أعلم أن الهمة هي إجماع قلب المهتم وجمعه لنيل مقصد بالتوجه إليه دون غيره من غير قلب قاصد لسواه وصاحب الهمة لا يكون همه في مقصده لنيل أغراض متفرقة كمن أراد أعمالا لا يقع في يده غير عمل واحد الهمم هي فروع من فروع النفس على قدر وضع النفس وارتفاعها إن همة كل أحد على قدر نفسه في علوها وطهارتها . ألا ترى إلى أصحاب الصنائع ، الخسيسة كالكناف والزبال والإسكاف والدباغ والغسال فهؤلاء هممهم على قدر خسائس أنفسهم النازلة لسابق ما قدر لهم عند اعتصار خمير السعادة من عجين الطالع في خمير الولادة وهذا حال يتعلل به العاجز . إذ الملك معشوقك فلا تألف الخسائس . فليس هذا أنسابا معروفة بأب وأم . وإنما هي بعلو الهمة كما كانت من أول الفيض الصادر عن النفس الكلية همم العلماء والملوك ثم كلما تباعد الفيض عن النفس الكلية رذلت الهمم كما رذل الحيوان بعد فيض الإنسان . ألا ترى إلى همة الفيل والحمار في المأكل والمشرب فهذا همة بريح وهذا تبن وشعير وأنظر إلى همة ذي القرنين وهو ابن هيلانة وأبوه نساج كيف تعرض بعلو الهمة إلى الملك ولم ينزل إلى الصنائع . فمثله في العالم كثير . ومن جملة علو همته إظهار اليغزن الذي أشاع بذكره المسافرون وأتخذ المتقدمون ألحان الموسيقا التي زعموا إنها معتصرة من دورات ألحان الأفلاك حين تدور ويسمع له نغمات بطرائق وأوزان غير خارجة نقلوها عن موسى وإدريس . وطائفة أخرى زعمت إن العود متخذ من شكل طائر معلق في جبل في أنفه أنقاب مخارج بعدد مخارج العود وهذا من جملة فروع الهمم . فنيل المقاصد من غير همة غم عمن تعلق بها فاكتساب الهمم ونيل مقاصدها للعلماء بالدرس والمواظبة والجوع والصبر ونبل مقصد المملكة هو بالاشتغال فيما يجذبها من التهاب . وما يشاكلها . فان قلت هذه سعادات أزلية فمن قدر له في السابق شيء أخذه وبلغه ولا يمحى ما سطر على جبين العبد فقد صدقت ولكن مت تحت غبار طلب العزلا على مزايل الشهوات بالذل كما مر بك الإنشاد السابق شعر : أطلب العز في لظى وذر الذل . . . و لو كان في جنان الخلود وقد سعت كلاما لمعاوية إذ قال هموا بمعالي الأمور لتنالوها فإني لم اكن للخلافة أهلا فهممت بها فنلتها . وقد ذكرت حكاية في كتاب ' سر خزانة الهدى والأمد الأقصى إلى سدرة المنتهى ' أنه مات بعض الملوك فغلقت المدينة وقالوا لا تملكها إلا لملك كان في ساعده علامة نور شعشعاني فورد إليهم رجل فقير وفي ساعده نور كما كان في ساعد الملك المتقدم وكان بنظر إليه وزير المدينة بعين الدراية بعد أن ملكوه البلد فدخل الوزير إليه بهدية وهي قشرة من عود قناري كجفنة كبيرة فقال الملك : من أين لك هذا ؟ فقال الوزير : كثير مثل هذا يجئ في نهرنا فقال الملك : لا تستقر في الوزارة حتى تأتيني بخبره وفي أي بلد يكون فأتخذ الوزير له مركبا فسار حتى دخل تحت جبل فلما قطعه بخروجه إلى جانبه الآخر رأى بلادا أشجارها كلها مثل هديته ثم رأى جماعة قائمة منقطعين في جبل فقال : ما الذي يريد هؤلاء ويفعلون ؟ فقالوا : كلهم في طلب الملك يتجرعون سنة مع أنواع المجاهدات فمن رقى على ساعده نور ابيض فهو مستحق الملك فلما عاد الوزير أخبر الملك بقصة ما رآه فقال الملك : لا تحتقر فتحقر وسافر وأعمل لتذكر . فهذا علو الهمة بالجوع والمجاهدات ثم قال لا يغرنك الجواشن والبيض . وقد رأيت بعينيك مشار علو الهمة فإن أردت ذلك فعليك بالجوع والعلم والخلوات يكشف لك العلامات بسرائر الكائنات فأطلب وجد وأجتهد فنيل مقاصد الرجال من غير تعب هذيان والحمد الله رب العالمين . وصلاة الله وسلامه على سيد المرسلين آمين . |
Page 102