التعريف بالكتاب
...
صيانة الإنسان عن وسوسة الشيخ دحلان
تأليف
العلامة الكبير المحدّث الفقيه النحرير
محمد بشير السَّهسواني الهندي
١٢٥٢ - ١٣٢٦
الطبعة الرابعة
١٤١٠هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
التعريف بكتاب صيانة الإنسان
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وقُلْ جاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ الباطِلُ، إنَّ البَاطِلَ كانَ زَهُوقَا﴾
تمهيد في معنى السنة والجماعة والبدع
لما حدثت البدع في الأمة وصار لها شيع وأنصار، جعل لكل شيعة منها اسم، وأطلق على المحافظين على ما كان عليه السواد الأعظم من الصحابة والتابعين المجتنبين للمحدثات والبدع لقب "أهل السنة والجماعة".
والمراد بالسنة هنا معناها اللغوي، وهي الطريقة المخصوصة المسلوكة المتبعة بالفعل في أمر الدين -فعلًا وتركًا- من عهد النبي ﷺ، فالتعريف فيها للعهد، وليس المراد بها ما اصطلح علماء الحديث من إطلاقها على أقوال النبي ﷺ وأفعاله وتقريراته وشمائله، ولا ما اصطلح عليه الفقهاء من إطلاقها على ما واظب عليه ﷺ غالبًا على غير سبيل الوجوب، فإن جميع فرق المبتدعة في الإسلام يأخذون بالسنة بمعنييها الأخيرين على اصطلاحات لهم وقواعد في إثباتها ونفيها وتأويلها وتعارضها، كما أن للفقهاء والمتكلمين المنسوبين إلى السنة والجماعة بالمعنى الأصلي قواعد في ذلك.
والتحقيق أن ما كان عليه السلف في الصدر الأول لم يكن يسمى مذهبًا، ولا يصح أن يسمى مذهبًا في الإسلام، لأنه هو الإسلام كله، وهو وحدة لا تفرق فيها ولا اختلاف، والله يقول لرسوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ﴾ . ويقول: ﴿أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ﴾ . وإنما صار يسمى مذهبًا بالإضافة إلى ما حدث من البدع التي تتعصب لها الشيع.
ولو أن الأشاعرة جروا في تقرير العقائد للمسلمين في التعليم والتصنيف على صراط القرآن في إثبات ما أثبته ونفي ما نفاه والاستدلال بما استدل به من آيات الله في الأنفس والآفاق، والتزموا في ذلك هدي السلف من غير تعطيل ولا تمثيل ولا تأويل، ثم جروا في الرد على المخالفين على قاعدة الغزالي من كونه ضرورة تقدَّر
1 / 3
بقدرها في كل زمن بحسبه بإدحاض شبهاتهم، والتفرقة بينا ما لا يتفق مع أصول الملة القطعية وما يتفق معها ولو بضرب من تأويل بعض الظواهر غير القطعية -لو أنهم فعلوا هذا وذاك- لما كان ثمَّ وجه لتقسيم أهل السنة والجماعة إلى مذهبين مختلفين: سلفية، وخلفية. حتى أفضى ذلك إلى رد بعض متكلمي الخلف على متبعي السلف من أهل الحديث ورد هؤلاء عليهم، كما يردُّ الفريقان على المعتزلة وغيرهم من الذين خرجوا عن صراط الجماعة الذي كان عليه أهل الصدر الأول المتفق بينهما على هَدْيهم وهداهم.
وهذا ما جرينا عليه في مجلة المنار وفي تفسير المنار: نقرر مذهب السلف بالحجة وندافع عنه وندعو إليه، وقد نورد ما نراه ضروريًا من تأويل لغير القطعي المجمع عليه لبيان سعة الإسلام، وكون من لم يطمئن قلبه لبعض الظواهر على مذهبهم، فإن تأوله لها مع الإيمان بكل ما هو قطعي مجمع عليه لا يخرجه من حظيرة الحنيفية السمحة، ولكن لا يقتدى به في تأويله، وهذا هو الموافق لقول أئمة السنة والجماعة: لا نكفر أحدًا من أهل القبلة بذنب ولا بدعة عملية، وإن المتأول المخطئ غير كافر.
ولكن الأشاعرة جروا على طريقة متكلمي المعتزلة في بناء العقائد على النظريات العقلية، وتأويل النصوص المخالفة لها، إلا قليلًا مما خالفهم فيه أبو الحسن وغيره من كبار نظارهم كمسألة الرؤية فصاروا فرقة غير أهل الحديث المتبعين للسلف من كل وجه.
لما حدثت البدع كان الأئمة يحتجون على أهلها بأنهم خالفوا السنة -أي الطريقة المتبعة- وفارقوا الجماعة والسواد الأعظم، واتبعوا غير سبيل المؤمنين، ويطبقون عليهم ما ورد في الكتاب والسنة من النصوص في وجوب الاتباع، وحظر الابتداع، والتفرق في الدين، حتى كانت حجة الإمام أحمد بن حنبل ﵀ على بدعة القول بخلق القرآن أن هذا قول لم يقله رسول الله ﷺ ولا خلفاؤه ولا أصحابه، ولا علماء التابعين، أفلا يسعنا ما وسعهم؟ أي أن فرضنا أنه في نفسه صحيح، فكيف إذا كان رأيًا باطلًا في كتاب الله ﷿ فتح باب فتنة في الإسلام فرقت أهله شيعًا يسفك بعضهم دماء بعض ويكفر بعضهم بعضًا؟
وقد قال قبله إمام دار الهجرة مالك بن أنس ﵁: أكلما جاءنا رجل ذكي فصيح برأي في دين الله زينه بخلابته اللسانية ونظرياته الفكرية نترك ما نزل به
1 / 4
جبريل من عند الله تعالى على محمد رسول الله ﷺ ونتبعه فيه، حتى إذا جاء ذكي آخر بما ينقضه بقول أفصح منه اتبعناه فيه، وهكذا دواليك لا يستقر لنا في ديننا حال؟ اهـ مبسوطًا بمعناه، وكان يقول: كل ما لم يكن في عهد رسول الله ﷺ دينًا لا يكون بعده دينًا، فإن الله تعالى أكمل لنا الدين بنص كتابه قبل أن يقبضه إليه.
وقد قيل له: إن أناسًا من أهل المدينة يقفون عند قبر النبي ﷺ فيسلمون ويدعون ساعة، فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع، ولا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره إلا لمن جاء من سفر أو أراده. اهـ. ذكر هذا في المبسوط.
وإنما استثنى مالك من أراد سفرًا أو قدم منه لأنه صح عن عبد الله بن عمر أنه كان يفعل ذلك أي يأتي القبر فيقول: السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت، وينصرف كما في صحيح البخاري، ولم يرو هذا عن غيره من الصحابة، وكان عبد الله بن عمر ﵁ أشدهم عناية بمثل هذا، فقد روى عنه أنه كان يتحرى في نسكه تتبع خطوات النبي ﷺ ومواقفه وأمكنة طهارته، وصلاته ومنحره، وإن صح أن هذا غير مسنون، ولم يكن يفعله أبوه ولا غيره من الخلفاء الأربعة وعلماء الصحابة، لأن النبي ﷺ قال كما في صحيح مسلم وغيره: "وقفت هنا وعرفه كلها موقف". وقال مثل ذلك في المزدلفة وقال في منى: "نحرت هاهنا ومنى كلها منحر" لئلا يتحرى الناس موقفه ومنحره ويجعلوه مشروعًا فيزدحموا عليه، وهذا زيادة في الشرع وهي كالنقص منه.
ثم إن البدع فشت بضعف العلم والعمل بالكتاب والسنة ونصر الملوك والحكام لأهلها كما فعل بعض العباسيين في عصر دولة العلم، وتفاقم في عصور من بعدهم من دول الأعاجم، حتى صار لفظ "السنة والجماعة" لقبًا مذهبيًا انتحله بعض علماء الكلام المبتدع -وكادوا يحتكرونه دون متبعي السلف، وهم الحنابلة وأهل الحديث- ومن هؤلاء المتكلمين المقلدون في الفروع لأبي حنيفة ومالك والشافعي وكذا أحمد ابن حنبل وإن خالفوا أئمتهم فيما كانوا عليه من اتباع السلف، واجتناب البدع، وعدهم علم الكلام منها، فترى المتأخرين منهم يشاركون العوام في بدعهم، ويتأولونها
1 / 5
لهم، وابتدعوا لهم قاعدة في إقرار البدع والإنكار على منكريها، وهي تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة! واختراع محسان لما فشا منها، ككونها من حب الأنبياء والصالحين وتعظيمهم والتبرك بهم، وهذا عين الغلو الذي فعله أهل الكتاب وقوم نوح من قبلهم، وحذرنا الله ورسوله من فعلهم.
ومقتضى هذه القاعدة أن لكل أحد أن يبتدع في دين الله تعالى كل ما يستحسنه كما فعل أهل الملل السابقة بعد أنبيائهم، حتى إذا فشت البدع وكثر أهلها أيدها الحكام الجاهلون المستبدون إرضاء للعامة، وأيدها المعممون المقلدون إرضاء للفريقين، وأعقب ذلك إنكار الثلاثة على أنصار السنة، وتسميتهم مبتدعة مخالفين للجماعة، وهكذا انعكست القضية، وانقلبت البدعة سنة والسنة بدعة، وتحول المعروف منكرًا والمنكر معروفًا، وصار أهل البدع يحتجون على دعاة الكتاب والسنة بمخالفة الجماعة، والخروج على السواد الأعظم من الأمة، وتبديعهم، وتضليلهم بدعوى أن الأكثر هم المسلمون لا سواهم، ولا يقتصروا في ذلك على البدع الإضافية العملية كالأوراد المخالفة للمأثور في صفتها وتوقيتها، وجعلها كالشعائر في الاجتماع لها ورفع الأصوات بها، وبدعة محمل الحج، بل أدخلوا فيها البدع الوثنية بعبادة الصالحين بالدعاء وغيره، والعوام يتبعون من يدافع عنهم، ويدعي اتباع أئمتهم، وتؤيده حكوماتهم، ونبز داعي السنة بلقب المجتهد المحاول لهدم المذاهب المحتقر للأئمة، وباب الجدل واسع لا نهاية له، والعمدة في اتباع السنة والجماعة ما كان عليه أهل الصدر الأول في أمر الدين -ومنهم أئمة الحديث والفقه المعروفون- ولا سيما العبادات والقربات ومنها تعظيم الرسول ﷺ وآل بيته وأصحابه والمهتدين بهديهم من غير غلو ولا ابتداع.
الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
لم يخل قرن من القرون التي كثرت فيها البدع من علماء ربانيين يجددون لهذه الأمة أمر دينها، بالدعوة والتعليم وحسن القدوة، وعدول ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، كما ورد في الأحاديث، ولقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب النجدي من هؤلاء العدول المجددين، قام يدعو إلى تجريد التوحيد
1 / 6
وإخلاص العبادة لله وحده، بما شرعه في كتابه وعلى لسان رسوله خاتم النبيين ﷺ، وترك البدع والمعاصي وإقامة شعائر الإسلام المتروكة، وتعظيم حرماته المنتهكة المنهوكة، فنهدت لمناهضته واضطهاده القوى الثلاث: قوة الدولة والحكام، وقوة أنصارها من علماء النفاق، وقوة العوام الطغام، وكان أقوى سلاحهم في الرد عليه أنه خالف جمهور المسلمين.
مَن هؤلاء المسلمون الذين خالفهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب في دعوته؟ هم أعراب في البوادي شر من أهل الجاهلية، يعيشون بالسلب والنهب، ويستحلون قتل المسلم وغيره لأجل الكسب، ويتحاكمون إلى طواغيتهم في كل أمر، ويجحدون كثيرًا من أمور الإسلام المجمع عليها التي لا يسع مسلمًا جهلها، ولا يقيمون ما حفظوا اسمه منها، ولكنهم قد يسمون أنفسهم مسلمين، وأهل حضر، فشت فيهم البدع الوثنية والمعاصي وأضاعوا هدي الشرع في العمل والحكم، فضاع جل ملكهم، وذهب سابق عزهم، وعرف هذا عالمهم وجاهلهم، وصرنا نسمع خطباءهم على منابر الجمعة يقولون: "لم يبق من الإسلام إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه"، على ما في كثير من هذه الخطب من تأييد البدع والكذب على الله ورسوله، والتعاليم التي تزيد الأمة جهلًا وضعفًا وفقرًا، وهم لها مقترفون، وعليها مصرون، حتى إذا ما ارتفع صوت مصلح بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يشكون منه بالإجمال، مبينًا لهم أسبابه وسوء عاقبته بالتفصيل، هبوا لمعارضته، واستعدوا عليه الظالمين المستبدين للانتقام منه، إذا لم يجد هؤلاء الظالمون باعثًا سياسيًا للإيقاع به.
ولما حج ابن جبير الأندلسي في القرن السادس ورأى ما رأى من المنكرات في مصر والحجاز حكم بأن الإسلام قد ذهب من المشرق ولم يحفظ إلا في المغرب.
رسالة الشيخ أحمد زيني دحلان في الرد على الوهابية:
تصدى للطعن في الشيخ محمد بن عبد الوهاب والرد عليه أفرادٌ من أهل الأمصار المختلفة، منهم رجل من أحد بيوت العلم في بغداد، قد عهدناه يفتخر بأنه من دعاة التعطيل والإلحاد١. وكان أشهر هؤلاء الطاعنين مفتي مكة المكرمة الشيخ أحمد زيني
_________
١ هو جميل الزهاوي.
1 / 7
دحلان المتوفى سنة ١٣٠٤ ألَّف رسالة في ذلك تدور جميع مسائلها على قطبين اثنين: قطب الكذب والافتراء على الشيخ، وقطب الجهل بتخطئته فيما هو مصيب فيه.
أنشئت أول مطبعة في مكة المكرمة في زمن هذا الرجل فطبع رسالته وغيرها من مصنفاته فيها، وكانت توزع بمساعدة أمراء مكة ورجال الدولة على حجاج الآفاق فعم نشرها، وتناقل الناس مفترياته وبهاءته في كل قطر، وصدقها العوام وكثير من الخواص، كما اتخذ المبتدعة والحشوية والخرافيون رواياته ونقوله الموضوعة والواهية والمنكرة، وتحريفاته للروايات الصحيحة، حججًا يعتمدون عليها في الرد على دعاة السنة المصلحين، وقد فنيت نسخ رسالته تلك ولم يبق منها شيء بين الأيدي، ولكن الألسن والأقلام لا تزال تتناقل كل ما فيها من غير عزو إليها، ودأب البشر العناية بنقل ما يوافق أهواءهم، فكيف إذا وافقت هوى ملوكهم وحكامهم.
كنا نسمع في صغرنا أخبار الوهابية المستمدة من رسالة دحلان هذا ورسائل أمثاله فنصدقها بالتبع لمشايخنا وآبائنا، ونصدق أن الدولة العثمانية هي حامية الدين ولأجله حاربتهم وخضدت شوكتهم، وأنا لم أعلم بحقيقة هذه الطائفة إلا بعد الهجرة إلى مصر والإطلاع على تاريخ الجبرتي وتاريخ الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى، فعلمت منهما أنهم هم الذين كانوا على هداية الإسلام دون مقاتليهم، وأكده الاجتماع بالمطلعين على التاريخ من أهلها ولا سيما تواريخ الإفرنج الذين بحثوا عن حقيقة الأمر فعلموها وصرحوا أن هؤلاء الناس أرادوا تجديد الإسلام وإعادته إلى ما كان عليه في الصدر الأول، وإذًا لتجدد مجده، وعادت إليه قوته وحضارته، وأن الدولة العثمانية ما حاربتهم إلا خوفًا من تجديد ملك العرب، وإعادة الخلافة الإسلامية سيرتها الأولى.
على أن العلامة الشيخ عبد الباسط الفاخوري مفتي بيروت كان ألف كتابًا في تاريخ الإسلام ذكر فيه الدعوة التي دعا إليها الشيخ محمد بن عبد الوهاب وقال إنها عين ما دعا إليه النبيون والمرسلون، ولكنه قال إن الوهابيين في عهده متشددون في الدين، وقد عجبنا له كيف تجرأ على مدحهم في عهد السلطان عبد الحميد، ورأيت شيخنا الشيخ محمد عبده في مصر على رأيه في هداية سلفهم، وتشدد خلفهم، وأنه لولا ذلك لكان إصلاحهم عظيمًا ورجى أن يكون عامًا، وقد ربى الملك عبد العزيز الفيصل أيده الله
1 / 8
غلاتهم المتشددين منذ سنتين بالسيف تربية يرجى أن تكون تمهيدًا لإصلاح عظيم١.
ثم أطلعت على أكثر كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب ورسائله وفتاويه وكتب أولاده وأحفاده ورسائلهم ورسائل غيرهم من علماء نجد في عهد هذه النهضة التجديدية فرأيت أنه لم يصل إليهم اعتراض ولا طعن فيهم إلا وأجابوا عنه، فما كان كذبًا عليهم قالوا: ﴿سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ﴾ وما كان صحيحًا أو له أصل بينوا حقيقته وردوا عليه وقد طبعت أكثر كتبهم، وعرف الألوف من الناس أصل تلك المفتريات عنهم.
ومن المستبعد جدًا أن يكون الشيخ أحمد دحلان لم يطلع على شيء من تلك الكتب والرسائل وهو في مركزه بمكة المكرمة على مقربة منهم، فإن كان قد اطلع عليها ثم أصر على ما عزاه إليهم من الكذب والبهتان -ولا سيما ما نفوه صريحًا وتبرؤا منه- فأي قيمة لنقله ولدينه وأمانته؟ وهل هو إلا ممن باعوا دينهم بدنياهم؟
ولقد نقل عنه بعض علماء الهند ما يؤيد مثل هذا فيه، فقد قال صاحب كتاب (البراهين القاطعة على ظلام الأنوار الساطعة) المطبوع بالهند: إن شيخ علماء مكة في زماننا (قريب من سنة ١٣٠٣هـ) قد حكم -أي أفتى- بإيمان أبي طالب وخالف الأحاديث الصحيحة لأنه أخذ الرشوة الربابي القليلة من الرافضي البغدادي اهـ. وشيخ مكة في ذلك العهد هو الشيخ أحمد دحلان الذي توفي سنة ١٣٠٤، وصاحب الكتاب المذكور هو العلامة الشيخ رشيد أحمد الكتكوتي مؤلف (كتاب بذل المجهود شرح سنن أبي داود) والخبر مذكور فيه، وهو قد نسب إلى أحد تلاميذ مؤلفه الشيخ خليل أحمد والصحيح أنه هو الذي أملاه عليه، وهو كبير علماء ديوبند في عصره ﵀.
وإذا فرضنا أن الشيخ أحمد دحلان لم ير شيئًا من تلك الكتب والرسائل، ولم يسمع بخبر عن تلك المناظرات والدلائل، وأن كل ما كتبه في رسالته قد سمعه من الناس وصدقه، أفلم يكن من الواجب عليه أن يتثبت فيه، ويبحث ويسأل عن كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب ورسائله ويجعل رده عليها، ويقول في الأخبار اللسانية قال لنا فلان أو قيل عنه كذا، فإن صح فحكمه كذا؟
_________
١ يشير إلى فتنة فيصل الدويش الذي سجن بالرياض ومات سنة ١٣٥١.
1 / 9
إن علماء السنة في الهند واليمن قد بلغهم كل ما قيل في هذا الرجل فبحثوا وتثبتوا وتبينوا كما أمر الله تعالى، فظهر لهم أن الطاعنين فيه مفترون لا أمانة لهم، وأثنى عليه فحولهم في عصره وبعد عصره، وعدُّوه من أئمة المصلحين المجدّدين للإسلام، ومن فقهاء الحديث كما نراه في كتبهم، ولا تتسع هذه المقدمة لنقل شيء من ذلك، وإنما هي تمهيد للتعريف بهذا الكتاب في الرد عليه.
كتاب (صيانة الإنسان ومؤلفه)
كان الشيخ محمد بشير السهسواني رحمه الله تعالى من فحول علماء الهند وكبار رجال الحديث فيهم، ومن النظار الجامعين بين العلوم الشرعية والعقلية مع العمل بالعلم والتقوى والصلاح، وهو قد اجتمع بالشيخ أحمد دحلان في مكة المكرمة، وناظره في التوحيد الذي هو أساس دعوة الوهابية وأقام عليه الحجة، ولما عاد إلى الهند ألف كتابه هذا، ولكنه طبع في عهده منسوبًا إلى العلامة الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم السندي كما حصل في كتاب (بذل المجهود)، والعلماء كثيرًا ما يفعلون هذا في عصورهم، وهذا كتاب (نيل الأماني في الرد على النبهاني) هو من تأليف علامة العراق السيد محمود شكري الألوسي رحمه الله تعالى وعزى إلى الشيخ أبي المعالي الشافعي السلامي.
جرى الشيخ في رده على منهاج المحدّثين في التثبيت في النقل بتحرير الروايات وعزو الأحاديث والأخبار إلى مخرجيها، وبيان علل أسانيدها، وتحكيم قواعد الجرح والتعديل في رجالها، بنقل ما قاله كبار المصنفين في نقد الرجال في أشهر كتبهم، فاضطر إلى التكرار الممل فيها، ولعل سببه اتقاء تهمة كتمان بعض ما قيل في جرح المجروح منهم، كما يفعله أولو العصبيات المذهبية في محاولة تضعيف ما يخالف مذاهبهم وتقوية ما يؤيدها، وقد فضح بهذا جهل دحلان بعلم الحديث وأثبت أنه غير ثقة ولا صادق في النقل.
وجرى في تفنيد مطاعنه على طريقة الاستقلال الاجتهادي في الاستدلال وتحرير ما هو من دين الإسلام وما ليس منه، والاعتماد فيما هو سنة وما هو بدعة على نصوص الكتاب المعصوم، والسنن الصحيحة المأثورة، وما كان عليه أهل الصدر الأول من الصحابة والتابعين، وأئمة الأمصار المجتهدين، في مقابلة احتجاج دحلان
1 / 10
بالآثار الموضوعة والمنكرة، وبأقوال لبعض علماء التقليد المعروفين الذين أجمع أئمتهم على أن أقوالهم لا يعتدُّ بها، وبنقول لا يعرف لها قائل، وبتحريف بعض النصوص الثابتة عن مواضعها، وجعلها مثبتة للبدع المحدثة المردودة بالنصوص القطعية، وسيرة السلف العملية، كحديث استسقاء عمر بالعباس ﵄، وهو صحيح، ولكنه حجة على القبوريين لا لهم، وحديث توسل الأعمى بالنبي ﷺ، وهو على كونه غير صحيح يدل على توسله بدعائه ﷺ في حياته لا بشخصه، وهو حجة على توسل القبوريين المخالف لأصول الدين ونصوص القرآن والسنن الصحيحة.
علم مما أجملناه أن قواعد الجهل التي بنى عليها الشيخ أحمد دحلان رده على الوهابية، وإباحة دعاء غير الله تعالى من الأنبياء والصالحين الميتين، والاستغاثة بهم وشد الرحال إلى قبورهم لدعائهم عندها وطلب قضاء الحوائج منهم -ثلاث قواعد:
(١) الروايات الباطلة وما في معناها من الحكايات والمنامات والأشعار، وهي لا قيمة لها عند أحد من علماء الملة، وإنما تروج بضاعتها في سوق العوام.
(٢) الاستدلال بالنصوص على ما لا تدل عليه شرعًا كاستدلاله بالسلام على أهل القبور، وبخطاب النبي ﷺ لقتلى المشركين ببدر وأمثال ذلك على حياة الموتى وجواز دعائهم ومطالبتهم بقضاء الحوائج ودفع المصائب، ووجه الجهل في هذا أنه يقيس حياة البرزخ على حياة الدنيا، وعالم الغيب على عالم الشهادة، وهو قياس باطل عند علماء أصول الشرع وعند جميع العقلاء، ويترتب عليه عقائد وأحكام تعبدية لا تثبت إلا بنص الشارع، مع كون الذي يثبتها مقلدًا ليس من أهل الاجتهاد باعترافه واعتراف متبعيه في جهله هذا.
قلب الحقيقة وعكس القضية فيما ورد من الترغيب في اتباع جماعة المسلمين والترهيب من مفارقة الجماعة، فالجماعة بزعمه ومقتضى جهله هم الأكثرون في العدد في كل عصر، وهذه الدعوى مخالفة لنصوص القرآن والأحاديث الصحيحة وآثار السلف والواقع ونفس الأمر في كثير من البلاد والأزمنة، وقد فند المؤلف هذه الدعوى بما أوتي من سعة الإطلاع على كتب الحديث والآثار، فبين ما ورد من الآيات والروايات فيها، وما قاله أئمة العلماء في تفسيرها، وما في معناها من فشو البدع
1 / 11
والضلالات بعد خير القرون، وكون كل زمان يأتي شرًا مما بعده، ومن بقاء طائفة على الحق في كل زمان هم الأقلون، حتى تقوم الساعة، فعلم من هذا التفصيل المؤيد بالنقل ما هو الحق في هذه المسألة المهمة التي بينا في التمهيد سبب ضلال المتأخرين فيها.
ومن فضائل هذا الكتاب ومؤلفه علو أدبه في عبارته، وتحاميه المبالغة في ذم المذموم، ومدح الممدوح، فهو لا يطري الإمام المجدد الذي يدافع عنه، ولا يهجو المتجرم الذي يرد عليه هجوًا شعريًا يدخل في مفهوم السباب المذموم وإن كان جزاء وفاقًا، ومقابلة للسيئة بمثلها، فتراه يقول في كل فرية من مفترياته على الشيخ نفسه أو نقوله غير المسندة: هذا قول لم تصح به رواية، فليأتنا بروايته وما قيل في تعديل رواتها لنجيب عنها.
وجملة ما يقال في هذا الكتاب أنه ليس ردًا على الشيخ دحلان وحده، ولا على من احتج بما نقله عنهم من الفقهاء مما لا حجة فيه كالشيخ تقي الدين السبكي والشيخ أحمد بن حجر الهيتمي المكي، بل هو رد على جميع القبوريين والمبتدعين حتى الذين جاءوا بعده إلى زماننا هذا.
ومما ينتقد على كتاب (صيانة الإنسان) هذا من ناحية صناعة التصنيف أنه لم يجعله أبوابًا مقسمة، ولا فصولًا مفصلة، ذات عناوين تسهّل المراجعة، وقد تلافينا هذا في طبعتنا هذه فجعلنا لكل صفحة عنوانًا في أعلاها لأهم ما فيها، وأحصينا في الفهرس جميع المسائل المهمة فيها، فبهذا سهل سبيل المراجعة لها كلها.
وقد طبع من نسخة الطبعة الهندية الأولى، وهي طبعة حجرية كثيرة الغلط والتحريف، فمنه ما هو معروف بالبداهة، ومنه ما هو منقول عن كتب موجودة راجعناها عند التصحيح، ومنه ما وضعنا له حواشي بينا رأيه فيه، وما عدا هذا قليل يمكن فهم المراد منه بالقرينة غالبًا، ونسأل الله تعالى أن يثبتنا على ما أنفقناه من وقت طويل في العناية بهذا الكتاب المفيد، والحمد لله على ما من به من التوفيق.
وكتب في صفر سنة ١٣٥٢
محمد رشيد رضا
منشئ مجلة المنار الإسلامية بمصر
1 / 12
ترجمة المؤلف
معربة من كتاب (الياقوت والمرجان، في ذكر علماء سهسوان)
للعلامة محمد عبد الباقي السهسواني
هو العلامة المحدّث النحرير مولانا الشيخ محمد بشير الفاروقي، ابن الحكيم محمد بدر الدين، بقية السلف الصالحين في الفضائل والكمالات، وأعظم مفخرة في العلم والحكمة، كان من المجددين للدين، وأحد المحققين المتأخرين، بلغ درجة الاجتهاد المطلق في عصره، ولد في أواسط القرن الثالث عشر الهجري، وتوفي أبوه وهو ابن تسع سنين، وكان له أخوان أكبر منه وثالث أصغر.
قضى زمن طفولته في لكنو، وبدأ فيها تعلمه بالقراءة على الشيخ محمد واجد علي، وعلى بعض أفاضل فرنجي محل، قرأ فنون المعقولات والمنقولات المتداولة، ثم ذهب إلى دهلي لتكميل علوم التفسير والحديث والفقه والأصول، فقرأ على السيد أمير حسن بعض الكتب الدينية، وأخذ عن مولانا سيد نذير حسين كتب الصحاح والسنن الستة وغيرها سماعًا وقراءة، واستجاز من الشيخ حسين بن محسن الأنصاري اليمني والشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى النجدي نزيل مكة، والشيخ محمد السهارنبوري المهاجر بمكة.
وبعد فراغه من الطلب استغل أولًا بتدريس العلوم العقلية من المنطق والفلسفة، ثم حصل له انهماك كثير من الفقه والأصول والأدب، وكان يفتي في الفقه موافقًا لمذهب الحنفية، ثم صاحب السيد أمير حسن فغلب عليه ذوق التحقيق في الدينيات، وتقدم في تحقيق اتباع القرآن والحديث، ومن ذلك الحين رجع في تحقيق جميع المسائل الجزئية والفرعية إلى الكتاب والسنة، وشرع في العمل بالحديث على طريقة المجتهدين، وصار يفتي بوجوب ترك الآراء والتقليد الشخصي، وكل مسألة وقع فيها اختلاف بين الأئمة الأربعة كان يرجح فيها مسلك المحدثين بأقوال السلف وآثار الصحابة، وكان
1 / 13
يستدل لكل مطلب بالحجج القوية، ويستنبط شواهده من الكتاب والسنة.
وكان ﵀ وحيد عصره في سعة المعلومات والإطلاع على مذاهب السلف، يصرف أكثر أوقاته في التدريس والتصنيف والوعظ والإرشاد، ثم صار مدرسًا للغة الفارسية والعربية في كلية سنت جونس بمدينة آكره، وزيادة على هذا كان يدرس للطلبة الذين يجيئون إلى داره فنون المعقول والمنقول، فقرأ عليه الحكيم مبارك علي والحكيم معصوم على كتاب (الأفق المبين) واشترك في هذا الدرس السيد أمير أحمد السهسواني.
وقد خرج حاجًا من آكره ولما رجع من الحج -أي بلا زيارة لقبر الرسول ﷺ فاعترضوا عليه- صنف كتاب (القول المحقق المحكم، في حكم زيارة قبر الحبيب الأكرم)، فرد عليه الشيخ عبد الحي اللكنوي بكتاب أسماه (الكلام المبرور) فرد عليه الشيخ بكتابه (القول المنصور)، فكتب جوابه الشيخ عبد الحي اللكنوي (المذهب المأثور)، فكتب الشيخ جوابه وجمع فيه جميع الاعتراضات على هذه المسألة من قديم وحديث وأجاب عنها كلها بجواب جامع سماه (إتمام الحجة، على من أوجب الزيارة كالحجة)، والمعارضون له وإن كانوا قد كتبوا في جوابه لم يلتفت أهل التحقيق إلى جوابهم، ومع ذلك فقد كتب الشيخ جوابًا على ذلك لكنه لم يطبع، وكان ابتداء هذا البحث من السيد إمداد على الذي كان من أكابر تلاميذ الشيخ بشير الدين القنوجي، لكن الشيخ إمداد على لما أحس بضعفه عن مقابلة الشيخ بشير دعا الشيخ عبد الحي لهذا الميدان وفوض إليه الأمر، وأعطاه جميع ما كتب، وإمداد على هذا كان نائب مدير المقاطعة، وكان الشيخ بشير المترجم مع ذلك كلما ذهب إلى لكنو نزل ضيفًا على الشيخ عبد الحي، فيستقبله بالاحترام والبشاشة، ويمسكه في ضيافته أيامًا كثيرة أزيد مما يريد الشيخ، ويجلس في درس وعظه مستمعًا مع الأدب والتوقير للشيخ، وفي أيام مقامه بآكره حصل للشيخ أمير أحمد السهسواني مع الشيخ بشير اختلاف في بعض المسائل الفرعية، وكان الشيخ أمير أحمد يدفع فيها بلين والشيخ بشير يخالفه بالشدة، ثم انتهى الأمر إلى الاعتراف بالحق والمصالحة بينهما.
1 / 14
كان الشيخ بشير على جانب عظيم من الورع والتقوى والعبادة وقيام الليل، وكان يغلب عليه في وعظه رقة القلب والخشية حتى تدمع عيناه.
وفي ٥ المحرم سنة ١٢٩٥ استدعاه النواب صديق حسن خان بهادر من (آكره) إلى (بهوبال) وفوض إليه رياسة المدارس الدينية في إمارة بهوبال، فكان يتبرع بتدريس التفسير والحديث، وكان يجيب عن المسائل ويكتب الفتاوى بطريق الاجتهاد، وفي كل جمعة يجلس لدرس الوعظ في جامع القاضي ويصرح برأيه ولو خالف الحكومة بلا مبالاة، ويقيم حجته على المخالفين تقريرًا وتحريرًا مع التواضع وحسن الخلق.
وكان يخالط أحبابه بلا تكلف ولا احتشام، وكان ديدنه إكرام الضيوف وإمداد الغرباء بلا رياء ولا عجب ولا سمعة، وكان نصب عينيه اتباع آداب الكتاب والسنة، حتى كان يثقل على طبعه ترك المستحبات، وقد أقر له أهل الهند كافة بقوة الاجتهاد والفضيلة العلمية واعترفوا له بها.
تناظر الشيخ أحمد دحلان مفتي مكة في زمانه١، والشيخ بشير في مسألة التوحيد، فكتب الشيخ ردًا عليه كتابه المسمى (صيانة الإنسان، عن وسوسة الشيخ دحلان)، واشتهر الكتاب وطبعه علماء نجد ولم يرد عليه أحد من المخالفين.
ولما حصل النزاع بين النوّاب صديق حسن خان والشيخ عبد الحي اللكنوي وكتبت كتب من الطرفين وقع في نفس الشيخ عبد الحي أن بعض رسائل الرد من تصنيف الشيخ، وصرح بذلك في كتابه (إبراز الغي)، فسعى الشيخ لدفع هذا الوهم عن فكر الشيخ عبد الحي وتصالحا بعد هذا.
ولما توفي النواب ﵀ في جمادى الأولى سنة ١٣٠٧هـ أراد الشيخ مفارقة بهوبال ولكن بيكم بهوبال٢ تعلقت به وعطفت عليه واستبقته، فكان يذهب في كل يوم
_________
١ لعل المناظرة كانت لما حج واجتمع بدحلان بمكة فناظره شفويًا، ثم لما رجع رد عليه بكتابه (صيانة الإنسان) .
٢ هي زوجة النواب صديق حسن خان أمير بهوبال الشهيرة، و(بيكم) مؤنث بك، كما أن (خانم) وتنطق في مصر (هانم) مؤنث خان، وبك وخان – ومؤنثهما بيكم وخانم – من ألقاب التعظيم.
1 / 15
اثنين من الأسبوع إلى تاج محل (قصر الأميرة بيكم) فيجلس للوعظ، ويجتمع عليه النساء المتصلات ببيكم لسماع وعظه وطلب الدعوات الصالحة منه، وكان يتكلم في وعظه هذا بالترغيب والترهيب والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بلا مداهنة ولا مبالاة، حتى توفيت بيكم رحمها الله في سنة ١٣١٩، ولما جلست بعدها على عرش ولايتها بنتها سلطان جيهان بيكم وأخذت في نشر العلوم العصرية والفنون الأوربية وتقليل شأن العلوم الدينية والقائمين بها ارتحل الشيخ عن بهوبال إلى دهلي بعد ما أقام فيها خمسًا وعشرين سنة.
وكان الشيخ قد دعي لمنظرة مرزا غلام أحمد القادياني في دهلي فجاءها بأمر حكومة بهوبال، فأقبل عليه أهل العلم والدين والتجار وغيرهم ممن لهم تعلق بالشيخ نذير حسين كبير علمائها ورغبوا إليه أن يقيم بدهلي بسبب ضعف الشيخ نذير حسين وكبر سنه للقيام مقامه، ولكن لما كانت حكومة بهوبال لا تزال تعظم الشيخ وتسند إليه رياسة الأمور الدينية لم يستطع إجابتهم إلى رغبتهم حينئذ، فلما تغيرت الأحوال في بهوبال استأنفوا الطلب فأجابهم إلى ذلك، وتحول إليهم، ثم جلس في مقام شيخه يدرس ويفتي ويعظ.
وكان مرزا غلام أحمد ادعى أنه المهدي المنتظر، ثم ترقى عن دعوى المهدوية لنفسه إلى دعوى المسيحية، وتحول عن اشتغاله بمناظرة المسيحيين وأرياسماج من الهندوس إلى مناظرة علماء المسلمين، وكان لا يناظر إلا بالقرآن معرضًا عن الأحاديث وأقوال الصحابة، واشتهر أمره حتى صرح بطلب المناظرة، حينئذ أمرت بيكم بهوبال الشيخ محمد بشير أن يتوجه إلى دهلي لمناظرة المرزا، ولما لم يرض مرزا بالمناظرة الشفوية تناظرا كتابة وهما في دهلي وكل منهما في محله.
كان مرزا يصرّح بموت المسيح مستدلًا بقوله تعالى: ﴿إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ﴾ . فعارضه الشيخ مثبتًا حياة المسيح بقوله تعالى: ﴿وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ﴾ . ثم أخذ مرزا على عادته يجادل بالتأويلات، وينتقد القواعد النحوية والصرفية ليستدل على أن الآية لا تثبت حياة المسيح، فرد عليه الشيخ بأجوبة لم يستطع
1 / 16
ردها، فانقطع عن المناظرة معتذرًا بأن أحد أقاربه بقاديان مريض، وأنه سيسافر لعيادته. وجميع المكاتبات التي دارت في هذه المناظرة حتى انقطع المرزا مدونة في كتاب (الحق الصريح، في إثبات حياة المسيح) وهو مطبوع، وكانت تلك المناظرة في سنة ١٣١٢هـ.
وفي مدة إقامته في دهلي كتب رسالة سماها (القول المحمود، في رد السود) ١. وكان أصل تلك المسألة من الشيخ نذير أحمد الدهلوي.
ومن مفردات الشيخ أنه كان يجيز الأضحية إلى آخر ذي الحجة، وخالفه أهل العلم في ذلك، فجمع كتابًا استدل فيه على رأيه بأقوال أهل العلم، فجاء كتابًا ضخمًا ولكنه لم يطبع.
وصنف كتابًا مبسوطًا في مسألة القراءة خلف الإمام سماه (البرهان العجاب، في مسألة فرضية أم الكتاب) طبع بعد وفاته.
وله غير ذلك رسائل دينية منسوبة إلى بعض تلاميذه.
وكانت عادة الشيخ مدة مقامه في دهلي أن يعقد مجالس للتدريس في جميع العلوم، ومن ذلك ساعتان بعد صلاة الصبح لتفسير القرآن بالحديث٢، وكان الناس يحضرون من أماكن بعيدة لاستماع هذا الدرس بشوق عظيم.
توفي ﵀ في دهلي سنة ١٣٢٦هـ، وكان عمره حينئذ أربعًا وسبعين سنة (إنا لله وإنا إليه راجعون) طيب الله ثراه، وجعل الجنة مثواه، وقد جمع الشيخ (نظر أحمد) تاريخ وفاته بحسب الجمل الحرفية فكانت (قد دخل الجنة بلا حساب) والشيخ إعجاز أحمد قد أخرج من لفظ (مغفور) تاريخ وفاته، وأنشد في ذلك قصيدة عربية فصيحة بليغة لا بأس بإيراد شيء منها قال:
_________
١ أي الربا، والسود لغة أوردية.
٢ لعل الأصل "بالمأثور"، لأن الأحاديث المرفوعة في التفسير قليلة، وكذا الموقوفة.
1 / 17
خطب أباد نفوسنا لكبيرُ ... وكذا الزمان على النفوس يجور
أما الهدى فتضعضعت أركانه ... والدين أسقمه ضنىً وفتور
شمس الضحى أفلت وغاب شروقها ...
فإذا النهار كليلنا ديجور
وقال بعد هذا ولله دره:
تبكي عليه مساجد ومنابر ... ولأهل علم رنة وزفير
قد كان مجتهدًا مصيبًا ناسكا ... يحمي الشرائع سعيه المشكور
متخاشعًا لله منقادًا له ... متلألئًا من وجهه التنوير
نقاد إسناد الحديث ومتنه ...
كشاف أسرار الكتاب بصير
لما سألت القلب عام وفاته ... فأجابني تاريخه (مغفور)
1 / 18
خطبة الكتاب
...
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي تعالى عن الشريك والمثل والكفؤ والنديد، والحمد لله الذي لا ملجأ ولا منجى منه إلا إليه، وهو فعال لما يريد، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كلمة خلقت لأجلها الجن والإنس من إماء وعبيد، ونشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله المبعوث بالملة الحنيفية القيمة وخالص التوحيد، اللهم فصلِّ وسلم على سيدنا محمد قاطع ذرائع الكفر وحبائل التقليد، وعلى آله وصحبه الآخذين بسنته والمقتدين بأمره في المدن والقرى والبيد، وعلى العدول الحاملين لهذا العلم النافين عنه تحريف كل غالٍ عنيد، وانتحال كل مبطل مريد، وتأويل كل جاهل ضديد١.
أما بعد فإني وقفت على الرسالة التي جمعها الشيخ أحمد بن زيني دحلان، أنقذه الله من دحلان الخذلان، وسماها (الدرر السنية، في الرد على الوهابية) ورأيت مؤلفها يدَّعي في ديباجة رسالته الباطلة الساقطة الدنية الردية، أنه جمع فيها ما تمسك به أهل السنة في زيارة النبي ﷺ والتوسل به من الدلائل والحجج القوية، من الآيات والأحاديث النبوية، فتعجبت منه التعجب الصراح، كيف وليس في الباب حديث واحد حسن فضلًا عن الصحاح، فتأملت فيها تأمل الناقد البصير، لكي أعلم أنه هل صدق في تلك الدعوى أم كذب كذب المجادل الضرير، فوجدت دعواها عارية عن لباس الصدق والحق المبين، محلاة بحلية الزور والكذب والباطل المهين، فإنه ليس فيها من الأحاديث إلا ما أورده التقي السبكي (في شفاء الأسقام) ٢ وهي دائرة بين الاحتمالات الثلاثة السقام: إما موضوعة عملتها أيدي الوضاع اللئام، أو ضعاف واهية رواها من وسم بمثل كثرة الغلط والخطأ والأوهام، أو شيء يسير من الصحيح والحسن في زعمه قاصر
_________
١ مبالغة من الضد.
٢ سماه في (الصارم) شفاء السقام، وذكر في هذا الكتاب بالاسمين، فتركناه على أصله في كل موضع فليعلم.
1 / 20
عن إفادة المرام، كما بين ذلك كله الإمام أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي في (الصارم المنكى)، وليس فيها من الآيات والأحاديث الصحاح والحسان ما يدل على المطلوب المحكي، وكان حقًا على المؤلف تعاطي واحد مما يذكر، لئلا يعد كلامه مما يهجر وينكر: إما إيراده لأحاديث صحيحة أو حسن دالة على المطلوب غير ما أورده في الشفاء١، أو الإجابة عما تكلم به عليها صاحب الصارم وغيره من الأئمة الأذكياء. وإذ لم يفعل هذا ولا ذاك فليس لها فائدة، ولا يؤول هذا الطول إلى منفعة وعائدة.
ومن عجائب صنيعه أن المؤلف مع زعمه أنه من جملة المقلدين، يستدل بالأدلة الشرعية وهو منصب المجتهدين، فعنَّ لي أن أنبه على ما وقع فيه من مساوئ المفاهيم وزخارف الأقوال، وأراجيف الاستدلال، لئلا يغتر بها من يقف عليها ممن لا خبرة له بحقائق علم السنة من المتون والرجال، فالله أستعين وأقول، وبه أحول وبه أصول.
قوله: "اعلم رحمك الله تعالى أن زيارة قبر نبينا ﷺ مشروعة".
أقول: لا نزاع لنا في نفس مشروعية زيارة قبر نبينا ﷺ، وأما ما نسب إلى شيخ الإسلام ابن تيميه ﵀ من القول بعدم مشروعية زيارة قبر نبينا ﷺ فافتراء بحت٢، قال الإمام العلامة أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي المقدسي الحنبلي في (الصارم المنكى): وليعلم قبل الشروع في الكلام مع هذا المعترض أن شيخ الإسلام ﵀ لم يحرم زيارة القبور على الوجه المشروع في شيء من كتبه، ولم ينه عنها، ولم يكرهها، بل استحبها وحض عليها، ومصنفاته ومناسكه طافحة بذكر استحباب زيارة قبر النبي ﷺ وسائر القبور، قال ﵀ في بعض مناسكه:
_________
١ يعني شفاء الأسقام الذي مر ذكره آنفًا.
٢ كما علم ذلك يقينًا كل من اطلع على كتابيه (الجواب الباهر) و(الرد على الأخنائي) .
1 / 21
وقال: بسم الله، والصلاة على رسول الله، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، ثم يأتي الروضة بين القبر والمنبر فيصلي بها ويدعو بما شاء، ثم يأتي قبر النبي ﷺ فيستقبل جدار القبر لا يمسه ولا يقبله، ويجعل القنديل الذي في القبلة عند القبر على رأسه ليكون قائمًا وجاه النبي ﷺ، ويقف متباعدًا كما يقف لو ظهر في حياته بخشوع وسكون منكس الرأس وغاض الطرف، مستحضرًا بقلبه جلالة موقفه، ثم يقول: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، السلام عليك يا نبي الله وخيرته من خلقه، السلام عليك يا سيد المرسلين، وخاتم النبيين، وقائد الغر المحجلين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، أشهد أنك قد بلغت رسالات ربك، ونصحت لأمتك، ودعوت إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وعبدت الله حتى أتاك اليقين، فجزاك الله أفضل ما جزى نبيًا ورسولًا عن أمته، اللهم آته الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته، ليغبطه به الأولون والآخرون. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد: اللهم احشرنا في زمرته، وتوفنا على سنته، وأوردنا حوضه، واسقنا بكأسه شربًا١ لا نظمأ بعده أبدًا.
"ثم يأتي أبا بكر وعمر ﵄ فيقول: السلام عليك يا أبا بكر الصديق، السلام عليك يا عمر الفاروق، السلام عليكما يا صاحبي رسول الله ﷺ وضجيعيه ورحمة الله وبركاته، جزاكما الله عن صحبة نبيكما وعن الإسلام خيرًا ﴿سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ﴾ . قال ويزور قبور أهل البقيع وقبور الشهداء إن أمكن".
هذا كلام الشيخ ﵀ بحروفه، انتهى ما في الصارم.
وقال في موضع آخر: وقد قال الشيخ ﵀ في منسك له صنفه في أواخر عمره٢:
_________
١ الذي في كتاب الصارم المنكى المطبوع "مشربًا رويًا".
٢ في عبارته مخالفة قليلة لهذا المنسك المطبوع بمصر سنة ١٣٢٤.
1 / 22
باب زيارة قبر النبي ﷺ:
"إذا أشرف على مدينة النبي ﷺ قبل الحج أو بعده فليقل ما تقدم، فإذا دخل استحب له أن يغتسل، نص عليه الإمام أحمد، فإذا دخل المسجد بدأ برجله اليمنى
1 / 21