فزار جاري - ويظهر أنه تلفت حوله ورفع رأسه، فلمح الجيران ينظرون من الشبابيك، وشعر أنه موكل عنهم في إخماد هذا الصوت: البواب اسمه سالم، ليس هنا أحد اسمه يحيى، ثم إن البواب مسافر عند أهله في الصعيد.
ورفع رأسه من جديد إلى الأدوار العليا وكأنه يتأكد بنفسه أنه ليس هناك بالفعل أحد من سكان العمارة بهذا الاسم. وسمع الصوت من جديد يتأوه ويئن في استسلام وضراعة، وكأن صاحبه - الذي بدا الآن واضحا أمام الباب بجلبابه الأبيض الطويل وقامته النحيلة ورأسه الصغيرة - يسترحم اليد التي تطعنه الطعنة الأخيرة: اصح يا عم يحيى يا بواب! أنا سايق عليك النبي تصحى يا عم يحيى. وصاح الأستاذ عادل بعد أن لاحظ وجودي في النافذة في صوت أقل حدة وأقرب إلى الإقناع منه إلى الغضب: يا أخي قلت لك البواب اسمه عم سالم. الله! كل ليلة تطير النوم من دماغنا؟ كل ليلة هوسة وزعيق وخبط على الأبواب؟
فاقترب الرجل ناحيته، ورفع رأسه التي كانت الآن تحت شرفته تماما، وقال في صوت كأنه دموع تسقط من الحنجرة: والنبي تنادي لي على عم يحيى يا سعادة البيه. الله يخليك نادي لي على عم يحيى!
فسأل الأستاذ عادل وهو يستند بكلتا يديه على سور الشرفة ويمد رأسه ليتحقق من صاحب الصوت الذي يخاطبه: عم يحيى من يا جدع انت؟
فأجاب صاحب الصوت: عم يحيى يا سعادة البيه. عم يحيى الرجل الطيب. سعادتك لا تعرفه؟
فصرخ الأستاذ عادل نافد الصبر : لا أعرفه ولا عمري شفته!
فعاد الصوت كأنه يجفف دموعه ويقول متعجبا: عم يحيى يا ناس! من لا يعرفه يا عالم؟
فصاح الأستاذ عادل وقد رأى أن المناقشة طالت أكثر مما ينبغي: قلت لك لا أعرفه ولا عمري شفته. يا الله روح نام وخلي الناس في حالها.
فقال الرجل في هدوء لا يخلو من العتاب: أروح يا سعادة البيه، الله يسامحك! أروح من غير عم يحيى! يعني يرضيك والنبي؟ بذمتك يرضيك؟
أحسست أنني لا بد أن أساهم بشيء في الموضوع، فسعلت أولا ثم قلت لجاري: يظهر إنه مجنون يا عادل بك. فقال الأستاذ عادل وكأنه يحييني: معك حق يا أستاذ سامي، الظاهر إنه مجنون. ومن بختنا إن جنانه لا يظهر إلا نصف الليل. (ثم موجها الكلام إلى الرجل) اسمع يا جدع، إذا لم تمش ناديت على العسكري!
Page inconnue