1960م
عزاء
كانت قد انقضت سبعة أيام. «سمير» قد عدها يوما بيوم. عدها على أصابع يديه الصغيرتين. لم تكن لديه نتيجة سنوية، ولم يكن يملك تقويما فلكيا، ولكنه حسبها جميعها كأمهر الرياضيين، بأصابع يديه أو بملاليمه الصفراء المستديرة. وجاء يوم الخميس، فهتف: متى ينتهي هذا كله؟
في مثل ذلك اليوم، كان المأتم مقاما في الساحة المواجهة للدار؛ السرادق الكبير، المصابيح المتلألئة كالنجوم الكبيرة، الزوار القادمون من مشارف المدينة، ومن القرى والكفور المجاورة، الخدم يوزعون القهوة، وينحنون للمعزين. وأبوه «سيد أفندي» النجار الإفرنجي واقف على باب السرادق ويده تصافح الوافدين والذاهبين. وفي الداخل - في القاعة الواسعة التي طالما جلس فيها مع جدته، وأنصت إليها وهي تشرب القهوة السوداء من فنجان أبيض مستدير. كان ذلك قبل أن يحملوها في النعش الكبير بأيام - كانت نسوة كثيرات يبكين، ويبتسمن، ويأكلن، ويندبن، ويثرثرن في أخبار الزواج والميلاد والموت.
كان الوقت ساعة الغروب، وكان الهواء هادئا، والأشجار القائمة في جانب الطريق تستقبل الليل في خشوع، والعصافير تطير بعيدا كأنها تريد أن تودع الشمس الملتهبة فوق أسطح البيوت قبل أن تأوي إلى أعشاشها. وكان سمير يجلس على عتبة البيت. الجميع قد عادوا من المدفن ومروا عليه. رأى ظلالهم السوداء تركض في الطريق كأنها كتل هاربة من مملكة الظلام، وعرف من بينها كتلتين هزيلتين تحملان النعش الخشبي وقد تدلى منه اللحاف والغطاء الحريري؛ أين جدي؟ أين ذهب جدي؟ ونظر إلى الناحية التي اختفت عندها الشمس منذ أمد طويل. رأى عصا تخبط على المنحدر، وعرف أن جده هو الذي يتوكأ عليها، ولكنه أيضا أراد أن يعبر به ولا يحدثه؛ جدي، لم تأخرت؟ ولكن جده لم يرد عليه، بل دلف إلى الداخل وهو يقول: لكل شيء نهاية؟ وحين أراد أن يسأله كيف لبث في المدافن إلى ما بعد الغروب وجده ما يزال يتمتم: لكل شيء نهاية. لكل شيء نهاية.
كان ذلك في يوم الخميس، وقد مرت سبعة أيام، وما زال جده يكرر «لكل شيء نهاية» ولا يزيد. وسمير يسأل نفسه: ألا يمكن للحزن أن ينتهي؟ أليست سبعة أيام بلياليها الطويلة المقمرة كافية لكي تنسي الإنسان حزنه؟
في ذلك المساء دلف سمير إلى حجرة جده. وحين فتح بابها ارتجف قلبه رعبا؛ فقد صر صريرا مخيفا، كأنه يسأل غاضبا: لم تدخل غرفة جدك في غيابه؟ ولمحه الشمعدان الزجاجي الطويل القائم على رف الدولاب ذي المرآة الكبيرة، وسأله أيضا: لم تدخل غرفة جدك في غيابه؟ لكنه اقترب منه، وربت عليه هامسا: لن تبوح لجدي، أليس كذلك؟ لن تبوح له. واهتز الشمعدان الكبير، وانحنى أمامه حتى كاد يسقط على الأرض، ثم اتجه سمير إلى الفراش فدس كيسا من الورق تحت الوسادة وعدا هاربا.
وفي مساء اليوم التالي عاد سمير فدخل غرفة جده، ولم يكن قد قدم من الجامع بعد. لا بد أن صلاة المغرب والعشاء تستغرقان وقتا طويلا. وقد صر الباب صريرا مخيفا، وعاد يسأله: لم تدخل غرفة جدك في غيابه؟ لكنه كان شجاعا في هذه المرة - وإن كانت قدماه قد ارتجفتا قليلا - فصرخ فيه بصوت عال: وما شأنك أنت؟! وذهب مباشرة إلى الفراش، ودس يده تحت الوسادة. ها هو كيس الورق. آه! ما أروع هذا! لقد أكله كله. أليس هذا شيئا بديعا؟ ودس يده تحت الوسادة ووضع كيسا جديدا، ممتلئا حتى نهايته، وكاد ينسى أن يمر على الشمعدان الكبير لولا أنه التفت إلى المرآة فرآه ينظر إليه معاتبا. لم يسأله في هذه المرة لم تدخل غرفة جدك في غيابه، ولكنه حين ربت عليه في حنان حياه بفرح بالغ، وكأنه يقول له: لقد أصبحنا صديقين.
وفي الليلة الثالثة فتح سمير الباب فلم يصدر عنه الصرير المخيف، وإنما همهم بصوت غامض لم يتبينه، وإنما عرف منه أنه يراقبه في حذر ويتتبع خطواته في حسد بالغ. وجرى نحو الفراش، ودس يده تحت الوسادة، وأخرج الكيس. كان فارغا. برافو يا جدي! أنا مسرور منك الآن. لقد أكلته كله. انتظر؛ سوف أملؤه لك في المرة القادمة، أو هل تفضل نوعا آخر؟ إنك أطيب جد على الأرض، ولم ينس أن يمر على الشمعدان الزجاجي، وأن يلامسه برفق وحنان، ويشكره على كتمانه. اهتز الشمعدان مرات، وأومأ برأسه، وابتسم في وجه، كما ابتسم شبيهه في المرآة، وطلب منه أن يعود في الغد.
لم يكد سمير يغلق الباب وراءه حتى رأى جسدا طويلا يواجهه، واضطر أن يرفع رأسه ليرى من يكون صاحبه. كان هو أبوه، لقد أغلق الورشة إذن وعاد إلى البيت، لم جاء مبكرا؟ ولم يتركه أبوه يسترسل في أحلامه.
Page inconnue