ولم تزل كلمات أخي الضاحكة كأنها ترن في أذني رنينا مضيئا: «كل سنة وأنتم طيبون. كلكم، كلنا، وأنت يا نيني، مد يديك يا حبيبي. نعم، هكذا، ستعيش مائة عام، أليس كذلك؟ ألا يكفيك هذا؟ إذن ستعيش مائتين. تفاحة أخرى؟ ولكنك لم تأكل. أعطه يا أم ستيتة قطعة الجاتوه. نعم، هكذا. الآن تعال إلى جانبي، ستطفئ الشموع. املأ فمك بالهواء. لا، هكذا، هيا. ستنفخ فيها نفخة واحدة . نعم. ثلاثة فقط؟ ولكنك لم تعش أكثر من ثلاث سنين. تريد أن تكون لكل يوم شمعة؟ ولكن هذا كثير. أنت طماع، هه! لم يبق غير واحدة. هكذا، انطفأت كلها.»
كنا جميعا في نشوة من الفرح أسكرتنا؛ فأنا قد نسيت كل ما حولي، وذقت التفاح، والكمثرى، ربما لأول مرة، ومضيت ألتهم الحلوى قطعة بعد أخرى في نهم جائع، وسرحت مع خيالي لحظات وأنا أتأمل الشجرة الصغيرة التي تتوسط المائدة، وتتدلى منها أوراق مفضضة لامعة، كالقطن الأبيض النقي. وعجبت في نفسي كيف نمت هذه الشجرة، وما لها من جذوع ولا في فروعها ثمر. وسألت عقلي كيف تختلف عن شجرات الصفصاف والتوت التي طالما تسلقتها وأدميت أصابعي، حتى «أم ستيتة» قد رفعت العصابة البيضاء عن عينيها الرامدتين وأخذت تنظر إليها، وتلتقط تفاحة من هنا وقطعة حلوى من هناك، وكأن الشباب قد انتفض في عروقها، والحياة قد بعثت من جديد في روحها.
وأخي الأكبر مشغول بكل شيء، حتى الطبيعة راح يصفها - كاذبا - بالجمال، وبأنها فرحة مع «نيني»، مع أن الليلة - والحق يقال - كانت باردة الهواء، والوجود كله مثل زنزانة معتمة تلمع البروق الخاطفة فوق جدرانها بين حين وحين.
كان جدي وحده حزينا، لقد لبث ساهما مطرقا برأسه إلى الأرض، صامتا، وقورا، مثل أبي الهول. فإذا رفع عينيه فإنما ليثبتهما على وجه «نيني» السعيد، وليتملى بذلته الزاهية وشعره اللامع، ثم يعود ليخفض رأسه إلى الأرض، ويتشاغل بمسبحته الطويلة عنا.
ما لجدي وللحزن؟ هل يعرف الحزن طريقه إلى القلوب في مثل هذه الليلة؟ هل يا ترى قد تذكر فجأة أن أبي وأمي قد ماتا منذ عهد قريب؟ ولكني أنا أيضا أعرف ذلك. ومع هذا فلم يشغلني الحزن عن الطعام؛ فعندي أن آكل حتى أشبع، وبعدها فلتدمع عيني كما تشاء. هل تذكر وجهيهما الشاحبين وهما يصارعان الموت جنبا إلى جنب، على فراش واحد، ونحن أمامهما عاجزون عن كل حركة؟ أنا كذلك أكاد أراهما وهما يصرخان، ويتقيآن سائلا أصفر بلون وجهيهما. وأنا ما زلت أذكر ما قاله لي الجيران وهم يعزونني: لقد صرعهما الوباء. وليس للناس حيلة في الوباء يا بني.
أنا لا أشك في أن «نيني» كان يرقب جدي؛ فقد رأيته يشرد بخياله وهو ينظر إليه، ويكاد يذهب إليه ليسأله: «لماذا تبكي يا جدي؟»
هل أحس جدي فجأة أنه قد فقد كل شيء؟ وأن حياته لم تكن تستحق أن يحياها؟ أكاد أقول إن جدي، في تلك الليلة، قد التفت وراءه، ونظر بعينيه فلم يجد غير الفراغ؛ الفراغ الهائل، الساكن، الذي يحيطه العدم من كل جانب. هل يجيء على الإنسان حين يلتفت فيه إلى الماضي فلا يجد حتى آثار قدميه على الطريق؟ لحظة يطرق المستقبل فيها أبوابنا، ونحن نيام في الليل، ليقول لنا: لقد نسيت أسماءكم.
ولكنني على يقين من أن جدي لو كان رجع إلى ماضيه لما ملكه شعور بالحزن. إنه قد جرب أكثر من حياة؛ اشتغل في أول حياته أجيرا في مزارع الأغنياء، ثم تجول أعواما في أسواق التجارة ومكيلته تحت إبطه حتى أصبح في يوم من الأيام تاجرا بين التجار. وبدا له ذات يوم أن يكون حلاقا، ففتح صالونا يتردد عليه عشرات التجار والأغنياء، وما زلنا نعيش على صيته حتى اليوم. نعم! لا يمكن أن يكون جدي حزينا لأنه استرجع في ذهنه ذكرى ماضيه.
كل ما أذكره اليوم أن جدي كان يحدق طويلا إلى شجرة عيد الميلاد. وكان كثيرا ما يخيل إلي كأنه يتنهد، أو كان يرى أن حياته كهذه الشجرة، ولكنها كانت شجرة ذابلة الأوراق، جافة العروق مثل أشجار الخريف. أكان يدور في خلده أنه هو أيضا قد صار في خريف العمر؟
لم تنته ليلة عيد الميلاد على خير؛ فقد أطال جدي التحديق إلى الشجرة الملعونة، واضطربت أنفاسه الواهنة في صدره، حتى رأيت دمعتين تسقطان على خديه وتختفيان في شعرات لحيته. ولم يلبث أن انفجر باكيا وهو ينشج.
Page inconnue