[سيرة أبي طير]
سيرة الإمام
أحمد أبي طير
تحقيق
عبد الله بن عبد الله بن أحمد الحوثي
Page 1
مقدمة المؤلف
قال السيد العلامة شرف الدين يحيى بن القاسم بن يحيى رضي الله عنه: هذا مبتدأ سيرة مولانا الإمام المطهر الأفضل الهمام، الجواد المكرم المعظم الفهام، العلامة النجيب الأشرف الحسيب، المجاهد الصابر، الورع، المرابط، المثاغر المهدي لدين الله، البائع نفسه من الله، الناصر لأولياء الله، نور حنادس الظلم، ناعش الإسلام، غياث الأمم، ماضي السيف والقلم، المخصوص بالوداد في قلوب المؤمنين من العباد، ناصر دين الله حيث قل ناصره، وعضده حين قل مؤازره، المحيي لسنة جده خاتم النبيين، وسيد المرسلين، وأفضل الأولين والآخرين، إمام الأمة، حليف القرآن، رضيع أخلاق الإيمان، ذي الفضائل التي تكسو هالة الشمس ضياء، ووجه البدر نورا، طاهر النشأة، ينبوع البركة، أمير المؤمنين، معز الإسلام والمسلمين، الصادع بالحق المبين: أحمد بن الحسين بن القاسم بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى يوم الدين، وأول تعليقها لليالي خلت من شهر ربيع الأول سنة ست وأربعين وستمائة للهجرة النبوية المحمدية، وكان ابتداء تعليق هذه السيرة بحصن ثلاء المحروس بالصالحين والأخيار.
Page 2
(منهج المؤلف)
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: أستخير الله وأستهديه وأسترشده، وأتوكل عليه، وهو حسبي ونعم الوكيل، وأسأله تعالى أن يعصمني من الخطل والزلل، وأن يصرفني عما لا يرضيه من القول والعمل، فقلما سلم من سلك في هذه المسالك من طاعن يتبع العثرات، ويحصي الفلتات في اختلاف الروايات والأقاويل الشاذات، والتاريخات المتباينات، على أني لا أروي إلاما شاهدتة أو سمعته أو نقله إلي الثقات، أو نقلته من كتب أمير المؤمنين المهدي لدين الله المسطورات في الرسالات والبلاغات، فإن أشكل علي لفظ معنى أو شذ عن خاطري شيء كنت سمعته وأنسيته فأضطر إلى وضعه، فإني أقول فيه أوكما كان أو كما روي، كل ذلك خوفا لله وفرارا من الكذب الذي يشين المنطق ويغضب الرب: {وما أبري نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي} وهكذا تعليق سيرة المتقدمين ، ولاطريق نعرفه إلا كذلك، مع أني قد أذنت لكل ثقة من أهل الدراية والتحقيق، فالثقة والديانة والأمانة ممن لم يتبع الهوى ولاينظر إلى لعاعة الدنيا أن يصلح ما عثر عليه من خلل أوفساد في لفظ أو معنى أو تحقيق رواية سمعها وسطرت خلاف ما رآها، فما لا يحتمل فائدة ولا يجوز فيه التكرار، فقلما سلم كلام البشر من الخطأ والزلل إلا كلام من عصمه الله من خلقه وبالله التوفيق.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه وأرضاه بعد هذه الترجمة: الحمد لله الذي نور قلوبنا بأنوار الهداية، وأسبل علينا شآبيب التوفيق في البداية والنهاية، واستنقذنا بكرمه وفضله من السلوك في مدارج الضلالة والغواية، بما منحنا من التمكين والتبيين ونصب لنا من الأدلة والبراهين، وأوضح لنا من الحجة وخلق فينا من القدرة، وأزاح عنا كل علة، وأرسل إلينا الرسل المؤيدين بالمعجزات الباهرات، الصادعين بالحجج البينات إتماما منه تعالى للنعمة، وقطعا للمعذرة : {لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل}.
Page 3
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له الواحد الفرد القديم، الرحمن الرحيم المتعال عن شبه الأشباح والأرواح، المنزه عن الصور والكيفيات، المتقدس عن صفات المحدثات، العدل الحكيم، المنعم الكريم تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وأوضح الحجة، ولجب المحجة، ونصح الأمة، وجاهد في سبيل ربه حتى أتاه اليقين، الذي كشف بشريعته كل ملتبس، وجدد من رسوم دين الله كل مندرس، لم يمنعه عن إبلاغ الرسالة تهكم المتهكمين، ولا إرهاب المتمردين، صلوات الله عليه وعلى آله ما ذر شارق وأثلق بارق.
وأشهد أن الخليفة بعده بلا فضل أمير المؤمنين قاتل الناكثين والمارقين والقاسطين، ذو الخصائص والمنازل، والمناقب والفضائل، باب مدينة العلم المهتصر من دوحة الكرم، أخوه وابن عمه، وكاشف الكرب عن وجهه، المبلغ عنه كلام الله إلى عباده، أسد الله يوم النزال، القامع عن دينه كل ضلال علي بن أبي طالب بن عبد المطلب[2أ-أ] صلوات الله عليه وعلى زوجته المطهرة، وأم الكرام البررة.
Page 4
وأشهد أن الإمام بعده سبطه الحسن ثم الحسين ريحانتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وسيدي شباب أهل الجنة بالنص من الله تعالى عليه وعليهما حكم من الله لهم يجب إنفاذه، وأمر منه يجب امتثاله، وأشهد أن الإمامة بعد أمير المؤمنين وولديه -عليهما السلام- محصورة في ولديهما وولدي ولديهما ما تناسلوا، المنتسبين إلى الحسن والحسين بآبائهم سلام الله عليهم أجمعين، وأن من قام فيهم مقامهما وسلك سبيلهما، ودعا إلى الله والجهاد في سبيله جامعا لخصال الإمامة مضطلعا بأعباء الزعامة أنه إمام حق يجب على الأمة إجابة دعوته، والمسارعة إلى نصرته ومعاضدته، والالتزام بأحكامه، والتعظيم لشأنه، وأنه أفضل أهل زمانه وسيد أهل أوانه، لما خص الله به القائم من شرف الزعامة، وعظم شأن الخلافة التي هي تلو الرسالة إلى يوم القيامة، وبعد ذلك أشهد أن أهل البيت عليهم السلام أفضل الخلق بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ لما خصهم الله من التطهير من دنس الأرجاس، واصطفاهم لأمر أمته من جميع الناس، وأشهد أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خير أصحاب وأعوان، وخواص وأخدان، الذين هجروا في سبيل الله الأوطان، وقطعوا الأرحام، وحموا حوزة الإسلام، والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه.
Page 5
(فصل)
ولما كانت المعرفة بالإمامة من فروض الدين اللازمة، وأصوله الواجبة، وكان جديرا بها من أولاد السبطين عليهما السلام، المنتسبون إليهما بآبائهم من تردى ملابس الكمال، وجمع من خصال الشرف والفضل عدة خصال، قد أجمع العلماء الراشدون عليها وقضوا بوجوبها، وأضافوا سائر خصال الإمامة إليها من الذكورية والحرية والإسلام وكمال العقل، وهي أن يكون عالما بما تحتاج إليه الأمة بحيث يجب أن يكون من أهل الاجتهاد، وأن يكون ورعا عن المحرمات، بعيدا عن القاذورات، جوادا سخيا، متجنبا للإسراف والتبذير، يضع الحقوق مواضعها ولا يمنعها أهلها، صحيحا في بدنه، سالما من المنفرات، مضطلعا بأمر الأمة، شجاعا مقداما ثابتا في مواطن الجلاد والجهاد كما كان سلفه عليهم السلام وأن لايكون في زمانه إمام سابق كامل الخصال قد تقدمت دعوته ووجبت طاعته.
Page 6
(فصل)
ولما كان مولانا الإمام الصوام القوام، العالم الهمام، غياث الإسلام، صفوة الله من جميع الأنام، ثمال المرملين والأيتام، ذو الحسب الشريف، والمنصب الباذخ المنيف، أمير المؤمنين المهدي لدين الله رب العالمين أحمد بن الحسين بن أحمد بن القاسم بن عبد الله بن القاسم بن أحمد بن أبي البركات إسماعيل بن أحمد بن القاسم بن إبراهيم[2ب-أ] بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليه وعلى آبائه الأكرمين، قد انتجبه الله من أكرم عنصر وانتمى، واستخلصه من الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، فاستولى على أقطار المجد وغاياته، وتسنم ذروة الكمال في جميع صفاته، وارتقى إلى سماء الفضل حتى بلغ أقصى المآرب، ونال من الشرف والعلى أقصى المطالب، ولم يزل يتبع المعالي في مقاصدها، ويجمع قاطنها وشاردها حتى برز إلى حيث يتحسر عن وصفه طوامح الأفكار، ويشهد له كل فاضل بالسبق في مضمار الإيراد والإصدار، فنظم أشتات الفضائل، وأخذ برقاب المحامد، فلم يدع فنا من فنون العلم حتى خاض لجة الزخار، واستخرج من عيون درره الأبكار، حتى كانت ألمعيته تحيط بجوامع الصواب، وتدور بكواكب السداد.
هيهات لا يأتي الزمان بمثله ... إن الزمان بمثله لبخيل
Page 7
(فصل)
ونحن نذكر جملا من مناقبه وخصائصه التي تفرد بها وبرز على غيره
في مضمارها، فلنبدأ بنسبه الشريف، ثم مولده عليه السلام، ثم صفته، ثم نشأته، ثم خصائصه في العبادة والورع والزهد، ثم خصائصه في الكرم والسخاء، ثم خصائصه في حسن الخلق ثم في جودة رأيه وتوقد ألمعيته، ثم بذكر مناقبه في العلم، ثم مناقبه في ثبات القلب، ثم بذكر مناقبه في البلاغة، ثم بذكر حسن معاشرته لأهل زمانه حتى غلب على قلوبهم حبه، ثم نذكر جملا من فضائله وبركاته، ثم نذكر السبب الداعي له إلى القيام، ثم نذكر دعوته العامة وبيعته، ثم نتكلم في سيرته على وجه الإجمال، نبدأ بأول سنة نذكر حوادثها فإذا انقرضت ذكرنا السنة التى بعدها وحوادثها سنة سنة حتى نأتي على مدة دولته إلى أن مضى شهيدا فائزا بخصل السبق، مؤديا لما أمر الله به في أمر الأمة، لا نستثني في ذلك إلا مشيئة الله سبحانه ولطفه وتوفيقه.
(فصل في نسبه)
هو في الظهور فلق الصباح، ونور الشمس، وضياء البدر، خفقت في أفق الشرف الباذخ ذوائبه، وطلعت بأنوار الفخار كواكبه.
للمصنف رضي الله عنه:
نسب علا فوق السماء فخاره
وتفرعت أغصانه من دوحة
أضحى به المهدي في أفق العلى
شرف تحجزه وفخر ناله
لا يزال يخفق فوقه علم الهدى
... وتربعت فوق النجوم مناصبه
وأطل فوق العالمين ذوائبه
بدر يمد من الذكاء كواكبه
يقضي بذاك وليه ومحاربه
وتحف بالنصر العظيم مواكبه
Page 8
هو أمير المؤمنين وإمام المسلمين المهدي لدين الله رب
العالمين: أحمد بن الحسين السيد الفاضل الورع ابن أحمد الطاهر الحسب النجيب ابن القاسم قدوة أهل عصره ابن عبد الله العالم العامل ابن القاسم [ 3أ- أ]الجواد ابن أحمد المفضال ابن إسماعيل أبي البركات ابن أحمد الزاهد التقي ابن القاسم المجاهد الرضي ابن محمد الإمام العلامة ابن القاسم أمير المؤمنين ترجمان الدين ابن إبراهيم الديباج ابن إسماعيل السيد الرضي ابن إبراهيم الشبه ابن الحسن الرضي ابن الحسن السبط ابن خليفة رسول الله بلا فصل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم وعلى الصفوة من أسباطه إلى يوم الدين.
قال السيد شرف الدين رضي الله عنه: هذه ترجمة نسبه عليه السلام أخبرني عليه السلام أنه ما يعرف بينه وبين النبي صلى الله عليه وآله وسلم من آبائه وأجداده إلا من هو فاضل تقي، وهذه من مناقبه الباهرة.
(فصل)
وأمه الشريفة الطاهرة المكرمة فطيم ابنة الشريف الفاضل الحسين بن علي بن سليمان بن القاسم بن علي بن القاسم الإمام العياني ابن علي بن عبد الله بن محمد بن الإمام ترجمان الدين أمير المؤمنين القاسم بن إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم السلام.
(فصل)
أما أبوه الحسين بن أحمد فإنه كان فاضلا عالما عاملا ورعا زاهدا، مقصودا للبركة، معروفا بالفضل، قدوة في زمانه، سار إلى بيت الله الحرام امتثالا لأمر ربه، وأمه هي أم أحمد ابنة ناصر بن أسعد بن الحسن بن أبي رزين العلامة المشهور ابن الحسن بن عبد الأعلى بن مسعود بن عبد الله بن بوسان بن الحارث بن حرب بن عبد ود بن وادعة من بيت شريف مشهور.
وأما جده أحمد بن القاسم فإنه كان من أعيان أهل الزمان، وأهل الفضل والإحسان، وكذلك القاسم بن عبد الله.
Page 9
حاشية: دعا إلى الله وإلى إحياء كتاب الله سبحانه وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بحران، ويكنى بالمنصور بالله، وكان من الأئمة السابقين، استقر ملكه في أكثر اليمن، وذلك قبل قيام الإمامين علي بن زيد من أولاد الإمام الهادي عليه السلام المقتول بشظب، والإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليهم السلام، وقد كان دعا قبله جده الإمام الكبير العالم الشهير ترجمان الدين القاسم بن أحمد بن أبي البركات إسماعيل بن أحمد بن القاسم بن الإمام العلامة محمد بن القاسم الإمام ترجمان الدين إبراهيم بحران، وملك أكثر اليمن، وأعانه إخوانه الأمراء السادة الفضلاء ذو الشرفين محمد والقاسم ابنا جعفر بن القاسم العياني، وابن عمهم الحسين بن إبراهيم بن سليمان بن الإمام المنصور بالله القاسم بن علي بن عبد الله بن محمد بن القاسم بن إبراهيم عليهم السلام، وسليمان هذا هو العامر لثلاء أي للحصن، والآمر للناس بعمارة المدينة كذلك، وذكر صاحب سيرة الإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان عليه السلام لما ذكر نسبه من أمهاته وهن جدات الإمام المهدي لدين الله عليه السلام أن أم عبد الله بن القاسم فاطمة بنت أبي البركات بن الحسين بن يحي بن علي بن القاسم بن محمد بن القاسم بن إبراهيم ترجمان الدين، وأن أم فاطمة هذه علوية من أولاد عمر بن علي بن أبي طالب، وذكر أن أم القاسم بن أحمد غاب عنه اسمها.
قال: وأما أم أحمد بن أبي البركات فهي أم سالم بنت الإمام القاسم بن علي [3ب-أ] بن عبد الله، وأما أمها فهي شريفة من أولاد القاسم بن محمد بن القاسم بن محمد بن القاسم بن إبراهيم ترجمان الدين، وأختها حسنة بنت القاسم بن علي بن
عبد الله ولهما سبيع مال القاسم بن علي في مذاب مقسوم ذلك لورثتهما.
Page 10
وأما أم إسماعيل أبي البركات فهي آمنة بنت عبدالله بن محمد بن القاسم بن إبراهيم عمة القاسم بن علي أخت أبيه، وأمها زينب بنت موسى بن الحسين بن علي بن أحمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام، وأمها زينب بنت عبد الله النوفلي.
وأما أم أم الإمام المهدي فهي الشريفة المطهرة المباركة المنورة صفيهة بنت [بياض........ في المخطوطة]، وعلى الجملة فإن منصبه فوق سماء العلى شامخ، وعلى قرارة المجد راسخ، وما أنا في تعليق ذلك وذكره إلا كمن يهدي إلى الشمس ضوء، أو يزيد في القمر نورا، أو يجلب المسك إلى أرض الترك والعود إلى بلاد الهند، والعنبر إلى البحر الأخضر.
فصل [في صفته -عليه السلام]
لم نذكر صفته إلا تقريبا لمن لم يره، فأما من شاهده فقد كفاه العيان عن البيان، وما عسى أن يصف الواصف من صورة براها خالق، وجعل عنصرها أصلا للسعادة، وعنوانا للخير والبركة، وسم السيادة في غرتها والكرم في أسرتها.
كان عليه السلام أبيض دري البشرة، ربع القامة، أشكل العينين، ضليع الفم كأن وجهه مضحاة الفضة المجلوة إلى التوريد، أقنى الأنف، كث اللحية، جعد الشعر ليس بالقطط، عريض المنكبين، جليل المشاش، شثن الكف بين كفيه شامة لونها كلون حبة الإجاص، دقيق المسربة، سامي العنق، ضامر الخصر، عاري الأخمصين، إذا التفت التفت معا، وإن مشى فكأنما يمشي في صبب، إن كلم أنصت واستمع، وإن سئل أعطى وأقنع، هيبته تصدع القلوب، ومقابلته وإقباله حياة النفوس، ليس بالملق ولا بالضجر ولا بالقلق ولا بالصخاب ولا العياب، أحب المجالس إليه مجالس العلم والذكر، وأسر الأيام إليه يوم ينال فيه من أعداء الله، استشهد عليه السلام وقد وخطه الشيب قليلا وما أحقه بقول بعضهم:
عقم النساء فما يلدن بمثله .... إن النساء بمثله عقم
متهلل بنعم بلا متباعد .... سيان منه الوفر والعدم
نزر الكلام من الحياء تخاله .... صمتا وليس بجسمه سقم
Page 11
فصل
وأما مولده عليه السلام فكان ب(هجرة كومة) المعروفة بجبل شاكر
من ظاهر همدان، ولد لاثني عشرة ليلة من شهر القعدة سنة اثنتي عشرة وستمائة للهجرة النبوية، وله من الفضائل عند مولده ما سنذكره في مواضعه إن شاء الله تعالى من فضائله.
(فصل في نشأته -عليه السلام-)
Page 12
نشأ في حجر أبويه سنينا قريبة، واختار الله لوالده رضي الله عنه ما هو أصلح من الانتقال إلى دار رحمته وهو ابن سبع سنين بعد أن كان قد أكمل كتاب الله تعالى، ثم كفله عمه السيد الشريف الزاهد الطاهر سليمان بن أحمد بن القاسم، وكان رحمه الله[4أ-أ] أحد الزهاد في زمانه، رفض كثيرا من ملاذ الدنيا من مناكحها وملابسها، ولازم الزهد والعزلة عن الناس، فعني في تعليمه وتهذيبه وتأديبه، وكان عليه السلام ممن شهدت له الفراسة رضيعا أن لا يكون وضيعا، وحكمت له الشمائل غلاما أن يكون قرما هماما، تخيل فيه مخائل الإمامة، وتلوح على غرته أنوار الزعامة، وكان ابتداؤه بالقرآن الكريم وهو ابن خمس سنين أو يزيد قليلا، ولقد روى لنا عن نفسه عليه السلام من عجيب الفطنة وروى غيره من الثقات ممن كانوا يشاهدونه من توقد فطنته وألمعيته ما لم تجر العادة بمثله فيمن هو في سنه، ولم يزل في دراسة القرآن العظيم وتلاوته، والتعليم في غيره لمن يصلح لما هو في سنه من الشعر، وما يجري مجراه من الأراجيز والحكم حتى بلغ اثنتى عشرة سنة أو يزيد قليلا، ونقله عمه الطاهر من الهجرة المباركة إلى مدرسة (مسلت) ببلد قيس من ظاهر همدان، وكانت المدرسة في ذلك الآوان نظام عقد العلم، وقبلة أهل الإسلام والفضل، كان سكنها في ذلك العصر الفقيه الإمام الألمعي ترجمان المتكلمين عمدة المجتهدين والمتهجدين حميد بن أحمد المحلي بن محمد بن أحمد بن عبد الواحد بن عبد الرزاق بن إبراهيم بن أبي القاسم بن علي المحلي الصنعاني رحمة الله عليه، وكان يسكن حينا في الشاهل غربي بلد بني شاور السود، والفقيه العالم الفاضل الحافظ المحدث الكامل ترجمان القرآن جمال الدين عمران بن الحسن بن ناصر، وأخوه الفقيه العالم شرف الدين أسعد بن الحسن بن ناصر، والفقيه العلامة اللسان المنطيق نظام الدين القاسم بن أحمد الشاكري، والفقيه الزاهد الورع قدوة الزهاد فخر الدين أحمد بن عريق بن عواض الشاكري، والفقيه العالم الأديب سابق الدين محمد بن علي بن أحمد بن نعيش الصنعاني، والفقيه العلامة شرف الدين الحسن بن البقا التهامي القيسي، والفقيه الطاهر العالم سعيد بن حنظلة، وغبر هؤلاء من عيون أهل الدين المتمسكين بالعلم، فاختص به ليلا ونهارا الفقيه الزاهد المطهر فخر الدين أحمد بن عزيق فكان سميره وقرينه، والمتولي لتهذيبه وتأديبه، وتعليمه طرائف الآداب والطهارة حتى لقد كان الناظر يعجب من آدابه وطهارته مع صغر سنه، ثم ابتدأ بعد ذلك من الفنون بعد معرفته لأبواب في الطهارات، ونكت في العبادات، وجمل من أصول الشرعيات بالتوحيد، فكانت قراءته أولا على الفقيه العلامة اللوذعي قاسم بن أحمد الشاكري؛ إذ كان في ذلك الفن خليجا تطمو مدوده، فقرأ عليه مختصرا مفيدا، ثم قرأ كتاب (الخلاصة النافعة) بشرح واسع، ثم قرأ (المؤثرات) للشيخ الإمام حسام الدين الحسن بن محمد الرصاص، كل ذلك يضبطه غيبا، ثم قرأ شرح (الإيضاح) الذي وضعه الفقيه الإمام حسام الدين بن أحمد، كل هذه الكتب يضبطها غيبا ويعقل معانيها، وتعجب العلماء من حسن بهجته وبراعته، ثم قرأ مذاكرة عقودا على كتاب (التحصيل) للشيخ الإمام الحسن بن محمد الرصاص، وكانت هذه المذاكرة من العجائب، أخذت معانيها من كتاب المحيط [4ب-أ] بالتكليف لقاضي القضاة عبد الجبار بن أحمد، ثم من كتاب (الإكليل شرح معاني التحصيل) للفقيه العلامة الحسن بن مسلم التهامي، ثم من كتاب (التبيان بشرح ياقوتة الإيمان) للحسن الرصاص، ثم من (خلافية أبي رشيد) وغيره، هذه الكتب المعينة.
Page 13
كان الفقيه القاسم بن أحمد الشاكري يترجم هذه المذاكرة ويضبط معانيها من الكتب المذكورة وغيرها، ثم يلقي عليه الصفحتين والثلاث وربما أكثر من ذلك، فأكثر ما يقرأ عليه شرفين أو ثلاثة، ثم يضبطها غيبا ويحفظها، ولعل هذه المذاكرة تمت في قريب من مائتي معشر، ولعل نساختها في ثلاثين سلطانية أو نحو ذلك، وكان عليه السلام في حال قراءته يقرأ عليه عدة من الدرسة وهو في وقت المقبولة وفراغ الخاطر لا يشتغل بغير النظر في الكتب والمراجعة حتى أتم المذاكرة، وهو معدود من العلماء في ذلك الفن، ثم انتقل إلى المدرسة المنصورية ب(حوث)، وفيها عدة من عيون العلماء كالشيخ العلامة المصقع ترجمان الكلام جمال الدين أحمد بن محمد بن الحسن الرصاص، والشيخ الطاهر بقية الحفاظ محيي الدين أحمد بن محمد الأكوع المعروف بشعلة، والفقيه العالم أحمد بن علي الصميمي، والقاضي الفاضل محمد بن يحيى الصنعاني، والقاضي العلامة الفضيل بن يحيى بن جعفر بن أحمد بن أبي يحيى، وعدة من العلماء والفضلاء غاب عني تعيينهم لكثرتهم لا لقصور في فضلهم وعلمهم، فقرأ على الشيخ العلامة أحمد بن محمد في الكتب المبسوطة في علم الكلام ك(شرح الأصول الخمسة)، (والمحيط) وغيره، وقرأ عليه فى الكلام كتاب يذكره ابن مثوبة، وأخذ عنه كتاب جده أبي محمد شيخ الإمام المنصور بالله عليه السلام المعروف ب(الكيفية في الصفة والأحكام) وهو من لطيف كتب الكلام حتى لقد كان يحفظه غيبا كما يحفظ الناس السورة من القرآن الكريم، ثم قرأ كتاب ابن الملاحمي (المعتمد)، (والفائق) وغيرهما، ثم قرأ كتاب شاه سربيجان شرح الأصول الكبير، وقرأ كتاب أبي رشيد المعروف ب(الخلافية) وأتقن ذلك معرفة، وكتابه (المحيط) المعروف ب(شرح الدعامة) وفيما أحسب أنه قرأ (تعليق الإكليل) وقرأ (شرح النفحات المسكية) للفقيه الشهيد حميد بن أحمد المحلي، ثم قرأ كتاب (الإحاطة)، ثم كتاب السيد أبي طالب في اللطيف، ثم فن الخلافية بين البغداديين والبصريين.
Page 14
هذا ماذكرته من ذلك عند التعليق وما غاب عني من ذلك فليس بالقليل إلا أنه على الجملة لم يدع كتابا مشهورا مما يزداد بقراءته فائدة إلا أتى عليه، وهو في تلك الحال إليه تنتهي الغوامض، وبه تحل المشاكل ويفتح المقفل، ثم في خلال قراءته تلك سمع على الشيخ الحافظ المحدث محيي الدين أحمد بن محمد المعروف شعلة الأخبار والسير، فقرأ عليه كتاب (أصول الأحكام) للإمام المتوكل على الله أحمد بن سليمان سلام الله عليه، وضبط شطرا منه غيبا، والباقي كرره حتى كاد أن يتلوه غيبا، وقرأ عليه أمالي أحمد بن عيسى، وقرأ عليه سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان قرأها على الفقيه العلامة الحافظ عمران بن الحسن بن ناصر، وقرأ (أمالي[5أ-أ] المرشد) والسيد الجرجاني، وكتاب (الرياض)، وكتاب (الأنوار)، وأمالي أبي سعيد السمان، وسمع كتاب (المستصفى) للشافعية، وقرأ كتاب (تيسير المطالب) للسيد أبي طالب، وقرأ كتاب (نهج البلاغة) وأعلامها حتى كاد أن يتقن ذلك غيبا، وقرأ كتاب (العمدة من صحاح الأخبار)، وعلى الجملة فإن سماعات الكتب المشهورة من طريق الإمام المنصور بالله عليه السلام والشيخ محيي الدين حميد بن أحمد بن الوليد رضي الله عنه صحت له سماعا، وتعيين ما قرأ في السير والأخبار أكثر من أن يحصى، ثم قرأ في أصول الفقه، فأول ذلك قرأ مذاكرة عقودا موسومة ككتاب (الحاضر) على الفقيه العالم الزاهد فخر الدين أحمد بن عريق الحميري رحمه الله تعالى يشتمل على عيون كتاب أبي الحسن البصري رحمه الله المعروف بالمعتمد، وكتاب الإمام المنصور بالله المعروف ب(صفوة الاختيار) وكتاب الرصاص المعروف ب(الفائق) وغيرها من كتب الفقهاء فأتقن ذلك غيبا، ثم قرأ كتاب (المعتمد) حتى كاد أن يأتي عليه غيبا، ثم قرأ كتاب (التجريد) لابن الملاحمي وقرأ كتاب أبي طالب (المجزي) وكان معجبا به.
Page 15
قال المصنف: ثم (المعتمد) لقاضي القضاة، وغير ذلك من الكتب الموجودة في اليمن مما أمكن تحصيله؛ لأن الكتب كثيرة في الأقطار، وإنما الكتب المشهورة عند الزيدية باليمن حتى كان المشار إليه في ذلك الأوان بالتحصيل في الأصول الفقهية ومعرفته في ذلك أشهر من نار على علم:
وهل تجحد الشمس المنيرة ضوؤها ... ويستر نور البدر والبدر زاهر
ثم التفت إلى الدرس في فروع الفقه من سنة سبع وثلاثين وستمائة، فأول كتاب قرأه كتاب (التحرير) لأبي طالب عليه السلام وحفظه غيبا بعد أن كان قبل ذلك يحفظ معانيه وأصوله وأدلته قراءة على الفقيه العالم التقي محمد بن أبي السعادات، وكان أوحد في معرفة ذلك ومعتادا، فلقد كان يعرف فى حسن معرفتة وذكائه، ويقول استفاد عليه أكثر مما أفاده أو كما قال في ذلك، ثم قرأ كتاب (شمس الشريعة) للفقيه العلامة الحافظ المجتهد سليمان بن ناصر، وكرر ذلك، ودرس وقرأ (شروح التحرير) للقاضي زيد وتعليق السيد المؤيد بالله، ثم تعليق أبي مضر حتى لقد كنا نسمعه ويسمعه غيرنا أنه لقد كان يتصور صفحاته ومسائله غيبا، وقرأ كتاب (الإبانة) وشرحها وكررها، وقرأ كتاب (الكافي) للناصرية، وكتاب (الوافي) لابن بلال، وكتاب السيد علي بن سليمان، ومجموع علي خليل كرره مرارا، وقرأ كتاب الإمام المنصور بالله وكان معجبا بفقهه، وأراد أن يشرح المهذب المنصوري، وقرأ مسائله الفقهية في رسائله، وقرأ كتاب الهادي عليه السلام (الأحكام) وقواعده، وقرأ عدة من كتب القاسم عليه السلام وأولاده المفردة، وكان شديد الحرص في نصرة أقوالهم، وأطل على شيء من تعليقات السيد العلامة جمال الدين[5ب-أ] علي بن الحسين بن يحيى بن يحيى بن الهادي عليهم السلام، وأجاز له كتاب (القمر المنير) وأمره بتصحيح ما عثر عليه، وكان السيد علي بن الحسين يقول: إنه لا يشك في بلوغه درجة الاجتهاد، وما أنسيته مما قرأه من كتب الفروع وغيرها وليس بالقليل إلا أنه غني ذكره والله الموفق للصواب.
Page 16
ولم يزل عليه السلام في القراءة والاستمرار في قراءة الفروع وعلوم القرآن من سنة سبع وثلاثين إلى أول سنة ست وأربعين وستمائة، ثم قرأ كتاب الحاكم (التهذيب في تفسير القرآن) على الفقيه أحمد بن حنش، فلقد كنا نسمعه يطري عليه ويثني، ويظهر أنه يستحقر نفسه أن يقرأ مثله وما أراه ينكر ذلك، فلما ختم قراءته أقرأ هذا الكتاب جماعة من العلماء وكانوا يشاهدون منه ما لم يسمع من غيره في معرفة كتاب الله تعالى وما يشتمل عليه من الأحكام، ثم قرأ كتاب (الطوسي) ثم قرأ في كتب المتشابه ككتاب الطربيني، وكتاب قاضي القضاة، وقرأ تفاسير أهل البيت عليهم السلام وسيرهم، وقرأ في فقه الشافعية وكان يتعجب من حسن تصانيفهم في الفقه وفيما أحسب أنه قرأ كتاب الثعالبي أو شطرا منه قبل قيامه فأما بعد قيامه فذلك ظاهر، وقرأ على الفقيه الإمام العلامة حسام الدين حميد بن أحمد المحلي عدة كتب بعد قيامه في السير وغيرها، وقرأ في النحو واللغة.
Page 17
أول قراءته في النحو (الملحة) وشرحها، ثم كتاب (التهذيب) للفقيه العلامة محمد بن علي نعيش، ثم كتاب (المحيط)، ثم كتاب طاهر بن أحمد شرح المقدمة، ثم (شرح الجمل) حتى صار من أهل المعرفة في ذلك الفن، وقرأ في كتب اللغة على التعيين كتاب محمد بن نشوان على الفقيه العلامة الحسن بن البقاء التهامي، ثم قرأ ديوان الأدب وكتاب ابن قتيبة (أدب الكاتب) على الفقيه اللسان ترجمان الأدب صالح بن سليمان بن الحديب، وقرأ عليه كتابه المشهور ب(الزبد الصربية)، وكان حسن المعرفة شديد العناية في تعليم أهل البيت، ولقد كان هذا الفقيه يتعجب ويعجب من معرفة الإمام المهدي سلام الله عليه ويشهد باجتهاده بعد بلوغ الدعوة، وقرأ غريب أبي عبيدة وغيره من غريب القرآن والسنة، وحفظ من عيون الشعر لفحول الجاهلية والمخضرمين ما فيه كفاية للشواهد والحجج، وقرأ في الفرائض كتاب (الوسيط) وغيره على الفقيه أحمد بن نسر العنسي، وقرأ في الوصايا ودقيقها على الفقيه العالم علي بن يحيى بن حشيم وغيره، وكانت له صنعة حسنة في فروع الفرائض وكيفية أعمالها، وقرأ في السير والتواريخ قرأ سيرة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وكتاب (الدولتين) وشطرا من كتاب الطبري وغير ذلك، وكتب الإمام القاسم بن إبراهيم وأولاده ومصنفاتهم، وسيرة الإمام القاسم بن علي وولده، وسيرة الهادي عليه السلام وولديه، وسيرة الإمام أحمد بن سليمان، وكان له في آخر الدرس إطلالا كثيرا، وقرأ في السير ولم يدع فنا يشار إليه مما يفتقر إليه المجتهد في كمال الاجتهاد إلا وقد أخذ منه بنصيب حتى كان[ 6أ-أ] المشار إليه بالبنان في الفضل والعلم، واشتهر أمره، وسار في الأقطار ذكره، ووردت عليه المسائل من الأقطار للاختبار والاسترشاد، فكان سلام الله عليه يفتح المقفل ويحل المشكل، ويأتي بالبيان ويوضح البرهان، وعلى الجملة فإن المشك في كلمه مكابر أو مشكوك في علمه؛ لأن ذلك من المشهورات التي اجتمع عليه
Page 18
المخالف والموالف، وكذلك فإن من ادعى قصورا في فضله وأنه كان
أفضل أهل زمانه فإنه مطعون في دينه إن كان سالما في عقله، ومما يدل على سعة علمه وكماله ما أجاب به على الشيخ العالم عطية بن محمد النجراني بالمسائل المركبة في الفروع التي تشتمل على مئيين من المسائل قريب من ألف مسألة، فأجاب عنها بنهاية الإرشاد وبغية المرتاد، وكذلك المسائل التي وردت من الجهات الحرازية وغيرها من الفتاوي في الفروع التي تبهر من رآها.
(فصل) وأما خصائصه في العبادة
فإنه كان عليه السلام حليف العبادة، والورع، والزهد، كان قبل قيامه عليه السلام مصابرا على صيام أيام مشهورة فاضلة، وله وضائف في العبادة، كان يقوم في الثلث الأخير من الليل فلا يبرح قائما وقاعدا، وراكعا وساجدا، مع المبالغة في الطهارة والوضوء لأكثر الصلوات، قلما يصلي المغرب إلا بوضوء جديد، وقلما يوتر إلا في الثلث الأخير، يلاحظ أوقات الاختيار، ويتهجد في الأسحار، وعلى الجملة فإن الله سبحانه قد وفقه من طاعته وحببها إليه إلى ما يباهي الشمس ظهورا ويجاري القطر وفورا. انتهى.
ومن ورعه عليه السلام أنه ما سمع قبل قيامه يقسم قسما تجب فيه الكفارة مع الحنث، ولا خالف قوله فعله، ولقد أشهد الله في بعض المواقف أنه ما خطر له ببال أن يعصي الله تعالى، وبخط المصنف قال: سمعته أنا وهذا كما ترى يقضي بالعصمة، ويدل على نهاية الفضل والشرف الذي لم ينفرد به إلا هو، ولو فتش أحد في زمانه إلى من يجاريه في الخصائص الشريفة لكان ذلك كالممتنع، ولوجده في بعد مرامها القمر الأزهر، والكبريت الأحمر، وجوهر الجوهر، فصلوات الله عليه ورحمته وبركاته.
Page 19
(فصل) وأما خصائصه في الكرم
فما أظن عدوا له ينكر ذلك ولا يدفعه، فكيف بأوليائه، حاز خصال السبق في مضمار الكرم، وبرز إلى حيث لا يبلغ أحد إلى عشر معشار، فإن نظرت في شرف نفسه قبل قيامه فهو من قد عرف الخاص والعام، يقصده القاصد ...... يناديه القاصد فيكرم كل واحد منهما ترحيبا وتكريما، وإجلالا وتعظيما حتى يستحقر ماوراء ذلك من المطاعم، ويستصغر في جنب ذلك مناقب الأكارم، لا يدع نوعا من أنواع الكرامة مما يدخل تحت إمكانه حتى يأتيه، ولا مفخرا مما يتفاخر به الأجواد حتى يرتقيه ما لم يكن ذلك مكروها، فما أحقه بقول القائل:
يجود بالنفس إن ظن الجواد بها .... والجود بالنفس أقصى غاية الجود
ولقد كان يمضي وهن من الليل وهو منقبض عن أكل الطعام ينتظر طارقا غرثانا.
وأما بعد قيامه فمناقبه أكثر من أن تحصى، روى الثقات أنه وهب في موضع واحد في ساعة أو ساعتين اثني عشر فرسا.
وأخبرني هو عن نفسه أنه أعطى في مقامه بالجنات في أربعة أشهر وأيام نيفا وثمانين فرسا -ليس الخبر كالعيان- وهب وهو على عضادتي المطهر بقارن أربعة عشر فرسا، وأعطى رجلا من كبار العرب في يوم واحد اثني عشر فرسا، ولقد كان يعطي لله ولنفع الإسلام والمسلمين، وكفا لعادية المعتدين، ولقد روى عن نفسه وأشهد في الرواية الفقيه العلامة حسام الدين حميد بن أحمد المحلي رضوان الله عليه أنه أنفق في أول سنة من قيامه في دون الستة الأشهر نيفا وثلثمائة ألف درهم أكثر ذلك مما رزقه الله تعالى من البر والنذور، ولقد كان يستقل الكثير للسائل ويعتذر مع الإنعام العريض الطائل، وما ظنك بواحد بذت عطاياه عطايا الملوك الجزيلة حتى زاحمهم على مملكتهم، واستولى على معاقلهم، ولقد كان يتهلل للوافد والسائل كأنه المعطى كما قال زهير في مدح هرم بن سنان:
Page 20