لم تعجبها السمعة السيئة البائسة التي التصقت بها جراء الربط بينها وبين غرق ساندي، لم تحب احتفاظ الناس في ذاكرتهم بمشهد والدها وهو يحمل الجثمان من الشاطئ. كان يمكن رؤيتها في الشفق، مرتدية سروالها الرياضي، تتقافز بحركات دائرية في حديقة المنزل المنكوب. وقد مطت شفتيها ساخرة، دون أن يراها أحد، عندما قالت شار يوما ما في المنتزه: «هذا أخي الصغير الذي مات غرقا.» •••
كان المنتزه يطل على الشاطئ. كانوا يقفون مع بلايكي نوبل، ابن مالك الفندق الذي قال: «تلك الأمواج قد تكون خطرة؛ فمنذ ثلاث أو أربع سنوات مضت غرق طفل ها هنا.» «إنه أخي الصغير الذي مات غرقا.» عندما قالتها شار، تصديقا على كلامه، لم تقلها بتأثر، بل من باب التسلية تقريبا، ولتثبت له أنه لا يعرف إلا أقل القليل عن أهل موك هيل.
لم يكن بلايكي نوبل أكبر من شار سنا، ولو كان كذلك لالتحق بجبهة القتال في فرنسا، ولكنه لم يكن مضطرا للعيش في موك هيل طوال حياته؛ لذا لم تكن معرفته بأهالي البلدة الحقيقيين أفضل حالا من معرفته بنزلاء فندق والده المعتادين. وفي شتاء كل عام كان يذهب مع والديه إلى كاليفورنيا بالقطار؛ حيث شاهد أمواج المحيط الهادي، وتعهد بالولاء لعلم بلاده. كان ذا مظهر غير متكلف، وذا بشرة لوحتها الشمس. كان هذا في وقت لا يكتسب فيه الناس بشرة ملوحة عادة نتيجة لقضاء أوقات الفراغ، بل بسبب العمل فقط. كذلك ابيض شعره من أشعة الشمس. كان جمال هيئته يضاهي جمال هيئة شار تقريبا، ولكن وسامته أفسدها سحره، أما هي فلا.
كان ذلك اليوم هو يوم الذروة في موك هيل وجميع البلدات الأخرى الواقعة على البحيرات، وبجميع الفنادق التي ستتحول في وقت لاحق إلى مخيمات سانشاين كامبس لأطفال المدينة، ومصحات للسل، وثكنات لتدريب الطيارين بالسلاح الجوي الملكي إبان الحرب العالمية الثانية. كان يتم تجديد الطلاء الأبيض للفندق في ربيع كل عام، وتوضع قطع خشبية مفرغة مليئة بالزهور على الأسوار، فيما تشد أصص الزهور بسلاسل وتتأرجح فوقها. تم نثر أدوات الكروكيه والأرجوحات الخشبية على المروج في الخارج، وجرى تمهيد ملعب التنس. وبالنسبة لسكان المدينة الذين لا يستطيعون تحمل نفقات الإقامة في الفندق، من عمال المصانع وكتبة المتاجر وفتيات المشاغل، فكانوا يقيمون في صف من أكواخ صغيرة يربط بينها سور شبكي يخفي سلال القمامة ودورات المياه الجماعية، ممتد حتى الشاطئ. أما فتيات موك هيل، أو تحديدا من كانت لهن أمهات يقلن لهن ما يجب عليهن فعله، فكن يحذرن من السير هناك. لكن لم يخبر أحد شار بما عليها فعله؛ لذلك كانت تسير على طول الممشى أمامهم في وضح النهار، مصطحبة معها إت بغرض الصحبة. لم يكن في نوافذ الأكواخ زجاج، وإنما مصاريع خشبية متهالكة تغلق في الليل. ومن وراء الثقوب المظلمة كانت تأتيهما دعوة أو اثنتان خافتتان، تنمان عن الأسى أو السكر، وهذا كل شيء. لم يكن في مظهر شار ولا أسلوبها ما يجذب الرجال، بل ربما كان يثنيهم. وفي جميع مراحل دراستها بالمدرسة الثانوية في موك هيل لم تتخذ صديقا واحدا. كان بلايكي نوبل أول أصدقائها، إذا اعتبرناه كذلك.
ما الذي آلت إليه تلك العلاقة بين شار وبلايكي نوبل في صيف عام 1918؟ لم يتسن لإت قط أن تعرف على وجه اليقين؛ فهو لم يتصل بهاتف المنزل، على الأقل ليس لأكثر من مرة أو مرتين، وبقي مشغولا بعمله في الفندق. وفي عصر كل يوم كان يقود سيارة الرحلات المكشوفة، مع مظلة أعلاها، على طريق شاطئ البحيرة مصطحبا السياح لزيارة مقابر الهنود الحمر وحديقة الأحجار الجيرية ولإلقاء نظرة عبر الأشجار على القصر الحجري المبني على الطراز القوطي، الذي بناه أحد مصنعي الخمور في تورونتو، والمعروف محليا باسم قلعة الخمر. كذلك كان بلايكي مسئولا عن برنامج المنوعات الذي يقدمه الفندق أسبوعيا، مع مجموعة من المواهب المحلية، والضيوف الذين يستعين بخدماتهم، والمغنين والممثلين الكوميديين المحترفين الذين يجلبهم خصوصا من أجل العرض.
بدا أن الأوقات المتأخرة من الصباح هي الأوقات المفضلة له هو وشار؛ حيث دأبت شار على قول: «هيا، يجب أن أذهب إلى وسط البلدة.» وكانت في الواقع تلتقط البريد وتمشي جزءا من الطريق حول الساحة قبل أن تغير وجهتها إلى المنتزه، وسرعان ما يخرج بلايكي نوبل من الباب الجانبي للفندق ويأتي مهرولا على الممر المنحدر. في بعض الأحيان لم يكن يعبأ حتى بالممر ويقفز من فوق السور الخلفي؛ ليثير إعجابهما. لم يكن يفعل شيئا من هذا، من هرولة أو قفز، بالطريقة التي يفعلها بعض الصبية من مدرسة موك هيل الثانوية، برعونة ولكن بتلقائية. كان بلايكي نوبل يتصرف كرجل يقلد الصبيان؛ وكان يسخر من نفسه ولكن كان رشيقا كممثل.
قالت إت لشار وهي تشاهده: «أليس مغرورا؟» كان رأيها المبدئي في بلايكي أنه شخص بغيض.
قالت شار: «بلى، هو كذلك.»
ثم وجهت حديثها إلى بلايكي، قائلة: «إت تقول إنك مغرور.» «وماذا قلت لها أنت؟» «لقد قلت لها إنك يجب أن تكون كذلك، فلا أحد غيرك يعجب بك.»
لم يلق بلايكي بالا؛ وكان رأيه المبدئي في إت أنها جديرة بالإعجاب. يمكنه بحركة سريعة مفاجئة منه أن يفك ضفائرها ويفسد تسويتها. حكى لهما أشياء عن فناني الحفل، وأخبرهما أن المغني الاسكتلندي كان سكيرا يلبس مشد الصدر، وأن مقلد الشخصيات النسائية حتى في فندقه يرتدي ثياب نوم كحلية مكسوة بالريش، وأن محركة العرائس كانت تتحدث إلى دميتيها (ألفونس وأليسيا) كما لو كانتا شخصيتين حقيقيتين، وأنها أجلستهما في الفراش من حولها ونامت بينهما.
Page inconnue