دام هذا الجدال العنيف زمنا يربو عن ثلاثة عشر عاما أثبت الفاتح في خلالها عظيم دربته ودرايته، وخرج منها متوج الرأس ظافرا، أما زعيم البندقية فقد كان على خبرة تامة بدخائل السياسة، عارفا بأساليبها ودسائسها، وكان يأمل أن يحرك ساكن البلاد المفتوحة في الدولة ويثير ثائرها، فضلا عن أنه يثق بمساعدة البابا بيوس الثاني الذي كان على جانب عظيم من التعصب الديني، وكان يتوقع معاونته بتأليف فئة صليبية كبيرة يسترجع فيها فائت قوته الروحية والزمنية، ويستعيد بها الاستئثار بالسلطتين.
وفعلا ظهرت مقدمات هذه الظنون، وأخذت البلاد تنتقض الواحدة بعد الأخرى بمجرد ما تهيأ أسطول البندقية، وغدت تنتشر جنوده كالجراد، وكان اليونان في مقدمة رافعي لواء العصيان، ثم إسكندر بك الألباني.
والبابا نفسه جند فرقة عظيمة من أهالي حكومتي فرنسا والمجر ومدن إيطاليا وقادها بذاته، وحضر إلى أنقونة ليتسنى له الهجوم على البلاد العثمانية، ثم بتلك البرهة توفي إبراهيم بك القرماني حافظا عداءه للدولة وهو على شفا جرف القبر، وعهد بالولاية لابنه الصغير إسحاق بك الذي ولد من جاريته، رغما عن وجود ستة أنجال له من زوجته عمة السلطان. وكان هذا الولد يحذو حذو أبيه، فانحاز إلى حسن الطويل الذي لا يترك فرصة إلا وينتهزها ضد الدولة، وطرد إخوته من عنده واتفق مع من اتفق من الأوروبيين على مناصبة الدولة العداء، وقد بلغت القحة والوقاحة من بعض الدول المجاورة للدولة العثمانية مبلغا جسيما، ومنها من لم يصبها خيرها أو شرها ولم يصلها إلا اسمها بأن أصبحت عدوة لدودة ومناهضة قوية شديدة، وأجمعوا أمرهم عليها، فأضحت المملكة كبيت أحاطت به النيران من كل جانب.
اعتاد الفاتح خوض المنايا، فما أعجزه التدبير لقاء هذه المصاعب والمتاعب، وصار يعمل على حفظ كيانه واسترجاع مكانته برباطة جأش وعزم لا يتزعزع.
أقام هو في إستانبول يدير دفة الأمور، وعهد بقيادة الجيش الأول إلى بير أحمد بك ابن عمته وإلى حمزة بك والي أنطالية، والثاني إلى طرخان زاده وأورنوس زاده، والثالث إلى شرمت بك وبلبان بك «الذي نصب علم النصر على برج القسطنطينية وهو جندي بسيط، فكافأه السلطان على هذه الخدمة ورقى به حتى القيادة»، وأرسل هذه الجيوش بعد أن زودها بالخطط والتعاليم الحربية على صاحب قرمان والمورة وإسكندر بك الألباني كل بمفرده.
وأسعفت العناية الإلهية الفاتح بوفاة البابا، فانتثر بعدها عقد الصليبيين وتشتت شملهم، فكانت أعظم مساعد لنجاحه وفلاحه.
ولما رأى حسن الطويل تدابير الفاتح فضل الانسحاب بعد أن نهب البلاد التي تعهد بحمايتها وصيانتها ورجع غانما سالما، فسقط في يد إسحاق بك وأخذ قسطه من الجيوش العثمانية، وهناك عادت تخوم البلاد إلى ما كانت عليه في عهد بيازيد ووقعة تيمورلنك، أما في شبه جزيرة المورة فلم تقم الجنود مدة قليلة إلا وعادت السكينة إلى مجراها واستتب الأمن. وهذا النجاح وإن قضى على بعض قوى التحالف الموجهة ضد الدولة إلا أنه ما أعاد المياه إلى مجاريها؛ لأن البندقيين أنشئوا قلعة عظيمة في مضيق المورة، وجهزوها بمائتي مدفع، وجعلوا البلاد تحت خطر الضبط، وبقيت الجنود العثمانية محصورة في ما وراء المضيق، كما أن جيش المجر الذي تركه البابا المتوفى ميراثا هجم على البوسنة وضبط يابيجا.
لما تأكد السلطان مرامي أعدائه ومواضع آمالهم قام لاستئصال شأفتهم وقطع دابرهم بجيش جرار وبارح القسطنطينية، وكان للجيش العثماني ذلك الصيت الطائر والصوت المرعب، فما كاد يأتي على مقربة من مضيق المورة وترى جنود العدو طليعة الجيش التي تولاها محمود باشا مقبلة، حتى ولت الأدبار خوفا وجزعا دون أن تطلق رصاصة واحدة.
بشر الفاتح بهذا النصر العاجل، فشكر الله سبحانه وتعالى على نعمائه وآلائه، ووجه وجهه شطر البوسنة ومعه ثلاثون ألف جندي ليس إلا، وبلغها بسرعة غريبة وبدأ بحصار يابيجا، وبينما هو مشتغل بالحصار اجتاز المجريون الحدود وهجموا على قلعة أزورنيخ لكي يحولوا الجيش العثماني عن محاصرة يابيجا، وعاد محمود باشا بعد أن أعاد الأمن في المورة وقاوم أسطول البندقية الذي كان يرمي إلى ضبط مدللي «متلين»، فأرجعه أدراجه بحملة واحدة.
هنالك انسحب الفاتح إلى صوفية واتخذها وازعا لحركاته، وقسم جيشه إلى شطرين، أرسل أولهما إلى يابيجا ليشدد حلقات الحصار عليها، وثانيهما للمجر ليقاوم عساكره، وعهد بالأول إلى محمد بك منت، وبالثاني إلى محمود باشا.
Page inconnue