Smash Your Idol and Be Small in Your Eyes
حطم صنمك وكن عند نفسك صغيرا
Maison d'édition
مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة
Genres
ـ[حطِّم صنمك وكن عند نفسك صغيرًا]ـ
المؤلف: مجدي الهلالي
الناشر: مؤسسة اقرأ للنشر والتوزيع والترجمة
عام النشر: ١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٤ م
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
Page inconnue
لمن هذه الصفحات؟
لكل داعية وكل خطيب ..
لكل عالم وكل عابد ..
لكل طالب علم وكل كاتب ..
لكل صاحب موهبة أو نجاح ..
لكل من يبدأ طريقه إلى الله ..
لكل مسلم ومسلمة ..
لنفسي ولكل من أحب ..
1 / 2
المقدمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، أما بعد:
فمما لاشك فيه أن التربية الإيمانية لها أثر كبير وفعال في دفع المرء للقيام بأعمال البر بسهولة ويسر، فكلما ازداد الإيمان في القلب كانت آثاره العظيمة في السلوك، قال تعالى ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: ٢٣].
ومع الأهمية القصوى لإيقاد شعلة الإيمان في القلب والعمل الدائم على زيادته، يبقي أمر آخر على نفس الدرجة من الأهمية ينبغي أن نهتم به كاهتمامنا بالتربية الإيمانية، ألا وهو المحافظة على أعمالنا الصالحة التي نقوم بأدائها من كل ما يفسدها ويبعدها عن مظنة الإخلاص لله ﷿ ...
ومن أهم الأمور التي يمكنها أن تفعل ذلك: إعجاب المرء بنفسه، ورضاه عنها ورؤيتها بعين التعظيم.
هذا الداء الخطير الذي يتسلل بخبث إلى النفوس من شأنه أن يحبط العمل ويفسده، بل تصل خطورته إلى حد الوقوع في دائرة الشرك الخفي بالله ﷿.
معنى ذلك أن الواحد منا يتعب ويبذل الكثير من أجل قيامه بعمل ما، ثم يأتي داء العُجب فيقضي عليه ويحبطه.
ويكفي لبيان خطورة هذا الداء أن رسول الله ﷺ عده من المهلكات.
قال ﷺ " فأما المهلكات: فشح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه" (١)
_________
(١) حسن، أخرجه الطيالسي عن ابن عمر، وأورده الألباني في صحيح الجامع ح (٣٠٤٥).
1 / 5
ومن سمات هذا الداء أن لديه القدرة على التسلل بخبث إلى النفوس: نفوس العلماء، والعباد، والدعاة، والخطباء، والكتاب، وأصحاب المواهب والنجاحات، فهو يعرف طريقه جيدًا إلى كل نفس، ولا يكاد يتركها إلا بعد أن يضخها، ويعظم قدرها في عين صاحبها.
إنه أمر خطير ينبغي الانتباه إليه، وعدم الاستهانة به، أو إنكار وجوده داخلنا فنحن لا نريد أن نفاجأ يوم القيامة بأعمال صالحة تعبنا وسهرنا وبذلنا الكثير من أجل القيام بها، ثم نجدها وقد أحبطت بسبب هذا الداء.
ألا يكفينا الترهيب النبوي " لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر "؟! (١)
وقوله ﷺ: " لايزال الرجل يذهب بنفسه حتى يكتب في الجبارين فيصيبه
ما أصابهم ". (٢)
فإن كنت في شك من أهمية هذا الأمر، وضرورة التشمير من أجل التخلص منه فتأمل سيرة رسولنا الحبيب ﷺ، وصحابته الكرام، وكيف كانوا شديدي الحرص نحو أي أثر من آثار هذا الداء، وإغلاق الأبواب أمامه، مع استصغارهم الدائم لأنفسهم، وتواضعهم لربهم.
أخرج ابن المبارك في الزهد أن النبي ﷺ قد أُتي له بطعام فقالت له عائشة: لو أكلت يا نبي الله وأنت متكئ كان أهون عليك. فأصغى بجبهته حتى كاد يمس الأرض بها. قال: " بل آكل كما يأكل العبد، وأنا جالس كما يجلس العبد، فإنما أنا عبد " (٣).
وهذا أبو عبيدة بن الجراح وقد أم قومًا يومًا، فلما انصرف قال: مازال الشيطان بي آنفًا حتى رأيت أن لي فضلًا على من خلفي، لا أؤم أبدًا (٤).
_________
(١) أخرجه مسلم (١/ ٩٣، رقم ٩١)
(٢) رواه الترمذي وقال: حديث حسن غريب، وضعفه الشيخ الألباني في الجامع برقم ٦٣٤٤. ويذهب بنفسه أي: يرتفع ويتكبر.
(٣) أخرجه ابن سعد (١/ ٣٧١)، والبيهقي في شعب الإيمان (٥/ ١٠٧، رقم ٥٩٧٥)، وعبد الرزاق عن معمر في الجامع (١٠/ ٤١٧، رقم ١٩٥٥٤)، وصححه الشيخ الألباني في الصحيحة برقم ٤٤١.
(٤) الزهد لابن المبارك برقم (٨٣٤) صـ٢٨٧.
1 / 6
وكان عتبة بن غزوان يقول: فإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيمًا وعند الله صغيرًا (١).
فإلى كل طالب علم، وكل داعية.
إلى كل عالم وكل عابد.
إلى كل مسلم ومسلمة.
إلى نفسي، وكل من أحب، كانت هذه الصفحات التي تدق لنا جميعًا ناقوس الخطر.
إنها دعوة لتحطيم الأصنام داخلنا، ولأن يكون كل منا عند نفسه صغيرًا ..
فلنكن جميعًا نِعْمَ المجيبين، ولنتعامل معها على أننا بها المخاطبون، وليرى الله من أنفسنا صدقًا في طلب التخلص والاحتراز من هذا الداء - داء الإعجاب بالنفس - عساه - سبحانه - أن يعيننا عليه ويلهمنا الرشد في التعامل معه والتحصن ضده؛ حتى نخرج من الدنيا عبيدًا مخلصين له، لا نرى فضلًا إلا فضله ولا خيرًا إلا خيره: ﴿وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [النور: ٢١].
_________
(١) الزهد لابن المبارك ص١٨٩.
1 / 7
الباب الأول
هل بداخلنا أصنام؟!
- تمهيد: لا غنى لأحد عن الله.
- الفصل الأول: الشرك الخفي.
- الفصل الثاني: أسباب تضخم الذات ووجود الصنم.
- الفصل الثالث: مظاهر الإعجاب بالنفس وتضخم الذات.
- الفصل الرابع: خطورة الإعجاب بالنفس.
1 / 9
تمهيد
لا غني لأحد عن الله
الله ﷿ هو الذي خلقنا من العدم، فلم نكن قبل وجودنا في أرحام أمهاتنا شيئًا مذكورًا، كنا في التراب، وعندما شاء الله لنا أن نخلق كانت النطفة فالعلقة فالمضغة فالجنين ثم الخروج إلى الدنيا ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: ٧٨].
تولى ﷾ نشأتنا والقيام على شيءوننا، وأعطانا ما أعطانا من الأسباب التي تمكننا من العيش في الحياة.
هذه الأسباب من سمع، وبصر، وعقل، وأجهزة وأعضاء، ... لا يوجد لديها قدرة ذاتية للقيام بوظائفها، فالله ﷿ هو الذي يمدها بهذه القدرة لحظة بلحظة ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ [يونس: ٢٢].
فلا قيمة لهذه الأسباب بدون المدد الإلهي المتواصل، فهو - سبحانه - حى قيوم، قائم على شيءون جميع خلقه.
لا تأخذه سنة ولا نوم:
وكيف تأخذه سنة أو نوم؟! من سيمسك السماوات وهي مرفوعة بغير عمد؟! من ذا الذي سيحفظ الشمس في مدارها، ويسيرها من الشرق إلى الغرب؟!
أمن هذا الذي سيتولي نشأة الأجنة في أرحام الأمهات؟!
من الذي سيطعمنا ويسقينا سواه ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ﴾ [الحجر: ٢٢].
من الذي سيدبر أمر بلايين الخلايا داخل الجسم؟! من الذي سيجعل القلب
1 / 11
يستمر في ضخ الدم، والكلية في تنقيته، والعضلات في الانقباض والانبساط والدم في الجريان، والرئة في التنفس، والأجهزة في العمل المتواصل؟!
من غيره سيجعلنا ننام؟ ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ [الزمر: ٤٢].
من الذي سيصرف الرياح، ويحرك السحاب وينزل المطر؟ ﴿اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ﴾.
من الذي سيتولى أمر الرزق لهذه الأعداد التي لا تحصى من الخلائق؟ ﴿أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ﴾ [الملك: ٢١].
من الذي سيدبر أمر النبات سواه ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا﴾ [الزمر: ٢١].
لا إله إلا الله:
فلنتفكر في أنفسنا، وفيما خلق الله من السماوات والأرض، وليسأل كل منا نفسه ﴿هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [فاطر: ٣].
من سواه يأتينا بالليل لنسكن فيه؟ ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ [القصص: ٧٢].
من سواه يأتينا بالماء؟ ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ﴾ [الملك: ٣٠].
من سواه سيجعلنا ننطق أو نسمع .. أونضحك أو نبكي؟ ﴿وأنه هو أضحك وأبكى﴾ [النجم: ٤٣].
1 / 12
من سواه يُسيِّر الفلك في البحر والدواب في البر؟ ﴿وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ﴾ [يس: ٤١].
من غيره يجعل لنا الماء عذبًا، والحديد الصلب لينًا سهلًا؟!
لا حول ولاقوة إلا بالله:
إننا بدون المدد الإلهي المستمر كالجهاز الكهربائي عندما ينقطع عنه التيار .. لا وزن ولا قيمة .. لن نرى بأعيننا، ولن نسمع بآذاننا .. سيتوقف القلب عن الخفقان .. والدم عن الجريان .. لا ضحك ولا بكاء .. لا كلام ولا حراك .. حياة مظلمة .. فالسفن ستغرق في البحار، والطائرات ستسقط من السماء، والسيارات ستقف بلا حراك .. ستظلم السماء، ويتوقف الهواء .. ولِم لا، ولا غنى لأحد عن الله طرفة عين.
الشرك ظلم عظيم:
فإن كان الأمر كذلك .. فأى ظلم يقع فيه العبد عندما يسأل غير الله، ويطلب منه المدد والعون؟!!
أى ظلم هذا الذي يجعل العبد يعتقد في أي شيء آخر مع الله لجلب النفع أو لدفع الضر؟
أيكون جزاء هذا العطاء المتواصل بالليل والنهار هو تجاهل مسببه، والتوجه إلى غيره بالسؤال؟!
أى جحود هذا الذي يقع فيه الإنسان عندما يشرك بربه؟!
فيا عجبًا كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد؟
1 / 13
الفصل الأول
الشرك الخفي
* أنواع الشرك بالله.
* معنى الشرك الخفي.
* أمثلة من الواقع.
* حقيقة العُجب.
* حمد النفس.
* الداء الخبيث.
* اللحظات العابرة.
1 / 15
الشرك الخفي
أنواع الشرك بالله:
من معاني الشرك بالله الاعتقاد في آخر مع الله أنه ينفع أو يضر .. هذا الاعتقاد يترجمه صاحبه في صورة التعظيم لمن يشرك به، وكذلك الاعتماد عليه في تصريف أموره وسؤاله حاجاته.
والشرك نوعان: شرك جلي ظاهر، وشرك خفي مستتر.
الشرك الجلي هو الاعتقاد في آخر مع الله بالنفع أو الضر، مثل الاعتقاد فيمن يسمونهم بالأولياء من الأحياء أو الأموات، وكذلك الاعتقاد في حجر أو شجر أو كوكب أو نجم أو ساحر أو كاهن، ومن ثم تتوجه إليه القلوب بالتعظيم، والألسنة بالسؤال وطلب الحاجات.
وهو أمر خطير ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ﴾ [الحج: ٣١].
معنى الشرك الخفي:
أما الشرك الخفي فهو الذي يخفى وجوده على الإنسان من الناحية الشكلية بمعنى أنه لا يعترف بوجوده لكنه متلبس به من الناحية الموضوعية.
ومن أهم صور الشرك الخفي رؤية الإنسان لنفسه بعين التعظيم، واعتقاده في الأسباب التي حباه الله إياها أنها ملك ذاتي له، يمتلكها، ويستدعيها في الوقت الذي يشاء، وأنه يفضل بها غيره .. هذا الاعتقاد قد يكون في جزئية صغيرة، وقد يكون في كل الجزئيات التي تشكل شخصية الإنسان.
1 / 17
أمثلة من الواقع:
فإذا ما أردنا أمثلة عملية توضح مفهوم الشرك بالنفس والذي يطلق عليه العلماء: العُجب، سنجد أمامنا الكثير والكثير.
فالطالب الذي حباه الله موهبة الفهم والحفظ قد يقع في هذا النوع من الشرك إذا ما اعتقد في نفسه القدرة الذاتية على الفهم والحفظ.
والمرأة التي تحسن إعداد الطعام قد تقع في نفس الأمر باعتقادها في خبراتها وقدرتها على القيام بذلك متى شاءت.
وكذلك المدرس إذا اعتقد في قدرته على شرح الدروس، معتمدًا على إمكاناته، وخبراته، وتاريخه الطويل في التدريس.
والداعية الذي يعظ الناس، ويدعوهم فيتأثرون بحديثه، قد يقع في نفس الأمر إذا ما اعتقد في بلاغته وحفظه وقدرته على التأثير.
وكذلك كل من يظن أن عنده شيئًا ذاتيًا ليس عند غيره، مهما كان حجم هذا الشيء.
رأى الحسن البصري كساء صوف على فرقد السبخي فقال: يا فرقد لعلك تحسب أن لك بكسائك على الناس فضلًا (١).
حقيقة العُجب:
يقول ابن المبارك: العُجب أن ترى أن عندك شيئًا ليس عند غيرك (٢).
فهذا هو جوهر العُجب: أن ترى أن عندك شيئًا ذاتيًا تتملكه، وليس عند غيرك.
أن ترى أن عندك مالًا .. أولادًا .. ذكاءً .. موهبة .. كساءً ليس عند غيرك.
_________
(١) الزهد للحسن البصري - تحقيق د. محمد عبد الرحيم محمد - ص١٥٩ - دار الحديث - القاهرة.
(٢) سير أعلام النبلاء للذهبي ٨/ ٤٠٧ - مؤسسة الرسالة - بيروت.
1 / 18
فإن قلت ولكن بالفعل عنديمن هذه الأشياء ما لا أجده عند غيرى.
نعم كل منا عنده أشياء ليست عند غيره، ولكن هذه الأشياء ملك من؟!
يقول تعالى: ﴿لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ﴾ [المائدة: ١٢٠]. فكل ما معنا من أصغر شيء إلى أكبره ملك لله ﷿، أعارنا إياه لننتفع به، ونمتحن فيه ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف: ٧].
فلا يملك أحد - غير الله - شيئًا في هذا الكون ﴿لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ﴾ [سبأ: ٢٢].
فإن اعتقد أحدنا أن المال الذي معه هو ماله لا مال الله، وفرح به، واطمأن لوجوده معه فهذا هو الإعجاب بالمال كمن قال: ﴿إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ [القصص: ٧٨].
ويتسع هذا المفهوم ليشمل كل شيء يفرح به الإنسان، ويطمئن إلى وجوده معه على أنه ملك ذاتي له.
حمد النفس:
ومن معاني العُجب كذلك رؤية أحدنا لنفسه بعين الرضا والفرح فيما علمت أو عملت وحمدها على ذلك، ولو في جزئية صغيرة، ونسيان أن الله ﷿ هو صاحب كل فضل نحن فيه.
قال المحاسبي: العُجب هو حمد النفس على ما عملت أو علمت، ونسيان أن النعم من الله ﷿ (١).
ويؤكد على هذا المعنى أبو حامد الغزالي فيقول: العُجب هو استعظام النعمة والركون إليها مع نسيان إضافتها للمنعم (٢).
_________
(١) الرعاية لحقوق الله للمحاسبي ص ٤٢٠ - دار اليقين - المنصورة - مصر.
(٢) إحياء علوم الدين ٣/ ٥٧٤ - دار الحديث - القاهرة.
1 / 19
سئل رياح القيسي: يا أبا مهاجر ما الذي أفسد على العمال أعمالهم؟ فقال: حمد النفس، ونسيان النعم (١).
فالعُجب خاطر يهيج في داخلك يدعوك لاستعظام عملك واستكثاره فتقول في نفسك: لقد قويت وصبرت واستطعت فعل كذا ... لقد جاهدت ... لقد فهمت كذا ... صمت في يوم شديد الحر ... لقد أنفقت كذا ... فرحًا من نفسك بقوتها، معظمًا لها مع نسيان نعمة الله عليك في القيام بذلك (٢).
الداء الخبيث:
إعجاب المرء بنفسه ولو في جزئية صغيرة يؤدي به إلى استعظامها، ورؤيتها أكبر من غيرها في هذه الجزئية، والاعتقاد في نفعها، وفي أنه يمكنه بذاته أن يستدعى موهبته في أي وقت يشاؤه ليظهر من خلالها فضله وتميزه على غيره.
هذا المفهوم قد يصغر عند البعض، وقد يكبر عند البعض الآخر.
ويظن الكثير منا أن داء الإعجاب بالنفس لا يصيب إلا أهل التصدر بين الناس وأصحاب الإمكانات والمواهب العالية فقط، والحقيقة أن هؤلاء بالفعل أكثر عرضة من غيرهم للإصابة بهذا المرض، إلا أنه لا يصيب هؤلاء فقط، بل يحاول مع الجميع، وينتظر اللحظة المناسبة للتمكن من نفس أي إنسان.
فإن كنت في شك من هذا فما تفسيرك لحالة فقير معدم مجهول بين الناس ومع ذلك هو عند نفسه كبير، بل يرى كذلك تميزه على غيره بما لديه من مواهب متوهمة؟!
إنه داء خبيث يعرف طريقه جيدًا إلى النفوس، فما من موقف إيجابي يقوم به الإنسان - قولًا كان أو فعلًا - إلا ولهذا الداء محاولة للتأثير على نفسه، والعمل على تضخيمها والإعجاب بها ونسيان المنعم ﷾.
_________
(١) الرعاية لحقوق الله ص ٤٢٩.
(٢) المصدر السابق - بتصرف ص ٤٢١، ٤٢٢.
1 / 20
قيل لداود الطائي: أرأيت رجلًا دخل على هؤلاء الأمراء، فأمرهم بالمعروف ونهاهم عن المنكر؟! فقال: أخاف عليه السوط. قبل: إنه يقوى عليه (يعني أنه وطن نفسه على احتماله إن وقع واحتسابه عند الله تعالى) فقال: أخاف عليه السيف قيل: إنه يقوى عليه. قال: أخاف عليه الداء الدفين؛ العُجب) (١).
فالعُجب آفة العقل - أي عقل - يدعوه دومًا إلى استعظام قوله أو عمله أو أفكاره وحمد نفسه على ذلك.
اللحظات العابرة:
إذن فالعُجب داء لا يكاد يسلم منه أحد، وأخطر ما يقوم به هو تضخيمه للذات، ومن ثم تكوينه لصنم داخلي في نفس صاحبه يحمل اسمه. مع ملاحظة الفارق بين لحظات الإعجاب بالنفس العابرة، وبين تأصل هذا الداء داخل الإنسان.
ومع ذلك فإن تجاوب المرء مع تلك اللحظات وعدم مقاومتها سيؤدي إلى تمكن الداء من نفسه شيئًا فشيئًا، ومن ثم تكوين الصنم.
تأمل معي هذا الخبر لتدرك خطورة تلك اللحظات، والعمل على مقاومتها وإغلاق الأبواب أمامها.
تقول السيدة عائشة ﵂: لبست مرة درعًا لي جديدة فجعلت أنظر إليها فأعجبت بها. فقال أبو بكر: ما تنظرين؟ إن الله ليس بناظر إليك!
قلت: ومم ذاك؟ قال: ما علمت أن العبد إذا دخله العُجب بزينة الدنيا مقته الله ﷿ حتى يفارق تلك الزينة!
قالت: فنزعته فتصدقت به .. فقال أبو بكر: عسى ذلك أن يكفر عنك (٢).
_________
(١) تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين لابن النحاس ص ٥٢.
(٢) العجب لعمر بن موسى ص ٩٨ - نقلًا عن حلية الأولياء لأبي نعيم ١/ ٣٧.
1 / 21
الفصل الثاني
أسباب تضخم الذات ووجود الصنم
* الجهل بالله ﷿.
* الجهل بالنفس.
* إهمال تزكية النفس.
* كثرة الأعمال الناجحة.
* كثرة المدح.
* علو اليد ونفوذ الأمر.
* قلة مخالطة الأكفاء وعدم وجود النصحاء.
* تربية الأبوين (النشأة الأولى).
* وجود نقاط ضعف في شخصية الفرد أو في البيئة المحيطة به.
* الاشتهار بين الناس.
1 / 23
أسباب تضخم الذات ووجود الصنم
مما لاشك فيه أن هناك أسبابًا عديدة من شأنها أن تهيئ المناخ المناسب لتسلل داء العُجب إلى النفوس، من أهمها:
١ - الجهل بالله ﷿.
٢ - الجهل بالنفس.
٣ - إهمال تزكية النفس.
٤ - كثرة الأعمال الناجحة.
٥ - كثرة المدح.
٦ - علو اليد ونفوذ الأمر.
٧ - قلة مخالطة الأكفاء.
٨ - تربية الأبوين (النشأة الأولى).
٩ - وجود نقاط ضعف في شخصية الفرد.
١٠ - الاشتهار يبن الناس.
أولًا: الجهل بالله ﷿:
العُجب - كما تم تعريفه في الصفحات السابقة - هو أن ينسب المرء لنفسه نجاحاته وتوفيقه فيما يقوم به من أعمال، وينسى أن الله ﷿ هو الذي أعانه على ذلك.
معنى ذلك أن الجهل بالله من أهم الأسباب المؤهلة لإعجاب المرء بنفسه، فلو أيقن كل منا بأن الله ﷿ هو الذي يمده بأسباب النجاح والتوفيق والفلاح ما دخل العُجب إلى نفسه، وكيف يعجب بشيء ليس له دخل في وجوده؟!
1 / 25
إن كل صلاة نصليها، وصيام نصومه، وذكر نذكره، ودعاء ندعوه، ونفقه ننفقها ... كل ذلك وغيره من صور البر المختلفة، تتم بفضل وإعانة من الله ﷿ ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ﴾ [الأنبياء: ٧٣].
فالله ﷾ هو مصدر كل خير نفعله .. يمدنا بأسبابه لحظة بلحظة، ولو شاء لمنعنا إياها .. ألم يقل لرسوله وحبيبه ﷺ: ﴿وَلَئِنْ شيءنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (٨٦) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا﴾ [الإسراء: ٨٦، ٨٧].
فلولا فضل الله ما صلينا ولا صمنا ولا تصدقنا ولا أسلمنا ولا آمنا.
ففي الحديث القدسي: " يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلانفسه " (١).
بل إن كل خاطرة تخطر على بال الإنسان تدعوه لخير هي من الله ﷿ ..
ففي الحديث: " في القلب لمتان، لمة من الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد لك فليعلم أنه من الله سبحانه وليحمد الله، ولمة من العدو إيعاد بالشر وتكذيب بالحق، ونهي عن الخير، فمن وجد ذلك فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم " (٢).
وعندما تغيب هذه الحقيقة عن ذهن المرء، فما أسهل تسلل داء العُجب إليه فيفرح بنفسه، ويعجب بها وينسب الفضل إليها، كلما عمل عملًا أو قال قولًا واستحسنه الناس.
قال مسروق: بحسب امرئ من العلم أن يخشي الله، وبحسب امرئ من الجهل أن يعجب بعلمه (٣).
_________
(١) أخرجه مسلم (٤/ ١٩٩٤، رقم ٢٥٧٧).
(٢) أخرجه الترمذي (٥/ ٢١٩، رقم ٢٩٨٨) وقال: حسن غريب، والنسائي (٦/ ٣٠٥، رقم ١١٠٥١).
(٣) أخلاق العلماء للآجري ص ٦٣ - دار القلم - دمش.
1 / 26
ثانيًا: الجهل بالنفس:
ليس للإنسان - أي إنسان - مقومات ذاتية أو الفلاح .. هكذا خلقه الله ﷿، يستوى في ذلك الأنبياء والمرسلون مع الخلق أجمعين ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ [الأعراف: ١٨٨].
فنحن جميعًا نستمد قوتنا من الله ﷿ لحظة بلحظة، وآنا بآن.
نعم أعطانا الله ﷿ أسبابًا ومواهب وإمكانات كالذكاء، أو اللباقة، أو البلاغة، ولكن هذه الإمكانات ليس لها أي قيمة بدون القوة الفاعلة من الله ﷿.
هل رأيت طفلًا رضيعًا - حديث الولادة - يستطيع أن يطعم نفسه، أو يسقيها، أو ينظف جسمه أو يصرف عن نفسه الأذى؟!
ما درجة اعتماده على أمه في هذه الأمور وغيرها؟ وماذا لو تركته يومًا واحدًا دون رعاية؟
حاجتنا إلى الله:
إن حاجتنا إلى الله ﷿ أشد وأشد من حاجة هذا الرضيع إلى أمه، فالقلب على سبيل المثال يحتاج إلى الله في كل لحظة؛ ليستمر في الخفقان واستقبال الدم المحمل بثاني أكسيد الكربون وإعادة تحميله بالأكسجين وضخه مرة أخرى إلى الجسم فيما لا يقل عن سبعين مرة في الدقيقة.
بلايين الخلايًا داخل جسم الإنسان تحتاج في كل لحظة إلى تعاهد ورعاية للاستمرار في أداء وظائفها الحيوية، وعدم التحول إلى خلايًا سرطانية.
تخيل نفسك وقد أوكل إليك إدارة شئون جسمك من حواس وغدد وأعضاء وأجهزة .. ملايين العمليات الحيوية التي تتم كل لحظة عليك أن تديرها بنفسك.
هل تستطيع فعل ذلك ولو للحظة واحدة؟!
1 / 27
إذن فعندما يوكل العبد لنفسه للقيام بأى مهمة دون إعانة من الله ﷿ ولو لطرفة عين، فإنه يوكل للضعف والضياع .. لذلك كان من دعائه ﷺ: " وإنك إن تكلنى إلى نفسي تكلنى إلى ضعف وعورة وذنب وخطيئة، وإني لا أثق إلا برحمتك " (١).
هذه هي إحدى الحقائق الأساسية التي يقوم عليها بنيان الإنسان، وإذا ما نسيها فما أسهل وقوعه فريسة لداء العُجب .. سينخدع في الأسباب التي حباه الله إياها .. سيظن أنه ذكي بطبعه، بليغ ينطق بأسلس العبارات دون تكلف .. لديه القدرة على التأثير في الناس، قوي بما لديه من عضلات .. خبير بما يعرف من معلومات ..
نعم، لديه هذه الإمكانات، ولكن ما قيمتها بدون المدد الإلهي المتواصل؟! ألم يقل ﷾ لرسوله ﷺ: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ﴾ [آل عمران: ١٥٩].
وقال: ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٧٤].
الجهل بطبيعة النفس:
من تعريفات النفس البشرية أنها مجموعة الشهوات والغرائز داخل الإنسان فهي تسعى دائمًا للحصول على شهواتها وحظوظها من كل فعل يفعله العبد .. جاهلة، لا تنظر إلى العواقب، كالطفل الذي لا يمل من الإلحاح على أبويه في الحصول على شيء قد يكون فيه ضرر كبير عليه.
نفس أمارة بالسوء، لا تأمر صاحبها إلا بما تراه يحقق مصلحتها ..
شحيحة تحب الاستئثار بكل خير.
_________
(١) حسن: رواه أحمد والطبراني والحاكم وقال: صحيح الإسناد، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب ح (٦٥٧).
1 / 28