فيا عجبا كل العجب كيف ركن إلى ما ذم (1) مختبره؟! وكيف استفرغه الفرح بجمع ما هو شاخص عنه؟! وكيف تعقبه الأسف على فوات ما لا يدوم له؟! وكيف يثق بما ينفد على ما يبقى؟! وكيف يغفل بما هو فيه من النصب لمؤاتاة (2) دنياه ما يلقى؟! مع علمه ويقينه بأنه لا يبلغ منها غاية إلا دعته إلى غايات ، فمتى إن لم يرفض (3) الدنيا يستريح من حاجة فيها تدعو إلى حاجات؟! ومتى يقضي شغلا إذا هو فرغ منه فقضاه؟! عرض له أكبر منه فطلبه وابتغاه.
ففكروا رحمكم الله وانظروا ، تعلموا إن شاء الله وتبصروا ، أنه ليس لكم من سراء دنياكم ، وإن طالت صحبتها إياكم ، (4) إلا كطرف العيون ، فهي للجاهل المغبون ، من ذي دناءة أو لوم ، أو فاجر عمي ملعون ، قد صارت الدنيا كلها له ، فليس يأخذ أحد منها إلا فضله ، فقدرته وإن لؤم (5) ودنا ، وكان فاجرا معلنا ، على كثير من كرائم النساء ، ونفيس المراكب والكساء قدرة الأبرار ، وأبناء الأحرار.
والدنيا أعانكم الله فيما خلا ، وإذ (6) كانت تضرب لفساد أهلها مثلا ، وإنما كان يمسخ أهلها وأنسها ، فمسخت الدنيا اليوم نفسها ، فلم نترك والله المستعان من ذكرنا لها زينة ولا بهجة ، وعادت الدنيا كلها غرقا ولجة ، فأمورها اليوم كلها عجائب ، وكل أهلها في مكالبتها فمغتر دائب.
وقد بلغني أن عيسى بن مريم صلى الله عليه ، كان يقول لمن يحضره ولحوارييه : (بحق أقول لكم أنه لا يصلح حب ربين ، وما جعل الله لرجل في جوفه من قلبين ، لا
والمواتاة : المطاوعة.
Page 341