپينوزا وبين فلاسفة العصور الوسطى الذين كانت مهمتهم هي التوفيق بين الفلسفة والدين، والذين ركزوا جهودهم في العثور على صورة أرسطو في النصوص الدينية؛ ففي الوقت الذي يبدو فيه لأول وهلة أن اسپينوزا يرمي إلى تحقيق نفس الهدف، مع استبدال ديكارت بأرسطو، يتضح من البحث الدقيق لآرائه أنه يجعل للعقل، في واقع الأمر، مكانة تعلو على كل شيء، وأنه لو خير بين العقل والوحي لما تردد في اختيار الأول، وأنه لم يجعل للوحي مجالا إلا حيثما يعجز الناس عن ممارسة عقولهم، وسوف تظهر هذه الحقيقة بمزيد من الوضوح عندما نتحدث عن وظيفة العقيدة الدينية كما تصورها اسپينوزا. (3-1) وظيفة العقيدة الدينية
ليست للعقيدة الدينية، في رأي اسپينوزا، أية وظيفة نظرية تتعلق بالمعرفة؛ ففي كل الميادين المعرفية يسيطر العقل بلا منافس. بل إن للعقائد وظيفة عملية فحسب، ولا أهمية على الإطلاق للأساس النظري الذي ترتكز عليه هذه العقائد طالما أنها تؤدي وظيفتها العملية على النحو المنشود، «فالإيمان يسمح بأكبر قدر من التحرر في النظر الفلسفي، ويبيح لنا، دون لوم، أن نتصور أي شيء كما نشاء، ولا يرمي بالهرطقة والزندقة إلا من ينشرون آراء تحض على المكابرة والكراهية والتشاحن والبغضاء، بينما لا يكون المؤمنون في نظره إلا من يحضوننا، بقدر ما يسمح عقلهم وملكاتهم، على العدل والإحسان.»
26
وهو يتحدث في موضع آخر حديثا أصرح من ذلك، فيعلق على عدم أهمية المذاهب الدينية النظرية قائلا: «ليس لأحد أن ينكر أن الإيمان بهذه المذاهب ضروري لكي يستطيع كل شخص بلا استثناء، أن يطيع الله وفقا لما يقضي به الشرع ... أما ما يكونه الله ، أو المثل الأعلى للحياة الحقة، في ذاته، من حيث هو نار أو روح أو نور أو فكر أو أي شيء غير هذا، فهذا في رأيي أمر لا شأن له بالإيمان، فلكل أن يفكر في هذه الأمور كما يشاء.»
27
وهكذا يبدو أن اسپينوزا يبيح جميع الاختلافات النظرية حول العقيدة - وبالتالي لا يعترف بأية قيمة للأسس النظرية - طالما أن الغايات العملية للعقيدة تتحقق.
ولكن من الواضح أن المفكر الذي يتجه إلى جعل السلوك العملي - بغض النظر تماما عن الأسس النظرية - مقياسا وحيدا للعقيدة قد يهدم برأيه هذا كل ما تبقى للعقيدة من أسس؛ إذ إن السلوك الفاضل الذي يتحقق في إطار خارج تماما عن العقيدة، يصبح على هذا الأساس مساويا لذلك الذي يتحقق في الإطار الديني، أو بعبارة أخرى: إن السلوك الفاضل يصبح غاية في ذاتها، سواء تحقق بفضل الإيمان أو بدونه. وإذا كان الكثيرون من المتدينين يوافقون على المقدمة القائلة إن السلوك العملي هو أهم ما في الدين، فلا أظن أنهم جميعا يقبلون النتيجة الضرورية التي تستخلص منها، وهي أن هذا السلوك يعد مطابقا للغاية المنشودة سواء أقام على أسس دينية أم لم يقم، طالما أنه ينفذ نفس الأغراض التي يدعو إليها الدين. ومع ذلك فإن اسپينوزا يستخلص هذه النتيجة صراحة إذ يقول: «لست أرى فارقا بين الحالات التي يدعونا الله فيها إلى مراعاة العدل والإحسان عن طريق ملكاتنا الطبيعية، وبين تلك التي يأتي إلينا فيها بوحي خاص.»
28
أما الشعائر والطقوس الدينية فيقول عنها: «من المؤكد أنها لا تنفع ولا تضر على الإطلاق فيما يتعلق بالمعرفة الحقة لله، والحب الذي ينجم بالضرورة عنها؛ ولذا لم يكن ينبغي أن يعزى إليها من الأهمية ما يجعل المرء يعتقد أنها تستحق أن يعكر السلام والنظام والعام من أجلها.»
29
ويعبر اسپينوزا عن موقفه تعبيرا أصرح إذ يقول: «إذا كان شخص ما جاهلا تماما بالكتب المقدسة، ولديه مع ذلك آراء صحيحة ونهج سليم في الحياة، فإنه قطعا يكون مباركا، وتكون فيه روح الله بحق.»
30
وبذلك يتحقق الهدف الأعلى للدين، في نظره، إذا كان السلوك العملي فاضلا، بغض النظر عن أساس ذلك السلوك من وجهة نظر العقيدة، ولا يكون هناك أي ارتباط حقيقي بين تعاليم الدين وروحه الحقيقية؛ أي في هذه الحالة - بين المسيحية وروح المسيح.
وهنا يحق للمرء أن يتساءل: لماذا حرص اسپينوزا كل هذا الحرص على أن يؤكد أن السلوك الفاضل، حتى دون إيمان حرفي أو دون إيمان على الإطلاق، كفيل بأن يوصل المرء إلى السعادة والبركة الدينية ذاتها؟ ألا يستطيع المرء أن يرى في ذلك نوعا من الدفاع عن النفس أو تبريرا لموقفه الخاص؟ ألم يكن يريد، في الواقع، أن يرد على أولئك الذين اتهموه بالخروج على الأديان الشائعة في عصره، بالقول إن ذلك لا يحول بينه وبين أسمى درجات السعادة الدينية ذاتها؟ إن الدليل على صحة هذا التفسير هو أنه ينتقل، بعد النص السابق، إلى مقارنة رأيه هذا بالرأي المضاد السائد لدى اليهود - مقارنة تظهر بوضوح أنه يتحدث من خلال تجربته الخاصة - فيقول: «إن لليهود طريقة في التفكير تختلف عن ذلك كل الاختلاف؛ إذ يعتقدون أن الآراء الصحيحة والنهج السليم في الحياة لا قيمة لهما في تحقيق السعادة والبركة، إذا كان من يملكونهما قد توصلوا إليهما بنور العقل وحده، لا عن طريق الوثائق التي أوحي بها إلى موسى.»
31
ولكن اسپينوزا كان قد تخلى بطبيعة الحال عن عقيدته اليهودية منذ عهد بعيد، ولم يكن يحفل كثيرا بمثل هذه الآراء طالما أنها تتعارض مع تفكيره ومنطقه العقلي.
ولا يقف الأمر عند هذا الحد؛ فهو لا يكتفي بأن يقول إن السلوك القويم يؤدي إلى تحقيق الغاية المقصودة من الدين سواء أكانت أسسه دينية أم غير دينية، بل إنه يمضي خطوة أبعد من ذلك، فيقول إن العقائد تفيد في تقويم سلوك العامة وحدهم. أما الخاصة؛ أي أصحاب العقول المفكرة، ففي وسعهم الاستغناء عنها تماما، بل لا مفر لهم من أن يستغنوا عنها إذا ما فكروا فيها بالمنطق الدقيق.
وتظهر هذه التفرقة بين حاجات العامة والخاصة من الناس بصورة ضمنية فيما رواه «كوليروس» عن اسپينوزا من أنه كان ينصح الأطفال بالذهاب إلى الكنيسة، وبإطاعة آبائهم، وأنه عندما سألته صاحبة داره إن كان يعتقد أن العقيدة التي تؤمن بها ستجلب لها الخلاص، أجاب: «إن عقيدتك عقيدة طيبة، ولست بحاجة إلى البحث عن غيرها، أو إلى الشك في أنها ستؤدي إلى خلاصك، على شرط أن يقترن اعتصامك بالتقوى بالعيش في سلام واطمئنان.» فهذه الرواية تكشف عن عدم اهتمام اسپينوزا بنوع العقيدة التي يؤمن بها الناس طالما أنها تؤدي إلى عيشهم في اطمئنان - فضلا عن أن موافقته على ترك العامة يؤمنون بعقائدهم كما هي تعني ضمنا أنه يرى لهذه العقائد وظيفة نافعة بالنسبة إلى عقول هؤلاء العامة ومستواهم الفكري.
وقد أوضح اسپينوزا صراحة رأيه هذا في التفرقة بين ما يحتاج إليه العامة والخاصة، وأكد أن الكتابات الدينية المفصلة لا ترضي إلا العامة، بينما يستطيع المفكر أن يستغني عنها، ويصل مع ذلك إلى مرتبة لا يصل إليها المتدينون من العوام.
32
بل لقد أخذ يضرب أمثلة عديدة لأخطاء في المعرفة وقع فيها أنبياء اليهود، ومن بينهم موسى ذاته
33 - وهي أخطاء قد يقبلها العوام راضين ولكن المفكرين لا يستطيعون أن يقبلوها دون نقد.
والرأي الحقيقي الذي يؤمن به اسپينوزا في هذا الصدد هو الرأي القائل إننا إذا شئنا أن نهتدي إلى دليل على القدرة الإلهية، وأن نكون متسقين مع أنفسنا في الوقت ذاته، فلدينا في عقلنا البشري نفسه أعظم دليل. فليس ثمة داع لافتراض معرفة غير مألوفة، خارجة على قوانين الطبيعة، لتكون هي مظهر هذه القدرة الإلهية. بل إن عقلنا ذاته معجزة، وكفاحنا من أجل فهم الطبيعة والسيطرة عليها معجزة، ولا معنى - في نظره - لافتراض معجزات ونبوءات تتحدى العقل وتخرج عن نطاق الطبيعة من أجل إثبات هذه القدرة.
ومع ذلك فإن العامة، الذين لا يدركون إعجاز العقل لأنهم لا يعرفون كيف يمارسونه على النحو الصحيح، ينبغي أن يخاطبوا بلغتهم الخاصة. وهكذا فإن النص الديني - كما قال اسپينوزا في رسالته رقم 19 إلى «بلينبرح» «لما كان يخاطب عامة الناس في المحل الأول، فإنه يستخدم على الدوام لغة كلها تشبيه بما يحدث في عالم الإنسان؛ فالعامة عاجزون عن إدراك الحقائق العميقة؛ ولهذا السبب كانت الأوامر التي أوحي بها إلى الأنبياء، من حيث هي لازمة للخلاص، توضع في صورة قوانين. ولهذا أيضا ابتدع الأنبياء شتى أنواع المجازات؛ فهم أولا قد عرضوا الوسائل المؤدية إلى الخلاص أو إلى الهلاك، والتي أوحى بها الله - وهو علتها - كما لو كانت صادرة عن إرادة شبيهة بإرادة ملك أو مشرع ... وصوروا الخلاص والهلاك على أنهما ثواب أو عقاب، بينما هما نتيجتان ضروريتان لهذه الوسائل (التي أسموها بالقوانين). وهم أخيرا قد صاغوا كلماتهم في صورة أقاصيص لا حقائق. وكثيرا ما صوروا الله منفعلا كالبشر، أو نسبوا إليه الإحساس بالغضب أو الشفقة، أو تمني حادث مقبل، أو الغيرة والريبة. بل لقد ذهبوا إلى حد جعل الشيطان يضلله! ومع ذلك فلا شك في أن الفلاسفة، وكل من ارتفعوا فوق مرتبة القانون؛ أي كل من يمارسون السلوك الخير لا بدافع الطاعة وإنما بدافع الحب لأنه هو الخير الاسمى، يعرفون الاستخدام المألوف لهذه اللغة القائمة على التشبيه بالإنسان.»
34
وهكذا ينتقد اسپينوزا ما يسميه بالاتجاه العامي إلى استخدام التشبيه بالإنسان في الأمور الدينية؛ فيعبر منذ مقدمة «البحث اللاهوتي السياسي» عن استنكاره لمحاولة الناس دفع الشر بالقرابين أو الصلوات، وتفسير الكوارث على أنها غضب من الآلهة. ويؤكد أن معرفة الإنسان بالقوانين الطبيعية الشاملة كفيلة بتجنيبه مثل هذه الأخطاء: لأن الخرافة في رأيه ليست إلا وليدة الجهل والخوف.
35
وهو يحمل على الرأي القائل إن القدرة الإلهية تتمثل في خروج الطبيعة عن مجراها المنتظم، كما هي الحال في المعجزات. ويرى أن نسبة هذه الحوادث إلى القدرة الإلهية راجعة إلى الجهل بقوانينها فحسب؛ فالقول بالمعجزات ينطوي ضمنا على الاعتقاد بوجود قوتين: الله والطبيعة، وبأن كلا من القوتين تعمل عندما تتوقف الأخرى عن العمل؛ فقدرة الله تظهر عندما تسكت الطبيعة، وقدرة الطبيعة تظهر عندما تسكت القدرة الإلهية،
36
فكيف يوفق أصحاب هذا الرأي بينه وبين الاعتقاد الذي يسلمون به حتما، وهو أن الله خالق الطبيعة والمسيطر على مجراها؟ إن هذا الاعتقاد الأخير معناه أن أي شيء يحدث في الطبيعة ويكون فيه خروج عن قوانينها الشاملة، يكون فيه بالضرورة خروج عن الأمر الإلهي والطبيعة والفهم، فكل من يؤكد أن الله يسلك على نحو مخالف لقوانين الطبيعة، يتحتم عليه في الوقت ذاته أن يؤكد أن الله يسلك على نحو مخالف لطبيعته هو - وهذا أمر واضح الامتناع.
37
ويقدم اسپينوزا لهذا الاعتقاد بالمعجزات تعليلا يستحق أن يقتبس هنا بأكمله: «فيبدو أن هذه الفكرة قد نشأت بين اليهود الأوائل، الذين رأوا غير اليهود من حولهم يعبدون آلهة منظورة، كالشمس والقمر والأرض والماء والهواء ... إلخ. ولما كانوا يريدون إقناعهم بأن هذه الآلهة ضعيفة زائلة أو متغيرة؛ فقد رووا لهم كيف أنهم يخضعون هم أنفسهم لإله غير منظور، وقصوا عليهم معجزاته، محاولين بذلك زيادة تأكيد فكرتهم القائلة إن الإله الذي يعبدونه قد نظم الطبيعة بأسرها لصالحهم. وهذه فكرة مرضية للبشر إلى حد أن الناس ما زالوا حتى اليوم يتخيلون معجزات حتى يقنعوا أنفسهم بأنهم هم المختارون عند الله، وهم العلة الغائية التي خلق الله من أجلها كل الأشياء ووجهها في سبيلها، فيا لتلك الادعاءات التي يسوقها الناس حين يغلبهم الحمق! إن هؤلاء قوم ليست لديهم فكرة صحيحة واحدة عن الله أو الطبيعة، وهم يخلطون الأوامر الإلهية والأوامر البشرية، ويتصورون أن الطبيعة محدودة إلى درجة أن الإنسان يكون الجزء الرئيسي فيها!»
38
ويفسر اسپينوزا قصة آدم وحواء، كما رواها موسى، على أنها أسطورة ذات فائدة عملية فحسب،
39
وهو حين يختبر مغزى القصة، يرى أنها قد تكون تعبيرا عن الفكرة القائلة: إن الإنسان لو كان قد ولد حرا لما عرف الخير ولا الشر؛ فآدم خلق متمشيا مع طبيعته التلقائية، ولم يعرف الخير ولا الشر إلا بعد أن أكل من شجرة المعرفة.
40
ولكن تفكيره الاجتماعي يقنعه بأن الخطيئة أو الشر بوجه عام لا يمكن أن توجد في الحالة الطبيعية؛ أي في الحالة السابقة على قيام مجتمع له نظمه وقوانينه؛ فالشر لا يفهم إلا داخل مجتمع ومن خلال القيم الخاصة لهذا المجتمع؛ ولذلك «فمن المستحيل أن نتصور الخطيئة موجودة في الحالة الطبيعية، أو أن نتخيل الله قاضيا يعاقب الإنسان على مخالفاته ... إذ لم يكن من الممكن قيام العدل والإحسان في تلك الحالة.»
41
ومن الواضح أنه حيثما لا يتصور وجود العدل والإحسان، لا يتصور أيضا وجود الشر والخطيئة. ومع ذلك فسوف نرى فيما بعد أن فكرة الشر بأسرها ليس لها في نظره كيان متميز، وأن الشر في رأيه حرمان أو عدم بالنسبة إلى معيار معين يضعه الناس لأنفسهم في كل مجتمع، بينما لا يكون لمثل هذه الأحكام التقويمية أي وجود في الأفعال ذاتها؛ وعلى هذا الأساس الجديد يكون «من خطأ التعبير، ومن قبيل تشبيه الأمور بصورة الإنسان، أن يقال إن المرء يرتكب خطيئة ضد الله، أو يغضب الله.»
42
ذلك لأن كل ما يحدث في الطبيعة يتم بمقتضى قوانينها الضرورية. وما يسمى بالشر ليس إلا تفسيرا بشريا لحادث معين من وجهة نظر معينة. أما قوانين الطبيعة في مجموعها - أو الأوامر الإلهية - فلا يمكن أن يخالفها أحد، وإذن فالخطيئة لا توجد إلا من المنظور البشري وحده. أما من المنظور الإلهي، أو من حيث النظام الشامل للكون (والتعبيران عند اسپينوزا مترادفان) فمن المحال منطقيا أن يكون لمثل هذه الأحكام الأخلاقية وجود. (3-2) نسبية الظاهرة الدينية
وضع اسپينوزا، كما أشرنا من قبل، نوعا من التقابل بين الظاهرة الدينية وبين النظام العام للأشياء؛ فالظاهرة الدينية ظاهرة بشرية قبل كل شيء، يسعى الإنسان عن طريقها إلى تحقيق أمان معينة وتجنب مخاوف خاصة. أما النظام الكلي للأشياء فهو ضروري لا يستهدف مراعاة مطالب الإنسان، أو أي كائن جزئي آخر. وهكذا ينتهي اسپينوزا إلى أن قوانين الطبيعة ليست مطابقة للظواهر الدينية؛ لأن الأولى شاملة لا تسير وفقا لرغبات الإنسان على التخصيص، بينما الثانية تستهدف صالح البشر وحدهم،
43
ويصل من ذلك إلى فكرة قد تبدو مذهلة لأول وهلة، ولكن من السهل تفسيرها في ضوء المقدمات الفلسفية لمذهبه: تلك الفكرة هي أن الظاهرة الدينية ليست هي التعبير المباشر عن الإرادة الإلهية؛ فالإرادة الإلهية - بالمعنى الخاص لهذا اللفظ عند اسپينوزا - هي مجموع الطبيعة وقوانينها. هذا المجموع يضم كل عناصر الكون وأوجهه اللامتناهية. أما الظاهرة الدينية فهي ظاهرة بشرية تستهدف نفع الإنسان فحسب، وترمي إلى تنظيم أحوال البشر ومعاملاتهم، وليست لها دلالة كونية مطلقة، وبالتالي لا يمكن الربط بينها وبين النظام الضروري للأشياء.
ويؤدي هذا الطابع البشري للظاهرة الدينية إلى القول بأنها نسبية على نحو آخر؛ فهي، ككل ظاهرة بشرية أخرى، متطورة ذات تاريخ، ومن الممكن أن تفسر تفسيرا كاملا من خلال تاريخها هذا. وقد تضمن «البحث اللاهوتي السياسي» محاولة مفصلة لعرض الكتب المقدسة - اليهودية على الأخص - من حيث هي تعبير عن ظاهرة تاريخية واجتماعية، ولربط تعاليمها بطبيعة العصور التي ظهرت فيها، وإنكار وجود أية دلالة مطلقة لها، تسري على كل عصر. وكما قال برنشڨك، فإن اسپينوزا «عندما طبق على الكتب اليهودية نفس الأساليب التي يطبقها الباحثون العلميون على أشعار هوميروس، لم يصل فقط إلى بعض النتائج الأساسية للعلم المعاصر، بل لقد قلب أيضا العلاقات التي شاعت إقامتها في القرن السابع عشر بين محتوى العقائد الوضعية وبين الحقيقة ذات الطابع الفلسفي الصحيح.»
44
ومن الطبيعي أن يؤدي هذا الربط بين الظاهرة الدينية وبين الظروف الاجتماعية والتاريخية، إلى نوع من سعة الأفق في النظر إلى هذه الظاهرة، بحيث استطاع ذهنه أن يتأمل في تسامح كل العقائد ويفهم مغزى كل منها في ضوء ظروفه الخاصة. وقد عبر اسپينوزا عن هذا الأفق الواسع أوضح تعبير في مراسلاته مع «ألبرت بيرج
Albert Burgh »، الذي كان يعبر عن وجهة النظر الدينية المتمسكة؛ ففي الرسالة رقم 67 يوجه هذا الأخير إلى اسپينوزا انتقادات في صورة أسئلة، منها: هل اطلعت على مذاهب الفلاسفة جميعهم، في المشرق والمغرب، وعلى ما ظهر من الفلسفات وما سيظهر في المستقبل، حتى تدعي أنك اتخذت لنفسك خير الفلسفات؟ ولماذا لا تؤمن بالمسيح؟ هل ذهنك أفضل من أمة المسيح كلها، ومن كل الأنبياء والشهداء؟ وهل هو أفضل من ذهن المسيح؟ فيرد اسپينوزا على أسئلته - وعلى انتقاداته - في الرسالة رقم 76 قائلا: «إنك تسألني كيف عرفت أن فلسفتي خير الفلسفات. وأنا لا أدعي أن فلسفتي هي الأفضل، ولكني أعلم أنني أعرف الفلسفة الحقة. فإذا سألتني كيف تسنى لي أن أعرف ذلك، قلت إنني أعرفه على نفس النحو الذي تعرف به أن الزوايا الثلاث للمثلث يساوي مجموعها قائمتين ...» ويرد على الأسئلة الأخرى على نفس النحو قائلا: أما أنت، يا من تظن أن عقيدتك خير عقيدة، فكيف عرفت ذلك؟ هل اطلعت على كل العقائد، الشرقية منها والغربية، ما ظهر وما سيظهر؟ أليس لكل صاحب عقيدة أخرى نفس الحق في أن ينظر إلى عقيدته على أنها أفضل العقائد؟
وهكذا كان من الواضح أن نظرة اسپينوزا إلى الظاهرة الدينية قد بلغت من الرحابة والاتساع حدا جعله يضيق بالتعصب لأي نص بعينه، أو أية تعاليم على التخصيص، وليس في وسع المرء من تأمل ظاهرة كتاباته أن يصدر حكما دقيقا على مشاعره الحقيقية في هذا الصدد، ولكن إذا كان صحيحا - كما قال نيتشه - أن النقد التاريخي هو النقد الحاسم، فلا بد أنه - كما أكد «ريڨو
Rivaud » - كان «يقف، ويريد أن يقف، في الطرف المضاد لجميع الأديان، كما أدرك خصومه في القرن السابع عشر بالسليقة.»
45 «وإلى مثل هذا الرأي ينتهي «بيدني
Bidney » حين قال عن اسپينوزا «إن عمله يمثل أول محاولة - وأعظم محاولة حتى الآن - لتشييد مذهب عقلي شامل للخلاص البشري يستغني عن الجزاءات فوق الطبيعية، ويتجنب أية إهابة خاصة بوحي تاريخي ينزل على شعوب مختارة أو أفراد مختارين.» وهي حقيقة تعلل تأثيره المستمر في رجال العلم وأصحاب المذاهب المتحررة عامة، أولئك الذين يستاءون من التغرضات المؤسفة والأفعال المتعصبة التي تشجع عليها العقائد التقليدية في معظم أنواعها. ومن الممكن بحق أن يسمى كتاب «الأخلاق» عند اسپينوزا «إيمان المذهب العقلي»، وذلك مقابل جميع صور المذهب المدرسي التي هي في آخر الأمر «تبريرات عقلية للإيمان».»
46
ومع ذلك، فالأمر الذي استطاع اسپينوزا أن يؤكده - باطمئنان كامل - هو أن مذهبه ليس أقل من غيره حرصا على القيم الأخلاقية، وأن حياته ذاتها كانت - كما قال عنه الكثيرون من معاصريه - حياة قديس، بالمعنى الذي يفهمه هو لهذه الكلمة، وأن السعادة أو البركة التي تتخذها كل المذاهب الدينية غاية قصوى لها، قد وجدت في سعيه إلى المعرفة تحقيقا فعليا لها؛ وهذا وحده، بغض النظر عن المحتوى النظري للتعاليم، هو الذي كان كفيلا بإقناعه بأنه وجد، على طريقته الخاصة، سبيله إلى الخلاص.
الفصل السادس
نظرية الأخلاق
(1) الطابع الأساسي للنظرية الأخلاقية
أهم طابع يمثل النظرية الأخلاقية عند اسپينوزا هو القول إن الإنسان لا يقف بمعزل عن الطبيعة وقوانينها؛ فاسپينوزا قد انتقد بشدة أولئك الذين تصوروا الإنسان على أنه «يقف من الطبيعة كأنه دولة داخل الدولة، ويظنون ... أن له سلطانا مطلقا على أفعاله، وأن شيئا لا يتحكم فيه سوى ذاته.»
1
فنقطة البداية الأساسية في هذه النظرية الأخلاقية هي الإدراك العلمي للارتباط بين الإنسان وبين الطبيعة بوجه عام؛ ومن ثم تأكيد سيادة فكرة الضرورة في مجال الإنسان بدوره، «فمن المحال ألا يكون الإنسان جزءا من الطبيعة، أو أن يكون قادرا على ألا يتأثر إلا بالتغيرات التي يمكن فهمها من خلال طبيعته بوصفها العلة الكافية لها.»
2
وأهم ما استحدثه اسپينوزا، نتيجة لهذه النظرة إلى الإنسان، هو أنه نزع عن عالم الإنسان الباطن قناع الصوفية والغموض الذي كان السابقون عليه يخفونه به، وأدرجه ضمن الظواهر العلمية الخاضعة للبحث والتحليل، وبحثه - كما قال في مقدمة الباب الثالث من «الأخلاق» - «كما تبحث الخطوط والمسطحات والأجسام». وهكذا أكد أن الهدف من علم الأخلاق ليس الوعظ والإرشاد، وإنما هو الدراسة والبحث والفهم، فنقل بذلك الأخلاق من مجال «ما ينبغي أن يكون» إلى مجال «ما هو كائن»، وأكد أن مهمته بوصفه باحثا أخلاقيا ليست أن يحتقر أو ينتقد، وإنما أن يفهم الطبيعة البشرية على ما هي عليه. وهكذا تجاوز اسپينوزا الحواجز بين الواقع والمثل الأعلى، وبين ما هو فعلي وما هو معيار مثالي، وأنكر الخير المطلق، وبالتالي «عالم الغايات» الذي تركزت فيه الأخلاق المثالية بأسرها.
وهذه الصفة الأساسية تفسر الطابع الفريد الذي تتميز به الأخلاق عند اسپينوزا؛ فالأخلاق من وجهة نظر معينة مستحيلة في مذهبه، وهي من وجهة نظر أخرى أساس ذلك المذهب والعنصر الجوهري فيه، ومن المستحيل تفسير هذا الازدواج الغريب إلا من خلال الارتباط الوثيق بين موضوع الأخلاق، وهو الإنسان، وبين ضرورة الطبيعة في مجموعها.
فمن المستحيل، كما قال «هفدنج»، أن يكون للأخلاق قيام في مذهب ينظر إلى الوجود من خلال صورة الأزل.
3
ففي مثل هذا المذهب تطغى الضرورة المطلقة إلى حد لا يعود معه في وسع المفكر أن يعالج أي موضوع من منظور الإنسان وحده، وهو المنظور الضروري في الأخلاق، ولكن هفدنج يتغلب على هذه الصعوبة بالتفرقة بين وجهة النظر الأزلية ووجهة النظر العملية، والقول إن الحديث في الأخلاق يعالج الطبيعة لا من حيث هي طابعة، بل من حيث هي مطبوعة؛ أي من حيث إنها تتضمن كائنات جزئية ذات سلوك عملي متناه.
ومع ذلك فإذا كان من الصعب، من وجهة النظر هذه، الاهتداء إلى مكان للأخلاق في مذهب ينظر إلى الوجود من وجهه الأزلي، فإن من الممكن، من وجهة نظر أخرى، القول إن الأخلاق هي الموضوع الأساسي في تلك الفلسفة، وليس لأحد أن يدهش على الإطلاق لأن اسپينوزا أطلق على كتابه الرئيسي اسم «الأخلاق» في الوقت الذي عالج فيه - في بابيه الأولين على الأقل - موضوعات ميتافيزيقية خالصة؛ ذلك لأن الحد الفاصل بين البحث في الطبيعة من وجهها الشامل وبين البحث في الإنسان يختفي تماما عند اسپينوزا، والدلالة الواضحة لبحثه موضوعات ميتافيزيقية رئيسية في كتاب موضوعه «الأخلاق»، هي أن اسپينوزا قد أحدث تغييرا أساسيا في النظرة الفلسفية إلى مجال الأخلاق؛ فهو يرفض تماما تفرقة الفلاسفة التقليديين بين مجال المعرفة النظرية الخالصة، وهو الميتافيزيقا، ومجال المعرفة العملية، وهو الأخلاق (وهكذا يتضح أن تفرقة «هفدنج» التي أشرنا إليها منذ قليل لا تقدم الإجابة الصحيحة على المشكلة). وهو يؤكد أننا كلما تعمقنا في فهم قوانين الطبيعة الشاملة كنا أقدر على فهم سلوك الإنسان؛ أي إن مجال الأخلاق ليس إلا مركزا تتلاقى فيه إشعاعات المعرفة البشرية في سائر فروعها، ويطبق فيه العلم الإنساني بكل ما حققه من نتائج. وكل ما عليك، لكي تكون قد تعمقت في فهم السلوك البشري والعلاقات المتبادلة بين الناس، أن تكون نظرتك إلى الطبيعة في مجموعها نظرة علمية سليمة لا تمتزج بها خرافات أو ترتكن على كيانات أسطورية، وعندئذ يتضح لك كل شيء يتعلق بالإنسان في ضوئه الصحيح، وفي علاقته بالكل الذي لا يفهم إلا من خلاله.
وكما ينبغي أن يقال، من وجهة النظر هذه، إن الأخلاق معرفة نظرية شأنها شأن العلم العقلي بوجه عام، فمن الممكن أيضا أن يقال: إن العلم ذاته له طابع عملي أخلاقي؛ أي إن العلم والمعرفة يفتحان لنا أبواب الأخلاق، مثلما تمهد الأخلاق الطريق للمعرفة. والمهم في الأمر أنه لا وجود «لأخلاق مجردة» منفصلة عن المجرى العام لعلم البشر؛ وبذلك يتجاوز اسپينوزا، بهذا المعنى أيضا، التفرقة بين الواقع والواجب، وبين العلم النظري والبصيرة العملية، وبين الأخلاق والعلم. (2) الطبيعة والقيم الأخلاقية
نستطيع أن نقول إن المظهر الرئيسي للاختلاف بين وجهة نظر اسپينوزا ووجهة النظر التقليدية إلى الأخلاق هو أن القيم الأخلاقية عنده ليس لها مكان في المجرى الفعلي للطبيعة، بينما كانت القيم الأخلاقية في نظر الفلاسفة التقليديين هي الغاية النهائية لسلوك الطبيعة بأسرها. وهذا الفارق الرئيسي هو الذي يحدد الاختلاف بين وجهة النظر العلمية الصارمة - عند اسپينوزا - وبين وجهة النظر الغائية السائدة من قبله .
فالطبيعة عند اسپينوزا خالية تماما من القيم البشرية: «إنني لا أعزو إلى الطبيعة جمالا ولا نظاما ولا اضطرابا، فليس في وسع المرء أن يقول عن الأشياء إنها جميلة أو قبيحة، منظمة أو مضطربة، إلا من وجهة نظر الخيال.»
4
والخير والشر لا وجود لهما إلا في ذهننا، لا في الطبيعة، وليست لهما أية دلالة ميتافيزيقية، وإنما هما يتعلقان بوجهة نظر البشر فحسب.
5
وبعبارة أخرى: فالخير والشر «لا يدلان على صفة إيجابية في الأشياء منظورا إليها في ذاتها، وإنما هما أحوال للفكر أو موضوعات فكرية نكونها من مقارنة الأشياء بعضها ببعض . وهكذا يمكن أن يكون الشيء الواحد في نفس الآن خيرا وشرا، وسويا إزاء هذا وذاك.»
6
مثال ذلك، أن هبوط سعر سلعة ما يمكن أن يعد خيرا من وجهة نظر الشاري، وشرا من وجهة نظر البائع، أما من وجهة نظر الشخص الذي لن يشتري هذه السلعة ولن يبيعها ولا صلة له بها، فليس لهذا الحادث معنى أو قيمة في ذاته، فإذا تساءلنا بعد ذلك عن دلالة الحادث - أعني هبوط سعر هذه السلعة - كما هو في ذاته، لكان الجواب هو أن الحادث في ذاته لا ينطوي على قيمة أو دلالة أخلاقية، بل إنه يتخذ هذه الدلالة من وجهة نظرنا نحن، ونتيجة لمقارنتنا إياه بحوادث أخرى في سياق حياتنا.
وعلى هذا النحو يستغل اسپينوزا فكرته هذه في حل المشكلة القديمة العهد: مشكلة وجود الشر في العالم، والتوفيق بين وجود الشر وبين الفاعلية الإلهية. ونستطيع أن نقول إن طريقة اسپينوزا الخاصة في حل هذه المشكلة هي مثل من أوضح أمثلة منهجه الخاص؛ أعني منهج «المعادلات»، الذي عالج فيه مشاكل تقليدية بعبارات تبدو في ظاهرها تقليدية بدورها، ولكن دلالتها الحقيقية جديدة كل الجدة، وتمثل خروجا أساسيا على التراث.
فهناك وجهان للحل الذي أتى به اسپينوزا لمشكلة الشر من حيث علاقتها بالفاعلية الإلهية: (أ)
في الوجه الأول يؤكد اسپينوزا أن الشر «عدم
privation » لا صلة له بماهية الأشياء، وهو يشرح هذا العدم - في الرسالة رقم 21 - بأنه «كيان عقلي
être de raison ، وطريقة في التفكير عندما نقوم بإجراء مقارنة». ثم يضرب اسپينوزا مثلا بالشخص الذي نقول عنه إنه أعمى؛ لأننا نقيسه بغيره من المبصرين. أما من وجهة النظر الإلهية فلا يمكن أن يعد كذلك؛ فالحجر مثلا لا يقال عنه إنه أعمى: «إذ إن هذا الرجل لا يملك ولا يمكن أن يملك شيئا سوى ما منحه إياه العقل الإلهي والإرادة الإلهية. كما أن الله ليس سبب عدم إبصار هذا الرجل، مثلما أنه ليس سبب عدم إبصار الحجر، وإنما الأمر هنا يتعلق بسلب بحت.»
ويزيد اسپينوزا فكرته إيضاحا في الرسالة رقم 23 حين يقول : «من مبادئ تفكيري أن الله هو العلة المطلقة والحقيقية لكل ما يمكن أن تعزى إليه ماهية، دون استثناء. فإذا كان في وسعك إثبات أن الشر والخطأ والجرائم ... إلخ، تعبر عن ماهية، فسوف أسلم معك دون جدال بأن الله علة الشر والخطأ والجرائم ... إلخ. ولكني أظن أنني قد أثبت أن ما يضفي على الشر والخطأ والجريمة طابعها الخاص ليس شيئا معبرا عن ماهية على الإطلاق؛ ومن ثم فلا يجوز القول إن الله علتها؛ فقتل نيرون لأمه، الذي ندينه من أجله، لم يكن جريمة من حيث الطابع الإيجابي للعمل الذي قام به؛ فقد كان فعل «أورست
Oreste » مماثلا من الوجهة الظاهرية؛ إذ قتل أمه عمدا، دون أن يحق عليه مثل هذا اللوم. ففيم تنحصر جريمة نيرون إذن؟ إنها لا تنحصر إلا في أنه قد أثبت بهذا القتل عقوقه وقسوته وعصيانه. وهذه كلها صفات لا تعبر عن أية ماهية، وبالتالي فليس الله سببها، وإن يكن هو سبب فعل نيرون ونيته.»
وهنا يظهر التقسيم المعروف للعلل إلى فاعلة وغائية؛ فالعلل الفاعلة هي وحدها الحقيقية، وهي لا تنطوي في ذاتها على قيمة ما، وإنما هي تحدث أفعالا إيجابية فحسب. أما العلل الغائية فهي التي تضفي على الأفعال قيمتها من وجهة النظر البشرية، ولكن ليس لها خارج وجهة النظر هذه أي كيان؛ فهي ليست حقيقية إذا نظرنا إلى الأمور من منظور الأزلية والضرورة المتحكمة في الطبيعة. ومن الممكن أن يصطبغ الفعل الواحد - كما قلنا - بشتى أنواع القيم والغايات، دون أن يكون لهذه أدنى تأثير في ماهية الفعل نفسه من حيث هو ناتج عن علة فاعلة، وهكذا يقسم اسپينوزا وجهات النظر الممكنة إلى الأشياء تقسيما ثنائيا إلى: وجهة النظر الإلهية، التي لا تتعلق إلا بالماهيات الحقيقية والعلل الفاعلة، ووجهة النظر البشرية، التي تضيف إلى الماهيات السابقة غايات وقيما مستمدة من مقارنتنا للأشياء بعضها ببعض تبعا لأغراضنا الخاصة. وليس للشر وجود إلا من وجهة النظر الثانية فحسب؛ وعلى ذلك فلا يمكن أن يقال عنه إنه ناتج عن الفاعلية الإلهية . (ب)
ويرتبط الوجه الثاني للحل الذي أتى به اسپينوزا لمشكلة علاقة الشر بالفاعلية الإلهية، بالوجه الأساسي الأول ارتباطا وثيقا، فإذا كان الشر لا يعبر عن ماهية إيجابية، وإنما هو عدم محض، مستمد من مقارنتنا للحوادث بعضها ببعض تبعا لغاياتنا الخاصة؛ فلا بد أن الشر - والخير أيضا، بطبيعة الحال - مستمد من قيم البشر الاجتماعية الناجمة عن اتصال الناس بعضهم ببعض، بحيث إننا لو تصورنا حالة طبيعية للناس، لا يظهر فيها تأثير القيم الاجتماعية بعد، فمن المحال أن يكون للشر فيها وجود، «ففي الحالة الطبيعية، إذن، يستحيل تصور الخطيئة، وهي لا توجد إلا في حالة يتفق فيها الناس على معنى الخير والشر، ويتعين على كل شخص أن يطيع سلطة الدولة ... ففي الحالة الطبيعية لا نستطيع أن نتصور رغبة في إعطاء كل ذي حق حقه. وبعبارة أخرى لا يوجد في الحالة الطبيعية شيء يطابق العدالة والظلم، ومثل هذه الأفكار لا تكون ممكنة إلا في دولة اجتماعية ... ومن هذا كله يتضح أن العدل والظلم، والخطيئة والفضيلة، هي أفكار خارجية، وليست صفات تكشف عن طبيعة العقل.»
7
ويكشف لنا حله هذا عن وجه آخر للغة اسپينوزا اللاهوتية التي استخدمت للتعبير عن معان لا صلة لها بمجال اللاهوت على الإطلاق؛ فوجهة النظر الإلهية التي لا يكون للشر معنى فيها، ليست إلا «النظام الضروري للأشياء»، والقول إن الله لا يمكن أن يكون علة للشر لأن الله علة للماهيات الإيجابية فحسب، ليس إلا تعبيرا مدرسيا عن القول إن الطبيعة إذا ما نظر إليها في ضرورتها الشاملة لا تعرف القيم بمعناها البشري، بل إن البشر هم الذين يقتطعون من المجرى الضروري للطبيعة حوادث معينة ينظرون إليها من خلال مصالحهم الخاصة فيرون فيها خيرا أو شرا.
فمن حيث ظاهر اللغة المستخدمة، يوجد تشابه واضح بين اسپينوزا وبين الفلاسفة المدرسيين؛ إذ إنه بدوره يرمي إلى تقديم تفسير لظاهرة الشر في عالم تسيطر عليه ألوهية، ولكن هذا التشابه سطحي وخداع، والنتيجة الحقيقية للتفكير مختلفة في كل حالة عنها في الأخرى كل الاختلاف؛ ذلك لأن المدرسيين واللاهوتيين كانوا يحاولون استبعاد فكرة الشر عن الفاعلية الإلهية لكي يستبقوا لهذه الفاعلية طابعها الخير؛ أي إنه إذا كان الشر في نظرهم وهما غير حقيقي، فإن الخير حقيقة لا شك فيها، وله دلالة ميتافيزيقية أو أنتولوجية أساسية، وهو الغاية القصوى التي يستهدفها كل فعل إلهي. أما اسپينوزا، فإن طريقته الخاصة في استبعاد فكرة الشر عن الفاعلية الإلهية - أي من المجرى الضروري للأشياء - تتضمن في الوقت ذاته استبعادا للخير، ومعه كل القيم المماثلة، من هذا المجال نفسه؛ فهو يختلف عن المدرسيين اختلافا أساسيا في أنه لا ينفي الشر لكي يترك الخير وحيدا في الميدان، بل يخلي الميدان من جميع القيم الملائمة وغير الملائمة في آن واحد. وهذا بطبيعة الحال هدف مختلف تماما عما كان يرمي إليه المدرسيون، بل إنه في واقع الأمر يهدم كل أسس التفكير المدرسي، من حيث إنه يستبعد الخير بوصفه غاية لمسار الحوادث في الكون. ويؤدي نفي وجود مثل هذه الغائية - مع نفي الشر - إلى إنكار تحكم العناية الإلهية في العالم، بحيث يغدو مجرى الحوادث غير مكترث ولا عابئ بالإنسان. وفي هذه الحالة، فحتى لو ظل المرء يقول بمبدأ إلهي أول، فإن وجود هذا المبدأ وعدمه يتساوى من وجهة نظر الإنسان، طالما أنه لا يستجيب للإنسان على أي نحو. وهكذا يتضح مدى الاختلاف الضخم بين نتائج اسپينوزا ونتائج المدرسيين، رغم أنه توصل إلى نتائجه عن طريق مقدمات تبدو، من حيث لغتها، قريبة الشبه من لغتهم إلى حد بعيد. (2-1) نقد فكرة حرية الإرادة
يظهر اتساق الاتجاه الحتمي في نظرية اسپينوزا الأخلاقية بوضوح في نقده لفكرة حرية الإرادة؛ فعلى خلاف معظم المذاهب الفلسفية التي لم تتصور إمكان قيام الأخلاق دون إرادة حرة، يؤكد اسپينوزا أن الاعتقاد بحرية الإرادة وهم باطل، وأثر من آثار الجهل بالأسباب الحقيقية، وأننا لن نستطيع فهم الإنسان على حقيقته، وبالتالي فهم طبيعة سلوكه، طالما أننا نفترض مقدما مثل هذه الفكرة الباطلة.
ويوضح اسپينوزا، في رسالته رقم 58، طريقته الخاصة في فهم الحرية فيقول: «يكون الشيء في رأيي حرا عندما يوجد ويفعل حسب ضرورة طبيعته وحدها، ويكون مرغما عندما يتحكم شيء آخر في وجوده وفعله تبعا لقاعدة محددة.» ويشرح اسپينوزا اعتقاد الإنسان بحرية إرادته عن طريق التشبيه الآتي: إن الحجر لا يتحرك إلا إذا دفعته علة خارجية. فلنتصور أن هذا الحجر يعتقد، أثناء حركته، أن جهده هو الذي يجعله يتحرك؛ إذ ليس لديه وعي إلا بجهده هو، على حين أنه يجهل الأسباب الخارجية التي تحكمت في حركته، وهكذا يتصور نفسه حرا. وتلك هي حال الحرية البشرية.
ويلاحظ في تعريف اسپينوزا للحرية، أنها لا تتعارض مع الضرورة، وإنما مع التحكم أو الإرغام الخارجي؛ فالحرية هي الضرورة الباطنة؛ أي إن الكائن يكون حرا إذا لم يكن يرغمه شيء خارج عنه، وإنما يكون سلوكه متفقا مع الضرورة الباطنة لطبيعته فحسب. ومن الواضح أن الحرية بمعناها الحقيقي لا تتوافر في هذه الحالة إلا للكون بمعناه الشامل، الذي لا يتحكم فيه شيء ولا يوجد شيء خارجه حتى يقال إنه يرغمه. وهذا هو معنى العبارة المصوغة بلغة لاهوتية، والقائلة إن الله وحده هو الحر.
والنتيجة الثانية لهذا الفهم الخاص للحرية، وربطها بالضرورة الباطنة، هي الربط بين الاعتقاد الباطل بحرية الإرادة البشرية، وبين الجهل بالأسباب. «فالناس يخطئون حين يظنون أنفسهم أحرارا، ومرد اعتقادهم هذا إلى شعورهم بأفعالهم الخاصة، وجهلهم بالأسباب المتحكمة فيها. وإذن ففكرتهم عن الحرية ليست إلا جهلهم بأي سبب لأفعالهم. أما قولهم أن الأفعال البشرية تتوقف على الإرادة، فما هو إلا عبارة لا تطابقها أية فكرة، فلا أحد منهم يعلم ما هي الإرادة، وكيف تحرك الجسم. أما أولئك الذين يباهون بمثل هذه المعرفة، ويتخيلون مساكن أو مقار تحل فيها النفس، فلا يثيرون إلا الضحك أو الاشمئزاز.»
8
وإذن فمن المحال أن يكون الإنسان حرا بمعنى أن له مشيئة أو إرادة تسلك من تلقاء ذاتها دون أن يتحكم في سلوكها سبب خارجي؛ إذ إن الإنسان على صلة مستمرة بعوامل لا متناهية في العالم المحيط به، ومن المحال أن يسلك على أي نحو دون أن يأخذ هذه العوامل بعين الاعتبار. «فليس للذهن إرادة مطلقة أو حرة، وإنما يتحكم في رغبته في هذا الشيء أو ذاك سبب تحكم فيه بدوره سبب آخر كان له بدوره سبب ثالث ... وهكذا إلى ما لا نهاية.»
9
ومع ذلك فهناك، رغم هذه الضرورة المطلقة، شعور مؤكد بالحرية لدى الإنسان، ورغبة في الحكم على الأشياء كما لو كان المرء هو الآمر الناهي في مجاله الخاص. وهكذا يفرق اسپينوزا، رغم إيمانه بفكرة الضرورة، بين القوانين الطبيعية والقوانين التي يسنها الإنسان، ويفسر الاعتقاد بوجود النوع الثاني من القوانين، الخاضع لإرادة الإنسان، بأنه راجع إلى جهلنا بالأسباب النهائية القصوى، وإيثار الحديث عن الأسباب القريبة، مما يؤدي إلى قبول فكرة عرضية الأشياء حتى تكون الحياة ممكنة بالنسبة إلينا.
10
وواضح، من هذه الفكرة الأخيرة، أن اسپينوزا يقول بمستويات مختلفة لتفسير فكرة الحرية؛ ففي المستوى المطلق يكون كل شيء ضروريا، وتنتفي الحرية بمعنى المشيئة التي لا تخضع لعامل خارجي. أما في المستوى النسبي أو الحيوي فإن بعض الأشياء يكون عرضيا إذا كانت معرفتنا بأسبابه غير كافية، وإذا كانت رغبتنا قوية في أن نسلك كما لو كنا نتحكم فيه بالفعل. وهكذا تكون الضرورة بالنسبة إلى اسپينوزا مثلا أعلى للمعرفة؛ فإذا تأملنا الأشياء من وجهة نظر المعرفة الكاملة بها؛ أي إذا تصورنا أن لدينا معرفة كاملة بأدق تفاصيل الطبيعة، فمن الواجب عندئذ أن يختفي الاعتقاد بحرية الإرادة، ويصبح كل شيء مرتبطا ارتباطا ضروريا بأسبابه المعروفة، ولكن الملاحظ من جهة أخرى أن موقفنا الإنساني ذاته لا يتيح لنا الوصول إلى هذه المعرفة الكاملة التي تغدو كل الحوادث في ظلها ضرورية، فمعرفتنا بطبيعتها ناقصة، ولا يمكن أن تستوعب كل شيء. وهذا الجهل الذي نعيش فيه - بدرجاته المتفاوتة - يجعل لفكرة حرية الإرادة مكانا في تفكيرنا على الدوام. وإذن فحرية الإرادة فكرة «واقعية». أما فكرة الضرورة فهي تعبير عن مثل علمي أعلى، والفكرتان تنتميان إلى منظورين مختلفين: منظور الحياة الفعلية من جهة، ومنظور المثل الأعلى للمعرفة العلمية من جهة أخرى. ويبدو أن اسپينوزا لم يكن يرمي إلا إلى استخلاص هذه النتيجة؛ أي إلى أن يقول: تستطيعون أن تعتقدوا أن إرادتكم حرة طالما أنكم تجهلون الأسباب الحقيقية للظواهر. وأنا لا أنتقدكم على ذلك، ولكن كل ما أريده منكم هو أن تعترفوا بأن المعرفة الكاملة لهذه الأسباب كفيلة بأن تقضي على اعتقادكم الحالي بحرية الإرادة، وبأن تأمل الأشياء من وجهة النظر الشاملة يؤدي حتما إلى سيادة فكرة الضرورة.
ومن المؤكد أن نفي حرية الإرادة، وتأكيد سيادة الضرورة - حتى على مستوى المثل الأعلى للمعرفة - يثير حتما السؤال عن إمكان المسئولية والجزاء، وبالتالي عن إمكان قيام الأخلاق ذاتها. وبالفعل نجد اثنين على الأقل من مراسلي اسپينوزا، وهما «أولدنبرج» و«بلينبرج»، يبديان نفس الاعتراض؛ إذ إن الجزاء الإلهي، من مثوبة وعقاب، يغدو أمرا لا معنى له إذا كانت جميع أفعالنا ترجع إلى الله بوصفه علة لها. وبعبارة أخرى: فإذا كانت الضرورة هي المتحكمة في جميع هذه الأفعال، فعندئذ تغدو جميع الآثام مباحة، وكل الشرور لها ما يبررها.
ويرد اسپينوزا على هذا الاعتراض، في الرسالة رقم 75، قائلا: إن الضرورة كما يقول بها لا تقضي على القوانين الإلهية ولا على القوانين البشرية، وسيظل للأخلاق دائما نفعها سواء اتخذت الأوامر فيها صورة القوانين أو الشريعة الإلهية، أم اتخذت أية صورة أخرى. وسواء نظرنا - كما يفعل العامة - إلى القواعد الأخلاقية على أنها تصدر عن الله بوصفه قاضيا، أو تأملناها من حيث هي صادرة عن ضرورة الطبيعة، فستظل في كل الأحوال نافعة لنا. كذلك فإن الشرور الناشئة عن الانفعالات والأفعال المنحرفة لا تكون أقل ضررا إذا ما فسرناها على أنها ناشئة بالضرورة عن هذه الانفعالات والأفعال، ويرد اسپينوزا، في صدد هذه الفكرة الأخيرة، على السؤال الذي يستنكر فيه المرء معاقبة الأشرار طالما أن ذنوبهم راجعة إلى طبيعتهم فحسب، فيقول: إذا كان عقابنا يقتصر على من يذنبون بمحض إرادتهم واختيارهم الحر، فلماذا نبيد الأفاعي السامة، التي تذنب بطبيعتها ولا تملك غير ذلك؟
11
وهكذا يكون عقاب المذنب راجعا إلى أنه يضر بالباقين، أو إلى أن طبيعته ذاتها تضر بالآخرين؛ فالعقاب - والمسئولية بوجه عام - يستهدف نفع المجتمع، وليس مجرد نتيجة للفعل ذاته؛ إذ إن الفعل نفسه، كما أكد من قبل مرارا، لا يكون شرا أو خطيئة إلا من المنظور البشري. أما في صورة الضرورة الأزلية فليس له أية قيمة كهذه. فليس ثمة شيء اسمه العصيان طالما أننا بصدد القوانين الضرورية للكون؛ أي إن أي فعل - بلغة اللاهوتيين - لا يمكن أن يكون مخالفا للإرادة الإلهية. ومثل هذا يقال على الثواب أو المكافأة؛ فالفضيلة الحقة لا تستحق مكافأة أو ثوابا؛ إذ إنها غاية في ذاتها، وثوابها - كما يؤكد في خاتمة البابين الثاني والخامس من «الأخلاق» - ينحصر في ممارستها، لا فيما تجلبه من النتائج. (3) الانفعالات ووسيلة التغلب عليها
يرسم اسپينوزا في مقدمة الباب الثالث من «الأخلاق» منهجا للبحث في الانفعالات ووسيلة التغلب عليها، يؤكد فيه أن خوضه لهذا الميدان البشري المحض لا يعني خروجه على مبدأ الحتمية المتحكمة في الطبيعة، بل إن خطأ جميع الباحثين من قبله كان ترددهم في أن يطبقوا على الإنسان نفس المبادئ التي تطبق على الطبيعة بوجه عام، ونظرتهم إلى الإنسان على أنه «استثناء» من المجرى العام للطبيعة، ووضعهم إياه في مركز مميز يعلو فيه سلوكه على سائر الظواهر الطبيعية، وكان من نتيجة ذلك أن ظلت طبيعة الإنسان مجهولة لديهم على الدوام، وسوف نقتبس من هذه المقدمة نصا طويلا، لأهميته الكبيرة في إيضاح منهج اسپينوزا في معالجة نظريته الأخلاقية. «إن معظم من يكتبون عن الانفعالات والسلوك البشري يبدو كأنهم يعالجون أمورا خارجة عن الطبيعة أكثر مما هم يعالجون ظواهر تسير وفقا للقوانين العامة للطبيعة. وهكذا يبدو أنهم يتصورون الإنسان كما لو كان في الطبيعة يحتل مركز دولة داخل الدولة؛ إذ إنهم يظنونه خارجا على نظام الطبيعة أكثر منه منقادا له، ويعتقدون أن لديه سيطرة مطلقة على أفعاله، وأنه لا يخضع إلا لذاته ... فلم يقم أحد، بقدر ما أعلم، بتعريف طبيعة الانفعالات وقوتها، وقدرة الذهن على مكافحتها وقمعها.
ولكن هذه هي خطتي؛ فلا شيء مما يحدث في الطبيعة يمكن أن يفسر بأنه انحراف عنها؛ إذ إن الطبيعة هي هي على الدوام، وهي دوما متماثلة في أحكامها وقدرتها على الفعل؛ أي إن قوانين الطبيعة وأوامرها، التي تحدث بها كل الأشياء وتتغير من صورة إلى أخرى، واحدة في كل شيء وكل زمان، بحيث يجب أن يوجد منهج واحد لفهم طبيعة كل الأشياء على إطلاقها؛ أعني من خلال القوانين والقواعد الشاملة للطبيعة. وهكذا فإن انفعالات الكراهية والغضب والحسد وما إليها، إذا ما نظر إليها في ذاتها، تسير وفقا لنفس هذه الضرورة والإحكام في الطبيعة، وهي ترتد إلى أسباب محددة تفهم من خلالها، ولها خصائص معلومة تستحق أن تعرف، شأنها شأن خصائص أي شيء آخر يؤدي تأمله في ذاته إلى إرضائنا؛ لذلك سأعالج طبيعة الانفعالات وقوتها وفقا لنفس المنهج الذي استخدمته من قبل في أبحاثي عن الله والعقل، وسوف أنظر إلى الأفعال والرغبات البشرية تماما كما لو كنت أبحث في خطوط ومسطحات وأحجام.»
هذه النظرة إلى الإنسان وانفعالاته على أنه جزء لا يتجزأ من الطبيعة، تسري عليه نفس القوانين التي تسري عليها، جعلت اسپينوزا يعالج الانفعالات على أنها ظواهر طبيعية خالصة، وينزع عنها كل ما كان يعزى إليها - على يد الفلاسفة التقليديين - من أسباب «استثنائية» متعلقة بمجال الإنسان وحده. وهكذا يضع للانفعال في نفس مقدمة الباب الثالث التعريف الآتي: «إن الانفعال الذي يسمى سلبية النفس، هو فكرة مختلطة أو غامضة، يؤكد بها الذهن، بشأن جسمه أو أي جزء منه، قدرة على الوجود
existendi vis
تزيد أو تنقص على ما كان لديه من قبل، ويتحكم وجودها في الذهن على نحو يجعله يفكر في شيء معين بدلا من شيء آخر.» ويزيد اسپينوزا هذا التعريف إيضاحا بعد قليل، فيقول: «أعني بالانفعال ما يطرأ على الجسم من تغييرات تزداد بها القوة الفعالة لهذا الجسم أو تنقص، وتنمى أو تعاق، وكذلك أفكار هذه التغييرات.»
12
مثل هذا التعريف للانفعال يستبعد تماما كل إشارة إلى قيم الخير أو الشر، بل يستبعد كل تفرقة «كيفية» بين انفعال وآخر، ويجعل أساس التمييز بين جميع الانفعالات هو ما يؤدي إليه كل منها من زيادة أو إنقاص قدرة الكائن على حفظ ذاته؛ أي المساعدة على استمراره في الوجود أو الحيلولة دون ذلك. وعلى أساس هذا المبدأ الرئيسي يبنى المذهب الأخلاقي كاملا، دون إدخال أية اعتبارات تقويمية أو كيفية فيه.
ولقد أتى اسپينوزا في الباب الرابع من «الأخلاق» بقائمة طويلة للانفعالات البشرية، معرفة كلها من خلال هذا المبدأ الأساسي: مبدأ زيادة قدرة الإنسان على حفظ ذاته والاستمرار في وجوده أو الإقلال من هذه القدرة. ولهذه القائمة طرافة كبيرة، وهي بلا شك تؤلف جانبا هاما من نظرية اسپينوزا الأخلاقية، وتدل بكل وضوح على أصالة هذه النظرية؛ إذ إن تعريفاتها العلمية الصارمة للانفعالات تختلف تماما عن تعريفات الفلاسفة الأخلاقيين التقليديين بكل ما تضمنته من معان تقويمية وتمييزات كيفية بين الانفعالات؛ فقائمة الانفعالات عند اسپينوزا تمثل المحاولة الوحيدة، في المذاهب الأخلاقية التقليدية، لرد جميع انفعالات الإنسان إلى أصل واحد ترتبط فيه طبيعة الإنسان بطبيعة كل كائن حي آخر، ولا ينظر إليها على أنها تحتل في الكون مركز «دولة داخل الدولة».
ومع ذلك، فرغم ما لهذه القائمة من أهمية في هذا الصدد، فلن نتحدث عن محتوياتها بالتفصيل، إذ إن هذه المحتويات يمكن أن تقرأ مباشرة، دون عناء كبير، في كتابات اسپينوزا ذاته.
13
وهي على أية حال لا تترك مجالا كبيرا للشارح؛ إذ إنها واضحة - نسبيا - بالقياس إلى كثير من الأجزاء الأخرى لفلسفته. ولما كنا في هذا البحث أحرص على عرض المبادئ العامة في فلسفة اسپينوزا منا على خوض تفاصيلها، فسوف نكتفي باختيار بضعة أمثلة لطريقة معالجته لمختلف الانفعالات من خلال مبدئه الرئيسي الذي أشرنا إليه من قبل.
فاسپينوزا يمهد لتعريف اللذة والألم بالقضية التالية: «إن كل ما يزيد أو ينقص، ويساعد أو يعوق القوة الفعالة في جسمنا، تزيد فكرته أو تنقص، وتساعد أو تعوق القدرة الفكرية في ذهننا.»
14
وفي ملحوظة هذه القضية يقول إن الذهن يمر، على هذا النحو، بحالات من الكمال الزائد أو الناقص، ومن هذا تستخلص طبيعة اللذة والألم؛ فالمقصود باللذة هو «حالة سلبية ينتقل فيها الذهن إلى كمال أعظم»، والمقصود بالألم هو «حالة سلبية ينتقل فيها الذهن إلى كمال أقل». وتتخذ هذه التعريفات في «تذييل» الباب الثالث صورة لفظية مختلفة إلى حد ما: «فاللذة هي انتقال الإنسان من كمال أقل إلى كمال أعظم» (التعريف الثاني)، و«الألم هو انتقال الإنسان من كمال أعظم إلى كمال أقل» (التعريف الثالث). وكون اللذة والألم «انتقالا» هو الدليل على أنهما انفعالان مرتبطان بافتقار الإنسان إلى الكمال؛ إذ إن من طبيعة الإنسان أن يمر بأحوال مختلفة في درجة كمالها، وفي عملية الانتقال ذاتها تكون اللذة أو يكون الألم.
وهو يضيف إلى هذين الانفعالين الرئيسيين انفعالا ثالثا هو «الرغبة»، الذي هو التعبير المباشر عن ميل الإنسان إلى حفظ وجوده وعن كونه واعيا بهذا الميل،
15
وهو يعرف الرغبة بأنها «ماهية الإنسان ذاته، بقدر ما تتصور على أنها مسيرة، عن طريق تأثر أو تعديل لها، إلى فعل شيء ما.» وهي تشمل كل مساعي الإنسان واندفاعته وشهواته ومطالبه التي يسعى بها إلى تحقيق شيء ما؛ ومن هنا كان ارتباطها الوثيق بالماهية الأساسية للإنسان.
16
ولا يعترف اسپينوزا بانفعالات أصيلة سوى هذه الانفعالات الثلاثة: اللذة والألم والرغبة. ومنها يستنبط جميع الانفعالات الأخرى، وعن طريقها يشرحها. مثال ذلك أن «الحب ليس إلا اللذة مصحوبة بفكرة علة خارجية، والكراهية ليست إلا الألم مصحوبا بفكرة علة خارجية. وهكذا نرى أن من يحب يسعى بالضرورة إلى تملك واستبقاء موضوع حبه، بينما يسعى من يكره إلى إبعاد موضوع كراهيته والقضاء عليه.»
17
ومن الحب والكراهية ذاتهما يستنبط اسپينوزا مجموعة كبيرة من تعريفاته للانفعالات: مثال ذلك أن «الاستحسان هو الحب تجاه من عمل خيرا لشخص آخر»، والاستهجان هو «الكراهية تجاه من عمل شرا لشخص آخر». كذلك تستمد مجموعة كاملة من التعريفات من فكرة الرغبة، مثال ذلك أن «الطموح هو الرغبة المفرطة في المجد».
18
وهكذا يستنبط اسپينوزا جميع تعريفاته للانفعالات عن طريق ردها إلى الانفعالات الثلاثة الرئيسية: اللذة والألم والرغبة. وهذه الانفعالات الرئيسية ترد ، كما بينا من قبل، إلى النزوع الأساسي (
Conatus ) للكائن إلى حفظ ذاته. ومن الواضح أن الفارق بين نظرة اسپينوزا هذه إلى علاقة الانفعالات بعضها ببعض، وبطبيعة الإنسان، وبين نظرة الفلاسفة التقليديين إليها، يساوي الفارق بين نظرة العالم ونظرة الجاهل إلى تركيب الأجسام الطبيعية مثلا؛ فغير المتخصص في العلم يعتقد أن بين تركيبات الأجسام اختلافات كيفية أساسية، بينما العالم يرد هذه الاختلافات الكيفية إلى فروق كمية، بحيث إن الأجسام التي تبدو في ظاهرها أشد ما تكون اختلافا، قد لا يكون بينها في حقيقة الأمر من فارق سوى اختلاف كمي بسيط في الوزن الجزيئي لمادتها. وكما أن العالم يبدأ بمجموعة محدودة من العناصر ويفسر من خلال تركيباتها المختلفة كل التكوينات المعقدة في الطبيعة، فكذلك يبدأ اسپينوزا بمجموعة محدودة من الانفعالات ويرد إليها عالم المشاعر النفسانية بكل تعقيداته. •••
وينبغي، قبل أن نتحدث عن وسيلة التغلب على الانفعالات عند اسپينوزا، أن نلاحظ أنه لا يحمل على الانفعالات بما هي كذلك؛ فهو لم يكن ضمن أولئك الفلاسفة الذين يحملون على كل انفعال ويعدونه مظهرا من مظاهر ضعف النفس البشرية. وهو على الأخص لم يكن يحمل على الانفعالات الإيجابية المرتبطة بتحقيق الإنسان لطبيعته، وبالتالي كان أبعد الفلاسفة عن الدعوة إلى الزهد أو إنكار الجسم ومطالبه. وكثيرا ما نسبت إلى اسپينوزا نزعات زاهدة، نظرا إلى الاعتقاد بأنه كان فيلسوفا صوفيا يدعو - بالمعنى الحرفي - إلى الحب الإلهي وإلى التخلي عن معرفة الحسيات والجزئيات في سبيل المعرفة الحدسية الصوفية. وهكذا نظر إليه على أنه لا يفترق، في اتجاهه الأخلاقي العام، عن التراث الأفلاطوني المسيحي في الفكر الغربي. ومثل هذا التفسير بعيد كل البعد عن اتجاه اسپينوزا الحقيقي، وإن يكن ظاهر لغته يوحي بهذا في كثير من المواضع.
ومن الأمور التي اتفق عليها مؤرخو حياة اسپينوزا أنه لم يحمل قط على التمتع باللذات الحسية، وكل ما حذر منه هو الإفراط فيها. أما في فلسفته النظرية فإن آراءه الحقيقية تظهر في قضايا مثل: «ليست اللذة في ذاتها شرا وإنما هي خير؛ أما الألم فهو في ذاته شر.»
19
ومثل: «إن المرح لا يكون مفرطا أبدا، وإنما هو دائما خير؛ أما الكآبة فهي دائما شر.»
20
وهو يؤكد الطبيعة البشرية بقوة، ويثني على الرغبات والانفعالات التي تتمشى مع هذه الطبيعة، وتساعد على حفظ جسم الإنسان، بينما يحمل على الآلام التي تعود بالضرر على جسم الإنسان. وهو يحمل على الأخلاق الزاهدة إذ يقول: «إن التفكير الخرافي ... يبدو أنه يعد كل ما يعود على الإنسان بالألم خيرا، وكل ما يجلب له اللذة شرا.»
21
ويؤكد أن السعي وراء اللذة التي تفيدنا بحق يؤدي إلى زيادة كمالنا، وبالتالي ازدياد مشاركتنا في الطبيعة الإلهية (أي، في هذا السياق، السير وفقا للنظام الكلي للطبيعة).
والحد الفاصل الذي يضعه بين الانفعالات التي ينبغي السعي إليها وتلك التي ينبغي تجنبها هو موافقة الأولى للعقل ومخالفة الثانية له. وليس العقل في هذه الحالة مبدأ مخالفا لقوة الإنسان الطبيعية أو نزوعه إلى حفظ وجوده، بل هو على العكس من ذلك قوة تتمشى تماما مع الطبيعة الحقيقية للإنسان وتوفق بينها وبين النظام الكلي للأشياء. فإذا دلنا العقل على أن انفعالا ما يؤدي إلى المساعدة على استمرار وجودنا وحفظ ذاتنا، فذلك انفعال ينبغي أن نسعى إليه. أما ما يعوق وجودنا فمن الواجب تجنبه بأي ثمن.
ويعترف اسپينوزا بأن هذا التمييز ليس أمرا هينا؛ ذلك لن الانفعالات قوية لها سيطرتها الخاصة على الإنسان، ويصل الأمر في ذلك إلى حد أن الرغبة في شيء مستحب وحاضر قد تقهر الرغبة الناشئة عن معرفة الخير والشر فيما يتعلق بشيء مقبل.
22
وفي قوة الانفعالات هذه تكون «عبودية الإنسان»، ومع ذلك فإذا كان الانفعال قويا فمن الممكن قهره بانفعال آخر أقوى منه، بل إننا نستطيع أن ننظر إلى معرفة الخير والشر، من حيث هي وسيلة لقهر الانفعالات، على أنها هي ذاتها «انفعال اللذة والألم، بقدر ما نكون على وعي بهما.»
23
وهكذا يصل اسپينوزا إلى أن «المعرفة الصحيحة للخير والشر لا يمكنها أن تقهر أي انفعال نظرا إلى كونها صحيحة، وإنما بقدر ما تعد انفعالا فحسب.»
24
وهذا يرسم بوضوح طريقة التغلب على الانفعالات عند اسپينوزا؛ فالانفعال لا يعود طاغيا بمجرد أن نكون عنه فكرة واضحة متميزة.
25 «وتزداد سيطرة العقل على الانفعالات، كما يقل خضوعه لها، بقدر ما يفهم الأشياء كلها على أنها ضرورة.»
26
ومن شأن هذا التفكير في الانفعالات أن يقضي على طابعها السلبي، الذي تكون فيه انفعالات هوجاء مرتبطة بأفكار غامضة غير كافية، ويحيلها إلى انفعالات مبنية على أفكار واضحة متميزة، ويفصل ما بين الانفعال وسببه الخارجي المباشر، ليربطه بأفكار عقلية صحيحة، وبذلك تتخلص النفس من عبودية الانفعال عن طريق تأمله في ضوء العقل الباهر.
27
وهكذا يبدو أن اسپينوزا يوافق على رأي سقراط القائل إن الفضيلة علم والرذيلة جهل. ولكنه يعرض الفكرة على طريقته الخاصة؛ فللمعرفة أنواع ثلاثة هي الظن والاعتقاد والمعرفة الواضحة. الأولى أصل الانفعالات المخالفة للعقل، والثانية أصل الرغبات الطيبة، والثالثة أصل الحب الحقيقي. وهكذا يصحح اسپينوزا قول سقراط بحيث يصبح: الرذيلة معرفة باطلة أو ظن معرض للخطأ، والفضيلة معرفة صحيحة.
28
وليس معنى ذلك أن يتخلى الإنسان عن نفعه في سبيل التحليل العقلي المنطقي لكل الانفعالات، فالتفكير والمعرفة لا يتعارضان مع تحقيق الإنسان لنفعه، بل إنهما في الواقع يساعدان عليه؛ فهو يعارض القائلين بأن سعي الإنسان إلى تحقيق نفعه الخاص رذيلة، ويثبت في مجموعة من القضايا أن سعي الإنسان إلى نفعه الخاص، إذا استرشد بالعقل، يكون هو ذاته قوام الفضيلة، وهكذا يتسلسل تفكيره، في الباب الرابع، على النحو الآتي؛ ففي القضية رقم 19 يقول: إن كل شخص يرغب بطبيعته فيما يراه خيرا ويحجم عما يراه شرا. وفي القضية 20، يرى أن فضيلة الإنسان تكون في سعيه إلى نفعه؛ أي حفظ كيانه. ومن المحال، كما يقول في القضية 22، أن نتصور فضيلة أسبق من محاولة الإنسان حفظ وجوده. ثم يشرح دور العقل والفهم في القضية 23، فيقول: إن الإنسان لا يتصرف وفقا لفضيلته إلا إذا كان يفهم فعله. ويلخص رأيه في القضية 24 بقوله: إن السلوك وفقا للفضيلة يعادل تماما سلوك المرء وعيشه وحفظه لوجوده (وهي كلها ألفاظ مترادفة) وفقا لما يمليه العقل، وعلى أساس مبدأ السعي إلى ما فيه نفعه الخاص. ويعبر عن ذلك تعبيرا أكثر إيجازا في القضية 31 فيقول: إن «الشيء يكون خيرا بالضرورة بقدر ما يكون منسجما مع طبيعتنا.»
وطالما أن الفضيلة ترتبط بالفهم، فمن الطبيعي أن يزداد المرء اقترابا منها كلما اتسع نطاق فهمه للأشياء، حتى إذا ما توصل إلى تأمل النظام الكلي للأشياء في ضرورته الشاملة حقق بذلك أسمى ما يمكن أن يصل إليه الإنسان من الفضائل، وأمكنه التغلب تماما على انفعالاته عن طريق ربطها بالضرورة الكونية الشاملة، ويعبر اسپينوزا عن هذه الفكرة بأسلوب مدرسي فيقول: إن «أسمى خير للإنسان هو معرفة الله، وأسمى فضيلة للذهن هي أن يعرف الله.»
29
ويظهر المعنى الحقيقي لمثل هذه التعبيرات في قوله: «إن من يدرك بحق أن جميع الأشياء تتلو من ضرورة الطبيعة الإلهية، وتحدث وفقا لقوانين الطبيعة وقواعدها الأزلية، لن يجد شيئا يستحق الكراهية أو الازدراء أو الاحتقار، ولن يرثي لشيء، وإنما سيحاول، على قدر ما تسمح به فضيلة البشر، أن يسلك سلوكا طيبا، وينعم، كما يقول المثل.»
30
ففي الجزء الأول من القضية يتحدث عن ضرورة الطبيعة الإلهية، ويوضح ما يقصده منها حين يلحقها بالكلام عن قوانين الطبيعة وقواعدها الأزلية. وهكذا يكون التعبيران في هذا الصدد مترادفين عنده. وعلى أساس هذا الترادف يمكن أن ندرك بوضوح الدلالة الحقيقية للقضية الآتية، ذات المظهر الصوفي: «إن من يفهم ذاته وانفعالاته بوضوح وتميز، يحب الله، ويزداد هذا الحب بقدر ما يزداد فهما لذاته وانفعالاته.»
31
فإذا استبدلنا بتعبير الحب الإلهي، التعبير المرادف له عند اسپينوزا، وهو فهم النظام الكلي أو الضروري للكون، أصبح المعنى الواضح هو أن من يفهم ذاته وانفعالاته يفهم النظام الكلي للأشياء والضرورة الكونية، وأن الإنسان يغدو أقدر على هذا الفهم الأخير كلما ازداد معرفة بنفسه وبانفعالاته؛ وعلى هذا الأساس أيضا يفسر قول اسپينوزا (في القضية رقم 18 من الباب الخامس) إن أحدا لا يمكن أن يكره الله: ذلك لأن معرفة النظام الشامل للكون، وطبيعة الضرورة السائدة فيه، لا تترك أي مجال لمشاعر جزئية محدودة كالكراهية، وكل ما نشعر به إذا توصلنا إلى هذه المعرفة هو إدراك ارتباطنا الوثيق بهذا النظام الشامل، ومثل هذا الإدراك، إذا جاز أن يقترن بانفعال. فلا بد أن يكون ذلك انفعال الحب لا الكراهية.
وفي رأينا أن الحل الذي أتى به اسپينوزا لمشكلة التغلب على الانفعالات، لا عن طريق محاولة التخلص من هذه الانفعالات بطريق مباشر، وإنما عن طريق معرفتها والتفكير العقلي فيها وربطها بالسياق العام لظروف الإنسان الخارجية والباطنة - هذا الحل ينطوي على بعض أوجه الشبه مع فكرة التحليل النفسي (وإن لم يكن لنا أن نمضي في التماس أوجه الشبه هذه أبعد مما ينبغي)؛ ففي التحليل النفسي بدوره يقال بإمكان التخلص من المشكلات النفسية عن طريق الخروج بها من اللاشعور إلى عالم الشعور، وعن طريق الإدراك الواعي لها. والعنصر المشترك بين الطرفين هو أن اختلال التوازن النفسي يمكن أن يستمر طالما أن المشكلة لا تأخذ طريقها إلى ذهننا الواعي، وأن طريقة إعادة التوازن السليم هي إدراك هذا الاختلال عن وعي ووضعه في سياق الطبيعي، سواء عن طريق المعرفة العقلية، في الحالة الأولى، أو عن طريق مجرد الوعي به في الحالة الثانية؛ ففي كلتا الحالتين يكفي لتخليص الإنسان من هذا الاختلال إلقاء ضوء عليه، وإخراجه من الظلمة التي كان غارقا فيها أثناء تعرضنا التلقائي له، ونقله بالتفكير الواعي من مجاله الضيق ومن الظروف المحددة الغامضة التي كان يمارس تأثيره فيها. •••
وأخيرا فلا بد من إشارة خاصة إلى النتائج الاجتماعية الواضحة التي يستخلصها اسپينوزا من نظريته في قهر الانفعالات. هذه النتائج تلخص في أن الانفعالات هي أساس الشقاق بين الناس، وأن العقل أساس التقريب بينهم. فإذا كان العقل هو وسيلتنا إلى قهر الانفعالات، فلا بد أن سعي الإنسان إلى التغلب على انفعالاته يؤدي هو ذاته إلى تأكيد المعاني الاجتماعية في نفس الإنسان.
وتتسم آراء اسپينوزا في هذا الصدد بطابع مزدوج، يرتبط بطابع مزدوج مناظر في الحل الذي وضعه للتغلب على الانفعالات؛ فهو من جهة يقول إن الانفعال لا يقهره إلا انفعال آخر أقوى منه، ومن جهة أخرى يقول إن التفكير في الانفعالات وربطها بالنظام الضروري للأشياء هو الكفيل بالقضاء عليها. وصحيح أنه يربط بين هاتين الوسيلتين على نحو ما حين يقول، في نص سبق اقتبسناه: إن معرفة الخير والشر هي انفعال اللذة والألم، بقدر ما نكون على وعي بهما، ولكن لا شك، رغم ذلك، في أن هناك نوعا من التمييز بين الوسيلتين؛ إذ إن الوسيلة الأولى، وهي استخدام انفعال أقوى، تستبقي على أية حال نوعا آخر من الانفعال. أما الوسيلة الأخرى فمن الممكن، إذا مضينا إلى أبعد مراحلها، أن تؤدي إلى حالة لا يعود فيها مجال لأي انفعال، ويتسم فيها كل شيء بصبغة الضرورة المطلقة، ونستطيع أن نعد الوسيلة الأولى مرحلة ممهدة للأخرى؛ أي إن التغلب على الانفعال يمكن أن يكون بانفعال آخر أقوى منه، وهذه هي الوسيلة الأسهل والأقرب مثالا، ويمكن أن يتم عن طريق الفهم الكامل لموقع كل حادث في النظام الكلي للأشياء، وهي أصعب الوسيلتين، وأبعدهما عن متناول الناس.
وسواء أكانت وسيلتنا إلى قهر الانفعالات هي الأولى أم الثانية، فإننا في كلتا الحالتين نقضي على أقوى سبب للشقاق بين الناس إذ نقضي على الانفعالات. «فبقدر ما يكون الناس نهبا للانفعالات السلبية، لا يمكن أن يقال، من هذه الناحية، إنهم منسجمون بطبيعتهم.»
32
فإذا اتبع الإنسان الوسيلة الأولى، وهي البحث عن انفعال أقوى ، فسوف يؤدي ذلك حتما إلى التقريب بينه وبين بقية الناس؛ إذ إن انفعال الخوف من أن يلحق الإنسان، إذا سعى إلى الإضرار بغيره، ضرر يفوق ما يلحق الآخرين، يؤدي إلى تنازله عن رغبته الغريزية في تحقيق النفع لنفسه على حساب الآخرين. «وعلى أساس هذا القانون يمكن قيام المجتمع، طالما احتفظ هذا المجتمع لنفسه بالحق الذي يملكه كل شخص في الانتقام لنفسه من الأذى، والحكم بنفسه على ما هو خير وما هو شر، وطالما أن للمجتمع القدرة على وضع قاعدة عامة للسلوك، وإصدار قوانين يدعمها التهديد، لا العقل الذي يعجز عن قهر الانفعال. مثل هذا المجتمع الذي يبنى على قوانين وعلى قوة قادرة على حفظه يسمى بالدولة، ومن يعيشون في حمايته يسمون رعايا.»
33
ولكن إذا كان اسپينوزا قد أكد في النص السابق عجز العقل عن قهر الانفعال، فلنذكر - كما أوضح في ملحوظة القضية رقم 17 من الباب نفسه - أنه يعالج المسألة في هذا الباب من وجهة نظر الضعف البشري وعبودية الإنسان، وأن هناك وجهة نظر أخرى على مستوى أرفع، هي وجهة نظر «تحرر الإنسان»؛ أعني تلك التي يكون العقل فيها قادرا بالفعل على تخليص الإنسان من انفعالاته بالتفكير فيها، وفي هذه الحالة أيضا تؤدي محاولة الإنسان قهر انفعالاته إلى التقريب بين الناس وتأكيد القيم الاجتماعية في النفس البشرية، ولكن على مستوى أعلى من مستوى الخوف المتبادل الذي أدت إليه الوسيلة الأولى.
فالعقل هو أساس الاتفاق بين الناس «وبقدر ما يعيش الناس متبعين العقل، تتفق طبيعتهم دائما بالضرورة.»
34
وكلما اتسع نطاق ممارسة المرء لعقله، ومعرفته لطبيعة الأشياء، زالت الحواجز بينه وبين الآخرين، بحيث إن «ما يرغبه الشخص الذي يتبع الفضيلة لنفسه، يرغبه أيضا لغيره، وتقوى رغبته هذه بقدر ما تزداد معرفته لله.»
35
وهكذا فإن من يسترشد في حياته بالعقل، يكون مصدر خير ونفع دائم لغيره من الناس؛ «فليس أنفع للإنسان في الطبيعة من إنسان يعيش متبعا للعقل»؛
36
ذلك لأن سعي الإنسان إلى نفعه الخاص، إذا استرشد بالعقل، يغدو في الوقت ذاته سعيا إلى نفع الآخرين.
ويأتي اسپينوزا في هذا الصدد بفكرة هامة في نظريته الأخلاقية، هي القائلة بأن الخير الحقيقي شيء لا يقتسم ولا يوزع، ولا يتأثر بكثرة من يشاركون فيه، بل إن من الممكن أن يكون لكل شخص فيه أكبر نصيب؛ ذلك لأن هذا الخير لو كان مالا أو منصبا أو نفوذا، لأدى التزاحم عليه إلى تفتيته على الدوام، بحيث ينبغي أن يشتد عليه التنافس والتشاحن بين الناس، طالما أن مقدار هذه الغايات محدود لا يتسع للجميع. أما حين يغدو هذا الخير هو المعرفة، فإنه يصبح متاحا للجميع، ولا يؤدي ازدياد عدد المشاركين فيه إلى إنقاصه، بل إن الأمر على العكس من ذلك؛ إذ إنه كلما ازداد الناس طلبا للمعرفة، اتسع نطاق هذه المعرفة ذاتها وترامت آفاقها. وهذا هو تفسير قضية اسپينوزا القائلة: «إن الخير الأسمى لمن يتبعون الفضيلة مشترك بين الجميع، وبالتالي يمكن أن يتمتع به الجميع على قدم المساواة.»
37
وفي ملحوظة هذه القضية ذاتها يقول: «... وهذا يستتبع - لا بطريقة عرضية، ولكن بناء على طبيعة العقل ذاتها - أن أسمى خير للإنسان مشترك بين الجميع، بقدر ما يستمد من ماهية الإنسان ذاتها، كما تعرف من خلال العقل.»
ولا يكف اسپينوزا عن الإعراب عن تمجيده للحياة الاجتماعية في ظل العقل، وكأنه يرد، بهذا التأكيد، على أولئك الذين دأبوا على الربط بين الفردية والتفلسف، ولم يتصوروا إمكان قيام اجتماع بين العقول إلا على أساس تنازل هذه العقول عن جزء من امتيازها وتفوقها. «... لا شيء أنفع للإنسان من الإنسان؛ أجل، فليس في الوسع الناس أن يتمنوا شيئا كفيلا بحفظ وجودهم، أعظم من أن يتفق الجميع على أن تكون أذهان الجميع وأجسادهم ذهنا واحدا وجسما واحدا، إن جاز هذا التعبير، وأن يحاول الجميع بصوت واحد، بقدر استطاعتهم، أن يحفظوا وجودهم، ويسعوا جميعا إلى ما يفيدهم جميعا. وهكذا فإن الناس الذين يحكمهم العقل - أي الذين يسعون إلى ما هو مفيد لأنفسهم وفقا للعقل - لا يتمنون لأنفسهم شيئا لا يتمنونه أيضا لبقية البشر، وبالتالي يتصف سلوكهم بالعدالة والإخلاص والشرف.»
38
وإذا كان اسپينوزا في النص السابق يرد على أولئك الذين يؤكدون أن العقل يفقد امتيازه إذا فقد عزلته، ويضع مقابل ذلك غاية مضادة لمجتمع الأحرار من الناس، هي «عقل واحد وجسم واحد»، فإنه، في النص التالي، يكاد يرد مقدما على أولئك الذين سيصفونه هو ذاته، فيما بعد، بأن ميوله أشبه بميول الراهب المنعزل الزاهد في متاع الدنيا، وهي أوصاف يرددها كثير من شراح اسپينوزا التقليديون؛ فالأساس الذي يجمع به العقل بين الناس ليس هو الزهد في كل ما يتصل بالطبيعة الأصلية للإنسان، وإنما هو تحقيق كل جوانب هذه الطبيعة، بإرشاد العقل، على أكمل نحو. «إن ما قلناه ليثبت بالتجربة بوضوح يجعل الناس كلهم يجمعون تقريبا على القول: إن الإنسان إله لأخيه الإنسان.
39
ورغم ذلك فنادرا ما يحدث أن يطيع الناس العقل؛ إذ إنهم يسيرون في حياتهم وفق نظام قوامه الحسد والشقاق المتبادل. ومع ذلك لا يكاد يكون في استطاعتهم أن يحيوا حياة منعزلة، بحيث إن تعريف الإنسان بأنه حيوان اجتماعي كان يلقى دائما موافقة الجميع، بل إن نفع الحياة الاجتماعية للإنسان يفوق ضررها إلى حد بعيد. فليضحك الساخرون ملء أشداقهم على أحوال البشر، وليلعنها اللاهوتيون، وليمدح كارهو الإنسان، قدر استطاعتهم، حياة البداوة الجلفة، وليكيلوا الاحتقار للإنسان والمدح للبهائم؛ فسوف يجد هؤلاء، بعد هذا كله، أن في وسع الناس أن يفوا بحاجاتهم على نحو أيسر كثيرا بالتعاون المتبادل، وأن الوسيلة الوحيدة لنجاتهم من الأخطار المحيقة بهم من كل جانب هي توحيد قواهم.»
40
ولعلنا لا نكون مسرفين كثيرا في التفسير إذا قلنا: إن اسپينوزا كان، في ربطه بين التعاون المتبادل بين الناس وبين زيادة تيسير الوفاء بحاجاتهم، يدافع في الوقت ذاته عن الحضارة الصناعية الحديثة التي شهد أول البوادر الممهدة لها، وينتقد مقدما أولئك الذين يندبون أيام عزلة الإنسان واكتفائه بذاته، ويجعل من نفسه مدافعا عن مبدأ تقسيم العمل، مؤكدا - كما سنرى أيضا فيما بعد - أنه أقدر على تحقيق كمال الإنسان بكثير من حياة «البداوة الجلفة». (4) الجوانب السلبية والإيجابية في النظرية الأخلاقية
من الطبيعي أن تثار مشكلة السلبية والإيجابية في صدد كل مذهب أخلاقي يدعو إلى قهر الانفعالات عن طريق العقل؛ فمنذ الرواقيين أصبح الاعتراض على مثل هذه المذاهب بالسلبية أمرا مألوفا. أليست تدعو الإنسان إلى أن يركز طاقته في كبت انفعالاته وقهرها، ويستخدم عقله في السيطرة على ذاته، بدلا من أن يستغل هذه الطاقة في التغلب على العوامل الخارجية المؤدية إلى هذه الانفعالات، أو يستخدم عقله في السيطرة على العالم المحيط به؟ إن مثل هذه المذاهب، ابتداء من الرواقية حتى اسپينوزا، تبدو صالحة لأناس يعجزون عن تغيير العالم المحيط بهم فيركزون جهودهم في تغيير أنفسهم، ويجعلون مسرح نشاطهم هو عالمهم الباطن؛ لأنهم لا يملكون أن يسيطروا على أي عالم سواه.
وفي نظرية اسپينوزا في قهر الانفعالات كثير من العناصر التي تشجع على مثل هذا النقد. وهو يتحدث أحيانا بلهجة توحي مباشرة بالسلبية، كما في قوله، في الرسالة رقم 30 التي يتحدث فيها إلى أولدنبرج عن الحرب الدائرة بين هولندا وإنجلترا، وهي الحرب التي لا يوافق عليها وعلى ما يراق فيها من الدماء: «أما أنا فلا تثير في هذه القلاقل ضحكا ولا بكاء؛ وإنما تدفعني إلى التفلسف وإمعان النظر في طبيعة البشر؛ إذ لست أعتقد أن من حقي أن أسخر من الطبيعة، أو أن أشكو منها، وذلك كلما فكرت في أن الناس، شأنهم شأن سائر الموجودات، ليسوا إلا جزءا من الطبيعة، وفي أنني أجهل كيف تتفق هذه الأجزاء مع الكل وتتمشى معه، وكيف يرتبط كل جزء بالباقين ... فأنا الآن أترك لكل الحرية في أن يحيا وفقا لطبيعته ...»
هذه دون شك نظرية سلبية إلى ظاهرة يعترف، هو ذاته، بأنها شر، وهي الحرب، ولكنه يعزوها إلى ضعف كامن في الناس لا يمكن إحداث تغيير فيه. والنظرة السلبية ترتبط - كما هو واضح من هذا النص - بتأمل الأمور في طبيعتها الضرورية؛ أي من منظور الأزل. فلا بد له، لكي يترفع عن صغائر الناس ومظاهر ضعفهم، من أن يربط كل حادث بالمجرى الضروري الأزلي للطبيعة. وهذا أمر مستساغ في لحظة التحليل والتفلسف، ولكنه إذا أصبح يعبر عن الموقف الوحيد للفيلسوف، فإنه يؤدي إلى إنكاره لوجوده الإنساني، وكفه عن المشاركة العملية في الشئون اليومية لبقية الناس. ومن الواضح أن حياتنا العملية تقتضي نوعا من التخلي المتعمد - مؤقتا - عن وجهة النظر الأزلية والاهتمام من آن لآخر بجزئية الحوادث، وبعالم الانفعالات بما فيه من قيم بشرية هي حقا لا تنتمي إلى طبيعة الأشياء، ولكنها قطعا تعبر عن مشكلات أصيلة في حياة الإنسان.
ومن جهة أخرى، فصحيح أن التعقل وفهم الأسباب خطوة كبرى نحو التخلص من مشاكلنا، ولكنه ليس هو الخطوة الأخيرة؛ فالفهم والمعرفة ليسا كافيين، بل إن في الاقتصار عليهما نوعا من السلبية، ومن الواجب أن تكملهما محاولة للتغيير الإيجابي للظروف الخارجية؛ محاولة تنتمي إلى ميدان «الفعل»، لا إلى ميدان العقل وحده.
ونستطيع أن نقول، رغم ذلك كله: إن تهمة السلبية لا تنطبق على فلسفة اسپينوزا الأخلاقية كل الانطباق؛ ففي هذه الفلسفة عناصر إيجابية لا تنكر؛ فهو يفترق عن كثير من المذاهب الداعية إلى قعر الانفعالات بالعقل في أن هذه الدعوة لم تكن قائمة عنده على أساس من الزهد، بل إنه يؤكد على نحو لا يتضمن أي لبس أن من واجب الإنسان أن يمارس كل عناصر طبيعته بقدر ما يستطيع. ولنلاحظ في هذا الصدد أن مبدأه الأساسي الذي فسر من خلاله كل مظاهر سلوك الإنسان، وهو مبدأ الاستمرار في الوجود، هو في ذاته مبدأ للفاعلية، بينما هو يعد كل ما يعوق فعل الإنسان شرا. وفضلا عن ذلك فقد أكد اسپينوزا أهمية سعي الإنسان إلى نفعه الخاص، ولم ينكر أي عنصر من عناصر الحياة الحسية أو يحمل عليه إلا إذا أصبحت له الغلبة على العقل، وهو أمر لا تنكره أية فلسفة مبنية على مبدأ الفاعلية المطلقة للإنسان. وأخيرا فقد أكد القيم الاجتماعية، كما رأينا من قبل، على نحو لا يقبل أي جدال، وربط بصورة واضحة بين إنهاض الإنسان لحياته وبين اتصاله الاجتماعي بالآخرين، وفي ذلك قطعا عنصر إيجابي واضح.
على أن هذا العنصر الإيجابي، الذي يتمثل في تأكيد القيم الاجتماعية، يظل مع ذلك - كما لاحظ «دودان
Daudin » - معتمدا على «البادرة الشخصية»
initiative personnelle ؛ ففي مذهبه، الذي تكون فيه الطبيعة سائدة في مجراها الحتمي غير عابثة بالإنسان أو مكترثة بأهدافه، لا يكون للأخلاق بأسرها أي معنى إلا من حيث تهيب بالبادرة الشخصية، التي يتضامن الناس على أساسها في المجتمع.
41
وبعبارة أخرى: فالتضامن الاجتماعي في هذه الحالة يتخذ قوته الدافعة من الفرد ذاته، ولا بد أن يبنى على نظام ذاتي فردي في آخر الأمر.
ومثل هذا النظام الذاتي، المستمد من وصول العقل البشري إلى أرفع مستوى يمكنه أن يبلغه، لا يتوافر إلا للقليلين. وهكذا يضطر المرء إلى الاعتراف بأن الأخلاق عند اسپينوزا تتجه إلى القلة لا إلى الكثرة، وأنه - رغم اعترافه الكامل بطبيعة الإنسان - يفرض للأخلاقية شروطا لا يصل إليها إلا القليلون.
وقد كانت هذه المشكلة موضوعا للسؤال الذي ختم به «سيلڨان زاك» كتابه عن «الأخلاق عند اسپينوزا»، وأعني به: هل كان مذهب اسپينوزا الأخلاقي ديمقراطيا أم أرستقراطيا؟ فهناك قطعا نزعة ديمقراطية تتمثل في حملته على السلطة الدينية، أيا كان مظهرها، وفي تأكيده أن قلب الإنسان وحده، لا أية سلطة خارجية، كفيل بأن يرشده إلى الطريق القويم، ولكن كانت هناك أيضا نزعة أرستقراطية واضحة، تظهر في تأكيده أن وسيلة الخلاص هي المعرفة العقلية، التي لا تتوافر إلا للقليلين.
42
وهكذا لا يكاد المرء يجد مفرا من القول إن مذهب اسپينوزا الأخلاقي يتضمن نوعا من التمييز بين أخلاق للسادة وأخلاق للعبيد. ولو تأملنا الأوصاف التي تحدث بها اسپينوزا عن أخلاق المذاهب اللاهوتية، بما فيها من مكافأة وثواب وعقاب ووعد ووعيد، وبما فيها من استغلال واضح لمشاعر الناس وتملق لانفعالاتهم، لوجدنا هذه الأوصاف تعبر، عنده، عن فكرة «أخلاق العبيد» بكل وضوح. وفي الوقت الذي نراه يدعو فيه عامة الناس إلى الأخذ بهذه الأخلاق؛ لأنها هي التي تصلح لهم وتكفل إرشادهم إلى الطريق السليم، نراه لا يكف عن أن يؤكد أنه وجد «الخلاص» بطريق آخر، ويضع لنفسه نوعا من «الأمر المطلق» الذي لا يمارس فيه الخير من أجل ما قد يجلبه من نتائج، بل لأن «مكافأة الفضيلة هي الفضيلة ذاتها». وهو يعترف بعجز العامة عن التفكير الكفيل بربط الانفعالات بالمجرى الضروري للطبيعة، فلتكن للعامة إذن أخلاقها الخاصة، التي لا يتخلص فيها الإنسان من الانفعال إلا بانفعال آخر أقوى منه. أما الخاصة، أو «السادة»، فوسيلتها إلى الفضيلة هي المعرفة، وسعادتها في ممارسة العقل، وخلاصها في الاعتراف بالضرورة،
43
وتلك بالطبع مرتبة لا يصل إليها إلا القليلون؛ إذ إن أرفع الأشياء - كما قال في العبارة التي ختم بها كتاب «الأخلاق» - هي أصعبها مثلما أنها أندرها.
وهكذا مضت بنا هذه المناقشة - ذات الطابع الديالكتيكي الواضح - لمشكلة السلبية والإيجابية عند اسپينوزا، وبالتالي لمشكلة الأرستقراطية والديمقراطية في هذه الأخلاق، من تأكيد إلى تأكيد مضاد على مستوى أرفع، وفي اعتقادنا أن الرأي السابق ليس هو - رغم المظاهر البادية - الكلمة الأخيرة في هذا الموضوع. فما زال من الممكن القول إن المثل الأعلى الذي وضعه اسپينوزا للأخلاق، وهو سيادة العقل، ليس أرستقراطيا من جميع الأوجه، وبالتالي ليس غاية سلبية بالنسبة إلى الجزء الأكبر من البشر؛ ذلك لأن للعقل الرفيع هذه الميزة، وهي أنه إذا كان من الوجهة العملية لا يتوافر إلا للقليلين، فإنه من الوجهة النظرية يمكن أن يتوافر للجميع، بل إن المعرفة هي - نظريا - أقرب المثل العليا إلى متناول الجميع؛ فهي، كما قلنا، ليست كالمال ينقص كلما ازداد عدد المشاركين فيه، وإنما هي الغاية الوحيدة التي يمكن أن يشارك فيها الجميع على السواء، وتزداد آفاقها اتساعا كلما اتسع نطاق المشاركة فيها، وصحيح أن هذا من الوجهة العملية أمر غير متحقق؛ لأن المعرفة بالفعل لا تتوافر إلا للقلة النادرة، ولكن المثل الأعلى للمعرفة هو، من حيث المبدأ، أسهل المثل العليا منالا، مثلما أنه من الوجهة العملية أصعبها بلوغا، وعلى أساس هذه الطبيعة الخاصة لمثال المعرفة يمكننا أن نحل المشكلة بالجمع بين طرفيها في هذا المركب الأعلى.
الفصل السابع
الفلسفة السياسية
لا بد من الاعتراف، في بداية هذا الفصل القصير ، بأن البحث التفصيلي في النظريات السياسية، من حيث هو ينتمي إلى مجال العلوم السياسية، يخرج بنا عن النطاق الفلسفي البحت الذي حددناه لكتاب كهذا؛ ومن هنا فإنا سنقتصر في هذا الفصل على معالجة أعم النواحي في فلسفة اسپينوزا السياسية، وهي النواحي المتصلة بموقفه الفكري العام. أما البحث في تفصيلات مذهبه السياسي فهو بطبيعته خارج عن حدود هذا الكتاب. (1) أهمية الحياة الاجتماعية ووظيفة الدولة
يؤدي البحث في النظرية الأخلاقية عند اسپينوزا، كما رأينا عند نهاية الفصل السابق، إلى تأكيد أهمية الحياة الاجتماعية؛ فمذهبه الأخلاقي النظري ينتهي إلى تمجيد الحياة الاجتماعية من حيث إنها هي التي تحقق كمال الشخصية الأخلاقية الفردية، وتكفل الحرية الحقيقية للإنسان. وهو ينقلنا من مجال النظرية الأخلاقية إلى مجال الفلسفة السياسية - أثناء عرض نظريته في الانفعالات - فيقول أولا: «إن كل ما يساعد على حياة الإنسان الاجتماعية، أو يؤدي بالناس إلى أن يحيوا سويا في وئام، هو خير، بينما كل ما يؤدي إلى الشقاق في الدولة شر.»
1
ثم يربط بين حرية الإنسان وبين حياته المدنية فيقول: «إن من يسترشد بالعقل يكون أكثر تحررا في دولة يعيش فيها في ظل نظام عام من القانون، منه في عزلة يكون فيها مستقلا.»
2
وبعبارة أخرى: فما يبدو أنه قيود للحياة المدنية في ظل القانون، هو في واقع الأمر تحرر يفوق كثيرا ذلك التحرر الذي يتوهم البعض أنه يتحقق في حالة العزلة والتخلص من النظم والقيود.
وقد أشرنا إشارة موجزة، في الفصل الأخلاقي، إلى دفاع اسپينوزا عن مبدأ تقسيم العمل وحملته على حياة البداوة بما فيها من استقلال مزعوم يعجز المرء فيه عن تحقيق أهم مطالبه، وبالتالي عن تنمية شخصيته على الوجه الأكمل. وقد أورد اسپينوزا في كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» آراء صريحة في هذا الموضوع، تقف في مصاف النظريات الحديثة في علم الاجتماع من حيث تأكيد أهمية تقسيم العمل الاجتماعي بالنسبة إلى حياة الإنسان الحديث: «إن تكوين المجتمع لا يفيد في الأغراض الدفاعية فحسب، وإنما يفيد أيضا في أمور عديدة، بل إن له ضرورة مطلقة من حيث إنه يتيح تقسيم العمل. ولو لم يقدم الناس مساعدة متبادلة بعضهم إلى البعض، لما توافرت لأحد القدرة أو الوقت اللازم لتزويد نفسه بما يلزم لعيشه ولبقائه؛ إذ ليس كل الناس صالحين بدرجة متساوية لجميع الأعمال، وليس في وسع أحد أن يتولى بنفسه إعداد كل ما هو في حاجة إليه. وأكرر القول إن القوة والوقت يقصران إذا ما تعين على كل شخص أن يحرث ويبذر ويحصد ويطحن القمح ويطهو وينسج ويطرز ... ناهيك بالعلوم والفنون التي لها بدورها ضرورة مطلقة لكمال الطبيعة البشرية وسعادتها. وإنا لنرى أن حياة الناس الذين يعيشون في حالة الهمجية الجهولة هي حياة بائسة أشبه بحياة الحيوان، ومع ذلك فهم لا يستطيعون الحصول على ضروراتهم الشحيحة التافهة دون مساعدة بعضهم لبعض إلى حد ما.»
3
ولا بد في كل مجتمع بشري من قانون ينظم العلاقات بين الناس؛ إذ لو كان العقل وحده - كما يقول اسپينوزا - هو الذي يسيطر على أفعال الناس، لما احتاجوا إلى قانون. غير أن الانفعالات والغرائز تتحكم في الجزء الأكبر من رغبات الناس؛ ومن هنا احتاج كل مجتمع إلى حكومة وقوانين لردع أفراده. وهكذا ينشأ التنظيم السياسي الذي هو في رأي اسپينوزا أعلى أنواع التنظيم: «فمن المؤكد أن واجبات المرء نحو وطنه هي أسمى الواجبات التي يستطيع أداءها؛ إذ لو أزيلت الحكومة لما بقي للإنسان من خير ... وعلى ذلك فكل واجب لنا نحو الجار يغدو جرما إذا ما عاد بالضرر على الدولة بأكملها، كما أن كل ما نفعله في سبيل حفظ الدولة لا يمكن أن يكون فيه إخلال بواجبنا نحو الجار، أو أي شيء سوى الولاء ... وعلى ذلك فالمصلحة العامة هي القانون الأعلى الذي ينبغي أن يخضع له كل قانون آخر، سواء أكان إلهيا أم بشريا.»
4
ويلاحظ في هذا النص أن اسپينوزا يؤكد أن مصالح المجتمع نفسه - كما يمثلها قانون الدولة - هي المرجع الأخير في كل شيء، وأن قانون الدولة يعلو على كل شريعة دينية، ولقد كان ذلك، بطبيعة الحال، تعبيرا عن اتجاهه الواضح إلى فصل الدين تماما عن الدولة، ثم إيثار مصلحة الدولة على كل مصلحة أخرى، بحيث لا تترك للسلطة الدينية أية قدرة على محاسبة الناس باسمها، متخطية في ذلك قانون البلاد؛ أي إن سلطة رجال الدين ينبغي أن تخضع لسلطة الحاكم. وقد يبدو هذا في نظر البعض مذهبا يجعل الدولة متسلطة على العقائد، ولكن الواقع أن هدفه الحقيقي مخالف لذلك تماما؛ فمن المؤكد أن تجربة اسپينوزا الخاصة مع ممثلي السلطة الدينية أفقدته الثقة بحكمهم تماما، وجعلته واثقا من أنهم يراعون مصالحهم الخاصة، لا المبادئ والمثل العليا، في أحكامهم. وهكذا حرص على إخضاعهم للسلطة المدنية تأمينا لنفسه ولغيره. ومن جهة أخرى فمثل هذا الخضوع للسلطة المدنية كفيل بعدم تغليب دين على دين، وضمان الحرية لجميع الأديان، بحيث لا يصبح لأحدها سلطة قاهرة قد يستغلها ضد أصحاب العقائد الأخرى. ولقد رأينا من قبل كيف أن اسپينوزا لم يكن يحفل كثيرا بالمظاهر الخارجية للعقائد الدينية، وكانت كلها تتساوى عنده طالما أنها تؤدي غرضها العملي على النحو الصحيح؛ ومن هنا كان إخضاعها للسلطة السياسية معناه قبول مختلف الآراء والمعتقدات على قدم المساواة في ظل قانون مدني متسامح مع كل أشكال العبادات.
وهكذا نرى أن فكرة فصل الدين عن الدولة لم تكن عنده من ذلك النوع الذي يترك فيه لكل من السلطة الدينية والحاكم الزمني مجاله الخاص الذي يكون له فيه سلطان كامل؛ فهو يريد من الدولة أن تشرف على كل شيء، بحيث تكون مصالحها دائما هي العليا.
5
فإذا اعترض عليه بأن أصحاب السلطة الزمنية قد يكونون أشرارا، بحيث لا نجد عندئذ من يحفظ معاني الخير والتقوى، فإنه يرد على هذا الاعتراض قائلا إنه يمكن أن يوجه بالمثل ضد رجال الدين؛ فهؤلاء أيضا بشر، وهم معرضون للخطأ، ولو كانوا أشرارا فلن نجد من يفسر لنا المعنى الصحيح للتقوى.
6
بل إن الضرر في الحالة الثانية أعظم؛ إذ إن خطأ الحاكم يمكن إصلاحه بتغيير الحاكم، أما رجال الدين فإنهم إذ ارتكبوا خطأ ظلوا ينسبونه إلى السلطة الإلهية ويحتمون بها، وبذلك يظل الخطأ قائما، بل يتخذ مظهرا مقدسا بحيث يكون من أصعب الأمور التخلص منه.
ويعد دفاع اسپينوزا عن الحرية الدينية، أو على الأصح عن الحرية الفكرية ضد السلطة الدينية، جزءا من دفاعه عن حرية الرأي بوجه عام. وهذا الدفاع بدوره يرتبط ارتباطا وثيقا بتاريخ الفترة التي عاش فيها؛ فقد كانت في هولندا وقت كتابة «البحث اللاهوتي السياسي» جمهورية مستنيرة تحد من سلطة رجال الدين وتترك مجالا لا بأس به للحرية الفكرية، ولكن الاتجاه المضاد، كما يتمثل في الكنيسة وفي النبلاء الإقطاعيين وعلى رأسهم أمير «أورانج»، كان قويا بدوره، بل إنه أفلح في العودة إلى الحكم في النهاية. وهكذا كان من أهم الأمور بالنسبة إلى اسپينوزا أن ينصر الاتجاه المتحرر على الاتجاه المتعصب، وأن يثبت في الوقت نفسه أن المصالح الحقيقية للدولة لا تتأثر بتلك الحرية على الإطلاق، بل إنها على العكس من ذلك تصان بالحرية على أفضل نحو.
وهكذا وضع اسپينوزا مبدأ عاما يكون من واجب الدولة بمقتضاه أن تتعهد عقول رعاياها وتحكمهم بالإقناع لا بالإكراه: «فالهدف النهائي للحكم ليس السيطرة على الأفراد أو قمعهم بالخوف، وليس فرض الطاعة عليهم، وإنما هو، على العكس من ذلك، تحرير كل شخص من الخوف، حتى يعيش في اطمئنان تام. وبعبارة أخرى: تأكيد حقه الطبيعي في أن يعيش ويعمل دون أن يلحقه أو يلحق غيره ضرر.
كلا، ليس هدف الحكم تحويل الناس من كائنات عاقلة إلى بهائم أو ألاعيب، وإنما تمكينهم من تنمية عقولهم وأجسامهم في أمان، ومن استخدام أذهانهم دون قيد ... بل إن الهدف الحقيقي للحكم، في واقع الأمر، هو الحرية.»
7
ويرى اسپينوزا أن للمرء الحق في مخالفة الحاكم في تفكيره كما يشاء، على ألا يفعل ما من شأنه تعكير الأمن أو إشاعة الفوضى؛ ففي مجال التفكير، وفي مجال القول - طالما كان صادرا عن العقل لا الانفعال - ينبغي أن تسود الحرية التامة، على ألا تتنافى مع القانون. أما كبت حرية الفكر فلن يؤدي إلا إلى الرياء والنفاق: «وهب أن الحرية قد سحقت، وأن الناس قد أذلوا حتى لم يعودوا يجرءون على الهمس إلا بأمر حكامهم. رغم ذلك كله فمن المحال المضي في هذا إلى حد جعل تفكيرهم مطابقا لتفكير السلطة السائدة، فتكون النتيجة الضرورية لذلك هي أن يفكر الناس كل يوم في شيء ويقولوا شيئا آخر، فتفسد بذلك ضمائرهم ... ويكون في ذلك تشجيع لهم على النفاق والغش.»
8 ... أما إذا كانت الوسيلة إلى كبت الحريات هي ملء السجون بالأحرار، فإن اسپينوزا يعلق على ذلك بقوله: «أيستطيع المرء تصور نكبة تحل بالدولة أعظم من أن ينفى منها الأشراف وكأنهم مجرمون، لا لشيء إلا لأنهم يؤمنون بآراء مخالفة لا يستطيعون إنكارها؟!»
9
بمثل هذا الدفاع المجيد عن حرية الفكر يختتم اسپينوزا كتابه «البحث اللاهوتي السياسي»، الذي كان قد بدأه بدفاع مماثل، من خلال حملته على التعصب الديني. وهذه الحملة الأخيرة، التي انتقد فيها بشدة تشكيل أذهان الناس في قوالب دينية ثابتة بحيث لا يعود في وسعهم مناقشة أية قضية دينية، يمكن أن تنطبق بكل دقة على المحاولات العديدة لتشكيل أذهان الناس في قوالب فكرية ثابتة بالدعاية المنظمة الموجهة. ويكفي لإدراك ذلك أن نحاول تصور نص كالآتي من خلال الحياة المعاصرة: «من الواضح أن الحرية العامة لا تقبل مطلقا أن تملأ عقول الناس بالتعصب والتحامل، أو توجه أحكامهم وجهة محددة، أو يستخدم أي من أسلحة الفتنة المبنية على ذرائع دينية، والواقع أن هذه الفتن لا تستيقظ إلا عندما يزج القانون بنفسه في ميدان التفكير النظري، وتحاكم الآراء وتدان كأنها جرائم، على حين أن من يدافعون عنها ويتبعونها يضحى بهم، لا في سبيل أمن المجتمع، بل في سبيل حقد خصومهم وقسوتهم.»
10
وإذا كنا قد تساءلنا من قبل، في مجال الأخلاق، عما إذا كان الاتجاه الغالب على تفكير اسپينوزا ديمقراطيا أم أرستقراطيا، فمن الواضح أن المشكلة تحل هنا، في مجال السياسة، حلا يترك لكل من النزعتين مجاله، ونستطيع أن نقول إن النظم الأرستقراطية في الحكم لا تتيح للأرستقراطية الصحيحة - أرستقراطية التفوق والامتياز العقلي - أن تظهر على حقيقتها. وهذا قول قد يبدو في ظاهره غريبا، ولكن الذي يحدث هو أن الأرستقراطية الحاكمة، في مثل هذا النظام، لا تسمح إلا لنفسها بالعمل، بينما تسلب غيرها جميع الحريات، فلا تتاح الفرصة لظهور المواهب الحقيقية في أية طبقة غير الطبقة الحاكمة ذاتها. فإذا ما أريد للتفوق الحقيقي أن يظهر، فلا بد من أن تبسط الحريات ظلالها على الجميع بمقدار متساو؛ حتى يتسنى تقدير الناس تبعا لقيمهم الحقيقية. وهكذا كان سعي اسپينوزا إلى كفالة الحريات للجميع، في واقع الأمر، تعبيرا عن رغبته في إتاحة كل الفرص أمام المواهب الحقيقية للظهور. وهذا الهدف، في رأيه، هو الغاية الحقيقية للتنظيم الاجتماعي الذي يتخذ شكل الدولة. (2) فكرة الحق الطبيعي وتكوين الدولة
عندما تحدث اسپينوزا عن العوامل المؤدية إلى تكوين الدولة، تأثر قطعا بكثير من الأفكار التي كانت سائدة في الفلسفة السياسية في عصره، ومن أهمها فكرة «الحق الطبيعي» والعقد الاجتماعي. وقد كانت الفكرتان متكاملتين في الفلسفة السياسية في ذلك العصر، وظهرتا بوضوح عند «هبز وجروتيوس
Grotius »، ثم عند روسو في القرن التالي، ومن الممكن تتبع أصلها إلى عهود أقدم من ذلك بكثير، وكذلك الاهتداء إلى صور لها أحدث كثيرا من القرن الثامن عشر. والفكرة تتلخص في أن حقوق كل فرد فيما يسمى «بالحالة الطبيعة»؛ أي الحالة السابقة على التنظيم الاجتماعي الذي يتخذ شكل الدولة، ترتكز على مقدار ما له من قوة. ثم تأتي عوامل مختلفة تحتم على الأفراد التنازل عن حقوقهم الطبيعية: قد تكون الخوف المتبادل؛ أي رغبة كل في اتقاء شر الآخر. وقد تكون السعي إلى المزيد من النفع. وقد تكون تحكيم العقل الذي يكشف عن عدم تعارض مصالح الأفراد بعضهم مع البعض في نهاية الأمر. وعلى أية حال فإن هذه العوامل - التي تختلف الأهمية النسبية لكل منها باختلاف المذاهب الفلسفية - تؤدي بالأفراد إلى الاتفاق في «عقد اجتماعي» على التنازل المتبادل عن بعض الحقوق الطبيعية، وتكوين مجتمع منظم، فيه «سلطة» حاكمة تشرف هي ذاتها على تنظيم ما تم التنازل عنه من الحقوق.
وقد تأثر اسپينوزا في كتاباته السياسية بهذه النظرية وأخذ بها، مع إدخال تعديلاته الخاصة عليها. ونستطيع أن نقول إن هذا الجزء من فلسفته كان من الأجزاء القليلة التي اتضح فيها تأثير النظريات المعاصرة له في تفكيره الخاص تأثيرا لا ينكر، بينما كان أهم ما يميز تفكيره في بقية الأجزاء هو الأصالة التي بلغت حد استباق اتجاهات لم تظهر إلا بعده بأجيال عديدة.
وقد عرف اسپينوزا «الحق الطبيعي» بقوله: «أعني بالحق الطبيعي نفس قوانين الطبيعة أو قواعدها التي يحدث كل شيء وفقا لها؛ أي بعبارة أخرى: قوة الطبيعة ذاتها ... وعلى ذلك فكل ما يفعله الإنسان وفقا لقوانين طبيعته، يفعله بحق طبيعي كامل، ويكون له من الحق على الطبيعة بقدر ما له من القوة.»
11
وهذا الحق الطبيعي واحد لدى جميع الأفراد، لا يختلف فيه شخص عن آخر؛ ففي هذا الميدان تتحكم الرغبة والقدرة، لا العقل. والطبيعة تتسع لكل شيء، لا للإنسان وحده، ولكن إذا كان المبدأ ذاته واحدا؛ أي إذا كان الأفراد جميعا يسري عليهم المبدأ القائل إن حق كل فرد يمتد بقدر ما تمتد قوته، فلا شك في أن نصيب كل فرد من هذا الحق يتفاوت تبعا لما لديه بالفعل من القوة. وهكذا تكون الغلبة في هذه الحياة للقوي، الذي لا يحد من قوته شيء إلا اصطدامها بالقوى الأخرى وتوقفها عند الحد الذي تبطلها فيه هذه القوى. هذا هو «القانون» الساري على الحالة الطبيعية، ولكن من المؤكد أن تسميته بالقانون فيها قدر كبير من التجاوز، وكما قال جيركه
Gierke : «فمثل هذا القانون ليس في واقع الأمر قانونا على الإطلاق، وهو لا يرفع راية القانون إلا كما ترفع سفينة راية مزيفة، تختفي من ورائها فكرة القوة التي لا تعدو أن تكون قرصنة بالمعنى الصحيح.»
12
ويتم الانتقال من الحالة التي يسودها الحق الطبيعي إلى حالة العقد الاجتماعي عن طريق تنازل الأفراد عن بعض حقوقهم لهيئة حاكمة في المجتمع الذي ينظمه القانون المدني؛ ذلك لأن الفرد، رغبة منه في حماية نفسه وتحقيق ما فيه صالحه بطريقة أفضل ، يقبل التنازل عن شريعة الطبيعة والخضوع لقانون العقل، والاتفاق مع غيره على العيش في وئام. وهكذا يحدث التنازل عن موضوعات بعض الرغبات استهدافا لخير أعظم، أو توقيا لشر أفدح، ويتم هذا التنازل للهيئة الحاكمة، التي ينبغي على الأفراد طاعتها، وإلا لما أمكن قيام الدولة، ويظل حق الحاكم قائما طالما كانت لديه القدرة على تنفيذه. وبعبارة أخرى: فإن نفس قاعدة الحق الخاضع للقوة تسري على الدولة بدورها، بحيث تحد سلطة الدولة بما لديها من القوة، ولكن لا بد أن تجد الدولة أيضا أن من مصلحتها، بدورها، أن تسترشد بالعقل، وأن تحفظ قدرتها بتوخي الصالح العام: أعني أن تحد من ذاتها، ولا تمارس قواها أكثر مما ينبغي حتى لا تقابل بالمقاومة. وحين تعترف الدولة بحكم العقل، تترك للأفراد قدرا غير قليل من الحقوق التي يمارسونها بحرية، ولا سيما حقهم في التفكير الحر، والتعبير عن آرائهم كما يشاءون، وهو الحق الذي أكد اسپينوزا أنه أساس في كل نظام سليم للحكم.
هذه الفكرة، التي كانت، بأشكالها المختلفة، تكون أساس المذاهب السياسية في القرن السابع عشر بوجه خاص، قد احتلت المركز الرئيسي في تفكير اسپينوزا السياسي بدوره. ومع ذلك فكلما أمعن المرء التفكير فيها، وجد أن موقعها في فلسفته شاذا إلى حد ما؛ فالمقدمات الفلسفية التي بنى عليها هبز مذهبه السياسي مختلفة كل الاختلاف عن تلك التي بنى عليها اسپينوزا مذهبا مماثلا. ومن المؤكد أن السياق العام لتفكير اسپينوزا الفلسفي كان يقتضي نوعا من الخروج على هذه النظرية السياسية الشائعة، التي جعلت من القوة أساسا للحق - وهذا الاستنتاج هو بالفعل ما تؤدي إليه الدراسة المتعمقة لفلسفة اسپينوزا؛ إذ يشعر المرء بأن ثمة نوعا من «الفراغ» في نظريته السياسية المتعلقة بأساس تكوين الدولة.
ومع ذلك فهناك حقيقتان أساسيتان ينبغي ألا تغيبا عن الأذهان في هذا الصدد: الأولى هي أن فكرة الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي كانت تبدو من بديهيات الفلسفة السياسية في عصر اسپينوزا، ولم يكن في الإمكان عندئذ تصور طريقة أخرى لتطور التنظيم الاجتماعي البشري؛ فقد رأى المفكرون أن الحالة الاجتماعية الراهنة للبشر لا بد قد سبقتها حالة أخرى «طبيعية»، ولا بد أن تكون الشريعة السائدة في مثل هذه الحالة الطبيعية هي القوة. ولما كانت ممارسة القوة تقضي على ذاتها إذا ما ترك لها العنان؛ لأن القوى سوف تتضارب حتما؛ فقد كان من الطبيعي أن يتصور المفكرون عندئذ «عقدا اجتماعيا» يتفق فيه الناس بمحض إرادتهم على التنازل عن بعض سلطاتهم لهيئة حاكمة. هذا التسلسل لمراحل التنظيم الاجتماعي كان يبدو عندئذ أمرا مفروغا منه، وحقيقة لا تقبل المناقشة، وأية دراسة للفلسفات السياسية في تلك الفترة تثبت مدى تغلغل هذه الفكرة في النفوس على نحو مشابه لتغلغل نظرية التطور مثلا في التفكير العلمي الحالي. وكما أن العلماء البيولوجيين يبنون اليوم أبحاثهم بطريقة شبه إجماعية على أساس فرض التطور، مع وجود اختلافات فرعية في طريقة تطبيقهم له، ويرون أن الأخذ بهذا الفرض من أسس الروح العلمية في العصر الذي نعيش فيه، فكذلك كان الحال في موقف المفكرين السياسيين من نظرية الحق الطبيعي والعقد الاجتماعي في ذلك العصر.
والحقيقة الأساسية الثانية هي أن اسپينوزا قد خفف كثيرا من غلواء النظرية في صورتها الأصلية كما تتبدى لدى فيلسوف مثل هبز، وحاول بقدر الإمكان أن يقرب بينها وبين مذهبه الفلسفي العام، وإن لم يكن قد أحرز في ذلك إلا نجاحا محدودا: (1)
فمن الممكن القول بوجود نوع من الموازاة بين فكرة الحق الطبيعي، كما صاغها اسپينوزا في ميدان السياسة، وبين أساس النظرية الأخلاقية عنده؛ ذلك لأنه أكد في مجال الأخلاق - كما رأينا - عدم وجود معنى مطلق لعبارات مثل الخير والشر، وبنى الأخلاق كلها على أساس علمي، وربما على أساس نظرة آلية إلى الطبيعة البشرية من خلال النزوع إلى حفظ الوجود واستمراره. وهذا هو ما فعله اسپينوزا في ميدان السياسة أيضا؛ فقد أزال قيم الخير والشر من هذا الميدان أيضا، ولم يقل بحق أو واجب مطلق، بل إن جميع هذه التعبيرات المعيارية ينبغي أن ترد إلى الأصل الموازي للنزوع إلى حفظ الوجود واستمراره؛ أعني إلى «القوة»؛ فالحق في السياسة يرتد إلى القوة، ولكن مثلما كان رد القيم الأخلاقية التي يفترض أن لها وجودا مطلقا، إلى أصلها الطبيعي، مؤديا إلى فهم علمي أفضل لمنشأ هذه القيم، فكذلك كان هذا التفسير الطبيعي لأصل الاجتماع البشري مؤديا في نظره إلى فهم أفضل لأسس السياسية، دون ضياع للالتزامات الحالية للأفراد تجاه الدولة. (2)
تتسم فكرة الحق الطبيعي عند اسپينوزا بأنها فرض نظري إلى حد ما؛ فهو يعترف بأن قوى الإنسان - التي تمتد بقدرها حقوقه - تقل طالما كان هناك أفراد آخرون يخشاهم، وطالما كان لكل من هؤلاء الأفراد حقوق مثله .
13
وأن مجرد اعترافه في مقدمة «البحث السياسي» بأن «الناس قد فطروا على ألا يستطيعوا العيش دون قانون عام ما.»
14
لينطوي ضمنا على تأكيد الحالة المدنية على حساب الحالة الطبيعية، وعلى أنه كان يؤمن بأن الحالة الطبيعية هي، إلى حد ما، نوع من الفرض النظري الذي يكمل بناء المذهب فحسب. (3)
ولقد دافع اسپينوزا مرارا عن الفكرة القائلة إن الإنسان حيوان اجتماعي، وهي فكرة لا تتمشى مع الصورة المتطرفة لنظرية الحق الطبيعي كما تتمثل عند فيلسوف مثل هبز؛ فالقول بأن الاجتماع صفة أساسية في طبيعة الإنسان يتنافى إلى حد بعيد مع أساس فكرة الحق الطبيعي ذاتها. ولا يقتصر اسپينوزا على ذلك، بل إنه يشيد على الدوام بالحالة المدنية أو القانونية ويمتدحها، ويرى أنها تؤدي إلى تهذيب الطبيعة البشرية ذاتها، ويكاد يقول إنها تخلق فيه «طبيعة ثانية»؛ فالإنسان في ظل الحالة المدنية لا يعود في نظره ذلك الحيوان المفهوم الذي قال به هبز، وإنما يتمكن من قهر الظروف الخارجية التي تحد من قدرته وفاعليته، ويتسع نطاق حريته بفضل تضامنه مع الآخرين. ومن المؤكد أننا إذا ربطنا بين هذه النظرية وبين فكرة الانفعالات عند اسپينوزا، لكان من الواضح أن الحالة الطبيعية، بما فيها من خضوع تام للانفعالات التلقائية، تمثل حالة «عبودية» الإنسان، على حين أن الحالة المدنية، بما فيها من ضبط لهذه الانفعالات وتنظيم لها، تساهم إلى حد بعيد في «تحرير» الإنسان من هذه العبودية. وهكذا يكون التنازل عن الحق الطبيعي - النظري - دعما للحقوق الفعلية للإنسان. (4)
وأخيرا، فهناك دلائل على أن الدولة عند اسپينوزا ليست مجموع إرادات الأفراد أو محصل هذه الإرادات، وليست سلطتها ناتجة عن الجمع بين سلطات الأفراد، وإنما هي حقيقة تتجاوز هذا كله. ومنذ اللحظة التي يعلن فيها اسپينوزا ضرورة تنازل الدولة، بدورها، عن حقها المبني على القوة في سبيل الخضوع لحكم العقل، منذ هذه اللحظة يجعل من الدولة كيانا له سلطته المعنوية الخاصة التي تطاع لذاتها لا من أجل كونها مجموعا لسلطات الأفراد؛ فالدولة حين تتبع حكم العقل تصبح أقدر على حفظ مصالح أفرادها ووجودهم منها لو اعتمدت على القوة. وقد اعترف «جيركه
Gierke » نفسه بهذه الحقيقة بعد أن كان قد أنكرها في بادئ الأمر.
15
ومن المؤكد أن إشارة اسپينوزا إلى ضرورة جعل «حكم العقل» هدفا لسياسة الدولة، قد حتمت عليه أن يضع شروطا دقيقة للحاكم أو للهيئة الحاكمة في الدولة؛ ذلك لأن هناك أنواعا معينة من نظم الحكم لا تستطيع بطبيعتها أن تسترشد بالعقل، وإنما تبني سياستها على الانفعالات والاستجابات التلقائية فحسب. ولا يتوقع اسپينوزا أن يكون في استطاعة أي حاكم أن يسترشد بالعقل وحده، فهذا حلم يستحيل تحقيقه، ولكنه يضع مع ذلك بعض الشروط التي تكفل الاقتراب من تحقيق هذه الغاية بقدر الإمكان، وأهم هذه الشروط هو وجود الضوابط؛ فنظام الحكم الذي يعتمد على أمانة الحكام فحسب لا يمكن أن يكون مستقرا،
16
ولا بد أن ندرك أن الضعف البشري حقيقة واقعة، وإذن فعن طريق الضوابط الدقيقة، التي تمنع الاستبداد في الرأي أو الانقياد، للانفعال يمكننا أن نتلافى العيوب التي يتعرض لها أي حاكم بطبيعته.
وعلى هذا الأساس دافع اسپينوزا بقوة عن الدولة الديمقراطية، وأكد أن النظام الديمقراطي هو الذي يكفل للفرد أعظم قدر من الحرية، ويكفل للقوانين الاقتراب من العقل السليم؛ ففي الديمقراطية لا يخشى من سيطرة الأوامر اللامعقولة؛ إذ إنه كلما ازداد عدد المشتركين في الحكم قل احتمال ظهور الرغبات اللامعقولة، وأمكن ضبط الانفعالات الهوجاء بسهولة، وهو يؤكد أن إطاعة الفرد لمثل هذه الدولة تزيد من حريته، ولا تنقصها على الإطلاق: «ففي الدولة أو المملكة التي تكون فيها إرادة الشعب كله، لا إرادة الحاكم، هي القانون الأعلى، لا يصبح المرء عبدا إذا ما أطاع السلطة العليا ... وإنما يصبح مواطنا؛ وعلى ذلك، فأكثر الدول تحررا هي تلك التي تبنى قوانينها على العقل السليم، بحيث يستطيع كل فرد فيها، إذا شاء، أن يكون حرا ... فالأطفال، وإن يكن عليهم أن يطيعوا أوامر والديهم، ليسوا مع ذلك عبيدا؛ إذ إن أوامر الوالدين تستهدف عادة مصلحة الأطفال.»
17
ويؤكد اسپينوزا في مواضع عديدة رفضه للنظام الملكي، ولكنه على ما يبدو كان يدرك أن هذا النظام لا مفر منه في كثير من البلدان في ذلك العصر، فحاول أن يخفف من أضراره بقدر الإمكان، وكرس لذلك الفصل السابع من «البحث السياسي» الذي دعا فيه إلى وجود مجلس كبير إلى جانب الملك، في الدول التي ينبغي أن تأخذ بالنظام الملكي، وحاول أن يمزج الملكية بنظام شبه ديمقراطي يضمن الاستماع إلى صوت العقل بقدر الإمكان. ومع ذلك فحتى في هذا الشكل الدستوري الأخير للنظام الملكي، تظل الديمقراطية - أي حكم الشعب عن طريق ممثليه - مفضلة عنده دائما.
ومن المؤكد أن اسپينوزا كان يجعل للدولة، بوصفها نظاما سياسيا، مسئولية كبيرة في توجيه رعاياها في الطريق السليم؛ فهو لم يكن من أولئك الفلاسفة الذين يقللون مسئوليات الدولة إلى الحد الأدنى، وإنما أكد بالفعل أنه، منذ اللحظة التي يتنازل فيها الأفراد للدولة عن بعض حقوقهم في سبيل تحقيق المزيد من الحرية بفضلها، تصبح الدولة هي المسئولة عن المستوى الأخلاقي والاجتماعي لمواطنيها، وإذا ظهر أي انحراف عام في سلوك هؤلاء المواطنين فمن الواجب أن تلام عليه الدولة ذاتها، لا الأفراد: «... فمن المؤكد أن الفتن والحروب وكسر القوانين أو حرقها لا ينبغي أن تعزى إلى وجود الشر في الرعايا بقدر ما تعزى إلى سوء حالة نظام الحكم ذاته؛ ذلك لأن الناس لم يخلقوا صالحين لأن يكونوا مواطنين، وإنما ينبغي أن يجعلوا صالحين لذلك. وفضلا عن ذلك فإن انفعالات الناس الطبيعية واحدة في كل مكان، فإذا ما استشرى الفساد في مكان ما، وازدادت الجرائم انتشارا في دولة دون الأخرى. فلا بد أن الأولى لم تمض في عملية توحيد رعاياها كما ينبغي، ولم تضع قوانينها ببعد نظر كاف؛ وبذلك تكون قد أخفقت في استخدام حقها في ممارسة الحكم.»
18 (3) الموقف السياسي العام لاسپينوزا
ليس البحث في موقف اسپينوزا السياسي من الموضوعات الهينة؛ إذ إن آراء اسپينوزا الصريحة لا تستكشف إلا بعد قدر غير قليل من البحث والمقارنة. وفضلا عن ذلك فقد اشتهر عنه وقتا طويلا أنه كان منعزلا معتكفا لا شأن له بالصراع السياسي الحقيقي الدائر في عصره، ولم يبدأ الباحثون في الكشف عن غوامض حياته العملية إلا في وقت غير مبكر من القرن الحالي. وبعد ذلك تضاربت الآراء إلى حد بعيد عن الموقف الحقيقي الذي كان اسپينوزا يقفه من مختلف التيارات السياسية في عصره، وكان هذا التضارب راجعا في المحل الأول إلى رغبة كثير من الباحثين في تفسير اسپينوزا من خلال الاتجاهات السياسية السائدة في عصورهم، لا في عصره هو.
ونستطيع أن نتخذ نقطة بداية بحثنا من آراء «ديزانتي
Desanti » الذي قدم تفسيرا ماركسيا لفلسفة اسپينوزا، ولا سيما النواحي السياسية فيها؛ فهو يرى أن اسپينوزا لم يكن بمعزل عن التيارات السياسية في عصره، ويميل إلى القول بأنه كان على اتصال بالهيئات البورجوازية الحاكمة في عهد «يان ديڨيت» الجمهوري، ويحلل «ديزانتي» النص الذي بدأ به اسپينوزا «البحث اللاهوتي السياسي»، والذي يتحدث فيه اسپينوزا عن ضرورة صيانة الحرية السائدة في العصر الجمهوري القائم والدفاع عنها، قائلا إن هذا النص يكشف عن مدى ارتباطه بالأفكار السائدة في «الجمهورية التجارية».
19
وسوف نورد هذا النص لكي يكون بحثنا هذا قائما على أساس ملموس: «لما كان قد قدر لنا أن نحظى بهذا الخير العميم، وهو أن نحيا في جمهورية يتمتع فيها كل شخص بالحرية الكاملة في الحكم وتمجيد الله على حقيقته، وينظر فيه الجميع إلى الحرية على أنها أنفس وأغلى ما يملكون؛ فقد رأيت أنني لا أكون جحودا ولا أكون قد بذلت جهدا عقيما إذا ما أثبت أن هذه الحرية يمكن أن تمنح دون خطر على التقوى والدولة، بل إن القضاء عليها يستتبع حتما القضاء على سلام الدولة وعلى التقوى.» ومن هذا النص يستنتج ديزانتي أن اسپينوزا كان حريصا على سلامة الدولة حتى تثرى المؤسسات التجارية البورجوازية، وأن دعوته إلى استتباب النظام معناها الإبقاء على النظام القائم والقضاء على الروح الثورية. أما الدعوة إلى التقوى فيقصد منها التهدئة الدينية للنفوس لنفس الغرض.
20
وهكذا لخص الوضع السياسي والطبقي لاسپينوزا بأنه وضع شخص «متضامن مع الطبقة المسيطرة»،
21
التي يحددها بأنها هي «البورجوازية التجارية والمالية والاستعمارية» التي كانت تسعى أولا وقبل كل شيء إلى حفظ أنظمتها ومصالحها الخاصة.
22
هذا التفسير في نظرنا قائم على فهم ناقص لجميع أطراف فلسفة اسپينوزا. وليس خطأ المؤلف، في نظرنا، راجعا إلى محاولته إيجاد تفسير «طبقي» لتفكير اسپينوزا السياسي، وإنما هو يرجع إلى أن هذا التفسير مبني عنده على معطيات غير كافية وغير دقيقة، وبالتالي يتحتم أن يكون باطلا، ونستطيع أن نوجه إليه الانتقادات الآتية: (1)
فالمؤلف يفهم كثيرا من ألفاظ اسپينوزا ومصطلحاته فهما حرفيا. وهكذا يفوته «السر» الحقيقي لتفكير اسپينوزا؛ فهو مثلا، حين يقول في مواضع متعددة من كتابه بوجود تناقض أساسي في فلسفة اسپينوزا يعكس تناقض المجتمع الذي عاش فيه، ويحدد هذا التناقض بأنه يتمثل في المزج بين الاتجاه العلمي والاتجاه الصوفي، يخطئ إذ يتبع طريقة الفهم الحرفي لفكرة الله عند اسپينوزا. وهذا الخطأ وحده كفيل بتقديم صورة باطلة لكل جوانب هذه الفلسفة. ونستطيع أن نجد في تفسير النص الذي قدمناه من قبل مثلا جزئيا لهذا الخطأ العام؛ فهو يفسر فكرة «التقوى» التي وردت في هذا النص بأنها تعبير عن التهدئة، بينما كان المعنى الحقيقي لهذه الفكرة، كما رأينا من قبل، هو «التعاطف أو حب الجار»، وهو معنى مخالف تماما لتفسير المؤلف. هذا فضلا عن أن وصف كتاب ثائر مثل «البحث اللاهوتي السياسي» بأنه يرمي إلى تهدئة الناس أو تخدير روح الثورة فيهم عن طريق التقوى فيه إغفال تام لكل ما في هذا الكتاب من أصالة. (2)
عندما تحدث اسپينوزا في آخر النص السابق عن عدم تعارض الحرية مع مصلحة الدولة أو سلامتها، فمن المؤكد أنه كان يضع مبدأ عاما، ولم يكن يتحدث عن الدولة التي عاش فيها على التخصيص. وهذا واضح كل الوضوح من نص الكتاب نفسه؛ فكل ما أراده هو أن يقطع الطريق على الحجة القائلة إن منح الحريات قد يهدد أمن الدولة، أو يقضي على التقوى، ويثبت أن الدولة التي تمنح الحرية لرعاياها تستطيع أن تكون أكثر اطمئنانا على أمنها، وأن التقوى فيها - بمعناها الخاص عنده، وهو حب الجار أو التعاطف بين الناس - لن تتأثر على الإطلاق، فلم يكن اسپينوزا يرمي إلى أن يدافع عن الدولة التي عاش فيها إلا من حيث هي تقبل مبدأ الحرية وتعترف به فحسب. (3)
هناك شراح آخرون لا يقلون عن المؤلف إيمانا بالتفسير الاقتصادي الاجتماعي - مثل «فوير
Feuer » - أكدوا أن اتصالات اسپينوزا كانت كلها مع أحرار الفكر في عصره، وأن إعجابه ب «ديڨيت» كان راجعا إلى أن هذا الأخير كان يمثل أعلى ما يمكن أن تصل إليه الروح التقدمية في ذلك العصر، ولم يكن هذا الإعجاب مع ذلك مطلقا، بل إن اسپينوزا قد انتقد نظام ديڨيت ضمنا في انتقاده للأرستقراطية في كتاب «البحث السياسي»، وأظهر ميلا واضحا إلى إيثار الديمقراطية عليه، بل إن هناك فلاسفة ماركسيين آخرين يستنتجون من المعطيات ذاتها نتائج مضادة؛ فيرون أن اتصال اسپينوزا بالطبقة البورجوازية الناشئة هو الذي أدى به إلى «التخلي عن النزعة الغائية، وعن المثالية وعن التعلق بالعالم الآخر، والصوفية، وهي النزعات التي تميزت بها العصور الوسطى، وإلى إعلان شمول قوانين الطبيعة، والحتمية العلية الضرورية، وواحدية الجوهر الأزلي اللامتناهي»، ويؤكدون أن اسپينوزا قد عبر عن المصالح البعيدة لا المصالح العاجلة لهذه الطبقة، مما جعل أفرادها يشكون في تعاليمه ويناصبونه العداء.
23
وفي مثل هذا التفسير يستحيل أن يقال إنه كان يسعى إلى تخدير روح الثورة في الناس عن طريق الدفاع المباشر عن النظام القائم أو السلطة الدينية. (4)
وأخيرا، فإن «مادلين فرانسيس»، وهي من أكثر الباحثين تعمقا في الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية لحياة اسپينوزا، تبدي شكها في أن يكون اسپينوزا قد ارتبط ارتباطا وثيقا بحزب «يان ديڨيت» الجمهوري أو جعل من فلسفته تبريرا فكريا له، وكل ما في الأمر أنه رأى في ذاك الحاكم أصلح من يوجد، وحاول أن يأتي في كتاباته بأفكار قد تساعد على تقوية الاتجاهات السليمة لديه.
24
وفي رأينا أن اسپينوزا، إذا كان في الفترة الأولى من حياته قد اندمج بالفعل في حياة التجارة والأعمال، فإنه منذ اللحظة التي تخلى فيها طوعا عن هذه الحياة ليتفرغ للتفكير الفلسفي، وأكد صراحة أن السعي وراء المال عائق في وجه حرية التفلسف، وتنازل بمحض اختياره عن تجارته الناجحة الموروثة، واحترف مهنة يدوية يرتزق منها، منذ هذه اللحظة ينبغي أن يقال إنه قد تخلى تماما عن قيم التجار وأعلن احتقاره لها، وأخذ تفكيره يسير في طريق متحرر من قيود المصالح السائدة. ولنتأمل مغزى العبارات المشهورة التي استهل بها كتاب «إصلاح العقل»، والتي أعلن فيها سأمه من الحياة الاجتماعية في عصره. فمثل هذه العبارات لا يقول بها شخص راض عن قيم عصره أو يريد أن يجعل من نفسه مدافعا عن هذه القيم، وإنما هي قطعا كلمات ثائر على الظروف المحيطة به. وهنا تظهر لنا حملته على عبودية الإنسان وخضوعه للانفعالات في ضوء جديد؛ فقد كان اسپينوزا يربط دائما بين الانفعالات وبين الأسباب أو القوى الخارجية، وبذلك تكون محاولة إخضاع الانفعالات للعقل هي ذاتها تعبير عن محاولته قهر الواقع الخارجي، أو التخلص من تأثيره، عن طريق الذهن، وهي الوسيلة الوحيدة التي كانت في متناول يده.
وعلى أية حال فلسنا في حاجة لإثبات هذا الرأي إلى الاستنتاجات؛ لأن اسپينوزا قد أكده صراحة في مواضع متفرقة، من أوضحها دلالة ما قاله في رسالته رقم 44 إلى صديقه «چارج چلز
Jarig Jelles »؛ ففي هذه الرسالة يحدث اسپينوزا صديقه عن كتاب قرأه بعنوان
Homo politicus
ويحمل على الكتاب بشدة لأن مؤلفه كان ينظر إلى الثروة والجاه على أنهما الخير الاسمى، ويستحل في سبيل بلوغهما كل الوسائل، من غش وخداع ونفاق وامتهان للأخلاق، وبلغ من سخط اسپينوزا على الكتاب أنه فكر في أن يؤلف كتيبا ينتقد فيه المؤلف بطريقة غير مباشرة (وهي طريقته المألوفة في التعبير عن آرائه)، ويثبت فيه تعاسة الطامعين في الثروة والجاه، ويبرهن في النهاية على أن الجشع يودي حتما بالأمم. وفي هذه الرسالة يقول عبارات لها دلالتها البالغة: «لكم كانت تأملات طاليس الملطي أسمى وأرفع من أفكار هذا الكاتب! لقد قال طاليس إن كل الأشياء مشاع بين الأصدقاء، وإن الحكماء أحباء الآلهة، وإنه لما كان الآلهة يملكون كل شيء، فإن الحكماء، بدورهم يملكون كل شيء. وبالاختصار، فهذا الحكيم العظيم قد أثرى نفسه إلى أبعد حد باحتقاره الكريم للثروة، لا بالسعي الملح وراءها، ومع ذلك فقد أثبت في موضع آخر أن الحكماء إذا لم يكونوا أثرياء؛ فذلك لأنهم قد اختاروا ذلك طوعا ولم يضطروا إليه رغما عنهم.» فهل يجوز أن تعد هذه الآراء، التي تشيد بجعل الأشياء «مشاعا بين الأصدقاء»، وتحتقر الثروة والسعي وراءها إلى هذا الحد، معبرة عن مصالح طبقة التجار البورجوازية؟!
من الواضح أن بين تفكير اسپينوزا وبين أشد المذاهب المعاصرة تقدمية عناصر مشتركة كثيرة لا تقبل الجدل. من هذه العناصر - بالإضافة إلى الحملة على قيم التجار - كراهية الحرب: وهو يعبر عن آرائه الحقيقية في هذا الصدد في رسالتيه رقم 28 و30 إلى أولدنبرج. والأمر الغريب أنه كان، هو وأولدنبرج، ينتميان على الأرجح إلى طرفي النزاع الدائر، ومع ذلك كانا يتبادلان الأفكار في الأمور العلمية ويسخران من الحرب الناشبة ويعبران بكل وضوح عن إيمانهما بالسلام وعدم جدوى الحروب التي لا تعبر عن ضعف الإنسان. بل لقد علل اسپينوزا الحرب الدائرة عندئذ تعليلا حديثا، فرأى أنها ترجع إلى الرغبة في الإثراء المادي. وعندما بحث في «البحث السياسي» عن وسيلة لإنهاء الحروب، اقترح أن يمنح الحكام في زمن السلم مرتبات تزيد على ما يحصلون عليه أثناء الحرب!
25
وأخيرا، فإن الاضطهاد الذي لحق اسپينوزا أثناء حياته، ومذهبه الفلسفي بعد وفاته على الأخص، والظاهرة التي شاعت في الأجيال التالية له مباشرة، وهي توجيه تهمة «الاسپينوزية» جزافا لكل مذهب فيه مسحة من التجديد، أو من الانحراف عن عقائد الكنيسة، أو لأي نوع من الخروج عن السلطة السائدة، يكشف لنا عن تشابه آخر قوي بين فلسفة اسپينوزا وبين المذاهب الاشتراكية في عصرنا، بما تلقاه من اضطهاد في كثير من الأوساط المدافعة عن النظم الاقتصادية والفكرية التقليدية.
فتهمة الاسپينوزية كانت بدورها - كما أشار «بيل
Bayle » في قاموسه المشهور - توجه إلى جميع الثائرين على تقاليد الكنيسة، ولكن نطاقها قد اتسع في القرن الثامن عشر حتى أصبحت تنسب إلى كل معارض للنظم القائمة، وحتى اضطر مشاهير المفكرين في الجيل التالي إلى التبرؤ من اسپينوزا وتفنيده علنا، بسبب دون سبب؛ استرضاء للسلطات القائمة، ولا شك أن هذا التاريخ المعروف للاسپينوزية يجعلنا نرفض تماما كل تفسير لها بأنها كانت مهادنة للسلطات الحاكمة، بما لها من مصالح تجارية، ولا سيما إذا جاء هذا التفسير من مفكر ينتمي إلى مذهب صادف أصحابه ظروفا تماثل إلى حد بعيد ما مر باسپينوزا من الظروف.
الفصل الثامن
اسپينوزا واليهودية
(1) الآراء المختلفة في مصادر تفكير اسپينوزا
ينبغي أن نشير منذ البداية إلى أن المنهج الذي اتبعناه في تفسير فلسفة اسپينوزا يؤدي إلى نظرة جديدة كل الجدة إلى مشكلة المؤثرات المختلفة في فلسفته؛ فهذا المنهج مبني على محاولة إيجاد تفسير متسق لهذه الفلسفة، وهي محاولة لا نحجم فيها عن الغرض الذي خشي الكثيرون أن يقولوا به - وإن يكن البعض قد لمحوا إليه - وهو أن اسپينوزا كان يتعمد استخدام لغة لاهوتية مدرسية ليخفي معانيه الثورية التي تقف مع المجال اللاهوتي والمدرسي على طرفي نقيض. وقد مضينا في تطبيق هذا الفرض من البداية إلى النهاية، وأدى هذا التطبيق إلى اختفاء التناقض الصارخ الذي نسب إلى اسپينوزا في كثير من الأحيان، وإلى ظهور فلسفته في صورة مذهب فكري محكم يؤمن كل الإيمان بالعلم ويستبعد تماما كل عنصر غائي أو فوق الطبيعي ، حتى في الحالات التي يبدو فيها موغلا في الصوفية، ومن المؤكد أن النتائج الناجحة التي يؤدي إليها تطبيق الفرض هي وحدها دليل قوي على سلامة الفرض ذاته، فضلا عما يستند إليه الفرض أيضا من أدلة مباشرة مستمدة من كتابات اسپينوزا وظروف حياته وعصره. ولا بد في بحث مبني على الفرض القائل إن الشكل الظاهري لكثير من كتابات اسپينوزا لا يعبر عن معانيها الحقيقية، من أن تتخذ مشكلة المؤثرات التي يرد إليها تفكيره دلالة جديدة كل الجدة؛ ذلك لأن الطريقة المتبعة في رد تفكير اسپينوزا إلى مذاهب معينة سابقة عليه، هي الكشف عن أوجه شبه بين قضايا معينة لديه، وبين قضايا أخرى في هذه المذاهب، أو بين ترتيب العرض عنده وترتيبه في كتابات أصحاب هذه المذاهب (وهذا هو ما فعله ولفسون بتفصيل مرهق في كتابه «فلسفة اسپينوزا»)، ولكن هذا التقريب يتعلق، كما هو واضح، ب «الشكل الظاهري» لكتابات اسپينوزا. وقد كان اسپينوزا يستخدم بالفعل في كتاباته ألفاظ المدرسيين وتعبيرات العصور الوسطى وقضايا الفلاسفة اليهود القدماء والعبارات اللاهوتية المألوفة، ولكن هذا كله لا يعدو أن يكون متعلقا بالوجه الظاهري لكتاباته. أما المعاني الحقيقية لهذه الكتابات فكانت تدور في مجال مختلف تماما، مجال جديد كل الجدة بالنسبة إلى كل ما عرف في هذه التيارات التي يفترض أنه تأثر بها.
ونستطيع أن نقول إن اسپينوزا قد «تعمد» هذا التأثر الشكلي الظاهري، ويبدو في رأينا أنه عندما أراد أن يدون أفكاره العلمية التي تعد ثورية حقا بالنسبة إلى العصر الذي عاش فيه، قد تساءل: كيف أعبر عن هذه الأفكار الجريئة بأقل الأساليب استفزازا لأصحاب النزعات التقليدية ولرجال الدين؟ وكان الجواب الواضح هو أن أفضل الوسائل هي اتباع نفس الأسلوب الذي اعتاد هؤلاء أن يكتبوا به. وهكذا كان لا بد له من بذل مجهود مضاعف؛ أي أن يكتب بأسلوب ظاهره لاهوتي، ويحتفظ في نطاق هذا الأسلوب ذاته بكل المعاني الانقلابية التي تضمنتها فلسفته الخاصة. وهذا يفسر لنا الجهد المضني الذي بذله في صياغة كتاب «الأخلاق» وترتيب قضاياه واحدة بعد الأخرى على النحو الذي يفي بهذين الغرضين معا؛ وعلى هذا الأساس فإن الجهود التي يبذلها معظم شراح اسپينوزا في سبيل تتبع الأصول التي استمدت منها فلسفته ما هي إلا جهود تتعلق ب «شكل» كتاباته فحسب. وكل ما يحرزونه في هذا الصدد من نجاح لا يدل على براعة على الإطلاق؛ إذ إنه قد «تعمد» أن يقرب كتاباته من كتابات الآخرين بقدر استطاعته، في الوقت الذي كان يعلم فيه أن هدفه مختلف تماما عن كل ما قالوا به. وإذن فلا بد، تبعا لتفسيرنا هذا، من أن تتضاءل إلى حد بعيد أهمية مشكلة المؤثرات في تفكيره.
وقد أرجع بعض الشراح فلسفة اسپينوزا إلى ديكارت، ورأوا أن موقع اسپينوزا في عالم الفكر هو موقع فيلسوف ينتمي إلى المدرسة الديكارتية أو إلى الفترة الديكارتية في تاريخ الفلسفة. وهذا الرأي يرجع، على الأرجح، إلى هيجل، الذي قال في مستهل بحث له عن اسپينوزا إنه «قد سار بالمبدأ الديكارتي حتى آخر نتائجه المنطقية.»
1
ومع ذلك فقد بينا من قبل أن قضاء اسپينوزا التام على ثنائية المادة والروح، وإنكاره بالتالي ثنائية الله والطبيعة، واستبعاده كل نوع من الغائية (التي استبقى ديكارت عناصر منها في فلسفته النظرية، وإن يكن قد استبعدها بدروه في نظرياته العلمية الميكانيكية)، فضلا عن تحديد موقفه من السلطة الدينية تحديدا أوضح وأجرأ كثيرا من ديكارت - كل ذلك يجعل من المحال أن يكون تأثير ديكارت هو التأثير الحاسم لديه، وإن كان من المستحيل في ذلك العصر، بطبيعة الحال، أن يتجاهل أي مفكر شخصية ديكارت الضخمة في عالم الفلسفة. وهكذا رأينا هيجل نفسه يضيف إلى تأثير ديكارت مؤثرات أخرى شرقية، هي المؤثرات اليهودية. ولقد سبق أن اقتبسنا رأي «لاشيزري
Lachièze-Rey » الذي انتهى من دراسته المقارنة إلى القول بضآلة أهمية المؤثرات الديكارتية في فلسفة اسپينوزا. ونضيف إلى ذلك، في هذا المجال، قول «هفدنج»: «إن اسپينوزا لم يكن ديكارتيا على الإطلاق، ولكنه تعلم الكثير من ديكارت، وانتفع من كثير من أفكاره، كما استخدم مصطلحه الفلسفي إلى حد معين.»
2
ومع ذلك فمن المؤكد أن محاولة التقريب بين اسپينوزا وبين ديكارت تعد أمرا مشروعا بالقياس إلى المحاولات الأخرى التي تبذل للتقريب بين اسپينوزا وبين مذاهب فلسفية أو دينية أخرى لا توجد بينه وبينها أية صلة حقيقية. فبين اسپينوزا وديكارت يوجد على الأقل ذلك العالم الجديد الذي اكتشف منذ عصر النهضة الأوروبية، عالم «الطبيعة» الذي تغنى به الشعراء وتوغل فيه الفنانون دون خوف واكتشف بقاعه الملاحون المستكشفون وبحث في أسراره وقوانينه العلماء. ولكن ماذا نقول في تلك المحاولات التي تبذل للتقريب بين فلسفة اسپينوزا ومذهب كالأفلاطونية المحدثة مثلا؟ إنها ليست محاولات عابرة، بل هي تظهر لدى مجموعة من شراحه المتعمقين: منهم مثلا «پولوك
»،
3
ومنهم «بروشار
Brochard »، الذي يؤكد وجود قرائن قوية على تأثر اسپينوزا بأفلوطين لأنهما معا «يتفقان على تصور الله على أنه علة فاعلة، وقوة تستمد المعلولات الكثيرة من ذاتها وبقدرتها الخاصة، وبفعلها المستمر تحتفظ الأشياء بوجودها ... فمن الواضح أن فكرة القوة هي التي تخطر في أكثر الأحيان بذهنه في كل جوانب فلسفته.»
4
بل ويذهب إلى حد القول: «إن النفوس [عند اسپينوزا] تشارك في الذهن الإلهي، وتوجد فيه بالفعل، لا من حيث هي تكون النفس البشرية بوجه عام، وإنما من حيث هي نفوس فردية تعبر عن ماهية جسم معين. ومثل هذه النظرية موجودة لدى أفلوطين.»
5
ويتحدث «موريس كوهن» عن «التراث الأفلاطوني المحدث العظيم الذي تشبع به ذهن اسپينوزا.»
6
وعن تمكن اسپينوزا من الاحتفاظ «بجميع القيم البشرية العظيمة للأفلاطونية المحدثة والروحية بوجه عام.»
7
مثل هذه المحاولات للتقريب بين فلسفة اسپينوزا وبين الأفلاطونية المحدثة هي في رأينا محاولات ساذجة تماما. فمن العبث إضاعة الجهد في تلمس أوجه شبه سطحية بينه وبين مثل هذه التيارات الفكرية، في الوقت الذي ينطق فيه محتوى فلسفته بالتنافر التام بين آرائه وبين مثل هذا المذهب الحافل بالغائية وتشبيه الطبيعة والعالم بالإنسان وكراهية العلم والمعقولية. وإذا كانت هذه المحاولات تبذل من أجل إثبات العلم أو سعة الاطلاع، فإن ذلك يتم قطعا على حساب العقل والمنطق السليم، ففكرة «القوة » التي اعتقد بروشار أنها طاغية في فلسفة اسپينوزا، هي أبعد التصورات عن ذهنه؛ لأنها تنطوي على نظرة إلى الكون من خلال الإنسان. ونظرية اسپينوزا في العلاقة بين النفس والجسم، وفي فكرة النفس بوجه عام، هي أبعد ما تكون عن تفكير أفلوطين؛ إذ كان كل هدف اسپينوزا هو أن يقضي على القول بكيان مستقل للنفس، كما لو كانت «دولة داخل دولة». وأبعد الأمور عن ذهن اسپينوزا أن يقول بنفس كلية في الكون أو بغير ذلك من مظاهر تشبيه الكون بالإنسان. هذا إلى أن فكرة مشاركة النفوس الفردية في النفس الكلية كانت عند أفلوطين وسيلة لإثبات خلود النفس بالمعنى التقليدي الذي رفضه اسپينوزا رفضا صريحا قاطعا. أما الجزم بأن اسپينوزا قد «تشبع» بالأفلاطونية المحدثة فقول لا يقوم عليه أي دليل؛ لأنه إذا كان قد تعرف على هذا التراث من خلال من درسهم من مفكري العصور الوسطى، فليس معنى ذلك أنه قد «تشبع به» أو آمن به على الإطلاق، بل إن كل الدلائل تدل على أنه قد نبذه في نفس اللحظة التي نبذ فيها المبادئ الأساسية لتفكير العصور الوسطى. وإنه لمن الغريب حقا أن يقرب شارح - على أساس تشابه سطحي أو بناء على تفسيره الخاص لنصوص معينة - بين فيلسوف عقلي دقيق مثل اسپينوزا وبين مذهب آخر تتغلغل الغائية في كل جوانبه، ويحتشد بالأفكار اللاعقلية واللاعلمية، ك «المبادئ أو العلل البذرية»، و«التعاطف» الكوني، والقوى الخفية التي تزخر بها الطبيعة؛ أعني مذهبا لا يمكن أن يقال عنه سوى أنه نكسة شديدة للمعقولية اليونانية واتجاهاتها العلمية السليمة. •••
ولكن هذه المحاولات كلها هينة إلى جانب محاولة أخرى كانت أوسع انتشارا بكثير، بذلها عدد كبير من شراح اسپينوزا اليهود - وإن لم يخل الأمر من بضعة مفكرين غير يهود ساروا في الاتجاه نفسه - للتقريب بين فلسفته وبين التراث اليهودي، بل للنظر إليه على أنه يمثل مظهرا رئيسيا من مظاهر ذلك التراث. هذه المحاولة لا تقوم، في رأينا، على سوء تفسير فحسب، بل هي مبنية أيضا على سوء النية ، وعلى استغلال متعمد للعلم في سبيل إرضاء نزعات عنصرية معينة، وهو أسوأ أنواع التشويه في البحث العلمي.
ويتفاوت هؤلاء الشراح في درجة وطريقة تقريبهم بين فلسفة اسپينوزا وبين اليهودية؛ فبعضهم يتجاهل معظم نصوص اسپينوزا ويركز اهتمامه على نص واحد أو نصين منتزعين من سياقهما، ليؤكد تأكيدا لا عقليا قاطعا أن اسپينوزا ظل مفكرا يهوديا من البداية إلى النهاية. وبعضهم الآخر لا يصل ذهنه إلى هذا الحد من السطحية وضيق الأفق - وإن يكن لا يقل عن الأولين تعصبا - فيحاول أن يتحايل على النصوص ويطوعها لأغراضه الخاصة بطريقة فيها شيء من الدهاء، ولكن هدفها، آخر الأمر، هو أيضا إثبات يهودية تفكير اسپينوزا على حساب الحقائق القاطعة، وسوف نعرض فيما بعد أمثلة عديدة لهذين النوعين من الشراح، ولكن ستصادفنا أمثلة أخرى غير قليلة لشراح كانوا هم أنفسهم من اليهود، ولكنهم لم يستطيعوا مسايرة الأنماط السابقة من المفكرين، وسلموا بأن تفكير اسپينوزا لا يمكن أن يعد جزءا من التراث اليهودي على الإطلاق.
وسوف نبدأ بحثنا بالواقعة الأساسية في هذا الموضوع وهي واقعة طرد اسپينوزا من المجتمع الديني اليهودي؛ أي توقيع أحبار اليهود لعقوبة «الحرم» عليه، وهي واقعة يتجاهلها، أو يخفف من شأنها، معظم الشراح اليهود، وإن كانت قاطعة الدلالة؛ إذ إن اليهودية الدينية قد طردت اسپينوزا من صفوفها رسميا، ولم يعبأ هو ذاته بهذا الطرد، بل بادر إلى تغيير اسمه من صيغته اليهودية «باروخ» إلى مقابله اللاتيني «بندكتوس» ولم يتراجع عن موقفه هذا إلى النهاية؛ لذلك كان من الضروري أن نبدأ بحثنا في العلاقة بين اسپينوزا وبين التراث اليهودي بإيضاح هذه الواقعة الرئيسية. (2) طرد اسپينوزا من الطائفة اليهودية
يناقش «فوير
Feuer » الأسباب التي أدت إلى توقيع عقوبة «الحرم» على اسپينوزا، فيستبعد أن تكون تلك الأسباب دينية فحسب؛ فالاختلافات في المعتقدات اللاهوتية وحدها ليست في نظره تفسيرا كافيا لهذا الطرد؛ فقد قدمت إليه رشوة لتغيير موقفه، ولو كانت المسألة خلافا في العقائد وحدها لما حاولت الطائفة اليهودية تقديم هذه الرشوة إليه. فلا بد إذن أن الأمر كان متعلقا بأفعال لا بعقائد. وهو يرى أن السبب الحقيقي لهذا الطرد هو نزعة اسپينوزا التحررية في آرائه السياسية الاجتماعية، وهي نزعة تعد خطرا على الاتجاه المحافظ بين رجال الدين اليهود. «فاسپينوزا كان ذا نزعة عالمية، يحتقر فكرة الشعب المختار. وقد اجتذبته، قبل كل شيء، الآراء الدينية المتحررة، وكانت آراؤه السياسية والاقتصادية مضادة تماما لآراء قادة الطائفة اليهودية؛ فقد كان كبار اليهود ذوي نزعة ملكية، مخلصين لأسرة أورانج، وعلى علاقة طيبة بالحزب الكلڨيني، وبحملة أسهم شركتي الهند الهولندية الشرقية الغربية. أما اسپينوزا فكان جمهوريا متحمسا، من أتباع «يان ديڨيت» ... وقد ارتبط بالجماعة السياسية التي دعت إلى فض الشركات التجارية الكبرى، وأعجب بالاقتصاد الجمهوري الذي انتقد الاحتكارات ...»
8
ويواصل «فوير» كلامه قائلا «لقد كانت الأخلاق التجارية متغلغلة في قيم كبار الطائفة اليهودية في أمستردام إلى حد أن أوامر البورصة كانت تقترب في سلطتها من الأوامر الإلهية، بينما كانت شركتا الهند الشرقية والغربية أشبه ما يكونان بالوسائط الإلهية المختارة.»
9 «ولقد كان في وسع قادة يهود أمستردام أن يتسامحوا مع الخلاف اللاهوتي، ولكنهم لم يكونوا قادرين على التسامح مع شخص متحرر سياسيا واقتصاديا.»
10
وقد بحث «فوير» بعد ذلك، تبريرا لرأيه هذا، في تاريخ حياة أفراد المجتمع الديني اليهودي الذي حكم بطرد اسپينوزا، وانتهى إلى أنهم يمثلون مجموعة من أكبر أثرياء اليهود: منهم كبار حملة أسهم شركة الهند الغربية والشرقية، والأعضاء البارزون في بنك أمستردام والبورصة، وكبار تجار البلاد - إلى جانب عدد من رجال الدين المتزمتين بطبيعة الحال.
11
والنتيجة الواضحة التي تستخلص من هذا التحليل هي أن اسپينوزا لم يطرد لعقائده وآرائه فحسب، بل طرد لأن أفكاره الاقتصادية والاجتماعية كانت تهدد المصالح التجارية المسيطرة على يهود أمستردام تهديدا مباشرا. وهذا تعليل طريف ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار، ولكنه لا يعبر عن الحقيقة الكاملة؛ فمع اعترافنا التام بأن اسپينوزا لم يكن ذلك الناسك المنعزل عن مجرى الأحداث في مجتمعه، فلسنا نرى ما يدعو إلى الاعتقاد بأن اسپينوزا قد ساهم بالفعل في حركة عملية من شأنها تهديد مصالح اليهود المالية بالخطر. وحتى كتاباته ذاتها كان أخطر ما فيها هو فلسفتها العامة، وليس ما تتضمنه من آراء اقتصادية أو اجتماعية، ومن الجائز أن اسپينوزا كان في محادثاته الخاصة يعبر عن آراء من هذا النوع - بل إن هناك قرائن كثيرة تدل على أن آراءه الخاصة كانت على الأرجح من هذا النوع - ولكن لم تصل هذه الآراء أبدا، سواء في صورتها النظرية أو من حيث انتقالها إلى الواقع العملي، إلى حد تهديد المصالح القائمة؛ فاسپينوزا بالفعل لم يكن منعزلا، ولكنه أيضا لم يكن ثائرا سياسيا أو مصلحا اقتصاديا أو صاحب دعوة عملية إلى تغيير الأوضاع، وطالما أن الأمر قد اقتصر على أفكار خاصة، ولم ينتقل إلى حيز العمل التنظيمي الصريح، بل لم ينعكس على كتاباته ذاتها إلا بطريق غير مباشر إلى حد بعيد، فمن الصعب أن نتصور أن تكون مثل هذه المخاوف الاقتصادية هي سبب طرده من الطائفة اليهودية.
وقد بحث كاتب يهودي آخر في الأسباب التي يحتمل أن يكون اسپينوزا قد طرد من أجلها من الطائفة اليهودية في مقال حديث العهد سنورد فيما يلي تلخيصا له. وقد استند كاتب هذا المقال إلى وثائق عثر عليها حديثا في إحدى مكتبات مانشستر بإنجلترا.
12
فقد كشفت هذه الوثائق عن وجود نزاع حاد بين يهود أمستردام في ذلك العصر، حول مسألة خلود العقل. ويستدل المؤلف من هذا النزاع على أن الجو الروحي لليهودي الذي نشأ فيه اسپينوزا كان معاديا للتفكير الفلسفي، وفي هذا الضوء ينبغي أن ينظر إلى طرد اسپينوزا.
13
ويشير المؤلف إلى أن هذه الوثائق عبرت بصراحة عن خوف رجال الدين اليهودي من أن يظن المسيحيون أنهم يتهاونون في أركان دينهم. ولم يكن ذلك في الواقع خوفا من أن يكون المسيحيون رأيا سيئا عن اليهود فحسب، بل كان أيضا خوفا من أن تتخذ السلطات المسيحية تدابير إيجابية ضد اليهود.
14
ويشرح مؤلف هذا المقال القانون الأساسي الذي كان مطبقا في الدولة الهولندية على جميع اليهود، واسمه قانون
Remonstrantie ، الذي وضعه «جروتيوس» سنة 1618م، وينص على وجوب اعتراف جميع اليهود البالغين أمام السلطات علنا بإيمانهم بإله واحد خالق حاكم للكون، تتوجب عبادته، وبموسى والأنبياء، وبحياة أخرى يكافأ فيها المحسن ويعاقب المسيء. ومن مواد القانون أن كل يهودي ينكر ذلك يكون معرضا لعقوبة الموت أو العقاب البدني حسب شدة الجريمة. ونص في حيثيات هذه المواد على أن المقصود هو ردع الملحدين الذين كانوا يظهرون من آن لآخر بين صفوف اليهود. ويؤكد كاتب المقال إن السياسة التي كانت مطبقة بالفعل في العهد الجمهوري الذي طرد فيه اسپينوزا كانت، رغم ذلك، سياسة متسامحة إلى حد بعيد، ومع ذلك كان الأحبار والربانيون في الطائفة اليهودية متمسكين بنص القانون يخشون أي انحراف عنه. وهكذا يرى أن «المعمد» اليهودي قد حكم على اسپينوزا بالطرد مخالفا بذلك السياسة المتسامحة الجديدة للحكومة، وليس أدل على ذلك من أن «ديڨيت»، الزعيم الجمهوري، قد منح اسپينوزا معاشا بعد طرده، وأن الحكومة حرمت على المحافل اليهودية ممارسة حق فرض عقوبة «الحرم» بضع سنوات بعد ذلك.
15
وأخيرا، يرى كاتب المقال إن السبب الذي أدى مباشرة إلى الطرد في الوقت الذي حدث فيه، هو أن مسألة إعادة اليهود إلى إنجلترا كانت موضوع بحث في تلك الفترة، وكان «منسي بن إسرائيل»، وهو رئيس المجمع الذي حكم بطرد اسپينوزا، مهتما بنفسه بهذه المسألة، وسافر من أجلها إلى لندن للتفاوض فيها؛ وعلى ذلك «فقد كان من غير المعقول ألا يدرك كبار الطائفة اليهودية في أمستردام التأثير الذي يمكن أن يحدثه في إنجلترا تسامحهم مع الفلاسفة المعروفين بالمروق والهرطقة؛ إذ لم تكن إنجلترا في ذلك الوقت متسامحة مثل هولندا مع هؤلاء الناس.»
16
ويرى كاتب المقال إن هذا العامل قد يكون هو الذي يعلل صمت اسپينوزا فترة طويلة بعد طرده من الطائفة اليهودية؛ إذ إنه لم يكتب «البحث اللاهوتي السياسي» إلا سنة 1670م، بعد أن تمت عودة اليهود في إنجلترا واستقرارهم فيها؛
17
أي إنه لم يشأ أن يزيد الطين بلة بإحراج مركز اليهود الهولنديين أثناء مفاوضاتهم مع الإنجليز.
هذا التعليل المباشر، إذا كان صحيحا، فإنه لا يعفي الطائفة اليهودية من تهمة التعصب وضيق الأفق الشديدين، ومن الواضح من المقال الذي لخصنا نقاطه الرئيسية أن هذه الطائفة كانت تفوق الدولة الحاكمة ذاتها كثيرا في التعصب وخنق حرية الفكر، وأنها إذا كانت قد اضطهدت اسپينوزا - وأذلت من قبله «أورييل داكوستا» حتى دفعته إلى الانتحار - فقد كان ذلك راجعا إلى مزيج من ضيق الأفق الذي جعلها ترفض أي رأي مخالف، ومن الخوف أو الجبن المفرط الذي جعلها تتوهم أن السلطات الحاكمة ستحملها جريرة ما يعلنه بعض أفرادها من الآراء المتحررة، فكانت تسارع إلى التبرؤ منهم خوفا من أن تحل عليها النقمة، مع أن السلطات الحاكمة ذاتها كانت أوسع منها أفقا إلى حد بعيد.
وليس من الظواهر الغريبة أن تعمل سلطة دينية ما على طرد مفكر ذي آراء مخالفة لها من صفوفها. وتغدو هذه الظاهرة أقل غرابة إذا كانت هذه السلطة هي المجامع الدينية اليهودية؛ فهنا تتكرر نفس الظاهرة المألوفة طوال التاريخ اليهودي، وهي مقابلة العداوة الخارجية بالمزيد من التعصب، بدلا من مقابلتها بالمزيد من التفاهم والسعي إلى القضاء على أسباب العداوة ذاتها. ويصل الأمر إلى حد ممارسة هذا التعصب على أفراد الطائفة ذاتهم لو بدر منهم أي ميل إلى الخروج عن تعاليمهم التي لا يقبلها العقل السليم، وبذلك يمارسون نفس الاضطهاد الذي لا يكفون عن الشكوى منه. وكما قال «فوير»: «فإن المأساة الحقيقية هي أن اليهود المضطهدين قد تشبعوا بعناصر من التعصب الذي يتمثل في مضطهديهم، وإن المرء ليمتلكه الأمل دائما في أن يسلك المظلومون مسلك الأبطال، ولكنه يصدم إذ يلمس مدى التشابه بينهم وبين من يضطهدونهم، ويدرك حقا أن الناس جميعا على شاكلة واحدة.»
18
ولكن الظاهرة الغريبة حقا هي أن يعمد اليهود في العصور التالية إلى إعادة «تبني» هذا المفكر الذي طردوه من بين صفوفهم، والذي اختلف معهم في الأسس الأولى لعقيدتهم وطريقتهم في الفكر والحياة، وتبرأ منهم مثلما تبرءوا منه، وغير اسمه اليهودي عمدا؛ فقد كان الأجدر بهم، في رأيي، أن يظلوا على عدائهم له إلى النهاية، ويأخذوا على عاتقهم مسئولية الصراع الفكري معه مثلما فعلوا ذلك أثناء حياته، طالما أن نفس عقيدتهم، ونفس طريقتهم في الفكر والحياة، ما زالت على ما هي عليه إلى حد بعيد، ولكن الذي حدث أن اسپينوزا أصبح، في عصر متأخر، وبعد أن «أعيد اكتشافه» في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وفي القرن التاسع عشر بوجه خاص، شخصية ضخمة في عالم الفكر - أصبح فيلسوفا رفيع المكانة، بحيث يكون من المخجل أن يقال إن الطائفة التي كان ينتمي أصلا إليها قد طردته واضطهدته، وتبرأت منه، وأنه قابل ذلك بموقف مماثل تجاهها، وبحيث يكون مما يشرف أية طائفة أن ينسب إليها. وهكذا بدأت فجأة، بعد قرنين من وفاته، لم يحفل به خلالهما اليهود على الإطلاق؛ لأن مكانته في عالم الفلسفة لم تكن قد توطدت بعد؛ بدأت محاولة من أغرب المحاولات في تاريخ الفكر، اشتركت فيها مجموعة كبيرة من الشراح اليهود، «لإعادة ضم» اسپينوزا، طريد اليهودية، إلى صفوفها، وتحوير فلسفته على أعجب نحو بحيث تغدو في النهاية متأثرة باليهودية ومنتمية إلى تراثها!
وكان لا بد لتحقيق هذا العرض من التخلص، على نحو ما، من تأثير واقعة طرد اسپينوزا من الطائفة اليهودية. وهكذا عمل اليهود على الإقلال من أهمية هذا الطرد؛ فقال «جبهارت
Gebhardt » إن «الحرم» اليهودي يفترق عن الطرد
excummunication
الكاثوليكي في أن الخير شامل يسري على كل زمان ومكان ما لم يرفع. أما الأول فهو «محلي» ينطبق على المجتمع الخاص الذي يعيش فيه اليهودي، بحيث إنه إذا انتقل إلى مجتمع آخر فيه طائفة يهودية أخرى، تعين إصدار «حرم» جديد عليه، وأكد أن اسپينوزا خلال السنوات السبع التي عاشها في لاهاي لم يكن محرما عليه الاختلاط بطائفتها اليهودية، وأن مرور 250 عاما (وقت كتابته هذا الكلام) على وفاة اسپينوزا يجعل ذلك الطرد غير ذي موضوع،
19
وكان ذلك ردا منه على خبر طريف أشار إليه في مستهل مقاله هذا، نشرته صحيفة برلينية، عند الاحتفال بمرور قرنين ونصف على وفاة اسپينوزا (أي سنة 1927م)، وقالت فيه إن طرد اسپينوزا ما زال قائما، وأن أحبار الطائفة اليهودية في أمستردام لم يرفعوا بعد حكمهم بطرده ولعنتهم عليه، وبذلك يعد اسپينوزا حتى ذلك الحي طريدا في نظر الطائفة اليهودية التي حرصت كل الحرص على أن تحتفل بعد هذه الفترة الطويلة بذكراه. وقد تلقفت هذا الخبر الصحافة الأوربية على أنه «فضيحة عالمية» وسخرت كثيرا من حرص اليهود على الاحتفال بذكرى طريدهم.
20
وعلى هذا النحو ذاته يقل باحث يهودي آخر، هو، هو «رخمان
Rakhman » من أهمية الطرد، فيقول: «إن هذا الطرد ليس على الإطلاق أمرا نادرا بين اليهود، ولا هو بالأمر المخيف بالقدر الذي يصوره به بعض الباحثين في صدد حديثهم عن طرد اسپينوزا؛ ففي التلمود يعاقب على الذنوب الآتية بالطرد: نقد أفعال الرباني (حتى بعد وفاته)، وإطلاق لقب مهين ثابت على صديق، وخرق قواعد الأخلاق الاجتماعية، وإيواء كلب مسعور، والحنث بيمين الله ... إلخ.»
21
وهكذا صوروا الأمر كما لو كانت مسألة الطرد عابرة لا قيمة لها، بل إن بعضهم حاول أن يتجاهل المسألة ويصرف عنها نظر القارئ، ويظهر ذلك بوضوح في كتاب «ليون روث
Roth » عن اسپينوزا،
22
إذ لم يشر فيه إلى واقعة الطرد إلا إشارة عابرة، ولم يحاول على الإطلاق أن يناقش دلالتها بالنسبة إلى ما يقول بوجوده من مؤثرات يهودية في تفكير اسپينوزا.
ومن الطريف أن «بن جوريون» قد ساهم بدوره في عملية الإقلال من أهمية واقعة طرد اسپينوزا من صفوف اليهود، وفي تأكيد انتمائه إليهم بأي ثمن، فقال في رسالة بعث بها إلى مؤلف كتاب «اسپينوزا والديمقراطية الغربية» في 4 أكتوبر سنة 1954م، ونشرت في مقدمة الكتاب: «ربما كان لطرد اسپينوزا ما يبرره في ظروف العصر وذلك المكان ... ولكن مثلما أن إدانة المحكمة الأثينية لسقراط لم تجعل من ذلك الفيلسوف اليوناني العظيم شخصا غير يوناني، فإن طرد أحبار أمستردام في القرن السابع عشر لاسپينوزا لا يمكن أن يحرم الأمة اليهودية من أعظم مفكريها وأكثرهم أصالة.»
23
وهكذا ارتكب بن جوريون - في هذه الحالة أيضا - مغالطة واضحة عندما قارن بين إدانة سقراط التي لم تصدر إلا عن محكمة مدنية لا عن سلطة دينية، والتي لم تكن مسألة احتفاظ سقراط بجنسيته أو حرمانه منها موضوعا فيها على الإطلاق، وبين هذا الطرد الديني الذي أعلنته أكبر سلطة يهودية في ذلك الحين، ولعنت فيه اسپينوزا وحرمت كتبه، وظل اسمه يلعن بعد ذلك في الأوساط اليهودية حتى اتضح أنه «مفكر عظيم»، فانقلب الموقف رأسا على عقب.
وأخيرا؛ فقد أشار «ياسپرز» في كتاب حديث له إلى تقرب إسرائيل إلى اسپينوزا في ذكراه؛ فبعد مرور ثلاثمائة عام على طرد اسپينوزا (أي في سنة 1956م)، أرسلت إسرائيل إلى لاهاي حجرا تذكاريا من الجرانيت مهدى إلى ذكرى اسپينوزا، وكتبت عليه «أهلك
Dein Volk »، ويعلق ياسپرز على ذلك قائلا: إن اسپينوزا كان يعجب حقا لو علم ذلك؛ إذ لا يستطيع أي شعب أو دولة أن يزعم أن إنسانا له مكانة اسپينوزا ينتمي إليه وحده، وإنما هو ينتسب إلى الإنسانية جمعاء.
24
وهكذا كانت المحاولة تنطوي منذ بدايتها على اتجاه إلى طمس هذه الحقيقة التاريخية الأساسية أو الإقلال من أهميتها، وترمي إلى إرغام العالم على الاعتراف بانتساب اسپينوزا إلى التراث اليهودي، لا لشيء إلا لواقعة عرضية هي مولده لأبوين يهوديين، بينما كانت وقائع حياته، وعناصر فكره، تنطق كلها بابتعاده التام عن هذا التراث. وفي سبيل ذلك قيل إن الطرد الذي عذب من أجله «أورييل داكوستا» حتى انتحر - حادث تافه عارض، وأن تغيير اسپينوزا لاسمه أمر لا قيمة له (بل إن الكثيرين من الشراح اليهود ما زالوا يسمونه «باروخ» رغما عنه!) وأن إعلانه الانفصال عن اليهودية وإصراره على عدم الرجوع إليها، رغم استخدام سلاحي الرشوة والتهديد بالقتل (حسب الروايات القديمة عن حياته) كل ذلك لا يحول دون استمرار الحكم عليه بأنه «أعظم مفكري الأمة اليهودية وأكثرهم أصالة»! (3) محاولات التقريب بين اسپينوزا واليهودية وتفنيدها
ظهرت هذه المحاولات بقوة في القرن التاسع عشر، وإن كنا نجد في القرن الثامن عشر ناقدا قديما لاسپينوزا، هو «ڨاختر
Georg Wachter » يرجع تعاليم اسپينوزا إلى مذهب «القبالة
Cabbale »
25
اليهودي الذي انتشر في العصور الوسطى. وقد تحمس لهذه الفكرة في القرن التاسع عشر الفيلسوف الألماني «يول
Joel » في كتابه
Joel «منشأ نظرية اسپينوزا
Zur Genesis der Lehre Spinozas » ثم حاول «فروينتال
Freudenthal » ومن بعده «جبهارت
Gebhardt » أن يبنياها على أساس من البحث الدقيق، وتدفق بعد ذلك سيل الشراح اليهود الآخرين الذين حاولوا أن يدخلوه قسرا ضمن التراث اليهودي.
ونستطيع أن نجد بين الشراح اليهود اتجاهات مختلفة في موقفهم من مسألة انتساب اسپينوزا إلى اليهودية، يمكننا أن نقسمها بوجه عام إلى الفئات الآتية: (أ)
فئة المتعصبين اللاعقليين، وهي فئة يستدعي موقفها كثيرا من التدبر والتفكير في مدى الضراوة التي يمكن أن تتخذها العنصرية اليهودية إذا ما أرادت إثبات امتياز الشعب اليهودي وتفوقه على حساب العقل والمنطق السليم. وأصحاب هذه الفئة لا يقدمون حججا عقلية، وإنما يتحدثون في هوس وجنون عن عظمة الأمة اليهودية وضرورة انتساب اسپينوزا إليها، وتظهر أوضح أمثلة هذه الفئة في مقال كتبه «هاري واتون
Harry Waton » بعنوان «المسألة اليهودية وفلسفة اسپينوزا» يقول فيه: «إن اسپينوزا والأمة اليهودية هما شيء واحد في الماهية وفي المصير.»
26
ويقول أيضا: «إن ما كشفه اسپينوزا صراحة هو ماهية اليهودية وروحها.»
27
وفي المقال نجد أحكاما مثل «إن الأمة اليهودية تحتل من الهرم البشري قمته، والأمة اليهودية هي العنصر «الصدوق» (أي الأمين المخلص
Zaddik ) في الجنس البشري. وقد خلق العالم كله من أجل الأمة اليهودية.»
28
فهل يستغرب أحد - بعد هذه التصريحات العنصرية الهستيرية - إذا قيل إن اليهود لا يفترقون عن مضطهديهم من أعداء السامية في شيء، بل إذا قيل إنهم هم الذين يستفزون العالم إلى هذا الاضطهاد؟! (ب)
والفئة الثانية تتألف من المذبذبين الذين يعلمون حق العلم من دراستهم لاسپينوزا أن أفكاره الحقيقية لا تتفق مع اليهودية، ولكنهم في الوقت نفسه يريدون إرضاء نزعاتهم العنصرية التي تدفعهم إلى تأكيد هذا الاتفاق. وهكذا يظلون يؤكدون الاتفاق تارة وينفونه تارة أخرى دون أية محاولة لاتخاذ موقف صريح من المسألة. ومن أوضح أمثلة هذه الفئة «رخمان
Rakhman » الذي أستطيع أن أقول إن مقاله عن «اسپينوزا واليهودية» من أعجب ما قرأت! فهو يؤكد في البداية تأثر اسپينوزا باليهودية، ويأتي بقائمة طويلة من العناصر التي يفترض فيها وجود هذا التأثير، ثم يعود فيؤكد وجود اختلافات أساسية بين تفكير اسپينوزا وبين نفس المصادر اليهودية التي قال بها، وهي اختلافات بلغت من الأهمية حدا كان من الواجب معه، لمجرد تنبهه إليها، أن ينفي وجود أي تأثير لها عليه. ومع ذلك يعود مرة أخرى، وبعد ذلك مباشرة، فيقول (في ص59-60 من المقال المذكور): «إن كتاب الأخلاق هو أكثر ما أنتجته اليهودية من الكتب كمالا ونضجا.» وبعد ذلك مباشرة (ص60) يقول: إن اسپينوزا لا يمكن أن يعد فيلسوفا يهوديا بالمعنى الدقيق، وإن اسپينوزا لا ينتمي إلى شعب بعينه، وإنما إلى البشرية جمعاء. كل هذه المواقف المترددة المذبذبة تقع في صفحات مقال قصير، ينتقل فيه المؤلف من الضد إلى الضد على نحو إن دل على شيء فإنما يدل على العجز عن تحمل المسئولية الأدبية لموقف صريح واضح. (ج)
وهناك فئة ثالثة لا يترك أفرادها آراءهم المتضادة هكذا جنبا إلى جنب دون محاولة لإزالة التناقض بينها، بل يأخذون موقفا ويتحملون مسئوليته: وهذا الموقف هو أن اسپينوزا قد تأثر فعلا بالتراث اليهودي، ثم يحاولون دعم هذا الموقف بالأسانيد. ومن المؤكد أن الكثيرين ممن ينتمون إلى هذه الفئة قد تنبهوا أيضا إلى وجود عناصر تتنافى مع التراث اليهودي، ولكنهم تحايلوا على هذه العناصر، وأساءوا تفسيرها في كثير من الأحيان، وسوف نناقش حجج هذه الفئة فيما بعد بالتفصيل، ولكن يكفي أن نقول الآن: إن آراءها تتسم بمسحة علمية؛ ولذلك فهي لا تدعو إلى الازدراء كالفئتين السابقتين. وإلى هذه الفئة ينتمي عدد كبير من شراح اسپينوزا اليهود المشهورين، مثل فرويدنتال، وجبهارت، وولفسون وروث. (د)
وأخيرا فإن أكثر هذه الفئات اليهودية أمانة هي تلك التي تمكنت من تغليب الحقيقة على الميول العنصرية، وإنكار وجود مؤثرات يهودية في تفكير اسپينوزا، وهي تتفاوت من شراح ينكرون هذا التأثير جزئيا، مثل «واكسمان
Waxman »، إلى آخرين ينكرونه تماما، مثل «كاسيرر»، و«فوير» و«ليوشتراوس».
29
وسوف نعرض في الأقسام التالية في هذا الفصل أمثلة للعناصر الرئيسية التي يقال: إنها مشتركة بين اسپينوزا وبين اليهودية، ونفند كلا منها في نفس الوقت. وينبغي أن يلاحظ على هذا التفنيد أمران: (أ)
أننا لسنا بحاجة إلى رد فعل مفصل على كل حجة من الحجج التي تساق للتقريب بين اسپينوزا وبين اليهودية؛ إذ إن جميع فصول هذا الكتاب يمكن أن تعد ردودا مفصلة على هذه الحجج، ويكفي أن يرجع القارئ إلى الصفحات التي عولج فيها أي موضوع تدور حوله الحجة المعينة في هذا الكتاب، ليجد فيها حتما الرد الحاسم على هذه الحجج. (ب)
أننا سنلجأ في كثير من الأحيان إلى مواجهة مفكر يهودي بمفكر يهودي آخر يقول برأي مضاد. وكما قلنا من قبل؛ ففي وسعنا أن نجد كثيرا من المفكرين اليهود الذين امتنعوا عن السير في هذه المحاولة العقيمة، واستنكروها لأنهم يدركون أن القضية خاسرة منذ البداية، وفي هذه المواجهة بين المؤيدين والمنكرين نستطيع أن نجد الرد الكافي في كثير من الأحيان. (3-1) المؤثرات المستمدة من حياته
يفترض كثير من الشراح اليهود أن نشأة اسپينوزا في بيئة يهودية، وتلقيه العلم في مدرسة عبرية، ودراسته لشخصيات وأفكار الفلاسفة واللاهوتيين اليهود في العصور الوسطى، كل هذه كانت عوامل حاسمة في تكوين شخصيته الفلسفية، وفي صبغ أفكاره بصبغة تتمشى مع التراث اليهودي. وهكذا يتحدث «روث
Roth » عن اسپينوزا فيصفه بأنه «لم يكن نتاجا لهولندا في القرن السابع عشر فحسب، بل كان أيضا ثمرة كاملة لعبرانية قديمة العهد»،
30
ويشير إلى أهمية الأدب واللاهوت العبريين في تكوين شخصيته،
31
وهو يعلل اتجاه اسپينوزا المزدوج بين العلم والدين - وهو الاتجاه المبني على تفسير «روث» الخاص لفلسفته - بأنه يرجع إلى تأثره بالتيارات العلمية الضخمة الموجودة في عصره، وكذلك إلى نشأته «في بيئة تدين بأشد الأديان تمسكا وأخلاقية»
32 ... ويرى أن هذا التعليل هو مفتاح شخصية اسپينوزا، وهو الحل الصحيح لمشكلة مصادر تفكيره، وهو الذي يلقي الضوء الصحيح على مكانته في تاريخ الفكر.
وبمثل هذا يقول «رخمان»، مؤكدا أهمية التعليم العبري في تكوين شخصية اسپينوزا: «فكون اسپينوزا أبرز الطلاب في مدرسة نموذجية في أكثر المجتمعات اليهودية ثقافة في ذلك العصر، وبقاؤه في هذه البيئة التقليدية حتى سن الثانية والعشرين، هو في ذاته كاف لربطه باليهودية بألوف الروابط، وذلك رغم تأثير العالم الخارجي والمذاهب الغربية، بل ورغم رغبته الشخصية في التحرر بطريقة نهائية حاسمة من جميع المؤثرات.»
33
ومثل هذه الشواهد، في ذاتها، غير كافية، ولا يمكن أن يعول عليها؛ إذ إن نشأته وتعليمه في بيئة يهودية أمر معترف به من الجميع، ولكن ليست له في ذاته أية دلالة؛ لأنه قد يؤدي إلى الثورة على التراث اليهودي مثلما يؤدي إلى الخضوع له. وقد يأتي بنتيجة سلبية مثلما يؤدي إلى نتيجة إيجابية، وهل يستطيع أحد أن يقول إن فلسفة ديكارت أو كانت أو هيجل ترتد أساسا إلى المسيحية لأنهم نشئوا في بيئة مسيحية وتعلموا في مدارس مسيحية؟ وهل مجرد النشأة والتعليم وحدها كافية لتوجيه الفيلسوف الناضج، أم أن كثيرا من كبار المفكرين يتميزون بالثورة على البيئة التي نشئوا فيها والتعاليم التي تلقنوها في حداثتهم؟ إن الدراسة الفعلية لتفكير اسپينوزا تثبت بوضوح أن هذا التأثير، إن وجد، كان تأثيرا سلبيا فحسب؛ أي إن معارضته لهذه المؤثرات الأصلية كانت هي نقطة بداية انطلاقه في طريق التفكير المستقل.
ومع ذلك فإن هؤلاء المفسرين يجزمون بأن مجرد كون اسپينوزا قد درس الفلسفة اليهودية واللاهوت اليهودي في العصور الوسطى، معناه أنه قد تأثر حتما بهذه الاتجاهات، وبالفعل نجد في قائمة الكتب التي احتوتها مكتبة اسپينوزا بعد وفاته، وهي القائمة التي أوردها وحللها «ڨيو
Vulliaud »،
34
مجموعة كاملة من تفسيرات اللاهوتيين اليهود للعهد القديم، تدل على أنه قد استوعب هذا التراث استيعابا كاملا. وهكذا يتلمس الشراح أوجه شبه لفظية بين فلسفة اسپينوزا وفلسفة «ابن جرسون
Gersonides » و«ابن ميمون
Maimoides » و«سعدية
Saadiya » و«كرسكاس
Crescas »، بل وذلك المذهب الذي جمع كل عناصر اللامعقولية والشعوذة وأضافها إلى التراث اليهودي، مذهب «القبالة».
35
هذه الآراء لا تستحق في رأينا مناقشة تفصيلية؛ لأننا نرجح أن اسپينوزا قد تعمد استخدام لغة هذه المذاهب أو ألفاظها، ولكن اتجاهه الحقيقي كان مختلفا عنها تماما، والعالم الذي كانت تدور فيه أفكاره كان عالما علميا تسوده المعقولية الدقيقة والضرورة الصارمة، بينما كان عالم هؤلاء الفلاسفة واللاهوتيين هو عالم الغائية أو التصوف أو اللاهوت الذي يتأمل الكون من خلال صورة البشر. ويكفي أن يكون الموقف العام للطرفين على هذا القدر من التناقض لكي تكون محاولة التقريب ذاتها عميقة؛ إذ إن التأثر الحقيقي ليس هو التأثر بلفظ أو جملة أو قضية أو حتى بلغة كاملة، وإنما هو التأثر بالعناصر والاتجاهات الفكرية الرئيسية فحسب، وعلى أية حال فإن شارحا مثل «رخمان» يعود (في مقاله المتقلب الذي أشرنا إليه من قبل)، فيرد على نفسه مؤكدا وجود اختلافات أساسية بين اسپينوزا وبين مختلف المفكرين اليهود في نزعاتهم الروحية الصوفية وتغليبهم اللاهوت على الفلسفة وتأكيدهم لفكرة الإله (ص57) - وهي كلها فوارق أساسية كانت وحدها كفيلة بإنكار وجود أي تأثير.
ولنفرض جدلا أن اسپينوزا قد تأثر بلاهوتيي العصور الوسطى من اليهود؛ فهل يعد ذلك تأثرا منه بالتراث اليهودي، إن «ولفسون» و«روث» و«رخمان» يعترفون، هم أنفسهم، بأن لاهوتيي العصور الوسطى من اليهود قد تأثروا بتيارات فلسفية غير يهودية، أهمها الفلسفة اليونانية التي أتتهم عن طريق الفلاسفة العرب، وعلى رأسهم ابن رشد، فكانت النتيجة هي قولهم بأفكار خارجة عن التراث اليهودي التقليدي، مثل فكرة قدم العالم (وبالتالي إنكار الخلق من لا شيء)، وإنكار المعجزات، والتفرقة بين العامة والخاصة من حيث إن الأولين يأخذون بحرفية الدين والأخيرين يؤمنون بالعقل. ويؤكد «رخمان» أن معظم المصادر السابقة كان يعد غير مشروع أو مغضوبا عليه في البيئة اليهودية التقليدية.
36
والمعنى الوحيد لذلك هو أن اسپينوزا إذا كان قد تأثر بهذه التيارات فهو لم يتأثر بها لأنها يهودية، بل لأنها خرجت - جزئيا - على اليهودية؛ فالعناصر التي يمكن أن يكون قد استمدها من تفكير هؤلاء الفلاسفة هي أقل العناصر صلة بالتراث اليهودي التقليدي، وهي العناصر التي ظهرت في تفكيرهم لا لأنهم من اليهود، بل «رغم» كونهم من اليهود. وهناك فارق هائل بين التأثر بتعاليم يهودية وبين التأثر بأشخاص يهود، فلا يمكن أن يقال اليوم عمن يتأثر باقتصاديات ماركس أو علم نفس فرويد أو فيزياء أينشتين، إنه متأثر باليهودية؛ لأن نظريات هؤلاء الثلاثة لا تنتمي إلى التراث اليهودي، وصفة اليهودية في شخصياتهم عارضة تماما بالنسبة إلى نظرياتهم.
أما مذهب القبالة الذي يقال: إن اسپينوزا قد تأثر به؛ فقد يرى البعض شبها بين صوفيته الشاملة وبين بعض قضايا اسپينوزا إذا ما فهمت فهما حرفيا، ولكن أي إدراك لموقف اسپينوزا العام، وأي تحليل دقيق لنفس النظريات التي يقال إنها مشابهة لهذا المذهب، يكشف عن اختلاف أساسي بين وجهتي النظر إلى حد يدهش معه المرء من مدى التواء تفكير أولئك الذين قربوا بين معقولية اسپينوزا وحتميته الدقيقة وبين شطحات «القبالة» وتخريفاتها. ويكفي في هذا حكم اسپينوزا نفسه، الذي قال، في نص من تلك النصوص الي يتجاهلها عادة معظم المتعصبين من الشراح اليهود: «لقد قرأت وعرفت بعض الكتابات التافهة لمذهبة القبالة، الذي يثير حمقه في نفسي دهشة لا تنقطع.»
37
وكما قلنا من قبل، فمجرد دراسة اسپينوزا لتعاليم لاهوتيي العصور الوسطى من اليهود واستيعابه التام لها لا يدل في ذاته على شيء، بل إن كل الدلائل تدل على أنه أتى بنتيجة عكسية؛ أي إن التناقض والتهافت والافتقار التام إلى المعقولية في هذه التعاليم، هو الذي مهد له طريقه الخاص الذي سار فيه مستقلا تماما عنها. وأغلب الظن أن هذه التعاليم كانت - منذ اللحظة التي أعلن فيها ثورته على الطائفة اليهودية - تستفزه وتتحدى منطقه العقلي إلى الحد الذي جعله يضع لتفكيره غاية ولفلسفته هدفا هو انتقادها وهدم الأسس التي تجعل ظهورها، هي وأمثالها من المذاهب، ممكنا.
وعلى هذا الأساس يمكننا أن ننظر إلى علاقة اسپينوزا بهذه المؤثرات المزعومة في ضوء جديد: فتعالج فلسفة اسپينوزا من حيث هي رد فعل على المذاهب اليهودية اللاهوتية والفلسفية في العصور الوسطى، ومن حيث هي نتيجة لانفصاله عن هذه المذاهب وخروجه عليها. وقد عبر «فوير» عن هذا المعنى تعبيرا رائعا حين قال: «لقد أدت القرون التي مر بها اليهود وهم في اضطهاد وفرار من بلد إلى آخر ومن قارة إلى أخرى، إلى جعلهم يفقدون المعقولية ويفتقرون إلى حب الإنسانية؛ فانطووا على أنفسهم متشبثين بحلم ظهور المسيح الجبار، الذي يستطيع بمعجزاته الوفيرة أن يجعل الدائرة تدور على مضطهديهم. ولقد كان حلم البعث وتحقيق الرسالة هذا مزيجا من التضخيم المرضي للذات، و«الپارانويا»، و«نرجسية» المضطهدين؛ فهو «فكرة غير كافية»، كما كان اسپينوزا خليقا بأن يسميها. أما اسپينوزا، الذي كان ذا ذهن علمي متحرر، والذي تخلص من روابط البيئة التي نشأ فيها، وحاول أن يندمج في عالم أوروبا الجديد، فلم تكن لديه طاقة باقية لفهم أهله (اليهود) فهما عطوفا. ولو كان أقل قسوة في تحكيم «الحبل السري» الذي كان يربطه بأهله، لما ظهرت فلسفته إطلاقا، على الأرجح.»
38 (3-2) المؤثرات في فلسفته
سوف نحلل فيما يلي بعض النواحي الرئيسية التي يفترض أن اسپينوزا قد تأثر فيها بالتراث اليهودي في صورته الدينية المباشرة أو اللاهوتية أو الفلسفية. وكما قلنا من قبل، فإن التفنيد الحاسم لمحاولات التقريب هذه إنما يكون في الرجوع إلى أجزاء هذا البحث التي تعالج كل موضوع يقال بوجود مثل هذا التشابه فيه؛ إذ إن إجراء هذه المقارنة في ضوء التفسير الذي قدمناه ها هنا هو أفضل الوسائل لإظهار التضاد الحقيقي التام بين اسپينوزا وبين التراث اليهودي.
ففي رأي فرويدنتال أن مذهب «وحدة الوجود» عند اسپينوزا لا يرجع إلى عناصر أفلاطونية محدثة، ولا يكفي تفسيره من خلال فلسفة «برونو
Bruno »، وإنما هو يفسر على أساس تأثر اسپينوزا بالتراث اليهودي.
39
ومن المؤكد أن السؤال الأكبر في هذا الصدد هو ما إذا كان اسم «وحدة الوجود
pantheism » ينطبق بحق على فلسفة اسپينوزا أم لا ينطبق؛ فالتسمية صحيحة طالما أن فكرة «الله» تؤخذ عنده بمعناها الحرفي. أما إذا فهمت على النحو الذي عرضناه في هذا البحث، لأصبحت التسمية باطلة تماما، ولانهار بالتالي أساس حجة «فرويدنتال».
ويقول «روث» بوجود تشابه مماثل في فكرة وحدة الطبيعة عند اسپينوزا؛ فهو يحلل عقيدة التوحيد العبرية فيرى أنها ترتبط بفكرة وحدة الظواهر الطبيعية، ويتلمس فيها التالي صبغة علمية. وفي رأيه أن المفكرين اليهود في العصور الوسطى قد عملوا على نقل الاهتمام من وحدة الله إلى وحدة الطبيعة، وبذلك رفعوا البحث العلمي، والبحث وراء الاطراد في تركيب الأشياء، إلى مرتبة الواجب الديني الأعلى. وهكذا تكون دراسة اسپينوزا للفلسفة اليهودية في العصور الوسطى هي التي أدت به إلى ذلك «الإدماج الجريء للعلم في محراب الدين ذاته».
40
كما يرى فرويدنتال أن نظرة اسپينوزا إلى الطبيعة كانت مماثلة لنظرة اليهود إلى إلههم، ««فالطبيعة المؤلهة» كانت، كإله اليهودية، أشمل وأكمل موضوع لحبنا، وهي الموضوع الذي نهب له أنفسنا بكل ما نملك، وفي ذلك تكون الطاعة الحقيقية لله، وكذلك خلاصنا وسعادتنا الأزلية.»
41
والمشكلة في هذا كله هي أن معاني اسپينوزا تفسر حرفيا على النحو الذي يخدم أغراض هؤلاء الباحثين، بل إن تعاليم اليهودية ذاتها تزيف؛ إذ ينسب إلى اليهودية، ولا سيما في صورتها التي اتخذتها في العصور الوسطى، اتجاه علمي للتقريب بينها وبين اسپينوزا، الذي يفترض أنه جلب العلم إلى محراب الدين، مع أنه في واقع الأمر قد حول المعاني الدينية، بطريقة بارعة - ومع احتفاظه بنفس ألفاظها وتعبيراتها - إلى معان علمية، وبذلك يكون الأصح أن يقال عنه إنه جلب الدين إلى محراب العلم.
ويرى «برييه» أن توحيد اسپينوزا بين الله أو بين الذهن الإلهي وبين موضوع هذا الذهن لا بد أنه يرجع إلى موسى بن ميمون، أو أحد شراح كتاب «الزهار
Zohar » (أي أصحاب مذهب «القبالة»)، وأن هذه القضية في أصلها أفلوطينية وصلت إليه بتوسط هذه المؤثرات.
42
ومع ذلك فقد رأينا «فرويدنتال» من قبل ينكر أهمية مثل هذه المؤثرات الأفلوطينية، ويؤكد أهمية التأثير اليهودي المباشر. وفضلا عن ذلك فمن الواضح أن فكرة اسپينوزا الحقيقية في هذا الصدد كانت ترمي إلى عكس النتيجة التي تستخلص من كلام «برييه»، وكل ما في الأمر أنه صاغها في لغة تقترب إلى حد كبير من لغة المدرسين. أما «بروشار» فيرى، تمشيا مع موقفه العام في تأكيد الأهمية الأساسية للفكر اليهودي في فلسفة اسپينوزا، أن «إله اسپينوزا هو الإله اليهودي» يهوا
Jehova «بعد إدخال تحسينات أساسية عليه»،
43
وهذا بطبيعة الحال رأي تكذبه كل كلمة قيلت في هذا البحث؛ ومن ثم فلا داعي لتنفيده في هذا الموضع.
ومن أعجب ما قرأت في هذا الصدد محاولات بعض الشراح اليهود الذين سعوا إلى التقريب بين التراث اليهودي وبين فلسفة اسپينوزا في أفكار كانت هي الوسيلة الأساسية التي استخدمها اسپينوزا في محاربة هذا التراث. وسأضرب لذلك مثلين؛ فنقد اسپينوزا لتشبيه الآلهة بالإنسان، وهو النقد الذي كان وسيلته الكبرى إلى محاربة العناصر الأسطورية في التراث اليهودي، والذي طالما ردده في صدد هذا التراث في «البحث اللاهوتي السياسي» - هو في نظر «رخمان»، مستمد من التراث اليهودي ذاته! فهو يقول: «إن مقاومة كل نوع من التشبيه بالإنسان هي عنصر أساسي في اليهودية؛ إذ يردد اليهودي يوميا: أشهد أن الله ليس بدنا ولا يشبه لنا في أية صورة منظورة.»
44
وهذا هو التزييف بعينه؛ إذ توجد، إلى جانب العبارة السابقة، عشرات النصوص التشبيهية الصريح في العهد القديم ذاته، وهي النصوص التي طالما اقتبسها اسپينوزا وأكد أنها لا تصلح إلا للعقلية العامية.
وقد لاحظ باحث يهودي آخر، هو «هيلر
Heller »، الاختلاف الأساسي بين تفكير اسپينوزا واليهودية في هذا الصدد؛ إذ أشار إلى أن الإنسان في اليهودية هو مركز الكون، وكل ما في الطبيعة موجود من أجله، بينما كان دور الإنسان في الكون، عند اسپينوزا، ضئيلا، والطبيعة ذاتها في نظره لا أخلاقية
Amoral .
45
وهذا، دون شك، نفي مباشر لكل تشبيه بالإنسان.
ومع ذلك فإذا كان «هيلر» قد أدرك، بحق، استحالة التقريب بين اسپينوزا واليهودية في صدد نقد الأول لتشبيه الآلهة بالإنسان، فإنه هو ذاته يقع في خطأ لا يقل عن ذلك فداحة؛ إذ يرى (وهذا هو المثل الثاني الذي أضربه لمثل هذه الأخطاء) أن فكرة مادية الله عند اسپينوزا يمكن أن ترد إلى أصول يهودية؛ لأن الله في اليهودية كثيرا ما كان يتخذ صبغة مادية.
46
وموضع الغرابة هنا هو أن هذه الصبغة المادية التي كان يتخذها الله في اليهودية كانت هي ذاتها راجعة إلى ما في اليهودية من تشبيه للآلهة بالإنسان (وهو التشبيه الذي سبق أن تنبه المؤلف إلى عدم تمشيه مع تفكير اسپينوزا!) وواقع الأمر أن الفكرة لم تكن عند اسپينوزا إلا إشارة أخرى منه إلى أن المعنى الحقيقي لفكرة الله عنده هو مجموع الطبيعة؛ وبذلك يكون بين الطرفين أشد أنواع التناقض.
ولندع مفكرا يهوديا آخر، هو «واكسمان»، يرد على هاتين المحاولتين السابقتين، فيقول: «إن مذهب اسپينوزا، مجردا من لغته الشبيهة باللاهوتية، لا يكتفي بوصف إله مجرد من كل مسحة من التشخيص - أعني آلة لا متناهية، إن جاز هذا القول - وإنما يعزو أيضا إليه الامتداد، الذي هو الخاصية الأساسية للمادة، بوصفها إحدى الصفات الإلهية ... وهذه هي بعينها الأفكار التي كانت الفلسفة اليهودية في جميع صورها تنفر منها.»
47
ولقد تعرضت فكرة «الحب الإلهي» لدى اسپينوزا لسوء فهم كثير، لم يسلم منه معظم شراحه من اليهود وغير اليهود معا، وأرجعت هذه الفكرة إلى أصول صوفية أو لاهوتية أو لا عقلية متعددة. من بينها، بطبيعة الحال، الأصول اليهودية. وهكذا يوافق «چواكيم» على التقريب بين فكرة الحب الإلهي عند اسپينوزا وبين نظيرتها لدى «ليون العبري
Leone Ebreo » في كتابه «محاورات في الحب
Diologhi d’Amore »،
48
وتتردد محاولات التقريب هذه لدى عدد كبير من شراح اسپينوزا، وهي كلها تعتمد، كما هو واضح، على تفسير حرفي للفكرة على نحو يتيح إضفاء صبغة صوفية عليها. أما إذا أخذت الفكرة بالمعنى المضاد لمعناها الحرفي، على النحو الذي عرضناها به في هذا البحث، فلن يعود لمثل هذه المحاولات أي مجال. ومرة أخرى، نقتبس في تفنيد محاولات التقريب هذه رأيا سليما في مقال «واكسمان» الذي أشرنا إليه من قبل، قال فيه: «... إن ماهيته (أي هذا الحب) هي أعلى أنواع المذهب العقلي الذي يدرك الارتباط العلي الضروري بين كل الأشياء. وصحيح أن هذا النوع من الحب قد يؤدي إلى طمأنينة النفس، التي ينتج عنها رضاء رواقي ونوع من السرور الناجم عن شعور الإنسان بمعرفة شاملة لكل شيء، ولكنه لن يؤدي إلى أي شيء عدا ذلك، ومن الأمور الواضحة بذاتها أن الحب اليهودي لله ينطوي على أكثر من ذلك بكثير؛ إذ إنه انفعالي يجعل الله نوعا من الشخصية ...
ومع ذلك فإذا تحدثنا عن شكل الحب العقلي عند اسپينوزا ففي وسعنا قطعا أن ننتهي إلى أن اسپينوزا كانت تتملكه رغبة لا شعورية في استبقاء التعبيرات التي كانت تعني الكثير ليهود عصره، وربما له هو ذاته في شبابه الأول.»
49
وهذا رأي سليم تماما، وكل ما في الأمر أن هذه «الرغبة اللاشعورية» التي تحدث عنها في الفقرة الأخيرة كانت في رأينا رغبة «متعمدة» في استخدام نفس الاصطلاحات اللاهوتية التقليدية للتعبير عن أكثر المعاني ابتعادا عنها، بحيث يكون قد حارب اللاهوت التقليدي بنفس سلاحه، بينما تبدو كتاباته في شكلها الظاهر متمشية مع التيار اللاهوتي العام. •••
ولقد حاول كثير من الشراح اليهود أن يقربوا بين كتاب اسپينوزا الرئيسي «الأخلاق»، وبين التراث اليهودي، واتخذت محاولاتهم هذه صورا شتى، سنعرض الآن طرفا منها:
فاستهداف اسپينوزا، في كتابه الرئيسي، غاية أخلاقية (على عكس الغاية العلمية التي استهدفها ديكارت)، يعد في نظر «روث
Roth » مظهرا من مظاهر تأثير اليهودية في تفكيره: «إن اهتمام اسپينوزا بالأخلاق موروث؛ فهو سليل شعب لم يعبأ، منذ أقدم الأزمنة، بالنظريات المجردة إلا قليلا، بينما اهتم كل الاهتمام بالسلوك العملي، وهو نتاج أدب يسوده مثال التقوى، وتاريخ يمثل صيحة واحدة طويلة في طلب العدالة؛ فهو قد ظل رغم ذاته، ورغم طائفة أمستردام، ابنا لأهل الكتاب «في أعماق نفسه».»
50
ويزيد رأيه وضوحا بعد قليل، فيقول: «إن المشكلة التي بدأ بها اسپينوزا، وهي مشكلة السلوك، ما هي إلا البحث الإنجيلي القديم عن «طريق للحياة». والعقيدة العقلية التي وجد فيها حلا لهذه المشكلة، والتي ينبغ فيها الانفعال، الذي هو الدين، من المعرفة، التي هي العلم، هي من خلق الفلسفة اليهودية في العصور الوسطى. وهكذا دخل اسپينوزا الفكر الحديث مهيأ على هذا النحو.»
51
مثل هذه الأحكام الخاطفة، الفجة، هي في رأينا مثال واضح للتشويه الذي يمكن أن يفسد به التعصب التفكير؛ فهذا الكاتب يريد أن يقرب بين اسپينوزا وبين المؤثرات اليهودية «رغم ذاته، ورغم طائفة أمستردام»؛ أي رغم الطرد (الذي كان يتعمد أن يتجنب الإشارة إليه). فما هي إذن شواهده على ذلك التقارب؟ أهي الاهتمام بالأخلاق؟ إن هذا الاهتمام حظ مشترك بين عدد كبير من الفلاسفة، ومنهم مثلا أفلاطون، وكانت، والرواقيون. ومع ذلك لم يكن واحد من هؤلاء من «أهل الكتاب!» ومع كل، فمن قال إن اسپينوزا لم يكن يعبأ بالنظريات المجردة؟! وماذا نقول في المواقف العلمية العامة التي يزخر بها كتاب «الأخلاق»؟ إن «روث» يفترض أولا وجود سمة واحدة تميز اليهود من أقدم العصور، وتطبع نفسها حتما على تفكير كل فيلسوف ينتمي إلى جنسهم، حتى لو كان ذلك «رغما عنه» - وهذا وحده افتراض «عنصري» لا يقوم على أساس علمي متين. ثم هو يجزم بأن هذه السمة هي الاهتمام «بالأخلاق»، وهو تأكيد يقبل كثيرا من المناقشة؛ إذ ليس هذا الاهتمام مميزا لمفكري اليهود على الدوام، كما أن وجوده لدى مفكر لا يعني تأثره بمؤثرات يهودية. وأخيرا فإن نظرة واحدة إلى «طريق الحياة» كما رسمه اسپينوزا تقنعنا بأنه كان هو نقيض طريق الحياة كما أوضح معالمه التراث اليهودي.
ومثل هذه الاعتراضات تسري على رأي «كايزر
Kayser » الذي بنى على حجة مماثلة، قال فيها: «[إن كتاب «الأخلاق»] يعيد إحياء نمط من الفلسفة الدينية لا يؤلف معرفة، وإنما يؤلف حكمة، فالطابع الأخلاقي والديني الأساسي لكتاب «الأخلاق» كان يعني عودة ظهور القوى الروحية القديمة لليهودية.»
52
ومن الغريب أن المؤلف ذاته يتولى مهمة الرد على نفسه بعد صفحات قلائل إذ يقول: «إن تحرر الفلسفة من اللاهوت ... قد تحقق هنا بالفعل ... فاسپينوزا وحده هو الذي فتح للعقل عالما خاصا به، وتلك هي الطريقة الوحيدة التي أمكن بها قيام الفلسفة والعلم على نحو مستقل عن كل عقيدة لاهوتية وعن سلطة الكنيسة.»
53
ويقدم «واكسمان» ردا أعمق على القول بأن الاتجاه العام لكتاب «الأخلاق» يكشف عن تأثر باليهودية، فيقول: «إذا ما نظرنا إلى الاهتمام بالحياة - أو الاهتمام بالطبيعة - على أنه من سمات الروح العبرية، فإن اسپينوزا يكون إلى هذا الحد قد خضع لتأثير العنصر اليهودي. ولكنا إذا تأملنا السعي إلى السعادة، الذي يؤلف القوة الدافعة لفلسفته، في ضوء التراث اليهودي، والفكر اليهودي، وحالة اليهودية في عصره، لوجدناه أبعد ما يكون عن اليهودية؛ فالفلاسفة اليهود لم يكونوا يسعون أبدا إلى السعادة؛ إذ إنها معطاة لهم في التوراة وفي الحياة اليهودية ... ولم يتعين على اسپينوزا أن يلتمس طريقا جديدا للسعادة إلا بعد أن نفصل انفصالا قاطعا عن الكنيس اليهودي وتعاليمه.»
54
ويتحدث «رخمان
Rakhman » عن اتجاه اسپينوزا إلى الإقبال على الحياة، والبعد عن التشاؤم، فيرى فيه تأثرا بالأخلاق اليهودية، التي هي في رأيه مبتعدة عن الزهد: «فمن العناصر الأساسية في اليهودية مكافحة الزهد والاكتئاب.»
55
وقبل أن يفكر المرء في الرد على هذا التقريب الزائف المبني على عرض باطل لماهية التفكير الأخلاقي اليهودي، يجد، كما هي العادة، مفكرا يهوديا آخر تولى عنه مشقة الرد، وفسر ماهية هذا التفكير الأخلاقي اليهودي تفسيرا مضادا، يغدو فيه هذا التفكير متعارضا مع اتجاهات الفلسفة الأخلاقية عند اسپينوزا؛ إذ يشير «هيلر» إلى التعارض بين دعوة الأخلاق الاسپينوزية إلى السرور وتأكيد الحياة، وبين عناصر التذلل والخضوع التي تظهر بقوة في الأخلاق اليهودية.
56
ويؤكد التضاد بين تأكيد العهد القديم للخطيئة، وبين نفي اسپينوزا للشعور بالذنب أو تبريره له منطقيا، ويتحدث بعد ذلك عن خلو الطبيعة من القيم الأخلاقية عند اسپينوزا، على حين يكون الإنسان، بقيمه البشرية، مركزا للكون في الأخلاق اليهودية.
57
وأخيرا؛ فقد سبق أن رأينا كثيرا من الكتاب يؤكدون وجود طابع مزدوج، لاهوتي وعلمي، في كتاب «الأخلاق»، ومن الطبيعي أن يستغل الشراح اليهود هذا الطابع المزدوج المزعوم، ليؤكدوا أن العنصر اللاهوتي فيه يرجع إلى التأثر بالتراث اليهودي، وهو تأثر بلغ من قوته، في رأيهم، أنه فرض ذاته على تفكير اسپينوزا العلمي على نحو بدت معه فلسفة اسپينوزا آخر الأمر ذات مظهر متناقض.
ويعبر «فرويدنتال» عن هذا الطابع فيقول: «إن الاتجاه اللاهوتي التفاؤلي للأخلاق الاسپينوزية واضح الظهور في هذا الكتاب (الأخلاق)، وهو اتجاه يتعارض مع الحتمية الجامدة في فلسفته النظرية ، بقدر ما يتمشى مع النظرة اليهودية إلى العالم.»
58
وهو يعلل هذا الظاهرة بقوله: «وتفسير ذلك هو أن عادات ذهنية معينة، كانت سائدة لدى أسلافه منذ آلاف السنين، ومألوفة لديه منذ صباه، قد أدت به إلى الانحراف عن الطريق المستقيم لمذهبه؛ إذ ليس في وسع أحد أن يستقل استقلالا تاما عن تصورات وأحكام وعادات قومه، ولا بد أن يظهر هذا الاعتماد بوضوح أيضا لدى من انشق في أهم الأمور - كما فعل اسپينوزا - عن تراث أجداده.»
59
ويتحدث «ولفسون» في مقدمة كتابه «فلسفة اسپينوزا» عن ذلك الطابع المزدوج المميز لكتاب الأخلاق، فيقول إن للكتاب مؤلفا صريحا يضع القضايا والبديهات والتعريفات ويستخدم المنهج الهندسي، ويسميه «بندكتوس». ولكن للكتاب أيضا مؤلفا خفيا يظهر أحيانا في «الملحوظات»، ويحفل ذهنه بالتراث الفلسفي للعصور الوسطى، ويسميه «باروخ»، ثم يقول: «وبندكتوس هو أول المحدثين، وباروخ آخر الوسيطيين.»
60
وهكذا يردد «ولفسون» بدوره الفكرة القائلة أن فلسفة اسپينوزا جمعت بين الطابع العلمي، المميز للفكر الحديث، والطابع اللاهوتي، المميز للعصور الوسطى، ولا جدال في أن اختياره اسم «باروخ» رمزا لهذا الاتجاه الوسيطي الذي يفترض وجوده لدى اسپينوزا، يعني أن مؤثرات العصور الوسطى كانت في نظره مؤثرات يهودية في المحل الأول.
وفي وسعنا أن نقول: إن هذا الكتاب بأسره ليس إلا محاولة لتفنيد الزعم بوجود هذا الطابع المزدوج في فلسفة اسپينوزا؛ وعلى ذلك فلا ضرورة لنقده في هذا المجال؛ إذ إن أي نقد كهذا لا بد أن يؤدي إلى إثارة مسألة تفسير فلسفة اسپينوزا بأسرها، وهي الفلسفة التي نعتقد أنها كانت متسقة إلى حد بعيد، أو أنها إن كانت تفتقر في مواضع فرعية إلى الاتساق؛ فهي على الأقل متسقة في هذه المشكلة الرئيسية: مشكلة الاختيار بين الاتجاهات العلمية الحديثة والاتجاهات اللاهوتية الوسيطية. فاسپينوزا في رأينا لم يكن مترددا في هذا المجال على الإطلاق، بل إنه اختار طريقه منذ البداية على نحو حاسم، وكان في اختياره منحازا بكل قواه إلى الاتجاه العلمي الحديث، الذي لم يكتف بتأييده، وإنما ارتفع في معظم الأحيان عن المستوى العام لمعاصريه في تفكيرهم الفلسفي في العلم. •••
ومن الحيل الأخيرة التي يلجأ إليها بعض الشراح للتقريب بين اسپينوزا وبين التراث اليهودي، القول بأنه كان مصلحا يهوديا، وتمتاز محاولة التقريب هذه بأنها تنطوي على اعتراف بوجود عناصر كثيرة في تفكيره خرجت على التراث اليهودي، ولكنها تعلل هذا الخروج على التراث بأنه محاولة لإصلاحه - وبذلك يتحقق هدف الربط بين اسپينوزا وبين التيار اليهودي العام، بل وتصبح انتقادات اسپينوزا لهذا التراث وسيلة لتحقيق هذا الهدف.
ويعرض «دنر
Dunner » هذه الفكرة بوضوح إذ يقول: «إن القليلين هم الذين أدركوا أنه (أي اسپينوزا) أجرأ مصلح في اليهودية، وأنه أبرز فيلسوف يهودي حديث، يقف بمعزل عن التيار العام للفلسفة الأوربية، ويلتمس الخلاص في هذا العالم بإحلال العقل محل الوحي والطاعة العمياء للسلطة، دون أي تخل عن تلك الصرامة الأخلاقية التي يتميز بها الأنبياء، وابن ميمون، ومن بعدهم، موسى مندلسون، وسجمنت فرويد، وألبرت أينشتين، وكبار المفكرين اليهود جميعهم.»
61
ومن المؤكد أن المؤلف إنما أقحم فكرة «المصلح» هذه لكي يوفق بين رغبته في إدماج اسپينوزا في التراث اليهودي العام، وبين النواحي الرئيسية التي يعلم أنه خالف فيها ذلك التراث. وقد عدد المؤلف هذه النواحي بالفعل، ولو وضع المرء قائمة واحدة بها، لما بقي من اليهودية شيء، ولكانت الصورة النهائية لتفكيره مضادة تماما لليهودية - ومع ذلك يؤكد المؤلف انتماء تفكيره إلى اليهودية، لمجرد كونه ينتمي «عنصريا» إليها، تماما كما أكد انتماء «فرويد» و«أينشتين» إلى التراث اليهودي، وكأن في التحليل النفسي أو في فيزياء النسبية عناصر يهودية على التخصيص!
ويظهر هذا الاتجاه إلى تأكيد يهودية اسپينوزا تأكيدا عنيدا لا يبالي بالحقائق الواضحة، لدى «ناحوم سوكولوڤ
Soklow »، الذي عبر عنه أوضح تعبير عندما قال عن فلسفة اسپينوزا إنها «يهودية بعمق، حتى في حملتها على اليهودية».
62
ولست أدري ماذا يستطيع المرء أن يرد به على مثل هذه الطريقة في التفكير، فهنا نصل إلى الحجة التي لا يمكن الرد عليها، لا لأنها معقولة، بل لأنها تفتقر تماما إلى المعقولية. إن الشارح اليهودي في هذه الحالة يقول: ما دام اسپينوزا يهوديا بمولده؛ فهو منا، مهما انتقدنا، ومهما حمل علينا، ومهما تضمنت فلسفته من عناصر تهدم التراث اليهودي من أساسه - إنه يهودي لأننا نريده لأنفسنا، سواء أراد القارئ أم لم يرد، وسواء شاء اسپينوزا ذاته أم لم يشأ!
وكل ما نستطيع أن نقوله ردا على ذلك هو: أن الأساس الوحيد للتقريب بين اسپينوزا واليهودية في هذه الحالة يغدو هو الأساس العنصري؛ أي إن اليهود يفترضون أن مجرد انتماء اسپينوزا إلى عنصرهم لا بد أن يصبغ تفكيره بصبغة اليهودية، وإذا كانت هذه النزعة العنصرية هي آخر ما يمكنهم الالتجاء إليه من الحيل، فلا مفر للمرء من أن يشير، في معرض الرد عليهم، إلى أن هذه النزعة ذاتها هي التي ظلت دائما موضوعا لشكواهم من خصومهم؛ فهم منذ أقدم العصور يأخذون على خصومهم تأكيدهم لفكرة العنصرية، ومع ذلك فهم لا يترددون في تأكيد هذه الفكرة ذاتها إذا ما شعروا بأنها تخدم مصالحهم. •••
ولكي لا يظل حكمنا هذا مبنيا على أساس التخمين وحده، سنقدم مثالا محسوسا لمدى تشابه طريقتي التفكير اليهودية والمعادية السامية في هذا الصدد، فسوف نضرب مثلا لشارح نازي يقرب بين اسپينوزا وبين اليهودية على نفس النحو الباطل الذي حاول به الشراح اليهود ذلك، وسنشير إلى أوجه الشبه القوي بين اليهود وأعدائهم في طريقة المقارنة بين اسپينوزا واليهودية، بحيث لا يكون للمرء مفر من أن يستنتج أن الطرفين معا وجهان لقطعة عملة واحدة، كما يقول التعبير الإنجليزي المعروف؛ فالوسيلة، وهي تأكيد العوامل العنصرية، واحدة في الحالتين، والهدف ذاته واحد، وهو تأكيد العوامل العنصرية، واحدة في الحالتين، والهدف ذاته واحد، وهو تأكيد انتماء اسپينوزا إلى اليهودية، وإن يكن هذا التأكيد يرمي في الحالة الأولى إلى تمجيد اليهودية عن طريق نسبة اسپينوزا إليها، ويرمي في الحالة الثانية إلى الحط من شأن اسپينوزا عن طريق ربطه بعنصر تنصب عليه الكراهية.
ففي بحث «جرونسكي
Grunsky » عن اسپينوزا (وهو يختار له عنوانا ذا دلالة، هو «باروخ اسپينوزا»؛ أي إنه تمسك باسم باروخ كما فعل كثير من الشراح اليهود المتعصبين، ضاربا عرض الحائط، مثلهم، بتخلي اسپينوزا عن هذا الاسم)، يستمد من حياة اسپينوزا وشخصيته وقائع يعتقد أنها تقرب بينه وبين اليهودية؛ فهو يقارن بين تشبيه اسپينوزا لنفسه بالثائر «مازاينلو»، وبين ذلك الحرص والحذر الشديدين الذين كان يبديهما في كتاباته، واستخدامه كلمة «حذار
Cante » شعارا له، ويؤكد أنه كان يهرب من كل صراع علني هربه من الطاعون، ولم يوقع باسمه الكامل سوى واحد فقط من مؤلفاته، هو ذلك الذي لم يعرض فيه آراءه الخاصة. وقد ألفه ليكون وسيلة إلى لفت أنظار كبار الساسة في عصره، مثل ديڨيت.
63
ويستغل هذا الكاتب كثيرا تلك الحقيقة التي كانت عندئذ قد كشفت حديثا، وهي أن اسپينوزا كان في شبابه تاجرا ناجحا، على عكس ما قاله عنه «كوليروس» من أنه كان فقيرا ذا ميراث ضئيل، ويشكك في كونه قد تخلى عن ميراثه كما قال، ويرى أن زهده المزعوم في المال ربما كان قناعا أخفى وراءه معاملاته المالية والتجارية.
64
وهو يشبه علاقة الضرورة القائمة بين الصفات والجوهر، عند اسپينوزا، بعلاقة الضرورة القائمة بين كلمات التوراة وبين الله في اليهودية،
65
وهو تشبيه واضح السطحية، ولا يمكن أن يستدل منه على أي تأثر بتعاليم اليهودية التقليدية.
ولكن الأبلغ من ذلك دلالة أنه بدوره يجعل من اسپينوزا «مصلحا لليهودية»؛ فكتاب الأخلاق في نظره هو «التوراة الجديدة»، وهي توراة تصلح للناس جميعا، متميزة في ذلك عن التوراة القديمة التي كانت تصلح «لشعب مختار» فحسب. وفائدة هذا التجديد في نظره هي أن الجميع سيقبلونه، بحيث يؤدي بغير اليهود إلى الانزلاق دون أن يشعروا إلى التفكير اليهودي، بعد أن كان اليهودي هو الذي يسعى إلى التشبه بغير اليهودي.
66
ومثل هذا التفسير لأفكار اسپينوزا وأهدافه واضح الزيف لا يحتاج تفنيده إلى جهد كبير؛ فالمؤلف النازي لا يفترق في ابتعاده عن الروح العلمية الصحيحة عن الشراح اليهود، وهو بدوره يحاول أن يتخلص من حملة اسپينوزا الواضحة على خرافات التراث اليهودي - وهي حملة تؤدي إلى إحباط كل محاولة تبذل للتقريب بينه وبين ذلك التراث - بالقول (كما فعل
Dunner
من قبل) إنه كان يسعى إلى إصلاح التراث اليهودي، وهو يعلم أن اسپينوزا قد انتقد فكرة «الشعب المختار» عند اليهود انتقادا عنيفا، فيتخلص من هذه الصعوبة بالقول إنه ألف «توراة جديدة» لاجتذاب الجميع لا اليهودية على التخصيص، وإيقاعهم في حبائل اليهودية (ولست أدري أين تكون اليهودية عندئذ، إذا كانت هذه «التوراة الجديدة» المزعومة ذات نزعة إنسانية شاملة). وبهذا التزييف لأفكار اسپينوزا يتغلب أيضا على حقيقة أخرى تقف في وجه تفسيره؛ وهي حقيقة طرد اسپينوزا من الطائفة اليهودية؛ إذ إن هذا الطرد ليس في نظره إلا طرد أنصار التوراة القديمة لصاحب التوراة الجديدة!
وأخيرا، فإنه يجعل من اسپينوزا عدوا للأمة الألمانية؛ إذ إنه شوه أفكارا ألمانية أصيلة، مثل أفكار «چوردانو برونو» (!) وعلى حين أن غاية التفكير الجرماني هي الجمع بين روح البحث الطبيعي وبين الروح الصوفية، فإن اسپينوزا سعى إلى فصل هذين العنصرين كل عن الآخر.
67
وكما فعلنا من قبل عندما رددنا على ادعاءات الشراح اليهود بأقوال شراح يهود آخرين، فسوف نرد على مزاعم هذا الباحث «الجرماني» بأقوال باحث ألماني آخر لم يخف حماسته لاسپينوزا، بل أكد فضله على الأمة الألمانية - ذلك هو «برونر
Brunner »، الذي قال «إن الاهتداء إلى أفكار اسپينوزا قد حدث في نفس الوقت الذي مر فيه التاريخ الألماني بأهم فتراته، وهي فترة إعلان وتحرير كل ما هو عظيم نبيل في الروح الألمانية، ولا يمكن أن ينكر الدور الذي لعبته أفكار اسپينوزا في هذا الصدد إلا من يعجز عن فهم الدور الذي تلعبه الأفكار الحية، ويتجاهل الثورة الشاملة التي أثارتها عندئذ إعادة كشف اسپينوزا، الذي بعث في نفوس الجميع توترا وانفعالا شديدين، وجعل كل النفوس الحية في ذلك العصر أنصارا له، فهؤلاء، عندما اكتشفوا اسپينوزا، إنما اكتشفوا أنفسهم في واقع الأمر.»
68
والحقيقة الواضحة التي يشير إليها «برونر» في هذا الصدد، هي تأثير اسپينوزا الهائل في التكوين الفكري لعدد من أكبر الشخصيات في عالم الفكر والأدب الألماني: مثل «ياكوبي
Jacobi » و«جوته
Goethe » و«نوڨالس
Novalis » - عدا شلنج وفشته وهيجل وعشرات غيرهم من الأدباء والفلاسفة الألمان - ومثل هذا التأثير، الذي اعترف به هؤلاء جميعا اعترافا صريحا، كفيل وحده بالرد على كل المزاعم التي يسوقها ذوو الآفاق الضيقة، كهذا المؤلف النازي الحريص على نقاء الأمة الألمانية وعلى تطهيرها من شوائب اسپينوزا وأمثاله!
والأمر الذي لا بد أنه قد اتضح للقارئ من خلال هذه المقارنة، هو التشابه العجيب بين المفكرين الذين يدعون التعصب اللاعقلي يتحكم في تفسيراتهم، سواء أكان هذا التعصب يهوديا أم معاديا للسامية. ولعل هذه المقارنة قد كشفت أيضا عن ناحية أخرى نرى لزاما علينا أن ننبه إليها القارئ: وهي أن نقدنا للاتجاه اليهودي في تفسير اسپينوزا لم يكن راجعا إلى كون هذا الاتجاه يهوديا، وإنما إلى كونه متعصبا على غير أساس من العلم والحقيقة. فلو كان اسپينوزا في نظرنا مفكرا يؤمن باليهودية ويعبر عن مبادئها وقيمها في فلسفته، لما ترددنا في إعلان ذلك، ولكن فلسفته بدت لنا - تبعا للتفسير الذي قدمناه لها - مضادة تماما للأسس الأولى التي قام عليها اللاهوت اليهودي، ومستهدفة غايات تبتعد كل الابتعاد عن غايات الوسيطيين جميعا، من فلاسفة ورجال دين، وإن يكن قد تعمد عرضها في صورة تبدو فيها متمشية مع هذه الاتجاهات. ولما كنا لا نقبل إقحام اعتبارات التعصب في التفسير الفلسفي؛ فقد حرصنا على أن ننتقد المفسرين اليهود الذين توخوا في تفسيراتهم مشاعرهم الدينية أو العنصرية قبل أن يتوخوا الحقيقة الفلسفية. وهناك دليلان حاسمان على أن انتقادنا هذا لم يكن مدفوعا بمشاعر الكراهية أو التعصب، وإنما كان دفاعا عن الروح العلمية الصحيحة فحسب: أولهما أننا اقتبسنا، وسوف نقتبس في بقية هذا الفصل، أقوال شراح يهود آخرين دون أن نبدي أي اعتراض عليها، بل أبدينا لها، على العكس من ذلك، كل ما تستحقه من احترام وتقدير؛ لأنها في رأينا نزيهة وليست مدفوعة بالتعصب، وثانيهما أننا انتقدنا التعصب المعادي للسامية بنفس القوة التي انتقدنا بها التعصب اليهودي، وهاجمنا بنفس القوة تشويهات الشراح النازيين الذين حاولوا أن يقحموا اسپينوزا قسرا في صفوف اليهودية . وليس بعد هذا دليل على أن انتقاداتنا كانت مستوحاة من روح النزاهة العلمية وحدها. (4) استقلال اسپينوزا عن التراث اليهودي
أكد كثير من شراح اسپينوزا، كما ذكرنا من قبل، أن تفكيره كان مستقلا عن التراث اليهودي، ومثل هؤلاء الشراح في رأينا أعمق فهما للاتجاه الحقيقي لتفكيره، وتفسيرهم - فيما يتعلق بهذه المسألة على الأقل - يتفق مع التفسير الذي عرضناه في هذا البحث، ومن هؤلاء «رويس
Royce » الذي قال عن اسپينوزا إنه: «كان منتميا إلى عصره أكثر مما كان يهوديا. فتفكيره كان أوثق صلة بتفكير ديكارت وغيره من المفكرين الأوروبيين البارزين، منه بأي مذهب يهودي.»
69
ومثل هذا الرأي يظهر أيضا لدى «ريڨو
Rivaud »، الذي أكد تأكيدا قاطعا أن اسپينوزا قد انفصل عن الأمة اليهودية التي تنكرت له انفصالا تاما، وتعلق بهولندا وانغمس في سياستها ودافع عن حزب «ديڨيت» الجمهوري، وفسر ماهية الدين ذاتها تفسيرا علميا.
70
ولكن الأهم بكثير، في رأينا، من تعديد أقوال مثل هؤلاء الشراح في استقلال اسپينوزا عن اليهودية، أن نورد آراء بعض الشراح اليهود الذين أكدوا هذا الاستقلال تأكيدا قاطعا، وأحبطوا بذلك المحاولات المقابلة التي رأينا غيرهم من اليهود يبذلونها للربط بين تفكير اسپينوزا وبين ذلك التراث بأي ثمن، ومن هؤلاء الشراح اليهود «ڨيل
Weill » الذي انتقد استغلال بعض شراح اسپينوزا لنصوص أو صيغ معينة لديه لكي يقربوا - رغما عنه - بينه وبين اليهودية عامة، أو بينه وبين بعض الكتاب أو أصحاب المذاهب اليهودية. وهو يرى أن هذا التقارب - إن وجد - ليست له إلا أهمية ثانوية: «فلمذهب اسپينوزا قطعا من الأصالة والعمق ما يجعله متحررا من كل أصل أو تأثير معترف به أو غير معترف.»
71
كذلك يقول «واكسمان»: «إن النتائج التي انتهى إليها اسپينوزا تتعارض تعارضا أساسيا، لا مع المبادئ الأساسية لليهودية فحسب، بل أيضا مع صورتها المعدلة كما عبر عنها الفلاسفة اليهودية.»
72
وقد أشار «ليوشتراوس» إلى ابتعاد اسپينوزا عن اليهودية ومناصرته للمسيحية، وأكد أن الهدف الأساسي «للبحث اللاهوتي السياسي» هو «تحرير المسيحية من تراثها اليهودي».
73
أما «كاسيرر» فقد أكد ابتعاد اسپينوزا عن التراثين الدينيين اليهودي والمسيحي معا، ورأى أنه كان ذا تجربة خاصة في ميدان العقيدة، وهي تجربة كانت مبنية على أساس العقل، وينبغي ألا تشبه بأي دين معين، لأنها فريدة في نوعها.
74
وأخيرا؛ فقد استشهد بعض المفسرين بآراء العالم اليهودي الكبير «أينشتين»، الذي كان من أكبر المعجبين باسپينوزا، وأوردوا هذه الآراء في سياق يوحي لأول وهلة بأن أينشتين كان يرى في اسپينوزا ممثلا للتراث اليهودي، وأستطيع أن أؤكد إنني لم أجد فيما اطلعت عليه مما كتبه أينشتين عن اسپينوزا كلمة واحدة توحي، ولو من بعيد، بأنه كان يربط بين اسپينوزا وبين التراث اليهودي على التخصيص. فإعجابه به لم يكن يرجع إلى أية اعتبارات ضيقة كهذه، وإنما كان يمجد فيه، قبل كل شيء، العالم والإنسان. ولقد تحدث أينشتين عن اهتمام اسپينوزا بالبحث عن العلل الحقيقية لكل ما يحدث في الطبيعة الجامدة وفي الإنسان، وعلق على ذلك الاهتمام قائلا: «لقد وجد في دراسة هذه العلاقة العلية دواء للخوف، والحقد، والمرارة، ووجد فيها الدواء الوحيد الذي يليق بمن كان إنسانا روحيا بحق. وأثبت تبريره لهذا الاعتقاد، لا عن طريق تلك الصيغ الواضحة الدقيقة التي عبر بها عن أفكاره فحسب، بل أيضا عن طريق تشكليه لحياته في صورة مثلى.»
75
هذا هو ما قاله أينشتين في مقدمة لكتاب وضعه باحث يهودي واضح التعصب. ولست أعتقد أنه كان من قبيل المصادفة وحدها أن يتحدث في هذه المقدمة عن العلم بوصفه دواء «للخوف والحقد والمرارة»، وأن يصف هذا الدواء بأنه وحده «الذي يليق بمن كان إنسانا روحيا بحق». بل إن المرء ليستطيع أن يستشف من وراء ذلك مقارنة خفية بين طريقة اسپينوزا في التخلص من الخوف والحقد والمرارة - وهي مشاعر كان لها قطعا تأثيرها في حياته بسبب تعصب الأوساط اليهودية وغير اليهودية المعاصرة له - وبين الطريقة التي يتبعها غيره من اليهود عندما يمرون بهذه المشاعر ذاتها. فاسپينوزا يتغلب على الخوف والحقد بالعلم، الذي يفتح له أبواب الكون على مصراعيه، والذي تكون نتيجته حبا للطبيعة الشاملة عبر عنه رمزيا بفكرة «الحب العقلي لله»، فما أجدر بقية اليهود بأن يلجئوا إلى هذه الطريقة ذاتها، بدلا من أن يبالغوا في الخوف، ويزيدوا الحقد والمرارة اشتعالا! هذا - في اعتقادي - هو ما كان أينشتين يرمي إليه بهذه الكلمات البالغة الدلالة، ولكنه، على أية حال، كان أوسع أفقا من أن يسير في طريق أولئك الذين حاولوا أن يربطوا، قسرا، بين اسپينوزا وبين التراث اليهودي على التخصيص. •••
وعلينا أخيرا، قبل أن نختم هذا الفصل، أن نختبر بعض النصوص التي تتناول رأي اسپينوزا المباشر في اليهودية، ولنسارع فنكرر ما قلناه من أن معظم الشراح اليهود الذين يسعون إلى الربط بين تفكير اسپينوزا والتراث اليهودي يتجاهلون واقعة طرده من الطائفة اليهودية وانفصاله عنها طوال حياته الناضجة (أي منذ سن الرابعة والعشرين حتى وفاته)، أو يقللون من أهمية هذه الواقعة، مع أنها - مهما كانت قيمة طقوسها - دليل قاطع على عصيانه الروحي للطائفة التي نشأ فيها. وكونه لم يحاول في أي وقت أن يتراجع عن موقفه، أو يسترضي السلطات الدينية اليهودية، دليل حاسم على ترحيبه هو ذاته بهذا الطرد، وعلى أنه بذل كل ما استطاع من جهد لإزالة آخر المؤثرات اليهودية في تفكيره.
ومع ذلك فإن أمثال هؤلاء الشراح المتعصبين يستشهدون بنصوص قليلة جدا، لا تعدو في الواقع أن تكون نصا أو اثنين، يشتمون فيها نوعا من العطف على اليهود. وتتردد هذه النصوص القليلة ذاتها لدى عشرات من كتابهم على نحو يبعث على السخرية حقا. وهم يسرفون في تأويل هذه النصوص إلى حد تشويهها تماما، وإخراجها نهائيا من سياقها. ولنتأمل هذه النصوص القليلة لنرى إلى أي حد يمكن أن تفهم على أنها تتضمن بالفعل عطفا على الأمة اليهودية: (1)
ففي الرسالة رقم 33، تحدث «أولدنبرج» إلى اسپينوزا عن إشاعة كانت رائجة في ذلك الحين، مؤداها أن الإسرائيليين المشتتين منذ أكثر من ألفي عام سيعودون إلى وطنهم. وطلب أولدنبرج رأي اسپينوزا في هذه المسألة، كما أراد أن يعرف رأي يهود أمستردام في هذا النبأ «الذي لو صح، لكان فيه إيذان بهزة ضخمة في العالم بأسره.» وكان أولدنبرج يشير في هذه الرسالة إلى حركة قومية ظهرت بين اليهود بعد ظهور شخص بينهم يدعى «شبتاي زفي
Sabbatai Zevi »، ادعى أنه سيتوج ملكا على القدس بعد سنتين، وآمن به كثير من اليهود، ولكن الذي حدث خلال هاتين السنتين هو أنه قبض عليه في القسطنطينية، وخابت آمال أتباعه اليهود عندما علموا أنه أشهر إسلامه بعد ذلك.
76
ومن المؤسف أن رد اسپينوزا على هذه الرسالة - وهو رد كان كفيلا بأن يلقي مزيدا من الضوء على رأيه الحقيقي في مسألة تكوين دولة يهودية - هذا الرد إما مفقود أو لم يرسل على الإطلاق، وظلت المراسلات بينه وبين أولدنبرج منقطعة بعد ذلك فترة طويلة. ومع ذلك فإن «كايزر» يتطوع - من تلقاء ذاته - بتقديم رد يتلاءم مع أماني اليهودية المتعصبة؛ إذ يقول إن هذا الرد ربما كان موجودا في فقرة من كتاب «البحث اللاهوتي السياسي» يقول فيها اسپينوزا: «بل إنني لأذهب إلى حد الاعتقاد بأنه لو لم تكن مبادئ عقيدتهم (أي اليهود) قد أضعفت عقولهم، ولو سنحت الفرصة وسط التغيرات التي تتعرض لها أحوال البشر بسهولة؛ فقد ينشئون مملكتهم من جديد. وقد يختارهم الله مرة ثانية.» ويهلل «كايزر» لهذا النص، الذي يتكرر الاستشهاد به في عشرات من مؤلفات الشراح اليهود المتعصبين، ويقول: لقد ظل باروخ اسپينوزا جزءا من الأمة التي نبذه معلموها المتحمسون قبل ذلك بعشر سنوات.»
77
ومن الملاحظ أولا أنه ليس من الروح العمية في شيء أن يبني المرء حكما عاما على نص واحد، ويتجاهل آلاف النصوص الأخرى التي تشهد بطريقة قاطعة على خروج اسپينوزا على التراث اليهودي، بل وعلى كل تراث لاهوتي بوجه عام. وثانيا، فمن الضروري لفهم هذا النص، أن يوضح رأي اسپينوزا الخاص في فكرة «المملكة أو الإمبراطورية»، وفكرة «اختيار الله لليهود»، وهو رأي عرضه اسپينوزا مرارا في هذا الكتاب نفسه، ويختلف تماما عن المعاني التي يستخلصها «كايزر» وأمثاله منه - معاني العودة إلى الدولة القديمة وإحياء مجد إسرائيل! وثالثا، فإن هذا النص السابق، الذي استشهد به، كما قلنا، عدد كبير من شراح اسپينوزا اليهود، منتزع من سياق لا شأن له على الإطلاق بتمجيد اليهود، بل إنه على العكس من ذلك يتضمن انتقادا مريرا لهم.
أما معنى «اختيار الله لليهود» فإن اسپينوزا لا يكف عن القول بأن هذا الاختيار لا يرجع إلى امتيازهم في الفضيلة أو العقيدة أو في أية صفة أخرى، وإنما كان المعنى الوحيد لهذا الاختيار هو أن دولتهم القديمة خضعت لقوانين تكفل تنظيما سليما للمجتمع فحسب؛ فالاختيار هنا لا يعني إلا سلامة نظام الحكومة فحسب. أما فكرة امتياز شعب على شعب - أو على بقية الشعوب - فإن اسپينوزا يرفضها بشدة. ويقول اسپينوزا في هذا الصدد: «وهكذا نستنتج أنه، لما كان الفضل الإلهي يعم جميع الناس على السواء. ولما كان الله لم يختر العبريين إلا من حيث تنظيمهم الاجتماعي وحكومتهم، فإن اليهودي الفرد، إذا ما نظر إليه بمعزل عن تنظيمه الاجتماعي وحكومته، لا يملك أية موهبة يخصه بها الله عن سائر البشر، ولا يوجد فارق يميز اليهودي عن غير اليهودي.»
78
وسنورد فيما يلي السياق الذي ورد فيه النص الذي استشهد به «كايزر» لتأييد مزاعمه: «... لا يوجد على الإطلاق في الوقت الحالي أي شيء يستطيع به، اليهود أن يباهوا به غيرهم من الشعوب.
أما استمرار اليهود كل هذا الوقت بعد تشتتهم وضياع ملكهم، فليس فيه ما يدعو إلى العجب؛ إذ إنهم قد انفصلوا عن كل أمة أخرى إلى حد جلب عليهم كراهية الجميع، ولم يتحقق ذلك الانفصال فقط عن طريق طقوسهم الخارجية، وهي طقوس تتعارض مع شعائر الأمم الأخرى، بل تحقق أيضا عن طريق علامة الختان التي يحرصون كل الحرص على مراعاتها.»
79
ويضرب اسپينوزا بعد ذلك مثلا بيهود إسبانيا الذين أرغموا على التحول إلى المسيحية، ثم عوملوا معاملة حسنة، فاندمجوا في السكان بمضي الزمن، بحيث تلاشت كل الفوارق بينهم وبين هؤلاء. أما يهود البرتغال الذين أرغموا أيضا على التحول إلى المسيحية، ولكنهم اضطهدوا وعوملوا معاملة سيئة؛ فقد ظلوا محتفظين بهويتهم. وفي هذا الصدد يأتي النص الذي اقتبسه «كايزر» من قبل، وتسبقه العبارة الآتية: «إن علامة الختان وحدها لها من الأهمية ما يجعلها تكاد تكون كافية، في اعتقادي، لحفظ الأمة إلى الأبد، بل إنني لأذهب إلى حد الاعتقاد بأنه ...» (إلى آخر النص الذي سبق اقتباسه.)
80
وإذن؛ فقد ورد هذا النص في سياق انتقد فيه اسپينوزا اليهود بشدة، وأكد فيه أن ما يسمونه «بمعجزة البقاء» عبر العصور الطويلة لا ترجع إلا إلى ما جلبوه على أنفسهم من كراهية الآخرين؛ فهي ليست معجزة على الإطلاق وإنما هي مظهر اعتلال وانحراف. وقد دلل اسپينوزا على ذلك بمقارنته بين يهود عوملوا معاملة حسنة فتلاشوا - بوصفهم يهودا، لا بوصفهم أفرادا - بينما احتفظ آخرون بهويتهم عندما اضطهدوا؛ أي إن هذه الكراهية التي يجلبها اليهود على أنفسهم، والتي تسبب اضطهاد الآخرين لهم، هي التي تعمل على بقائهم، ولولاها لاندمجوا كغيرهم من الشعوب المتطورة عبر التاريخ. وليس معنى الاندماج على الإطلاق أن تتلاشى الشعوب، وإنما أن تخضع فقط لتطور التاريخ خلال الزمان، وتستفيد من مزايا الاختلاط والانصهار مع غيرها، كما حدث لعشرات من الأمم القديمة التي لم يعد لها وجود بصورتها الأثرية، لا لأنها قد فنت، بل لأنها قد انصهرت واختلطت بغيرها عبر الزمان، وأفادها هذا الخضوع لمنطق التطور فائدة لا تقدر، ومن الواضح كل الوضوح، من هذا السياق، أن اسپينوزا يعيب على اليهود - بعد أن خرج من طائفتهم - تحجرهم وافتقارهم إلى التكيف مع المجتمعات التي يعيشون بين ظهرانيها، حتى إنهم حرصوا على تمييز أنفسهم بعلامة الختان حتى يظل جنسهم منفصلا عن غيره، وبعد كل هذا الانتقاد، وفي ضوء المعنى الخاص الذي أوضحناه من قبل لفكرة «الاختيار الإلهي»، يأتي النص الذي اقتبسه «كايزر» وكثيرون غيره، ليدللوا به على عطف اسپينوزا على الأمة اليهودية. ومن المؤكد أن واحدا من هؤلاء الشراح لم يكن يجهل السياق الذي ورد هذا النص فيه، ولا بد أن التعصب وحده هو الذي جعلهم يلجئون إلى اقتطاعه من سياقه المخالف تماما لما توحي به سطوره القليلة، حتى يؤيدوا به دعواهم الخاسرة. (2)
والنص الآخر، الذي طالما استشهد به المفسرون اليهود، وارد في رسالة اسپينوزا رقم 76 إلى «ألبرت برج
Albert Burgh »، وفي هذه الرسالة يتحدث عن اليهود فيقول: «إن أكثر ما يباهون به، هو أن منهم شهداء يزيدون على ما لدى أية أمة أخرى منهم، وأن كل يوم يشهد أعددا جديدة ممن يتحملون العذاب من بينهم، بسبب عقيدتهم، بقلب راسخ إلى حد يبعث على الدهشة. وتلك ليست أسطورة؛ فقد عرفت بنفسي، من بين الكثيرين ممن عرفت، شخصا يدعى يهودا
Judas ، ويلقب بالمخلص
Fidèle ، أخذ ينشد وسط اللهيب، في وقت ظنه فيه الناس ميتا، هذا النشيد: إليك يا رب أقدم روحي ... ومات وهو ينشد.»
هذا النص يبدو في نظر الكثيرين، كما قلنا، معبرا عن عطف اسپينوزا على اليهود، ولكن هل هو بالفعل كذلك؟ لنتأمل السياق الذي ورد فيه : إن الرسالة موجهة إلى كاثوليكي شديد التعصب، هو «ألبرت برج»، ويناقش فيها اسپينوزا الحجة التي سبق أن تقدم بها هذا الأخير، وأيد بها عقيدته الكاثوليكية على أساس أن الملايين من الناس يؤمنون بها، وأنها ظلت محتفظة بكيانها عبر العصور دون انقطاع. والرد الذي يأتي به اسپينوزا هو أن اليهود المتعصبين بدورهم يلجئون إلى هذه الحجة دائما؛ فهم، كما جاء في الرسالة ذاتها قبل ذلك، «يشيدون، بنفس القدر من الغرور، بكنيستهم، التي ظلت حتى اليوم ثابتة راسخة، رغم ما يبديه نحوها غير اليهود والمسيحيون من عداوة مريرة. وهم يحتجون خاصة بقدمهم، ويدعون بصوت واحد أن لديهم تراثا تلقوه من الله ذاته، وأنهم هم وحدهم حفظة كلمة الله المكتوبة وغير المكتوبة ... ولكن أكثر ما يفخرون به، هو أن بينهم شهداء (إلى آخر النص الذي اقتبسناه من قبل) ...» ومن الواضح عندما يوضع النص في سياقه هذا أن المقصود به الرد على حجة كاثوليكي متعصب بما يماثلها لدى اليهود، لإثبات أن الموقفين معا باطلان، والمقصود من الأمثلة الأخيرة (التي استشهد بها الشراح اليهود) هو إثبات وجود أمة أخرى لا يقل أفرادها عن الكاثوليكيين تمسكا بعقيدتهم واحتفاظا بها مهما كانت الظروف، وتكملة الحجة، كما هو واضح من السياق، هو كما يأتي : إنك تظن أنك صاحب الدين الحق لأن عقيدتك باقية، ولكن هناك أناسا آخرين، هم اليهود، لديهم كل الأسباب التي تجعلهم يؤكدون أنهم أشد الناس تمسكا بعقيدتهم. فهل يكون لهؤلاء بدورهم أن يزعموا أن دينهم هو الحق؟ الواقع أنه لا الكاثوليكية، ولا اليهودية، يحق لها أن تدعي احتكار الحقيقة لنفسها، ومن الممكن الإتيان دائما، في كل حالة تلجأ فيها إحدى العقائد إلى الحجة القائلة بقدرتها على البقاء، بأمثلة أخرى لعقائد مخالفة لا تقل عنها قدرة على البقاء، ولكن لا هذه ولا تلك يحق لها، كما قلنا، أن تدعي لنفسها احتكار الحقيقة.
ولقد تعرض اسپينوزا، من جراء حملته على فكرة «الشعب المختار» هذه، لانتقاد بعض معاصريه، ممن كانوا يعدون هذا النقد، بما فيه من خروج على بعض تعاليم العهد القديم، منطويا على مساس بتعاليم الإنجيل بأسره. وهكذا يلاحظ «لامبرت دي ڨلتهويزن» في الرسالة رقم 42 الموجهة إلى اسپينوزا، أن هذا الأخير أنكر فكرة اختيار اليهود أو تفضيلهم على بقية الأمم، وأكد أن ممارسة الفضائل الأخلاقية أجدى من ممارسة شعائر العقيدة اليهودية ذاتها. ويلوم صاحب الرسالة اسپينوزا لأنه جعل أمم الأرض كلها سواء، وأفراد البشر جميعا متماثلين، في القدرة على فعل الخير والتحلي بالفضائل - وهي كلها أفكار تخالف تعاليم العهد القديم كما فهمها اليهود مخالفة أساسية.
ومن المؤكد أن اسپينوزا قد عبر، في نصوص متعددة، عن انتقاده لفكرة «الشعب المختار» هذه بكل وضوح، ولكن من المؤسف أن الشراح اليهود الذين حرصوا على الربط بين فلسفته وبين التراث اليهودي، لم يتعرضوا لهذه النصوص قط، بل تجاهلوها كما لو كانت لا تنتمي إلى كتابات فيلسوفنا هذا على الإطلاق، ولنتصور ماذا يمكن أن يقوله هؤلاء الشراح في نص صريح كهذا: «إن السعادة والبركة الحقيقية لكل شخص إنما تكون فقط في تمتعه بما هو خير، لا في مباهاته بأنه هو وحده الذي يتمتع به، دون كل من عداه. أما ذلك الذي يعتقد أنه أكثر من غيره سعادة لأنه يتمتع بنعم يفتقر إليها الآخرون، أو لأنه أكثر غبطة أو أسعد حظا من أقرانه، فإنه جاهل بطبيعة السعادة والبركة الحقة، ولا يمكن أن يكون السرور الذي يحس به إلا صبيانيا، أو حسودا خبيثا. مثال ذلك أن سعادة الإنسان الحقة لا تكون إلا في الحكمة ومعرفة الحقيقة، وهي لا تكون أبدا في شعوره بأنه أحكم من الآخرين، أو بأن الآخرين يفتقرون إلى مثل هذه المعرفة؛ فمثل هذه الأمور لا تزيد من حكمته أو سعادته الحقة؛ وعلى ذلك فإن كل من يغتبط لأسباب كهذه، إنما يغتبط لتعاسة الآخرين، وبذلك يكون خبيثا وشريرا لا يعرف السعادة الحقة ولا طمأنينة الحياة الصحيحة.»
81
هذه الكلمات الرائعة، وردت في فصل يتناول موضوع اقتصار النبوة أو عدم اقتصارها على العبرانيين. ومعناها الواضح هو أنه حتى لو كان اليهود ممتازين عن غيرهم بحق ، فإن تباهيهم بهذا الامتياز يكفي لجعلهم أشرارا؛ إذ إن المرء يسعد بتمتعه بالخير، لا بإدراكه أن الآخرين محرومون منه. فهنا نقد أساسي لفكرة الشعب المختار، مبني على القول بأن الفكرة ذاتها ليست مما تشرف به أية أمة أو يفخر به أي فرد يعرف معنى الأخلاقية؛ إذ إنها تنطوي على مقارنة فيها حط من شأن الآخرين، وليس الحط من شأن الآخرين من شيم الفضلاء حقا. هذا فضلا عما تتضمنه الفكرة من أنانية واضحة، تظهر في الاغتباط بافتقار الآخرين إلى السعادة التي يتمتع بها هذا الشعب ذاته، والأنانية صفة بعيدة كل البعد عن الفضيلة الحقة، وبعبارة أخرى: ففكرة «الشعب المختار» فكرة مناقضة لذاتها؛ لأن من بلغ أسمى درجات الفضيلة لن يجد لذة في تأكيد تميزه عن الآخرين، ولأن مجرد النظر إلى الآخرين على أي نحو ينطوي على الحط من شأنهم معناه أنك لم تعد كامل الفضيلة، ولم تعد «مختارا».
أما أولئك الذين احتفلوا في إسرائيل - كما ذكرنا من قبل - بمرور ثلاثمائة عام على طرد اليهود لاسپينوزا، فأرادوا رد اعتباره بتشييد نصب كتبوا عليه «أهلك!» - فسوف يجدون في كتابات اسپينوزا نصوصا عديدة نستطيع أن نستدل منها بكل وضوح على رأيه في الدولة اليهودية القديمة، وبالتالي في الدولة الحديثة التي أسست لكي تكون إحياء للقديمة أو استمرارا لها، فاسپينوزا قد أكد تأكيدا قاطعا أن الدين ينبغي أن ينفصل عن الدولة، وأن الهيئات الدينية ينبغي أن تترك للدولة الكلمة الأخيرة في الشئون الدينية، وأن الأحكام التي يفرضها الله على الناس لا ينبغي أن تصدر إلا من خلال الحكام الزمنيين،
82
وأن الدولة مبنية على عقد بشري، وسلطتها مستمدة من سيادتها لا من الأوامر الإلهية.
83
أما في الدولة اليهودية القديمة؛ فقد خلط اليهود بين السلطتين الإلهية والزمنية بعد أن ولوا موسى على أساس أنه هو المعجزة الإلهية بينهم، واختاروا خلفاءه على أساس هذا التقرب إلى الله: «وبعد أن نقلوا حقهم إلى الله، اعتقدوا أن دولتهم تنتمي إلى الله، وأنهم هم أنفسهم أبناء الله، ونظروا إلى الأمم الأخرى على أنها عدوة الله، وعاملوها بكراهية شديدة ... فلم يكن شيء أبغض إلى نفوسهم من التعهد بالولاء لأجنبي، والوعد بإطاعته ...
وهكذا نظر العبرانيون إلى حبهم لبلادهم، لا على أنه وطنية فحسب بل على أنه تقوى أيضا، ومجدوه وأذكوه بطقوسهم اليومية حتى لم يعد مفر من أن يعد جزءا من طبيعتهم، شأنه شأن كراهيتهم لبقية الأمم.»
وهكذا كان اسپينوزا، الذي مر بتجربة التربية اليهودية واستوعب الثقافة اليهودية استيعابا تاما حتى طرد، أقدر الناس على تشخيص العلل الحقيقية في نفسية اليهود: كراهية الشعوب الأخرى التي غدت جزءا من طبيعتهم، ورفض الاندماج في أي بلد آخر أو إبداء فروض الولاء له، والخلط بين السلطة الإلهية وسلطة الحكم في دولتهم القديمة، وهو خلط لا بد أن ينعكس أيضا على دولتهم الحديثة. ولو صدر مثل هذا الكلام من شخص غير يهودي لأصبح موقعه في تاريخ الفكر اليوم في قمة «أعداء السامية». وهذا بالفعل ما اتهمت به الطائفة اليهودية اسپينوزا أثناء حياته. ولكنه بعد وفاته بقرنين أو ثلاثة أصبح فجأة، في نظر معظم شراحه اليهود، مدافعا عن التراث اليهودي، ومتعلقا بالأمة اليهودية، وزيف العلم وشوهت الحقيقة لكي يضم إلى التراث اليهودي مفكر كان عظيما بحق، ولكن أعظم ما فيه كان تحديه لكل تراث سابق عليه!
خاتمة
إذا كانت كتابات اسپينوزا، بشكلها ومضمونها اللذين عرضناهما في هذا البحث، يقبلان شتى أنواع الاختلافات في التفسير، فإن التطور اللاحق الذي مرت به فلسفة اسپينوزا بعد وفاته يقدم أمثلة ملموسة للنمط الذي تسير عليه هذه الاختلافات، ففلسفة اسپينوزا كانت في وقتها أشبه باختراع سابق لأوانه، وكما أن استغلال الطاقة البخارية لم يتطور بعد أن اكتشف «هيرو
Hero » السكندري
1
مبادئه الأولى منذ ألفي عام؛ لأن الظروف التاريخية والاجتماعية لم تكن قد بلغت من النضج في ذلك الوقت ما يسمح لها باستيعاب هذا الاكتشاف، فإن فلسفة اسپينوزا لم تحدث أثرها الأكبر في العصر الذي ظهرت فيه لأن ذلك العصر لم يكن على استعداد بعد لتقبل مثل هذه الأفكار. وكان لا بد من مرور قرن كامل قبل أن تتهيأ الظروف التي تجعل قبول فلسفة اسپينوزا أمرا ممكنا. وظل اسپينوزا مهملا، لا يذكر إلا باللعنات طوال هذا القرن، حتى أعيد اكتشافه على يد الفيلسوف الألماني «ياكوبي
Jacobi » في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وألف هذا الأخير في عام 1785م كتابا عن مذهب اسپينوزا في صورة رسائل موجهة إلى مندلسون (
Über die Lehre des Spinozas, in Briefen an den Herrn Moses Mendelssohn ).
واتضح من هذا الكتاب أن اسپينوزا كان من أقوى العوامل التي أثرت في تفكير شخصية لها مكانتها الكبيرة في الفكر الألماني، هي شخصية «لسترج
Lersstrg »، ثم مجده «جوته» في كتابه «الشعر والحقيقة»، وأصبح اسمه على لسان الشعراء والفلاسفة والأدباء في ذلك العصر، واعترف فشته وشلنج صراحة بفضل اسپينوزا عليهما، بينما قال هيجل «إما أن يكون المرء اسپينوزيا أو لا يكون فيلسوفا على الإطلاق.»
2
وفي الوقت ذاته كان هناك تأثير مواز له في الأدباء والمفكرين الفرنسيين الذين مهدوا للثورة الفرنسية، وتأثير آخر في الشعراء الرومانتيكيين الإنجليز، ثم جاء بعد ذلك طوفان الأبحاث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
في هذا التطور كان كل عصر، وكل مفكر، يجد في اسپينوزا ما يريد أن يجده فيه؛ فقد تجاهله الجميع في الوقت الذي كانت لا تزال فيه للصورة التقليدية للعقائد سيطرتها، ثم أصبح تأثيره هائلا على الأدباء بوجه خاص في العصر الذي كان يقبل نوعا من التأليه الرومانتيكي للطبيعة الشاملة. وبعد أن أصبح اسمه راسخا في عالم الفكر، أخذت المذاهب - وأحيانا العقائد - تتجاذبه وتفسره على النحو الذي يلائمها.
وكان هذا الاكتشاف اللاحق من أقوى العوامل التي أدت إلى تعدد تفسيرات فلسفة اسپينوزا وتباينها إلى حد التعارض التام. وقد لاحظ «كاسيرر» هذه الظاهرة، ونبه إليها؛ إذ أشار إلى أن اسپينوزا - على خلاف معظم الفلاسفة الآخرين - لم يمارس تأثيره الأكبر في ميدان الفلسفة خلال حياته، أو بعد وفاته بفترة قصيرة، ولم تظهر بعده مدرسة، ولم يتأثر العالم بفكره إلا بعد «إعادة اكتشافه» في عصر متأخر، ولا سيما في القرن التاسع عشر. وهكذا مارس اسپينوزا تأثيره في عصر مختلف تماما عن عصره، يتحدث بلغة مختلفة ويفهم الألفاظ فهما مغايرا.
3
وليس أدل على صعوبة تخلص شراح اسپينوزا من خطأ إقحام مذاهبهم الخاصة في شروحهم له، من أن كاسيرر نفسه - الذي نبه إلى هذه الصعوبة، وأخذ على عاتقه أن يفهم ألفاظ اسپينوزا كما فهمها هو ذاته، ويفسره من خلال عصره نفسه، لا من خلال ما أقحمته العصور التالية بطلانا في تفكيره - قد أدخل في تفسيره لاسپينوزا بعض العناصر الكانتية، فأكد أن نقطة بدايته الأساسية كانت هي قوى الروح التي تفهم العالم من ذاتها، لا من أي مصدر خارجي، وتستخلص من مبادئها الذاتية معرفة للعالم بطريقة ضرورية مطلقة.
4
وهكذا وقع هو ذاته في الخطأ الذي نبه إليه.
ولسنا نزعم أن هذا البحث قد تخلص تماما من عنصر «الإسقاط» الذاتي، ولكنا نستطيع أن نقول إن العامل الأساسي الذي تحكم في تفسيرنا الخاص لاسپينوزا هو الرغبة في تحقيق أكبر قدر ممكن من الاتساق بين أفكار ذلك الفيلسوف الذي كان يزن كلماته بميزان دقيق، والذي كان يستحيل في رأينا، أن يكون قد وقع في التناقض الذي يعزوه إليه مفسروه عادة عندما يشرحون ألفاظه وتعبيراته ذات المظهر اللاهوتي بمعانيها الحرفية.
وفي سبيل تحقيق ذلك الاتساق تقدمنا بذلك الفرض الذي كان كثير من شراح اسپينوزا يرفضونه رفضا قاطعا، وكان غيرهم يقبلونه جزئيا ولا يطبقونه تطبيقا عاما، وهو أن اسپينوزا «تعمد» أن يضفي على معانيه الثورية مظهرا لاهوتيا أو وسيطيا يقلل من وقعها على نفوس المتعصبين، ولكنه في الوقت ذاته قدم إلى القارئ اليقظ كل الإرشادات الكفيلة بنقل معانيه الحقيقية إليه. وقد يرفض الكثيرون مثل هذا التفسير لأسباب أخلاقية - قدمنا الرد الكافي عليها في الموضع المناسب - ولكن أحدا لا يستطيع أن ينكر أن أفضل معيار للمفاضلة بين التفسيرات، في حالة فيلسوف تتضارب شروحه من النقيض إلى النقيض، هو معيار الاتساق، وأن فلسفة اسپينوزا لا تظهر متسقة من بدايتها إلى نهايتها إلا في ظل تفسير يفصل تماما بين مظهر ألفاظه ومعانيها الحقيقية، ويستعيض عن الرموز اللاهوتية، في منهجه الرياضي، بمعان تتمشى مع الروح العلمية التي كان اسپينوزا من أعظم، ومن أول، من تحدثوا باسمها وصدوا عنها هجمات التعصب والجهل. وفي رأينا أن هذا الدفاع عن الروح العلمية كان هو الخيط الجامع بين كل أطراف فلسفة اسپينوزا، وأن كل من جعلوه متهاونا، أو مترددا، أو متناقضا مع نفسه، في هذا الدفاع، قد أساءوا إليه، وأن هذه الإساءة كانت - لسوء الحظ - متعمدة في كثير من الأحيان، لتحقيق أغراض لا صلة لها بالبحث العلمي النزيه. ولو كان هذا البحث قد ساهم في كشف هذا التشويه - المقصود منه وغير المقصود - لكان قد حقق بذلك أغراضه كاملة.
أسماء المراجع المذكورة في البحث
(1) مؤلفات اسپينوزا (1)
The Chief Works of Spinoza (Elwes Translation). 2 vols, Dover Publications (New York 1951) .
وقد أشرنا إلى هذه الطبعة في صدد المؤلفات الآتية:
البحث اللاهوتي السياسي
Tractatus Theologico-Politicus (ورمزه في الكتاب
TTP ).
البحث السياسي
Tractatus Politicus (ورمزه في الكتاب
TP ). إصلاح العقل
De intellectus emendatione . (2)
Œuvres complètes de Spinoza. Traduction française par Rolland Caillois, Madeleine Francès et Robert Misrahi. Paris, Gallimard (Bibliothèque de la Pléiade) 1954 .
وقد أشرنا إلى هذه الطبعة في صدد المؤلفات الآتية:
الرسالة القصيرة في الله والإنسان وسعادته
Court traité sur Dieu, l’homme et son état bienheureux .
مبادئ الفلسفة الديكارتية
.
أفكار ميتافيزيقية
.
الرسائل
Correspondance .
أما كتاب الأخلاق
Ethica
فقد أشرنا إلى ترقيماته الأصلية، وهي واحدة في جميع الطبعات والترجمات. (2) مؤلفات عن اسپينوزا (1)
S. Alexander: “Is their a Jewish Philosophy?” in “The Jewis Review” No. II, Sept., Dec. 1932 . (2)
Fernand Alquié: Servitude et liberté chez Spinoza. (Les cours de Sorbonne) (Centre de Documentation Universitaire) Paris 1959. (en sténotype) . (3)
Ernst Altkirch: “Die Freunde Spinozas” in “Der Morgen”. III. Jahrgang. 1927 . (4)
Matthew Arnold: Essays in Criticism. No. 9 “Spinoza and the Bible” London (Mc. Millan) 1865 . (5)
H. Barker: “Notes on the Second Part of Spinoza’s Ethics” Article in “Mind”. Vol. 47, 1938 . (6)
David Bidney: The Psychology and Ethics of Spinoza. Yale University Press, 1940 . (7)
E. Bréhier: Histoire de la philosophie. tome II. Fascicule 1, Paris (P.U.F.) 1950 . (8)
Victor Brochard: “Le Dieu de Spinoza”, in “Etudes de philosophie ancienne et de philosophie moderne” Nouvelle éditon,
. (9)
Lewis Browne: Blesséd Spinoza: A Biography. New York 1932 . (10)
Constantin Brunner: Spinoza contre Kant. (Trad. Fran.)
. (11)
Léon Brunschvicg: L’humanisme de l’occident (Ecrits philosophiques, tome I). Paris. (P.U.F.) 1951 . (12)
Léon Brunschvicg: Spinoza et ses contemporains. Paris (P.U.F.) 4
e
edition. 1951 . (13)
Ernst Cassirer: “Spinozas Stellung in der Allgemeinen Geistesgeseschichte”, in “Der Morgen”. 8 Jahrgang 1932 . (14)
Morris Cohen. “The Intellectual Love of God”, in “Menorah Journal” vol. XI., Feb. 1925. No. 1 . (15)
Darbon: Etudes spinozistes. Paril (P.F.U.) 1946 . (16)
H. Daudin: La liberté de la volonté. Paris (P.F.U.) 1950 . (17)
J. T. Desanti: Introducation a l’histoire de la philosophie. Paris (Edition de la Nouvelle Critique) 1956 . (18)
J. Dunner: Spinoza and Western Democracy. New York. (Phil. Library) 1955 . (19)
Hermann Duncker: “Einleitung” in “Thalheimer/Deborin: Spinozas Stellung in der Vorgeschichte der dialektischen Materialismus”. Berlin (Marxistische Bibliothek) 1928 . (20)
S. Von Dunin-Borkowski: Spinoza nach Dreihundert Jahren. Berlin (Dümmlers Velag) 1932 . (21)
Rudolf Eucken: Die Lebensanschauungen der Grossen Denker. 20
e
Anflage. Berlin (Waltsr de Gruyter) 1950 . (22)
L. S. Feuer: Spinoza and the Rise of Liberalism. Boston (Beacon Press) 1950 . (23)
Solomon B. Freehof: “Spinoza and Religion” in “Spinoza, The Man and His Thought”, Addresses delivered at Spinoza’s Tercentenary. Chicago (Open Court) 1933 . (24)
J. Freudenthal: Die Lebensgeschichte Spinoza’s. Leipzig 1899 . (25)
J. Freudenthal: Spinoza, Lebnn und Lehre. Hidelberg 1927 . (26)
G. Freidmann: Leibnitz et Spinoza. (Gallimard) 1946 . (27)
Carl Gebhardt: “Spinozas Bann”, in “Der Morgen”, III. Jabrgang, 1927 . (28)
Carl Gebhardt: “Die Religion Spinozas”, in “Archiv für Geschichte der Philosophie”. Bd. 41, Berlin 1932 . (29)
Otto Gierke: The Natural Law and the Theory of the State (English Translation) Boston (Beacon Press Paperbacks) 1960 . (30)
Hans Alfred Grunsky: “Baruch Spinoza”: in “Forschungen zur Judenfrage” Bd. 2. Hambrug 1937 . (31)
H. F. Hallett: AEternitas, A Spinozistic Study. Oxford, 1937 . (32)
H. F. Hallett: Benedict de Spinoza. University of London (The Athlone Press) 1957 . (33)
Stuart Hampshire: Spinoza. London (Pelican Press) 1951 . (34)
Hegel’s Lectures on the History of Philosophy (English Translation) New York (The Humanities Press) 1955 . (35)
Bernard Heller: “Is Spinozaism Compatible with Judaism?” New York (Bloch Publishing Co.) 1927 . (36)
H. Höffding: History of Modern Philosophy. New York. (Dover Publications) 1955 . (37)
Karl Jaspers: Die Grossen Philosophen Bd. I. Munchen (Piper) 1957 . (38)
Harold A. Joachim: A Study of the “Ethics” of Spinoza. Oxford (1901) . (39)
Rudolf Kayser: Spinoza, Portrait of a Spiritual Hero (English Trans.) Introduction by Albert Einstein. New York (Philosophical Library) . (40)
G. Kline (Editor & Translator): Spinoza in Soviet Philosophy. London (Routledge & Kegan Peul) 1952 . (41)
de Spinoza. Paris (Vrin) 2
e
éd, 1950 . (42)
Kurt Leidecker: Spinoza and Hinduism. Chioago (Open Court) Oct. 1934 . (43)
R. McKeon: The Philosophy of Spinoza. London (Longmans). 1928 . (44)
R. McKeon: “Spinoza and Experimental Science”, in “Psyche” vol. 8. No. 2. Oct. 1927 . (45)
Henry A. Meyer: The Spinoza-Hegl Paradox. Cornell University Press. 1944 . (46)
Nietzeche: Jenseits von Gut und Böse . (47)
O. V. Plekhanov: Les questions fondamentales du marxisme. Paris (Editions Sociales) 1947 . (48)
Sir Frederick Pollock: Spinoza, His Life and Philosophy 2
nd
ed. London (Duckworth) 1899 . (49)
G. T. Richeter: Spinozas philosophische Treminoiogie. Leipzig 1912 . (50)
A. Rivaud: Histoire de la philosophic. tome III. Paris (P.U.F.) 1950 . (51)
Leon Roth: Spinoza. London (Allen & Unwin) 1954 . (52)
Josiah Royce: The Spirit of Modern Philosophy. N. Y. (Braziller) 1955 . (53)
Ruth Lydia Saw: Vindication of Metaphysics. London (Mc. Millan) 1951 . (54)
J. Segond: La vie de Spinoza. Paris. 3
e
ed 1933 . (55)
Brouwer) 1952 . (56)
(Desclée ...) 1937 . (57)
Nahum Sokolow: “Spinoza the Jew”, in: The Jewish Review. No. III. Dec. 1932-March 1933 . (58)
Herry Waton: The Jewish Question and Spinoza’s
his Tercentenary. Spinoza Institute of America. New York 1933 . (59)
Leo Strauss: Persecution and the Art of Writing. Glencoe, Illinois (The Free Press) 1952 . (60)
Celestine Sullivan, Jr.: Critical and Historical Reflections on Spinoza’s “Ethics”. University of California
. (61)
Jacob Teicher: “Why was Spinoza Banned?” in “The Menorah Journal” Autumn-Winter 1957 . (62)
F. Überwerg: History of Philosophy (English Traus.) New York (Scribner) 1909. Vol. II . (63)
bibliothèque. Paris 1934 . (64)
Meyer Waxman: “Baruch Spinoza’s Relation to Jewish
Review. Vol. 19. 1928-1929 . (65)
Julien Weill: “Spinoza et le judaisme”, in Revue des Etudes juives. tome 49. Paris 1904 . (66)
W. Windelband: A History of Philosophy (English Trans.) New York (Harper Torchbooks) 1958 . (67)
H. A. Wolfson: The Philosophy of Spinoza. New York (Meridian paperbacks) 1958 . (68)
H. A. Wolfson: “Spinoza and Religion”. Lecture reprinted in: “The Menorah Journal”. Vol. 38. 2. 1950 . (69)
Sylvain Zak: La morale de Spinoza. Paris (P.U.F.) 1959 .
Page inconnue