.. إن كل شيء في العالم الكبير له نظير في العالم الصغير الذي هو بدن الإنسان، فحواس الإنسان أشرف من الكواكب المضيئة، والسمع والبصر منها بمنزلة الشمس والقمر في إدراك المدركات بها، وأعضاؤه تصير عند البلى ترابًا من جنس الأرض وفيه من جنس الماء العروق وسائر رطوبات البدن، ومن جنس الهواء فيه الروح والنَّفس، ومن جنس النار فيه المِرَّة والصفراء، وعروقه بمنزلة الأنهار في الأرض، وكبده بمنزلة العيون التي تستمد منها الأنهار لأن العروق تستمد من الكبد، ومثانته بمنزلة البحر لانصباب ما في أوعية البدن إليها كما تنصب الأنهار إلى البحر، وعظامه بمنزلة الجبال التي هي أوتاد الأرض، وأعضاؤه كالأشجار، فكما أن لكل شجر ورقًا أو ثمرًا فكذلك لكل عضو فعل، أو أثر، والشعر على البدن بمنزلة النبات والحشيش على الأرض، ثم إن الإنسان يحكي بلسانه كل صوت حيوان، ويحاكي بأعضائه صنيع كل حيوان، فهو العالم الصغير مع العالم الكبير، مخلوقٌ محدث لصانع واحد لا إله إلا هو، ولا رب سواه (١) . ب- الطريق الثاني للاستدلال على توحيد الربوبية: ... الاستدلال به – جل وعلا – عليه، وعلى أفعاله، وصنعه، وهذه الطريقة أعظم من الأولى ولها شأنٌ خطيرٌ، وقدرٌ جليلٌ، وهي طريقة أرباب البصائر، الذين وقفوا على حقائق الأمور وأعطوا كل ذي حق ٍ حقه. _________ (١) انظر مدارج السالكين بين منازل "إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ": (١/٦٠)، وفي الحكم العطائية: (٢٧-٢٨): شتان بين من يستدل به، أو يستدل عليه، به عرف الحق لأهله فأثبت الأمر من وجود أصله، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه، وإلا فمتى غاب حتى يستدل عليه؟، ومتى بعد حتى تكون الآثار هي التي توصل إليه؟، زاد ابن عباد النَّفَري شارح الحكم: ومتى فقد حتى تكون الآثار الموجودة هي التي تدل عليه؟، وأنشد: عَجِبْتُ لَمِنْ يَبْغي عليكَ شَهادةً ... وَأنْتَ الذي أشْهَدْتَهُ كُلَّ مَشْهَدِ