تصدير
الكتاب الأول
تمهيد
1 - المبدأ القومي
2 - القومية: أصولها الفلسفية
3 - القومية: أصولها التاريخية
الكتاب الثاني
تمهيد
الباب الأول: الآراء الجديدة
1 - التعريف بالثورة وأسبابها
2 - الفلاسفة والآراء الجديدة
3 - فوضى النظام القديم
4 - الفيزوكرات: القائلون بحكم الطبيعة
5 - محاولات الإصلاح وفشلها: «ترجو» و«نكر»
الباب الثاني: ديمقراطية أم ديكتاتورية بورجوازية
1 - مجلس طبقات الأمة1
2 - الجمعية الوطنية التأسيسية1
الباب الثالث: الديكتاتورية البورجوازية
1 - الجمعية التشريعية1
2 - المؤتمر الوطني1
الباب الرابع: «إنهاء الثورة» والتمهيد لديكتاتورية الفرد
1 - جمهورية حكومة الإدارة1
الباب الخامس: الثورة وأوروبا
1 - سياسة الثورة
2 - «الثورة» واليقظة القومية
تصدير
الكتاب الأول
تمهيد
1 - المبدأ القومي
2 - القومية: أصولها الفلسفية
3 - القومية: أصولها التاريخية
الكتاب الثاني
تمهيد
الباب الأول: الآراء الجديدة
1 - التعريف بالثورة وأسبابها
2 - الفلاسفة والآراء الجديدة
3 - فوضى النظام القديم
4 - الفيزوكرات: القائلون بحكم الطبيعة
5 - محاولات الإصلاح وفشلها: «ترجو» و«نكر»
الباب الثاني: ديمقراطية أم ديكتاتورية بورجوازية
1 - مجلس طبقات الأمة1
2 - الجمعية الوطنية التأسيسية1
الباب الثالث: الديكتاتورية البورجوازية
1 - الجمعية التشريعية1
2 - المؤتمر الوطني1
الباب الرابع: «إنهاء الثورة» والتمهيد لديكتاتورية الفرد
1 - جمهورية حكومة الإدارة1
الباب الخامس: الثورة وأوروبا
1 - سياسة الثورة
2 - «الثورة» واليقظة القومية
الصراع بين البورجوازية والإقطاع 1789-1848م (المجلد الأول)
الصراع بين البورجوازية والإقطاع 1789-1848م (المجلد الأول)
تأليف
محمد فؤاد شكري
تصدير
بسم الله الرحمن الرحيم
تبين أثناء تدريس تاريخ أوروبا في القرن التاسع عشر أن هناك حاجة ماسة إلى
ولعل السبب في انصراف الكتاب عن معالجة التاريخ الأوروبي، والاقتصار على نشر
ولقد حاولنا في هذه الدراسة أن نعرض «تفسيرا» لتاريخ القرن التاسع عشر، يقوم على
وفي هذا القسم من التاريخ الأوروبي (1789-1815) عالجنا منشأ الفكرة القومية
وسوف يجد القارئ أننا قد عنينا - على وجه الخصوص - ببيان الأثر العميق - سواء من
ولقد كان هذا العرض ضروريا لتوضيح الأسباب التي أدت إلى «بعث» الإقطاع من جديد،
ونحن لا يمكن أن نكون من السباقين في هذا النوع من التفسير. فنضال الطبقات في
نرجو أن نكون قد وفقنا فيما حاولناه، والله من وراء القصد.
المؤلف
العباسية
15 شعبان 1377 / 6 مارس 1958
الكتاب الأول
المدخل إلى تاريخ القرن التاسع عشر
تمهيد
يبدأ تاريخ القرن التاسع عشر في أوروبا بقيام الثورة الفرنسية (1789)، ويستمر قرنا
والسبب في اختيار هذين الحدثين لتعيين بداية ونهاية هذا القرن أن التاريخ الأوروبي
فقد اقترن ظهور الطبقة المتوسطة (البورجوازية) في أوروبا، في بداية العصور الحديثة
فعرفت أوروبا خلال القرون الثلاثة السابقة من السادس عشر إلى الثامن عشر الملكيات
ولقد كان اكتمال ونمو الدولة الوطنية المتحررة الحدث البارز في تاريخ القرن التاسع
ولا جدال في أن البورجوازية التي ظفرت بإنشاء الدولة القومية (الوطنية) المتحررة،
بل لقد عمدت البورجوازية إلى تغيير أسس الحكم القديمة بصورة تفسح المجال لأن يشارك
وسار جنبا إلى جنب النضال من أجل التحرر القومي والخلاص من السيطرة الأجنبية، ثم من
Liberalism .
وفي القرون الثلاثة الماضية، والتي سبقت قيام الثورة الفرنسية، كان قد أخذ ينمو إلى
Capitalism . وعزز النظام الرأسمالي سلطان البورجوازية، حتى إنه لم
ومع أن البورجوازية أشركت معها في النضال ضد الملكية المطلقة أرباب الحرف
غير أن ظهور ونمو الطبقة المتوسطة «البورجوازية» في إطار الدولة القومية (الوطنية)
Serfdom
في العهد الإقطاعي، لم يلبث
بل إن المذهب الاشتراكي
Socialism
كان قد بلغ درجة
وكان انتشار الانقلاب الصناعي من العوامل التي تسببت في زيادة حدة هذا الصراع؛
، وهي الطبقة التي أحرزت نجاحا ملحوظا في نهاية هذا
وهكذا خضع تاريخ القرن التاسع عشر (1789-1914) لتأثير عوامل معينة: المبدأ القومي،
ولقد كان لبعض هذه العوامل آثار أبلغ ظهورا من غيرها في مراحل معينة من تاريخ هذا
وفي بداية القرن التاسع عشر (1789) كان الحدث الظاهر هو نضال البورجوازية ضد
ولا جدال في أن عهد السيطرة النابليونية في هذه القارة قد أدى إلى تأكيد النصر
وفي نهاية هذا القرن التاسع عشر (1914) كانت الدولة القومية التي تقوم حكوماتها
وفي كل هذه الأحوال كانت «القومية» طراز الدولة، سواء كانت هذه اشتراكية وطنية لا
ولذلك؛ فقد كان المبدأ القومي من أهم العوامل التي ذكرناها، وأبعدها أثرا في توجيه
ونحن في ضوء الاعتبارات التي ذكرناها سوف نحاول معالجة تاريخ النصف الأول من القرن
وتلك حقيقة يسهل إدراكها عند تتبع تاريخ المبدأ القومي: نشأته وذيوعه في أوروبا من
الفصل الأول
المبدأ القومي
التعريف بالقومية
ينطوي المذهب القومي على «فكرة» و«مبدأ»، فالفكرة معناها: الارتباط بمصالح
والمبدأ هو: إخراج الفكرة إلى حيز الوجود، وكضرورة لازمة لتفسير أحداث التاريخ
والمبدأ القومي كان أظهر القوى الدافعة أو المحركة في القرن التاسع عشر، مثله
ولما كانت الدولة القومية ثمرة المبدأ القومي؛ فقد وجب لظهور المبدأ القومي
ومن أول الأمر لا مفر من التفريق بين الدولة والأمة؛ فالدولة هي الشكل
فالدولة قبل كل شيء حقيقة واقعة، ثم هي في الوقت نفسه فكرة قانونية مستمدة من
والدولة لذلك في استطاعتها أن تؤلف بين العناصر التي تعتمد عليها في تكوينها،
على أن هناك فوارق ظاهرة بين الدولة والأمة؛ فالأمة ليست فكرة قانونية، بل هي
ولقد فهم أهل العصور الوسطى «الأمة» بمعنى أنها الأصل أو الأرومة التي نبت
فالأمة في اعتبار هؤلاء كانت الدولة؛ ولقد عرفوا «الوطنيين»
بأنهم أولئك الذي تمسكوا بالآراء الجديدة في كل ما
وفي هذه الصورة الأخيرة اتسعت «فكرة» الأمة لتشمل في معناها عناصر مشتركة بينها
وثمة تعريف آخر للأمة بمعنى أنها: مجموعة الأفراد الذين يعيشون مجتمعين على
وفي ضوء هذا التعريف يتضح أن الأمة بمعنى المجتمع السياسي مرتبط كيانها
وهناك فارق بين الأمة وشعوبها (أو سكانها) المنتسبة إليها، وبين «الوطن» الذي هو
على أن هذه الفوارق الملحوظة في كل المعاني التي ذكرناها لم يعد لها وجود في
Nationalism
كفكرة ومبدأ - أي في أصولها الفلسفية والتاريخية - كانت
وعلى ذلك قد يكفي أن يذكر المرء أن الأمة معناها: الشعور بوجود مثل
أما القومية فلها معان متعددة؛ من ذلك: المعنى «القانوني» إذا أريد بالقومية
Stael
الفرنسية كانت أول من استخدمه في العصر الحديث.
ومدام دي ستال (1766-1817) ابنة المصرفي السويسري الأصل «جاك نكر»
Necker
الذي تولى الوزارة في فرنسا في عهد
De l’Allemagne ، وظهر فيه مصطلح
Claude Boiste
معجما في اللغة الفرنسية
Lortat
كتابا عالج فيه صاحبه بوضوح القومية وروح الشعوب
ثم حدث أن بدأ في سنة 1834 ينشر كل من بوشيه
Buchez
ورو
Roux
بالتعاون فيما
أما وقد صار الآن هذا المعنى الذي أراده مسلما به، فإن المقصود «بالقومية»
ولقد قبلت الأكاديمية (المجمع العلمي) في فرنسا في معجمها الذي نشرته في سنة 1835
ومما تجدر ملاحظته أن هناك دولا لا يمكن اعتبارها أمما أو أن لها طابعا
وعلى ذلك؛ فقد تعذر دائما أو أكثر الأحايين من الناحية التاريخية أن يكون
ولقد قامت صعوبات ومشاكل، كان لا ندحة عن محاولة معالجتها وتذليلها في طريق
فإذا انتشر الشعور القومي بين شعب يعيش في أقاليم متفرقة «جغرافيا» بحيث يجعل
ثم إن القومية يدخل في تكوينها عدة عوامل لا غنى عن توفرها لنشأتها كذلك، كاللغة
على أن هذه النظريات لا تلبث أن تنتقل من ميدان الفكر الفلسفي إلى عالم
ولقد كان الانتقال إلى عالم السياسة؛ أي العمل من أجل «تطبيق» الفكرة القومية،
ولا يعنينا بحث هذه النظريات أو الدخول في جدل فلسفي أو سياسي لإظهار قيمتها،
ولعل أهم الحقائق التي يجب ذكرها في هذا الشأن أنه لما كان «لفكرة» الأمة
ومعنى ذلك دراسة الحركات القومية، في القرن التاسع عشر، ودون حاجة لدراسة «فكرة»
الفصل الثاني
القومية: أصولها الفلسفية
القومية كفكرة نظرية: كان لانتشار القومية - كفكرة ومبدأ - الأثر الأكبر في تشكيل كل
والقومية كفكرة: يقصد بها تحرر الشعوب من كل سيطرة أجنبية عليها، وكمبدأ أو كقوة
ولقد كان كل واحد من هذه العوامل ينطوي على رغبة في الاستئثار بالسلطة، وامتداد
وظهور مبدأ القومية - وما تفرع عنه وارتبط به من آراء ومذاهب حرة، وديمقراطية تهدف
على أن فكرة القومية نفسها لم تكن وليدة هذه «الثورة الفرنسية» وحدها، بل لقد شهدت
فقد ظهرت بوادر الفكرة القومية بين سنتي 1760، 1770 في إيطاليا، حيث تصدى لمعالجة
Maffei ، «موراتوري»
Muratori . وفي
تاريخه «السلافي البلغاري» الذي تناول فيه قصة الشعب
ثم نشر بعد سنوات قليلة (1772) جرهارد
Gerhard Shoning
تاريخا للنرويج، كما ظهرت بعد شهور عديدة أنشودة «قومية» أو
وفي ألمانيا كتب «جيته»
Goethe
في موضوع الوطنية، أو
وتلك أحداث تدل جميعها على أن الشعور بالقومية كانت قد بدأت تظهر بوادره في هذا الحين
Samuel Adams
في ولاية «ماساشوسيت» بأمريكا الشمالية، في شتاء 1772-1773 يعد
وكانت هذه «ظواهر» متفرقة ولا سبيل للقول بأنها تنهض دليلا على أن هذه الشعوب التي
ولكن من ناحية أخرى لا جدال في أن حدوث هذه «الظاهرة» في أماكن مختلفة في وقت واحد
على أنه مما يجدر ملاحظته كذلك أن هذا العهد المتقدم قد شاهد كذلك بداية ظهور
(1) المدرسة الفرنسية
ومن المعروف أن فرنسا كانت قد اكتمل تكوينها السياسي من أزمان طويلة، فبات
Contrat ، بوصف التعاقد أساسا
في العصور الوسطى، عبر عن هذا الرأي فيليب
في برغنديا، وذلك أمام مجلس الطبقات الذي انعقد سنة 1484 عقب
وثار جدل طويل عقب ذلك بين إسبانيا وفرنسا حول هذه المسألة، بسط فرنسوا الأول في
وفي 16 ديسمبر 1526 اتخذ برلمان باريس قرارا نفى فيه أن للملك حق التنازل إلى
ولقد تأيدت هذه الآراء «الديمقراطية» و«القومية» أو الوطنية التي نادى أصحابها
Hotman ، وهو من أعلام
وتلك نظرية تفتقر من الناحية التاريخية لما يؤيدها. ومع ذلك فالذي يعنينا من
على أن هذه النظرية التي جعلت قيام «الأمة» مستندا على موافقة الشعوب
Bresse
وبوجي
Bugey ، ويقعان بين
فقد أعلن الملك الفرنسي إلى المفاوضين الإسبان أنه يبغي أن يبقى للإسبان لغتهم
Sully
وزير هنري الرابع: «على المرء أن يفكر طويلا قبل الإقدام
وعندما طرحت مسألة اللورين على بساط البحث بين الفرنسيين وسفير الإمبراطور
La vauguon
سنة 1685،
وواضح أنه من المتعذر على المرء أن يلمس في أقوال هؤلاء الملوك الفرنسيين
بل إن هذه «التقاليد» القديمة ذاتها هي التي أفضى وجودها إلى بروز نظرية واضحة
ولقد كانت هناك أسباب عديدة جعلت ضروريا التفكير من أجل ابتداع هذه النظريات
Bollainvilliers
سنتي 1727، 1732 من بحوث
Hugues Capet ، ثم عن طبقة الأشراف. فعرض النظرية القائلة بأن الفرنجة
ولم يمض هذا «الرأي» دون مناقشة؛ فقد تصدى للرد عليه أحد رجال الدين وهو
L’Abbé
الذي نشر سنة
ولقد دار حول هاتين النظريتين المتعارضتين:
وثمة سبب آخر هو أن «الأدباء» وأهل الرأي من المعاصرين سرعان ما نزلوا إلى
Burelamaqui (1694-1748)،
ولقد أخذ هؤلاء المفكرون على عاتقهم أن يبحثوا من جديد كل الآراء القديمة عن
d’Argenson
في «جورناله» بتاريخ 26
أن الآراء القومية والوطنية هي السائدة الآن؛ مما قد يكون له آثار بعيدة،
ولا شك أن إخضاع هذه المسائل لقوة التفكير العقلي؛ أي تحكيم العقل فيما يعرض من
ولقد كاد ينجم عن الانتقال إلى هذا التفسير الواسع لفكرة الأمة خطر القضاء على
فقال بيير فرنسوا روبير
من
إني أحب جميع الناس، وأحب على وجه الخصوص الأحرار جميعهم. ولكن محبتي ولا
تلك إذن كانت الأسباب التي جعلت التفكير في صياغة «نظريات» معينة لتفسير مدلول أو
أما «النظرية» نفسها التي جاءت نتيجة لإخضاع الموضوعات المتصلة بالأمة والدولة
Rousseau
في سنة 1762 كتابه المشهور عن «العقد الاجتماعي»، ثم كتابه الآخر في سنة 1772 عن
1
وينهج روسو في البحث طريقا يتفق مع ما يتبعه أصحاب الموسوعة
2
التي نشرت في سنة 1754:
دعونا نترك جانبا كل الوقائع!
فعند روسو، كما هو الحال مع «الإنسيكلوبيديين» ليس القياس الفرضي أو
وأما هذه الوقائع والأحداث فكانت كما عرفها وذكرها روسو أن الإنسان قد مر
état Naturel ، تتلوها الحياة الوحشية
état sauvage ، لتأتي بعدها الحياة
état Social ؛ وهي الحياة الراهنة التي وصفها روسو بأنها ملآنة
état civil ، وفي هذا الدور الأخير يتحد الناس لإعادة بناء الدولة
على أن روسو لم يتناول في كتاباته موضوع «القومية» أو «الوطنية» كمسائل قائمة
3
وهو يصف نفسه أنه رجل ينتمي
l’homme du monde ، يحترم أعمق الاحترام القوانين والأنظمة الوطنية (أي
ومع ذلك كله فقد كان روسو صاحب آراء في الوطنية أو القومية ساعدت على تفسير هذه
Volonté Générale
عن الإرادة الفردية
Volonté Individuelle
السائدة في دور
être collectif ، أو مجموعة أو
ولقد كانت نظرية العقد الاجتماعي تنطوي كذلك على فكرة إخضاع الدولة بوصفها كائنا
ولم يغفل روسو في تفكيره السياسي - وخاصة فيما يتعلق بمسائل الدين - وجود
ولقد أوضح روسو هذه الفكرة بجلاء في رسالته السالفة الذكر عن «الحكومة البولندية»
ويتضح مما تقدم إذن أن أقوال روسو نفسه لا تعنينا بقدر ما يعنينا إدراك حقيقة
ولقد عمد تلامذة روسو وأتباعه إلى صقل تلك الفكرة التي أمكن استخلاصها من كتاباته
Emanuel Kant (1724-1804)، الذي انتهى في
واعتقد «كنط» أن القوانين الأخلاقية واحدة، بالنسبة للفرد والأمة على حد سواء،
أما صاحب الأثر الواضح في نمو نظرية روسو وتطورها؛ فكان أحد رجال الدين
L’abbé Mably
الذي نشر في سنة 1763 بحثا فلسفيا بعنوان محاورات أو مذكرات «فوسيون»
في موضوعي الأخلاق والفلسفة،
4
و«فوسيون» هو القائد والخطيب اليوناني (من أثينا) الذي حكم عليه بتناول
ولقد نشر «مابلي» بعد ذلك بعامين كتابا آخر بعنوان «آراء أو ملاحظات عن تاريخ فرنسا»
5
وفي هذين البحثين نجح «مابلي» في دعم أركان مبدأ المساواة، بل ومبدأ
وإمعان الفكر في النظريات التي أتى بها كل من روسو وكنط ومابلي يكشف عن حقيقة
على أن المفكرين في فرنسا لم يقصروا بحوثهم على ابتداع المبادئ النظرية فحسب، بل
6
واشتمل على مشروع لتقسيم أملاك الإمبراطورية العثمانية جعله
ولقد حدث في الوقت الذي كان يكتب فيه روسو ومابلي بحوثهما، كانت الولايات
ومع ذلك، فلا جدال في أنه كان «للثورة الفرنسية» الفضل في انتقال هذه الآراء
والدليل على ذلك أن «إعلان حقوق الإنسان والمواطن» الصادر في 26 أغسطس سنة 1789
ولقد أمكن الوصول من هاتين الفكرتين الأساسيتين إلى نتيجة مزدوجة؛ شقها الأول
ومثل الأمم والشعوب في التمتع بهذا الحق مثل الأفراد الذين يكفل لهم «إعلان حقوق
ولقد كرس دستور الثورة الأول (3 سبتمبر 1791) هذه المبادئ عندما أعلن في فصله
وحرصت فرنسا في عهد الثورة على دعم نظرية العقد الاجتماعي بصورة عملية، ثم إنها
La Fédération
يوم 14 يوليو 1790 ذكرى سقوط الباستيل الذي حصل
وفيما يتعلق بالأمر الثاني، إن الثورة عندما ضمت إلى فرنسا مقاطعتي فنيسان
Comtat Venaissin
و«أفينيون»
Avignon ، وكانتا تابعتين للبابوية منذ القرن
ومن الواجب قبل الخضوع لسيطرة أخرى أن يسبق ذلك الدليل على وجود هذه الموافقة
Barnave
وبتيون
وغيرهم. كما تصدى من ناحية ثانية آخرون لمعارضتها، من
Tronchet
القانوني الذي استند
Mirabeau
السياسي الذي لم يعتبر الظرف مناسبا؛ ولكن سرعان ما
ولقد استندت «الثورة» على هذه «النظرية القومية» نفسها عندما أرادت أن تضع
ولقد عمد أهل ستراسبورج (الإلزاسيون) للإفصاح عن رغباتهم وإرادتهم في تقرير
وفي 31 أكتوبر 1790 جاء في تقرير اللجنة السياسية التي عهدت إليها الجمعية
Merlin de Doueai
أن الشعب الإلزاسي متحد
Munster - (وهذه مع معاهدة
Osnabruck ) قام على أساسها صلح
Vassals
للإمبراطور مباشرة في الإمبراطورية
والحقيقة أن الثورة اتبعت هذه الأساليب نفسها؛ أي الاستناد إلى «النظرية
وقال جريجوار
Grégoire
عضو المؤتمر الوطني
وهكذا ظهر إلى عالم الوجود في فرنسا من الناحية النظرية والواقعية «قانون عام»
تلك إذن هي النظرية الأولى، وهي نظرية جوهرية في موضوع القومية، وكانت تستند في
(2) المدرسة الألمانية
وتغاير نظرية المدرسة الفرنسية (الفلسفية) النظرية التي أخذت بها المدرسة
ولا معدى لإدراك النظرية الألمانية عن معرفة الأدوار التاريخية التي مرت بها
فلم يكن لمدلول «الدولة» القائمة على مساحة معينة من الأرض أي وجود في فكرة
والإمبراطور هو الذي يمثل الفكرة المسيحية في عالم السياسة، كما يمثل البابا هذه
على أن هذه الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة التي امتدت غربا
Otto
العظيم (936-973)، وذلك نتيجة
Marks
التي أقيمت على
ومع ذلك، فإن حدود الإمبراطورية الرومانية (الجرمانية) المقدسة في
وذلك توزيع كما هو واضح من شأنه تهيئة العوامل التي تجعل من المحتمل كثيرا في
وهكذا انفصلت فكرة السيادة العليا الألمانية التي نبتت أصلا كفكرة إمبراطورية عن
ولقد كانت التجربة الثانية من بعض نواحيها مناقضة لهذه التجربة الأولى. ومرد
ولقد صار لبروسيا شكلها السياسي بعد خطوات كان أسبقها إنشاء براندنبرج إمارة
ويرجع الفضل فيما بلغته بروسيا وقتئذ من بأس وقوة إلى تنظيمها البيروقراطي
وهكذا فيما يتعلق بالقومية صارت بروسيا مثالا ظاهرا لما يمكن أن تحدثه وتوجده
حتى إنه مما يدعو للعجب حقا أن ينتشر الإصلاح الديني في ألمانيا على يد مارتن
Hegel - جورج وليم فردريك هيجل - (1770-1831) فيما
على أن ذلك كله قد أسفر عن نتيجة هامة أخرى متولدة من ذلك التأثير الذي
وهو شعور شارك فيه شاعر ألمانيا «جيته»
Goethe (1749-1832) الذي سجل في «مذكراته» إعجابه ببروسيا، أو على الأصح بملكها
Kleist
و«جوهان جلايم»
Gleim
و«توماس
Abbt
وغيرهم.
على أن كل هذا التمجيد والإعجاب كان ينطوي على تناقض ظاهر؛ لأن «الدولة»
وثمة عامل آخر ساعد على بناء «القومية» الألمانية لم يلبث بعد فترة من الزمن
من وقت لآخر في كتابات ورسائل
ففي النزاعات التي أثيرت بين فردريك الثاني وبين ماريا تريزا
Maria Theresa
التي تولت عرش الإمبراطورية
على أنه بعد سنوات قليلة من انقضاء هذه الحروب، لم يلبث أن حدث في سنة 1769
ولقد حاول فردريك وليم الثاني (1786-1797) عند اعتلائه عرش بروسيا أن يؤسس نفوذه
Mirabeau
لم يلبث أن وصف العاهل
ومع ذلك، فمما يجدر ذكره أن هذه الأقوال والتعبيرات عن الوطن والحريات
وعلى كل الأحوال كانت النتيجة الظاهرة لهذا التطور التاريخي أن ألمانيا لم
Chevalies
، وتبلغ مساحة هذه الأراضي أقل من مائتي فرسخ مربع
ثم هناك المدن الإمبراطورية وعددها واحد وخمسون مدينة وسكانها سبعمائة ألف نسمة،
Mainz
وعدد سكانها ثلاثمائة وخمسون ألفا، وتريف
Trèves
وكولونيا
Cologne ، وعدد سكانهما مائتان وثلاثون ألفا، ثم ورتزبورج
Wartzbourg (320000)، ثم بامبرج
Bamberg (200000) وغير ذلك.
وتؤلف هذه الإمارات الكنسية والمدن الإمبراطورية سبعا آخر من مساحة ألمانيا. أما خمسة الأسباع الباقية فتتألف منها إمارات أو دوقيات يحكمها أمراء أو أدواق،
» وعدد سكانها مليونان ومائة ألف. وأصغر هذه الإمارات كان في حجم بادن
Baden
ونساو
Nassau
وعدد سكان كل منهما مائتا ألف
وهذا الدويلات الثلاثمائة والستون موزعة في عشر دوائر
Circles
أو مجموعات، لكل دائرة أو مجموعة منها مجلس «دياط»
Diet ، ومهمة الدياطات أو «المجالس» الدفاع العام أو
Diète
الذي كان في الماضي عبارة عن اجتماعات «مؤقتة» تنعقد
Ratisbon
سنة
وكان هذا الدياط يتألف من ثلاث كليات
Colleges
أو طبقات
Estates :
Electors
وعددهم سبعة؛ ثلاثة منهم من الإكليروس (رجال الدين)
وأما الطبقة الثانية فتتألف من الأمراء الذين كانوا قسمين: أمراء علمانيين
ولاتخاذ قرار من القرارات كان ضروريا موافقة طبقتين من هذه الطبقات الثلاث، ومع
ولم يكن هناك «حكومة» في هذا النظام السياسي في ألمانيا. فلم يكن الدياط حكومة،
Chambre Impériale
ومقرها في وتزلار
Wetzlar
من أعمال نساو. ولم تبد هذه الغرفة أي نشاط في
وهكذا لم يكن معنى «الدولة» في التنظيم السياسي في ألمانيا أن هناك أمة
فالوطنية التي وجدت في ألمانيا كانت «وطنية» مجزأة بعدد الوحدات المحلية التي
وعلى ذلك، ففي حين تعذر خروج ألمانيا إلى حيز الوجود في أواخر القرن الثامن عشر
Leibnitz (1646-1716)، حتى إذا انقضى هذا العهد المضطرب بدأت فترة
Rationalists
أتباع ليبنتز الذين
Gellert ، والروائي المسرحي
Gottsched
الذي حاول إنشاء مسرح
و«المستنيرين»
Illuminés
الذين استنارت بصائرهم. ولقد ترتب على هذا
وهذا الأدب الألماني إنما تتفق نشأته مع ارتقاء الطبقة المتوسطة (البورجوازي)
ثم ينهض دليلا على وجود هذا النشاط الذهني لدى البورجوازية ما ظهر من اهتمام
Gottingen
الجديدة في سنة 1733، والتي قامت على أسس تربوية مختلفة
ولقد ترتب على ارتقاء الطبقة المتوسطة (البورجوازي) وإصلاح الجامعات أن تكون
واتفق مع وجود هذا النشاط الذهني وكان من آثاره - وهو كذلك أحد عوامله - بروز
Wieland
وكلوبستوك
Klopstock .
7
ونشر هذا الأخير أهم قصائده حوالي سنة 1748، ثم صار له تلاميذ كثيرون
نذكر من هؤلاء الشاعر جوهان هنريك فوس
Voss ،
Burger ، والأشقاء ستولبرج
Stolberg ، وفي عالم الفلسفة والأدب جوهان يواكيم وينكلمان
Winckelmann
مؤرخ الفنون والعصور
وأخيرا نذكر «ليسنج»
Lessing
8
الذي بلغت على يديه في هذا العصر حركة «التنور»
Aufklarung
في الأدب والنقد ذروة تطورها، والذي يعتبر بحق محرر
و«لسينج» هو الذي أوجد المسرح القومي أو الوطني عندما كتب أولى مسرحياته، وهي
9
في سنة 1767. ثم توج حياته الأدبية بكتابة مأساته الخالدة «ناثان
Schiller ، و«كنط»، وهردر
Herder .
تلك إذن كانت معالم الحركة الأدبية التي تميزت «بألمانيتها»، والتي شقت لنفسها
على أنه مما يجدر ملاحظته - فيما يتعلق بالقومية - أن هذه الحركة الأدبية
فيكتب «جيته» مثلا في سنة 1772:
إنه لمما يسبب لي التعب والانزعاج أن أسمع قائلا يقول: إن الشعور
ولطالما شعر هؤلاء الكتاب والفلاسفة بالغبطة العظيمة لأن ألمانيا على حد
Schiller (1759-1805) يكتب في سنة 1789 ما
ولقد اعتقد الذين كانوا أكثر «ألمانية» من بين هؤلاء الكتاب والمفكرين أن
وتلك الآراء هي التي كانت تدور عليها المناقشات التي أثيرت في ألمانيا وقت
Hierarchy ، أو نظام المراتب الحكومية.
وإلى جانب فكرة المساواة الطبيعية التي أخذ بها هؤلاء المصلحون السياسيون كانت
والسبب في أن هؤلاء المفكرين والفلاسفة لم يكن يستأثر بحبهم قطر أو وطن واحد
ومع ذلك؛ فنحن إذا أمعنا النظر في آراء هؤلاء الفلاسفة والمفكرين الألمان،
والحقيقة أنه كان لكتابات روسو وقع عظيم في ألمانيا، ولو أن ألمانيا لم تتأثر
Emile
و«إلواز
Nouvelle Héloise ، وهما كتابان تربويان في صميمهما.
وثمة ملاحظة أخرى هي أنه قد ترتب على الفكرة القائلة بوجود «ألمانيا» من
وواضح مما تقدم إذن أن الأمة الألمانية التي ظهرت في عالم الوجود في آخر القرن
Johann Gottfried
(1744-1803).
القومية لدى هردر
ولد «هردر» في إحدى قرى موهرونجن
Mohrungen
من أعمال بروسيا الشرقية. كان أبوه مدرسا رقيق الحال، ترك أثرا ظاهرا في
كما حدث مصادفة بعد فترة من الزمن أن مر بالقرية جراح روسي أعجب بهردر،
Konigsberg
ليعلمه
Rige
ليقوم
Holestein ؛ مما هيأ
Weimer
استقدم إليها
وفي كل أدوار حياته أبدى «هردر» تشوقا للازدياد من المعرفة؛ معرفة كل شيء،
وبالوقوف مليا عند كل مرحلة من مراحل حياته يتسنى لنا إدراك حقيقة آرائه
Ossian ، وتعلم «هردر» اللغات الأجنبية جميعها تقريبا
Lapland .
وانكب بنفس الحماس على قراءة «الكتاب المقدس» وشيء من الشعر في «الشرق»، إلى
10
ونحا فيه منحا جديدا، فلم يقتصر نقده الأدبي على وزن ما كتبه
ولا ريب أن ذلك كان منحى جديدا استتبع إدراكا جديدا لكل تلك العناصر
واقتضاه الاستعداد والتهيؤ لوضع النظام الجديد الذي أراده للتعليم أن يقوم
وفي هامبروج قابل «جوتهولد أفرايم ليسنج» فأنشأ معه صلات وثيقة. ولقد استطاع
11
نشر بعد ذلك في سنة 1772.
وتتفق بداية المرحلة الثالثة في تطور آرائه مع استدعائه إلى «فايمر» في
ولقد عني «هردر» كذلك بدراسة أخرى هامة هي دراسة فلسفة التاريخ؛ فنشر بين
12
ثم ما لبث حتى نشر في سنة 1793 رسائله عن تقدم الإنسانية،
13
وكان أثناء هذه المرحلة أن نشر «هردر» كذلك في سنة 1778 مؤلفه عن
14
وهو عبارة عن مجموعة من القصائد والأناشيد الشعبية من مختلف
وبفضل هذا الإنتاج الأدبي الضخم كسب «هردر» شهرة واسعة في ألمانيا كما كسب
Sturm und
. ثم إن الفضل يعزى إلى «هردر» كذلك في إنشاء
Guizot - من أعلام المفكرين الفرنسيين فيما
ولقد اعتمد «هردر» في بحوثه وتفكيره على الفهم والإدراك الذهني، ثم دعم ما
فالإنسانية في رأيه في حدود بلد من البلدان لا تعدو أن تكون «مجموعا كليا»
Spinoza
الهولندي (1632-1677)، والتي لم تكن
ونحا «هردر » منحى جديا عند دراسته الأدب وتاريخ اللغة، ساعد إلى جانب ما
ولقد ترتب على الأخذ بهذه الأقوال أن حصل تجديد أدبي واسع النطاق صار مصدر
ويتفرع عن هذه الفكرة بصورة من الصور الرأي القائل بأن اللغة أو لسان
والكاتب العظيم حقا هو الذي تتسم اللغة التي يكتب بها بالطابع الوطني
تلك إذن كانت الآراء التي استندت عليها نظرية «هردر» في القومية. «فالأمة»
ومع أن «هردر» في كل بحوثه في الأدب والفن وأصول اللغة كان ينتزع الأمثلة
ومن أقواله المأثورة أن الفخورين بقوميتهم أكثر الناس بلادة ذهن مثلهم في ذلك
وهكذا وصل «هردر» إلى مفهوم للقومية يستند على عناصر تختلف تماما عن تلك
وأما هذا المفهوم والمعنى الذي جاء به «هردر» لنظرية القومية؛ فقد انتشر في
الخلاصة
وهكذا وجدت عشية اندلاع «الثورة الفرنسية» نظريات في موضوع «القومية» اختلفت كل
ولم يكن مفهوم القومية في هذين الحالين نتيجة المصادفة أو الظروف الطارئة، بل
تلك إذن كانت الأصول النظرية أو الفلسفية (والمثالية) للحركة القومية في
الفصل الثالث
القومية: أصولها التاريخية
تمهيد
تستند القومية إلى أصول تاريخية، كاستنادها إلى الأصول الفلسفية والنظرية التي
فلا يجوز الاعتقاد بأن التاريخ يعرض فجأة ودون سابق إنذار مشهدا للقوى
ونظرية القومية كغيرها من النظريات إنما تسلك هي الأخرى هذا الطريق نفسه، فتمر في
ولم يكن تكوين هذه القوميات «صناعيا»؛ فلقد كان لها وجود مستكن قبل بروزها
وعلى النقيض من ذلك، فهناك أمم كانت تتمتع بحياة مستقلة واحتفظت بذاتيتها
ويكفي أن تطرأ مناسبات تاريخية معينة، حتى تستيقظ هذه القوميات من سباتها ،
لقد شهد القرن الثامن عشر في السنوات الأخيرة منه تجربة صحيحة تشير إلى ما كان
وعلى ذلك سوف يشمل البحث في أصول حركة «القوميات» من الناحية التاريخية دراسة هذا
بولندة
لم يكن يوجد ببولندة وقت التقسيم الأول (1772) شعور قومي، كما لم تكن بولندة
ووارسو من جهة، ومن كراكار
Lublin
من جهة أخرى، وكان حول هذه
Louis D’Anjou
ملك بولندة من «جاجلون»
Jagellon
غراندوق ليتوانيا سنة 1386، فتضاعفت
Kiev
ونهر
Dineper
والفتوح التي فتحوها، وكذلك
Tergowicz
على
وأما الحادث الثالث فكان سببه الإصلاح الديني، وذلك بأن الأمراء الذين
Livonia
وكورلاند
Courland ، ووصلت أراضيها حتى خليج
ولقد كان طبيعيا أن تطرأ تعديلات على حدود هذه الدولة البولندية في مختلف مراحل
ومع ذلك لم يكن لدولة بولندة من الناحية السياسية وجود ما، أو أنها كانت قائمة
وهذه الطبقة التي لا يزيد عددها على مائة ألف وحسب لم يوجد لديها أي شعور بضرورة
Liberum Veto
يستطيع بفضله أي نبيل من النبلاء (الذين تتألف منهم هذه
Confederations . وثالثا: نصا يجعل الملكية
.
وبذلك استطاع النبلاء البولنديون أن يحطموا سلطة الملك تحطيما، ولم يكن هؤلاء
ولم يوجد في بولندة طبقة متوسطة (بورجوازية) بالمعنى المعروف، والتي تشغل في
أما الطبقة الدنيا، فكانت تتألف من كتلة الفلاحين الضخمة، الذين رسفوا في
Mably
عند كلامه عن حكومة بولندة، فقال: إن السادة «الأسياد» النبلاء البولنديين لم يكن
وواضح أن مجتمعا هذا شأنه كان من المتعذر أن يتم فيه توحيد أو
وعلى ذلك كان تقسيم بولندة في سنة 1772 عند وقوعه مجرد عملية بتر لاقتطاع أجزاء
Ludomeria
وروسيا الحمراء، وأطلق النمساويون
Galicia .
وأما أن عملية البتر هذه لم يتسبب منها ضرر لبولندة، فمرده إلى أن بولندة
إلا أن هذا التقسيم لم يلبث أن أدى إلى قيام حركة صارت فيما بعد أصلا للقومية
التف فريق المصلحين هذا حول بعض الزعماء والنبلاء مثل الأمير «تزارتوريسكي»
Czartoryski
وبوتوكي
وزامويسكي
Zamoyski
وغيرهم. وكان أن انعقد من أجل تحقيق هذه الإصلاحات «دياط» في وارسو في 6 أكتوبر سنة
وتحت تأثير النفوذ الذي كان للوزير البروسي والأموال التي أنفقها على أعضاء
وأما الحركة الثانية التي كان منشؤها التقسيم الذي حدث في سنة 1772 فكانت
Konarski (1700-1733)،
)، وسنتكلم عن آرائهم بالتفصيل
ولقد تسنى وضع نظام للتعليم العام عندما ألغى البابا جماعة اليسوعيين (الجزويت)
Vilna ، وقد عهد بالإشراف على هذا الإصلاح إلى «ميشيل بونياتوسكي »
. فكان بفضل إصلاح التعليم
فقد كان مقدرا لهذه الحركة المزدوجة - سواء من أجل الإصلاح السياسي أو
ومع ذلك فالجدير بالملاحظة أن الاعتداء الذي وقع على بولندة وانتهى بتقسيمها في
ولذلك وبفضل هذه الأسباب جميعها، فإنه بدلا من انقضاء «المسألة البولندية»
هنغاريا (المجر)
وكانت هنغاريا (المجر) في آخر القرن الثامن عشر «دولة» من طراز آخر : دولة تاريخية
وتحتل مملكة المجر (هنغاريا) مركزا خاصا لا معدى عن توضيحه لعلاقة ذلك بما
وقد اعتبر «الدياط» في هنغاريا اتحاد البلاد مع النمسا بمثابة محالفة الغرض
وحقيقة وجود المجر؛ أي تمتعها بكيان قائم بذاته، ينهض دليلا عليه في عرف الفقه
Transylvania ، والتي حفظت لها وجودها القومية الهنغارية
وزيادة على ذلك؛ فقد دافعت هنغاريا عن ذاتيتها ضد الملك أو الحكم الهابسبرجي
Eugene ، فأمكن استرجاع بودابست سنة
Zenta ، ثم اضطروا في
Carlwitz
في سنة 1699 إلى
Banat Temesvar
التي لم تلبث أن
في يوليو سنة 1718، وبمقتضى هذه المعاهدة الأخيرة
Wallachia .
وهكذا بقيت المجر أثناء القرنين السابع عشر والثامن عشر محتفظة بكيانها كمملكة. بل لقد ترتب على تمسكها بهذه الذاتية «والشخصية» الخاصة بها - والدفاع عنها
Szatmar
في سنة 1711 سرعان ما أعقب إبرامها استصدار طائفة من
وهكذا ففي حين استطاع الهابسبرج خلال هذه المدة الطويلة من أواخر القرن السادس
وأثناء القرن الثامن عشر تضافرت عوامل عدة على دعم كيان المجر والمحافظة على
الذي أراد منه ضمان وراثة ابنته «ماريا تريزا» لأملاكه النمساوية؛ فقد قامت مفاوضات
ومعنى ذلك أن المجر أيدت ارتباطها بالنمسا وصار متعذرا عليها الانفصال عنها،
ولهذا المبدأ أهمية كبيرة؛ لأن تقرير ارتباط النمسا بالمجر وعجزها عن الانفصال عنها
ويمكن إيجاز الشروط التي اشترطها المجريون للاعتراف بالضمان الوراثي في أن
أضف إلى هذا ما تعهد به وارث العرش من آل هابسبرج من إدارة شئون الحكم في المجر
وهكذا، فإنه في حين قد تم الاعتراف بوجود «دولة» النمسا، ووضعت هذه نظاما
وثمة عامل ثان ساعد على دعم وجود المجر واحتفاظها بكيانها أثناء القرن الثامن
ولقد أرادت ماريا تريزا بعد حرب الوراثة النمساوية (سنة 1740-1748)، التي
ومع ذلك فالذي يجدر ملاحظته أن هذه الإصلاحات التي هدفت إلى إنشاء إدارة أو
Croatia
أقاليم
وكان هناك عامل ثالث ساعد بدوره على بقاء المجر متمتعة بكيانها وذاتيتها، ونعني
وانتهز الهنغاريون فرصة وفاته واعتلاء شقيقه ليوبولد الثاني عرش الإمبراطورية
وتألف من هذه القوانين نوع من الدستور لعل أهم ما يستلفت فيه النظر - إلى جانب
وتلك كانت عبارات صريحة قوية تؤيد ما كان للدستور المجري من طابع خاص. ولم يكن
ولم يكن الدستور الهنغاري «مسطرا» في وثيقة واحدة، بل نما وتطور حتى صار
ولقد رسمت هذه القوانين والقرارات المتناثرة - والتي صدرت في أوقات متفاوتة -
Table of Magnates ، وهم الأساقفة وكبار الموظفين وعظام النبلاء، ثم
Table of Deputies ،
Comitats
في الأقاليم
ومن الواضح أن نظاما كهذا جعل متعذرا أي تقدم سياسي، ولكن من ناحية أخرى حفظ
وهؤلاء النبلاء (المجيار) هم الذين انتخبوا فردنند الأول النمساوي سنة 1526
وعلى ذلك؛ فقد كان دستور المجر دستورا «إقطاعيا تاريخيا»: إقطاعيا لأن
ولم يوجد جهاز الحكم بهيئاته التي ذكرناها: الملك، الدياط، المجالس الإقليمية
Comitats
نظاما برلمانيا بالمعنى
والحقيقة أن المجر (هنغاريا) لم تكن أمة بل «مجتمعا إقطاعيا»: سواد
L’Indigenat ، ويفقد النبيل «نبالته» إذا
ولقد كان يزيد عدد هؤلاء النبلاء الهنغاريين عن عدد النبلاء في فرنسا سنة 1789
ولقد كان هؤلاء النبلاء متساوين ولا فوارق بينهم في نظر القانون، ولكنهم كانوا
Nobles en Sandales ؛ أي الذين ينتعلون
Magnates ، ومنهم تألفت الأرستقراطية
ولقد عاشت بين هذين الفريقين طبقة النبلاء الإقليمية، وكانت متوسطة الحال،
Comitats
وفي مجلس النواب في الدياط، وتزعمت
ففيما يتعلق بالأمر الأول: إن المجر عند انتشار الإصلاح الديني اعتنقت
وكانت هذه الكنيسة صاحبة ثراء عريض وقوة عظيمة، وكان لرجال الدين «الإكليروس»
Table des Magnats
كما
وعندما ازدهرت الحياة في البلاط النمساوي في عاصمة الهابسبرج أيام شارل السادس ثم
وهؤلاء النبلاء الهنغاريون كانت لهم صلات كذلك مع الطبقات الأرستقراطية في
وهكذا صار هؤلاء النبلاء العظام عوامل نمو وتطور، أفادت منها الدولة النمساوية
أمة اليونان
واليونان أمة يختلف طرازها عن الطرازين السابقين، من حيث إن اليونان يؤلفون أمة
ومع أن اليونان خضعت لسلطان الأتراك العثمانيين منذ نهاية العصور الوسيطة، فقد
وفي الماضي أخذ العثمانيون عددا من أبناء وبنات الروم بنسبة الخمس؛ وذلك
ولقد تضافرت عوامل عدة على إنشاء هذه الأمة اليونانية، لعل أهمها أن
Dragases
الذي كان قد بدأ
وعلى ذلك فقد عقد محمد الفاتح (الثاني) مع البطريق اليوناني «جينياثيوس»
Genuatios
اتفاقا ظل موضع احترام السلاطين
Synode )
Czycus (على شاطئ بحر
Chalecdon (على الشاطئ
Dercos
في آسيا
ولقد امتد سلطان البطريركية ومجلسها (السينود) حتى شمل اليونان وجزر الأرخبيل
ولما كان الأتراك العثمانيون لم يميزوا بين الدين والأمة والدولة؛ فخلطوا بين
Mont Athos
المقدس؛ حيث وفد إليه الرهبان من أقاصي البلاد
ومن أول الأمر سلكت هذه الكنيسة الأرثوذكسية طريق المعارضة الرسمية والمستمرة
وفي آخر هذا القرن وبداية القرن التالي (الثامن عشر) عاون الأرثوذكس الأتراك
ولذلك؛ فقد بقيت الكنيسة الأرثوذكسية داخل الدولة العثمانية بمثابة الحفيظ على
وأما اليونان الكاثوليك، فقد عاش أكثرهم في مجموعة الجزر اليونانية الصغيرة من
Cyclades
في بحر إيجة
1
وذلك في شبه عزلة داخل الإمبراطورية العثمانية، وقد تمتع هؤلاء
Capitulations ، والتي كانت أصلا «منحة» من السلطان العثماني،
وكان بين اليونان الأرثوذكس واليونان الكاثوليك هؤلاء أن نشب النضال الذي اتفق
ذلك إذن كان نظام المؤسسة الكبيرة (الكنيسة الأرثوذكسية) التي امتد سلطانها حتى
ومع هذا؛ فقد وجد إلى جانب الكنيسة الأرثوذكسية تنظيم إداري آخر لا يقل في
وأما هؤلاء الذين ينتخبهم الأهلون لممارسة الإدارة فكانوا الرؤساء الذين وضع تحت
، وعرف رؤساؤهم باسم «أرماتولي»
Armatolis ، وقد ذاعت شهرة هؤلاء الباليكاريس والأرماتولي في
ولقد صارت المجالس البلدية تتمتع باستقلال كامل من الناحية العملية الواقعية في
Thasos
الكبيرة (والقريبة من شاطئ طراقيا) قام
الصغيرة بالقرب من
Chios
اضطلع بأعباء الحكم والإدارة
Gerontes
الذين اختارهم الشعب كذلك لهذه المهمة. وفي جزيرة
Hydra - وهي الجزيرة الصغيرة التي سوف
ولقد ترتب على اعتراف السلطان العثماني بوجود الكنيسة الأرثوذكسية والبلديات
واستندت هذه الحياة الروحية والفكرية عند اليونان إلى ما كان لهم من تراث أدبي
Fauriel - في سنة 1824 مجموعة من الأغاني الشعبية في «اليونان الحديثة»،
2
وكان يقصد باليونان الحديثة بلاد اليونان في العصور الوسطى، وليس في
وكان يقصد «فوريل» من نشر هذه الأغاني الشعبية إقامة الدليل على أن اليونان
وتلك حياة نهض الدليل على وجودها فعلا فيما صار يصدر من كتب ومؤلفات وينشأ من
Cyrille Loukaris » الذي عمل على نشر التعليم في أنحاء اليونان،
وتعددت مراكز الثقافة اليونانية الهامة؛ فوجدت بالقسطنطينية «ويانينا» وأرطة
Kozani
في مقدونيا، وزيادة على ذلك
ثم تأسست في «ياسي» وبوخارست مراكز لتعليم اللغة اليونانية في الولايات الدانوبية
أما هذا النشاط، فقد دل على أن اليونان ظل شعورهم بقوميتهم ينمو نموا
ولقد كان هناك عامل آخر إلى جانب الكنيسة الأرثوذكسية والمجالس البلدية يساعد
وتنوعت أصول هذه الأسر التي عاشت في القسطنطينية؛ فبعضها ينتمي لأسرة الأباطرة
Argyropoulo
و«أبسلنتي»
Ypsilanti ، والبعض الآخر كان من
Mano
و«نجري»
Negri ؛ وأخيرا كان هناك اليونانيون الذين وفدوا إليها من مختلف
Cantacuzene
و«ماوروكرداتو»
Mavrocordato
و«ستوردتزا»
Stourdza
وغيرها. وقد بلغت هذه عشرين أسرة حفظ تاريخ اليونان
وعاش أعضاء هذه الأسر الكبيرة في حي الفنار في قصورهم ويقف على خدمتهم أتباع
ويلي الأسر التي اتخذت مقامها في حي الفنار فريق آخر من اليونان الأثرياء ذوي
ولقد أفاد اليونانيون من الضعف والانحلال الذي أصاب نشاط البندقية في تجارتها
وإلى جانب هؤلاء، كان هناك يونانيون أنشئوا جاليات كبيرة في كل موانئ البحر
بل وكان لليونان جاليات في أماكن بعيدة في لندن وأنفرس (أنتورب) وموسكو وفينا،
، وأسرة كنتاكوزين
Cantacuzene
ببلاد المورة، كما اشتهرت من بين
Notaras ،
Mammali
وفاتاتزيس
Vatatzis .
ولم يكن هؤلاء المعمرون أو المتوطنون اليونان من التجار والفناريين أنانيين
ولقد كان لثراء اليونان الذي أسفر عن ظهور طبقة أرستقراطية أو طبقة عالية من
، وهو من شيوس
ولقد بقي اليونان يشغلون هذا المنصب بعد ذلك، وكان أوسع كبار التراجمة شهرة
Carlowitz (1699)،
ولم يلبث أن صار اليونانيون يشغلون مناصب أرقى في وظائف الإدارة العثمانية؛
Hospodar
في سنة 1707 للبغدان «ملدافيا»، ثم على الأفلاق
ولقد احتفظت الولايات الدانوبية (الأفلاق والبغدان) بقوانينهما الخاصة بهما تحت
Despote ؛ أي رئيس الأهالي
ولقد قام بفضل هذا التقليد المزدوج نوع من «الحكم الثنائي» في هذه الولايات
وهكذا كان بفضل كل هذه العوامل أن وجد من بين جمهرة اليونان نخبة ممتازة شعرت
على أنه إلى جانب الأسر اليونانية الكبيرة التي أثرت بسبب نشاطها التجاري
Kelpht ، ومعناها اللصوص وقطاع الطريق ... إلخ،
ومن هؤلاء اللصوص كان بوتزاريس
Botzaris
الذي
Agropha
في الجزء الجنوبي من هضبة البندوس
في جبال «مونت أوليمبوس»، و«مونت فالتوس»
Mont Valtos ، حتى إذا اجتزنا خليج
Corinth
وجدنا «الكلفت» في شبه جزيرة
Magne (أي في لاكوينا
Laconio
القديمة)، وتزعمت أسرة «ماورو ميخالي
Mavromichalis » عصابات الكلفت في هذه الجهات،
. وكان القول المأثور في هذا العصر «إن الحرية لا
وفي الجزر كان هناك خارجون على القانون كذلك من طراز «الكلفت» نفسه، وهؤلاء كانوا
ولقد كان متيسرا كما هو واضح أن ينقل هؤلاء اللصوص وقطاع الطرق والقراصنة
Thessaly (الإقليم
، وكان ينحدر من أصل يوناني ، وذلك
Benaki
الثوار هناك، فعينت الدولة «محسن زاده محمد
على أن الروس انتصروا في هذه الحرب على العثمانيين في روسيا الجنوبية وشبه
Orlof
في البندقية أولا ثم في
Coron
الميناء الجنوبي بالمورة،
Tripolitza
عاصمة إقليم «ماني» لتمتعها بسبب
وانتقم الأتراك من اليونانيين؛ فقتلوا منهم من أهل المدينة ثلاثة آلاف، وسير
Christophe Grivas
بحفنة من ثلاثمائة
Aspropotamos
فهلك هو ورجاله.
وهذه الثورة في سنة 1770 التي صحبت الغزو الروسي كانت بمثابة «تصوير» سابق لما
وبيولي
Beolie
خصوصا. وكان من بين الذين لقوا
Meletios II .
وانتصر الروس على العثمانيين في الحرب التي كانت بدأت منذ أن أعلنها الأخيرون
فنصت المعاهدة على منح اليونانيين العفو الشامل وضمان حرية عباداتهم وإعفائهم من
ولقد اشتملت معاهدة قوجك قينارجه على بندين، كان لهما أهمية بالغة بسبب ما انطويا
يعد الباب العالي بحماية الديانة المسيحية بصورة دائمة في جميع الكنائس
وواضح أن هذا النص كان ينطوي على مبدأ جديد هو أنه صار لروسيا حق
وعلاوة على ذلك فقد أضاف البند السابع عشر:
أن الباب العالي يعد من الآن فصاعدا بأن الديانة المسيحية لن تتعرض
ومع ذلك وبالرغم مما تقدم جميعه لم تكن ثورة سنة 1770 حركة قومية، ولم يكن
وثمة عامل أخير لا غنى عن ذكره عند الكلام عن هذه «الأمة» اليونانية الداخلة في
Ionian Islands
الواقعة تجاه ساحل اليونان الغربي وجنوب بحر
Epirus : بوتريندو
Butrindo
وبارجا
، وبريفيزا
وفونيتزا
Vonitza ، كانت
ولو أن الأرثوذكس كانت لهم الأكثرية وتبع رئيس الكنيسة الأرثوذكسية في جزر
Syndics
ليمثلوا هذه الجزر في
ثم إن الجمهورية كانت تمنع يونانيي الجزر من الاشتغال بالملاحة حتى لا يتحد
وهكذا وجدت في اليونان كل العناصر التي تتألف منها «القومية» وأهم هذه اللغة
إرلندة
وكانت إرلندة «دولة» - وبالأحرى «دويلة» - من طراز يختلف عن الطرازات السابقة؛ من
وإرلندة كانت أمة قد توافرت لديها العوامل التي لا غنى عنها لتكوين الأمم، وهي
Celt
ودين واحد هو الكاثوليكية، ويتكلم بلغة واحدة هي
ولكن إرلندة ظلت في عزلة عن سائر بقاع الأرض بسبب البحر الإنجليزي الذي فصل بين
Macauley
المؤرخ الإنجليزي كتب أن «الإنجليز
ولكن كان الأثر الذي خلفته الكوارث والنوازل أن فقدت الأمة أحاسيسها
ويتبين من تاريخ إرلندة أنها كانت تخضع دائما لنظام حكومة تأسست في البلاد
(أي الدائرة المحاطة بسياج من
Garrison
أو «البال»
(أي دائرة النفوذ الإنجليزي).
ومنطقة الاحتلال الإنجليزي هذه كانت بمثابة رأس الجسر لامتداد النشاط الإنجليزي
وفي عهد أسرة تيودور (الملكة إلياصابات) جلب الإنجليز إلى إرلندة حوالي عشرين أو
Ulster
في الشمال على حساب الإرلنديين الوطنيين الذين جردوا من
وكما كان متوقعا أدى هذا النظام الغاشم إلى قيام الثورة في سنة 1641، فبدأت
Cromwell
الذي ترأس الحكومة
ولقد اتبعت حكومة الاحتلال مع الأهلين خطة إبادة وإفناء منظم، ذهب ضحيته خلال
Leinster
و«ألستر» ومنستر
Munster ، فقد وزعت هذه الأراضي المصادرة على جنود كرمويل وعلى
Connaught
والإنجليز من وراء أقفيتهم يتصايحون إلى
على أن الإنجليز أدركوا أهمية الإبقاء على عدد من الإرلنديين حتى في تلك المناطق
3
والذي هدف إلى معالجة مسألة الأراضي على أساس إعادة أملاك الكنيسة
ولم يفد من هذه «التسوية» سوى عدد ضئيل من الكاثوليك الذين «ثبتت» براءتهم من
ولقد تم فتح إرلندة على يد وليم الثالث الذي اعتلى العرش بعد «الثورة
Boyne
في يوليو 1690، وسقطت «دبلين» في
وبعد أن سلم إقليم «لميريك»
Limerick
في غرب
وأما الذين آثروا البقاء في إرلندة فقد رضخوا لكل إرهاق وقع عليهم دون أن يحركوا
على أن قصة الفتح الإنجليزي في إرلندة لم تكن قد استكملت فصولها بعد؛ فقد استصدر
قضي بسببها على حريات الأهلين الكاثوليك، وحقوقهم
وموجز القول: أن هذه القوانين (قوانين العقوبات) فرضت سيطرة أقلية من البروتستنت
ولقد قامت هذه السيطرة الإنجليزية في إرلندة على دعامات عدة منها «قانون بويننجس»
نسبة إلى «إدوارد بويننجس»
وأما الدعامة الثانية للسيطرة الإنجليزية فكانت الكنيسة الإنجليكانية، ولو أن
ثم إن هؤلاء الأساقفة ظلوا يعيشون أكثر الوقت في إنجلترة، وكانت هذه الكنيسة
وكان الملاك الدعامة الثالثة التي قامت عليها السيطرة الإنجليزية في إرلندة، وهذه
ولقد كان هناك طبقتان من الملاك الإنجليز؛ الطبقة الأولى: وتتألف من كبار
أما الطبقة الثانية: فكانت جماعة الملاك متوسطي الحال الذين عاشوا في البلاد
Gentry ، وكان هؤلاء هم الذين عمدت
ولقد حرم هذا النظام الإرلنديين الذين عاشوا في هذه الأراضي من الحماية التي
ومما زاد هذه السيطرة الإنجليزية قوة وإحكاما أن الإنجليز استمالوا إليهم
Enclosures
في مقاطعات
Tipperary
و«كلير»
Clare
و«ميث»
Meath
و«ووترفورد»
Waterford ،
وكان ملاك هذه «المسوجات» أو مستغلوها من الإرلنديين يحاكون أهل طبقة أعيان البورجوازية
Gentry
من الإنجليز في عيشهم
Middlemen
الذين استأجروا (التزموا) بجزء من أراضي الملاك
وأما هؤلاء «الوسطاء» فقد صاروا يتطبعون بطباع الإنجليز ويمعنون في تقليدهم
تلك إذن كانت دعامات السيطرة الإنجليزية في إرلندة: الإدارة السياسية، الكنيسة
ولقد كان لهذه السيطرة الإنجليزية آثار بعيدة؛ من ذلك أن البروتستنتية
.
وكثرت القيود التي ضيقت من الناحية القانونية سبل العيش في وجه الكاثوليك؛ أي
Test Act » يحتم على جميع موظفي
وعلاوة على ذلك فقد حرم الكاثوليكي قانونا من حقه في إرث أبويه إذا كان من
Burke - الفيلسوف الإنجليزي - هذه الأحوال
هذا أما حياة البلاد الاقتصادية؛ فقد تدهورت تدهورا عظيما بسبب أن إرلندة كان
Belfast
و«لندوندري»
Londonderry ، وترتب على هذا
ومن ناحية الزراعة، بقيت إرلندة في حالة تأخر ظاهر تزاول أساليب الزراعة
وأما العامل الأخير؛ فكان انعدام وجود المزارعين المأجورين. ولقد عرفنا أن
تلك إذن كانت مظاهر الحياة الاقتصادية والاجتماعية والدينية والسياسية في إرلندة
Jonathan Swift
أحد كتاب الإنجليز المشهورين الذي نشر في سنة 1721 بحثا
ولقد تصدى آخرون كذلك لوصف حال هؤلاء البؤساء الإرلنديين كما فعل «إدموند بيرك»
Chesterfield
الذي وصف الإرلنديين بأنهم كانوا أسوأ حالا من العبيد السود، وسماهم شعبا من
Arthur Young
الذي وصف معيشة الأيرلنديين في آخر القرن الثامن عشر فقال: إنهم يعيشون في أكواخ
وترتب على وجود هذا البؤس والشقاء أن اضطرت العناصر النشيطة إلى الهجرة من
ثم إن فريقا آخر هاجر إلى الخارج للعمل كجنود مرتزقة في جيوش فرنسا وإسبانيا
Wild geese ، ويقدر عدد الإرلنديين في جيش الملك الفرنسي الذين هلكوا
Lally
وأسرة
Dillon
في فرنسا، ثم أسرة «أونيل»
O’Neill
و«أودونيل»
O’Donnel
في إسبانيا، بل شغل أحد أفراد الأسرة الأخيرة وهو
De Wall
منصب رئيس الوزارة بها، وفي
Nugent
ثم
Lacy
القائد النمساوي الآخر من
ولقد ترك هذا البؤس والضنك آثارا لا تمحى في نفوس الإرلنديين؛ فمن الناحية
وكان طبيعيا لهذا كله أن يقتنع الإنجليز أن من العبث أن يرجو المرء خيرا من
ولا جدال في أن هذا الاعتقاد الخطير في نتائجه كان اعتقادا خاطئا،
وهذه القوة الروحية، وبمعنى أدق روح الإرلنديين «الاستقلالية»، قد استندت على
وقد عين الأساقفة في أول الأمر المطالب بالعرش الإنجليزي جيمس الثاني بعد ثورة
وأما القساوسة أنفسهم فكانوا يتلقون دروس اللاهوت في خارج إرلندة لتعذر إنشاء
Louvin
و«دويه»
Douai
في بلجيكا وفي باريس بفرنسا و«سلامنكا» في
ولقد خضع الشعب الإرلندي لسلطان ونفوذ هؤلاء القساوسة ورجال الدين خضوعا
على أن تمسك الإرلنديين بعقائدهم وديانتهم الكاثوليكية كان الأساس الذي أوجد
ثم إن القساوسة الكاثوليك هم الذين اضطلعوا وحدهم بشئون التعليم وكان في
Trinity College
التي تأسست
Christian Brothers
أو إخوان (رهبان) القديس باتريك.
وعلى ذلك، فقد ارتبطت الكاثوليكية بالعاطفة الوطنية في إرلندة ارتباطا وثيقا،
Methodism - وهي بروتستنتية - بزعامة
Wesley (1703-1791) وكان من أعظم
ومع ذلك؛ فإن إرلندة التي عظم بؤسها وشقاؤها لدرجة أن خمد كل شعور لدى الشعب
ففي عهد جورج الثالث تكونت بين سنتي 1760، 1770 عصابات المقاومة ممن عرفوا
Levellers
ثم صاورا يعرفون من آخر سنة 1761 باسم
Whiteboys
توزعوا في جماعات
ولقد صارت هذه العصابات تسطو على «التحويطات الزراعية» لتخريبها وعلى الماشية
ولقد تألفت بعد سنة 1770 عصابات أخرى من طراز «الصبيان البيض»، ولقد أفادت هذه
ودرج الإرلنديون على الاستفادة دائما من متاعب الإنجليز ليفوزوا ببعض ما يصبون
4
وكذلك فقد استفاد الإرلنديون من قيام الثورة في الولايات (المستعمرات)
Defenders ، وهؤلاء من
Right boys
ابتداء من سنة 1785، ثم «صبيان السنديان»
Oakboys
الذين قاموا بحركتهم الثورية سنة
Armagh .
وقد انتشرت حركتهم حتى امتدت بعد ذلك إلى كل المقاطعات المجاورة لها، وكان
وفضلا عن ذلك؛ فقد تألفت في الجهات الشمالية خصوصا في إقليمي «داون»
Down
و«أنتريم»
Antrim
عصابات من الفلاحين البروتستنت أتباع «الكنيسة
Steel boys Steel Heart
تشبه عصابات «الصبيان البيض» للنضال ضد كبار
على أن هذه الحركات الثورية جميعها كان مبعثها المطالبة بحقوق اجتماعية لفريق
ومع ذلك، فالجدير بالملاحظة أن الثورة الاستقلالية الأمريكية سرعان ما أحدثت
ثم إنهم أنشئوا - وكما فعل الأمريكيون أيضا - نوعا من «المليشيا الوطنية» أو
ومع ذلك فلم تكن هذه حركة قومية؛ لأن هؤلاء الإرلنديين البروتستنت لم تكن تحدوهم
وهذه الحركات الثورية التي كان قوامها البروتستنت لم تلبث أن أدركت نجاحا في
Westminister
في سنة 1779
ثم ظفر الإرلنديون بانتصارات أخرى، فصار يطبق في إرلندة منذ 1781 المبدأ
Habeas Corpus ، وترجع أصول هذا المبدأ إلى ما قبل
Magna Carta
الصادر سنة 1215،
وأخيرا ظفر الإرلنديون باستقلال السلطة التشريعية في بلادهم عندما نزلت إنجلترة
Veto
على مشروعات
ومع أن هذه الحركة كانت بروتستنتية بحتة؛ فقد أفاد منها الكاثوليك الإرلنديون
Grattan -
وإذا كان البرلمان الإرلندي قد أجاز تمتع الكاثوليك بكل هذه الحقوق، فالسبب في
Berkeley
الفيلسوف الذي تولى فيما بعد أسقفية «كلوين»
Cloyne
في جنوب إرلندة (وقد توفي سنة 1752)، وسويفت
أضف إلى هذا أن الإرلنديين الأحرار من حزب «الويجز»
Whigs
في البرلمان الإنجليزي قاموا بحملة تشهير ضد المظالم
وهكذا نستبين من دراسة تاريخ إرلندة في آخر القرن الثامن عشر أن العناصر التي
وفي آخر القرن الثامن عشر كان الإرلنديون قد نسوا تماما كل ما تمتعت به أمتهم
الخلاصة
تلك إذن كانت الأمم التي تمتعت بوجود وكيان ذاتي في آخر القرن الثامن عشر، ولكن
وأما الحال فقد كان على العكس من ذلك في اليونان وإرلندة، ففي كل منهما كان
وعلى ذلك، فقد ارتدت يقظة الشعور القومي في أسبابها إلى دوافع عاطفية كانت
ومما تجدر ملاحظته أنه مع تعذر ظهور الشعور القومي بصورة واضحة، أو بمعنى
وأما في المجر (هنغاريا) فقد لعبت اللغة ولعب اعتزاز الهنغاريين بتقاليدهم
أضف إلى هذا كله عاطفة الاعتزاز بالجنس: ففي إرلندة الشعب كلتي، وفي هنغاريا
ولذلك فقد اختصت هذه الأمم التي لم ينضج شعورها بقوميتها بعد بوجود عنصرين
تلك إذن كانت الأصول النظرية أو المثالية «الفلسفية» ثم التاريخية الواقعية
وهذا الشعور القومي المستيقظ لم يلبث أن اكتمل نضجه في السنوات التالية مباشرة
ولقد كان لقيام الثورة الفرنسية وبناء عروش الإمبراطورية النابليونية أكبر الأثر
الكتاب الثاني
الثورة الفرنسية
تمهيد
مرت بأوروبا فترة من الزمن، بين سنتي 1792 و1815 شهدت خلالها انقلابات عديدة لم
وذلك لأن الانقلابات التي حدثت في «عهد الثورة ونابليون» لم يكن مبعثها تآلف أو
وبمعنى آخر، لم تكن الثورة الفرنسية مجرد حلقات متتابعة من الحوادث وحسب، بل كانت
ولقد كان الذين اعتنقوا «الآراء الجديدة» ثم روجوا لمبدأ القومية بعد أن آمنوا به هم
وفي هذه الدراسة سوف يتضح كيف نضج الشعور القومي بفضل اشتعال الثورة الفرنسية،
على أن «عهد الثورة ونابليون» إنما يتألف في واقع الأمر من عهدين، لكل منهما
الباب الأول
الآراء الجديدة
الفصل الأول
التعريف بالثورة وأسبابها
ليست الثورة حدثا بسيطا، كما لا يمكن اعتبارها حدثا تميز دائما بالعنف والشدة
ومن المعروف أنه عندما بدأت الثورة لم يكن أحد يفكر في هدم النظام القائم
وفضلا عن ذلك، فقد تعددت دوافع الثورة، كما تنوعت العناصر التي تألفت منها،
ولعل هذا «التعقد» الظاهر الذي أضفى على الثورة مسحة من التناقض بين أهدافها
فمنهم من اعتبرها «عملا شيطانيا» مثل «ديمستر»
de Maistre ، ومنهم من اعتبرها «عملا أحيا البشرية وبعثها وبعثا
Thiers
الثورة نتيجة لخضوع فرنسا
Edgar Quinet
أن الثورة هي الأثر الذي تخلف عن طغيان استمر جيلا بعد جيل، ولو أنه كان من
Michelet
في مقدمة الكتاب الذين أحاطوا الثورة بهالة من المجد
و«ميشيليه» هو المسئول في واقع الأمر عن تشجيع الكتاب والمؤرخين من بعده على جعل
على أن الثورة سرعان ما لقيت في شخص «تين»
Taine
مؤرخا لا يقل عن سلفه حدة تأجج عواطفه وقوة بلاغته. ونجح «تين» في عرض الحوادث ووصف الشخصيات، وتميز عن «ميشيليه» في أنه حاول تفسير
ولكن «تين» لم يكن موفقا عندما أراد أن يستند في أحكامه على العقل والمنطق
ومع ذلك فثمة حقيقة واحدة جمعت بين فريقي المادحين والقادحين: هي تسليمهم بأن
Emile Ollivier
توضيحه في
وكان «تين» يميل للأخذ بهذه النظرية عندما قال: «وفي اللحظة التي افتتح فيها
ووجد المتسامحون مع الثورة في حكم القدر هذا مسوغا جعلهم يغضون النظر عن
Albert Sorel
أن يقيم الدليل على أن الثورة التي اعتبرها البعض حركة
وشاطر «جيزو»
Guizot
الرأي القائل بأن الثورة
ولكن هذه الأقوال وما يماثلها لا تعدو أهميتها تذكير المرء بذلك القانون القائل
•••
ويذكر المؤرخون أسبابا كثيرة لقيام الثورة: من ذلك رغبة الفرنسيين في التخلص من
ويعزى قيام الثورة إلى بغض وكراهية «البورجوازية» - الطبقة المتوسطة - للطبقات
زد على هذا أن أحدا من أعضاء الجمعية الوطنية التأسيسية - أول مجالس الثورة - لم
ولم يفقدها صبرها وأناتها سوى شعورها بقوتها المتزايدة، ولم يستثر غضبها
ويعتبر آخرون أن سوء حال الفلاحين وبؤسهم وشقاءهم وتعرضهم للمجاعات كان من
L’Ancien Regime ، وهم الذين استطاعوا كما
حقيقة شكا الفلاحون وغيرهم من تعقد أساليب الإدارة المالية ومساوئها، ومن العجز
Cahiers
الثورة التي ضمنها الأهلون شكاياتهم
ويعتقد كثيرون أنه كان «للفلاسفة» بفضل كتاباتهم والآراء الجديدة التي أتوا بها
وكان تحت تأثير روح النقد هذه أن الأشياء التي كانت قد بدأت تفقد قيمتها وما كان
فالطبقة الأرستقراطية هي التي صارت تشجع البحوث والدراسات الخاصة بنظريات
وكان لتغلغل روح النقد العلمي الذي عمل الفلاسفة على إحيائه وإذاعته أعظم الأثر
وفي أثناء سيطرة سلطان العقل هذا استمرت الجهود تبذل في مثابرة نشيطة لتحطيم
وعندما تعرف الشعب إلى هذه النظريات التعقلية التي أتى بها الفلاسفة، لم
ووجد سواد الشعب وعامته نفرا كانوا على استعداد لمشاركته في تلك الروح الثورية
وأما الجند الذين كانوا من حثالة القوم، ويعجزون بطبيعة الحال عن إدراك
Rivarol - بالفناء على الملكية.»
ذلك إذن كان أثر الآراء الجديدة في مجتمع النظام القديم. ومع ذلك فإذا كان يعزى
Didérot ، أو استثنينا جان جاك روسو، ولعل «روسو» كان الوحيد الذي
ومع ذلك فإن عواطف روسو الديمقراطية موضع اشتباه كبير؛ لأنه اعتبر تطبيق مشروعاته
الفصل الثاني
الفلاسفة والآراء الجديدة
على أن تأثر الثورة بالآراء الجديدة التي أتى بها الفلاسفة حقيقة لا سبيل إلى
فكان لذلك إذن أن اهتم المؤرخون بتعيين بداية للثورة يفرعون عنها ما وقع من
فكان من الحوادث التي حاولوا بها تعيين بداية الثورة: صلح إكس لا شابل
Aix La
سنة 1748، الذي اختتمت به
Machault d’Arnoville - مراقب المالية العام في فرنسا - في العام التالي
) تدفعها الطبقات الممتازة (الأشراف ورجال الدين) إلى جانب سائر
وكان في سنة 1748 أن ظهر كتاب «مونتسكيو» المسمى روح التشريع، كما بدأت تقوى
وفي سنة 1751 نشر الفلاسفة أو «الإنسيكلوبيديون» أول أجزاء موسوعتهم التي
Le Contrat Social ، كما نشر «رينال»
Raynal - من الإنسيكلوبيديين - مؤلفه المشهور في
وصفوة القول: أن فرنسا شهدت في النصف الثاني من القرن الثامن عشر تبلور الآراء
فيما يلي عرض سريع لهذه الآراء الجديدة. (1) مونتسكيو
Montesquieu (1689-1755)
أثار مونتسكيو في كتابه «روح التشريع» مسألة فصل السلطات الثلاث (التنفيذية،
ثم إنه لما كان ضروريا صون هذه الحرية السياسية وحمايتها من النزوات
(2) فولتير
Voltaire (1694-1778)
لم تكن لفولتير آراء سياسية تمتاز بأنها أصيلة أو جديدة، ولكن ميزته الكبرى
ونقد فولتير نقدا مرا ما ذهب إليه مونتسكيو من حيث موافقته على شراء
وفي كتيب بعنوان «آراء جمهورية»
1
ظهر سنة 1765 عرض فولتير بعض الآراء القوية والجريئة، من ذلك قوله:
ولقد أعجب فولتير بحكومة إنجلترة إعجاب «مونتسكيو» بها؛ لأن دستورا -
وفي رسالته عن العادات
2
التي نشرت في عام 1765 عرض «فولتير» بعض الآراء السياسية التي
Liberté : إن حب
وفي ضوء المذهب الحر عرف فولتير الملكية بأنها: «الحكومة السعيدة إذا كانت
Egalité
فقال: «لا توجد بلدان تستحق السكنى بها كالبلدان
ووظيفة الحكومة - في رأي فولتير - هي أن تقوم على تنفيذ ما يصدر من رغبات
Volonte Generale
وبشريطة أن يكون هذا وفق القوانين التي يقرها الجميع أو يأتي استصدارها
ولقد انطوت هذه الأقوال وأمثالها على رغبة في استحثاث الناس على إظهار
ولقد كان إعجاب فولتير بنظام الحكم في إنجلترة، وما وصل إليه نتيجة دراسته
(3) أصحاب الموسوعة
نذكر من الإنسيكلوبيديين: ديدورو، ودالمبير
D’Alembert ، وهلفيتيوس
Hélvétius ، ودولباخ
D’Holbach .
وقد أضيفت إلى «موسوعتهم» التي نشرت بين 1751-1765 أصلا في سبعة عشر جزءا،
وهؤلاء «الإنسيكلوبيديون» أرادوا أن يحتل العقل مكان الضمير في تفسير سلوك
Autorité ، والديمقراطية، والقانون، والحكومة، والرق، والملكية،
Souveraineté ، وغير
وكان عندما تحدث الإنسيكلوبيديون عن «السلطة» أن عمدوا إلى مهاجمة مبدأ حق
Hughes Capet
من الوصول إلى عرش فرنسا (987م)، وهي التي وضعت
وفيما يلي سوف نعرض آراء طائفة من هؤلاء الإنسيكلوبيديين ومعاصريهم، خصوصا
روسو
Rousseau (1712-1778)
حاول روسو إقامة الدليل على أن «العقد الاجتماعي» حدث نتيجة تطور
Etat Naturel
إلى «نظام اجتماعي»
Etat Social ، نظام
ولقد بنى «روسو» العقد الاجتماعي على أساس تنازل كل فرد في المجتمع عن
ونشأت عن نزول كل فرد عن رغباته وإرادته الخاصة، رغبة أو إرادة عامة
Volonté Générale
هي التي يتمتع بها
Volonté de Tous ؛
ولذلك فهناك تعارض بين الإرادتين، وقد ترتب على نزول الأفراد عن رغباتهم
Souverainété ؛ أي تلك القوة
الإرادة العامة.
ونشأ من وجود هذا العقد الاجتماعي: قيام «الجماعة السياسية» وتكوين
Etat ، والذي تستند عليه الدولة في تكوينها.
ثم إن «السيادة العليا» أو القوة والسلطة صاحبة السيادة لا يمكن تخطئتها
وواضح أن ذيوع هذه الآراء يهدم كل الحقوق التي استندت عليها الملكية
دولباخ
D’Holbach (1723-1879)
وقد تناول آخرون غير «روسو» نظرية العقد الاجتماعي هذه: من هؤلاء البارون
Système Social . وهو كتاب تحدث فيه عن نظرية العقد
وهاجم «دولباخ» حكومات الطغاة الذين استبدوا بالشعب وبطشوا به، وندد
ومن أقواله ضد «لويس الخامس عشر»: «يندر جدا أن يعثر الإنسان على ملك
ولم يكتف «دولباخ» بمهاجمة الملكية، فحمل حملة عنيفة على رجال
آبيه دي مابلي
Mably
3 (1709-1785)
وكان جبرائيل دي
L’Abbé Gabriel de Mably
ممن اعتبروا الملكية الفردية، وخصوصا ملكية الأرض
وكان عن طريق «مابلي» وما بسطه من آراء ونظريات، أن صار لأفلاطون تأثير
وتتلخص نظرية «مابلي» في أنه - كما فعل روسو - اعتبر عدم المساواة في
ولا يجوز الاعتماد على وجود تفاوت في القوى؛ لأن الفرد مهما كان قويا
مورللي
Morelly
ولم يكن «مابلي» وحده هو الذي دعا إلى هذا المذهب الشيوعي في عصره، بل
4
في سنة 1755، كما نظم مقطوعة مطولة قبل ذلك بعامين ترسم
ولكن «مورللي» كان خامل الذكر، وظل تاريخ مولده ووفاته مجهولا، وساد
وتتلخص نظرية «مورللي» في أن تحصيل المنفعة الذاتية هو الدافع أو
وتلك - في نظر «مورللي» - حال غير طبيعية؛ أي أن يكون نشاط الإنسان بسبب
وعلى ذلك فقد اهتم «مورللي» في كتابه «قانون الطبيعة» برسم صورة لنظام
رينال
Raynal (1713-1796)
وآخر من نذكر من هؤلاء «الفلاسفة» آبيه غليوم رينال
Guiallaume Raynal
صاحب أكبر إنتاج خلف آثارا لا
5
نشر للمرة الأولى في سنة 1770 دون ذكر اسم المؤلف، ثم نشر
حمل «رينال» على الاستبداد والطغيان حملة شديدة، ولو أنه عزا وجود هذا
وحمل «رينال» على عدم المساواة في الفرص أو الحظوظ «عدم تكافؤ الفرص»
شاهدت الملك! قابلت الملك! تعشيت مع الملك!»
ثم حمل على رجال الدين فقال: «وماذا يفعل القسيس؟ وما ذلك الدور الذي
ولكن هذه الحملة الشديدة التي أثارها «رينال» ضد الطغيان، وعدم
ولكن «رينال» - على خلاف «مونتسكيو» - كان يعترض اعتراضا شديدا على فصل
ومع أن «رينال» لم يستطع إبراز فكرة جلية واضحة عن نوع الحكومة التي
وكان أهم ما تأثر به معاصرو «رينال» آراؤه عن الحرية؛ حيث قال عنها:
وقال: إنه لن يمضي وقت طويل حتى يكون الناس قد شعروا جميعا بأن الحرية
ولقد اعتبر علماء اللاهوت في جامعة باريس وقتئذ هذه الأقوال وأمثالها
ثم إن «كتاب» رينال هذا قد ظهر في وقت كان قد علا فيه ضجيج سواد الشعب
الفصل الثالث
فوضى النظام القديم
فرض النظام القديم
L’Ancien Régime
على الشعب؛
وفرض «النظام القديم» على الشعب؛ ثانيا: الرضوخ لسلطان النبلاء في وقت كان
ثم قل وجود أصحاب المواهب العسكرية بينهم، وظهر عجزهم في ميادين القتال؛
Taille ، والملح
Gabelle ،
Capitation ، وضريبة الدخل
Vingtieme
وغير ذلك، إلى جانب «العوائد
Banvin ، أو حقه في جباية المكوس عند عبور
، أو استخدام الأفران والمخازن الخاصة
Banalité ، أو
Redevance ، أو المال الذي يحصله
Cens . أو الأموال التي يحصلها من أية مزرعة
Censives ، أو الاستيلاء على جزء من محصول
Carpot ، أو الرسوم التي تدفع
Champage ، أو
Terrage ؛ وهكذا.
وكذلك؛ فقد اشتد السخط على نظام فرض على الشعب احترام الكنيسة، والخضوع
ولقد ضج سواد الشعب والفلاحون خصوصا من ضريبة «العشور» أو العشر
Dime
التي حصلتها الكنيسة منهم، وحاول كثيرون قبل
ولقد كان من عوامل هذه الفوضى كذلك: ذيوع «الماسونية» وانتشارها في الجيش خصوصا. والماسونية جمعية سرية ينتظم أعضاؤها في «محافل» لتبادل المنفعة الأدبية والتعاون
وسواء سادت الروح الثورية هذه المحافل أو لم تسد، فالذي لا ريب فيه أن روح
Gardes
، وفي
Nancy
في أغسطس سنة 1790؛
تلك إذن كانت أسباب الفوضى ومظاهرها في فرنسا، وهي الفوضى التي حببت جمهرة الشعب
وهي الفوضى التي دلت كذلك على إخفاق حكومة «النظام القديم» وفشلها، وجعلت
Calonne - من وزراء
الفصل الرابع
الفيزوكرات: القائلون بحكم الطبيعة
ويرى بعض المؤرخين أنه يصح اختيار سنة 1776 أو سنة 1787 لتحديد بداية «الثورة»؛
Turgot
من الوزارة في عام
وأما هؤلاء المصلحون فقد عرفوا باسم «الاقتصاديين»
Economists . وكان بعد مضي زمن طويل من ظهورهم، أن أطلق
أو القائلين
Francois Quesnay (1694-1774)
Mercier de la Riviere (1720-1794) الذي وضع مذهب الفيزوكرات في أسلوب علمي
Marquis de Mirabeau
أبو خطيب الثورة المشهور، من أشد مؤيدي «كسناي»، بينما كان
وقد عني الاقتصاديون - أو الفيزوكرات - أكثر ما عنوا بمعالجة المسائل المتصلة
وكان من الطبيعي للوصول إلى هذا الغرض أن تتناول بحوثهم مسألة الضرائب؛ أي الغرض
على أن أهم ما يسترعي النظر من مبادئهم، كان تقرير الضريبة الواحدة
L’Impôt
، والتي تفرض على الأرض
وتتلخص نظرية الفيزوكرات السياسية في أن العدالة أول شرائط المجتمع، بل هي أول
وفي رأيهم تشمل الحقوق الطبيعية التي للأفراد، والمتعلقة بالملكية (أو التملك)؛
».
ومما تجدر ملاحظته أن حق الفرد في الملكية إنما يحد منه ما يحيط به من حقوق
ومن آرائهم أن الغرض من وجود «النظم» في المجتمع أن يكفل المجتمع للأفراد
Souverain
متسلحا بقوة تكفي
ويستأثر صاحب السيادة أو السلطان وحده ودون غيره بالسلطة التشريعية، أو بمعنى
ثم كان بعد تقرير هذه المبادئ الجوهرية، أن عالج الاقتصاديون أو الفيزوكرات مسألة
ولذلك فقد تحتم أن تصبح وظائف الملك في ظل هذا النظام المحافظة التامة وبصورة
الفصل الخامس
محاولات الإصلاح وفشلها: «ترجو» و«نكر»
تلك إذن كانت مبادئ الفيزوكرات الاقتصادية والسياسية. وقد لقيت في فرنسا كل
Turgot (1727-1781)، أحد الذين عنوا بالشئون
Adam Smith (1723-1790) في كتابه المعروف عن «ثروة الأمم»،
1
والذي اعتبر أن الأرض ليست وحدها مصدر الثروة، فناقض بذلك آراء
Labour ، ورأس المال
Capital
من مصادر الثروة كذلك، ثم نادى بمبدأ
ولقد أتيحت الفرصة «لترجو» حتى يضع آراءه موضع التنفيذ عندما عين حاكما
Limoges ، ثم عند تعيينه في سنة
بل إن الواجب يقتضي أولئك الذين يفيدون من انتعاش المجتمع، أكثر من سواهم، أن
Jurandes
التي سيطرت
ووسع نشاط «ترجو» ميادين أخرى شملت إصلاح التعليم، ووضع مشروعات لمجالس انتخابية،
ولكن مشروعات «ترجو» وإصلاحاته لم تلبث أن أثارت المعارضة الشديدة، من جانب
Maurepas )، فأعاد برلمان باريس والبرلمانات الإقليمية في أغسطس سنة
تجلت معارضة برلمان باريس الآن، عندما رفض إلغاء السخرة وغير ذلك من
2
في 12 مارس 1776، وأرغم البرلمان على تسجيل الأوامر والمراسيم الصادرة
وكما عظم فرح رجال البلاط والحاشية لخروج «ترجو» من الوزارة، فقد استبد القلق
Condorcet
وغيرهما؛ فاعتبروا إقالة «ترجو» كارثة
وأما ما تبع خروج «ترجو» من الوزارة، فكان وقوع طائفة من الحوادث التي ساعدت
Cluny
السخرة والنقابات،
Jacques Necker . وكان ممن أمدوا الدولة
واتبع «نكر» سياسة عقد القروض، وصار يتوخى الاقتصاد في النفقات جهد الطاقة؛
وبخروج «نكر» تغلبت العناصر الرجعية تماما؛ فسارت الأحوال من سيئ إلى أسوأ على
Calonne ، الذي تولى بوساطة ماري أنطوانيت منصب مراقب المالية في
Subvention Territoriale ، كما أنه أراد تخفيض
Lemonie
وكان من كبار رجال
وفي عهد هذا الأخير اشتدت الخصومة بين البلاط وبرلمان باريس، الذي أقر مبدأ
Etats Généraux ، فلم يجد الملك مناصا من دعوة هذا المجلس إلى
الباب الثاني
ديمقراطية أم ديكتاتورية بورجوازية
الفصل الأول
مجلس طبقات الأمة1
5 مايو 1789-9 يوليو 1789
أسباب دعوة مجلس الطبقات
كان السبب الجوهري لدعوة هذا المجلس، الذي بقي معطلا منذ 1614، سوء
ولم يكن سوء الحالة المالية شيئا جديدا، بل كانت الأزمة قديمة العهد من
وخاف الناس من المجاعة، فانتشر القلق وعم الاضطراب.
وكان من عوامل القلق الظاهر عدم ارتياح أرباب الصناعة الفرنسيين إلى المعاهدة
والمسئولون عن دعوة مجلس الأمة للاجتماع كانوا من طبقة «أصحاب
وكانت طبقة أصحاب الامتيازات هذه تتألف وقتئذ من أناس حصلوا في أكثر
Noblesse d’Épée
في امتلاك الأرض، كما أنهم التحقوا بالجيش
ومع ذلك، فقد كان هذا النوع من «الأرستقراطية» ثم «البورجوازية» الغنية
ولقد كانت هذه المطالبة بداية كل تلك الانقلابات التي تألفت منها
تقرير نكر
ولا شك في أن الملكية قد فطنت وقتئذ إلى مصدر الخطر عليها، فحاولت
وفي 25 أغسطس 1788 عزل «لوميني دي بريين» حتى يعهد إلى «نكر» الذي استدعي
2
لنظر هذه المسألة ذاتها.
ولكن لما كان «مجلس الأعيان» متأثرا في بحثه بتقاليد مجالس طبقات
Tiers État
على الاعتقاد بأن الملكية والطبقات ذات الامتيازات
وأما هذه المسائل الثلاث فأولها: هل يتساوى عدد النواب الذين ترسلهم
أيد «نكر» في تقريره أن يكون عدد النواب متناسبا مع عدد سكان ومساحة كل
3
للطبقة الثالثة، بمعنى أن يكون عدد نوابها مساويا لعدد نواب
وكانت هذه المسألة الأخيرة بالذات المسألة التي احتدم حولها النزاع والنقاش،
4
فالأكثرية في هذه الحالة تكون كذلك من نصيب الطبقات ذات
وقدم «نكر» كثيرا من الحجج لدعم وجهات نظره التي كان لها الغلبة في النهاية؛
مطالب الأمة ودفاتر الثورة
وفي 24 يناير 1789 صدرت رسائل دعوة مجلس طبقات الأمة للاجتماع إلى حكام
وكان بناء على هذه الرغبة الأخيرة من جهة، وإطلاق حرية الطبع والنشر في
Camille Desmoulins
بعنوان «فرنسا الحرة»،
5
ورسالة «لتارجيه»
Target
بعنوان «عريضتي»،
6
ورسائل أخرى كثيرة تولى فيها أصحابها من الجانبين إما تأييد
ولعل من أهم الرسائل التي نشرت وقتئذ كان رسالة «الآبيه سييس»
L’Abbé
المشهورة، وعنوانها: «ما
بعض الشيء».
7
وقد صدر هذا الكتيب في يناير 1789، ولقي فور صدوره رواجا عظيما؛
، فلا تصوت كل طبقة بمفردها وعلى حدة.
وختم «سييس» عرض هذه المطالب بقوله: «إن نواب الطبقة الثالثة يمثلون 25
ولقد بيع من كتاب «سييس» في بضعة أسابيع ما لا يقل عن (300000) نسخة. وفي هذا
Les Cahiers
التي كانت
ولكن هذه الدفاتر وحدها لا تكفي لمعرفة الأحوال السائدة في فرنسا سنة 1789
وعلى ذلك، فبينما شكت بعض الدفاتر مثلا من ضريبة الملح، شكت الأخرى من
ومن المتعذر أن يعثر الإنسان في هذه الدفاتر على مذهب أو مطلب اتفقت
Constitution ، ولكنها أخفقت في تحديد معنى واحد له. فهو تارة
Lettres De Cachet
التي كانت تصدر
وتحدثت الدفاتر عن إلغاء الامتيازات، ولكن كان مفهوما ومتفقا عليه عدم
وحقيقة كانت الطبقات الثلاث ذات ولاء ظاهر للملكية، ولكن الدفاتر طلبت أن
وإذا كانت هناك رغبة واضحة في تصفية أملاك وأموال الكنيسة لسداد الدين العام
ومع ذلك، وبالرغم من هذه الاختلافات، فقد كان واضحا - وعلى نحو ما يمكن
ولقد كان «الإصلاح» والمطالبة «بالإصلاح» قبل ذلك كله الصرخة المدوية
وكان من رأي قادة الطبقة المتوسطة (البورجوازية) ومفكريها، سواء من
اجتماع مجلس طبقات الأمة ومشكلة التصويت
ذلك إذن كان البرنامج الضخم الذي أخذ ممثلو الطبقات على أنفسهم تنفيذه عندما
La Fayette ، أو «الملكيون» الذين أرادوا ملكية من نمط الملكية
Autin ، «تاليران-بيريجور»
Talleyrand-Périgord . ولقد بلغ عدد القساوسة (من صغار رجال
وأما الطبقة الثالثة (البورجوازية) وعدد نوابها (578)، فكان من بين نوابها
Beilly ، والكاتب الرحالة الكونت
Volney ، ثم من رجال الإدارة
Malouet ، ومن رجال المحاماة أو
Mounier
نائب
Barnave
وهو من جرينوبل
Le Chapilier ،
Defermou ، ولانجوينيه
Lanjuinais ، وهؤلاء الثلاثة حضروا من
Rennes
بإقليم «بريتاني»
Brittany ، ثم أسسوا في باريس «النادي البريتوني»
Club Breton
منشأ نادي اليعاقبة
Club Jacobin ، ثم
Merlin De Douai ،
نائب شارتر
Chartres
وعميد بلدية باريس فيما بعد،
Robespierre
نائب أراس
Arras . وهؤلاء جميعا كانوا من الشبان الذين
ولما كان عدد نواب طبقة الأشراف (270)، وطبقة الإكليروس (291)، وتجمع بينهم
على أن تدفق «النواب» على عاصمة المملكة، وقصر الملك، سرعان ما أثار مخاوف
8
ولقد ساورت هذه الشكوك «نكر» نفسه الذي أراد الاحتياط للطوارئ، فاستدعى منذ
ولقد أفزع الملك هذا الحادث فزعا شديدا، حتى صار يعير أذنا مصغية
وفي يوم 2 مايو استقبل الملك في قصر فرساي نواب الأمة، وفي 5 مايو 1789 انعقد
9
وازدحم المكان بنواب الطبقات الثلاث للاستماع إلى خطاب الملك، وهو الخطاب
Barentin
فجاء كلامه عاما لا يشفي غليلا، ثم خطب
وثارت الأزمة عندما شرع المجلس ينظر في صحة انتخاب (نيابة) أعضائه، وهي
ثم اتصل العامة بطبقة الإكليروس ووجهوا إلى هؤلاء الدعوة رسميا «باسم الله
ولكن هذه الدعوة لم يستجب لها سوى أقلية من النبلاء (47 من 188) ورجال
Mounier
الذي كان متخوفا من هذا النبيل الثائر والذي رأى
الطبقة الثالثة تتحول إلى «جمعية وطنية»
10
وفي 12 يونيو كان الأشراف ورجال الدين قد تسلموا هذه الدعوة. وفي مساء
وكان في هذه الظروف إذن، أن قرر «العامة» أن المجلس صار يضم أكثرية نواب
ولما كان النبلاء قد تمسكوا بموقفهم، وصار على الملك نفسه أن يكون حكما
D’Artois
والبرنس دي
Condé (لويس جوزيف دي بربرون). وظل الملك مترددا فترة من
Séance Royale
يحضرها نواب
ثم إنه خوفا من حدوث تطورات أخرى، أغلقت «صالة التسلية» بحجة إعدادها
11 - 10 يونيو - وحيث إن هؤلاء النواب اعتبروا أن السبب في دعوة
12
وكان من بين الموقعين عليها تسعة من القساوسة، هم الذين حضروا
ولكن الكونت دارتوا لم يلبث أن أمر بإخلاء الملعب، وإعداده للعبة في اليوم
Saint-Louis ، حيث
وفي 23 يونيو انعقدت الجلسة العامة (الملكية). فطلب الملك أن يكون اجتماع
ثم اختتم الملك خطابه بقوله: «وتلك هي إرادتي.» وعندئذ طلب كبير أمناء القصر
Dreux-Brézé )، أن
وحمل درو-بريزيه جواب «العامة»، وانتظر الناس كلمة الملك، ولكن لويس السادس
Laincourt ،
La Rochefoucould
وغيرهم، فقد
وقد يكون لموقف «نكر» - الرجل المحبوب من الشعب وقتئذ، والذي هدد بالاستقالة
فكان لكل هذه الأسباب مجتمعة أن وجدت الملكية في هذا التسليم (ثم فيما تبعه من
ومع ذلك؛ فلم يكن هناك ما يدل - من قريب أو بعيد - على أن هذه الاستسلامات
13
وهو المجلس الذي تألف من الناخبين الذين انتخبوا النواب
Deputés
العشرين الذين يمثلون باريس في مجلس
Hôtel de Ville ، كما طالب بإنشاء حرس «وطني» من أهل الطبقة المتوسطة
زد على ذلك أن الخلاف اتسعت شقته في صفوف الطبقات ذات الامتيازات
d’Orléans .
وهكذا عجزت الملكية عن فرض طاعتها. وساعد ترددها المستمر على مخالفة
وجد الملك بسبب هذا كله إذن أن يسلم بالأمر الواقع، لعله يستطيع الظهور
، وعلقت الزينات، وفرحت
ومنذ 3 يوليو انتظمت جلسات المجلس، وفي 6 يوليو تألفت «لجنة للدستور»، وفي
الفصل الثاني
الجمعية الوطنية التأسيسية1
9 يوليو 1789-30 سبتمبر 1791 (1) الملكية والطبقة الثالثة
كان لا يعني تسليم الملكية في 27 يونيو أن التحالف الذي ربط بين الملكية
وأما الجمعية التأسيسية؛ فقد اهتمت بتأدية رسالتها على الوجه الأكمل، وكانت
ولكن المحيطين بالملك ظلوا لا يدعون فرصة تمر دون أن يبينوا له أن
واستمع الملك إلى هذه الأقوال، وقبل فكرة استدعاء قوات من الجيش للقيام
de Broglie . فأثار وجود
Noyon
أو «سواسون»
Soissons . ثم لم يلبث أن انتقل الملك نفسه إلى «كومبيين»
Compiegne
تاركا باريس.
ويبدو أن الملك نفسه كان مقتنعا بأن الغرض من وجود الجيش هو مجرد «ردع
ولقد ساعد على زيادة الهياج والاضطراب العام: اشتداد الأزمة المالية، ونزول
وفي هذا الجو الثائر، قرر الملك الاستغناء عن «نكر»، وأمره في 11 يوليو
Bretéuil ، من المعروفين بعدائهم الشديد للثورة، والذي تولى
وحاولت الفرقة «الألمانية
Royal-Allemand
تشتيت الجماهير عند التوليري؛ فأصيب رجل مسن بجراح،
Camille Desmoulins
يخطب في الجماهير
Aux
، وأخذ بعض جنود
Ecole Militaire ،
فقد اقتحم «جيش» من هؤلاء أبواب باريس في ليل 12-13 يوليو وأحرقوا
Comité Permanente
تسلمت
هذه الحوادث الخطيرة لم تفد شيئا في إقناع المارشال دي بروجلي بأن الموقف
وأما سبب هذا الهياج في داخل الجمعية، فهو أن النواب قد صاروا يخشون حدوث
(2) سقوط الباستيل
وتطايرت الإشاعات أن الكونت دارتوا، والدوقة دي بولينياك
يحاولان التأثير على الجنود في فرساي،
ولكن ما إن تقدم النهار حتى وصلت أخبار الثورة، بأن الشعب قد تسلح
Hotel des Invalides ، وزحف على الباستيل (رمز الاستبدادية)، وعندئذ
Champs De Mars
التي كانوا معسكرين بها
ولكن الأنباء ما لبثت أن جاءت تؤكد سقوط الباستيل وانتقام الشعب لنفسه بقتل
De Launey ، الذي أطلق
Flesselles ، عميد التجار الذي اتهم بالخيانة والمضاربة في
ولما كانت هذه أنباء خطيرة حقا، فقد راح الناس يتساءلون: وماذا يا ترى
ففي الوقت الذي كان ينسحب فيه الجنود من ساحة «شان دي مارس» تطايرت الشائعات
على أن الذي راح «ميرابو» يؤكده لم يكن إلا مجرد شائعات. وأما الحقيقة
ولكن موقف الملك هذا لم يرض بطانته، واعتبر البرنس دي كونديه على وجه
Metz
حيث يكشف للشعب من هناك عن حقيقة المؤامرات التي يدبرها أعداء العرش، ثم
لم يوافق على أساليب اعتبرها عنيفة وشديدة، وكان من
وهكذا ظلت الملكية مترددة، لا تدري ماذا تفعل في يومي 14، 15 يوليو، في
واستسلم الملك مرة أخرى، فاستدعى «نكر» من الخارج (وكان في بال
Bâle
بسويسرة)، فأسرع بالعودة إلى باريس، وكذلك
وأما حادث عودة الملك إلى باريس، فقد وصفه روبسبيير في رسالة له بتاريخ 23
Gocarde » البيضاء، شارة الباريسيين ذات اللونين الأزرق
وكتب السفير الإنجليزي في باريس «ساكفيل دوق دورسيت»:
2
وهكذا يستطيع المرء أن يقول إن فرنسا قد صارت من هذه اللحظة بلدا
(3) الهجرة الأولى «وأصول المؤامرة الأرستقراطية»
على أن تسليم الملك بهذه الصورة، أغضب النبلاء الناقمين على «الثورة»
D’Enghien
وابنته الأميرة لويز
Louise ، والكونت دارتوا أخو الملك مع ولديه الدوق دانجوليم
D’Angoulême
والدوق دي بري
Berry ، والدوقة دي بولينياك - صديقة الملكة -
وكانوا إلى جانب اعتقادهم أن «الشرف» يقتضيهم أن «يتنحوا» عن كل شيء ما
والتقى الكونت دارتوا والدوق دي كونديه في بروكسل، حيث التف حولهما
ولقد أقام المهاجرون
Les Emigrés
الدليل،
ولكن سلطة الملكية لم تكن وحدها هي التي تلاشت، بل كان يبدو كذلك أن سلطات
فقد رأينا كيف نشأت فكرة أن هناك مؤامرة أرستقراطية للقضاء على «الطبقة
وقر رأي «الثوريين» لذلك على أن ينتزعوا الملك انتزاعا من الوسط السيئ
وهكذا بينما علت الهتافات للملك «الطيب» الذي دعا مجلس طبقات الأمة
ولم تفد هجرة زعماء المقاومة هؤلاء في إقناع «الثوريين» بأن الملك وقد صار
L’Autrichienne » إظهارا لكراهيتهم
3
لأنه توعد الشعب بأن يجعله «يأكل الحشيش»، وعزي إليه أنه يريد
ولم يكن «الخوف» هو منشأ الفوضى التي انتشرت وقتئذ، بقدر ما كان مبعثها
ولما كان الشعب لا يجد مبررا لبقاء احتكار الملح أو لبقاء امتياز الصيد،
وفي الأسبوعين الأخيرين خصوصا من شهر (يوليو 1789) انتشر ما صار يعرف باسم
La Grande Peur : الرعب من
وقد ينشط المسئولون في بعض القرى فيلحون على أهلها بالفرار بكل سرعة، فيساور
ولقد ظلت مع ذلك بعض الأقاليم لا يعرف أهلها الرعب والفزع بالرغم من اعتقاد
وكان من المنتظر - وكما حدث فعلا - أن يترتب على حالة الرعب والفزع هذه
وقد ظهر هذا التكتل خصوصا منذ أن صار متوقعا حدوث «انقلاب عسكري» بعد حوادث
4
فعلية في بعض المدن التي انتزعت لنفسها من السلطات الحكومية
Intendants
أو حكامها، قد بقوا دون تعليمات ولا قدرة لهم على
وهكذا كان فيما حدث، انهيار «النظام القديم» من تلقاء نفسه، كما أن هذا
(4) زوال النظام القديم (يوم 4 أغسطس)
وعجزت الجمعية الوطنية التأسيسية أمام هذه الحوادث الجسيمة عن فعل أي شيء؛
وعلى ذلك؛ فقد تعذر على الجمعية الوطنية أن تفعل شيئا، قبل التوفيق بين
Noilles
منصة الخطابة، وأخذ يعالج بمهارة الفروق القائمة بين الامتيازات الإقطاعية؛ أي
أولا:
إلغاء السخرة ورقيق الأرض، والخدمة الإقطاعية الشخصية؛ أي
ثانيا:
شراء الحقوق «الكائنة فعلا»؛ أي إلغاء الحقوق الإقطاعية في
ولكن ذلك كان تفاؤلا، لا يلقى ما يبرره. وسبب هذا ما ظهر من صعوبات عديدة
وقد دلت هذه المسائل على أن الجمعية الوطنية كانت مدفوعة إلى اتخاذ هذه
ولقد لعبت المجالس البلدية دورا هاما في كل التغييرات الكبيرة التي حدثت
أضف إلى هذا أن هؤلاء المواطنين - أعضاء المجالس البلدية - قد ازداد
(5) إعلان حقوق الإنسان والمواطن
5 (26 أغسطس 1789)
طالبت أكثر دفاتر الثورة بتقرير المبادئ التي يجب استناد الحكومة الفرنسية
Charte Nationale ،
وفي أول أغسطس بدأت الجمعية الوطنية تبحث موضوع هذا الإعلان من حيث وجوب
ولقد استغرقت هذه المباحثات وأمثالها وقت المجلس حتى يوم 4 أغسطس، فوافقت
ويتفق إعلان الحقوق الذي صدر في 26 أغسطس 1789 مع منطق العهد الذي صدر
وبدأ إعلان الحقوق بمقدمة في قالب من الألفاظ والعبارات الرنانة انتهت بوضع
L’Étre
. ولم يكن هناك
ويتسم «الإعلان» بالطاع النفعي؛ أي بالرغبة في الانتفاع من استصداره، عندما
وثمة ملاحظة هامة هي أن هذا الإعلان كان من وضع «بورجوازية حرة»؛ أي طبقة
وعندما ضمن إعلان الحقوق حق «المقاومة ضد الاستبداد والظلم» (المادة 2) كان
ومع أنهم أرادوا تهدئة النفوس وإزالة الأحقاد الماضية بإعلان مبدأ
6
ثم إنهم قبلوا مبدأ حرية الرأي (المادة 10) وترك الناس أحرارا يبدون ما
ولقد سبب هذا التناقض الألم، كما بعث على الشعور بالخيبة في نفوس المواطنين
(6) حقوق الملك
وبدأت الجمعية الوطنية التأسيسية تبحث موضوع الدستور؛ وعندئذ ظهرت بوادر
وإذا كان المجلس من جهته قد أقر مبدأ فصل السلطات، فإنه كان يرى كذلك أنه
وكان لبعض أعضاء «لجنة الدستور» بالمجلس رأي يخالف ما ذهب إليه المجلس؛ وذلك
Lally-Tollendal -
Veto Absolu ) على جميع قرارات السلطة التشريعية، وثانيا: إنقاص
وحمي وطيس المناقشة داخل المجلس وخارجه حول هاتين المسألتين: تقييد حق الملك
Veto Suspensif ؟ ثم هل تستمر السلطة التشريعية في مجلس واحد أو ينشأ إلى جانبها «غرفة ثانية»؛
وازدحم الباريسيون في «المقاهي» التي انتشرت في العاصمة وقتئذ، وأهمها مقهى
Café De Foy
في حي الباليه
Veto
وضد الغرفة
Madame Veto .
ورفض المجلس «الغرفة الثانية» على اعتبار أنها محاولة لإضعاف السلطة
ولكن سرعان ما تبين أن الملك لا يريد الوفاء بوعده، ويحاول التخلص من
ولكن الملك لم يلبث أن دعا إلى فرساي، في 14 سبتمبر «آلاي الفلاندر»،
7
فدل باستدعائه الجيش إلى مكان اجتماع الجمعية الوطنية على أنه
(7) الهياج في باريس
ولقد كانت الفوضى وقتئذ تسود باريس، سببها إقفار الحوانيت من البضائع
وانتشرت البطالة كما انتشرت المجاعات، حتى صار يتزايد تباعا عدد الفقراء
وكان في وسط هذا الاضطراب إذن أن تألف «القومون» في باريس في 18 سبتمبر
Marat
وهو سويسري الجنسية، ومن رجال الطب العسكري، كان قد أصدر حديثا في صحيفته
L’Ami De Peuple ، ثم «كاميل ديمولان» صاحب صحيفة «فرنسا الحرة»
La France Libre ، وأحاديث المصباح
Discours de la lantern aux
، ثم إليزي
Elisée Loustalot
المحامي من بردو ومحرر «ثورات باريس»
Revolutions de Paris .
وقد اتهم هؤلاء المهيجين جماعة «الأرستقراطيين» و«أصحاب القلنسوات» (أي رجال
وزاد من حدة الغضب ما كان يصدر وقتئذ من «رسائل أو كتيبات» مثيرة مثل
Le Fouet National ، و«متى
8
إلخ. ثم اشتد الصخب عندما نشر رجل أطلق سراحه أخيرا من
9
اتهم فيها لويس السادس عشر وأنصاره بالاستيلاء على الغلال للإثراء
ولقد صدقت الجماهير الثائرة هذا الاتهام، بسبب الاعتقاد السائد وقتئذ بأن
(8) 5، 6 أكتوبر: عودة الملك إلى باريس
وخشي الملك والبلاط من العودة إلى باريس، وسعى البلاط عبثا لاستمالة لفاييت
هذه المأدبة وما حدث فيها، وصلت أخبارها إلى باريس؛ فزاد هياج الجماهير،
ووقف «مارا» يهيب بالجماهير أن «تسلحوا»، وقررت مجالس أو لجان المراكز أن
Cordeliers - أحد أحياء باريس - برئاسة دانتون
Danton
أن يذهب لفاييت إلى الملك لإقناعه
ولكن كان يبدو أن لا مفر من سلوك طريق واحد مع الملك الضعيف والمتردد،
وكان النساء أكثر حماسا من الرجال وأشد هياجا منهم، دوت أصواتهن تطلب
Halle
المكتظ ببائعات السمك، وغيرهن من نساء
وكان موكبا عجيبا: النساء العنصر البارز فيه، حيث بلغ عددهن ستة آلاف وفي
Millard
يقرع على طبلة، وعندما ظهر على «لفاييت» التردد، هدده رجاله بالموت: «إما إلى
وبعد ظهر هذا اليوم (5 أكتوبر) وصل الحشد إلى فرساي، متلطخا بالوحل وفي حالة
Madelaine Chabry
التي
ولكن الملك لم يكن يريد العودة إلى باريس، بل كان يريد الذهاب إلى
Rouen ، مصطحبا معه «المعتدلين» من
الذي انضم إلى
ولكن لويس السادس عشر - وهو الرجل المتردد دائما - لم يلبث أن زادت
وفي صباح 6 أكتوبر تجدد الصخب؛ فاقتحم جماعة من الثوار قصر الملك، وكادوا
فقد كان لانتقال الملك من فرساي حتى يتخذ مقره بالعاصمة أهمية تفوق في نظر
La Grande Emigration ،
وأما المهاجرون
Emigrés - وهم النبلاء الذين
Mainz ، وكوبلنز
Coblentz . وكان في المدن الألمانية هذه أن أنشأ
وكان للانتقال إلى باريس أثر آخر، هو أن الجمعية الوطنية التي شهدت في
وفي هذا الجو الملبد إذن وفي هذه الظروف الشاذة، كان على الجمعية الوطنية أن
وتضافرت صعوبات كثيرة ومتلاحقة لتعطيل نشاط أولئك الذين رغبوا حقيقة في
زد على ذلك استمرار مناوأة مجالس الطبقات الإقليمية والبرلمانات (وهي
وقد تخلصت الجمعية الوطنية من هذه المناوأة التي هدفت منها «البرلمانات»
وإلى جانب هذه المحاولات لمقاومة الثورة ظهرت في المدن حركة ترمي إلى تخليص
Remboulliet
أو في روان أو في ليون
Lyons . وكان من رأي «ميرابو» في 15 أكتوبر: أن الملكية وفرنسا
ولم تكن خطة «ميرابو» هذه سرا مكتوما، بل لم تلبث أن علمت الجمعية بها من
على أن الملك جاءته الدعوة من مدينة ليون للانسحاب إليها والإقامة بها. وكانت
D’Artois - شقيق الملك الأصغر - مقرهم في «تورين» في بيدمنت «بإيطاليا»، وأنشئوا بها
ولقد كان بسبب هذا كله: الخوف من الأخطار الخارجية (أي المتمثلة في وجود
وذلك بأن الرأي في الجمعية الوطنية قد صار متجها الآن إلى ضرورة دعم سلطانها
(9) الدستور (3 سبتمبر 1791)
وفي هذا الجو استأنفت الجمعية الوطنية أعمالها «لتصفية» النظام القديم،
أولا: الملك والسلطة التنفيذية
كان الملك - كما عرفنا - قد أعطي حق الاعتراض المؤقت
10
في 11 سبتمبر 1789، لتقييد سلطته. ولكن الدستور أبقى على
ثم تقرر للملك مرتب ثابت (25 مليون فرنك سنويا)، وصار القائد الأعلى
ثانيا: السلطة التشريعية
وقد تقرر أن يكون التشريع من حق مجلس واحد هو الجمعية التشريعية، وجعل
ثالثا: التنظيم الإداري
تقرر في 22 و23 ديسمبر 1789 إلغاء النظام الإداري القديم في الأقاليم؛
Capet .
ولقد قام النظام الإداري الجديد على أساس اللامركزية التامة، بإنشاء
Départements ، روعيت الاعتبارات الجغرافية في رسم حدودها،
Districts ، وقسم كل مركز
Cantons (أو قومونات
Communes ). على أن يكون لكل مديرية مجلس مديرية
Conseil de Département
من 63 عضوا،
Directoire de Dép
من خمسة أعضاء. ثم نظمت الإدارة في المراكز على
Conseil de Dist ،
Directoire de Dist »،
وأما في الكانتونات، فقد كان الغرض أصلا من إنشائها هو أن تصبح هذه
Citoyens Actifs (أي الذين لهم حق الانتخاب) ينتخبون «الناخبين»
Electeurs ، الذين ينتخبون بدورهم كل
وكان إنشاء الكانتون (أو القومون) هو أهم ما يلاحظ في هذا التنظيم
ويلاحظ أن الغرض من هذا التنظيم الإداري الجديد كان تأسيس الوحدة
على أن الذي يجب ذكره من ناحية أخرى، أنه بدلا من أن يحكم فرنسا -
Intendants
تحت
ولما كان الغرض من هذا التشريع في نظر الجمعية الوطنية توحيد الأمة
وعلى ذلك فقد جاءت للاشتراك في هذا الاحتفال يوم 14 يوليو 1790 الوفود
Champs de Mars ، فقام
وقد حضر هذا الاحتفال من أعضاء الوفود والجماهير حوالي 300000 نسمة. ومع
واعتقد كثيرون وقتئذ أن الثورة قد تدعمت أركانها، وأن مبادئها قد استقرت
ولكن مما يسترعي النظر في التنظيم الإداري الذي حصل أنه إنما استبدل
Citoyens Passifs
وهم المحرومون من حق الانتخاب إطلاقا. ثانيا:
Citoyens Actifs
وهم المتمتعون بحق الانتخاب، ويشترط في هؤلاء أن يكونوا قد بلغوا سن
Assemblées Primaires
التي تسمي أو تنتخب «الناخبين»
Electeurs
بنسبة 1٪. ثالثا: طبقة
Electeurs
وهم الذين يدفعون
Les Éligibles
وهم الناخبون
Électeurs
الذين يدفعون ضرائب مباشرة
وهكذا صار من بين عدد سكان فرنسا الذين بلغوا (24 مليونا)، أولا:
Citoyens Actifs
وعددهم (4298360)، ثانيا: ناخبون
Électeurs
مقدارهم (50000)، ويدخل في عدادهم الصالحون
Éligibles ، بينما حرم من هذه
Corneille . كما
والحقيقة أن هذا النظام إنما يكشف عن وجود تلك السيطرة البورجوازية
رابعا: الإصلاح القضائي
وعالج المجلس الإصلاح القضائي بحكمة تفوق ما ظهر في إصلاحاته الأخرى. ولعل مرد ذلك إلى وجود عدد كبير من المحامين ذوي الخبرة في الجمعية
Lettres de Cachet ، ولم
Juges De Paix .
ولقد حاول الملكيون أن يكون للملك حق تعيين القضاة، ولكن الخوف من تدخل
Électeurs
في المراكز والمديريات، ولو أن مبدأ «الانتخاب» هذا كان من أكبر ما يؤخذ
وثمة إصلاح قضائي آخر، هو أن الجمعية الوطنية لخوفها من إحياء
Cour de Cassasion ، ومهمتها النظر فيما إذا كانت الأحكام المطعون
خامسا: الإصلاح المالي
كانت الأزمة المالية أعظم المشاكل التي واجهتها فرنسا في هذا الحين بسبب
ولما لم يقبل الأهلون على الاكتتاب في هذين القرضين، طلب «نكر» أن
من دخله، وأيده في ذلك «ميرابو». ولكن هذه الإجراءات لم
وعلى خلاف ما كان منتظرا، لم يقبل أحد على شراء هذه الأملاك؛ لأن الثقة
Municipality Bills
بضمانة هذه
ولما كانت الحكومة (أو الدولة) ترغم دائنيها على قبول سندات البلدية
Assignats (من
Assigner = إعطاء حق على شيء).
وكل ورقة نقد تمثل ما يساوي قيمتها من أملاك الكنيسة، ولكل فرد يتعامل
وبهذه الطريقة أمكن اجتياز الأزمة المالية، ولو أن هذا النجاح كان
سادسا: قانون الكنيسة المدني
11
على أن رجال الدين الذين كانوا أكثر ميلا «للثورة» وأكثر عطفا عليها من
وعلى ذلك فقد بدأ أنصار الإصلاح يهاجمون الآن «الكنيسة» ذاتها، بدلا من
Jansen(ius)
أسقف إيبر
Ypres
الهولندي (1585-1638) الذي قال
ثم إنه وجد إلى جانب هؤلاء عدد كبير من أعضاء الجمعية من الذين
وأسفر الهجوم على «الكنيسة» عن إلغاء الأديرة وطوائف الرهبان ما عدا
وقانون الكنيسة المدني هذا هو الذي أثار غضب رجال الدين على «الثورة»
Refractaires »، بينما عرف الذين قبلوا حلف اليمين باسم
Constitutionnels ؛ أي
وكان لهذا التشريع الكنسي نتائج سيئة أهمها:
أولا:
أنه أدخل التفرقة بين شعب فرنسا من حيث شعوره تجاه
وثانيا:
أن الملك الذي كان قد قبل «الثورة» وسلم بها، لم يلبث
وثالثا:
أن البابا لم يلبث بعد ذلك أن أعلن استنكاره لقانون
ولقد لقي القساوسة المخالفون تأييد معظم الفلاحين لهم؛ لأن هؤلاء الذين
وعلى ذلك، فقد وجد أعداء الثورة والمناوئون لها في هذا كله مجالا فسيحا
ولكن حتى يتمكن الملك من القضاء على الثورة بالقوة العسكرية، كان
Metz
على الحدود الشرقية. (10) فرار الملك إلى فارن
Varennes
أوضحنا فيما سبق كيف أن «ميرابو» كان قد نصح الملك في إلحاح أن يغادر
وعلى ذلك فإنه لما قرر الملك ومستشاروه قتل الثورة بالقوة العسكرية، بدأ
Bouillé
لمعرفة مدى ولائه، ولكن «ميرابو» توفي فجأة في 2
وفي مساء 20 يونيو سنة 1791 بدأ تنفيذ خطة الهرب من باريس إلى الحدود الشرقية
Montmédy
حيث كان الجنود على
يغادر البلاد هو الآخر. وقد تمكن
St. Ménéhould
ثم أوقف عند «فارن». وعندما وصل «بويليه» وفرسانه متأخرين كان الملك وأسرته قد
ووصل الملك وأسرته إلى باريس في 25 يونيو، وقد قابلته الجماهير وهي صامتة ولم
فقد ذاع خبر فرار الملك في باريس صبيحة يوم 21 يونيو، فكان لهذا النبأ وقع
وأما هذه القرارات فكانت: أن يطيع الوزراء وسائر الموظفين أوامر الجمعية
Ferrières
أحد نواب طبقة
وعند عودة الملك قررت الجمعية أن «يوقف» وأن يستمر وقفه حتى يفرغوا من
وفي الشهور الثلاثة التالية شهدت فرنسا «فترة خلو» فعلية، وتجددت الخلافات
ودانتون
Danton
وبريسو
Brissot
ومارا
Marat .
ولكن روبسبيير الذي استطاع التأثير على نادي اليعاقبة، وكان له في هذا النادي
Feuillants
نسبة
وبسبب هذا الانقسام الذي حدث في صفوف اليعاقبة، وجد الملكيون - مثل لفاييت
Bailly
والأخوين إسكندر
Alexandre
وتيودور دي لاميث
Lameth
وديبور
Duport
وغيرهم - أنصارا لهم، وكادوا يسيطرون على الجمعية . ولكن اليعاقبة استطاعوا الصمود في موقفهم؛ وذلك لأنه كان لناديهم فروع
وكان من هذه الاضطرابات ما حدث من قيام أول مظاهرة «جمهورية» في ميدان شان دي
(11) نهاية الجمعية الوطنية التأسيسية
وأما الدستور فكان قد تم الفراغ منه قبل هذه الحوادث الأخيرة. ومما تجدر
Électeurs
أو نوابا في المجلس التالي (أي الجمعية
وكان السبب في إصدار هذا القرار - أو بالأحرى في نجاح روبسبيير في استصداره
وفيما عدا ذلك، منع وجود أكثرية معتدلة بالجمعية من إدخال تغييرات جوهرية
وفي 3 سبتمبر 1791 عرض الدستور على الملك ليصدق عليه، فطلب مهلة لدراسته. وفي مساء 14 سبتمبر صدق الملك على الدستور، وأعيد الملك إلى وظائفه. وكان آخر
وفي 30 سبتمبر 1791 أصدرت الجمعية قرارا بانفضاضها، وبذلك انتهى عهد الجمعية
الباب الثالث
الديكتاتورية البورجوازية
الفصل الأول
الجمعية التشريعية1
أول أكتوبر 1791-19 سبتمبر 1792 (1) تأليفها
بدأت الجمعية التشريعية جلساتها يوم أول أكتوبر 1791، وكان عدد أعضائها 745،
وقد توزع الأعضاء في الأحزاب الآتية:
أولا: حزب اليمين
وهم «الفويان» أو الملكيون الدستوريون، وقد استمرت لهم الغلبة الظاهرة
Mathieu Dumas ،
Vaublane ، وجيراردان
Girardin
وغيرهم. كما انضم إلى هذا
Barnave
وديبور ولاميث، وعن
ثانيا: حزب اليسار
وهو الحزب المعارض «للفويان». ويتألف من «الثوريين» والمتطرفين في آرائهم
Vergniaud
وجوديه
Guadet ، جينسونيه
Gensonné ، وهم يمثلون مقاطعة الجيروند في الجمعية، وقد
Les Girondins ، وكان كذلك من أعضاء هذا الحزب: بريسو
Condercet
وكان كاتبا له
ثالثا: حزب الجبل
La Montagne
وهؤلاء كانوا على ارتباط وثيق بالجيروند، ولكنهم مع قلة عددهم كانوا من
احتلوا مقاعد الجمعية العليا في نهاية طرف القاعدة اليساري، ومن هنا جاءت
Montagniards . وهم
Fabre
.
رابعا: حزب الوسط
Centre
ويتألف من المعتدلين وأصحاب الآراء أو المبادئ المستقلة. وقد اتسم
(2) نشاط الجمعية التشريعية
وكان أول ما شغلت به الجمعية التشريعية هو مسألة المهاجرين. فقد أنشأ هؤلاء
Worms
تحت إشراف البرنس دي
Condé ، وصاروا يتآمرون من أجل إشعال «الثورة المضادة»،
2
فاستصدرت الجمعية التشريعية بعد نقاش عنيف وطويل قرارين: القرار
وقد وافق الملك على القرار الأول، ولكنه استخدم «حق الاعتراض» لتعطيل القرار
ولقد تناول المجلس كذلك مسألة رجال الدين المستنكرين أو المخالفين الذين
وكان في هذه الظروف أن جرى تعديل في وزارة الملك، وهي التي تألفت أصلا من
Narbonne ، ودي
de
، وبرتران دي
Bertrand de Moleville ، وكان أبرزهم «ناربون» وهو ملكي ديمقراطي ينظر إلى
وقد حدث في انتخابات البلدية التي جرت وقتئذ كذلك أن أيد البلاط انتخاب
Tallien ، وبللوفارن
Billaud-Varennes . (3) الحرب
وواجهت الجمعية التشريعية مسألة على جانب عظيم من الخطورة، هي مسألة العلاقات
وتفصيل ذلك أن حوادث الثورة كانت قد استرعت في أول الأمر انتباه الملوك
Amedeus
صهر للكونت دارتوا،
Electeur
كولونيا جميعهم أشقاء للملكة ماري أنطوانيت.
أضف إلى هذا أن الثورة من أيامها الأولى قد طغت على حقوق الأمراء المجاورين
Venaissan
ومدينة أفينون
Avignon
كانتا من أملاك البابوية منذ القرن الرابع عشر، ولكن
3
وقد حدث مثل هذا في الألزاس
Alsace (أكتوبر 1790) وغيرها من الأقاليم الواقعة على حدود
فقد ألغت قرارات 4 أغسطس 1789 وما تلاها من إجراءات كل تلك الحقوق، وضمت
Speier ، وأسقف بال
Basel ،
Wartemberg
وتزفايبروكن
Zweibrucken ، وهس-درمستاد
Hesse-Darmastadt ، وبادن
Baden ، وغيرهم. وقد تقدم هؤلاء بشكاواهم إلى
Diet
أو المجلس الإمبراطوري
وكان لهذه الحوادث أثر كبير في تشجيع المهاجرين على المضي في نشاطهم، حيث
وكان مما قوى حركة المهاجرين هذه أن ناخبي كولونيا وتريف
Treves-Trier
وهما اللذان لجأ المهاجرون إلى أراضيهما، لم
Gustave
الذي أرجع
ومع كل ذلك، فقد كان من الواضح أن الإمبراطور ليوبولد الثاني هو الرجل الذي
Reichenbach
في 27 يوليو 1790،
Liège
والأراضي الواطئة (بلجيكا) في قبضته، ودخل في مفاوضات
Vassals
الناخبون والأمراء إلى المجلس الإمبراطوري (الدياط)
ولكن ليوبولد الثاني كان بطبعه يميل إلى معارضة كل الإجراءات السريعة التي
وعلى ذلك، فإنه لما أصر «الدياط» وألح في مطالبة الإمبراطور بأن يتخذ
4
في 6 يوليو 1791 بعث به إلى الدول يطلب منها أن تؤيد قضية الملك
وكما كان متوقعا لم يكن لهذا المنشور أي أثر، سوى أنه أشعل الغضب في فرنسا
ولقد اضطر ليوبولد أن يخطو خطواته التالية بالرغم منه كذلك. فقد عقد معاهدة
Sistova
مع تركيا في أغسطس 1791،
في 27 أغسطس للنظر في هذا
وكان عندئذ أن انتهز الكونت دارتوا الفرصة فقابلهما في هذا الاجتماع كي
5
في أغسطس سنة 1791، أعلنا فيه أن عودة النظام في فرنسا، واسترجاع
وواضح أن هذا الشرط الأخير - تعاون سائر دول أوروبا معهما - إنما يدل على أن
فقد كان ليوبولد يعلم أن وزارة بت
في إنجلترة قررت اتخاذ موقف الحياد تجاه فرنسا؛ ولذلك
وأخيرا فإنه بمجرد أن بطل «توقيف» الملك واستأنف هذا ممارسة سلطاته التي
وهكذا كان قيام الحرب أو المحافظة على السلم متوقفا الآن على القرار الذي
وفي الجمعية التشريعية استأثرت المسألة السياسية أو الشئون الخارجية باهتمام
ومما يجدر ذكره هنا - على خلاف الشائع خطأ - أن روبسبيير وهو من اليعاقبة
Duportail
وزير الحربية وتعيين وزير من
وعلى ذلك، فقد وجد الملك نفسه مرغما على إرسال مذكرة بتاريخ 14 ديسمبر 1791
وتلك «إجابات» لم ترض بطبيعة الحال «ناربون» الذي عمد من فوره إلى حشد
Rochambeau
و«لفاييت» و«لوكنر»
Luckner ، بلغ مجموعها 150000 مقاتل، ثم طلب من الإمبراطور في
وهكذا وجد الإمبراطور أن آماله في المحافظة على السلم في أوروبا الغربية قد
وعلى ذلك - وبالرغم من هذه الاستعدادات - فإن ليوبولد الثاني كان لا يزال
ولكن مما يجب ذكره أن مسئولية قيام الحرب في النهاية بين فرنسا والنمسا إنما
Roland - زوج مدام رولاند -
Servan
للحربية،
Claviére
للمالية، وتولى
Dumouriez
الشئون الخارجية،
Duranthon
العدل، و«لاكوست»
Lacoste
البحرية، وقد أطلق عليها أعداؤها اسم
Sans-Culottes ؛
Culottes
زي النبلاء والبورجوازي في النظام القديم.
واتخذ «ديمورييه» لهجة الآمر الناهي في علاقات البلاد الخارجية بصورة ألزمت
Kaunitz
في 18 مارس 1792)
Un Roi
عليها.
وقد حضر لويس السادس عشر إلى الجمعية التشريعية ليقرأ إعلان الحرب في صوت
Rouget de L’Isle
فوضع «نشيد الحرب لجيش الراين» الذي لم يلبث المواطنون أن سموه «بالمارسيلييز»
Marseillaise .
وباغت إعلان الحرب من جانب فرنسا كل أوروبا، وكان له رد فعل كبير في كل
أما «ديمورييه» فقد عول على الاستفادة من هذه الظروف لتوسيع حدود فرنسا
Mons )، وصار الجنود يفرون من الصفوف وهم في
Dillon
وضابطا آخر بدعوى أنهما يخونان الجيش لصالح النمسا،
وذاعت أنباء هذه الحوادث في باريس، فتزايد في العاصمة السخط والهياج، وعظمت
Volontaires-Fédérés
من جميع المديريات والأقاليم، وكان الغرض الظاهر
وقد وافق الملك على تسريح حرسه الخاص. ولكنه أصر على استخدام «حق الاعتراض»
(4) حادث 20 يونيو 1792
حاول الملك الآن التحالف مع «الفويان». فشكل وزارته منهم، وانبرى هؤلاء
فراجت الإشاعات بأن الأوامر سوف تصدر لوقف القتال، وأن الملك سوف ينتهز فرصة
وعلى ذلك، فقد جاء سقوط وزارة الجيروند مشابها لحادث إخراج «نكر» من
وقد زاد الاعتقاد بقرب تنفيذ المؤامرة رسوخا عندما وجه «لفاييت» من معسكره
Maubeuge
خطابا إلى الجمعية
فاعتبرت رسالة «لفاييت» هذه مقدمة «لانقلاب حكومي». واتحد الجيروند مع
وفي يوم 20 يونيو 1792، وهو يوم ذكرى توقيع ميثاق ملعب التنس
6 (20 يونيو 1789) تجمعت الجماهير (حوالي عشرين ألفا) في حي سان
7
يقودهم على وجه الخصوص «سان
San Terre - أحد تجار وصانعي الجعة - وقصد الغوغاء إلى الجمعية
Bonnet Rouge «لباس اليعاقبة»، وأن يشرب نخب الشعب، وأهان الغوغاء
ولقد ترتب على حادث يوم 20 يونيو 1792 هذا عدة نتائج: منها أن رد فعل
وقد خيل إلى «لفاييت» من ناحية أخرى أن بوسعه إعادة الهدوء والسكينة إلى
(5) يوم 10 أغسطس 1792
والواقع أن الغزو الأجنبي الذي كان الملك يبني عليه اعتماده في إنقاذه وإنقاذ
فقد انتخب فرنسيس الثاني إمبراطورا في 3 يوليو 1792، واتخذ الأمراء الألمان
وانتهز الجيروند واليعاقبة فرصة وجود هذا الشعور المعبأ ضد الملك؛ كي يستأنفوا
Vergniaud - من أبلغ خطباء الجيروند - ضد الملك بعنف في
وكان في هذه الظروف أن استدعي المتطوعون (أو الفدرائيون) - وعددهم عشرون
Soissons ، كما
وفي 11 يوليو 1792 أعلنت الجمعية التشريعية: «أن الوطن في خطر»، وعمدت إلى
وفي 25 يوليو 1792 أصدر «دوق دي
Brunswick - قائد الجيش البروسي - بلاغا حرره أحد المهاجرين،
وفي 3 أغسطس تألفت مظاهرة من «أقسام» باريس على رأسها «بتيون» قصدت إلى
ولما كانت الجمعية التشريعية قد رفضت الإذعان لهذه الديكتاتورية الديماجوجية،
Mandat
رئيس الحرس الأهلي إلى دار البلدية، وتقرر سجنه، ثم ذبح في الطريق إلى السجن،
وفي الخامسة من صبيحة يوم 10 أغسطس، استعرض الملك جنود الحرس في حديقة القصر،
وتعذر بسبب الفوضى أن يبلغ هذا الأمر لكل جنود الحرس، فانسحب فريق منهم بينما
ذلك إذن كان يوم 10 أغسطس، وهو يوم ذو نتائج حاسمة في تاريخ فرنسا، فلم تعد
8
ولقد أرغمت الجمعية التشريعية على إقرار التغيير الذي حدث في مجلس البلدية،
ثم إن القومون لم يلبث أن نقل الملك يوم 13 أغسطس من قصر لكسمبورج إلى سجن
Temple ، وعين بتيون وسان تير
(6) مذابح سبتمبر 1792
وبينما كانت هذه الحوادث تقع في باريس، كان خطر الغزو الخارجي لا يزال ماثلا
Champagne
بطريق لكسمبورج، وتصدى لمقاومتهم
Biron
وكاستين
Custine
عن
Sédan
إعلان استنكاره ضد اليعاقبة والتنديد
وعندئذ أعلنت الجمعية التشريعية أن «لفاييت» قد ارتكب جريمة الخيانة ضد
Olmutz
النمساوية، حتى أفرج عنه عند عقد
Kellermann
محل «لوكنر». وأفاد البروسيون من هذه الاضطرابات فسلمت إليهم «لونجوي»
Longwy
في 23 أغسطس، وكان البروسيون قد بدءوا
Verdun
في 2 سبتمبر. وبذلك صار الطريق أمامهم مفتوحا إلى
وفي باريس استبد الفزع بأهلها لاقتراب الخطر منهم. واتخذت الجمعية
وكان من أثر الفزع الذي استبد بالعاصمة أن دخل «مارا» وغيره من
9
في باريس حوالي ثلاثة أو أربعة آلاف من القساوسة المستنكرين
وفي 2 سبتمبر راجت إشاعة بأن الملكيين على وشك مهاجمة السجون لإنقاذ
Millard - في بعض السجون - وزاد من وحشية هذه
Barnave «من الفويان». وكان من
Lambelle
صديقة الملكة.
وطلب القومون من الأقاليم اتخاذ إجراءات شبيهة بهذه، بدعوى أنه لا ينبغي على
Reims ، ومو
Meaux
وأورليان. فكانت هذه المذابح في رأي بعض
(7) نهاية الجمعية التشريعية
على أن الخطر الذي اتخذ وجوده ذريعة لهذه الحوادث الدامية كان قد زال أثناء
Argonne ، وتمكن بعد مناوشات كاد ينهزم جيشه في أثنائها من
Ménéhould ، حيث لم
Valmy
القريب من هذا الموقع،
وكان هذا الصمود - وهو نجاح ضئيل - كافيا لتقرير مصير المعركة «في 20 سبتمبر
وفي هذه الأثناء كانت الانتخابات للمؤتمر الوطني قد أجريت، وهي انتخابات لم
Citoyen Actif ، واعتبر كل مواطن يزيد على الخامسة والعشرين صالحا
Elégible ، (والانتخاب
وفي يوم 21 سبتمبر 1792؛ أي في اليوم التالي لمعركة فالمي، اجتمع المؤتمر
الفصل الثاني
المؤتمر الوطني1
21 سبتمبر 1792-24 أكتوبر 1795 (1) تأليفه
تألف المؤتمر الوطني من 749 عضوا انتخبوا بالاقتراع العام، ولو أن الذين
Collot d’Herbois ، كاميل
وفي داخل المجلس، صار الجيروند هم حزب اليمين المتطرفين. ويعتمدون على ما كان
وأما في أعلى مقاعد المجلس إلى اليسار، فقد جلس نواب باريس الذين سبق ذكرهم
2
ولم تكن هناك فروق كبيرة بين حزبي الجيروند والجبل؛ لأنهم جميعا كانوا
وأما الجبل، فكان مصمما على ضرورة أن تستمر «الثورة»، وهدف قادة الجبل إلى
وإلى جانب حزب الجيروند والجبل، كان هناك عدد كبير من أعضاء المجلس
أو المستنقع
Le Marais ، يصوتون تارة مع الجبل،
(2) نشاط المؤتمر الوطني
واتخذ المؤتمر الوطني إجراءاته الأولى بالإجماع؛ لأن هذه كانت لدعم الجمهورية
ولما كان قد انتهى أمر الدستور السابق (دستور 1791) فقد تقرر في يوم 22
وحتى يضمن المجلس استيلاء الأمة نهائيا على الأملاك المصادرة، تقرر نفي
وفي كل هذه الإجراءات، كان الجيروند والجبل على اتفاق كامل، ولكن الاصطدام لم
فقد استنكر الجيروند المذابح الأخيرة (مذابح سبتمبر ) وطالبوا بعقاب الذين
وعلاوة على هذا، فقد أضفوا على خصومهم أهمية كبيرة بهجومهم عليهم، فجاءت
فقد استطاع دانتون وهو يدافع عن نفسه، أن يوجه الاتهام ضد الجيروند أنفسهم،
ثم تبع روبسبيير زميله دانتون، فتحدث في دفاعه طويلا - وكما كانت عادته - عن
ولكن الجيروند سرعان ما جددوا هجومهم بعد ذلك، وفي هذه المرة جعلوه
والواقع أن مسلك الجيروند في مسألة توجيه الاتهام ضد الجبل كان بعيدا كل
ومع أن الجيروند كانوا قد نجحوا في تقرير أن يجري انتخاب أعضاء القومون من
زد على ذلك أنهم جعلوا دانتون ينقلب عليهم. وكان دانتون أكثر أعضاء الجبل
(3) استمرار الحرب
وكان من المنتظر بعد واقعة فالمي (20 سبتمبر 1792) التي قررت مصير حملة الجيش
ولقد كان من أثر النجاح الذي أدركه الجيش الفرنسي في «فالمي» أن شعر
وتعددت ميادين الحرب: ففي سبتمبر 1792 دخل جيش الجنوب «سافوي» للاقتصاص من
Amadeus
الذي تحالف مع البربون (متأثرا بإقامة المهاجرين في تورين، ومصاهرته للكونت
وفي نوفمبر 1792 ضمت كل من سافوي ونيس إلى فرنسا، فتحولت الأولى «سافوي»
Mont
، وتحولت الثانية «نيس» إلى مديرية أخرى باسم
Maritime Alps .
ثم عهد المؤتمر الوطني إلى الجنرال «مونتسكيو»
Montesquieu - قائد جيش الجنوب - بالهجوم على جمهورية جنيف
وفي الميدان الألماني، فاقت انتصارات الفرنسيين ما أحرزوه في الميدان
Speier ، و«ورمس»
Worms ، وفي 21 أكتوبر سنة 1792 سلمت «ماينز»
Mainz
دون مقاومة. واستطاع الفرنسيون كذلك أن
وأما في الميدان الشمالي فقد ترك «ديمورييه» الجنرال «كلرمان» يطارد
Jemmappes
في 6 نوفمبر 1792، والتي قررت مصير
Aix-la-Chapelle . ورحب
وأراد المؤتمر الوطني أن يفيد من هذه الانتصارات؛ فنبذ ظهريا المعاهدات
Scheldet
للملاحة،
Antwerp
ميناء حرا (6
وشرع المؤتمر الوطني يطبق هذه المبادئ في البلدان المفتوحة. ولكن هذه
وغضب «ديمورييه» غضبا شديدا لما حدث، وهو الذي أراد أن ينشئ في بلجيكا
(4) محاكمة الملك وإعدامه
وذلك بأن النزاعات الحزبية ظلت على أشدها في المؤتمر الوطني. ولم يلبث حزب
ولقد أراد «المعتدلون» أن يلفتوا نظر المجلس إلى ضرورة مراعاة أحكام
وجرت مناقشة عنيفة، حيث اختلف موقف الأحزاب من هذا التقرير عندما رأى
Saint Just . واستندت دعواهما في ذلك على أن
وكانت هذه مقترحات أو مطالب متطرفة، وسرعان ما ضغطت على يد المعارضة؛ فقد خشي
وتقرر ذلك يوم 2 ديسمبر 1792.
وكان من العوامل التي ساعدت على الوصول إلى هذا القرار، أن اكتشفت خزانة
وكان لويس السادس عشر منذ 11 أغسطس 1792 سجينا في سجن «الهيكل»
Temple ، وكانت قد وقعت عليه منذ أكتوبر عقوبة
ولم يحاول الملك مناقشة سلطات أولئك الذين كانوا متهميه أو خصومه وقضاته في
Barére - رئيس المجلس
وكان أكثر تأثره في اتهامه بأنه أراق دماء المواطنين يوم 10 أغسطس.
ثم انسحب الملك، وقام نقاش عنيف في المجلس بعد انسحابه. وبالرغم من معارضة
Target
وترونشيه
Tronchet . فرفض «تاريجه»، وتقدم
Malesherbes
متطوعا
وفي 26 ديسمبر ترافع المحامي ديسيز
Deséze
من قبل مالزهرب وترونشيه. وكان الدفاع قد أعد بمهارة وعناية فائقتين، وبذل
وفي 27 ديسمبر استؤنف النقاش في المجلس، وأراد الجيروند إنقاذ الملك،
وأخيرا انتهى النقاش في يوم 14 يناير 1793 بإلقاء الأسئلة الثلاثة التالية
فكان الجواب على السؤال الأول بالإيجاب وذلك بالإجماع تقريبا. ورفض المجلس
Lanjuinais
ضرورة
واستخدم «الجبل» بفضل اعتماده على جماهير الغوغاء المحتشدة في القاعة، كل
وكذلك اقترع «فيليب دورليان» أو«فيليب المساواة» على إعدام رئيس الأسرة. وأخيرا قام «فيرنيو» في جلسة 17 يناير يعلن نتيجة الاقتراع بصوت مرتجف. فاتضح أن عدد النواب المقترعين (721) والأكثرية اللازمة (361) صوتا. وجرى
3
بباريس.
وقال «مينيه»
Mignet
في كتابه عن الثورة
وهكذا هلك في سن التاسعة والثلاثين ملك من أفضل الملوك، وإن كان في
وقد ترتب على قتل الملك أن تلطخت أيدي عدد كبير من رجال السياسة في فرنسا
Régicides
وصاروا يعملون ليجعلوا بعيدا ذلك اليوم الذي سوف
قال «لوي مادلان»
Madelin
تعليقا على حادث
وحيث إنهم صاروا معرضين للموت إذا فشلوا، فقد تكاتفوا في إنشاء تلك
(5) آثار قتل الملك: ثورة الفنديه وهزيمة نيروندن
قطعت الثورة إذن على نفسها كل السبل بسبب قتل الملك، ولم يعد في وسعها أن
في الخارج نجد أن «دانتون» نفسه قد اعترف بأن المؤتمر الوطني في حادث 21
زد على هذا تحريض المؤتمر الوطني الشعوب الخاضعة للحكومات المستبدة على
وكذلك أعد «آبيه جريجوار
l’Abbé Gregoire »،
ومع ذلك فقد كانت فرنسا هي البادئة بإعلان الحرب. وتفصيل ذلك: أن البلاط
في مجلس العموم فتحدث عن ضرورة الانتقام
Chauvelin
بقطع كل علاقة معه،
Tallyrand
لندن، مهاجرا إلى أمريكا. وفي
وفي 7 مارس أعلن المؤتمر الوطني الحرب كذلك ضد إسبانيا. فمهد ذلك لتأليف
Hugon de Basseville ، وأعلنت الدولة البابوية الحرب على الجمهورية، ثم
Descorches ،
Kosciuszko ، ففوجئت
وصارت إنجلترة هي الروح المحرك للمحالفة الدولية. وذلك بفضل الإمدادات
وقد أفاد هذا الخطر الخارجي في أنه أوقف مؤقتا النزاعات الحزبية في داخل
وكان المؤتمر قبل إعدام الملك قد أنشأ في أول يناير 1793 لجنة للدفاع العام،
4
وأدخلت عدة تغييرات في وزارة الحرب لتعزيز نشاط هذه الوزارة (3
Assignats
ما قيمته 800
ولكن هذه الهدنة التي أوقفت الخلافات الحزبية، ومكنت من اتخاذ هذه
Chaumette
و«هيبير»
Hébert ، نفوذ عظيم في القومون، بينما عقد كل من
ولم يكن هناك من بين اليعاقبة من يميل إلى الاعتدال غير «دانتون» وحده. فقد
وحاول الجيروند أن يشغلوا المجلس بمشروع دستور جديد، وضعه «كوندورسيه» ولكن
ثم سرعان ما تزايدت قوة اليعاقبة بسبب ما وقع من حوادث متلاحقة بعد
فقد انتشرت الاضطرابات، ووقعت حوادث عصيان كثيرة في فرنسا في هذه الفترة، من
Assignats ، والمجاعة، وارتفاع
Montargis (14 مارس). وفي «أورليان»
Orléans (في 16 مارس) حيث قتل مندوب المؤتمر
وأما أخطر الاضطرابات، فقد وقعت في الأقاليم الغربية في الفنديه
Vendée
وغيرها من الأقاليم التي بقيت معقلا
Brittany ... إلخ عظيما؛ لأنهم شديدو التمسك بالعقيدة
ولذلك فإنه بمجرد أن بدأت عملية التجنيد في الأيام الأولى من شهر مارس 1793،
Loire ، وفنديه،
Sévres ، وكانت ثورة عاتية، اضطر
Marceau
وكليبر
Kléber ، ولو أن بعض العصاة استمروا يناضلون فترة من الوقت بعد
ولقد حدث هذا العصيان الخطير، في وقت كانت الحرب على الحدود الشرقية تسير فيه
Cobourg
النمساوي على بلجيكا
فاضطر «ديمورييه» إلى التقهقر بسرعة، ولكنه انهزم في موقعة «نيروندن»
Neerwinden
في 18 مارس، ثم في «لوفان»
Louvin
في 21 مارس 1793. (6) خيانة ديمورييه
ويبدو أن «ديمورييه» قرر من هذه اللحظة الخروج على المؤتمر الوطني، وتنفيذ
واعتقد «ديمورييه» الآن، وبعد هزيمة «نيروندن» أن الفرصة قد صارت مواتية
Chartres
ابن فيليب المساواة (والذي حكم بعد ذلك فرنسا من 1830
ولكن بعد هزيمتي «نيروندن» و«لوفان»، والقضاء على هذا الأمل، قرر «ديمورييه»
Mack ، يخلي «ديمورييه» بموجبه
ولم يجعل «ديمورييه» نواياه هذه سرا مكتوما، ثم لم يلبث المؤتمر الوطني
Beurononville
للتحقيق
Tournai
في 25 مارس فقبض عليهم
وبادر بتسليم قومسييري المؤتمر ووزير الحربية إلى العدو. فأعلن المؤتمر
Davout
أن يقتله بإطلاق الرصاص عليه. وهرب
Dampierre . ولم يسمح «لديمورييه» بعد هذه الخيانة بالعودة
ولم تكن هذه كل الهزيمة التي لحقت بالجيوش الفرنسية؛ فقد خسر القائد
Custine
خط الراين. ومنذ ديسمبر
Landau
في أول أبريل، ووقف البروسيون على
Artois
وفلندرا الفرنسية،
Roussillon . وهكذا
(7) سقوط الجيروند: انقلاب 2 يونيو 1793
ولما كان «ديمورييه» شديد الصلة بالجيروند، فقد اشتد الهجوم على هؤلاء في
ومن ناحية أخرى كان لهذه الخيانة ولحوادث المشاغبات والعصيان في باريس وفي
وأما هذه الإجراءات فيمكن إيجازها فيما يلي:
إنشاء محكمة
Tribunal Revolutionnaire
في 10 مارس 1793، والمسئول أكثر من سواهما
إعلان طوائف معينة من الأفراد الذين اشتركوا في الثورات
إنشاء «لجان للمراقبة العامة» لمنع المؤامرات المناوئة للحرية
Comités de Surveillance
في وقت تحالف فيه الطغاة في أوروبا
توسيع جديد لاختصاصات لجنة الدفاع
Comité de Défense
التي تأسست منذ أول يناير 1793 من 21
نزع السلاح من المشبوهين، سواء كانوا من النبلاء السابقين، وغير
استصدار قرار بناء على اقتراح من «دانتون» أعلن خارج القانون
، في 27
استصدار قانون جديد ضد المهاجرين، أعلن بمقتضاه أن هؤلاء قد
Civil ،
استصدار قانون لتقييد حرية الصحافة، مع توقيع عقوبة الإعدام على
تقرير وقف حصانة النواب، عندما كان «دانتون» موضع شبهة كشريك
توسيع سلطات المحكمة الثورية التي لم يكن في وسعها حسب قرار
وصار لا يستثنى من هذا الإجراء إلا أعضاء المؤتمر الوطني أنفسهم
تأليف حرس من المواطنين في كل مدينة، يختار أفراده من بين أقل
إنشاء «لجنة الخلاص
Comité de Salut Publique ؛ لأن لجنة الدفاع العام لم تف بالغرض
وقد تألفت لجنة الخلاص العام من تسعة أعضاء من المؤتمر يتجددون كل شهر
وبينما كان يجري تجنيد المتطوعين في الأقاليم، وتقوم الثورة في «لافنديه»،
وفي الأيام التالية استمر يتزايد هياج الخواطر خصوصا عندما بلغت الجماهير
وحاول الجيروند دفع هذا الخطر عنهم، فاقترح «جوديه» - أحد زعمائهم - إلغاء
Barère
وهو من المستقلين، حلا وسطا، هو إنشاء لجنة عرفت
5
لفحص العلاقات التي يجب أن تسود بين المؤتمر الوطني وقومون باريس
وأما لجنة الاثني عشر فقد بدأت عملها فور تشكيلها، بأن أخذت تفحص سجلات
Sections
الثورية، وعارضت في
Boulanger
لقيادة الحرس الأهلي خلفا «لسان تير» الذي ذهب إلى «لافنديه» للاشتراك في
Sans-Culottes (أي اليعاقبة) المقبوض عليهم، كما أرغمته على حل لجنة
غير أن الجيروند لم يلبثوا أن استعادوا تفوقهم في اليوم التالي، فأعيد إنشاء
Hanriot
الذي حل أخيرا محل «سان
وارتاح دانتون لحل «اللجنة» التي اعتزمت فحص حوادث مذابح سبتمبر 1792، ولكن
6
الذي قضي فيه على الجيروند.
وتفصيل ذلك أن ثمانين مسلحا بقيادة «هانريو»، ومعهم مدفعية كبيرة قد حاصروا
وعندئذ انتهز «مارا» الفرصة فأعد قائمة بأسماء النواب الذين يراد حبسهم،
Gensonné ، بريسو،
Couthon
توجيه الاتهام ضدهم. وألقي القبض على هؤلاء
وحقق سقوط الجيروند، نتيجة لانقلاب 2 يونيو هذا، انتصار الجبل، ولو أن هذا
Caen
وانحاز إلى جانبهم في
Charlotte Corday
على قتل «مارا». فقد جاءت خصيصا من «كاين» بمناسبة
وكانت «شارلوت كورداي» فتاة تبلغ الرابعة والعشرين، تأثرت بقراءاتها
Corneille ، وكانت إلى جانب هذا مخطوبة لأحد
Barbaroux ، واعتقدت
ولما كانت باريس تمجد «مارا»، فقد قضت محكمة الثورة بإعدامها ، وماتت على
على أن الثورة في هذا الحين كانت قد امتدت إلى «ليون» و«مرسيليا» و«طولون»
Nimes ، وغيرها من المدن التي أعلنت
Calvados
لإعادة الملكية، وهاجمت جيوش
ومن ناحية أخرى، فإن الغزاة الخارجين سرعان ما استغلوا هذه الاضطرابات
Condé
وفالنسيين
Valenciennes ، فسقطتا في 15، 28
Wissenbourg
و«لانداو». وعلاوة على ذلك فقد هزم الإسبان
(8) ديكتاتورية الجبل: «حكومة لجنة الخلاص العام»
وكان في هذه الظروف الدقيقة: الاضطرابات والثورات في الداخل والهزائم على
وثانيا: في إنشاء تلك الحكومة التي عرفت في تاريخ الثورة باسم حكومة لجنة
(8-1) دستور سنة 1793 (دستور السنة الثانية)
فقد ذكرنا عند الكلام عن نشاط المؤتمر الوطني، أن لجنة قد شكلت
وواقع الأمر أن «الجبل» ظل يبذل قصارى جهده لتعطيل أعمال لجنة الدستور،
Herault de Séchelles
وقدمه إلى
ويتألف دستور 1793 من «إعلان لحقوق الإنسان» في 35 مادة، ومن قانون
أما «إعلان الحقوق» فقد جاء فيه أن الإعلان قد حصل في حضرة الكائن الأعظم.
7
وتجددت في هذا الإعلان الحقوق التي ذكرها إعلان سنة 1789، وزيد
وواضح أن هذا النص إنما ينطوي على تقرير شرعية انقلاب 2 يونيو، وسقوط
وأما الدستور نفسه، فقد جعل لكل مواطن يبلغ الواحدة والعشرين حق
élécteurs
في «المجالس الانتخابية»
Assemblée Électorale
في كل المديريات. وجعلت مدة
Corps Législatif
يقترح القوانين، وجعلت مدة حق الاعتراض على
Conseil Exécutif
يتألف من 24 عضوا،
وأخيرا، نص الدستور في مواده من المادة (118) إلى المادة (121): على
ومما يجب ذكره أن هذا الدستور قد عدد حقوق المواطنين المدنية. فذكرت
ولكن هذا الدستور لم يذكر شيئا عن «واجبات» الإنسان، فلم يختلف في هذه
ولقد اقترع على هذا الدستور المؤتمر الوطني نهائيا في 24 يونيو، ثم
ولكن يجب ملاحظة أن سواد الشعب لم يكن متحمسا للتصويت، فمن بين سبعة
ولكن هذا الدستور لم يوضع موضع التنفيذ أبدا. فيقول «لوي مدلان»: أما
(8-2) لجنة الخلاص العام
وهذه اللجنة كما تقدم تأسست في 6 أبريل 1793، وأعيد انتخاب أعضائها
Carnot (منذ
ولقد عرفت هذه اللجنة باسم «لجنة السنة الثانية الكبرى».
8
وقد عرفت الفترة التي مارس خلالها هؤلاء أسباب السلطة باسم
وتألفت حكومة لجنة الخلاص العام، من «هيئة حاكمة» أو من رجال دولة
H’ommes d’état
عددهم خمسة: فأشرف
Hommes d’exécution
وكانوا «هنري
Jean Bon-André
لإدارة البحرية، و«كارنو» لتنظيم الجيش «وتدبير
نائب
La Lôte d’or ، و«روبير
Robert Lindet
لشئون الإدارة الحربية ومصانع الجيش وخدمة
ولقد كان هؤلاء الرجال يمارسون «حكما مطلقا» في فرنسا، حيث قد اقتضت
فكان مما عالجته لجنة الخلاص العام الأزمة المالية، وذلك بأن فرضت على
Levée en Masse : «بأن يذهب الشبان إلى ساحات القتال،
ولمعالجة الثورات الداخلية، ومجابهة العدو الداخلي، اتخذت لجنة الخلاص
9
لتعقب ومطاردة «المناوئين للثورة» والمشتبه في أمرهم. ويدخل في
ويدخل في عداد المشتبه في أمرهم كذلك، كل أولئك الذين يعجزون عن القيام
10
للتدليل على أنهم مواطنون طيبون صالحون، ثم الموظفون الذين
وعلاوة على ذلك، فقد وضعت «تسعيرة» للغلال والمواد التموينية الأخرى؛
وأخيرا، فإن المؤتمر الوطني لم يلبث أن نقل سلطاته نهائيا إلى لجنة
وعلى ذلك فقد أصدر المؤتمر الوطني قرارا في 10 أكتوبر 1793 ذا شقين: فهو
11
وهي مؤقتة لأن دستور 1791 كان قد ألغي، في حين أن دستور 1793
ثم إن هذا القرار ثانيا: وضع تحت مراقبة وإشراف لجنة الخلاص (المجلس
وفي 2 ديسمبر 1793 اتخذ المؤتمر الوطني قرارا تقدمت بمشروعه لجنة الخلاص
ولقد كان بفضل هذه الإجراءات (أو القرارات) إذن، أن تمكنت حكومة لجنة
أولا: إخماد الثورات والاضطرابات الداخلية
فقد انهزم الملكيون الثوار في نورمانديا، واستطاع مندوبو المؤتمر
وفي 19 ديسمبر أخضع نابليون بونابرت طولون الثائرة، والتي كان يحميها
Hood
الذي استنجدت طولون به. وأما ثورة «لافانديه»
ولقد كان من أسباب ضعف المقاومة ضد اليعاقبة ولجنة الخلاص العام ذيوع
ثانيا: إدارة الحرب
وكذلك نجحت إدارة الحرب، ولازم التوفيق فرنسا عندما دب الخلاف بين
وقد حدث هذا الخلاف بين الحلفاء في الوقت الذي ساد فيه الخلاف كذلك
Jourdan
و«هوش»
Hoche
و«بيتشجرو»
، فأعاد هذا التغيير الاتحاد في الرأي
وعلى ذلك، فقد اضطر الإنجليز إلى رفع الحصار عن «دانكرك » في 6
Hondschoten
بعد ذلك
Wattignies
في 16 أكتوبر، وكان قبل
Wurmser
على الارتداد عبر الراين. واسترجعت جيوش «هوش»
Weissenberg .
وتلك جميعها انتصارات باهرة. لم يطفئ بهاءها سوى تلك الإجراءات
(9) عهد الإرهاب
12
أوجدت حكومة لجنة الخلاص العام عهد الإرهاب الذي أقيم بدعوى القضاء على أعداء
Foquier Thinville
كمناوبين له.
وكذلك تقرر تقسيم المحكمة الثورية إلى أربعة أقسام، يعمل كل اثنين منها
وفي 13 سبتمبر 1793 حصلت لجنة الخلاص العام من المؤتمر الوطني على حق تجديد
13
والتي كانت تألفت منذ أكتوبر 1792، والتي كان لها الإشراف على
فأخرج من لجنة الأمن العام كل الذين اتهموا باستغلال النفوذ لحماية
14 «وفي الأقسام للمواطنين الذين لا يحضرون مجالس الأقسام» أن ترشد
وفي 17 سبتمبر 1793 صدر قانون المشبوهين الذي سبق الحديث عنه لتحديد فئات
ولقد بدأ الإرهاب في باريس بأن امتلأت سجونها (التي تقدم ذكرها) بأكثر من
Barras
ما معناه: «يجب
وكان النائب «جروساس»
Grosas
أول من أعدم من
Valazé
الذي انتحر بطعنة خنجر)
وفي 6 نوفمبر قطعت المقصلة رأس فيليب دورليان أو فيليب المساواة عضو المؤتمر
Barbaroux
في بوردو في
Taine : «صارت الثورة تأكل رجالها.» ومن الذين
وبعد الاستيلاء على ليون (9 أكتوبر 1793) أرسل إليها «فوشيه»
Fouché
للاقتصاص من أهلها؛ فقبض فوشيه من
Carrier
الذي أقام محكمة ثورية تحت رئاسته،
Noyades
خلال شهور أكتوبر ونوفمبر
ثم إنه حتى يتم الانفصال كلية عن الماضي، تقرر في 6 أكتوبر سنة 1793
Vendémiaire «شهر حصاد
Brumaire ، «الصقيع»
Frimaire ، وهذه لفصل الخريف. ثم شهور «الجليد»
Nivose
و«المطر»
و«الرياح»
Ventose ،
Germinal ،
Floreal ، «المراعي»
، وهذه لفصل الربيع. ثم شهور
Messidor ، «الحر»
Thermidor ، «الثمر»
Fructidor ، وهذه لفصل الصيف.
وينسب وضع أسماء هذه الشهور لعضو المؤتمر الوطني: فابرد أنجلانتين. وقد جعل
،
Duodi ، والثالث
Tridi ، والرابع
Quatridi ،
Quintidi ، والسادس
Sextidi ، والسابع
Septidi ، والثامن
Octidi ،
Nonidi ، والعاشر
Decadi ، وجعل اليوم العاشر يوم راحة، ثم أضيفت
Jours Complementairs
في
sans-culottes (مخصصة أو مهداة للعبقرية
Genuis ، والعمل
Labour ،
Action ، والتعويض
Recompenses
والرأي
Opinion ). وقد بقي هذا التقويم معمولا به حتى أول يناير سنة
وقد أدى بطبيعة الحالة إلغاء التقويم الجريجوري المسيحي مع إلغاء أيام
(10) انقسام الجبل
والحقيقة أن حزب الجبل كان قد بدأ يسير من مدة في طريق الانقسام إلى ثلاث
(10-1) حزب دانتون
فقد كان دانتون (وحزبه) يبررون قيام الإرهاب بأنه ضرورة لا غنى عنها
Le Vieux Cordelier - لتنشر آراءهم بقوة، ولقوا تعضيدا كبيرا من
(10-2) حزب مارا
وأما حزب مارا، فمع أن الحزب قد فقد رئيسه (منذ 13 يوليو 1793) فقد ظل
Ronsin ، وكان داعيته أنشراسيس كلوتز
Anachrasis Clootz
البارون البروسي
15
ولقد ملأ أنصار هذا الحزب نادي الكورديليه، بعد أن أخرج منه
Hébéristes
نسبة إلى «هيبير» أو المفرطين
Les Exagérés ؛ أي الذين أفرطوا في
.
بدءوا نشاطهم بهدم القبور، ثم أرغموا المؤتمر الوطني على إلغاء
16 (10-3) حزب روبسبيير
وقد أثارت هذه الطقوس المفزعة غضب واحتقار روبسبيير الذي كان صادق
سيطرة روبسبيير
وحاول «دانتون» وحزبه بكل وسيلة جذب روبسبيير إليهم، ولكن روبسبيير
وليحقق هذا الغرض المزدوج إذن تحالف روبسبيير مع الحزب الأضعف، وهو
ولقد قوبل إعدامهم بفرح كبير في باريس، حيث ساد الاعتقاد بأن
ولكن روبسبيير كان يريد الانفراد بالسلطة، ويجب عليه لذلك أن يتخلص
ولكن لم يمض أسبوع واحد على إعدام «هيبير» حتى فوجئت باريس في أول
17
ووجه الاتهام إلى «سان جوست» نفسه، وعجزت «المحكمة» وعجز
وفي اليوم التالي أعلن «المحلفون» أن ضمائرهم قد صارت مرتاحة لإدانة
Lucile
أرملة كاميل ديمولان، ثم أرملة «هيبير»، كما
وهكذا دانت السلطة لروبسبيير دون منازع. فقد كانت لجنة الخلاص لا
Lavoisier
و«أندريه شينيه»
André Chénier ،
وكان في هذه الفترة أن بلغت قسوة «كارييه» ذروتها في أعمال الإرهاب
Lebon
في
Arras (بلد روبسبيير) القسوة
ثم عمد روبسبيير إلى إحياء العبادة والدين في فرنسا، ولكن في صورة
Etre Supréme ، وعلى خلود النفس، وفي 8 يونيو أقام روبسبيير
سقوط روبسبيير
ولكن اتحاد الحكومة الثورية الذي ضمن بقاء الإرهاب لم يلبث أن تحطم
وقد انضم إليهما «بارير» بمجرد أنه شعر أن روبسبيير قد بدأ بالفعل
وتألفت المعارضة ضد روبسبيير من اتحاد جميع المتطرفين ضده: من
وعول روبسبيير على التخلص من معارضيه، فاستصدر «كوتون » من المؤتمر
ومع أن هذا المشروع عندما قدم قوبل برعب وهلع عظيمين، فقد كان
ولكن المعارضة سرعان ما حزمت أمرها على أن تسبق بتحطيم روبسبيير
وفي أثناء هذه الأزمة تغيب روبسبيير حوالي ستة أسابيع من لجنة
وبدأ الهجوم على روبسبيير في صورة هجوم على امرأة عجوز تدعى
Catherine Theot ،
والسبب في تقاعس روبسبيير أنه كان يعتمد فيما مضى على النشاط أو
وحدث في الأيام القليلة التالية ما جعل خصوم روبسبيير يسرعون بالعمل
Thérese Cabarrus
عشيقة «تاليان» أحد رؤساء المتآمرين أو
وعلى نحو ما كان منتظرا لم يتحمس المؤتمر لهذا الخطاب، وهو محشو
Thuriot ، زميليه (بللو فارن
وهدد «تاليان» والخنجر في يده بقتل روبسبيير في التو والساعة إذا
ووسط هذه الضجة اقترع المجلس على انعقاده في جلسة مستديمة، وقرر القبض
Augustine
شقيق
Lebas ، فنقل الخمسة إلى السجون، كما قبض على
ولكن الأمل لم يفقد بعد في إنقاذهم، فقد ثارت الأقسام فورا بتحريض
(11) محاولة الاستقرار الأولى (11-1) عهد الترميدوريين
18
أنهى انقلاب 9 ترميدور (السنة الثانية) 27 يوليو 1794 عهد الإرهاب، وأعقب
ثم تبع ذلك إعادة تنظيم المحكمة الثورية، فصدر قراران في 5، 10 أغسطس
وبلغ في باريس وحدها عدد الذين أطلق سراحهم - بعد زيارة السجون المختلفة -
إلخ» في 24 أغسطس. ثم ألغيت اللجان الثورية المحلية ما عدا ما كان منها في
وفي أول سبتمبر 1794 ألغي قومون باريس واستبدلت به لجنتان إحداهما
وتوهم كثيرون بسبب هذه الإجراءات أن انقلاب 9 ترميدور ينبئ بانتهاء
ولقد توالى الهجوم على «نادي اليعاقبة»، ثم ما لبثت أن تألفت في باريس
Jeunes Gens
أو (الشباب المذهب
Jeunesse Dorée ). وفي 9 نوفمبر
ولكن منذ أواسط شهر أكتوبر صار المؤتمر يتناقش في موضوع إغلاق الأندية
Vadier (2 مارس سنة 1795).
وفي شهر مارس صدر قرار بإرجاع الأعضاء الجيروند الذين كانوا قد طردوا من
ولكن هذه الإجراءات الموجهة ضد اليعاقبة جعلت هؤلاء يقررون المقاومة. ولقد كان مما ساعد اليعاقبة على تحريك الثورة انتشار التذمر؛ بسبب قسوة
Babeuf
قد قام بحملة شديدة ضد التملك في صحيفة
Tribun du peuple ، فقد
ولكن فلول اليعاقبة والجماهير التي عضها ناب المجاعة المستمرة في باريس
كما طالب الثوار بالقبض على الذين تتألف منهم لجان الحكومة، وإطلاق سراح
Menou
و«مورا»
Murat
و«دلماس»
Delmass ، فقضى على هذه الثورة في 23 مايو. وحوكم
ومن هذا التاريخ إذن وكما يقول المؤرخ «جورج
Leffbre : يجب اعتبار أن أجل «الثورة» قد تعين؛ لأن
ولقد ساعد على إنهاء عهد الإرهاب زوال المبرر لوجوده: الخطر الخارجي (أو
فمن ناحية الخطر الخارجي: استمرت الجيوش التي جهزها «كارنو» تصمد في
Sambre
والموز
Meuse
انتصارا على جيش الحلفاء في موقعة
Fleurus
في 26 يونيو سنة 1794،
Ruremonde ، وأرغمهم على اجتياز النهر إلى
Moselle . وقبل نهاية شهر أكتوبر كان الفرنسيون قد سيطروا
Nimeguen .
وعلى حدود سردينيا وإسبانيا انتصر الفرنسيون كذلك، ولو أن الأسطول
Howe
أوقع
Ushant (المقابلة لطرف شبه جزيرة بريتاني) في أول يونيو
واستأنف جيش «بيشجرو» الهجوم، فعبر نهر الموز في أواخر ديسمبر 1794، وفي
Stadtholder
هولندة إلى إنجلترة، ودخل
Bremen
حيث
Rep. Batave ، من نمط الجمهورية الفرنسية، وعقدت فرنسا معها
وحوالي هذا الوقت تقريبا كانت المفاوضات قد بدأت مع فردريك وليم
وحتى يمكنها التفرغ لهذه المسألة إذن عقدت بروسيا صلح «بال»
Basel
مع فرنسا في 5 أبريل سنة 1795. وأما
St. Domingo
في الهند
d’Angouléme ) من سجن «الهيكل»
Temple
في مقابل إطلاق سراح قومسيري
وقد عقدت تسكانيا الصلح مع الجمهورية، كما عقدت «هس كاسل» إحدى الإمارات
وأما فيما يتعلق بالناحية الداخلية: فقد استطاع المؤتمر القضاء على
Chouans ) في إقليم «لافنديه»، وذلك بعد أن كان المؤتمر قد
Quiberon (شاطئ بريتاني الجنوبي) واستولوا
Fort Penthiévre ، وتحصنوا
Charette
وستوفليه
Stofflet .
ولكن جيش المؤتمر الوطني بقيادة الجنرال «هوش» لم يلبث أن حاصر الثوار في
Angers
في فبراير 1796، بينما أعدم الزعيم
(12) دستور 1795 (العام الثالث)
وكان المؤتمر الوطني قد شكل كما ذكرنا لجنة منذ 4 أبريل 1794 من أحد عشر
وعلى ذلك، فقد قدم «بواسي
Boissy d’Anglas
إلى المؤتمر الوطني في 23 يونيو 1796 تقريرا باسم
Conseil Exécutif
مسلوب كل إرادة وكل
Corps Legislatif
في
وقال «بواسي دانجلاس»: «إن بلدا يحكمه المتملكون (أصحاب الأملاك) لهو بلد
وعلى ذلك، فقد كان من المنتظر أن يحفظ الدستور الجديد مصالح الطبقة
كان واضع الدستور الحقيقي من بين أعضاء لجنة الأحد عشر هو المواطن
Daunou ، ولقد ناقش المؤتمر الوطني
أعلنت مقدمة الدستور في حضرة «الكائن
L’étre Suprême
ليس فقط حقوق الإنسان بل وواجباته، كما ذكرنا، كما
وأما مواد الدستور نفسه فبلغت 277 مادة، في أربعة عشر فصلا. فنص الدستور
وبمقتضى هذا الدستور وضعت السلطة التشريعية في هيئتين: مجلس القدماء (أو الشيوخ)
Conseil Des Anciens (Sénat)
من 250 عضوا لا يقل عمر الواحد منهم عن أربعين عاما، ويجب أن يكون زوجا أم
Conseil des
ولا يقل عمر العضو عن ثلاثين عاما.
ولقد قال أحد أعضاء لجنة الدستور (الأحد عشر) وهو «بودان»
Baudin : إن المجلس الأول يمثل «العقل»
La
والثاني يمثل «الخيال»
L’Imagination ، وأما أعضاء هذين المجلسين
Assem. Primaires - وهذه تتألف
élécteurs ، وهؤلاء ينتخبون النواب
deputès ، ولمجلس الخمسمائة حق وضع مشروعات القوانين، ولمجلس
والمشروعات التي تنال موافقة مجلس القدماء تصبح قوانين.
ومما يجب ملاحظته أن السلطة التشريعية في دستور سنة 1795 كانت من نصيب مجلسين
وأما السلطة التنفيذية: فقد وضعت هيئة تتألف من خمسة مديرين عرفت باسم
Directoire
تنتخبهم الهيئة
هذا ويشترط في عضو الإدارة أن لا يقل عمره عن الأربعين عاما، وتستمر مدة
Ministres
ستة ليسوا إلا رؤساء مصالح فحسب (من
وأما السلطة القضائية: فقد جعل حق المواطنين تولي الوظائف القضائية إذا كانت
19
وكانت هذه أداة سياسية أكثر منها منظمة قضائية؛ ومثلا في ذلك
هذا؛ ومما تجب ملاحظته أن دستور العام الثالث (في المادة 258) قد ضمن حق
وواضح أن غرض المؤتمر الوطني من تقرير ذلك، إنما هو المحافظة على حقوق أولئك
Chabot ، «باراس»،
20
عضو صار فيما بعد أميرا، هو «كمبسيرس»
Cambacéres ، و13 صاروا «كونتات»، و5 صاروا «بارونات»، و7
زد على هؤلاء واحدا من بين أعضاء المؤتمر الوطني صار فيما بعد «دوقا» هو
Fouché
دوق دوترانت
d’Otrante ، وواحدا صار كونتا هو «مرلان». وهكذا صار حوالي خمسين من الديمقراطيين قبل مضي خمسة عشر عاما من أصحاب
ولما كان غرض المؤتمر الوطني المحافظة على الجمهورية، «ولما كان أعضاؤه من
Régicides
ويخافون من انتقام
ولكن «أقسام» باريس لم ترضخ لهذه النتيجة، وقامت بالثورة ضد المؤتمر في 12
(13) نهاية المؤتمر الوطني
وفي نهاية 24 أكتوبر 1795 اجتمع المؤتمر للمرة الأخيرة، في قصر التويلري،
ويقول المؤرخ الفرنسي «لويس
Louis Villat
تعليقا على أعمال المؤتمر: «وهكذا، فإن المجلس الذي
لقد ظل عدم التوازن باقيا على حاله حتى إن موريس
Morris (وموريس هذا كان أمريكيا، من أنصار الملكية الحرة
وقد عبر عن ذلك أيضا «جوستاف لوبون» في كتابه عن «الثورة الفرنسية
21
فقال:
وهكذا وجد أن امتيازات العهد القديم التي تعالت الصيحات ضدها قد
الباب الرابع
«إنهاء الثورة» والتمهيد لديكتاتورية الفرد
الفصل الأول
جمهورية حكومة الإدارة1
استمرار محاولة الاستقرار الأولى: الديكتاتورية الخماسية
2
20 أكتوبر 1795-10 نوفمبر 1799
تمهيد
تمثل حكومة الإدارة أول تجربة لحكومة جمهورية مؤسسة (أو قائمة) على دستور،
Mathiez
ممن أرخوا لحكومة الإدارة: «إن رجال الحكم هم
فقد كان دستور العام الثالث (1795) من صنع الجمهوريين المعتدلين الذين أرادوا
الحكومة الجديدة وبرنامجها
ولما كان قد تقرر أن يكون ثلثا الأعضاء في الهيئة التشريعية من بين رجال
3
وكان رئيس الشيوخ «لاريفليير لييو»
La Révellière-Lépeaux ، ورئيس الخمسمائة «دونو»، وكلاهما من
وأما الهيئة التنفيذية، فقد تم تشكيلها في 2 نوفمبر 1795، وذلك بأن اجتمع
Letourneur (وأصلهما من
Reubell ، و«سييس»
Siéys (وقد استبدل بهذا الأخير «كارنو» منذ 4
أما «باراس» و«روبل» و«كارنو» فكانوا من الجبل، وجميع أعضاء حكومة الإدارة
وكانوا جميعا - ما عدا «روبل» الذي كان موفدا وقتئذ في مهمة إلى الأقاليم من
Régicides ، واتخذ المديرون قصر لكسمبورج مقرا لهم.
وقد شرعت «الإدارة» في تعيين الوزراء الستة المنصوص عليهم: للداخلية، والعدل،
وأصدرت حكومة الإدارة بيانا للشعب الفرنسي في 5 نوفمبر 1795 عرضت فيه
صعوبات حكومة الإدارة
وكان هذا ولا شك برنامجا كبيرا ومعقدا وصعب التنفيذ. وعجزت حكومة الإدارة
فقد كانت خزانة الدولة خاوية على عروشها؛ لأن المتحصل من الضرائب كان قليلا؛
Assignats ، وحرمان الفلاحين
وهذه الحاجة الملحة للمال لم تلبث أن أملت إملاء على حكومة الإدارة السياسة
وأما المنازعات الحزبية، فسببها وجود جماعات ثلاث هامة: الملكيون ومعهم
Royalistes
قد انهزموا في ثورة (13 فندميير/5
Verona
منشورا أيد فيه الملكية
Condé
الذي تولى قيادة جيوش الأمراء في الغابة
ولقد اختلفت آراؤهم بشأن أفضل الوسائل الواجب اتخاذها لاسترجاع السلطة في
وشجعت إعادة تشكيل الجمعيات الشعبية، فتأسست جمعية «التئام أصدقاء الجمهورية»
4
التي صارت تعرف باسم «نادي البانثيون».
5
وكان أعضاء هذه الجمعية أو النادي على اتصال بالاشتراكي
Babeuf ، وكانت هذه الصلة سببا في
وأما الجمهوريون الحقيقيون، فهم المؤيدون لنظام حكومة الإدارة
Directoriaux ، وهم أهل الطبقة المتوسطة
وكان التدهور الخلقي من العوامل التي زادت من حدة الصعوبات التي واجهتها
وانتشر الفساد الخلقي في الحياة الاجتماعية. فمع أنه جاء في الدستور (دستور
Mallet du Pan
في
الأزمة المالية وحركة «بابيف» الاشتراكية
وعنيت حكومة الإدارة قبل كل شيء بمعالجة الأزمة المالية؛ بسبب خلو الخزانة من
Assignats
حتى إن سعر الجنيه الذهب (
Louis
وقيمته 20 فرنكا) بلغ في ديسمبر سنة 1795 (5200)
ولكن الذي حدث كان على خلاف ما توقعته؛ لأن الحكومة بتحديدها النسبة بواحد
Comité des Finances
في 23 ديسمبر 1795 إصدار ورق نقد
Assignats
بمقدار أربعين مليارا من الفرنكات،
ولما فشلت كل هذه المحاولات وجدت الحكومة في 18 مارس 1796 من الضروري إلغاء
Mandats Territoriaux ». وقد انفرجت
وعلى ذلك فقد استمر الضنك والبؤس في البلاد، وزادت مدة البطالة، واشتد
6
وهي التي أسماها بعد ذلك «بالمحامي عن حقوق الشعب»،
7
وتزعم «بابيف» حركة اشتراكية كانت شيئا جديدا في تاريخ الثورة
بدأ «بابيف» هجومه بتناول «القانون الزراعي» الذي نقده على أساس أنه يؤدي إلى
ثم يقول «بابيف» (في عدد 30 نوفمبر 1795):
إن الديمقراطية هي وجوب أن يقوم أولئك الذين يملكون أكثر مما يحتاجون
ولقد دلت التجربة على أن هذا نظام عملي، حيث إنه مطبق على (1200000)
وفي عدد 21 ديسمبر 1795 اختتم «بابيف» شرح نظريته هذه بقوله:
إن ثمار (غلات) الأرض ملك للجميع، ولكن الأرض نفسها ليست ملكا
أي إن نظرية «بابيف» تتلخص في أن «المساواة» التي نص عليها إعلان حقوق
وأما الأداة التي كان عليها تحقيق هذا البرنامج، فكانت «لجنة مركزية» أنشئت
Blauw ).
ولم تكن حركة «بابيف» تنطوي في حد ذاتها على خطر كبير، ولكن انضمام متطرفي
وعندما نمى للحكومة أن اليعاقبة يتآمرون مع «بابيف» وأنصاره لتدبير انقلاب
Vendome . ثم دبر البوليس حركة عصيان في معسكر «جرينيل»
Grenelle ، اتخذ منه ذريعة للقبض على عدد من
وأما «بابيف» وجماعته، فقد استمرت محاكمتهم من 20 فبراير لغاية 26 مايو 1797،
Darthé
في 27 مايو 1797، وحكم على
Vadier ، وقضي على
السياسة الخارجية: حملة إيطاليا
واتسمت سياسة حكومة الإدارة الخارجية بطابع التناقض، من حيث إن حكومة الإدارة
ولقد تقدم كيف انفرط عقد المحالفة الدولية الأولى ضد فرنسا بعد أن عقدت
ولم تكن الحرب مع إنجلترة أمرا ميسرا من الناحية العملية؛ لأسباب منها أن
وعلى ذلك فلم تكن الحرب متيسرة إلا مع النمسا. وقررت حكومة الإدارة الرجوع
Moreau ، وجيش إيطاليا بقيادة «بونابرت». وقد تولى بونابرت
Savon
في 10
واعتمدت حكومة الإدارة على جيشيها في ألمانيا لإحراز الانتصارات السريعة
فمنذ اللحظة الأولى التي تولى فيها بونابرت قيادة جيشه، كسب هذا القائد
Montenotte
و«ديجو»
Dego
و«مليسيمو»
Millesimo
و«مندوفي»
Mondovi ، وفرض على سردينيا هدنة «شيراسكو»
Cherasco (في 28 أبريل 1796) التي تحولت إلى
Milanais
يسقط من غير قتال في يد بونابرت، وعقدوا العزم على
Adda . ولكن
Lodi (في 10 مايو)
Mantoue .
وانحصرت من هذا الحين جهود بونابرت في ناحيتين: تهدئة إيطاليا الوسطى
ففيما يتعلق بالأمر الأول: عقد بونابرت المعاهدات مع «بارما» في 9 مايو 1796
Modene (في 17 مايو)، وأملاك
Rep. Cispadane
في 16 أكتوبر 1796، من بولونا وفراره ومودينا، وأعطاها
Rep. Transpadane
في سهل
Cisalpine .
وفي أثناء ذلك هزم بونابرت جيوش النمسا التي حاولت مرات أربع بقيادة
Wursmer ، وألفينزي
Alvinzi
تخليص «مانتوا»، فانتصر بونابرت على
Castiglione (5
Bassano (8 سبتمبر 1796)،
Arcole (17 نوفمبر 1796)،
Rivoli (14 يناير 1797)، فسلمت
ولقد استطاع بونابرت في الوقت نفسه أن يمد أهل «كورسيكا» بالمساعدات التي
وكان بعد سقوط «مانتوا» أن اتجه بونابرت لمعاقبة البابا «بيوس السادس»
الذي أظهر عداء للفرنسيين. ولم تستطع جنود البابا الصمود أمام جيش الجمهورية «الفرنسية»؛ فاضطر البابا إلى
Tolinteno
في 19 فبراير
Basseville
أحد موظفي المفوضية الفرنسية في روما، والذي قتله الشعب بها في 1793. واستولى
Ravenna ، وريميني
Rimini ،
، وأنكونا، وبيروجيا
ولوريتو
Loretto ، وبعث بها إلى باريس.
ولما كان متعذرا على النمساويين بعد هذه الهزائم أن يعدوا جيوشا جديدة
Leoben ،
Istria ، والبندقية، وترك أمر الصلح مع
الموقف الداخلي: حزب الكليشيان
8
وفي أثناء هذه الانتصارات الخارجية، كان الموقف الداخلي ينبئ بحدوث أزمة
ومرد ذلك إلى ما جاء في دستور العام الثالث (1795) من وجوب تغيير ثلث أعضاء
فإن إعادة انتخاب ثلث أعضاء الهيئة التشريعية ثم تبديل أعضاء حكومة الإدارة
Conventionnels
الذين اشترط الدستور
ولكن التيار الرجعي الذي حدث بعد «انقلاب ترميدور» عموما ثم بعد قيام حكومة
ولقد تألف من بين هؤلاء الملكيين والبورجوازي والكاثوليكيين المنضمين
Clichy
الذي كان به مقر اجتماع
Gilbert
.
وقد اشترك بعض هؤلاء «الكليشيان» في مؤامرة قام بها أحد الوكلاء الملكيين،
L’Abbe Brottier ، ولكن
Cayenne
بأمريكا
ولكن الملكيين نبذوا سريعا كل تفكير في القيام بانقلاب بوسائل العنف، بل
وغيره، ووافق عليه الملك لويس الثامن عشر «دوق دي
وعلى ذلك، فقد راح الملكيون يستعدون لخوض الانتخابات المتوقعة (حسب الدستور)
وبالفعل نجح هؤلاء نجاحا تاما في انتخابات «المجالس الابتدائية»
Assm. Primaires
في 21 مارس
Assm. Electorales
في 9 أبريل. فلم ينتخب من الأعضاء الذين سقطت
وفيما يتعلق بالهيئة التنفيذية، خرج «لوترنير» بالقرعة وحل محله
Barthélemy ، المفاوض الفرنسي
Barbé-Marbois ، وهو معدود من الملكيين كذلك لرئاسة
ولقد ظهر أثر هذا التغيير عندما قرر مجلس الخمسمائة في 16 يوليو 1797 إلغاء
Talleyrand-Périgord .
وكان في هذه اللحظة بالذات أن جددت إنجلترة مسعاها لعقد الصلح، تحت تأثير
Lille » بين الإنجليز «ومندوبهم مالمسبري
Malmesbury » وبين مندوبي حكومة الإدارة، وقد
انقلاب 18 فريكتدور سنة 5 / 4 سبتمبر 1797
لقد بقي بونابرت بعد الانتصارات التي نالها مقيما في إيطاليا، حيث وافته
Crivelli
العظيم في مومبللو
Mombello
بالقرب من ميلان، وحيث احتفل بونابرت بزواج أخته
من الجنرال لكلير
Leclerc . ويصف «ألبير سوريل»
Albert Sorel
أسلوب أو نوع الحياة التي كان يعيشها بونابرت
وبونابرت وقتئذ كان قد فرغ من إنشاء جمهورية ما وراء الألب (9-14 يوليو
Augereau
كي يتولى قيادة الجنود بها (8 أغسطس
ولما كانت أكثرية أعضاء حكومة الإدارة، وهم: باراس، وروبل، ولاريفليير ليبو،
وكان من نقائص دستور العام الثالث (1795) أنه لم ينص على الطرق التي يمكن
وحاول «المجلسان» التخلص من «الثلاثية الديكتاتورية»: ثلاثية باراس،
وقد ألقي القبض على «بارتليمي» وهو في فراشه، وتمكن «كارنو» من الهرب
وفي اليوم التالي من (4 سبتمبر/18 فريكتدور سنة 5) أصدرت حكومة المديرين
I’Odéon » ومجلس الشيوخ في مدرسة الطب
I’Ecole de Medécin
وأبلغوا المجلسين وثائق
Merlin de
.
وقد انتظمت هذه القرارات في قانون 5 سبتمبر 1797، وبمقتضاه؛ أولا: صار إلغاء
وفي 6 سبتمبر حل «مرلان دي دويه» وفرانسوا دي
Neufchateau
محل كل من «كارنو» و«بارتليمي».
وأفادت حكومة الإدارة من هذا النصر الذي قضى (بفضل انقلاب 18 فريكتدور السنة
صلح كامبوفرميو (17 أكتوبر 1797)
وخشي النمساويون بعد انقلاب 18 فريكتدور - وهو الانقلاب الذي ساعد بونابرت
Thugut
أن لا يتقيد بونابرت في هذه الظروف بشروط «هدنة
وعلى ذلك فقد بادر «ثوجوت» بإرسال دبلوماسي ماهر هو الكونت لويس كوبنزل
Cobenzl
إلى «أودين»
Udine
حيث كان يقيم بونابرت حتى يعقد الصلح النهائي معه
Campo-Formio ، وفي
Rép. Cisalpine
وجمهورية ليجوريا
Rép. Ligurienne «في جنوه». وكان
Doge
واثني عشر «شيخا»
Senateurs ؛ أي حكومة من
وفي نظير ذلك تنازلت فرنسا للنمسا عن جمهورية البندقية والأراضي التابعة لها
Fruili
و«إستريا» ودلماشيا حتى
Sainte-Maure ، سيريجو
Cérigo .
وفيما يتعلق بالصلح مع الإمبراطورية «ألمانيا» تقرر في 31 أكتوبر أن
Rastatt . وقد بدأ هذا المؤتمر أعماله في 16 ديسمبر 1797، ووافق مندوبو الولايات
وعلى خلاف ذلك كانت على صلح كامبو-فرميو مآخذ كبيرة: منها أن النمسا بالرغم
وحقيقة قضى إحراز هذا النصر السياسي (صلح كامبوفرميو) على الخطر من حدوث رد
وأما بونابرت فقد عاد إلى باريس يوم 10 ديسمبر سنة 1797، وهو يشعر كما قال:
L’Institut
في
Stael .
ولكن بونابرت لم يكن يرضى «بالبطالة»؛ فأخذ يدرس موضوع مراجعة دستور العام
وهكذا.
كما استمر يهتم بشئون إيطاليا، وبالجمهوريات التي أنشئت أو التي يجب أن
وكان لغضب الشعب من حكومة الإدارة عدة أسباب: منها السياسة التي جرت عليها في
انقلاب 22 فلوريال سنة 6 / 11 مايو سنة 1798
وظهر غضب الشعب من حكومة الإدارة وكراهيته لها عندما جرت الانتخابات لتجديد
وكان الاتجاه في هذه المرة نحو انتخاب أعضاء من «اليعاقبة» وليس انتخاب
ولما كانت الأكثرية في المجلسين (وهي الثلثان) من أنصار حكومة الإدارة، فقد
والذي تجدر ملاحظته أن عدد الأعضاء الذين ألغي انتخابهم من «اليعاقبة» كان
ونفس هذه الحقيقة تفسر ما حدث كذلك عند اختيار عضو الإدارة الذي يخلف «فرنسوا
Treillhard
بالرغم من أنه لم
ومع أن هذه الحكومة قد بذلت قصارى جهدها لإجراء عدة إصلاحات - مشهورة باسم
وسبب آخر لكراهية الناس لهذه الحكومة، هو أن هذه الديكتاتورية التي فرضها
المحالفة الدولية الثانية (1798)
فقد نشأ عن سياسة الغزو التي اتبعتها حكومة الإدارة والتي ساعد بونابرت على
Berthier
مداخل رومة. حتى إذا أعلن الديمقراطيون بها «الجمهورية الرومانية» دخل القائد
ولقد أثار إنشاء هذه «الجمهورية الرومانية» حفيظة النمسا الكاثوليكية، بينما
Emma
زوجة السفير الإنجليزي في
ثم لم تلبث تركيا أن أعلنت الحرب على فرنسا في 9 سبتمبر 1798، عندما غزت
وتزايد الخطر على الجمهورية «فرنسا» عندما قرر بول الأول - قيصر روسيا -
وفي أكتوبر 1798 غزت جيوش النمسا مقاطعة جريسون
Grisons
في سويسرة «أو الجمهورية الهلفيتية». وفي 16 نوفمبر
وهكذا تألفت المحالفة الدولية الثانية ضد فرنسا. وصارت جبهة القتال حينئذ
ولقد حاولت حكومة الإدارة معالجة هذا الموقف بتجنيد جميع الشبان الفرنسيين
وأما العمليات العسكرية، فقد بدأت قبل تجهيز أية جيوش جديدة. فبدأت الحرب في
Championnet
على تسكانيا، ثم على مملكة نابولي (23 يناير
Rép. Parthénopéenne . ولكن لم يلبث النمساويون أن انتصروا عليهم،
Stockach
في 21 مارس 1799، وأرغموه على
Sehérer
عن عبور نهر الأديج «في لمبارديا»،
Adda ،
Souvarov
بعد هزيمة الفرنسيين الذين كانوا
Moreau
الذي خلف «شيرر»
Cassano
في 17 أبريل
فبينما كان النمساويون ينتقمون من الجمهورية الفرنسية لإعلانها الحرب عليهم،
Trebbia (17-19 يونيو)، ثم هزم جيش
Joubert
في نوفي
Novi (في 15 أغسطس). وقتل القائد الفرنسي في
وفي سويسرة كان الموقف في صالح الفرنسيين. حقيقة أوقع بهم الأرشديوق شارل
Masséna - القائد
وفي هولندة ظل الجنرال برون
Brune
يحتل
York
على الشاطئ الهولندي في
وهكذا إذا استثنيت العمليات العسكرية في سويسرة وهولندة، كادت تكون جيوش
Bocage ، حيث كانت به مراكز «الشوان» من بريتاني، ونورمانديا
انقلاب 30 بريريال سنة 7 / 18 يونيو 1799
وعلى ذلك فقد أسفرت انتخابات مايو 1799، عن نجاح عدد كبير من اليعاقبة من
وزاد من أزمة حكومة الإدارة أن «روبل» أقدر أعضاء هذه الحكومة والذي كان في
Sieyes ، والأخير ضد دستور العام الثالث، وكان انتخابه لعضوية
ووقع الاصطدام بين الهيئة التشريعية والسلطة التنفيذية على المسألة المالية،
وعندما وصل «سييس» إلى باريس من برلين في مايو 1799 - وكان موفدا في مهمة
وعلى ذلك فقد بدأت الهيئة التشريعية هجومها في 16 يونيو، بأن اكتشفت الآن
Gohier (18 يونيو)، ثم أرغم كل من
Roger-Ducos ، والجنرال
Moulins . فصارت حكومة المديرين
وبهذا الانقلاب الذي عرف باسم انقلاب (30 بريريال سنة 7 / 18 يونية 1799)
Lucien
بونابرت» شقيق الجنرال بونابرت: «بفضل هذا الانقلاب
ولكن الشعب قابل هذا الانقلاب «ببرود» وجفاء؛ لأنه كان من المتعذر عليه أن
فكان لدفع هذين الخطرين إذن أن تأسست «الديكتاتورية» التي حكمته في عهد
من ذلك «قانون الرهائن»
Loi de Otages
الذي
ولقد قاوم الشعب هذا القانون، «الذي أعاد - كما قال الأهلون - حكومة سنة 93،
وزيادة على ذلك، فقد أفزع الشعب وأرعبه، وأعاد إلى ذهنه ذكريات عهد الإرهاب
Sociéte du Manège
نسبة إلى صالة «المانيج» - ملعب الخيل - التي كانت
وقد انضم إلى جمعية المانيج هذه حوالي (150) نائبا، عكست خطاباتهم
وتزايد فزع الشعب عندما صار الفوضويون
Anarchistes
يتحدثون علنا في «مقهى جودو»
Café Godeau
بالقرب من التويلري عن ذبح ألوف من الناس
piques » أي الثوريين «اليعاقبة ».
فقامت المظاهرات، ووقعت الالتحامات في شوارع باريس، واضطر مجلس الشيوخ إلى
وظلت هذه الجمعية موضع كراهية عظيمة عامة، فحملت الصحف عليها حملات عنيفة،
ولكنها بقيت مبعث رعب وإرهاب للجميع؛ لأن أعضاءها كانوا في البوليس، والموظفين
والفزع الذي استبد بالشعب حدث في نفس الوقت الذي كان قد أوقف فيه الهجوم
وتركزت حينئذ العمليات العسكرية على خط الحدود في ميدانين أساسيين: «أولهما»
Korsakov
في زيوريخ في 25-26 سبتمبر 1799،
Bergen ، في 19 سبتمبر 1799،
Alkamaar » في 18 أكتوبر 1799، والإبحار مع فلول جيشه إلى
الحملة المصرية وبونابرت (1798-1799)
ولكن هذه الانتصارات لم تثر اهتمام الشعب وقتئذ؛ بسبب سوء الموقف الداخلي
وكان المقصود من إرسال الحملة إلى مصر مهاجمة الإنجليز في طريق مواصلاتهم مع
ومن الثابت أن فرنسا كانت تريد إنشاء مستعمرة جديدة، في ميادين جديدة، ووفق
ومهما يكن من أمر، فقد جرت الاستعدادات لهذه الحملة في هدوء وكتمان، وكاد
ودخل بونابرت القاهرة بعد أن أوقع بالمماليك هزيمة كبيرة في واقعة الأهرام في
Desaix
في مصر بينما زحف هو إلى الشام، وانتصر
Mont Thabor
في 17 أبريل 1799. ولكنه أخفق في اقتحام حصن عكا. ولما
ومن المعروف أن الجنرال «منو» لم يلبث أن خلف هذا الأخير في القيادة بعد
ونجا بونابرت بأعجوبة من الأسطول الإنجليزي المتجول في البحر الأبيض، فوصل
Fréjus
على ساحل إقليم بروفنس
وكانت باريس عندما وصلها بونابرت، تتحدث من مدة سابقة عن ضرورة إصلاح الدستور
Beniamin Constant
بوحي من «سييس» كراسة عن «الثورة المضادة»
Cercle Constitutionnel ، وهو حزب جمهوري يؤيد وقتذاك حكومة الإدارة ضد
ولقد قالت بهذا الرأي كذلك «مدام دي ستال» في كتاب نشرته في الشهور الأخيرة
9
وقد قرأ هذا الكتاب وصححه «بنيامين كونستان»، ومع أن كل ما عنيت به «مدام دي
Ordre ، وعن «السلام»
، وهما الأمران اللذان طلبت الجماهير (الشعب) في
وأخذ «سييس» يفكر جديا في موضوع الوسيلة التي يمكن بفضلها حسم الخلافات
ولقد تخيل «سييس» نفسه وإلى جنبه قائد عسكري على رأس حكومة قوية وقادرة على
أما بونابرت فقد وقف سريعا على كل ما كان يدور ويحدث حوله، وأشرك نفسه
ومع أن شعورا بالعداء كان متبادلا بين «سييس» و«بونابرت»، فقد كفت الصلات
انقلاب 18-19 بريمير سنة 8 / 9-10 نوفمبر 1799
وكان «سييس» قبل مجيء بونابرت من مصر قد بدأ يدبر مؤامرة الانقلاب الذي
ولكن «سييس» وجد من المتعذر الاستناد على «المعتدلين» وحدهم لتنفيذ
Joubert ، الذي أعطي قيادة جيش إيطاليا، على أمل أن يتمكن
ومن المسلم به أن «سييس» وجماعة من أعوانه كانوا يفكرون وقتئذ في إنشاء
وقال غيرهم إنه متصل بأمير بروسي أو بدوق برنسويك، أو إنه يريد تولية أمير من
ولقد قضى هذا الانقلاب على كل ذلك.
أما «جوبير» فقد غادر باريس في 16 يوليو، ولكنه لم يلبث أن انهزم كما عرفنا
Novi
في
وفي 30 أغسطس كتبت الصحف: «إن بونابرت هو الرجل الذي نفتقده
10
ويعوزنا.»
ولم تلبث حكومة الإدارة أن سلمت بضرورة استدعائه من مصر. فقررت في 10 سبتمبر
ولكن قبل أن تصل هذه التعليمات إلى بونابرت، كان هذا قد غادر مصر كما عرفنا
وبدأت الاستعدادات للانقلاب بأن أشرك «سييس» في المؤامرة اثنين من المديرين
ثم انضم إلى المؤامرة نفر من رجال المال الذين أغضبهم على حكومة الإدارة
Collot
ومصرفي يدعى «أوفرارد»
Ouvrard ، واكتملت الاستعدادات لتنفيذ
واتفق رأي المتآمرين على نقل مكان اجتماع الهيئة التشريعية إلى خارج باريس،
فادعى المتآمرون اكتشاف «مؤامرة» من تدبير اليعاقبة، وانعقد مجلس الشيوخ لبحث
St. Cloud ، وعهد بتنفيذ هذا القرار إلى بونابرت، الذي عين لهذا
وبناء على ذلك فقد حضر «بونابرت» مع قواده وضباطه إلى قصر التويلري ليحلف
وبادر بالاستقالة من حكومة المديرين كل من «سييس» و«روجوديكو»، وتبعهما
وفي (10 نوفمبر/19 بريمير) اجتمعت الهيئة التشريعية في «سان كلو» (مجلس
وحوالي الرابعة بعد ظهر اليوم نفسه، حضر بونابرت إلى مجلس الشيوخ أولا،
ولكنه ما إن وقف خارج باب القاعة حتى تعالت النداءات والهتافات بسقوط
وعبثا حاول «لوسيان بونابرت» - رئيس مجلس الخمسمائة - أن يذود عن أخيه أو أن
Murat
والجنرال «لوكلير» إلى قاعة المجلس ليطردوا هذه
نهاية حكومة الإدارة (10 نوفمبر 1799 / 19 بريمير سنة 8)
وكان بعد هذا «التطهير» أن اجتمع برئاسة لوسيان بونابرت في مساء اليوم نفسه
11
وتقرر إسقاط العضوية عن (61) نائبا؛ لما ظهر منهم من تطرف وعدوان
12
مؤلفة من المديرين السابقين: سييس وروجرديكو، ومن الجنرال بونابرت. على أن يمارس هؤلاء الثلاثة «سلطة الإدارة»، وأن يعهد إليهم بتنظيم كل فروع
وأخيرا تقرر أن يعين المجلسان لجنة من 25 عضوا لوضع تقرير عن التغييرات
إنهاء الثورة
ذلك إذن كان «انقلاب 18-19 بريمير سنة 8»، وهو انقلاب قابله سواد الشعب
قال «مينييه»
Mignet
تعليقا على «انقلاب
لقد قام «انقلاب 18 بريمير سنة 8» «لإنهاء الثورة »؛ أي لإنهاء تلك الاضطرابات
ولقد خيل إليها تحت ضغط رد الفعل الذي حدث بعد 9 ترميدور سنة 2 أن لا سبيل
ولكن هذه الديكتاتورية الخماسية لم تحقق شيئا من «الاستقرار» المنشود؛
ومنذ أن فشلت حكومة المديرين (أو الديكتاتورية
) في إعادة «النظام» و«نشر السلام»، اتجهت الرغبة نحو
فعند انقضاء عهد الإدارة؛ أي انقضاء التجربة التي مهدت لقيام حكومة الفرد في
الباب الخامس
الثورة وأوروبا
الفصل الأول
سياسة الثورة
تمهيد
قال أنصار الثورة: إن من مآثرها أنها أحلت القانون والعقل محل القوة،
ولقد أرادت «الثورة» أن يذيع هذا المبدأ المثالي في أوروبا، فلا تختص به
وعملت «الثورة» لتحقيق هذه الغاية. وكان عندئذ أن انتقلت «الثورة» ذاتها من
Mallet du Pan
وكان
Mercure de France ، وشهد له «تين»
Taine
بالقدرة والحصافة ودقة الملاحظة وعمقها،
Aulard ،
وأما السبب في أن «الثورة» صارت «حركة شاملة» فهو من شقين: أولهما أن الثورة
ولقد كانت القومية كذلك من المبادئ الجديدة التي أذاعتها الثورة، وعملت على
على أن أصداء الاصطدام بين هذه الآراء والمبادئ الجديدة، وبين مصالح الإقطاع
على أن الذي يجب ذكره كحقيقة واضحة الأثر في يقظة الشعور القومي، ونمو
وفي كلا الحالين كان للبورجوازبة الناهضة - ولفريق من نبلاء العهد القديم في
وأما حقيقة هذا كله، فسوف تتضح من عرض الآراء والمبادئ التي نادت بها
(1) الدعوة للمبادئ والآراء الجديدة
فلقد جعلت الثورة بادئ ذي بدء من نظرية «العقد الاجتماعي» التي أتى بها
فقد تقدم كيف سبق استصدار إعلان بحقوق الإنسان والمواطن (26 أغسطس 1789)،
وعندما تم ظهور «الجيروند» حزبا سياسيا، كان من القواعد التي قام عليها
ولقد تبين أثر هذه الدعوة الجديدة في حادث «الألزاس» الذي سبق أن عرضنا له
ولما كان «ميرابو» يخشى أن تعتبر الإمبراطورية - «الرومانية الجرمانية
على أن أهم ما يسترعي النظر في هذا الحادث - كدليل على ما كان لدى «الجيروند»
Brissot ) لم يلبث أن كتب باسم «اللجنة السياسية»
أبلغوا الدول الأجنبية أننا سوف نحافظ بأمانة على اليمين التي
وفي اليوم نفسه (22 نوفمبر 1791) أعلن «إسنار»
Isnard
أحد كبار زعماء الجيروند في الجمعية التشريعية:
ولقد تأيدت هذه المبادئ مرة أخرى حين أعلنت «الجمعية التشريعية» الحرب على
وبسط «كوندرسيه» أمام الجمعية التشريعية الأسباب التي جعلت «اللجنة السياسية»
ولما كان رجال الثورة قد أكدوا في دستور 1791 مبادئهم السلمية، فتضمن «الفصل
وترسم المؤتمر الوطني طريق هذه الدعاية الثورية نفسها؛ أي العمل لنشر مبادئ
وواضح أن «الثورة» باتخاذ هذا القرار قد انتقلت من أسلوب الدعاية السلبية
وهذه الدعوة الموجهة للشعوب لتظفر بحرياتها، وتستيقظ «لقوميتها»، والمستندة
وهكذا استطاعت «الثورة» أن تضع مذهبا جديدا، تواجه به أوروبا في وقت كانت
ولقد حرصت «الثورة» على تطبيق تلك القاعدة التي بسطها «كارنو» في تعليماته
وفي اليوم نفسه حصل استفتاء في «نيس» أدى إلى هذه النتيجة، وقررت «لييج»
Liége
في استفتاء عام في 16 يناير 1793 اتحادها
وعلى الشاطئ الأيسر للراين أدى الاستفتاء إلى تقرير مؤتمر وطني من أهل
Montbéliard
بعد استفتاء
(2) التحول في سياسة الثورة
وعلى هذا النحو إذن أتيحت الفرصة لتطبيق مبدأ «مثالي» يحترم حقوق الشعوب
ثم إن هذه «المبادئ المثالية» سرعان ما صادف أصحابها مسائل عملية وحقائق
وهذا التحول - كما أشرنا - لم يحدث فجأة، بل إن إجراءات «الاستفتاءات»
وحرصت «الثورة» في بعض الأماكن على حشد الذين وثقت في أن يأتي استفتاؤهم
ووقع في بداية 1794 ما يصح اعتباره خطوة أخرى في طريق هذا التحول، وذلك
وعند هذه الحدود الطبيعية يجب أن تقف حدود جمهوريتنا (أي المدى الذي يبلغه
ولقد كثرت الإشارة إلى نظرية الحدود الطبيعية أثناء عامي 1794 و1795، وكثر
Dugommier ، جيش الجنوب
وفي 7 أكتوبر من السنة نفسها ألقى «تاليان»
Tallien
خطابا تناول فيه الكلام عن نظرية الحدود الطبيعية؛
Duhem - وكان من كبار
1
تحدث فيها عن مسألة الحدود الطبيعية (3 نوفمبر 1794). وفي 9 نوفمبر
Eschasériaux - أحد أعضاء
2
تناول فيها الموضوع نفسه. ولقد كانت نظرية الحدود الطبيعية شيئا
ثم إنه حدث في بداية عام 1795، أن برزت إلى الوجود نظرية تختلف عن سابقتيها:
ومع ذلك يجب أن يستأصل السلام (عند إبرامه) جراثيم الحرب في المستقبل. والجمهورية تجد نفسها مصاقبة في الشمال لبلدان وممتلكات أجنبية تسببت بفضل
ولقد أتيحت الفرصة في اليوم نفسه (5 مارس 1795) لأن ينتظم عقد هذه النظريات
Dubois-Grancé : «الطبيعة ورغبات
وفي أبريل من السنة نفسها (1795)، قدم «سييس» إلى لجنة الخلاص العام، مشروع
وحتى يمكن إقناع الشعب الفرنسي بعدالة الأسباب التي دعت لإبرام معاهدات أسفرت
Boissy d’Anglas
و«روبيرجو»
Roberjot
يتحدثون عن نظرية الحدود الطبيعية، وضرورة تأمين
لا شك أنكم أدركتم حتى يتسنى تعويضنا عما لحقنا من أضرار، وما
وواضح أن هذه «النظرية» التي أعلنها - الآن - «مرلان دي دوويه» وزملاؤه، كانت
ولكن يجب ملاحظة أن المؤتمر الوطني حين عقد الصلح مع بروسيا في «بال» في
لقد آن الأوان لتحرير ألمانيا وتخليصها من وطأة الاستبداد النمساوي
وفي مذكرة «سييس» عن الصلح، حرص - «سييس» - على تعيين الدولتين اللتين
على أن ذلك لم يكن كل الخروج الذي حصل عن «نظرية حقوق الشعوب» التي بدأت بها
ولقد كانت هذه سياسة لا تستهدف غير النفع الذاتي، وتحقيق المصلحة الشخصية
ومن ذلك أيضا تأمين فرنسا ذاتها والمحافظة على سلامتها بإنشاء حلقة حولها
Boulevards Militaires
والذي صار من الآن فصاعدا سلسلة من «الجمهوريات الشقيقة»
Les Républiques Soeurs
التي سوف
فقد بدأت فرنسا بأن جعلت من أسقفية «بال» في سويسرة «دولة» علمانية باسم
Rauracia (1792)، ثم ضمتها
Rép. Helvetique
على أنقاض الاتحاد السويسري (1798)، وفي إيطاليا
Transpâdane ، وجمهورية «جنوب نهر
Cispadane
ليحصل اندماجهما في السنة التالية (1797) في جمهورية
Cisalpine ، وفي
Ligurienne ، وفي سنة 1795 تأسست الجمهورية البتافية
Batave
التي قامت على أنقاض مملكة
وفي فبراير 1798 تألفت الجمهورية الرومانية
Romaine
من بقايا الأملاك البابوية لتعيش بعض الوقت، حيث
محل
ولكن الذي تجب ملاحظته أن سياسة حكومة الإدارة لم تكن - وكما يبدو لأول وهلة
ومع ذلك فلا ريب في أن السياسة التي سارت عليها حكومة الإدارة كانت بعيدة
تلك إذن كانت الخطوات التي حصل فيها التحول من سياسة تسترشد في أهدافها
وهذا التحول إن دل على شيء، فإنما على أنه قد بات متعذرا أن تبقى «الحرية»
وثمة ملاحظة أخرى؛ هي أن الانتقال من عالم الفكر النظري إلى دائرة التطبيق
(3) آثار السياسة الواقعية
فلقد كان لما طرأ من تحول في «المذهب القومي» على أيدي رجال الثورة آثار لم
على أن الدور الذي كان للمذهب القومي في الحوادث التي وقعت، لم يكن واحدا في
ولقد تضافر في ألمانيا عاملان هامان على تغيير الأوضاع السياسية بها تغييرا
في إيطاليا
ولقد بدأ عهد التوسع الفرنسي في إيطاليا من أيام «حكومة الإدارة»؛ وذلك
أما قبل تجربة هذه الحروب القاسية ، فإن إيطاليا كانت من أواسط القرن الثامن
ولقد كانت إيطاليا مقسمة إلى عدد من الدويلات الصغيرة التي لم يكن يربط
ونجح هذا «النظام» في نشر الهدوء والسكينة في ربوع إيطاليا. ثم إنه أضفى
وكان من عوامل هذا «الاستقرار» أن إيطاليا كانت تتمتع طوال القرن الثامن
Leonardo Da Vinci ، ونشاط تجاري استمر طيلة القرون
ولقد كان من أسباب هذا الثراء العريض كذلك، الأموال العظيمة التي حصلتها
على أنه كان يقابل هذه الصورة «البراقة» أن الصناعة كانت متأخرة؛ لأن
ولقد امتازت إيطاليا «بطابع» خاص تميزت به عن غيرها في هذا العصر، هو
Volta
في الطب،
Muratori
وغيره في
Bettineli
و«الجاروتي»
Algarotti
وغيرهما في
Galiani
و«فيلانجييري»
Filangieri ، ثم «بيكاريا»
Beccaria ، وهو أعظمهم في القانون والاقتصاد السياسي. وكان تحت تأثير «الاقتصاديين» والقانونيين أن بدأ الإمبراطور جوزيف الثاني
Goldoni
و«مآسي» ألفييري
Alfieri ، ومنظومات «باريني»
. وأدرك كل هؤلاء عصر الثورة
وهذه الحركة الفكرية كانت تشبه لحد كبير الحركة الفكرية في فرنسا، في
وصفوة القول: إن إيطاليا في آخر القرن الثامن عشر كانت تبدو وقد اكتست
فلقد قضى جنود الثورة حينما غزوا هذه البلاد واحتلوها على هذه الحضارة
وأما الغزو الثاني الذي وقع في سنة 1800، فقد أتاح لنابليون بونابرت
وبذلك رأى النمساويون أنفسهم مرغمين على عقد الصلح مع فرنسا في «نفيل» في 9
أما في إيطاليا فقد احتلت فرنسا «بيدمنت» وضمتها إليها، ووسعت رقعة
Etrurie ، وولي عليها دوق بارما، الذي
Tarento ، في حين بقيت أراضي جمهورية البندقية القديمة
وهكذا توزعت الأراضي الإيطالية من جديد، بصورة تجعل ممكنا لفرنسا أن
ومثلما تحطم التنظيم الإقليمي والسياسي القديم في إيطاليا، فقد تحطم
ثم إن الغزاة أخذوا يطبقون القوانين الفرنسية التي مكنت الدولة من
وبذلك تكون قد اختفت من الوجود في إيطاليا - وفي وقت واحد - كل
في سويسرة
وسويسرة كانت من بين البلدان المجاورة لفرنسا، والتي وقعت تحت تأثير
Valais ، و«جريسون»
Grissons ، في حين كانت ولاية «نيوشاتل» تابعة لملك
St. Gallen
تخضع لرئيس الأديرة بها، وتخضع «بال» لأسقفها.
ثم كانت لا تزال بعض الأقاليم (والتي صارت كانتونات فيما بعد) تخضع
Aargau ، «تورجو»
Thurgau ، «فود»
Vaud ،
Le Tessin ، أو «تشينو»
Ticino
و«فالتلين»
Valtelline .
وفي هذه الكانتونات (الولايات) قام التنظيم الداخلي على أسس أرستقراطية،
Natifs )، وهم أهل المدن والكانتونات الذين لم تكن
ومن أواخر القرن الثامن عشر - وبالتحديد ابتداء من سنة 1770 - ساد في
Etienne Claviére ، وقد تولى وزارة
Marat
صاحب التاريخ المعروف في الثورة.
ذلك إذن كان الوضع في سويسرة التي لم يكن لها وقتذاك شكل «الدولة»
وأما خضوع هذه البلاد لتأثير الثورة الفرنسية فقد تبدى في ناحيتين؛
وثانيتهما: أن اللاجئين السويسريين في الخارج لم يلبثوا أن قاموا تحت حماية
وعلى ذلك، فقد ظل اللاجئون السويسريون طوال عهد «المؤتمر الوطني»
السياسي «الديمقراطي»،
La Harpe
مستشار القيصر إسكندر الأول فيما بعد، وكان الأول من «بال» والثاني من
ورأت فرنسا في تدخلها في شئون سويسرة فرصة مواتية، تمكنها من القضاء
وترأس في سويسرة هذه الحركة العدائية ضد فرنسا كل من السويسري
Divernois ، وأحد
Wickham . ووجدت
وفي سنة 1798 قررت الحكومة الفرنسية نهائيا التدخل في شئون سويسرة،
Daunou ، وكانا - كلاهما
وبموجب هذا الدستور السويسري تحررت من التبعية لغيرها كل تلك
ولقد استطاعت القوات الفرنسية في حملة ناجحة ضد ولاية «برن»
Bern - وكانت أهم الكانتونات الأرستقراطية
وبقيت الكانتونات الجبلية: «أونترفالدن»
Unterwalden ، «أوري»
Uri ، و«شويتز»
Schwyz
مصممة على الاحتفاظ باستقلالها. وحينئذ سيرت
Morgarten
في 2
وكانت «الجمهورية الهلفيتية» قد تأسست رسميا منذ 12 أبريل 1798، على
Aarau - في ولاية أو
وفي 19 أغسطس 1798 عقدت الجمهورية الهلفيتية معاهدة تحالف مع فرنسا، فوعدت
وهكذا أمكن بفضل هذا التدخل من جانب الثورة، إنشاء جمهورية سويسرية في
•••
تلك إذن كانت آثار «الثورة» على البلاد التي خضعت مباشرة لتفاعل الآراء
وإنما حصل التأثر بطريق احتكاك الآراء والأفكار الذي حدث بسبب ذيوع الآراء
ولم يكن رد الفعل الذي حصل - سواء من جانب الحكومات، أو من جانب الشعوب
وعلى ذلك فقد صار «للثورة» من هذه الناحية أثر عكسي، من حيث إنها عوقت
فلقد حدث في هنغاريا «المجر» أن امتنعت الحكومة من ذلك الحين عن دعوة
Martinovitch ، وأقبل النبلاء على تأييد خطة الحكومة،
وثمة مثل آخر لتوضيح هذا الأثر العكسي؛ أي التوقف الذي حصل في الحركات
ولقد كان للثورة أثر عكسي كذلك، وإن كان من نمط آخر، هو أن الضعف الذي
في بولندة
ولم تكن آثار الثورة مع ذلك كلها عكسية؛ ففي الوقت الذي ساعدت فيه
وأخيرا كان عماد الحركة القومية أهل الطبقة المتوسطة (البورجوازية) في
ولقد انكب البولنديون البورجوازيون على تتبع أنباء الثورة الفرنسية،
Staszic
الذي بذل قصارى جهده بالخطابة والكتابة والوعظ
Kollontay
الذي اشتهر
ولقد تعاونت هذه اللجنة مع رئيس «البرلمان» «ستانسيلاس مالاكوسكي»
Malachowski ، ووزير التربية
Ignace Potocki
في
تلك إذن كانت العوامل التي ساعدت على ظهور الحركة القومية في بولندة
Liberum Veto
الذي تحدثنا عنه في
ولقد تسنى تنفيذ هذا البرنامج الإصلاحي بفضل «انقلاب» حدث على يد
(1764-1795)، بالاتفاق مع جماعة من أعضاء
وتضمن الدستور الإصلاحات المنشودة، فألغى «حق الاعتراض»، فكان حينئذ
3
وكان لإعلان الدستور في بولندة صدى بعيد، فلم يلبث أن نهض
Burke
يعلق على هذا
ومما يدعو للعجب حقا ويبعث على الشعور بالسعادة المتزايدة، أن هذا كله
وواضح أن «بيرك» في هذا الخطاب إنما كان يقصد كذلك التنديد بحوادث الثورة
ولقد كان طبيعيا أن يترتب على هذه الحركة الإصلاحية التي استهدفت
Jassy
في يناير 1792، قررت
Magnates ، ثم من جانب المتمسكين بالتقاليد القديمة،
Targowitz
في مارس
وأراد البولنديون الاعتماد على بروسيا لمؤازرتهم ضد روسيا، ولكن بروسيا
)
وفي 19 مايو اخترق الغزاة الروس حدود بولندة. وانهزم البولنديون الوطنيون
Grodno
في «ليتوانيا». وعلى
وهكذا نجم من حركة الإصلاح الوطنية التي بدأها «البورجوازيون»
Thorn ، وبوزن
وكاليش
Kalish ، وعدد سكانها جميعها
وأرغمت روسيا «الدياط» البولندي على إقرار هذا التقسيم، فقبل «الدياط»
غير أنه سرعان ما ظهر في بولندة عقب هذه الكارثة الوطنية، جماعة من
Egelstrôm
الجمعيات
فدارت المراسلات بين المتآمرين الوطنيين وبين الزعماء البولنديين في
Thaddeus Kosciusko ،
ثم إن دولة أخرى غير فرنسا من تلك التي حاول زعماء الحركة استمالة
ثم إن السويد لم يكن في استطاعتها مقاومة روسيا وبروسيا متحدتين، بل ووجد
وكان قائد جيش الاحتلال الروسي في بولندة «إجلستروم»، يدرك مقدار الخطورة
على أنه كان من أثر هذا الفشل المؤقت الذي أصاب الروس، أن نشطت كل من
Souvorov
أعظم قوادهم إطلاقا، ثم إن جيشهم المنسحب من
Maciejowice
فانتصر
Fersen
على البولنديين
وبسبب هذه الهزائم إذن اضطر الملك «ستانسيلاس بونياتوسكي» إلى الإقامة
على أن الذي تجدر ملاحظته بشأن هذه الثورة التي أخفقت وانتهت بضياع
Wlodzimierz
نشيدا
ولقد كان الكلام عن «حقوق الإنسان» شيئا جديدا أخذه الوطنيون من فرنسا. وأما هذا النشيد فقد اختتم بعبارات تشبه ما جاء في نشيد «المارسيليز»:
Codjewski ، وأحفاد «سوبيسكي»
Sobeiski ، و«تزارنكي»
Czarnecki
الأبطال، هبوا للنضال ولا تتركوا العدو يمزق
ثم إن «الدياط» لم يلبث أن أصدر نداء إلى الأمة في 29 مايو 1794، اشترك
ولقد حدث أثناء الثورة، ومن أجل الدفاع عن الوطن، أن امتزجت العناصر
Rackavicz
في 4 أبريل سنة 1794. وفي
والذي تجدر ملاحظته أن الثورة اعتمدت قبل كل شيء على الطبقة البورجوازية
Bar
الذي كان قد تألف من
ولقد خاض «اتحاد بار» الحرب ضد جيوش روسيا، ولكن جهوده ذهبت سدى، ففشلت
وهكذا لم تعد الأرستقراطية وحدها هي المتكفلة بالنضال، إما للمحافظة على
ولا ريب في أن ذلك كله إنما يدل على أنه كان قد وجد في بولندة «شعور
حقيقة اختفت بولندة من عالم الوجود السياسي، ونقل الروس الملك
ولكن ذلك لم يكن معناه إطلاقا اختفاء «الأمة» البولندية. لقد تشرد
وحينما رجع «كوشيسكو» من أمريكا إلى فرنسا، عملت حكومة الإدارة في سبتمبر
وصفوة القول أنه كان للثورة الفرنسية إذن أثران واضحان؛ فهي قد كانت مبعث
الفصل الثاني
«الثورة» واليقظة القومية
تمهيد
لقد تبين من الدراسة السابقة أن الأثر الذي أحدثته الثورة الفرنسية على
أما هذه الحروب فقد أسفرت حتى عام 1798 عن اختفاء طائفة من حكومات «العهد
أما إذا تركنا جانبا أمر «الحكومات» فمما لا شك فيه أنه كان للثورة أثر
ونجحت «الثورة» بفضل الآراء والمبادئ التي جاءت بها، في تأييد رغبة الشعوب في
والسبب في هذا النجاح أن «الثورة الفرنسية» سرعان ما عملت على إحياء آمال
وتلك حقيقة سوف تتضح تماما من دراسة أثر الثورة في اليونان وإرلندة، أو
ألمانيا تجاه الثورة
تضافرت عوامل هامة على تهيئة ألمانيا وإعدادها لقبول الآراء التي جاءت بها
فالألمانيون عرفوا النظريات التي نادى بها «جان جاك روسو» في التربية،
فكان «أمانويل كنط» (1724-1804) فيلسوف كونجزبرج العظيم، من كبار المعجبين
ولقد كان من المعجبين بآراء «روسو» والفلاسفة الفرنسيين كذلك «جوهان جوتليب
ولقد كان لآراء «فيشته» أثر كبير في تنظيم المقاومة الوطنية ضد السيطرة
وعلى ذلك، فقد كانت ألمانيا وقت اندلاع «الثورة الفرنسية » في مقدمة البلدان
وثمة عامل آخر هو أنه وجدت بألمانيا ذاتها قبل اشتعال «الثورة الفرنسية»
ثم قويت الدعوة لإدخال الإصلاحات العديدة التي يطالب بها الشعب، على أسس
ومما هيأ ألمانيا لقبول الآراء الجديدة التي نادت بها «الثورة الفرنسية» أن
Illuminati
وإلغاء منظماتهم أو هيئاتهم؛ فانتشر هؤلاء في
وثمة سبب آخر، هو أن الفلاسفة والمفكرين السياسيين من طراز «كنط» و«فيشته»،
فقد أعجب بآراء وكتابات فلاسفة الثورة طائفة من فحول الكتاب والشعراء الألمان
Schiller (1759-1805) الكاتب والشاعر ومؤرخ «حرب الثلاثين سنة»
Goethe (1749-1832) أعظم شعراء
وساعد على تغلغل الآراء الفرنسية في ألمانيا بهذه السرعة والسهولة، أن هذه
وتلك حقيقة يفسرها التهليل والتكبير الذي قابل به المفكرون والكتاب الألمان
Humboldt (1767-1835) العالم اللغوي، ورجل الدولة الذي تولى
Klopstock (1724-1803) الذي اشتهر بقصيدته عن عودة
ولقد ساهم غير هؤلاء من كبار قادة الرأي والفكر في الترحيب «بالثورة»،
Richter
و«جوتفريد
Burger
وغيرهم. كما عظم الحماس «للثورة» في المدارس
ومع ذلك، فإن هذا الحماس العظيم الذي قوبلت به «الثورة »، لم يكن معناه أن
Gleim
الشاعر، و«فردريك هنريك جاكوبي»
Jacobi
الفيلسوف، و«بارتولد جورج نيبور»
Neibuhr
المؤرخ، وغيرهم، نظروا جميعا بخوف وحذر شديدين «للثورة»، منذ
ثم إن «الثورة» فشلت في أن تستميل إلى تأييدها «هنري ستين»
Stein (1756-1831) صاحب الإصلاحات الكثيرة التي مكنت
Tilst - بين روسيا وفرنسا سنة 1807 - لتتزعم النضال ضد
Kotzebue ،
أما «جيته» فمع أنه - كما عرفنا - كان يهزأ بطبقة النبلاء في بلاده عموما،
Aufklarung
في ألمانيا. ومع أنه أعلن غداة واقعة «فالمي» التي
وفي قصته المشهورة عن «هرمان ودوروثيا»
1
شرح «جيته» فكرته القائلة بأن الخير كل الخير للبشرية إنما يكمن
ثم إن «شيلر» لم يمنعه إعجابه بآراء «روسو» وكتاباته من إظهار تبرمه بأعمال
Die Raüber ، فقد جعلته الفظائع التي
وهذه الفظائع التي ارتكبتها «الثورة» كان لها نفس الأثر في موقف «شيلر» كذلك. ولقد ترتب على قيام الحرب، ووقوع «مذابح سبتمبر» المعروفة، وإعدام الملك، أن
Schlozer ،
Wieland ، و«شارنهورست»
Scharnhorst ، و«ستولبرج»
Stolberg ، و«كامب»
Campe ، و«جاجرن»
Gagern ،
•••
والحقيقة أن موجة من الذعر سادت ألمانيا عموما بسبب «الفظائع» التي ارتكبها
وعلى ذلك؛ فإنه سرعان ما أوقفت في حزم وشدة كل تلك الحركات الإصلاحية
فمنعت النمسا منذ سنة 1790 تبادل كل الرسائل والكتب التي يترتب على ذيوع ما قد
وفي بروسيا قوي نفوذ جماعة «الأتقياء» أو «المتورعين»
في الحكومة، وقام هؤلاء بحركة كنسية رجعية
2
كما منعت في نفس السنة دخول المطبوعات الفرنسية جميعها إلى بروسيا. ولقد حذرت كذلك الصحف البروسية من الخوض في السياسة.
وسبب هذا الإمعان في الرجعية أنه كانت قد قامت منذ عامين مضيا ثورة من
3
بسط فيه صاحبه الآراء الجديدة التي أتت بها الثورة الفرنسية ، فقضى
وفي كل ألمانيا طوردت الجمعيات السرية : جماعة «المتنورين» في بفاريا الذين
Jena ، من هذه الجامعة في 1798 بتهمة الإلحاد والهرطقة. ثم
ووجد الذين تصدوا لمقاومة الثورة ومحاربة الآراء التي أتت بها في شخص
Gentz (1764-1832) أعظم
ثم نشر في سنة 1792 ترجمة كاملة لكتاب «إدموند بيرك» «آراء عن الثورة الفرنسية»
4 - وكان قد ظهر للمرة الأولى منذ عامين (في نوفمبر 1790) - ويحمل
Mackintosh
ظهر منذ 1791
Vindiciae
، فتناول «ماكنتوش» بالنقد والتحليل آراء «بيرك»،
فكان في رأي «ماكنتوش» أن تلك المصادرة كانت في صالح الدولة، ثم كان في رأيه
وعلى ذلك فقد عمد «جنتز» في رده إلى تحطيم كل الدعاوى التي استند عليها
Estates
ذاتها خطأ سياسيا خطيرا؛ لأن
وعلى ذلك فقد استند «جنتز» في حملته ضد الثورة في فرنسا على أنه كان من
أما آثار هذه المقاومة الشديدة ضد الثورة والآراء التي نادت بها، فقد تبدت
5
فاعتمد في مؤلفه هذا نظرية أستاذه «كنط» عن العقد الاجتماعي، ولكن
ولما كان تطور الثقافة الأخلاقية ونموها يستلزم تغيير الأشكال الدستورية
فالدولة لذلك إنما تقوم - في نظره - بناء على وجود «عقد» بين مواطنيها، كما
6
تحدث فيها عن الحرية والمساواة أمام القانون، والمساهمة في
7
بسط فيه رأيه عن سقوط الملكية في فرنسا، فأعلن أن زوالها من شأنه
ثم نشر بعد أعوام ثلاثة (1798) رسالة جديدة عن نضال القوى الذهنية،
8
فقال: إن كل الفظائع التي اتهم اليعاقبة بارتكابها في فرنسا، لا
تلك إذن كانت الآراء «الخطيرة» التي اعتبر كل من «كنط» و«فيشته» مسئولا عن
ولكن كان من أثر هذا الموقف «الطبيعي»
فقد تقدم بنا كيف أن المفكرين وأهل الرأي في ألمانيا كانوا وقت نشوب الثورة
ولقد كانت الحركة الفكرية في ألمانيا، والتي ذكرنا أنها عرفت باسم فلسفة
Aufklarung
كانت ذات صلة وثيقة بالفلسفة الفرنسية؛ لأن فلسفة
ولقد سبق أن أشرنا إلى مدى هذا التأييد الذي لقيته «الثورة الفرنسية» من
Johannes Müller (1752-1809)،
إن يوم 14 يوليو من أبهى الأيام التي شهدها البشر منذ سقوط الرومان
ولم يكتف «مولر» بتمجيد يوم سقوط الباستيل، بل أشار إلى احتمال امتداد الثورة
ووجدت «الجمعية الوطنية التأسيسية» «مدافعا» عنها في كل شخص كاتب وناشر آخر،
Klein ، الذي ضمن
9
ثم كتب «جورج فورستر»
Forester
أمين مكتبة «ماينز» إلى ولهلم فون هامبولدت - من العلماء الذين مر بنا ذكرهم -
وأما «كنط» فقد بقي يتتبع باهتمام زائد كل الأحداث في فرنسا، وتطورات
10
نداء موجها إلى أمراء أوروبا الذين لا يزالون يبذلون قصارى جهدهم
11
والذي يجب ذكره أن هذا الانحياز الظاهر إلى جانب «الثورة» كان يجد أنصارا في
Cramer ، الذي نقل إلى الألمانية دستور الثورة الأول (لسنة
Gotha ، وقد توافرا على مناصرة الآراء
واشتد الحماس للثورة وللآراء التي نادت بها بين أساتذة الجامعات، ورجال
الذي تزعم هذه
Karlsruhe . وبلغ الحماس
Tubingen . وكذلك كان من زعماء
Hegel (1770-1831)، و«فردريك
Schelling (1775-1854)، وكلاهما أحرز شهرة واسعة فيما
وأما أعلام الأدب، فقد توفر نخبة منهم على تمجيد «الآراء» والمبادئ التي
Schubart ، و«هولدرلن»
Hölderlin ، و«ريبمان»
Rebmann .
وفي وسط ألمانيا وشمالها كان «للثورة» والآراء الجديدة أنصار عديدون؛ ففي
Detmold
تزعم هذه الحركة
Ewald ، كما تزعمها في «همبورج»
أما في «فريبوج»
Friborg ، فقد تزعم الحركة
وفي «كييل»
Kiel
انقسم أساتذة جامعتها فريقين،
Ehlers . وصفوة القول أنه كان يوجد بألمانيا في هذه الآونة
أما في خارج دائرة هؤلاء المفكرين، فإن الحماس للآراء الفرنسية كان عظيما،
Boehmer ، التي عبرت في
تستبد الحيرة بي استبدادا عظيما، ولا أعرف ما يرشدني إلى طريق
وفي 14 يوليو 1790، أقيم في «همبورج» احتفال كبير لإحياء ذكرى سقوط
ولقد انكب سواد الشعب الألماني على قراءة الصحف بنهم وشغف عظيمين، ولم
ثم إن الجماهير لم تكن ترضى بتاتا عن التكريم والحفاوة التي قابلت بهما
يجد الإنسان صعوبة عظيمة في كبح جماح ذلك الغيظ الذي يشعر به ويعض
غير أن هذا الحماس العظيم لم يلبث أن اعتوره شيء من الفتور، كما طرأ شيء من
ولقد أفزعت هذه الحوادث الدامية سواد الشعب فزعا كبيرا؛ فانهارت بذلك كل
وهكذا فالفرنسيون إنما هم الفرنسيون دائما، ولن تستطيع الشعوب أن
ووجد «جنتز» في هذا التحول تربة خصبة لنشر ترجمته لمؤلف «إدموند بيرك» عن
ولقد حاول «جيته» في قصته التي ذكرناها عن «هرمان ودوروثيا» أن يفسر أسباب
سرعان ما أظلمت السماء بسبب حوادث الإرهاب المروعة؛ ذلك أن شعبا
فكان إذن بسبب رد الفعل الذي حدث ضد الثورة، أن اضطر الأحرار الألمان الذين
Constant
الذي كان قد
Tieck
و«واكينرودر»
Wackenroder .
ولقد كتب هذا الأخير إلى صديقه «تيك» يؤكد له مشاركته الحماس للفرنسيين، بل
وبقي «فيشته» و«شيلر» و«كنط» على عهدهم السابق، وأصروا على التمسك بالمثل
ومع هذا، فإن الانقسام الذي حصل، ففرق بين المفكرين الألمان في معسكرين؛
ثم جد عامل على الموقف؛ هو نشوب الحرب بين فرنسا وبين الإمارات (أو
ولقد كان غريبا حقا أن تعجز هذه الحرب عن استثارة الروح الوطنية، وخلق
بل إنه كان في صالح الشعب الألماني نفسه من الناحية السياسية، وتحقيقا
ولم يأبه الألمان لنتائج هذه الحرب كذلك، ولم يعيروا اهتماما كل تلك الهزات
Recés d’Empire
الذي اتخذه الدياط الألماني في «راتزبون» سنة 1803
ولكن بالرغم من تحويل أملاك الكنيسة وأراضيها إلى أملاك «علمانية» ومصادرة
وحدث أثناء مؤتمر «رشتات» أن وقع اعتداء على المندوبين الفرنسيين، وقتل بطانة
الآن أو أبدا، حان الوقت لوضع سياسة ألمانية صحيحة، ولكني نسيت أننا
ولا شك في أن هذا التفكك كان مبعث عدم الاهتمام والمبالاة وعدم الاكتراث،
ولقد فسر الفلاسفة الألمان المعاصرون هذه الظاهرة بأن الخلق الألماني كان
وعلى ذلك لم يلبث أن خضع المجتمع لسيطرة «الفردية»، وسلطان الأنانية، وهما
De l’Allemagne
حاولت أن تبرز التناقض الحاصل بين الخمول الخلقي
ولم يكن سبب عدم اهتمام الألمان بالتغييرات الإقليمية في أوطانهم ذلك
وتلك الفلسفة كان من أثرها أن «شيلر» مثلا، لم يكن يتناول القومية إلا من
واعتقد «شيلر» أن من المتعذر على الألمان إطلاقا أن يؤلفوا أمة
وعلى ذلك، فقد كان موقف الألمان من «الثورة» بعد حوادث عهد الإرهاب التي
ولعل ما كتبه «فيشته» نفسه في سنة 1805 يفسر هذه الحقيقة عندما قال:
وبودي أن أسأل مرة أخرى: ما ذلك «الوطن» الذي «يريده أو يعتبره
أما الذين نشئوا على الأرض، والذين يرون في السهول المزروعة والأنهار
ذلك الشعور بأن كل البلدان وطن للإنسان، كان لدى الألمان هو «الوطنية»
وهكذا كان واضحا أن «الثورة» لم تخلق الوطنية أو «القومية» في ألمانيا. وبقيت «الأمة الألمانية» فكرة مثالية، تستند في تعريفها على عناصر واعتبارات
على أن الحال كان على خلاف ذلك في إقليم معين في ألمانيا الغربية، هو إقليم
ومع ذلك، لم يكن «الوضع» في هذا الإقليم مما يثير اهتمام الألمان بمصيره، فلم
ومع أن الإمارات الكنسية كانت أهم هذه الدويلات إطلاقا، فقد كانت هذه
ومع أن سائر أقاليم ألمانيا تأثرت بدرجات متفاوتة بالآراء والمبادئ التي
Electors
في الإمارات الكنسية
ومع ذلك فقد بقيت هناك أماكن قليلة كمراكز للعلم والمعرفة أو «الاستنارة» في
Eulogius Schneider
الذي أقام بعد
على أن هذه العناصر الديمقراطية في «نادي ماينز» كانت ذات صوت مسموع في بداية
ولقد كان بفضل وجود أمثال هؤلاء المتحمسين «للثورة» حين قيام الحرب التي
Custine
عند دخوله
وفي 19 سبتمبر 1792، أعطي «كاستين» قيادة جيش جديد يتألف من القوات
Weissenburg ، والتي
Vosges »، ثم
Speier ، وأفاد «كاستين» من هزيمة جيوش الحلفاء في «فالمي»
Worms
في 5
لعبور نهر الراين في أمن.
وترتب على هذه الانتصارات أن صار الخوف والذعر والاضطراب يسود ألمانيا،
Hesse-Darmstadt ، وقررت «الإمبراطورية»
واضطر «كاستين» إلى إخلاء «سبير» و«ورمز» في 10 أكتوبر. ولكنه ما إن سمع
Argonne ، حتى
وكان الواجب يقتضيه بعد هذا النصر أن يواصل الزحف صوب «كوبلنز» لتهديد القوات
حقيقة أفلح «كاستين» في أن يجمع حوله طائفة كبيرة من قادة الرأي والفكر
Stamm ، و«كوطا»
Cotta ، و«بوهمر»
Boehmer ، والتفت حوله «الوطنيون» و«الأحرار» الألمان من
غير أن الغرور الذي تسلط على «كاستين» جعله يزعم أن في وسعه الآن استمالة
واتضحت نوايا «كاستين» عندما انحسر القناع عن أغراضه، وتبين أنه إنما جاء
على أن هذا التذمر الشديد لم يزعج «كاستين» بحال من الأحوال. فمضى في سبيله،
Biron ، و«بورنفيل»
Bournoville ، و«كلرمان»
Kellermann
نفسه . فاتخذ «كاستين» لقب المواطن الفرنسي، وقائد
هذه الأوهام لم تلبث أن تبددت بكل سرعة. فقد شرع البروسيون في تنظيم قواتهم
Bingen ، وكروزناخ
Kreuznach . فكان الواجب يقتضيه لذلك إخلاء شاطئ الراين الأيمن، ولكنه بدلا من ذلك بادر
Nidda ،
ومع ذلك، فقد أخذ النشاط يدب من جديد في الجيش الفرنسي، عندما وصل مندوبون
Thionville
و«هاوسمان»
Haussmann . فتبين أن جيش
وساد التفاؤل بين «الأحرار» الألمان، وهم الديمقراطيون الذين كانوا قد
ولكن لم تمض أيام قلائل على هذا القرار، حتى كان البروسيون في 21 مارس قد
Bacharach ، وفي 26 مارس حلت الهزيمة كذلك
Landau
الفرنسية
ولقد ترتب على هذه الهزيمة، ثم كان بسبب نظام المصادرة وفرض الإتاوات الذي
Adam Lux ، لم يلبث هو الآخر أن فقد كل رجاء في «الثورة» عندما
على أن الموقف في إقليم الراين لم يلبث أن تغير عند استئناف الغزو الفرنسي
وثمة سبب آخر لتغير الموقف، وفي هذه المرة بالنسبة للراينيين (أهل الراين)
وهذه الحركة «السيزرينانية» اعتمدت على الشباب والمثقفين، المملوئين حماسا
Aufklarüng
التي سبق الكلام عنها، وهؤلاء
Geich
وكان
Haan
أحد أساتذة جامعة تريف
Treves ، أو بعض رجال الكنيسة الذين طردوا منها مثل «بيرجانس»
Biergans
في كولونيا. وكان من بين أنصار هذه
Sommer
في كولونيا، و«ميشيل فنيدي»
Venedy
بها كذلك، ثم طائفة أخرى من موظفي «العهد
Hetzroth (في تريف).
وكان من أهم أنصار الحركة الجمهورية السيزرينانية أحد الشبان الذين سوف يكون
Von Gorres
الذي ولد في كوبلنز سنة 1776 من أسرة أثرت من
وكان «جوريز» شديد الإعجاب بالفيلسوف «كنط »، كما تعشق الحرية تعشقا
12
رسم فيه الخطوط الرئيسية لتحقيق فترة السلام العالمي أو السلام
ولقد استوحى أنصار الجمهورية السيزرينانية بادئ ذي بدء فكرتهم من الناحية
وبجانب هذه المطالب السياسية والاقتصادية، امتاز أنصار الجمهورية
ومن ناحية أخرى، يقتضي الواجب أن تحرص «الدولة» من جانبها كذلك على احترام
ثم إنه كان من أغراض الدعاة للجمهورية السيزرينانية عند مطالبتهم بالحقوق
ذلك إذن كان المثل الأعلى الذي نشده أنصار الجمهورية السيزرينانية، والذين -
وكان في صيف 1795، ثم خلال العام التالي (1796)، أن أصدر أنصار الجمهورية
13
التي أسسها في بون «جان بابتيست جايش». وأصدر «جايش» في بون أيضا
14
وفي كولونيا صدرت صحيفة «صديق الشعب في كولون».
15
ثم أصدر «بيرجانس» صحيفة ذات ميول عنيفة ضد الكنسيين «الإكليروس»
16
ولقد تعددت في ألمانيا الصحف التي من هذا الطراز، منها واحدة
17
التي أصدرها «هيتزروث» في تريف. وكل هذه الصحف نادت بالتعاون مع
ولكن لم تلبث أن اصطدمت هذه الحركة النشيطة بصعوبات عديدة: أحدها تزايد وطأة
أضف إلى هذا أن المستقبل كان يبدو مبهما غامضا، والخوف من عودة «النظام
Hoche
الذي عهدت إليه قيادة الجيوش الفرنسية في
فقد ترتب على إنشاء «لجنة الخلاص العام» في فرنسا أن أعيد تنظيم الجيوش
Jourdan
قيادة جيش الشمال، وتسلم «بيشجرو»
قيادة جيش الراين. بينما تعين
Maestricht ، و«نيوبورت»
Nieuport ، و«دانكرك»
Dunkirk ، وكان صديقا لكل من «مارا» و«روبسبيير»، واسترعى
فأعاد «هوش» تنظيم هذا الجيش، وبمجرد أن جاءته النجدات من جيش الراين قرر
Wörth
والقهقرى صوب كايسرزلوترن
Kaiserslau tern ، وفي 28 نوفمبر بدأت
وفي 24 ديسمبر توحدت القيادة في جيشي الراين والموزيل، وتعين «هوش» قائدا
Wurmser
في
Weissenburg ، وتمكن
وتوقفت العمليات العسكرية بسبب بداية فصل الشتاء من ناحية، وبسبب ما نشأ من
ومع ذلك، فقد أسفرت الحملة عن نجاح ظاهر للفرنسيين الذين استطاعوا إلى جانب
Neuwied
في 18 أبريل 1797. وكان
Loeben
التي عقدها بونابرت مع النمساويين يوم
كان لاستلام «هوش» قيادة الجيوش الفرنسية في إقليم الراين أكبر الأثر في
18
جعلوا مقره مدينة «بون». وبمقتضى هذا البرنامج، شمل هذا الاتحاد
Neuss .
ولقد بقيت مدينتان هما «تريف» و«إكس لاشابل» خارج هذه الحركة كلية، حيث
19
ثم قاموا بحركة واسعة لجمع التوقيعات في المدن لتأييد هذا المطلب،
غير أن «الجمهورية السيزرينانية» كان نصيبها الفشل، لأسباب عدة: منها أن
Rebwell
عضو الإدارة الذي كان من كبار مؤيدي هذه السياسة التوسعية. أضف إلى هذا أن
وفي مارس 1798، وقبل انفضاض مؤتمر «رشتاد» نجحت حكومة الإدارة في إقناع
Rüdler - مندوب حكومة الإدارة أو
ولكن «جوريز» لم يوفق في مهمته؛ فقد وصل إلى باريس وقت حدوث انقلاب (18
ومع ذلك، فإن فشل فكرة إنشاء جمهورية «مستقلة» في ضفة الراين اليسرى ليس
Augereau «اتحاد
وعلاوة على ذلك، فقد عبرت الصحافة المعاصرة أصدق تعبير عن هذه الرغبة،
Das Rote Blatt
التي
وهذه الرغبة في الانضمام إلى فرنسا كانت شيئا منتظرا، حينما كان الراينيون
وتكاد هذه المبادئ تكون هي ذاتها التي نادى بها «فيشته» في سنة 1805، والتي
ومع ذلك، فقد شعر الراينيون بالمرارة والألم والحسرة، عندما شهدوا فرنسا
20
وكان في رأيه أن فرنسا لم تعد تصلح الآن لقيادة الإنسانية وإنعاشها
وقال «جوريز»: إن الغشاوة التي حجبت عن ناظريه في الماضي رؤية الحقيقة قد
وهذه الآراء التي صار يعنى بها «جوريز» الآن، قد دلت على أن تغييرا قد
ولقد بقيت حركة إنشاء جمهورية ما وراء الراين، تستند على أقلية لا يزيد عددها
وهؤلاء الخاملون الحاقدون الذين رفضوا التأثر بآراء «السيزرينانيين» ولم
وعلى ذلك، فكما أنه لم يظهر في هذا الجزء من ألمانيا (إقليم الراين الأيسر)
اليونان «وأولى الحركات القومية في أوروبا»
وإذا كانت الثورة الفرنسية قد أخفقت في خلق فكرة القومية في ألمانيا، فإنها
وكان الائتلاف بين هذين العاملين؛ الدافع الخارجي والتوثب الداخلي، والارتباط
لقد سبقت الإشارة - عند الكلام عن اليونان في آخر القرن الثامن عشر - إلى كل
أما هذا النشاط فقد اتخذ وقتئذ «الولايات الدانوبية» مقرا له. فصار الحكام
Hospodar
ورجال بطانتهم في
وفي السنوات القليلة التي سبقت نشوب الثورة الفرنسية مباشرة، كانت أهم أزمة
Ypsilanti
حاكم ولاشيا وقتئذ،
على أن هذه الحركة التي تزعمها الفناريون، لم تكن تشمل سواد الشعب
Mavrojeni
الذي
تلك إذن كانت جملة الأفكار والآراء القديمة التي شكلت حوادث الحركات التي
ويصعب تحديد الطريقة التي انتشرت بها هذه الآراء الجديدة في اليونان، ولو أن
ومع ذلك، وبالرغم من هذه الصعوبة، فقد يسهل معرفة «الطريق» الذي انتقلت بواسطته
والسبب في ذلك ما كان للإمبراطورية النمساوية من أهمية جغرافية بالنسبة
ولذلك فقد اعترف الإمبراطور فرنسيس الثاني بوجود الكنيسة اليونانية رسميا
وبذلك أمكن قيام حركة كبيرة لنقل «الآراء» الجديدة التي أتت بها الثورة
وفي فينا صدرت أول صحيفة يونانية «أفيميريس»
Ephimeris
أسسها «الأخوان بوليوس ماركيديس»
، من أسرة كانت أصلا من مقدونية. ظهر أول أعداد هذه الصحيفة في آخر ديسمبر 1790، وجاء في مقالها الافتتاحي:
يجد القارئ اليوم بين يديه الصحيفة التي طال انتظاره لها، والتي كان
وجريدة «إفيميريس» بدأت في أول عهدها تظهر مرتين أسبوعيا في ثماني صفحات،
ولقيت «إفيميريس» صعوبات جمة، منشؤها صرامة «الرقابة» النمساوية من ناحية،
وعلى ذلك فقد اعتمدت الجريدة في نشر دعايتها على المقالات المفرغة في قالب
وفي بعض الأحايين، استباحت الصحيفة لنفسها الحق في نقد طائفة من هذه الأحداث
على أن أهم ما عنيت به «إفيميريس» كان طبع وإذاعة الخطب التي ألقيت في
والجدير بالذكر أن كل هذه التقارير أجمعت على أن «الجالية اليونانية» قد صارت
ولكن الآراء والمبادئ التي أتت بها الثورة الفرنسية لم تلبث أن وجدت خارج
وكان في أحايين كثيرة أن اضطر هؤلاء أيضا إلى الاشتباك في معارك جدية مع
ثم كان من أهم أسباب نجاح دعوتهم في بلاد اليونان أنها اتفقت مع قيام نهضة
وثمة طريق آخر لنشر المبادئ والآراء التي جاءت بها الثورة الفرنسية؛ كان
Ambelakia
ووادي «تمبي»
Tempé ، والجزر السبع (الأيونيان). وهذه كلها محافل مقطوع
وبفضل حركة «البنائين الأحرار» هذه تمكن اليونانيون من توحيد صفوفهم، ثم
Hetairia Philike ) في سنة 1821 كانوا من
وعلى ذلك، فقد نشطت الدعاية اليونانية نشاطا عظيما، ثم سرعان ما صارت
وثمة دليل آخر على نشاط الدعاية اليونانية، هو انزعاج بطرياركية القسطنطينية،
وعلى ذلك، فقد عمد البطريرك «جريجوريوس
Gregorious
بطريرك القسطنطينية، ورئيس الكنيسة الأرثوذكسية - وهو
على أنه كان هناك عامل آخر هام ساعد على نشاط الدعاية اليونانية، هو أن
Gaudin
القنصل
Naxos .
وفي القسطنطينية كان «ستاماتي»
Stamaty
من
ولقد كان للسمعة العظيمة التي تمتع بها «بونابرت» أيام حكومة الإدارة أثر
ومما يدل على حقيقة شعور اليونانيين نحو «بونابرت» وتمجيدهم له، أن تاجرا
وواضح إذن أنه وجدت باليونان أماكن وجهات معينة، وقعت تحت تأثير الآراء
Mont Olympus .
وثمة إقليم آخر تأثر بالآراء الجديدة، هو إقليم «إبيروس »
Epirus ، بفضل سهولة الاتصال دائما بينه وبين جزر
، حيث به إقليم «ماني»
Magne (أو لاكونيا القديمة)، وهو إقليم كان في حالة عصيان
Zanatos Gregorakis
حاكما على هذا الإقليم. واشتهر «زاناتوس» باسم
Zannet Bey . ولكن «زانيت بك»
Armatoles ) الذين قاموا بأعمال القرصنة في البحر، وبعصابات
وزيادة على ذلك فقد وجدت هذه الدعاية مركزا لنشاطها في جزر بحر إيجة، مأوى
وصفوة القول أن بلاد اليونان بأجمعها كانت متأثرة بالآراء التي أتت بها
ومن مظاهر هذا الاستعداد للتوثب أن اليونانيين نقلوا نشيد «المارسيليز»
وأهاب النشيد بأبناء اليونانيين القدماء أن يحملوا السلاح، وأن «يسيروا إلى
فقد حدث عند استقرار الفرنسيين بجزر الأيونيان، بعد القضاء على جمهورية
Gentili ،
Arnault ، الذي كلف ينقل المنشورات
وكان بفضل هذا النشاط الجديد إذن أن أخذت تنتشر من جزر الأيونيان الدعاية
Ragusa
على ساحل دلماشيا، و«أنكونا» على
واستطاعت السلطات الفرنسية في جزر الأيونيان أن تنشئ علاقات وثيقة مع
Junot
دوقة
d’Abrantés
فيما بعد، وهي من
واستخدمت حكومة الإدارة وبونابرت طبيبا وعالما في النبات من أصل كورسيكي،
Cargése
الصغيرة التي تقطن بها
Timo Stephanopoli
كلفته الحكومة بمهمة علمية في الظاهر، قابل بونابرت في
ووضع «ستفانو بولي» بالاشتراك مع «زانيت بك» برنامجا لثورة وطنية كبيرة على
فانعقد مؤتمر حضره هؤلاء جميعا، أسفر عن قبولهم فكرة «الثورة» بحماس عظيم،
وثانيهما: ترك السلاح في أيدي اليونانيين وعدم تجريدهم منه. ولا جدال في أن
أما هذه «المؤامرة الوطنية» فقد وجدت آنئذ من يتزعمها في شخص أحد
Righas Valestinlis
أي ريجاز المنتسب لبلدة «فاليزتنلو». وريجاز
ولد «ريجاز» في تساليا حوالي سنة 1757 من أسرة اشتغلت بالتجارة، وفي وسط
Zagora
و«أمبلاكيا»
وفي هذا الوسط المثقف تعلم «ريجاز» اللغات الأجنبية: الفرنسية والألمانية
Cantatzis . ولقد
وليس من شك في أن «ريجاز» كان على علم بأمر تلك المؤامرة التي حاكت خيوطها
Ventotis
العالم اللغوي الذي
Baumeisser
التي أخذت على عاتقها نشر مؤلفات الإغريق القديمة.
ولقد عمل «ريجاز» إلى جانب هذا كله سكرتيرا للقائد «مافروجيني» حينما كان
الذي نال شهرة واسعة بعد ذلك؛ بسب ثورته على الدولة العثمانية.
على أن «ريجاز» بعد وفاة «مافروجيني» لم يلبث أن استقر به المقام في
21
والآخر عن «مبادئ الطبيعة».
22
وفي هذا الكتاب الأخير شرح «ريجاز» مبادئ العلوم الطبيعية
ولقد كان «ريجاز» من عظماء رجال الأدب، وكان صاحب وطنية صادقة، ثم إنه كان
على أن الذي تجدر ملاحظته أن الفكرة المسيطرة لدى ريجاز كانت ضرورة أن تحرر
لما كنت محبا صادقا «للوطن الإغريقي» فإني لا أقنع بذرف الدموع
ولقد أصر ريجاز على الكتابة دائما باللغة التي يتخاطب بها
وأما هذه اللغة اليونانية (الأهلية) فلم تكن وقتئذ غير لهجة عامية، فلم يلبث
ولقد استهدف «ريجاز» في كل ما كتب استثارة حب الوطن في نفوس مواطنيه، وكان من
Barthélemy
عن «رحلة الشاب أنكارسيس»،
23
وكانت هذه الرحلة قد صادفت نجاحا عظيما في أواخر القرن الثامن
ثم إن «ريجاز» أضاف إلى هذا الكتاب مصورا جغرافيا للعالم الإغريقي، يشتمل
وجدير بالذكر أن «العالم اليوناني» الذي أبرزه «ريجاز» في مصوره، والذي
ولم يلبث أن نقل «ريجاز» نشاطه إلى ميدان العمل، بمجرد أن تهيأت الظروف
وفي أغسطس 1797، انتقل «ريجاز» إلى فينا. وكتب القنصل النمساوي في بوخارست
Argenti ، الذي قبض عليه بعد ذلك عند انكشاف
ثم إن جريدة «إفيميريس» صارت من «عملاء» هذه الحركة؛ فنشرت في عهدها الجديد
Thourios . وقد طبع «بوليوس ماركيديس» كل
أما «الدستور» الذي وضعه «ريجاز» استعدادا لإعلانه بمجرد قيام الثورة في
وهذا الدستور يستهدف إنشاء دولة هيللينية-بلقانية، تضم إليها اليونان ذاتها
فكفل الدستور للعناصر السلافية والتركية التمتع بنفس الحقوق التي يتمتع بها
ولقد استرشد «ريجاز» عند وضع هذا الدستور بالمبادئ التي أخذ بها الدستور
وهكذا حافظ «ريجاز» في دستوره على فكرة «الإمبراطورية البيزنطية»؛ أي على تلك
La Grande Idée . وإلى جانب هذا، دل وضع الدستور بالصور
وأما أنشودة الحرب المسماة «ثوريوس»، والتي صارت عنصرا أساسيا من عناصر
ففي بيتين من هذه القصيدة نالا شهرة ذائعة، قال «ريجاز»: «إنه لمن الخير
ووجه «ريجاز» دعوة النضال والحرية لكل أولئك الذين وقعوا تحت وطأة الظلم
Widdin
بالذات
ولقد اعتمد «ريجاز» والمشتركون معه في «مؤامرته» على تأييد فرنسا لهم،
وفي سبتمبر 1797، أوفد «جان مافروجيني» - من أقرباء «مافروجيني» الذي ذكرنا
Delacroix ، فذهب «جان
أما «ريجاز» نفسه فقد غادر «فينا» إلى «تريستا» في شهر ديسمبر من العام نفسه
غير أن آمال «ريجاز» ما لبثت حتى انهارت، كما لحق الفشل بمحاولات اليونانيين
وعندئذ لم يعد هناك مناص من تأجيل الثورة التي كان مشروطا لقيامها مجيء
وكان «ريجاز» قد غادر فينا - كما ذكرنا - في الأيام الأولى من شهر ديسمبر
ولما كانت النمسا تتفاوض وقتئذ مع الدولة العثمانية بشأن الثوار البولنديين
ولقد كان منتظرا بعد اكتشاف هذه المؤامرة أن يبذل البوليس النمساوي قصارى
وسارت الأمور في غير صالح اليونانيين، على أثر تأسيس التحالف الدولي الثاني
Kray ، فانهزم القواد الفرنسيون:
Magnano
في 5 أبريل
ولقد سارت الأمور في غير صالح فرنسا في ميدان آخر كذلك، حينما استطاع
Tepelendji ، أو التبليني
Capodistrias (1776-1831)،
ولما لم تستطع الحكومة الفرنسية إرسال أية نجدات إلى جزر الأيونيان، فقد
وهكذا انقضت هذه الفترة، وقد تحطمت أثناءها كل الآمال التي كان
ومع ذلك، فالواضح من كل ما تقدم أن حركة «ريجاز» والثوريين كانت سابقة
24
وكان من المتعذر بطبيعة الحال إنشاء مجلة سياسية. فظهرت هذه المجلة
Anthime Grazis ) الإشراف عليها.
وكانت هذه المجلة بمثابة دائرة معارف أدبية وعلمية في كل ما هو متعلق بشئون
25
في مبدأ الأمر نصف أسبوعية، ثم صارت بعد سنة 1812 جريدة يومية، كما
26
ولكنها كانت تنشر مرة كل شهر موجزا لأخبارها وبحوثها
وهذه الصحف التي صدرت في بوخارست وفينا وجزر الأيونيان (في عهد الإمبراطورية
L’Athena
في سنة 1818، ثم تأسست في باريس في
Mélissa ، وفي
Calliopi . فقد أمكن بفضل هذه الصحف والمجلات جميعها التي
على أنه مما تجدر ملاحظته أن مركز الحركة اليونانية كان قد انتقل إلى الخارج
وثمة ملاحظة هامة أخرى، هي أن تغييرا معينا لم يلبث أن طرأ على الحركة
ولقد كان «أدمانتيوس
Admantios Korais
هو المسئول عن هذا التحول الذي طرأ على الحركة
Chios
إحدى جزر الأرخبيل، حيث نبتت أسرته. وكانت «شيوز» من
وفي سنة 1782 غادر «كوريس» أزمير مرة أخرى، فقصد إلى فرنسا ليدرس الطب في
Montpellier ، وكان لكلية الطب
Chaptal
الذي وصل إلى مرتبة الوزارة في عهد نابليون الأول. وانتقل «كوريس» بعد ذلك إلى باريس، التي سماها «أثينا الصغيرة»، وقرر الإقامة
ثم انتهى الأمر بأن صار «كوريس» يكره ما أسماه «بالطغيان النابليوني» كراهية
27
في سنة 1803. ولكن هذا الاتجاه صوب الثورة لم يستمر طويلا؛ لأن
وذلك لأن «كوريس» صار صاحب الفضل في أنه جعل اللغة اليونانية الحديثة لغة علم
فبدأ «كوريس» ينقل من الإنجليزية والألمانية، المؤلفات المعتمد عليها في
Beccaria
عن الجرائم والعقوبات.
28
و«بيكاريا» أصله من ميلان، عاش من سنة 1738 إلى سنة 1794. وكانت
وإلى جانب ترجمة هذه المؤلفات الطبية والقانونية، أخذ «كوريس» على عاتقه نشر
Strabon
العالم الجغرافي الإغريقي، وكتب «كوريس» لهذه
Theophraste
الذي خلف أرسطو في «مدرسته»،
Hippocrate ، وقصص الروائي
Longus
صاحب قصة «دافن وكليوي»
29
المشهورة، وكذلك كتابات المؤرخ والفيلسوف الأخلاقي «بلوتارك»
، صاحب تراجم عظماء الرجال في
ولقد عكف «كوريس» على نقل مؤلفات كل هؤلاء وكثيرين غيرهم من أعلام الكتاب
وكانت رسالة «كوريس» التي كرس حياته لتأديتها هي تقريب «الفكرة اليونانية»
.
وعلى ذلك، فقد صارت القومية اليونانية منذ ذلك التاريخ متيقظة لوجودها، وتشعر
أما حركة اليونان القومية الأولى، والتي سردنا قصتها فيما تقدم، وجرت حوادثها
إرلندة
كانت الثورة الفرنسية بالنسبة لليونان العامل الذي جعل ممكنا أن تشعر لأول
ولكن الأمر كان على العكس من ذلك بالنسبة لإرلندة. فالثورة الفرنسية كانت ذات
ففي السنوات التي سبقت الثورة الفرنسية، خصوصا منذ أن حصل برلمان «دبلن» على
وعلاوة على ذلك فقد بقيت الحكومة الإنجليزية تصم آذانها عن سماع مطالب
Grattan
الزعيم الإرلندي
ولقد أراد أرباب الصناعة الإنجليز أن تبقى ضئيلة أجور العمال الإرلنديين
Whiteboys
الذين استخدم
Gentry
البورتستنت في إرلندة، وهي الطبقة
وأظهر برلمان «دبلن» الخضوع الكامل في علاقاته مع الحكومة الإنجليزية، وكان
فبقي الحكم في إرلندة دائما في أيد أرستقراطية بروتستنتية، اكتفت بأن صارت
وكأنما كان الكاثوليك «أتباعا» لهم.
تلك إذن كانت الحال في إرلندة عندما شبت نيران الثورة الفرنسية، والتي كان
Theobald Wolfe Tone ،
وعلى ذلك، فقد ضم «وولف تون» الإرلنديين الثوريين في جمعية تأسست في سنة
30
بدأت بأن ضمت إليها البروتستنتيين الشماليين الذين لم يلبثوا أن
وقد ضم جهودهم إلى هذه الحركة الموجهة ضد الأرستقراطية التي حكمت البلاد،
Ulster ، وأتباع الكنيسة الكاثوليكية الذين
Defenders ، كما
الذين عرفوا فيما بعد باسم «أورانجمين»
Orangemen . وكان زعماء هذه الحركة من
Tandy ،
Emmett ، و«أوكونل»
O’Connel ، و«فيتزجيرالد»
Firtzgerald ، ووقعت مصادمات كثيرة بين «المدافعين» و«صبيان
ثم تأسست جمعيات سياسية كانت أهمها «اللجنة الكاثوليكية» التي تألفت في
وطالبت هذه الجمعيات بإلغاء قانون التمييز الطائفي، وبإعطاء الكاثوليك حق
وكانت إنجلترة في هذا الوقت تعاني مصاعب متعددة، سببها رداءة المحصول وقلته،
وكان من أسباب الاضطرابات التي حصلت ذيوع الآراء التي أتت بها الثورة الفرنسية؛
وفي سنة 1794، أرسل حاكما على إرلندة لورد «فيتزوليام»
Fitzwilliam
وكان من الأحرار. ولكن «سياسة إجابة المطالب»
ثم حدث في الوقت نفسه أن نشبت الأزمات الدبلوماسية بين إنجلترة وفرنسا بسبب
Escaut
للملاحة الحرة؛ الأمر
وكان الإرلنديون هم الذي دفعوا الثمن! فقد قامت في إنجلترة حركة رجعية شديدة
وثمة نتيجة أخرى لحوادث الثورة الفرنسية، هي أن العنصر البروتستنتي الحر لم
ومن هذا التاريخ، يمكن اعتبار غربي إرلندة إجمالا في حالة عصيان واضطراب
ولقد أرادت فرنسا أن تستفيد من هذا الموقف في حربها مع إنجلترة. وعمل «وولف
Jackson ، ولكنه وقع في قبضة السلطات الإنجليزية التي ألقت
فاحتشدت القوات الفرنسية في ثغر «بريست»
Brest
بقيادة الجنرال «لازار هوش»، وتهيأ أسطول من ثلاثين
Bouvet
للنزول في إرلندة. ولكن هذا المشروع لم ينجح؛ لأن
Bantry Bay
في 22 ديسمبر 1796، ولم تستطع النزول إلى البر بسبب
Larochelle
التي بلغها في 13 يناير 1797. وبذلك فشلت الحركة.
ولقد أعطى تعاون الفرنسيين واشتراكهم في هذه الحملة الإرلندية الإنجليز
ثم حصلت في غضون سنة 1797 محاولة أخرى، تهيأت الفرصة المناسبة لها بسبب ما
Spithead
في أبريل من
Lille
في يوليو 1797. وكان في هذه الظروف إذن وحتى يتخلص
ففي سنة 1795 تأسست في «ألستر» جمعية «أورانجمين»، وهم الذين عرفوا أصلا -
ولقد هدفت حركة إقليم «ألستر» إلى طرد الفلاحين الكاثوليك من مقاطعات إرلندة
Armagh
القريبة عدد كبير من «الملتزمين»
ولقد انعدم بسبب ذلك وجود أية روابط من الآن فصاعدا بين الراديكاليين وأتباع
ومع ذلك، فقد كانت هذه السياسة الإنجليزية ذاتها، سياسة التفرقة الدينية، ثم
Act of
.
وثورة 1798 ترتد في أصولها إلى الأسباب نفسها التي أثارت الحركات السابقة. فقد أخذ «وولف تون» يحرض حكومة الإدارة في فرنسا على إرسال حملة ثانية إلى
Leinster
في 24 مايو 1798، وكان قوامها الفلاحين الذين
Murphy
و«روش»
Roche . كما
Harvey
وهو بروتستنتي،
Wexford ، و«كلدير»
Kildare .
وبادرت الحكومة الإنجليزية بإرسال جيش من ثلاثين ألفا بقيادة «كورنواليس»
Cornwallis
القائد الذي حارب في أمريكا،
Vinegar Hill
في 21 يونيو، ثم في «نيو
New Ross ، وتشردوا متقهقرين إلى مرتفعات «ويكلو»
Wicklow . وفي الشمال قضي على الثورة بسهولة
ولقد كان عندئذ، وفي هذا الوقت المتأخر جدا، أن تهيأت «حملة فرنسية»
Rochefort
بقيادة الجنرال «همبرت»
Humbert ، وهذه القوة نزلت في «كلدير» من أعمال
Connaught
في 22 أغسطس 1798، ولم
Castlebar ، ولكن
وأما القوة الثانية فكانت بقيادة «هاردي»
Hardy
و«وولف تون». وقد تأخر خروجها من «بريست» بسبب
والذي يتبين من هذه الأحداث أن العصيان أو الثورة أو «النجدة» الفرنسية،
Orange Terror ، وصفه أحد المعاصرين الإنجليز
31
بأنه كان شبيها في فظاعته وبشاعته «بمذابح سبتمبر» المعروفة في
32
الرؤساء الإنجليز برجال عهد الإرهاب في فرنسا : روبسبيير، و«كاريير»
وأرادت الحكومة الإنجليزية أن تضع حدا نهائيا لكل هذه الانزعاجات التي
فراحت تزعم أن اسكتلندة لم تعرف الرخاء والتقدم إلا منذ أن ارتبطت بإنجلترة
33
لتضمن الفوز بأكثرية ساحقة عند الانتخابات. ثم إن الحكومة راحت
Gentry ، بما قيمته مليون ونصف مليون من
وبهذه الوسائل إذن نجحت الحكومة في الظفر بتأييد بعض الزعماء الإرلنديين مثل
وكان بفضل «قانون الاندماج» هذا أن ألغي برلمان إرلندة. وبدلا من وجود
Boroughs
في مجلس العموم.
وفي المقاطعات كان الناخبون هم أصحاب الأملاك
Freeholders
الذين يبلغ دخلهم أربعين شلنا، أو يدفعون «التزاما»
ومع ذلك، فقد كان واضحا أن هذا التوسع في إعطاء حق الانتخاب لهؤلاء
Boroughs
فقد أعطي حق الانتخاب لأعضاء النقابات ولأصحاب الأملاك «والعقارات» الحرة، كما
Landlords ، ثم إنه قضى كذلك على عدد من هذه الدوائر البرلمانية في
وبمقتضى «قانون الاندماج» صار التبادل التجاري بين إرلندة وبريطانيا حرا
Lord-Lieutenant ، والقصر
Castle
في دبلن.
ولكن «التمثيل البرلماني» المزعوم الذي أعطي لإرلندة لم يكن يؤدي الغرض منه؛
Boroughs ، فبقيت السلطة التشريعية
وعاشت إرلندة في خمول وخمود، ولا يحرك الإرلنديون ساكنا. ومع ذلك، فقد حدث
Emmet ، وكان شقيقا لأحد زعماء الثورة في
Kilwarden ، فاضطروا للالتجاء إلى مرتفعات
Kilkow ، وتهيأ «روبرت إميت»
34
حاربت في صفوف جيش «القنصلية».
واتخذ الإنجليز مرة أخرى من هذا العصيان ذريعة لاستصدار طائفة من القوانين
وعلى ذلك، فقد بقيت الآن الكنيسة الكاثوليكية، هي وحدها المؤسسة التي صار في
Callah
سقف المكان على المصلين، فلم يحرك هؤلاء ساكنا حتى
ثم إن القساوسة الكاثوليك الإرلنديون كرهوا «الثورة الفرنسية»، وكرهوا كل
فقد بدأ عشرة أساقفة في سنة 1799 محادثات لهذا الغرض مع الحكومة الإنجليزية،
Muhner
المفاوضة، وكانت القواعد التي بحثت ليقوم عليها
ولقد استمرت المفاوضات فترة من الزمن، ولكنها باءت بالفشل أخيرا، بعد أن
O’Reilley
رئيس أساقفة أرماغ، و«مويلاند»
Moyland
رئيس أساقفة «كورك»، في حين كان
Troy
رئيس أساقفة دبلن يتزعم
ومن ناحية أخرى، فإن هذه المفاوضة لم تلبث أن أثارت كذلك غضب «العلمانيين» -
على أن عددا من «الويجز» الإنجليز، كانوا بصورة أو بأخرى يريدون أن ينال
Fox
زعيم الأحرار الذي تعين وزيرا للخارجية في «وزارة كل
ولما كانت الكنيسة في رومة قد نصحت الكاثوليك الإرلنديين بأن يلزموا سياسة
وجاء هذا الموقف الصريح ضد أية «مسالمة» مؤذنا بتكتل الأساقفة في مجموعهم،
وعلى ذلك، فإنه بعد تلك «اللحظة» القصيرة التي أحنت فيها الكنيسة في إرلندة
وهكذا، فإنه لم يلبث أن حدث تطور قومي واضح المعالم بين القساوسة الكاثوليك،
Maynooth
مدرسة إكليريكية، فتحت
ومن هؤلاء الذين جاءوا من فرنسا، كان «آبيه
Delahogue
من باريس، و«آبيه
Aherne
من «شارتر»
Chartres ،
Delost
من بردو، وهؤلاء
على أن تلاميذ هذه المدرسة الإكليريكية كانوا من أهل البلاد، ومن أبناء
فكان القساوسة المتخرجون في مدرسة «ماينوث» الإكليريكية رجالا وطنيين من
وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر تسلم رجال الدين هؤلاء قيادة حركة
وفضلا عن ذلك، فقد عنوا عناية فائقة بمشكلات التعليم والتربية، وبذلوا
وفي سنة 1802، أسس الأساقفة الإرلنديون الجمعيات الدينية، أو «الإخوان المسيحيين»،
35
ثم إنهم أسسوا في سنة 1808 جماعة «إخوان القديس باتريك»،
36
أما هاتان الجماعتان فقد اختصتا بتربية الأطفال وتعليمهم، ونشر
37
على تعليم وتربية البنات. فكانت هذه تربية ابتدائية دينية مستقلة،
ولا جدال في أن نتائج هذا النشاط كله لم يكن متوقعا ظهورها إلا بعد مرور
والذي تجدر ملاحظته أن الفكرة الإرلندية قد صارت متجسدة الآن في «الكنيسة»؛
الخلاصة
تلك إذن كانت الحركات الثلاث التي كان للثورة الفرنسية أثر ظاهر عليها. ولعل أول ما يسترعي الانتباه في تاريخها، إذا استثنيت كل من ألمانيا الغربية
ومن ناحية الأثر الذي كان للثورة الفرنسية، بشأن الفكرة القومية، فمما لا شك
ولقد اتخذت «الجمعية التشريعية» بعد أربعة أشهر من إعلانها الحرب ضد النمسا
ولما كان قد صار وشيكا اجتماع مؤتمر وطني، فقد صار لزاما على شعب حر
وبسبب هذا القرار إذن، صار اعتبار ثمانية عشر كاتبا ومفكرا من أعلام
ولقد كانت المبادئ والآراء التي عملت الثورة على ترويجها في أوروبا تنطوي على
وغني عن البيان أن هذه الآراء كانت تبعد كل البعد عن فكرة القومية، ومع
ولقد كان بهذا المعنى إذن أن هيأت الثورة الفرنسية الفرصة السانحة، كما
ولا جدال في أن أثر أو فعل الثورة في كلا الحالين ظل متفوقا في ميدان الفكر
المقدمة
الكتاب الثالث
الباب الأول: القنصلية
تمهيد
1 - دستور العام الثامن
2 - السلام العام
3 - الإصلاح الداخلي: مجد القنصلية
4 - التمهيد للإمبراطورية
الباب الثاني: الإمبراطورية
تمهيد
1 - دستور العام الثاني عشر
2 - نظام الإمبراطورية
3 - أوج الإمبراطورية: من أوسترلتز إلى تلست
4 - أزمة الإمبراطورية: الحصار القاري
5 - نهاية الإمبراطورية
6 - حكم المائة يوم وواترلو
الباب الثالث: أوروبا والإمبراطورية
1 - سياسة الإمبراطورية
2 - المقاومة ضد فرنسا
3 - انهيار السيطرة النابليونية
الخلاصة
الكتاب الرابع
المقدمة
1 - التسوية الأوروبية
2 - الاتحاد الأوروبي1
3 - المسألة الشرقية
4 - فرنسا (1815-1848)
الخلاصة
المقدمة
الكتاب الثالث
الباب الأول: القنصلية
تمهيد
1 - دستور العام الثامن
2 - السلام العام
3 - الإصلاح الداخلي: مجد القنصلية
4 - التمهيد للإمبراطورية
الباب الثاني: الإمبراطورية
تمهيد
1 - دستور العام الثاني عشر
2 - نظام الإمبراطورية
3 - أوج الإمبراطورية: من أوسترلتز إلى تلست
4 - أزمة الإمبراطورية: الحصار القاري
5 - نهاية الإمبراطورية
6 - حكم المائة يوم وواترلو
الباب الثالث: أوروبا والإمبراطورية
1 - سياسة الإمبراطورية
2 - المقاومة ضد فرنسا
3 - انهيار السيطرة النابليونية
الخلاصة
الكتاب الرابع
المقدمة
1 - التسوية الأوروبية
2 - الاتحاد الأوروبي1
3 - المسألة الشرقية
4 - فرنسا (1815-1848)
الخلاصة
الصراع بين البورجوازية والإقطاع 1789-1848م (المجلد الثاني)
الصراع بين البورجوازية والإقطاع 1789-1848م (المجلد الثاني)
تأليف
محمد فؤاد شكري
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، صدر في شهر مارس من هذا العام (1958) المجلد الأول من «الصراع بين البورجوازية والإقطاع»، الدراسة التي عقدناها لتاريخ أوروبا في القرن التاسع عشر، أو بالأحرى في النصف الأول منه بين سنتي 1789، 1848، وكنا حاولنا في هذا المجلد الأول إظهار الصلة بين نشوء المبدأ القومي والمذهب الحر، وبين ظهور البورجوازية أو الطبقة المتوسطة، تخوض غمار نضال عنيف ضد أصحاب السيطرة من الطبقات الممتازة في المجتمع الأوروبي، ذلك المجتمع الذي لم يكن - حتى هذا الوقت - قد استطاع القضاء على بقايا الإقطاع في أوروبا، لا من الناحية الاجتماعية، ولا من الناحية السياسية، أو الأخرى الاقتصادية.
وكنا قد أوضحنا في المجلد الأول كذلك، كيف أن الثورة الفرنسية كانت التجربة الكبرى التي مرت بها البورجوازية، عندما راحت هذه تعمل لتشييد صرح الدولة القومية ذات المبادئ الحرة، فتوقف على نجاح هذه التجربة ظفر البورجوازية بالسلطة في ظل نظام «دستوري»، وتلك كانت الغاية التي هدفت إليها الطبقة المتوسطة دائما في نضالها ضد الطبقات ذات الامتيازات في «النظام القديم»، ولقد كان معنى فشل البورجوازية - لو أن عناصر الرجعية في أوروبا تمكنت من قمع «الثورة» - أن يقضى لمدة من الزمن - لا شك في أنها سوف تطول كثيرا - على القومية والمذهب الحر، كمثل عليا يسترشد بها المجتمع البورجوازي في أوروبا، في بناء نظامه السياسي بالشكل الذي عرفه القرن التاسع عشر بعدئذ.
ونحن في هذا المجلد الثاني - الذي بين يدي القارئ الكريم - قد قطعنا شوطا آخر في دراسة «الصراع بين البورجوازية والإقطاع»، وذلك في فترة من التاريخ الأوروبي بين عامي 1799-1815، شهدت أحداثا جسيمة خلفت آثارا عميقة على كيان المجتمع الأوروبي من الناحيتين المادية والروحية معا، ولقد كان بسبب ذلك أن اصطلح المؤرخون على تسمية هذه الفترة «بعصر نابليون»، ولم يكن غرضنا في هذه الدراسة تفصيل تاريخ الإمبراطورية النابليونية لبيان الأحداث والوقائع وحسب، ولكننا توخينا أن نبرز الحقيقة التالية: وهي أن الإمبراطورية التي أقامها نابليون كانت «إمبراطورية بورجوازية» قامت على أكتاف الطبقة المتوسطة في فرنسا، واستطاعت أن تفرض سلطانها على أوروبا خصوصا بفضل مؤازرة البورجوازية «العالية» لها، واستندت على تشريعات تؤمن أهل الطبقة البورجوازية على مصالحهم، ووضعت لها تنظيمات كفلت لهؤلاء السيطرة السياسية والاقتصادية في الدولة.
ومن هذه الناحية، كانت الإمبراطورية النابليونية إذن حلقة أخرى في سلسلة التجارب الكبرى، التي مرت بها الطبقة المتوسطة منذ قيام الثورة الفرنسية إلى أن أمكن أن تفوز البورجوازية نهائيا بالسيطرة في النظام الأوروبي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وتدعمت بذلك أركان القومية والمذهب الحر، الدعامتين اللتين تقوم عليهما هذه السيطرة البورجوازية.
وكما حدث أن رضيت البورجوازية أثناء الثورة الفرنسية بتضحية المبادئ الحرة الديمقراطية، فقد حدث عند تأسيس الإمبراطورية النابليونية أن رضيت البورجوازية كذلك بتضحية كل الحقوق السياسية التي كان من حقها التمسك بها، ومبعث التضحية في كلا الحالين كان رغبة البورجوازية في الاطمئنان على مصالحها بالصورة التي تخيلتها حينئذ، أما نابليون فقد أخذ يعوض البورجوازية عن حقوقها السياسية التي فقدتها؛ بابتداع ألقاب النبل والشرف، وإقامة «بلاط» إمبراطوري، وإصدار أوسمة جوقة الشرف، وغير ذلك من «مظاهر» الإمبراطورية اللازمة «لنظامه»؛ وحتى يتسنى مكافأة هذه البورجوازية العالية على الخدمات التي صارت تسديها لإمبراطوريته.
ومثلما كان للثورة الفرنسية آثار ظاهرة في أوروبا من ناحية القومية والمذهب الحر، فقد خلفت الإمبراطورية النابليونية كذلك من هذه الناحية آثارا خطيرة الشأن على أوروبا، كانت أهمها مباشرة - ولا شك - استثارة «الأمم» للمقاومة ضد نابليون، وهي المقاومة التي أدت إلى انهيار السيطرة النابليونية في أوروبا، وسوف يرى القارئ أن مبعث هذه المقاومة «الأممية» ضد نابليون كان انتشار الشعور الوطني، وذيوع الآراء «القومية» التي نادى بها قادة الرأي والمفكرون في البلدان ذاتها التي خضعت لنظام نابليون وإمبراطوريته.
بقيت كلمة أخيرة: هي أننا أضفنا إلى هذا المجلد قسما من البحث المتعلق «بأوروبا تحت نظام مترنح»، وهو الذي يشمل الفترة الباقية من هذه الدراسة، أي بين سنتي 1815-1848، على أن يتم نشر بقية فصوله في المجلد التالي، وقد رأينا أن نرجئ الكلام عن أهمية الصراع بين البورجوازية والإقطاع في هذه الفترة؛ حتى تتاح الفرصة إن شاء الله لصدور المجلد الثالث والأخير من هذا الكتاب.
والله ولي التوفيق.
المؤلف
العباسية
3 ربيع الثاني 1378 / 16 أكتوبر 1958
الكتاب الثالث
عصر نابليون
الباب الأول
القنصلية
10 نوفمبر سنة 1799-18 مايو سنة 1804
تمهيد
الجمهورية القنصلية وديكتاتورية الفرد
ذكرنا أن مجلس الخمسمائة الذي اجتمع برئاسة لوسيان بونابرت مساء يوم 10 نوفمبر سنة 1799 - وهو يوم انقلاب 19 بريمير - كان قد قرر أن يعهد إلى اللجنة القنصلية التنفيذية التي تألفت من «سييس» و«روجرديكو» و«بونابرت» بتنظيم إدارات الحكومة، ونشر السكينة والاستقرار في الداخل، والوصول إلى تحقيق السلام على قواعد ثابتة ومشرفة في الخارج، ولم يكن ذلك برنامج الهيئة الحاكمة فحسب، بل كان السلام في الداخل والخارج مطلب الأمة بأسرها، بعد أن أتعبتها الحروب الطويلة، وأنهكت أعصابها الانقلابات المتلاحقة، وصارت ترنو إلى تحقيق الآمال الكبيرة التي كانت تجيش في صدور أبنائها، وقت أن بدأت الثورة سنة 1789، أو تريد أن تجعل أمرا مفروغا منه، نتيجتين على الأقل من نتائج هذه الثورة: إلغاء الحقوق الإقطاعية، وعملية بيع أملاك الدولة، وذلك كان برنامجا ضخما ولا شك.
ولكن بونابرت الذي تسلم من الآن فصاعدا زمام الحكم في الجمهورية الجديد، كان يدرك ضخامة المهمة الملقاة على عاتق هذا النظام، ولم يتردد في تحمل مسئولية الاضطلاع بها وحده، ولكن قبل أي نشاط آخر كان يجب الفراغ من وضع الدستور الذي كانت قد تألفت لجنة لوضعه، وهو الدستور الذي تحتم لذلك أن يكفل للجنرال بونابرت أكبر قسط من السلطة؛ كي يتسنى له تنفيذ مشيئة الأمة على أساس البرنامج الذي أوضح معالمه قرار مجلس الخمسمائة يوم أن عمل هذا المجلس على «إنهاء الثورة».
الفصل الأول
دستور العام الثامن
13 ديسمبر سنة 1799
استغرق وضع الدستور الجديد مدة شهر ونصف شهر تقريبا من 11 نوفمبر إلى 24 ديسمبر سنة 1899، ومنذ أول ديسمبر كانت جريدة المونيتر قد أذاعت ملخصا لبعض الآراء التي تقدم بها «سييس» كقواعد للدستور الجديد، يبغي منها أن يجعل حق الانتخاب مقصورا على شاغلي الوظائف العمومية في الهيئات الإدارية والقضائية والتشريعية في الدولة، الذين سماهم الشعب أصلا لهذه الوظائف، أو الذين عينتهم الحكومة بها، وصاروا لذلك يهتمون جديا بضرورة المحافظة على المبادئ التي أتت بها الثورة والإبقاء على النتائج التي تمخضت عنها، وأما الهيئة التشريعية؛ فقد أشار «سييس» بأن تتألف من أربعمائة عضو يتجدد ربع عددهم سنويا، يضعون القوانين وفق حاجات المجتمع ومطالب الحكومة، وقد وضع «سييس» على رأس هذا النظام كله «ناخبا أعظم» لا يمكن عزله، يعطى مخصصات قدرها ستة ملايين فرنك ويقيم في قصر فرساي، ويلحق بخدمته ثلاثة آلاف حارس، تصدر باسمه القرارات والقوانين وأحكام القضاء، ثم إن هذا الناخب الأعظم يسمي قنصلين: أحدهما للحرب، والآخر للسلام.
هذه المقترحات لم تلق قبولا لدى بونابرت الذي سرعان ما هاجمها هجوما عنيفا بدعوى أنها خليط من الآراء المهوشة، وحمل بونابرت على ذلك «الناخب الأعظم» خصوصا؛ إذ قال عنه: إنه «ظل هزيل لملك كسول»، وأمكن بفضل وساطة «تاليران» و«رودرر
Roederer » تجنب القطيعة بين بونابرت وسييس، ولكن بونابرت ما لبث حتى جمع لديه بمقره في قصر لكسمبورج أعضاء لجنة الدستور (يوم 2 ديسمبر سنة 1799)، فلم يمض أحد عشر يوما على اجتماعهم حتى كان قد تم إنجاز مواد الدستور الجديد في 95 مادة، وذلك في 13 ديسمبر سنة 1799 (أي يوم 22 فريمير من السنة الثامنة)، وقد صار يعرف بدستور العام الثامن.
وقد احتفظ هذا الدستور بنظام التمثيل النيابي، ولو أن هذا التمثيل كان اسميا فقط؛ حيث كاد يقضي النظام الذي جاء به الدستور على كل صوت للشعب، ذلك بأن الانتخاب جعل على أربع مراحل؛ إذ ينتخب سواد الشعب «أعيان أو نواب القومونات»، بينما ينتخب هؤلاء من بينهم عشر عددهم فقط «أعيان أو نواب المديريات»، ثم ينتخب هؤلاء بدورهم من بينهم عشر عددهم كذلك «أعيان أو نواب فرنسا»، ثم يجري من بين هؤلاء الأخيرين انتخاب أعضاء الهيئة التشريعية.
والهيئة التشريعية تتألف من مجالس ثلاثة: مجلس الشيوخ
Le Sénat
من 80 عضوا يعينهم القناصل لمدة حياتهم، مهمتهم السهر على الدستور والإشراف على تطبيقه، ثم تعيين أعضاء المجلسين الآخرين «التربيون
Tribunat » و«المجلس التشريعي
Corps Législatif » باختيارهم من قوائم الانتخاب، وأما «مجلس التربيون» فيتألف من مائة عضو، ومهمته بحث ومناقشة القوانين والمسائل التي تعرضها عليه الهيئة التنفيذية، «والمجلس التشريعي» يتألف من 300 عضو، ومن حقه فقط الموافقة على هذه القوانين أو رفضها.
أما السلطة التنفيذية: فقد تألفت من ثلاثة قناصل لمدة عشر سنوات، من الممكن تجددها بصورة مستمرة، على أن يكون بونابرت «قنصلا أول» وأن يحتفظ بالمنصبين الآخرين لكل من «كمباسيرس
Cambacérès » و«لبران
Lebran »، ونصت المادة 41 من الدستور على أن من حق القنصل الأول «استصدار القوانين، وتعيين وعزل أعضاء «مجلس الدولة
Conseil d’Etat » حسب إرادته، والوزراء والسفراء وكبار الوكلاء الخارجيين، وضباط الجيش في البر والبحر، وأعضاء الحكومات «الإدارات» المحلية، وقومسييري الحكومة «نوابها» لدى المحاكم، وهو الذي يسمي كل القضاة لدى المحاكم الجنائية والمدنية، خلاف قضاة الصلح وقضاة النقض دون القدرة على عزلهم»، بينما نصت المادة 42 على أن للقنصل الأول القول الفصل في كل أعمال الحكومة الأخرى؛ فيكفي قرار القنصل الأول لاعتماد أي إجراء أو لإبطاله، وليس للقنصلين الثاني والثالث إلا صوت استشاري فحسب.
وواضح إذن أن هذا الدستور أعطى كل سلطة فعلية للقنصل الأول، فإلى جانب الحقوق التشريعية والتنفيذية الواسعة التي صارت له، كان من حقه - بالاشتراك مع القنصلين الآخرين، ولم يكونا في نفس مرتبته - تعيين أعضاء مجلس الشيوخ، وهؤلاء هم الذين يعينون أعضاء الهيئة التشريعية «بمجلسيها: التشريعي، والتربيون»، وذلك باختيارهم من بين الأسماء الواردة في آخر قائمة للانتخاب بعد تعدد عملية الانتخاب ذاتها في مراحلها الأربع السالفة الذكر، فلم يعد الشعب قريب الصلة بممثليه، بل كادت تختفي تماما في هذا النظام كل إرادة له.
ولقد أعلن هذا الدستور رسميا يوم 15 ديسمبر سنة 1799، وأدرك سواد الشعب أن الدستور الجديد إنما يعطي كل سلطة لقائده المظفر «بونابرت»، ولم ير الشعب في ذلك إلا سببا لرضائه ولزيادة اطمئنانه على أن الأمور سوف تسير في الطريق المحقق للسكينة والاستقرار في الداخل ولبسط ألوية السلام في الخارج.
وأعرب الشعب عن ثقته الكاملة في النظام الجديد عندما تقرر الاستفتاء العام على هذا الدستور - تطبيقا للمادة الأخيرة منه - في اليوم نفسه (15 ديسمبر)، فأيد الشعب الدستور بأغلبية ساحقة، حيث تبين عند إعلان نتيجة الاستفتاء في 7 فبراير سنة 1800 أن الذين قبلوا الدستور 3011007، بينما الذين رفضوه بلغوا 1562 فقط، ولم ينتظر بونابرت ظهور نتيجة الاستفتاء ليعلن بداية العمل بالدستور، بل تحدد لوضعه موضع التنفيذ يوم 25 ديسمبر سنة 1799.
وبادر بونابرت بتأليف «مجلس الدولة»؛ فاختار للتعاون معه رجالا اعتقد فيهم القدرة على القيام بمهامهم، دون نظر إلى ماضيهم السياسي، من هؤلاء كان «بولاي دي لامورث
Boulay de la Meurthe » صاحب القانون المعروف الذي حرم نبلاء العهد القديم كل حقوق المواطن، ثم «رودرر
Roederer » من رجال العهد القديم، وأحد أعضاء الجمعية الأهلية التأسيسية، ثم «ديفرمون
Defermon » وكان من الجيروند، ثم «برون
Brune » وكان من مؤسسي نادي الكوردلييه قبل التحاقه بالجيش، ثم «غانتوم
Ganteaume » وقد اشترك في الحرب الأمريكية، وقد تعين هؤلاء لرئاسة أعمال التشريع والشئون الداخلية والمالية والحربية والبحرية.
وكذلك اختار سييس، وروجيرديكو، وكمباسيرس، ولوبران مع بونابرت أعضاء «مجلس الشيوخ» دون تمييز بين الأحزاب أو الهيئات القديمة، سواء كان الذين وقع الاختيار عليهم من رجال «العهد القديم» أو أعضاء الجمعية الأهلية التأسيسية، أو حكومة الإدارة، كما كان من بينهم علماء وعسكريون وماليون وغير ذلك، وقد اختار أعضاء مجلس الشيوخ هؤلاء - حسبما نص عليه الدستور - أعضاء المجلس التربيون المائة، وأعضاء المجلس التشريعي الثلاثمائة.
ووقع الاختيار على الأعضاء السبعة الذين تألفت منهم الوزارة، دون نظر كذلك إلى ماضيهم القديم، أو إلى الأحزاب والهيئات التي كانوا ينتمون إليها سابقا ؛ نذكر من هؤلاء الوزراء «برثييه
Berthier » الذي تعين للحربية، وتاليران الذي تسلم وزارة الخارجية، و«فوشيه
Fouché » الذي عين للبوليس «أو الشرطة»، وكان إلى جانب هؤلاء وزراء للبحرية، والمالية «لوسيان بونابرت»، وللعدل.
وهكذا كما قال بونابرت: «سوف يجد رجل الثورة (الثوري) ما يبعث على الثقة في هذا النظام عندما يشهد فوشيه وقد صار وزيرا، وسوف يملأ الرجاء صدر الرجل من النبلاء في إمكان العيش بسلام طالما أن أسقف أوتان القديم (أي تاليران) قد صار كذلك وزيرا، فأحد هذين يحمي يساري والآخر يحمي يميني، لقد افتتحت طريقا عظيما في استطاعة الجميع أن يسيروا فيه.»
ولتحقيق «العيش بسلام» عمدت حكومة القنصل الأول إلى استصدار التشريعات التي ألغت بها قانون الرهائن، وأجازت عودة المبعدين الذين كانوا قد نفوا على أثر انقلاب فريكتدور، وأوقفت إضافة أسماء جديدة على قوائم المهاجرين، واستبدلت بالقسم القديم «الذي تقرر من 16 يوليو سنة 1797» وكان منطويا على كراهية شديدة للملكية، وعدا بسيطا بالولاء للدستور، وبدأت تحقيقا لمعرفة عدد القساوسة الذين كانوا في السجن.
ومن الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لنشر السلام الداخلي: استصدارها العفو عن ثوار الغرب «الشوان
Chouans » الذين يرضون بالتسليم، مع التهديد بتوقيع أشد العقوبة على زعماء ثورة فنديه الذين لا تزال تمدهم إنجلترة بالمعونة، وفي 18 يناير سنة 1800 قبل أكثرية زعماء فنديه وبريطانيا الاتفاق مع الحكومة، واستطاعت هذه التخلص من زعماء الثورة الذين أصروا على المقاومة «مثل «فروتيه
Frotté » في نورمانديا الذي قبض عليه وأعدم في 18 فبراير سنة 1800»، وأما في بريطانيا فقد انهزم زعماء الثورة وسلم كادودال
Cadoudal
في 14 فبراير، ثم لم يلبث أن فر إلى إنجلترة «في مايو» عندما اكتشفت مؤامرة للملكيين ضد النظام الجديد «في مايو» من السنة نفسها (1800).
ولتأمين السلام الداخلي من أعداء «الجمهورية» الذين اتخذوا من بعض الصحف أداة ينفثون بها سمومهم، قررت حكومة القنصلية إلغاء حرية الصحافة، وهي التي نصت دساتير الثورة الثلاثة التي صدرت بين عامي 1791، 1799 على وجوب احترامها - ولو أنه لم يكن لها وجود عمليا - فصدر مرسوم في 17 يناير سنة 1800 بوقف وتعطيل كل الصحف السياسية في باريس «طوال مدة الحرب» وكان عدد الصحف التي سمح باستمرار صدورها ثلاث عشرة صحيفة فقط، وجب عليها أن تجعل اهتمامها مقصورا على «العلوم والفنون والآداب والتجارة والإعلام».
الفصل الثاني
السلام العام
صلح أميان (25 مارس 1802)
ولما كانت مهمة النظام الجديد تحقيق السلام العام، أي: إنهاء الحرب التي كان يهدد استمرارها ببقاء التحالف الدولي «الثاني» قائما ضد فرنسا، فقد صار واجبا على بونابرت مواجهة الموقف الخارجي بمواصلة الحرب مع النمسا، حجر الزاوية في هذا التحالف، وحمل إنجلترة على عقد صلح مشرف مع فرنسا.
وبدأ بونابرت بأن نشر خطابين مفتوحين، أحدهما: إلى ملك إنجلترة جورج الثالث بتاريخ 26 ديسمبر سنة 1799، والآخر: إلى الإمبراطور فرنسيس الثاني، يعرض عليهما الصلح، ولكنهما رفضا أن يجيبا على رسالة من شخص اعتبراه «مغتصبا» للحكم، ثم إن الحكومة الإنجليزية «وزارة وليم بيت» كان قد صح عزمها على إضعاف فرنسا، واعتقدت أن في وسعها - إذا استطالت الحرب بضعة شهور أخرى، وتزايد ضعف فرنسا - أن تحصل من هذه على شروط أفضل للصلح، وأما النمسا فكانت مرتبطة بحليفتها إنجلترة، ولا تريد علاوة على ذلك مغادرة إيطاليا، وحينئذ لم تسفر عن شيء المحادثات التي دارت بين الفريقين، فكان جواب إنجلترة أن عودة الأسرة القديمة (البربون) إلى الحكم في فرنسا كفيل وحده لدرجة كبيرة بضمان السلام والهدوء في أوروبا، وأظهرت هذه المفاوضة بونابرت أمام الشعب الفرنسي بمظهر الراغب في السلام حقا، والذي صار مرغما على أن يخوض غمار حرب «ضرورية» كان بونابرت - ولا شك - يريدها على أمل الفوز بانتصارات جديدة لزيادة دعم سلطانه.
وعلى ذلك فقد أخذ القنصل الأول يتهيأ للحملة المقبلة، فمن الناحية السياسية عمل على عزل النمسا بأن استمال بروسيا «فردريك وليم الثالث» إلى التزام الحياد، وروسيا «بول الأول» إلى الخروج من التحالف، ومن الناحية العسكرية اتخذ عدة إجراءات لضمان تموين الجيش بحاجاته الكاملة، ومنع سرقات الموردين، وذلك لاعتقاد القنصل الأول أن طاعة الجند وخضوعهم للنظام الدقيق مرتهنان بسد حاجاتهم من الأغذية والملابس والعتاد، كما دعا للخدمة العسكرية كل المطلوبين للجندية في هذا العام ، وجمع في «ديجون
Dijon » جيشا من الاحتياطي يبلغ الستين ألف رجل، تحت قيادة الجنرال «برثييه»، ومهمة هذه القوة الأولى كانت تخليص الجنرال «ماسينا
Massena » الذي كان النمسويون قد أرغموه مع الجنرال «سولت
Soult » على الارتداد بجيشه إلى جنوه ، وفرضوا عليه الحصار بها.
وكانت حملة هذا العام (1800) قد بدأت منذ شهر أبريل بالعملية التي أفضت إلى محاصرة «ماسينا» في جنوة، مع زميله «سولت»، وكان الأول هو صاحب القيادة على جيش إيطاليا، واستطاع القائد النمسوي «ميلاس
Mélas » أن يرغم جيشا فرنسيا آخر بقيادة «سوشيه
Suchet » على الارتداد إلى «برغيتو
Borghetto »، ثم لم يلبث أن وضع قوات كبيرة على حصار جنوة، بينما صار يتعقب «سوشيه» ببقية جيشه على أمل أن يتمكن من افتتاح الحدود الفرنسية ذاتها من ناحية «بروفنس».
ذلك كان الموقف عندما تدخل بونابرت ليفسد خطط النمسويين، فبينما استعد «مورو
Moreau » قائد جيش ألمانيا لعبور نهر الراين لغرض الزحف على فينا بطريق حوض الدانوب، عهد بونابرت بشئون الحكم إلى «كمباسيرس»، ثم غادر باريس في 6 مايو ليزحف بجيشه عبر جبال الألب السويسرية؛ حتى يتسنى له - بالنزول إلى سهول بيدمنت - أن يشن هجوما على الجيش النمسوي في خطوطه الخلفية، وتقرر عبور الألب من ممر سان برنار، فوصل بونابرت إلى جنيف في 10 مايو، وبدأت عملية الزحف والعبور الشاقة، فلم تمض أيام قلائل حتى كان الجيش (35000) قد بلغ القمة (15 مايو)، ثم بدأ الهبوط، وبعد يوم واحد (16 مايو) كانت طلائع هذا الجيش قد استطاعت بقيادة «لان
Lannes » الاستيلاء على «أوستا
Aosta »، وبعد تذليل بعض العقبات استأنف الجيش زحفه إلى شاطئ نهر «تيشينو
Ticino »، وفي الوقت نفسه كانت قوات فرنسية أخرى قد عبرت الألب «عند سان جوثار» و«مون سنيس
Mont. Cenis ».
وعندئذ بدلا من الزحف صوب الجنوب لتخليص ماسينا «مما أرغمه على التسليم في جنوه في 4 يونيو، وإخلاء جنوه في اليوم التالي»، اتجه بونابرت صوب ميلان (2 يونيو)، وقد وزع بونابرت قواته إلى ثلاث فرق، فارتكب خطأ مواجهة الجيش النمسوي الرئيسي بقيادة «ميلاس» بقسم من جيشه فقط، وفي سهل «ألكسندرا
Alexandrie » إذن استطاع العدو اختراق خطوطه (14 يونيو)، وكان ميلاس وهو رجل مسن قد أخذ منه التعب فانسحب إلى «مارنجو» متخليا عن القيادة العامة لرئيس أركان حربه الجنرال «دي زاك
Zach »، الذي كان عليه إتمام العمليات الأخيرة لإحراز نصر صار مؤكدا، ولكن لم يلبث أن وصلت إلى ميدان المعركة قوات فرنسية جديدة بقيادة الجنرال «ديزيه
Desaix » سدت طريق زحف النمسويين، الذين سرعان ما أوقفتهم مدفعية «ديزيه»، ثم شن الفرسان الفرنسيون على جناحهم هجوما عنيفا أرغمهم على التقهقر إلى «ألكسندرا»، فانقلب انتصار النمسويين إلى هزيمة؛ وبذلك صار النصر من نصيب الفرنسيين في هذه المعركة المشهورة، معركة مارنجو (14 يونيو 1800) التي كلفت «ديزيه» حياته، وخسر الجيشان المتقاتلان خسائر جسيمة، وارتد النمسويون في اليوم التالي إلى ما وراء «المنشيو
Mincio » فأخلوا لمبارديا وبيدمنت «بمقتضى اتفاق ألكسندرا الذي عقدوه مع الفرنسيين في 15 يونيو 1800».
ويعتبر انتصار «مارنجو» نجاحا حاسما لسياسة بونابرت الإيطالية، حيث استطاع إعادة تأسيس جمهورية ما وراء الألب
Cisalpine
في 17 يونيو 1800، والتي اتسعت في 7 سبتمبر بضم إقليم «نوفارا
Novarais »، وسمى الجنرال «جوردان
Jourdan » حاكما على بيدمنت، وأمر بهدم القلاع القائمة على ممرات الألب للدفاع عنها ومنع المرور منها، كما ترتب على هذا النصر الحاسم أن تمكن بونابرت من تأكيد سياسته السويسرية، حيث أمر بحل حكومة الإدارة في الجمهورية الهلفيتية
Rep. Helvétique
في 8 أغسطس، وسمى «رينهارد
Rienhard » قومسييرا ساميا، على رأس قوة من خمسة عشر ألف رجل، وطلب من تاليران أن يعد مع المختصين دستورا جديدا لهذه الجمهورية.
ولقد كان انتصار «مارنجو» كذلك ذا آثار حاسمة على الموقف الداخلي في فرنسا، فقد تأكدت بفضله سمعة بونابرت، وزادت سيطرته الداخلية، في حين وضع هذا النصر حدا لمؤامرات الملكيين التي كان يدبرها لويس الثامن عشر من منفاه «في ميتاو
Mittau
من أعمال كورلاند الروسية، وبالقرب من ريجا» ويمده الإنجليز بالمال، ويتخذ له وكلاء لهذه الغاية في باريس وأوجسبرج، ثم إن بونابرت لم يلبث أن أقدم على مناورة جريئة من أجل استمالة الملكيين إليه عندما حذف - بجرة قلم واحدة - أسماء (52000) مهاجر من قوائم المهاجرين - أي سمح لهم بالعودة إذا شاءوا إلى فرنسا - ولم يشترط في نظير ذلك سوى شرط واحد بسيط فقط، هو أن يقسموا يمين الولاء للحكومة، وذلك في 20 أكتوبر 1800.
وفي الوقت الذي زحف بونابرت على رأس جيشه عبر جبال الألب، وأحرز انتصار مارنجو الحاسم على جيوش النمسا في سهول بيدمنت، كان جيش آخر (هو جيش الراين) بقيادة الجنرال «مورو
Moreau » قد عهد إليه - كجزء من خطة غزو النمسا - بالتوغل في ألمانيا والزحف بطريق نهر الطونة «أو الدانوب» من أجل الوصول إلى فينا والاستيلاء عليها، وقد قام «مورو» بمناورات بارعة في بفاريا، حتى وصل إلى «أولم
ULM » (19 يونيو) ولم يعق تقدمه إلا إرساله النجدات إلى إيطاليا، ومع ذلك فقد تمكن من قطع خط الرجعة على النمسويين بقيادة الجنرال «كراي
Kray » الذي طلب - مرغما - (في 15 يوليو) وقف العمليات العسكرية حتى يخلي بفاريا، وعندئذ اضطر الإمبراطور «فرانسوا الثاني» النمسوي إلى الكتابة إلى بونابرت (منذ 5 يوليو) جوابا على رسالة بونابرت السابقة إليه منذ ديسمبر سنة 1799 التي يعرض فيها الصلح، وأوفد الإمبراطور مفاوضا من قبله لإبرام الصلح.
وكان الإمبراطور يرجو في الوقت نفسه أن يطول أمد المفاوضة، وذلك نزولا على رغبة الإنجليز الذين دفعوا له مبلغا جسيما من المال في نظير عدم إبرامه الصلح مع فرنسا قبل شهر فبراير من عام 1801، ولكن «تاليران» و«بونابرت» سهل عليهما توريط مندوب الإمبراطور «الكونت سان جوليان
Sain Julien » حتى وقع على «مبادئ الصلح» في 28 يوليو، وعندئذ أنكرت عليه حكومته هذا العمل ورفضت الاعتراف به، واقترح النمسويون بدلا من ذلك عقد مؤتمر للصلح تدعى إليه إنجلترة، فوافق الفرنسيون ووقع الاختيار على «لونفيل
Lunéville » مكانا للمؤتمر، وحدد «تاليران» يوم 24 أغسطس لبداية جلساته.
وفي «لونفيل» كان ممثل الإمبراطور، رئيس وزرائه «كوبنزل
Louis de Cobenzl » (الذي خلف الرئيس السابق ثوجو
Thugut
منذ 25 سبتمبر)، وممثل بونابرت شقيقه جوزيف (منذ 2 أكتوبر)، ومع أنه كانت قد بدأت المفاوضات من أجل الصلح، فقد خشي بونابرت أن يعمد النمسويون إلى الخديعة بإطالة أمد المفاوضة، فأصدر أوامره إلى قواده في 22 نوفمبر باستئناف العمليات العسكرية ضد العدو، فاستطاع «مورو» أن يلحق الهزيمة بجيش الأرشيدوق جون الذي خلف «كراي» في قيادة القوات النمسوية، في واقعة «هوهنلندن
Hohenlinden » في 3 ديسمبر سنة 1800، وعندئذ انفتح الطريق إلى فينا، فاضطر الإمبراطور إلى طلب الهدنة «في «ستيار
Steyer » في 25 ديسمبر»، ومن ناحية أخرى تمكن جيش الجنرال «برون
Brune » (جيش ما وراء الألب) التقدم حتى «تريفيزو
Tréviso » «في إقليم البندقية» في 15 يناير سنة 1801، بينما عمل الجنرال «مورا
Murat » (والذي تزوج من أخت بونابرت «كارولين» في يونيو سنة 1800) على تدعيم قوات الاحتلال الفرنسي بقيادة الجنرال «ميوليس
Miollis » في تسكانيا ووافق على منح النابوليتان (أهل نابولي) بعد هزيمتهم الهدنة في «فولينو
Foligno » في 18 فبراير سنة 1801.
وفي الوقت الذي كان يتهيأ فيه بونابرت لمفاوضات الصلح في «لونفيل» أمر بعقد معاهدة مع إسبانيا في «سان الديفونسو
San Iidefnso » تنازلت بمقتضاها إسبانيا عن لويزيانا وست بوارج إسبانية، في نظير أن ينال لويس دوق بارما - وهو ابن شقيق ملكة إسبانيا ماريا لويزا - وعدا بإنشاء مملكة إيطالية له تتألف من تسكانيا والمقاطعات الباباوية
Legations
أول أكتوبر سنة 1800، وعشية هذه المعاهدة كان بونابرت قد جعل شقيقه جوزيف يعقد معاهدة مع الولايات المتحدة الأمريكية (في 30 سبتمبر) تنهي الخلافات السائدة من وقت حكومة الإدارة بين البلدين بشأن حرية البحار من جهة، ومن جراء تدخل الفرنسيين في نزاعات الاتحاديين (الفدرائيين) والجمهوريين في الولايات المتحدة، فاعترفت الجمهوريتان في هذه المعاهدة إذن (معاهدة مورتفونتين
Mortefontaine ) بمبدأين أساسيين من المبادئ الدولية الخاصة بالملاحة في البحار، أحدهما: تبعية المتاجر للدولة التي تحمل السفينة علمها، والآخر: عدم سريان حق التفتيش على كل سفينة يحرسها ويرافقها مركب حربي، وفي 26 ديسمبر سنة 1800 وقع قيصر روسيا بول الأول على وثيقة «حياد مسلح» يقوم على نفس هذه المبادئ مع كل من السويد والدنمارك وبروسيا.
وكان في هذه الظروف حينئذ أن انتهت المفاوضات في لونفيل (من 2 يناير إلى 9 فبراير سنة 1801) إلى إبرام الصلح في 9 فبراير، الذي أملاه القنصل الأول، وكادت شروط هذا الصلح تكون مطابقة تماما لشروط صلح كامبوفرميو.
فبمقتضى صلح لونفيل تنازلت الإمبراطورية الجرمانية عن كل الشاطئ الأيسر لنهر الراين على أن ينال الأمراء الذين انتزعت أراضيهم تعويضا يعطى لهم من أملاك الكنيسة الكاثوليكية في ألمانيا، فجدد الإمبراطور التنازل عن المقاطعات البلجيكية والأراضي حتى حد نهر الراين، واعترف باستقلال جمهورية خلف الألب «سيزالباين» التي ضمت إليها إقليمي «فيرونا
Veronais » و«حوض البو
»، وذلك بعد أن كانت قد ضمت إليها إقليم «نوفارا
Novarais » الذي اقتطع من بيدمنت؛ حتى يفتح لجمهورية ما وراء الألب طريق ممر «سمبلون
Simplon »، كما ضمت إليها كذلك المقاطعات البابوية «أو الرسولية
Legations »، واعترفت النمسا أيضا باستقلال جمهوريات «بتافيا» هولندة و«هلفيتيا» سويسرة، وليجوريا «جنوة»، وحصل دوق مودينا الذي كان قد فقد دوقيته في صلح كامبوفرميو، على «برايسجاو
Breisgau » في ألمانيا، كما نص على أن ينال دوق تسكانيا تعويضا في ألمانيا كذلك: هو مطرانية «سالزبورج
Salzbourg » بعد تحويلها إلى إمارة علمانية ودائرة انتخابية، أي ذات صوت في انتخاب الإمبراطور.
وأما غراندوقية تسكانيا ذاتها فقد أنشئت منها مملكة «إتروريا
Etruria »، وأعطيت إلى لويس دوق بارما، ومن ناحية أخرى احتفظت النمسا بأملاكها القديمة في البندقية حتى نهر «الأديج
Adige »، ولم تذكر معاهدة «لونفيل» شيئا عن ملك نابولي أو ملك سردينيا «بيدمنت» أو البابا، الأمر الذي جعل مصيرهم ومصير بلادهم في يد بونابرت؛ وعلى ذلك فقد امتدت حدود فرنسا حتى نهر الراين؛ فأنشئت مديريات أربع جديدة باسم مديريات الراين (منذ 19 مارس سنة 1801) وهي مديريات: «الرور
Roer »، و«السار
Saare »، «الراين موزيل
Rhin et Moseile »، و«مونت تونير
Mont-Tonnerre ».
وفي 21 مارس 1801 أبرمت معاهدة «أرانجوز
Aranjuez » مع ملك إسبانيا شارل الرابع، تأكدت بمقتضاها شروط معاهدة «إلديفونسو
Ildefonso » السابقة فيما يتعلق بلويزيانا ومملكة إتروريا.
وفي 29 مارس أبرم في فلورنسه، فردنند الأول ملك نابولي، معاهدة تنازل بمقتضاها عن الأقاليم التي كانت له في تسكانيا وعن جزيرة إلبا، ووافق على احتلال الفرنسيين لقلاعه، وعلى إغلاق موانيه في وجه السفن الإنجليزية.
واستمرت المفاوضات بنجاح مع بول الأول قيصر روسيا الذي كان يبغي القيام بحملة ضد الإنجليز في الهند.
وفي إنجلترة سقطت وزارة بيت (5 فبراير 1801) عندما حاول رفع القيود السياسية التي كان يقيد بها الكاثوليك، مسألة تحرر الكاثوليك
Catholic Emancipation ، وخلفه في الوزارة أدنجتون
Addington
الذي سميت وزارته الجديدة - حتى قبل تشكيلها - بوزارة السلام.
وهكذا تضافرت - على ما يبدو - كل العوامل التي جعلت الأمل كبيرا في أن يسود السلام أوروبا، وتبلغ القنصلية مقصدها الأول الذي تولت السلطة والحكم بزعامة بونابرت لتحقيقه، ولكن لم يكن مقدرا الوصول قبل مضي عام كامل إلى هذا السلام العام الذي ينشده كل فرنسي، وينشده بونابرت نفسه؛ ذلك أن بونابرت كان يهمه أن يظفر من إنجلترة على موافقتها على كل التغييرات التي أحدثها في سويسرة وفي إيطاليا، وأن تبقى مصر في حوزته قبل أي شيء آخر، وكانت لا تزال «الحملة الفرنسية» في مصر بقيادة الجنرال «منو
Menou »، وأن يسترجع مالطة التي كانت قد سلمت للإنجليز منذ سبتمبر 1800، وذلك حتى يتسنى له - بفضل امتلاكه لهذين المركزين؛ مصر ومالطة - بسط السيطرة الفرنسية على حوض البحر الأبيض الشرقي، وكان تحالفه مع القيصر بول الأول شرطا أساسيا لنجاح سياسته هذه، ولكن حدث في ليل 23 مارس 1801 أن اغتيل القيصر على يد رجال بطانته الذين كانوا قد قبلوا العمل مع إنجلترة، وبموت القيصر انهار «الحياد المسلح»؛ فضرب الأسطول الإنجليزي مدينة كوبنهاجن في 2 أبريل وحطم الأسطول الدنماركي، فكانت تلك باكورة نشاط «وزارة السلام» الإنجليزية الجديدة.
ولما كانت قد فشلت مؤامرة دبرت قبل ذلك لاغتيال بونابرت بوضع مفجرات في طريقه في شارع سانت نيكيز
Saint-Nicaise
في 24 ديسمبر 1800، أي قبل حادث اغتيال القيصر بول بثلاثة شهور فقط، وتبع اغتيال القيصر ضرب كوبنهاجن، فقد عزا بونابرت هذه «الجرائم» إلى تدابير الإنجليز الذين قال عنهم: إنهم فشلوا في محاولة اغتياله يوم 24 ديسمبر، ولكنهم نجحوا في إلحاق الأذى به في سان بطرسبرج، العاصمة الروسية، بفضل اغتيالهم القيصر بول.
ولم يكن ذلك كل الأذى الذي ألحقه الإنجليز بالقنصل الأول، ولإحباط مشروعاته فهم قد استطاعوا إنزال قواتهم في مصر، وأوقعوا بالجنرال منو هزيمة قاصمة في معركة «كانوب» في 21 مارس 1801، ثم لم تمض شهور ثلاثة حتى انهزم القائد الفرنسي الآخر «بليار
Belliard » الذي اضطر إلى التسليم في القاهرة في 27 يونيو من العام نفسه، وتضاءل أمام هذه الهزائم ذلك النجاح الذي أدركه أمير البحر الفرنسي «لينوا
Linois » في قتاله مع الأسطول الإنجليزي أمام «الجزيراس» على الشاطئ الإسباني الجنوبي عند مضيق جبل طارق (8 يوليو)، ثم في قادش على مسافة إلى الغرب من الموقع الأول (في ليل 12-13 يوليو)، أو نجاح القائد الآخر لاتوش-تريفيل
Latouche-Tréville
في الجولة بأسطوله في مواني القنال الإنجليزي (بحر المانش) دون أن يستطيع أمير البحر الإنجليزي نلسون فعل شيء لوقفه في محاولتين أخفق هذا الأخير فيهما في 4، 15-16 أغسطس 1801.
على أن إنجلترة سرعان ما وجدت أنها قد صارت إلى جانب هذا في عزلة متزايدة عندما اضطرت البرتغال إلى عقد معاهدة في باداجوز
Badajoz
مع إسبانيا في 6 يونيو 1801 تحت ضغط فرنسا التي أرغمت ملك إسبانيا شارل الرابع على غزو البرتغال، وكان ملكها صهرا له، فقام بالغزو المطلوب، ولكنه بادر بعقد الصلح مع البرتغال خشية حدوث تدخل فرنسي، وتعهدت البرتغال في معاهدة «باداجوز» - وتقع هذه على الحدود بين إسبانيا والبرتغال - السالفة الذكر إلى إغلاق موانيها في وجه السفن الإنجليزية، وتنازلت عن مقاطعة أوليفنسا
Olivenca
لإسبانيا، ودفعت عشرين مليونا من الفرنكات تعويضا لفرنسا، أضف إلى هذا أن إنجلترة كانت تعاني من قلة المؤن والأغذية، بينما بلغ الدين العام ملايين عدة من الجنيهات، الأمر الذي جعل الإنجليز يميلون - الآن - إلى عقد الصلح مع فرنسا.
وعرض «هوكسبري
Hawkesbury » وزير الخارجية البريطانية على الوكيل الفرنسي «لويس غليوم أوتو
Otto » أن تحتفظ فرنسا بمصر لقاء أن تحتفظ إنجلترة بمالطة، ورفض بونابرت هذه العروض، ثم دارت المباحثات وتعددت صنوف المساومة حسب تغير ظروف السياسة والحرب بين الفريقين، حتى أمكن التوقيع على ما يعرف باسم «مقدمات الصلح» في لندن في أول أكتوبر 1801، على أساس إرجاع مصر إلى تركيا، ومالطة إلى فرسان القديس يوحنا «تحت ضمان الدول»، واستبقت إنجلترة بعض فتوحاتها: سيلان التي أخذتها من هولندة، وترينداد التي حصلت عليها من إسبانيا، ومستعمرة رأس الرجاء الصالح التي صار الحكم فيها ثنائيا بين إنجلترة وهولندة، وأقرت إنجلترة امتلاك فرنسا لشاطئ الراين الأيسر، واعترفت بالجمهوريات الحديثة التي أقامها بونابرت، وتم التصديق على مقدمات الصلح هذه في 10 أكتوبر.
وتبع عقد الصلح مع إنجلترة الدخول في مفاوضة مع «ماركوف
Markoff » مندوب إسكندر الأول القيصر الجديد، انتهت بعقد معاهدة للصلح بين روسيا وفرنسا في باريس في 8 أكتوبر.
وقد لزم مضي ستة شهور قبل أن تتحول «مقدمات» لندن إلى صلح نهائي؛ وذلك لأن الحوادث كانت تسير في مصر بالصورة التي أرغمت «منو» على التسليم في الإسكندرية يوم 31 أغسطس 1801، والانسحاب إلى فرنسا، حيث وصل إلى طولون يوم 15 نوفمبر، أي بعد توقيع مقدمات الصلح في لندن، وعندما كانت تسير المفاوضات بكل همة من أجل الاتفاق على شروط الصلح النهائية، فانتزعت هذه الحوادث كل قيمة لذلك التعهد الذي التزمت به فرنسا في مقدمات صلح لندن بشأن إرجاع مصر إلى تركيا، أضف إلى هذا زيادة مخاوف الإنجليز من أطماع القنصل الأول الذي عمد إلى تأكيد سيطرته على إيطاليا باستصدار دستور جديد لجمهورية ما وراء الألب
Cisalpine «والتي ستعرف بعد قليل باسم الجمهورية الإيطالية» والتي تعين بونابرت رئيسا لها (في 25 يناير 1802).
وكان أكثر ما يخشاه الإنجليز إصابة مصالحهم التجارية بالضرر بسبب نشاط الفرنسيين في العالم الجديد عندما تجددت الحرب بين الفرنسيين والزنوج في جزيرة سان دمنجو بزعامة «توسيان لوفرتير
Toussiant L’Ouverture » فأبحرت حملة من المواني الفرنسية إلى جزر الهند الغربية في فبراير 1802، وكانت الحملة بقيادة الجنرال لكلير
Leclerc ، وعندما أبرمت فرنسا معاهدة أرانجوز السالفة الذكر مع إسبانيا وهي التي أعطت لويزيانا إلى فرنسا؛ لتتخذ هذه منها قاعدة لمناوأة تجارة الإنجليز في أمريكا، ولكن التباطؤ في إبرام الصلح لم يكن ليخدم المصالح الإنجليزية في شيء، كما كان من العبث الامتناع عن الاعتراف بالجمهوريات الإيطالية؛ وعلى ذلك فقد وقعت إنجلترة على الصلح مع فرنسا في أميان
Amiens
يوم 25 مارس 1802، وقع المعاهدة من الجانب الإنجليزي لورد كورنواليس
Cornwallis ، ومن الجانب الفرنسي جوزيف بونابرت.
وبمقتضى هذه المعاهدة تنازلت إنجلترة عن كل فتوحاتها أثناء الحرب، ما عدا ترينداد وسيلان اللتين بقيتا في حوزتها، كما وعد الإنجليز بإعادة مالطة إلى فرسان القديس يوحنا، ونصت المعاهدة على أن تضمن استقلال هذه الجزيرة كل من بريطانيا والنمسا وإسبانيا وروسيا وبروسيا، ثم حصل الاتفاق على إرجاع مصر إلى تركيا، وتعهدت فرنسا بإخلاء مملكة الصقليتين (أي: نابولي) وإعادة أملاك البرتغال.
واعتبر البرلمان في إنجلترة شروط هذه المعاهدة مجحفة بالمصالح البريطانية ، وشعرت الأمة الإنجليزية بأنها تنطوي على إهانة لها، حتى إن البرلمان عند موافقته على معاهدة أميان وضع التحفظ الآتي: «إن البرلمان يوافق على المعاهدة، ولكنه يضع ثقته التامة في حكمة ويقظة جلالة الملك «جورج الثالث » لاتخاذ كل الإجراءات التي قد تصبح ضرورية في حال تبدل الشئون العامة لما هو أفضل، وعندئذ يعد البرلمان والأمة بمؤازرة جلالته بكل ما يملكون من أنفس ومال وبنفس الهمة والولاء كما فعلوا في الحرب الأخيرة.»
ولكن هذا «التحفظ» لم يلق أي اهتمام من جانب فرنسا، بل كان كل ما يعنيها هو الوصول إلى السلام العام بعد عشر سنوات من الحروب المتصلة، فتعود تأتي إلى فرنسا محصولات المستعمرات والمؤن والمواد الأولية، ويعود إلى العمل في الحقول الجنود المسرحون، الأمر الذي سوف يترتب عليه انتشار الرخاء، وبسط ألوية الحرية في كل مكان.
ومع ذلك فلم يعد يبدو أن هناك أي أمل - سواء في فرنسا أو في إنجلترة - في أن الصلح الذي أمكن الوصول إليه في «أميان» سوف يستمر طويلا، فلم تلبث أن تجمعت الأسباب التي أدت إلى العداء بين الدولتين، بعد مضي عام واحد فقط، ولكن قبل الدخول في تفاصيل هذا العداء ثم تجدد الحرب الأوروبية العامة بعد ذلك كانت حكومة القنصل الأول قد أنجزت برنامجا واسعا من الإصلاحات الداخلية التي جعلت بحق أيام القنصلية من أزهى العهود التي شهدتها فرنسا في تاريخها، ومهدت - إلى جانب غيرها من العوامل - لقيام الإمبراطورية.
الفصل الثالث
الإصلاح الداخلي: مجد القنصلية
وكما لقيت سياسة بونابرت الخارجية النجاح الذي زاد من رفع سمعته بين بني وطنه، لقيت إصلاحاته الداخلية النجاح الذي أفادت منه فرنسا لأجيال قادمة في تنظيمها الإداري والتشريعي خصوصا.
فمن ناحية التنظيم الإداري أنشأ بونابرت المركزية الإدارية الكاملة، حيث استبدل «بضباط» النظام القديم، وبأولئك الذين ملأت الثورة بهم الوظائف «بالانتخاب» موظفين تعينهم وتعزلهم الحكومة، ويربطهم نظام دقيق صارم للتوظف، يحملهم مسئولية الأعمال التي يقومون بها، وقد ساعد على تثبيت دعائم هذه المركزية الإدارية تقدم المواصلات بفضل ما أدخل من تحسينات على نظام البريد، ثم استخدام البرق - الذي كان مخترعه المهندس الفرنسي كلود شاب
Chappe (1763-1805) والذي استخدم لأول مرة في سنة 1794 - وصدرت القوانين الخاصة بالتنظيم الإداري الجديد في 17 فبراير 1800 و4 مارس 1801.
واهتم القنصل الأول بشئون المال من حيث العمل على تنظيم تقدير الضرائب وطرق جبايتها، فصدر قانون في 18 مارس 1800 لتعيين الحكومة محصلا خاصا في كل ناحية أو قسم، وفي 4 فبراير 1804 صار الجباة موظفين يصدر تعيينهم من قبل القنصل الأول، ومنذ 1801 تعين مفتشون عموميون للخزانة، من عملهم مراجعة حسابات المحصلين والجباة وسائر موظفي المالية، وصار لكل مديرية ومركز وناحية فئتان من الموظفين: تتألف الأولى من المدير
Directeur
في المديرية، والمراقب
Controleur
في المركز، و«الموزع
Répartiteur » - أي مقسم أو مقدر الضريبة المباشرة على المطلوب منهم أن يدفعوها - في الناحية أو القسم، وينحصر عمل كل هؤلاء في تقدير وفرض الضريبة، وأما الفئة الثانية: فتتألف من الخازن العام «الخازندار
Trésorier Gén. » و«المحصل العام
Réceveur Gén. » في المديرية، و«المحصل الخاص
Réceveur Partieulier » في المركز، و«الجابي
» في الناحية أو القسم، ويخضع الجميع لسيطرة وزيري المالية والخزانة في النهاية.
وفي 13 فبراير 1800 أنشئ «بنك فرنسا» الذي أشرف على إدارته في أول الأمر لجنة من ثلاثة أعضاء، يعاونها مجلس من خمسة عشر نائبا، بلغ عدد أسهم تأسيسه الأولى ثلاثين ألفا، قيمة كل منها ألف من الفرنكات، قوبلت بالمعارضة الشديدة مما اضطر القنصل الأول وكبار الموظفين إلى شراء معظمها، وكان على هذا المصرف - وهو مؤسسة رسمية - أن يقرض الحكومة، ولكن بنك فرنسا كان قبل أي شيء آخر مصرفا «خصوصيا» لتنشيط التجارة بتسهيل عمليات الخصم للتجار، وبينما اضطرت الحكومة في بداية عهد القنصلية إلى عقد القروض بفائدة 18٪ على الأقل، فقد انخفضت قيمة الفائدة بكل سرعة حتى وصلت إلى 6٪ وإلى 4٪ نتيجة لنشاط هذا المصرف، وفي 24 أبريل 1803 صار لبنك فرنسا الامتياز الذي انفرد به لاستصدار ورق النقد (البنكنوت) لمدة خمس عشرة سنة، واضطرت المصارف التي كان لها الحق قبل ذلك في إصدار ورق النقد إما لتصفية أعمالها، وإما لأن يبتاعها بنك فرنسا نفسه.
وقام تنظيم القضاء على مبدأ التخلي عن انتخاب «القضاة»، وصار من حق بونابرت «تعيين» كل أعضاء الهيئة القضائية في مختلف مراتبها من القوائم المجهزة بأسماء المرشحين لوظائف القضاء، وحيث إنه لم يعد هناك ما يجعله يخشى من عودة الأرستقراطية القضائية التي تألفت منها «البرلمانات» في العهد أو النظام القديم، فقد أنشأ بونابرت 29 محكمة استئنافية، أقيمت أكثرها في الأماكن نفسها التي وجدت بها من قبل «البرلمانات»، كما جعلت لها معظم الاختصاصات القديمة التي كانت لهذه البرلمانات أيضا، وفي 18 مارس 1800 صدر قانون لتنظيم الهيئة القضائية على نفس الأساس الذي قام عليه تنظيم الإدارات الأخرى، حيث تأتي بعد قاضي الصلح المحكمة الأولية (واحدة في كل مركز) ثم المحاكم الاستئنافية وعددها 29 محكمة، وإلى جانب هذا تحتفظ كل مديرية بمحكمة جنائية، وفي قمة النظام القضائي محكمة النقض والإبرام، ثم وزير العدل المسمى «بالقاضي الأعظم».
وكان من ضروب الإصلاح القضائي - ولعله من أهمها - استصدار مجموعة القوانين التي عرفت باسم «قانون نابليون
Code Napoléon » أو «القانون المدني
Code Civil »، ولم يكن هذا القانون من صنع نابليون وإنشائه، ولكن كان للقنصل الأول الفضل في إنجاز هذه المجموعة وإصدارها، فقد شهدت البلاد قدرا من التشريعات أو القوانين المتضاربة من بقايا العهود القديمة، بعضها روماني المنبت، وبعضها يستند إلى العرف والتقاليد، وبعضها صدر عن المجالس أو الهيئات الثورية السابقة، حتى لقد ظهرت الرغبة الملحة في ضرورة التأليف بين هذه التشريعات والقوانين وتوحيدها من أيام مجالس الثورة، فوعد دستور 1791، ثم دستور 1793 بتحقيق هذه الرغبة، فنص الدستور الأول على قانون مدني عام للبلاد بأكملها، وتحدث الثاني عن قانون مدني وجنائي موحد لكل الجمهورية؛ فتشكلت لجنة برئاسة «كمباسيرس» في 12 أغسطس 1800 لإخراج مجموعة القوانين المطلوبة، وكان «كمباسيرس» قد حدد منذ 9 سبتمبر 1794 ما عرفه بالضرورات الثلاث التي يجب توافرها ليستطيع أي إنسان الحياة كعضو من أعضاء المجتمع البشري: «أن يكون سيدا على نفسه، وأن يملك ما يسد به حاجته ومطالبه، وأن تكون له القدرة على التصرف في شخصه وماله بما يحقق أكبر نفع ممكن لصالحه.»
وكان أن عملت اللجنة على هدى هذه «الضرورات الثلاث»، فانتهت من عملها بعد أربعة شهور، حتى إذا فرغت اللجنة من وضع القانون، أبلغت صورته إلى محكمة النقض والإبرام وإلى المحاكم الاستئنافية؛ لتبدي هذه ما يعن لها من ملاحظات عليه، ثم أحيل المشروع مع ملاحظات هذه الهيئات القضائية إلى «مجلس الدولة»؛ حتى يبحثه القسم القانوني أو التشريعي بهذا المجلس، فبدأت مناقشة القانون في هذا المجلس يوم 17 يوليو 1801، وعقد المجلس لبحثه جلسات عدة (102) حضر منها بونابرت وترأس 57 جلسة، ورفض مجلس التربيون - عندما عرض عليه المشروع - بعض بنوده، وفعل مثل ذلك المجلس التشريعي، فتريث بونابرت حتى يتجدد أعضاء هذين المجلسين (حسب الدستور مرة كل سنة) على يد مجلس الشيوخ، وعندئذ أقر المجلس التشريعي كل بنوده بين 5 مارس 1803-15 مارس 1804، وفي 27 مارس 1804 صدر قانون باعتماده في مجموعة واحدة من بابين أو فصلين و2281 مادة.
والقانون المدني أو قانون نابليون، مع أنه تقنين مناسب لمجتمع من الطبقة المتوسطة (البورجوازي) المحافظة التي يستغرق الاهتمام بالأرض كل عنايتها، ويقوم نظامها على روابط الأسرة الشرعية التقليدية، فقد كان متأثرا كذلك بصورة واضحة بكل المبادئ والقواعد التي أتت بها الثورة، مثل المساواة بين كافة الأبناء في الحقوق، والحد من حرية الوصية، ثم المساواة بين جميع المواطنين والأخذ بالفكرة العلمانية في الزواج المدني، بأن يحدث هذا الزواج سابقا على العقد الديني، وأن يتسنى فك رباط الزوجية.
ولعل أصدق تعليق على القانون المدني القول بإنه: «لم يكن ابتداعا، ولكنه كان تنسيقا ... وهو إنما يحمل في طياته موجزا لكل تلك التقاليد التاريخية الطويلة المتوارثة من الأزمنة القديمة بعد إحيائها وتجديدها على يد الثورة، وأمكن أن يكون متلائما مع حاجات المجتمع الذي تمخضت عنه الأزمة، لقد حفظ بضعة من المبادئ الأساسية التي جاءت بها الثورة، وحيث إنه صادر عن شعور قومي ومعبر له، فقد كان عامل وحدة كذلك، وهو مما يشترك الفرنسيون جميعا - وعلى السواء - في امتلاكه، أي إنه قانون عام واحد ليطبق عليهم جميعا»، ومع هذا لم يعد قانون نابليون فرنسيا وحسب، بل صار أوروبيا كذلك؛ لأنه كان ينقل في بنوده المبادئ الرئيسية التي نادت بها الثورة الفرنسية.
ووجه القنصل الأول عنايته للناحية الدينية، ذلك بأن «العبادات» التي أتت بها الثورة كعبادة محبة الله والإنسان، وعبادة الفضيلة، وعبادة العقل ... إلخ، كانت قد فقدت - الآن - كل اعتبار لها، وعند عودة الهدوء بعد عواصف الأيام السابقة، نشد الشعب السكينة الروحية في العودة إلى أحضان الكنيسة الكاثوليكية، واستطاعت كنيسة روما (البابوية) أن تسيطر في هذه الظروف على القساوسة الفرنسيين الذين صاروا خاضعين لها وحدها سيطرة لم تكن تمارسها إطلاقا حتى في ظل نظام الاتفاق الكنسي
Concordat
الذي أبرم مع البابوية في عام 1516، أضف إلى هذا أن بونابرت نفسه لم يكن يدين بعقيدة دينية معينة، ولكنه كان يدرك مدى القوة الروحية العظيمة الكامنة في العقيدة الدينية، والتي تجعل منها عامل استقرار سياسي واجتماعي في الدولة، ولقد خبر بنفسه في إيطاليا منذ 1796 القوة التي تمتعت بها هناك كنيسة روما، كما خبر قبل كل شيء قوة الروح الدينية العميقة والمتغلغلة دائما في نفوس الفرنسيين، وقد أمكن أن يفيد الملكيون المناوئون للنظام القائم من هذه الروح الدينية القوية لإثارة الاضطرابات والعصيان في إقليم فنديه خصوصا، فهل يعجز بونابرت عن استمالة هذه القوة إلى جانبه لتأييد النظام القائم بإعادة تأسيس الكنيسة الفرنسية «الجاليكانية» وإرجاع سطوتها الدينية إليها والعمل على تحريرها من كل سيطرة رومانية.
وكان البابا الجديد «بيوس السابع» الرجل الذي في وسع القنصل الأول أن يتفاهم معه لإبرام الاتفاق الذي يريده مع الكنيسة، فقد توفي سلفه «بيوس السادس» في أغسطس 1799، وانتخب الكردينال كيارا مونتي
Chiaramonti
باسم بيوس السابع تحت حماية النمسا في البندقية في مارس 1800، ولكنه استرجع كل الأملاك البابوية بعد قليل؛ بفضل انتصارات الفرنسيين في مارنجو (يونيو)؛ ولذلك فقد صار يرحب بمقترحات بونابرت الذي أسر إلى أحد الكرادلة منذ 25 يونيو رغبة في إعادة العلاقات بين فرنسا وبين «رئيس الكنيسة العالمية»؛ فبدأت من ثم مفاوضات طويلة وشاقة بين ممثلي القنصل الأول وممثلي البابا، وأشرف بونابرت بنفسه على قسم من هذه المفاوضة، ودارت المباحثات حول مسائل ثلاث: (1) هل يجري إعلان الكاثوليكية دين الدولة الرسمي ؟ وحصل الاتفاق على أن تكون ديانة «أكثرية الأمة». (2) ثم كيف يجري اختيار الأساقفة للقيام بإدارة شئون الأسقفيات التي خفض عددها في التنظيم الجديد، وكان القنصل الأول يريد اختيار أشخاص جدد لاستبعاد القساوسة المستنكرين أو المخالفين الذين ثبت تطرفهم ومن المتوقع أن يصعب قيادهم، وكذلك القساوسة من غير المستنكرين، ولكن ثبت أنهم كانوا موضع شبهات كثيرة؛ لاعتقاده أن الاختيار الحسن وحده كفيل بإنهاء الانقسام في صفوف رجال الدين من مستنكرين ومحلفين، ولم يكن البابا يظهر أي عطف على من سماهم «بالدخلاء» على رجال الدين، أي أولئك الذين هادنوا الثورة وساروا في ركابها وحلفوا يمين الولاء لها، ولكنه اعتقد أن ليس من حقه التصرف في «وظائف» كان يشغلها أصحابها قبل سنة 1790، ولم يكن هناك معدى عن الوصول إلى حل وسط لإنهاء هذه المسألة. (3) وثم كيف يكون حل مسألة الأملاك الأهلية، أي أملاك الكنيسة التي استولت عليها الدولة، ولم يكن في وسع البابا التخلي عن أملاك الكنيسة حتى لا يتهمه أحد بأنه قد تصرف في أملاك الكنيسة - وهي شيء مقدس - بالبيع أو الشراء، أي بثمن زمني
Simonie ، فصار ضروريا البحث عن عبارة تمنع من توجيه هذا الاتهام إلى البابا من جهة، وتستبقي الأملاك الكنسية في أيدي أصحابها العلمانيين الذين استولوا عليها من جهة أخرى.
وأخيرا بعد الاتفاق على كل هذه النقاط أمكن توقيع الاتفاقية الكنسية «الكونكردات» في باريس في 15 يوليو 1801، وكانت من سبع عشرة مادة، وبها اعترفت حكومة الجمهورية بأن الكاثوليكية هي دين أكثرية المواطنين الفرنسيين إلى جانب قناصل الجمهورية، وجعلت العبادة الكاثوليكية علنية في كل أنحاء فرنسا، وألغيت كل الأسقفيات والمطرانيات القديمة، وطالب البابا رجال الدين بالتخلي أو الاستقالة من مناصبهم لتحقيق هذا الإلغاء، ثم أنشئت عشر مطرانيات وخمسون أسقفية جديدة جعل تعيين شاغليها من حق القنصل الأول، بينما يأتي التثبيت في وظائفهم الدينية من لدن الكرسي البابوي في روما، واعتمد البابا المبيعات التي حصلت من أملاك الكنيسة أيام الثورة، وتعهد عن نفسه وعن خلفائه بالتنازل عن أية ادعاءات للمطالبة باسترجاعها في المستقبل .
وتعهدت الحكومة الفرنسية من جانبها بأن تأخذ على عاتقها تخصيص معاشات أو مرتبات كافية لإعالة رجال الدين من كل الدرجات، وأخيرا تحتم على رجال الدين أن يقسموا يمين الولاء للحكومة القائمة، وصار الدعاء للجمهورية أو للقناصل قسما من الصلاة التي تتلى في الكنائس.
وصار التصديق على هذه الاتفاقية الكنسية «الكونكردات» في 10 سبتمبر 1801، ولكنها لم تصبح قانونا نافذا إلا يوم 8 أبريل 1802 عندما أضاف بونابرت إلى «الكونكردات» قرارات أساسية أو تنظيمية
Articles Organiques ، كان الغرض من إضافتها التغلب على معارضة الهيئة التشريعية، وبمقتضى هذه القرارات أو المواد امتنع على روما إرسال أية رسالة «براءة» بابوية أو منشور بابوي وغير ذلك، أو أن تبعث لتمثيلها سفيرا أو رسولا بابويا ومن إليهما من غير موافقة الحكومة، كما صار رجال الدين ممنوعين من عقد أية مجامع دينية، أو مجالس للمباحثة في شئون الكنيسة من غير موافقة الحكومة، بينما تناولت القرارات تنظيم شئون الإدارة في الكنيسة وكيفية الحكم فيها بصورة تؤكد الحقوق والحريات الجاليكانية التي كانت للكنيسة الفرنسية بمقتضى قرارات سنة 1682، أو الإعلان أو التصريح
Declaration
الذي صدر في عهد لويس الرابع عشر والذي فصل الكنيسة في فرنسا عن كنيسة روما وضمن لها حياة مستقلة، وجعل رئيس الدولة في فرنسا هو كذلك رئيس الكنيسة بها.
وقد احتج البابا على هذه القرارات أو المواد التنظيمية التي لم تكن ضمن الشروط التي تمت الموافقة عليها في اتفاقية 15 يوليو 1801، والتي أضيفت من غير سابق إنذار إلى المواد السبع عشرة التي اشتملت عليها الاتفاقية المذكورة، ولم يأبه بونابرت لاعتراضات البابا، وفي 18 أبريل 1802 أقيم احتفال صلاة للشكر على ذلك السلام العام الذي انتشرت ألويته بفضل صلح أميان، وذلك السلام الذي صار يسود الكنيسة، وقد أرضى هذا السلام «المواطن الفرنسي» عموما.
وشملت عناية القنصلية مسائل التعليم، ومن المعروف أن المؤتمر الوطني أيام الثورة كان قد أنشأ نوعا من المدارس المركزية
Ecoles Centrales
أو المتوسطة، أفلح عدد كبير منها في تأدية رسالته بالرغم من عقبات الفوضى الاقتصادية والحرب المشتعلة على الحدود، وصعوبة موازنة الميزانية، إلى غير ذلك من صعوبات الحياة في تلك الأيام، ومع ذلك فقد ساد روح «الحرية والاستقلال» هذه المدارس، وكان كل ما يخشاه الأساتذة والمدرسون ما بدأ يظهر من حذر واسترابة من جانب القنصلية نحو هذه المدارس التي انعدمت الثقة بها.
وقد تحققت مخاوف هؤلاء عندما أصدر وزير الداخلية «شابتال
Chaptal » في 16 مارس 1801 منشورا إلى مأموريه افتتحه بقوله:
لم يعد يكفي وجود مدرسة مركزية واحدة بكل مديرية للتعليم العام، وإن مطلب الأهلين في كل مكان منذ عشر سنوات إنما هو إنشاء معاهد للتعليم ناجحة يلقى فيها الشباب تعليما سهلا قصيرا.
إنه وبمقتضى المشروع الوزاري استعيض عن المدارس المركزية أو المتوسطة بعدد من مدارس القرية
Communales (250 مدرسة) يحتل بها تعليم العلوم المكان الأول مع تقوية تدريس اللاتينية، وإلغاء بعض المواد التي كان منها الأجرومية والتاريخ، ثم دار الكلام عن «مدارس رئيسية
» (25 مدرسة)، وفي 12 مارس 1802 عهد بالإشراف على التعليم العام إلى «رودرر
Roederer » وهو منصب ألحق بوزارة الداخلية.
وفي أول مايو 1802 صدر قانون ألغيت بمقتضاه المدارس المركزية أو المتوسطة واستعيض عنها بمدارس التعليم الثانوي أو الليسيه
Lycées ، وبينما تركت الدولة لعناية الإدارات المحلية، وللجهود الشخصية، المدارس الأولية والابتدائية، تولت هي الإشراف على مدارس الليسيه وعلى المدارس الخاصة، وقد أوضح «رودرر» الغرض من هذا التنظيم في قوله: إنما هو ربط الآباء بطريق الأبناء، أي: أولئك الذين انتهى تعليمهم بأولئك الذين يبدأ تعلمهم، بالحكومة، وربط الأبناء بطريق الآباء بها، وإنشاء نوع - على حد تعبير رودرر - من الأبوة العمومية
، وكان «رودرر» نفسه هو الذي أوضح كذلك أن الغرض من التعليم سياسي أكثر منه أدبي أو خلقي.
وبالطريقة نفسها أراد بونابرت الذي كان من أعضاء المجمع العلمي منذ 25 ديسمبر 1797 - والذي أنشأه المؤتمر الوطني في سنة 1795 ليحل محل الأكاديميات القديمة - نقول: أراد بونابرت أن يتخذ من هذا المعهد أداة لفرض السيطرة الذهنية، أي: السيطرة على الفكر في فرنسا، فصدر قرار في 23 يناير 1803 انقسم المجمع بمقتضاه إلى شعب أربع: للعلوم الطبيعية والرياضية، وللغة والآداب الفرنسية، وللتاريخ والآداب القديمة، وللفنون الجميلة، وهو تقسيم ألغى أقسام علوم الأخلاق والسياسة التي جذب إليها دائما أصحاب المثل العليا.
وكما عمل بونابرت على تنظيم التعليم، والمجمع العلمي، والقضاء، والإدارة، والكنيسة ... إلخ، فقد وجب كذلك تنظيم الجيش، وتوجيهه الوجهة التي يريدها القنصل الأول، وبمعنى آخر وتعبير أدق؛ صار على الجيش أن يعاون في تأليف تلك الطبقة الأرستقراطية التي أرادها بونابرت الآن، على شريطة أن لا تكون مستندة إلى حق المولد، بل تقوم على تأدية الأعمال والخدمات العامة التي يتميز أصحابها عن غيرهم بما يبدونه من جهد وتضحية يجعلانهم جديرين بكل تكريم من جانب الدولة؛ وعلى ذلك فقد اقترح بونابرت عن طريق «مجلس الدولة» إنشاء نظام جوقة الشرف
Légion d’Honneur
التي تتألف من خمسة عشر حشدا أو جماعة تتألف كل منها من سبعة ضباط عظام، وعشرين قومندانا، وثلاثين ضابطا، وثلاثمائة وخمسين فارسا، ولكل من هذه الرتب مكافأة مالية معينة، وكان من قول بونابرت: «إن الواجب يقتضي أن يكون هناك توجيه لروح الجماعة في الجيش، وتأييد هذا التوجيه، وأما ما يلقاه الجيش من تأييد قائم الآن فمبعثه الفكرة التي لدى أولئك العسكريين أنهم يحتلون مكان النبلاء القدامى أو الأسبقين، إن من شأن هذا المشروع - مشروع جوقة الشرف - أن يزيد من قوة نظام التعويض والجزاء «أو المكافأة» وإنه ليؤلف كلا واحدا، وإن في ذلك لبداية تنظيم الأمة.»
وقد لقي هذا المشروع معارضة شديدة بدعوى أنه ينطوي على خطر محقق من وجهة النظر الاجتماعية، ومع ذلك فقد قدمه «رودرر» إلى المجلس التشريعي بوصف أنه يعمل لإقامة منظمة يعضد وجودها كل «قوانيننا الجمهورية»، وتعاون من غير شك على دعم أركان الثورة، فصدر قرار 9 مايو 1802 الذي أنشأ جوقة الشرف، يشترط (في مادته الثامنة) على كل شخص ينضم إلى هذه الجوقة أن يحلف يمين الشرف على خدمة الجمهورية بأمانة وولاء، وللمحافظة على أرض بلاده وعدم التفريط في أي شبر منها، والدفاع عن حكومته وعن قوانينها، ومقاومة أو محاربة أية محاولة أو مجهود يبذل من أجل تأسيس الإقطاع من جديد؛ وذلك بكل الوسائل التي تقرها العدالة والحكمة والقوانين القائمة، وأخيرا التعاون بكل ما لديه من قوة في تأييد مبادئ الحرية والمساواة، ووقع الاختيار على أحد كبار علماء الطبيعيات «لاسيبيد
Lacépède » ليكون أول رئيس لجوقة الشرف هذه، وأما توزيع أوسمتها؛ فبدأ للمرة الأولى بعد تأسيس الإمبراطورية، وذلك في 14 يوليو 1804 تحت قبة مبنى الأنفليد
Invalides .
ولقد ترتب على عقد السلام العام واستقرار الهدوء في الداخل، أن نشط دولاب العمل، ودبت الحياة من جديد في مختلف ميادين الإنتاج؛ فشهدت البلاد عودة الرخاء من جديد، وتوفرت أسباب العمل ونقص عدد المتعطلين، ينهض دليلا على ذلك معرض الصناعة الذي أقيم في مارس 1801 بفضل جهود «شابتال
Chaptal »، أضف إلى هذا إصلاح الطرق، وإنشاء الفنارات والموانئ، وتأسيس البورصة (1801)، والعمل بنظام القياس المتري الذي كانت قد قررته الجمعية الأهلية التأسيسية، وإعادة تنظيم شوارع العاصمة وشق شوارع جديدة بها (شارع ريفولي)، وبناء الأرصفة على نهر السين «رصيف أورساي
Quai d’Orsay »، والعمل لإقامة الكباري على هذا النهر نفسه «وهي التي صارت بعد قليل كوبري الفنون
، وكوبري المدينة
، وكوبري أوسترليتز
d’Austerlitz ».
ونشطت الحياة الاجتماعية في عهد القنصلية حول بلاطين تأسسا من جديد في قصري التويلري
Tuileries
ومالميزون
Malmaison ، واشتدت المنافسة بينهما، واجتمع نبلاء العهد القديم القدامى مع أصحاب السراويل الطويلة من طبقة العامة الذين أثروا حديثا، وتقدموا درجات في الحياة الاجتماعية الجديدة، وذلك في مناسبات الولائم والأعياد التي كان ينظمها «كمباسيرس» أو «تاليران» أو «مدام دي ريكامييه
Récamier » ... إلخ.
وتجدد «الباليه» في أوبرا باريس منذ فبراير 1800، وأضحت باريس مرة ثانية ملتقى الزوار الأجانب، والمكان الذي تصدر عنه طرازات الأزياء الجديدة، ووصف الكتاب المجتمع الفرنسي في عهد القنصلية بأنه: «كان ينبض بالحياة، ويشع بالسعادة، لا يفتر عن الحركة والنشاط ويدأب على الاستمتاع بلذائذ العيش، حقا لقد كان ينقصه الكياسة والسجايا الطيبة، ولكنه قبل الحياة على علاتها بسماحة وخلق رضي دون التورط في تعقيدات عاطفية، أو البحث - دون جدوى - وراء آراء وفكرات معينة، لقد كان مجتمعا اتسم بسلامة المزاج، عرف كيف يعيش طيبا، ويأكل جيدا، ويحب حبا قويا ... لقد كان مجتمعا سعيدا.»
ولا جدال في أن الطبقة الوسطى (البورجوازي) - وهي الطبقة الحاكمة في الأمة من أيام الثورة - قد جنت أعظم الفائدة في ظل هذا النظام الاجتماعي الذي تدعمت أركانه على عهد القنصلية، ولكن لا جدال كذلك في أن سواد الشعب أو الطبقة المحكومة منه قد أفادت من انتشار الرخاء العام، ومن تأمين الطرق، وتقدم وسائل النقل «والمواصلات» وارتفاع الأجور، وانخفاض نفقات المعيشة.
لقد جعلت كل هذه الإصلاحات الفرنسيين يعتبرون بونابرت - الذي سمت مكانته فوق الأحزاب جميعها، سواء من أنصار الثورة أو النظام القديم - الزعيم الذي استطاع إنهاء الثورة بطريق العمل على دعم تلك المبادئ التي قامت عليها، وذلك بوقف المغالاة والتطرف الذي صحب تطبيق هذه المبادئ مع عدم التخلي عنها في الوقت نفسه، بل الاستمساك بها بكل قوة، ولقد عبر بونابرت عن موقف «اللاحزبية» الذي اختاره لنفسه في قوله: «لئن حكمت بواسطة حزب من الأحزاب، لصرت - عاجلا أو آجلا - معتمدا في حكومتي على مؤازرته، وتابعا له ... إني رجل قومي.»
الفصل الرابع
التمهيد للإمبراطورية
كان من أثر الانتصارات التي أحرزها بونابرت في الخارج وتوصله لإبرام الصلح في أميان في مارس سنة 1802، ونجاح إصلاحاته الداخلية - الأمران اللذان ترتب عليهما استتباب الهدوء والسكينة والاستقرار الداخلي خصوصا - أن زادت نقمة المتطرفين الثوريين والملكيين على القنصل الأول الذي حطم كل أمل لديهم في إمكان إنهاء النظام القائم، فتآمر الفريقان على حياته، وتعددت محاولات اغتياله، من ذلك محاولة الملكيين قتله في شارع سانت نيكاز بتفجير برميل من البارود في طريقه وهو يمر بعربته من هذا الشارع إلى دار الأوبرا في باريس، وقد ذكرنا كيف نجا القنصل الأول وأخفقت هذه المؤامرة (24 ديسمبر سنة 1800)، وقد سبقت هذه المحاولة محاولة أخرى فاشلة من جانب اليعاقبة؛ عندما حاول المتآمرون طعنه بمدية وهو يريد الدخول إلى دار الأوبرا (أكتوبر سنة 1800)، وقد انتقم بونابرت من اليعاقبة بإرسال عدد كبير منهم إلى المنفى في كايين في جويانا الفرنسية بأمريكا الجنوبية.
ولكن كان لانتصارات القنصل الأول في الميدانين الخارجي والداخلي أثر من نوع آخر، كان أخطر شأنا، هو التمهيد لقيام الإمبراطورية، ولإنهاء عهد القنصلية، ذلك بأن مجلس التربيون بعد إذاعة معاهدة الصلح الذي أبرم في أميان اتخذ قرارا إجماعيا يوم 6 مايو سنة 1802 بضرورة التعبير للقنصل الأول عن تقدير الأمة لجهوده الرائعة وشكرها له، وفي 8 مايو قرر مجلس الشيوخ (السناتو) عندئذ أن يمد قنصلية بونابرت عشر سنوات أخرى، تبدأ مباشرة بعد انقضاء السنوات العشر الأولى التي نص دستور العام الثامن (دستور القنصلية) عليها، ولكن هذا القرار لم ينل رضا بونابرت الذي طلب - الآن - أن يكون للأمة صوت في قيامه بأعباء منصبه، ووضع بنفسه صيغة القرار الذي صدر يوم 10 مايو لاستفتاء الشعب في أن يصبح بونابرت قنصلا مدى الحياة، وبالفعل جرى استفتاء الشعب كما أراد بونابرت، وأعلن مجلس الشيوخ النتيجة يوم 2 أغسطس سنة 1802، فكانت الموافقة بأكثرية 3568885 صوتا من مجموع 3577259 صوتا.
وعلى ذلك لم تلبث أن أدخلت بعد يومين فقط على إعلان هذه النتيجة (4 أغسطس سنة 1802) التعديلات التي وجب إدخالها على دستور العام الثامن؛ حتى يتلاءم الدستور مع الأوضاع الجديدة التي نشأت، كما قال «كمباسيرس»، عن وجود نظام حكومي يستند على «رجل واحد» فقط، وكان الغرض من هذه التعديلات أن ينفرد القنصل الأول بكل سلطة في الدولة؛ فهو الذي يسمي رؤساء المجالس في الأقاليم «ومهمتها ترشيح قضاة الصلح وأعضاء مجالس البلديات وأعضاء الدوائر الانتخابية»، وهو الذي يسمي رؤساء الدوائر الانتخابية في المراكز «وتتألف من 120 إلى 200 عضو، يضاف إليهم عشرة يعينهم القنصل الأول».
وكان من هذه التعديلات كذلك «مراجعة مادة الدستور التي تخول مجلس الشيوخ (السناتو) حق تنصيب القناصل»، وإعطاء هذا المجلس كل الخصائص اللازمة لأن يصبح مزودا حقا بالسلطة الوقائية الضرورية لصيانة النظام القائم، فيكون لمجلس الشيوخ القدرة على البت في المسائل التي أغفلها الدستور، والتي لا غنى عن الفصل فيها لصالح الدستور نفسه، ثم يكون له حق وقف وظائف القضاة في المديريات مدة خمس سنوات، وإلغاء الأحكام الصادرة من المحاكم، وحل المجلس التشريعي ومجلس التربيون.
وقد نص التعديل على أن يكون عدد أعضاء مجلس الشيوخ (السناتو) ثمانين عضوا، للقنصل الأول أن يزيد عليهم أربعين آخرين، ثم قل عدد أعضاء «مجلس الدولة » بسبب إنشاء «مجلس خاص
Conseil Privé »، كما أنقص عدد أعضاء مجلس التربيون إلى خمسين فقط، وقد نجم عن إدخال كل هذه التعديلات ما صار يعرف باسم دستور العام العاشر (24 أغسطس سنة 1802).
على أن القنصلية لم تلبث أن شهدت في أيامها الأخيرة تحطم ذلك السلام العام الذي بذل بونابرت قصارى جهده لتحقيقه في معاهدة أميان (25 مارس سنة 1802) نزولا على رغبة الأمة الفرنسية التي نشدت السلام دائما وكافأته على جهوده من أجله، كما شاهدنا تنصيبه قنصلا أول مدى حياته، ولقد كان من أثر نقض السلام بالصورة التي سوف نعرضها، أن تهيأت الأسباب التي أبدلت جمهورية القنصلية بالإمبراطورية.
أما أسباب زوال السلام فكانت متعددة، منها: (1) تذمر الهولنديين الذين تحولت بلادهم إلى جمهورية عرفت باسم الجمهورية الباتافية، ولم تكن سوى جزء من الفتوحات الفرنسية، يهدد منها الفرنسيون إنجلترة مباشرة، لا سيما وأنهم كانوا يحتلون كذلك «انفرس
Antwerp » في بلجيكا. (2) ومنها ازدياد القلاقل في إيطاليا الشمالية. (3) ومنها التداخل المتزايد في شئون ألمانيا، فإن بونابرت لما كان قد وعد «في معاهدة لونفيل» بتعويض الأمراء الذين انتزعت منهم أملاكهم على شاطئ الراين الأيسر، فقد حصل من الدياط الألماني (أو المجلس الإمبراطوري) المنعقد في راتزبون
Ratisbon
على ما يعرف باسم القرار النهائي الألماني
Recés Germanique ، أو النتيجة الرئيسية
Conclusion Principale
التي وصل إليها وفد الإمبراطورية، وذلك في 25 فبراير سنة 1803 ثم لم يلبث «الدياط» أن اعتمد هذا القرار في 24 مارس، وصدق عليه الإمبراطور في 27 أبريل من السنة نفسها؛ وبمقتضاه ألغي عدد من الإمارات الألمانية الصغيرة بلغ 112.
ولم يعد عدد كبير من المدن الحرة مربوطا مباشرة بالإمبراطورية، وهي التي كانت أصلا خاضعة في حكومتها للإمبراطور وتابعة له وحده، وتسمى لذلك أيضا «بالمدن الإمبراطورية»، وكان عددها إحدى وخمسين مدينة حرة، فصارت - الآن - ستة فقط، وهذا بينما زيدت مساحات الإمارات الكبيرة في ألمانيا - وذلك خصوصا على حساب الإمارات الكنسية التي حولت إلى أخرى علمانية - فأمكن تعويض بروسيا عن المساحة التي فقدتها (750) كيلومترا مربعا بمساحة أخرى في إقليم وستفاليا بين نهري الإلب والراين مقدارها اثنا عشر ألف كيلو متر مربع، وبدلا من عدد السكان الذين فقدتهم (125000) ضمت إليها نصف مليون نسمة، وكذلك نالت بفاريا تعويضا إقليميا، وبالمثل بادن، وورتمبرج، وحتى النمسا - بالرغم من الهزائم العسكرية والسياسية التي توالت عليها.
وهكذا عمل بونابرت على وضع أكبر مساحة من الأراضي الألمانية في أيدي حفنة من الأمراء الألمان الذين سوف تقل حاجتهم لحماية فرنسا لهم بقدر زيادة قوتهم، وخدم بونابرت كذلك قضية البروتستانتية في ألمانيا، عندما صار هناك ستة ناخبين للإمبراطورية من البروتستنت (ثلاثة منهم قدامى في إمارات هانوفر وبراندنبرج وساكس، وثلاثة جدد، هم أمراء بادن، وورتمبرج، وهس) بينما كان عدد الناخبين الكاثوليك أربعة: في ماينز راتزبون، بفاريا، بوهيميا، سالزبورج تسكانيا، وهذا إلى جانب أن صار للبروتستنت سبعون صوتا ضد أربعة وخمسين صوتا للأمراء الكاثوليك، كما أضحت الدوائر الانتخابية في المدن من البروتستنت؛ وبذلك يكون بونابرت قد مهد لقيام إمبراطورية بروتستنتية في ألمانيا، حتى ذكر المؤرخون أن «الثورة الألمانية» التي أوجدت الإمبراطورية الحديثة في ألمانيا إنما انبعثت من ذلك القرار النهائي، أو تلك النتيجة الرئيسية
Recés Germanique
التي قررها الدياط، أو المجلس الإمبراطوري في راتزبون سنة 1803.
وبينما كان بونابرت يسعى لإلحاق الأذى بالتجارة الإنجليزية بزيادة المكوس الجمركية، كان يعمل لتحقيق هذه الغاية بوسائل أخرى، ارتبطت في واقع الأمر بخطة واسعة «استعمارية» لصالح فرنسا، ذلك أنه أبرم معاهدات مع وجاقات الغرب، مع طرابلس في 17 يونيو سنة 1801، ومع تونس في 23 فبراير سنة 1802، واتخذ من نهب القرصان لإحدى السفن الفرنسية ذريعة لمحاولة غزو الجزائر، فوصل أسطول فرنسي إلى ميناء الجزائر في 7 أغسطس سنة 1802.
وخشيت إنجلترة أن يكون غرض فرنسا أن تستعيض عن خسارتها لمصر بالاستيلاء على الجزائر، ولم يضع جلاء الفرنسيين من مصر حدا لأطماع بونابرت في «الشرق» بل بقيت مشروعاته الشرقية «سرا» لا يدرك حقيقته أحد؛ فهو يوفد الكولونيل سباستياني
Sebastiani
في «بعثته» المشهورة في سبتمبر 1802 بوصفه مندوبا تجاريا إلى طرابلس الغرب ومصر والشام، ومن المعروف أن تقرير سباستياني لم يلبث أن أذاعته الجريدة الرسمية في يناير من العام التالي، ثم هو (أي بونابرت) يقترح على القيصر إسكندر الأول تقسيم أملاك السلطان العثماني، ثم هو يعين الجنرال «ديكان
Decaen » في يونيو 1802 قائدا عاما لمراكز (مخازن) التجارة الخمسة الفرنسية في الهند، الأمر الذي سبب القلق لإنجلترة، خصوصا عندما أبحر «ديكان» إلى مياه الهند مع أسطول قوي (مارس 1803)، ولو أن الأوامر لم تلبث أن وصلته وهو لا يزال في طريقه بالتوقف عند جزيرة «إيل دي فرانس»، ثم إن الجنرال لكلير - الذي تزوج من باولين
شقيقة بونابرت - لم يلبث أن أبحر مع زوجته في فبراير 1802 إلى سان دومنجو على رأس قوة من عشرة آلاف رجل - وقد سبق أن ذكرنا ذلك - وقبض لوكلير على زعيم الثورة الزنجية هناك «توسيان لوفرتير» في 7 يونيو، وكان توسيان قد أعلن دستورا (في 9 مايو 1801) للحكم الذاتي في الجزيرة، فأرسله لكلير - الآن - إلى فرنسا، حيث مات مسجونا في إحدى قلاعها بمرض السل (في 7 أبريل سنة 1803)، وأعيد نظام الرقيق إلى الجزيرة في يوليو 1802، ومع ذلك فقد اشتعلت الثورة من جديد في الجزيرة في شهر سبتمبر، واستطالت الحرب ولقي لوكلير حتفه في 2 نوفمبر 1802، ولم يسع «روشامبو
Rochambeau » الذي خلف لوكلير إلا التسليم في 19 نوفمبر 1803، وبدا كأنما فرنسا قد أصابتها الهزيمة الكاملة في هذه الجزيرة، وأما في المستعمرة الفرنسية الأخرى، لويزيانا، فقد تعين الجنرال «فيكتور
Victor » قائدا عاما لها (24 سبتمبر سنة 1802)، وتأسست بها إدارة مدنية قوية برئاسة «لوسات
Laussat » الذي تسلم مهام منصبه في شهر مارس من العام التالي، ولكن لم يمض قليل حتى كانت قد أبرمت بين بونابرت والولايات المتحدة الأمريكية الصفقة التي تم بها ابتياع هذه الأخيرة لمستعمرة لويزيانا الفرنسية بمبلغ ثمانين مليونا من الفرنكات (3 مايو 1803).
تلك إذن كانت مشروعات بونابرت الاستعمارية، ولم يكن أكثرها ناجحا، ومع ذلك فقد كانت كافية لإزعاج إنجلترة التي طلبت «تفسيرا» لهذا النشاط كله، وفي نوفمبر 1802 كانت المباحثات قد وصلت إلى مرحلة لا تبشر باستمرار السلام طويلا، فقد رفضت إنجلترة إخلاء مالطة، متذرعة في رفضها هذا بكل تلك التغييرات والتعديلات التي يدخلها بونابرت على «الوضع» القائم في أوروبا، بينما تمسكت الحكومة الفرنسية بمعاهدة أميان، وكما أملى بونابرت تعليماته على تاليران (في 23 أكتوبر 1802) التمسك بكل مواد هذه المعاهدة، وعدم قبول شيء سواها، وهي التي استطاع بونابرت بفضلها تأكيد التغييرات التي أرادها وأدخلها على «الوضع» في أوروبا «ألمانيا، إيطاليا، هولندة، سويسرة» والتي تحتم بموجبها على إنجلترة التخلي عن مالطة، أما الإنجليز فقد تمسك وزير خارجيتهم لورد «هوكسبري» من جانبه بضرورة العودة «بالوضع» القائم في أوروبا إلى ما كانت عليه وقت إبرام معاهدة أميان، ولا شيء غير ذلك، فاستطالت المفاوضة حينئذ مدة ستة شهور دون الوصول إلى نتيجة.
وفي 6 مارس سنة 1803 اتخذت الحكومة الإنجليزية «وزارة أدنجتون» قرارا بالتعبئة، وبعد أيام قليلة طلبت من الحكومة الفرنسية إخلاء هولندة وسويسرة، وإعطاء ملك سردينيا تعويضا مناسبا عن أملاكه التي فقدها في بيدمنت، وقررت الاحتفاظ بمالطة حتى تتم إجابة هذه المطالب.
وفي 12 مايو غادر السفير الإنجليزي لورد هويتورث
Whitworth
باريس، وفي 19 منه قبضت الحكومة الإنجليزية على سفينتين فرنسيتين؛ فقرر بونابرت إلقاء القبض على كل الرعايا الإنجليز في فرنسا بين الثامنة عشرة والستين من عمرهم، وأرسل قواده «مورتييه
Mortier » لاحتلال هانوفر في ألمانيا، و«سان سير
Saint-Cyr » لاحتلال أنكونا في إيطاليا وللزحف على أترنتو وبرنديزي، بينما رحل بنفسه إلى نورمانديا وإلى البلجيك ليشرف في موانئهما على بناء النقالات اللازمة لعبور بحر المانش (القنال الإنجليزي)، ثم انبرت الجريدة الرسمية «المونيتور
Moniteur » للحملة على إنجلترة وتوجيه الاتهام لساستها الذين يعملون - كما قالت - لإرجاع ملكية البربون إلى فرنسا، وإرغام فرنسا على الانكماش في دائرة حدودها القديمة، وتحطيم كل المآثر التي أتت بها الثورة.
وانتهز المهاجرون تكدر العلاقات بين فرنسا وإنجلترة بهذه الصورة ليجددوا نشاطهم باستئناف المؤامرات ضد القنصل الأول؛ فإن أحد هؤلاء المهاجرين «الملكيين» الذين لجئوا إلى لندن «جورج كادودال
Cadoudal » وكان من زعماء ثورة الشوان
Chouans - الاسم الذي أطلق على الثوار الملكيين في إقليم بريطاني - استطاع في أغسطس 1803 النزول سرا وبصحبته الجنرال «بيشجرو
»، واثنان من أسرة بولينياك في مكان على ساحل نورمانديا نقلتهم إليه سفينة إنجليزية، ثم قصدوا ثلاثتهم إلى باريس حيث حاولوا إشراك الجنرال «مورو
Moreau » معهم في مؤامرة لاغتيال القنصل الأول، اعتمادا على ما سمعوه عن تذمر هذا القائد، ولأنه كان يتمتع بسمعة عالية كقائد مظفر يجذب إليه الجماهير، ولكن المتآمرين كانوا من أول الأمر موضع رقابة البوليس القنصلي، ومع أن «مورو» اجتمع مرتين اجتماعا خاصا أو سريا برئيس المؤامرة كادودال وبالجنرال بيشجرو، وكان معروفا عنه التذمر من النظام القائم والمعارضة له، يرى فريق من المؤرخين أنه لم يكن بحال من الأحوال مؤيدا للمؤامرة على اغتيال حياة القنصل الأول، أو أنه اشترك بصورة فعالة في تدبيرها، ولكن ما إن وقف «فوشيه
Fouché » ناظر (وزير) البوليس على حقيقة المؤامرة حتى ألقى القبض على كل من: مورو في 15 فبراير 1804، وبيشجرو في 29 فبراير، وأخيرا كادودال في 9 مارس، ثم تبع ذلك إلقاء القبض على أكثر من أربعين متهما في هذه المؤامرة، ويعزو كثيرون تقرير القنصل الأول القبض على مورو إلى رغبته في التخلص من أكبر منافس له، أو المنافس الوحيد الذي كان بونابرت يخشى خطره ونفوذه.
وكان أثناء محاكمة كادودوال وزملائه أن أعلن أحد المتهمين أنه كان من المنتظر أن يرأس أحد الأمراء هذه المؤامرة، مما جعل الحكومة تشدد المراقبة على السواحل على أمل القبض على الكونت دارتوا
Artois
شقيق الملك لويس السادس عشر، والدوق دي بري
Berry «ابن الكونت دارتوا»، أضف إلى هذا أن أحد العملاء السريين «ميهي ديلاتوش
Méhée de La Touche ، وكانت الحكومة الفرنسية قد بعثت به للتجسس في لندن ثم في ألمانيا»، أبلغ المسئولين في باريس أن دوق أنجيان
Enghien
الابن الأكبر لدوق بربون، وحفيد برنس كونديه
Condé
يقيم في بلدة إتنهايم
Ettenheim
في إقليم - أو إمارة - بادن، على مسافة قريبة من بلدة ستراسبورج على الحدود الفرنسية، وكان دانجيان مشغولا بحبه العظيم لإحدى قريباته شارلوت دي روهان
Rohon ، ولا يدري شيئا عن مؤامرة كادودال أو غيرها من المؤامرات، ولكن سبق أن حمل السلاح ضد الثورة، وكان دائما على استعداد لحمله مرة أخرى إذا ما قام المهاجرون بأية محاولة لإعادة أسرته «البربون» إلى العرش في فرنسا، وكان دانجيان لذلك على علاقات بالمتذمرين في الألزاس «وأهم مدنها ستراسبورج» من النظام القائم.
ولما كان قد أزعج القنصل الأول سيل التقارير التي أتته من كل مكان عن المؤامرات التي تدبر لاغتياله، وتزعم الملكيون هذه المؤامرات ضد حياته، فقد صمم على إنزال العقوبة الصارمة بهم، وقرر القبض على الدوق دانجيان، معقد آمالهم، واعتباره شريكا في المؤامرة التي حاك خيوطها كل من كادودال وبيشجرو، وذلك بالرغم من أنه لم يقم أي دليل على أن دانجيان كان ضالعا - بحال من الأحوال - معهما في هذه المؤامرة أو يدري شيئا عنها.
ويبدو أن بونابرت اعتقد بوجود مؤامرة لتدبير غزو على فرنسا باشتراك دوق دانجيان يعاونه «ديمورييه»، وفي ليل 15 مارس 1804 اقتحمت ثلة من الجنود الحدود وقبضت على دانجيان في إتنهايم، ثم اقتادته إلى قلعة ستراسبورج، وبعد يومين نقل بسرعة إلى باريس، ولكنه ما وصل إلى «بواباتها» يوم 20 مارس حتى نقل إلى قلعة «فينسن
Vincennes » بالقرب من باريس، وفي نفس الليلة أجريت محاكمته أمام محكمة عسكرية تشكلت بكل سرعة، فصدر الحكم بإعدامه، وأعدم في صباح اليوم الثاني الباكر (21 مارس 1804).
وأما أصحاب المؤامرة الحقيقيون فقد حوكموا في شهر يونيو من السنة نفسها، وكان «بيشجرو» قد انتحر في سجنه قبل المحاكمة (منذ 6 أبريل)، فصدر الحكم بالإعدام على كادودال وثمانية عشر آخرين، بينما حكم على «مورو» بالسجن سنتين، وقد استبدل بونابرت بهذا الحكم النفي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ثم تنفذ حكم الإعدام في «كادودال» وعشرة من زملائه في 25 يونيو، وصدر العفو عن الثمانية الباقين، وكان من هؤلاء الماركيز دي رفيير
Riviére
ثم عضوا أسرة بولينياك اللذان سلف ذكرهما.
وكان الذي صادق على هذه الأحكام، وأمر بالعفو عن المدانين الثمانية الإمبراطور نابليون الأول؛ لأنه كان من الآثار المباشرة لاكتشاف هذه المؤامرة التي دبرها «كادودال» وإخوانه، أن أقام بونابرت صرح الإمبراطورية في فرنسا، وتبوأ عرشها.
الباب الثاني
الإمبراطورية
1804-1815
تمهيد
كان بونابرت يرمز - في نظر الأمة الفرنسية - إلى النجاح الذي وصلت إليه ثورتها الكبرى، بمعنى تأمين النتائج التي تمخضت عنها هذه الثورة، والآثار التي ترتبت على قيامها في داخل البلاد، وفي علاقاتها مع الدول، وكان تشبث الأمة الفرنسية - وعلى وجه الخصوص «الثوريين» الذين قامت على أكتافهم الثورة - بالنظام الحكومي الذي يحفظ للطبقة المتوسطة كل الحقوق الجديدة التي حصلت عليها، العامل الحاسم في كل تلك التطورات التي شاهدناها من أيام اجتماع الجمعية الأهلية التأسيسية وصدور دستور الثورة الأول سنة 1791 إلى وقت «إنهاء الثورة» في انقلاب بريمير المعروف في نوفمبر سنة 1799 الذي أسقط حكومة الإدارة، ومهد لقيام القنصلية.
وفي كل التطورات أو التغييرات التي حدثت، وصدرت بسببها أو كأثر لها دساتير الثورة المعروفة: دستور 1791، ثم دستور 1793 (دستور السنة الثانية للثورة) ثم دستور العام الثالث (1795) الذي قامت عليه حكومة الإدارة، وأخيرا دستور العام الثامن (1799) وهو دستور القنصلية؛ نقول: إن الغرض من كل هذه الأحداث كان إنشاء النظام الذي يكفل «بقاء» الثورة، ويذود عنها كل خطر داخلي أو خارجي - على حد سواء - يهدد بعودة النظام القديم، وفي ركابه طبقة الأشراف الأرستقراطية القديمة وطبقة رجال الدين، وهما الطبقتان اللتان جردتهما الثورة من امتيازاتهما وأملاكهما لحساب البورجوازية الناشئة التي قادت البلاد إلى الثورة، وبقيت مسيطرة على مقدراتها، ويعني في اعتبارها «استمرار» الثورة دوام المزايا التي صارت تستمتع بها، والتي توقفت استدامتها على دفع الأخطار التي تهددت (الثورة) من الداخل والخارج معا.
ولقد شاهدنا في «التطور» الدستوري الذي حصل كيف رضي «الثوريون» - من أجل احتفاظ البورجوازية بالسيطرة الجديدة التي ظفرت بها - أن يضحوا بالمبادئ الديمقراطية التي نادت بها الثورة لتأسيس نظام للحكم، يقوم على قواعد تكفل تمثيل الأمة تمثيلا صحيحا، وإشراك «مندوبيها أو ممثليها» في الحكم إشراكا كاملا صحيحا، فضيقت الدساتير المتتالية حقوق الانتخاب، ثم جعلت الانتخاب على درجات، وحرمت منه أكثرية المواطنين، وإن شذ عن ذلك دستور 1793، ولو أنه - كما هو معروف - لم يوضع أصلا موضع التنفيذ، والحد من هيمنة الهيئة التشريعية في نظير أن يزيد مرة بعد أخرى سلطان الهيئة التنفيذية، وذلك بنسبة انكماش عدد القائمين عليها، فصاروا خمسة في حكومة الإدارة أو المديرين، ثم صاروا ثلاثة في حكومة القنصلية، لتنحصر أسباب السلطة في يد قنصل واحد فقط في النهاية، ورضي الثوريون الذين مهدوا لحكومة الفرد بهذه الصورة أن «ينهوا» الثورة باعتبار أن في هذا «الإنهاء» ذاته ضمانا «لاستمرارها»، وانعقدت آمالهم وآمال الأمة الفرنسية قاطبة على شخص القنصل الأول لتحقيق هذه الغاية الأخيرة، فكان لضمان «استمرار» الثورة أن نودي بالجنرال بونابرت قنصلا لمدى الحياة (1802)، وكان لهذا السبب نفسه أن نودي - الآن - بإمبراطورية نابليون الأول.
الفصل الأول
دستور العام الثاني عشر
18 مايو 1804
تذرع الذين أرادوا إنشاء الإمبراطورية بأن الأمة قد صارت - أكثر من أي وقت مضى - في حاجة ماسة لتأمين «نتائج» الثورة، التي يكفل بقاءها وجود الرجل - نابليون بونابرت - الذي تآمر الملكيون أعداء الثورة على حياته أكثر من مرة، وأرادوا اغتياله في الوقت الذي استؤنفت فيه الحرب مع إنجلترة، وظهرت الرغبة في أن يصبح لبونابرت الحق في تعيين خلف له، ولإعطائه لقبا جديدا، وقد بحث مجلس الدولة هذه الرغبة، ولكنه أعلن يوم 5 أبريل 1804 موافقته على مبدأ الوراثة فحسب، وعندئذ اتجه القنصل الأول إلى «مجلس التربيون» الذي قرر يوم 30 أبريل: (1) أن يعلن نابليون بونابرت «القنصل الأول حاليا» إمبراطورا، وأن يبقى بهذه الصفة قائما بأعباء الحكم في حكومة الجمهورية الفرنسية. (2) أن يكون منصب الإمبراطورية وراثيا في أسرته. (3) وأن تقرر نهائيا الأنظمة اللازمة لذلك.
لم يلق هذا المشروع أي معارضة في مجلس التربيون إلا من جانب «كارنو
Carnot » وحده، ثم أحيل المشروع إلى مجلس الشيوخ (السناتو) الذي وافق عليه وطالب بإدخال التعديلات أو التغييرات الدستورية الضرورية، على أساس أن هذه قد صار لا غنى عن الأخذ بها بسبب المؤامرات التي يحيكها أعداء فرنسا ضد سلامة الدولة، بينما ثبت عجز الأنظمة الحكومية الجمهورية عن مواجهة الصعوبات التي تصادفها البلاد الآن، وقد ثبتت لذلك حاجتها الملحة لقيام حكومة قوية ومستقرة بها، وقال بورتاليس
(في 16 مايو 1804): «إن الدول العظمى لا يجدر بها ولا تحتمل غير نوع من الحكومات، هو حكومة الفرد، وإن الوراثة حاجز ضد المنازعات الحزبية، وإن الوسيلة الوحيدة للقضاء على أحقاد أسرة البربون القديمة وإنهاء آمالها في استرجاع الحكم في فرنسا، وإحياء الامتيازات التي أعطتها كل تلك السلطات التي أساءت استخدامها إنما تكون بجعل السلطة وراثية في أسرة جديدة، نالت تقدير الشعب وعرفانه بجميلها عليه.»
وأخذ مجلس الشيوخ يعمل لإعداد «قانون الإمبراطورية
Senatus-Consulte de l’Empire »، وفي 18 مايو 1804 صدر القانون النظامي الذي بفضله: (1) تأسست الإمبراطورية وما يتبع ذلك من وضع أنظمة لترتيب الوراثة وشئون الأسرة «المالكة » الإمبراطورية ونظام الوظائف الكبيرة وألقاب الشرف ... إلخ. (2) وإدخال التعديلات اللازمة على اختصاصات السلطات «التشريعية والتنفيذية» العامة، فأصبح للإمبراطور سيطرة أكبر على مجلس الشيوخ، وأنشئت محكمة عليا لنظر المخالفات أو الجرائم التي يرتكبها أعضاء الأسرة الإمبراطورية والوزراء وكبار الموظفين، وكذلك الجرائم أو الاعتداءات التي ترتكب والمؤامرات التي تدبر ضد أمن الدولة وضد شخص الإمبراطور نفسه، (3) ثم إجراء استفتاء عام للأمة في هذا النظام كله.
وفي الاستفتاء الذي أعلن مجلس الشيوخ نتيجته في 6 نوفمبر 1804، بلغ عدد الأصوات المؤيدة للإمبراطورية 3572329، وكانت الأصوات المعارضة 2579 فقط، ومع ذلك فإن هذه الأرقام لم تكن تدل على أن الاستفتاء كان يعبر عن حقيقة الرأي العام تماما؛ لأن الممتنعين عن التصويت - أي الذين لم يشتركوا في الاقتراع - اعتبرتهم الحكومة مؤيدين للدستور الجديد، أضف إلى هذا أن قانونا يصدره مجلس الشيوخ لم يكن يتطلب إجراء استفتاء عام ليصبح نافذا، ولذلك لم يكن المقصود من هذا الاستفتاء الحصول على تصديق الشعب على لقب أو حكومة الإمبراطورية، بقدر ما كانت الرغبة تأييد نظام الوراثة بالصورة التي أتى بها قانون الإمبراطورية، وقد جعل هذا القانون من حق الإمبراطور أن يتبنى أحد أبناء أشقائه، وفي حالة عدم وجود وارث من صلبه مباشرة أو عدم تبني أحد أبناء أشقائه ينتقل تاج الإمبراطورية إلى أخويه يوسف، ولويس بونابرت وأبنائهما، وقد حرم من الوراثة كل من شقيقيه الآخرين لوسيان وجيروم؛ لأنهما عقدا زيجات لا يرضى عنها.
وكان بعد تقرير نظام الإمبراطورية أن أنشئت ست وظائف كبرى، ورفع عدد كبير من قواد نابليون إلى مرتبة المارشالية ومنحوا ألقاب الشرف الرفيعة، وكانت الوظائف الكبيرة التي أنشئت هي: الناخب الأعظم
Grand électeur
وتعين بها جوزيف بونابرت شقيق الإمبراطور، ومهر دار (حامل الأختام) الإمبراطورية
Archichncelier
وتعين بها كمباسيسرس، ومهر دار الدولة وشغل هذه الوظيفة يوجين بوهارنيه ، والضابط الأعظم «للقوات العسكرية»
Connetable
وتعين بها لويس بونابرت - شقيق آخر للإمبراطور - وأميرال أو ضابط أعلى للبحرية وشغل هذا المنصب القائد مورا، وأنشئت إلى جانب هذا عدة وظائف «للبلاط» الإمبراطوري مثل الخوري الأعظم
Grand Aumônier
للإمبراطورية، وهو منصب شغله الكردينال جوزيف فيش
Fesch - أحد عمومة الإمبراطور - وكبير الحجاب
Grand Chmbellan ، وكان هذا «تاليران» الذي سمي كذلك نائب الناخب الأعظم، ثم كبير الإصطبلات
GR. Écuyer
وكان كولينكور
Caulincourt
ثم مارشال القصر
Grand Maréchal du Palais
وكان ديروك
Duroc ، ثم كبير الصائدين بالكلاب
Grand Veneur
وكان «برثييه»، وأخيرا كبير الأمناء
GR. Maître des-Cérémonies
وكان دي سيجور
De Segur .
وأما الإقطاعات وألقاب الشرف التي كوفئ بها العسكريون في عهد الإمبراطورية فقد بلغت اثنين وعشرين، تمتع بها كبار قواد الإمبراطور، وهم برثييه، برنادوت، دافو، ماسينا، ناي، كلرمان، لان، ماكدونالد، أودينو، مورتييه، فيكتور، ديروك، أوجيرو، مونسي، سولت، أريجي
Arrighi ، مارمون، جونو، ليففر، موتون
Moutoun
بينما بلغ عدد الذين منحوا هذه الألقاب والإقطاعات لخدماتهم المدنية والسياسية ثمانية: هم؛ تاليران، فوشيه، ماريه
Maret ، شامباني
Champagny ، سافاري، رينييه
Régnier ، جودان
Gaudin ، نال لقب الإمارة منهم برتييه وبرنادوت وتاليران، وجمع بين لقب الإمارة والدوقية دافو وماسينا، وناي، وصار الباقون أدواقا، بينما أعطي موتون لقب الكونتيه.
وأما هذه الإمبراطورية التي أوجدها قانون 18 مايو 1804 فكانت مزيجا من الجمهورية والملكية بالصورة الظاهرة التي تعارف الناس عليها، ولكنها في جوهرها كانت شيئا يختلف عن الجمهورية والملكية - أو الإمبراطورية المتعارف عليها - ولا يمكن اعتبارها إلا شيئا مستولدا من عبقرية نابليون نفسه، ولا تفتأ تزداد هذه الطبيعة أو الخاصية وضوحا بمرور الزمن، حتى إذا بلغت الإمبراطورية ذروتها في السنوات التالية (1807-1809) كان الانفراد بهذه الصفة أبرز مميزاتها، أو قل: إنه المميز الوحيد لها من الملكيات أو الإمبراطوريات العادية الأخرى.
فقد كان نابليون هو الذي رأى تأسيس إمبراطورية بدلا من ملكية؛ لأن الملكية كانت لا تزال مقترنة في أذهان الناس بكل تلك المساوئ والمظالم التي قامت الثورة لتحرير الأمة منها، وخشي نابليون أن يتحدى إنشاء الملكية من جديد الفرنسيين في شعورهم، وأن يكون عامل استفزاز لهم للمطالبة بالحرية، فقال: إن إعلان الإمبراطورية فيه إرضاء لأنانية الأمة دون تحريك حبها للحرية أو استثارة هذا الشعور لدرجة متطرفة، وكانت الإمبراطورية القائمة حتى هذا الوقت من عشرة قرون مضت هي الإمبراطورية الرومانية المقدسة، ولم يكن فرنسوا الثاني «الذي خلف الإمبراطور ليوبولد الثاني منذ 1792» قد توج بعد إمبراطورا عليها، فلم ينل لقب إمبراطور إلا في أول سبتمبر 1804، أي بعد إعلان تأسيس إمبراطورية نابليون الأول ببضعة شهور، ولم يكن يرضي كبرياء نابليون شيء في هذا الوقت قدر إدراكه أن في وسعه الاستهانة بكل التقاليد التي ارتبطت بهذه الإمبراطورية الرومانية المقدسة القديمة التي شيد شارلمان صرحها، فظلت تصدر كل أعمال الحكومة الرسمية حتى عام 1809 باسم «الجمهورية الفرنسية» إلى جانب اسم الإمبراطور نابليون.
ومع هذا؛ فقد كانت الملكية هي التي أقيمت الآن في فرنسا، وبكل حذافيرها حتى مظاهر الفخامة الخارجية، بالرغم من وصف إمبراطورية نابليون بأنها الجمهورية الفرنسية، ولم يكن تأسيس هذا النوع من الملكية شيئا جديدا، أو خطورة مفاجئة، فقد تطورت «الجمهورية» التي نادى بها المؤتمر الوطني (25 سبتمبر 1792) وشهدت البلاد في عهد حكومة الإدارة «أو المديرين» كثيرا من مظاهر فخامة الملكية، ثم تزايدت وتأكدت هذه المظاهر خصوصا في عهد القنصلية: وجود بلاط، وصالونات، وملابس رسمية لموظفي الدولة، وأعياد، واحتفالات في قصر التويلري ... إلخ، أما الآن فقد بلغت هذه المظاهر ذروتها، وذلك: أولا: بإعطاء لقب «ماريشال الإمبراطورية» في 14 مايو 1804 إلى ثمانية عشر قائدا من الذين كسبوا انتصاراتهم في الحملات الإيطالية، خصوصا تحت قيادة نابليون بونابرت نفسه، هم: برثييه
Berthier ، مونسي
Moncey ، ماسينا
Massina ، أوجيرو
Augereau ، جوردان
Jourdan ، برنادوت
Bernadotte ، برون
Brune ، مورا
Murat ، مورتييه
Mortier ، بسيير
Bessières ، سولت
Soult ، لان
Lannes ، ناي
Ney ، دافو
Davout ، ثم كلرمان
Kellerman ، سيروريه
Sérurier ، بيرينون
، ليففر
Lefèbvre ، وعددهم ثمانية عشر مارشالا، لم يلبث أن ضم إليهم في السنوات التالية القواد: فيكتور
Victor (1807)، أودينو
Oudinot ، ماكدونالد، مارمون
Marmont (1809)، سوشيه
Sucht (1811)، جوفيون سان سير
Gouvion Saint Cyr (1812)، وبونياتوسكي
.
وثانيا: بأن وزع الإمبراطور في قصر الأنفاليد للمرة الأولى وسام جوقة الشرف (يوم 14 يوليو 1804) على مستحقيه. وثالثا: بأن أقيم حفل ديني فخم في كنيسة نوتردام لتتويج الإمبراطور، وقد اهتم نابليون بهذا الاحتفال؛ فمهد له بالمفاوضة مع البابا بيوس السابع من جهة، وبعقد قرانه في الكنيسة من جهة ثانية، وكان زواج بونابرت من جوزفين بورهانيه زواجا مدنيا فحسب (أول ديسمبر)، وفي اليوم التالي (2 ديسمبر 1804) أقيم حفل التتويج الذي حضره البابا، ولكن بدلا من أن يضع البابا التاج على رأس نابليون وزوجه، انتظر نابليون حتى بارك البابا التاج فتناوله من يده وتوج به نفسه، ثم وضعه على رأس الإمبراطورة التي ركعت أمامه.
ولئن دلت واقعة التتويج هذه على شيء، فإنما تدل على أن الإمبراطورية مستولدة من عبقرية نابليون وحده ومتصلة بشخصه قبل أي شيء آخر، فهو الرجل الذي صار له حتى هذا الوقت أربع سنوات ونيف وهو متربع في دست الحكم في فرنسا، يجمع في يديه كل أسباب السلطة، وينفرد بممارستها وحده، ويبذل قصارى جهده لإتقان أساليب الحكومة الفردية مع ما يقتضيه ذلك من تدريب صارم على ضرورة نظر الأشياء بنفسه، والإحاطة بها إحاطة تامة، ثم تقرير ما يجب اتخاذه بشأنها؛ وذلك لأن صاحب الحكم - أو الملك كما قال نابليون - لن يكون شيئا مذكورا إذا لم يكن هو كل شيء، وحتى يتسنى له أن يكون كل شيء، وجب عليه أن يكون في كل مكان، حقا لم ينكر نابليون افتتانه بالسيطرة والسلطة، ولكنه - كما وصفه هو نفسه - كان من نوع افتتان الفنان بآلته الموسيقية.
ونفى نابليون (مارس 1804) أنه طموح أو أن له أطماعا، فإذا كان لا مناص من الاعتراف بوجودها، فهي حينئذ أطماع قد امتزجت امتزاجا في كيانه حتى صارت - كما قال - بمثابة الدم الذي يجري في عروقه والهواء الذي يستنشقه، ونابليون هو الذي عرف «المستحيل» بأنه «الشبح الذي يفزع الخائف الوجل، والملجأ الذي يلوذ به الجبان الرعديد»، وكان صاحب هذا التعريف الذي أنكر المستحيل هو مؤسس الإمبراطورية الذي نهض بأعباء الحكم فيها وحده، ولم يشأ أن يشاركه في ديكتاتوريته إنسان، والذي أعتقد أن له من العبقرية ما يهيئه لأن يكون «شخصية تاريخية» - كما قال هو نفسه - وليس بشرا كسائر البشر.
الفصل الثاني
نظام الإمبراطورية
ديكتاتورية نابليون
نصت المادة الرابعة عشرة من القانون النظامي للإمبراطورية الصادر في 18 مايو 1804 على أن يجري «تنظيم القصر الإمبراطوري بما يتفق وهيبة العرش وعظمة الأمة»، ذلك بأن العرش سوف يكون له بلاط لامع يتألف من مارشالات الإمبراطورية، وكبار الموظفين وأصحاب المناصب والألقاب الرفيعة، فصدر في 13 يوليو 1804 قرار بترتيب درجة كل فئة من هؤلاء بالنسبة لغيرها في السلم الاجتماعي .
ثم إن نابليون لم يلبث أن استصدر طائفة من المراسيم، منح بها ألقاب الشرف أفراد أسرته وكبار القواد في إمبراطوريته، وأنعم عليهم بالأملاك الواسعة خارج فرنسا؛ فكانت مملكة نابولي وصقلية من نصيب شقيقه جوزيف الذي صار ملكا عليها (30 مارس 1806)، ودوقية جواستالا
Guastalla
التي ضمتها فرنسا إليها في 1806 - وتقع على نهر ألبو على الحدود بين مودينا ولمبارديا في إيطاليا - أعطيت لشقيقته باولين
، ودوقية كليف
Cleves ، وبرج
Berg (في ألمانيا على حدودها الشمالية الغربية مع فرنسا) إلى مورا، وإمارة نوشاتيل
Neuchatel (على الحدود بين فرنسا وسويسرة) إلى برتييه، وفي 6 يونيو 1806 منح شقيقه لويس مملكة هولندة، وصار لويس ملكا عليها.
وأما الإمبراطور نفسه فقد استبقى في حوزته أملاكا واسعة في إيطاليا، عهد بالحكومة والإدارة بها إلى طائفة من رجال دولته، هم تاليران الذي أعطي إمارة بنيفنتو
Benevento «في قلب نابولي»، ودوقية بارما إلى كمباسيرس، ودوقيه بلازانس
(بياسنزا
على نهر بو
) إلى لوبران
Lebrun ، ودوقية تارنتو
Tarento (في جنوب إيطاليا) إلى ماكدونالد، ثم دوقية أوترنتو
Otranto (قريبة منها) إلى فوشيه
Fouché ، ودوقية جيتا
Gaeta (في نابولي) إلى جودان
Gaudin ، وعلاوة على ذلك فقد كان الغرض من الإنعام بألقاب الشرف على طائفة أخرى من قواده ورجال دولته، تخليد ذكرى الأحداث الهامة أو الوقائع الفاصلة في تاريخ إمبراطوريته؛ فالمارشال ماسينا منح لقب دوق ريفولي
Rivoli
الواقعة التي أحرز فيها بونابرت أحد انتصاراته الحاسمة في إيطاليا (14 يناير 1797)، كما أعطى لقب أمير إيسلنج
Easling ؛ تخليدا لذكرى الموقعة التي انتصر فيها نابليون بالاشتراك مع ماسينا وغيره من كبار قواده على جيوش النمسا - وإن كان الفرنسيون كالنمسويين قد تحملوا خسائر فادحة (22-23 مايو 1809).
ونال المارشال ناي
Ney
لقب دوق الشنجن
Elchingen ، وأمير مسكوفا
Moscowa
لإحياء ذكرى الانتصار على النمسويين في واقعة الشنجن (14 أكتوبر 1805) التي اشترك فيها ناي، وتقديرا لجهوده كذلك في واقعة نهر مسكوفا (7 سبتمبر 1812) التي مكنت نابليون من الدخول إلى موسكو (في 14 سبتمبر) وأعطى المارشال دافو لقب دوق أورشتاد
Auerstadt
وأمير إيكموهل
Echmuhl ، وأورشتاد هي المعركة التي انتصر فيها دافو، فأكمل النصر الذي أحرزه نابليون على الجيوش البروسية في واقعة إيينا
Jena (14 أكتوبر 1806)، أما إيكموهل فكانت الواقعة التي انتصر فيها نابليون وساهم فيها دافو كذلك على جيش النمسا «في بفاريا» في 22 أبريل 1809.
واعتقد نابليون أن من صالحه تأمين مستقبل الأسرات التي صارت موالية له في النظام الجديد، وارتبطت أقدارها نهائيا بمصير البيت البونابرتي الحاكم، فأعاد حق أيلولة الإرث إلى الابن الأكبر في الأسرة (منذ 1806) فيما يتعلق بطبقة كبار العسكريين، ثم إنه أضاف إلى نظام الإرث حق «الاستعاضة» بمعنى أنه يحق للمورث إذا لم يوجد عقب مباشر له أن يسمي في وصيته من يشاء ليرثه، ثم أنشأ (في أول مارس 1808) نظاما يتسنى بفضله تخصيص نصيب من أملاك الأسرة يكفي وارث اللقب لأن يعيش في المستوى الذي يفرضه لقب النبل الذي يحمله، وكان في نفس هذا التاريخ (أول مارس 1808) أن صدر القانون الذي أنشأ رسميا طبقة النبلاء أو الأشراف في الإمبراطورية.
واحتفظ الإمبراطور في الوقت نفسه بحق منح ما يشاء من ألقاب النبل والشرف للقواد والمديرين، ورجال الإدارة المدنيين وللعسكريين وغير هؤلاء من رعاياه الذين يتميزون بالخدمات التي يسدونها للدولة.
وقد شاهدنا كيف أن نابليون قد رفع عددا من القواد وكبار الموظفين إلى مرتبة الإمارة والدوقية، ولقد بلغ خلال ثماني سنوات فقط عدد من رفعهم نابليون إلى مرتبة الإمارة أربعة، وإلى الدوقية ثلاثين، وإلى الكونتية (388) وإلى البارونية (1090)، وإلى جانب هذا صار للإمبراطورة «جوزفين» وللأميرات شقيقات الإمبراطور «إليزا
Elisa ، وباولين، وكارولين
Caroline » وصيفات شرف، واستدعيت إحدى السيدات لتلقين كل هؤلاء الوافدات على الحياة الاجتماعية العالية، قواعد السلوك في هذا المجتمع وفق تقاليد البلاد في العهد القديم.
ولم يفرق الإمبراطور بين نبلاء العهد القديم والنبلاء المستحدثين، بل وزع منحه وعطاياه على الفريقين بالتساوي، طالما أن نبلاء العهد القديم صاروا ملتفين حوله، وبذل قصارى جهده ليمزج بين الجماعتين بعقد الزيجات بينهما؛ فقرب من «بلاطه» أسرات مونتمورنسي، ونوال، وروهان
Rohan ، وشوازيل براسلان
Choiseul-Praslin ، وفيليب دي سيجور
Ségur - من رجال العهد القديم - أعطي منصبا في جيش الإمبراطور وصار كبير الأمناء، ولقي ناربون وزير الحرب أيام لويس السادس عشر نفس العناية وألحق بالجيش الإمبراطوري، بينما دخل عديدون من طبقة صغار النبلاء قديما في خدمة الحكومة، ووجدوا في الإدارات التي ألحقوا بها زملاء من الطبقة المتوسطة «المستنيرة» والتي تأثرت بفلسفة القرن الثامن عشر، والذين كانوا لذلك يدينون بمبدأ الطاعة للحكومة «المستبدة المستنيرة».
وضمت فروع الإدارة إليها موظفين من بين الذين اشتركوا في مجالس الثورة ولم تطح المقصلة برءوسهم أيام إرهاب اليعاقبة، أو إرهاب الملكيين المناوئين للثورة، وهرعوا يؤيدون القنصل الأول ثم الإمبراطور الذي عرف كيف يربطهم بالنظام الذي أقامه، وكيف يفيد من خدماتهم، فتعين عدد كبير من أعضاء المؤتمر الوطني القدامى في وظائف الدولة الكبيرة والإدارة الإقليمية «كمديرين في المقاطعات».
ولما كانت الإمبراطورية التي أعادت النظام إلى نصابه تحترم مبدأ التملك، ومن واجبها تأمين الناس على أموالهم وأملاكهم الخاصة، أي تأمين الطبقة المتوسطة على كل ما تعتبره هذه الطبقة ضروريا لبقاء «امتيازاتها»، فقد قصرت حق الانتخاب في نظام الحكم الذي أوجدته على المواطنين الذين يدفعون القسط الأكبر من الضرائب، أي أعضاء الأسرات ذات القدر أو المكانة الكبيرة في الماضي وفي الحاضر؛ بفضل ثرائها وارتباطاتها الواسعة العائلية وغيرها في الإقليم، وما اشتهر عنهم من حسن السمعة والآداب العالية في حياتهم الخاصة والعامة على السواء، أو كما قال نابليون: «تلك الأسرات الطيبة التي كانت تنتمي إلى ما عرف في الماضي باسم العامة، أو الطبقة الثالثة»، وواضح أن نابليون إنما كان يبغي من ذلك الاعتماد على كل المزايا الأدبية والمادية التي للطبقة المتوسطة في تدعيم بناء إمبراطوريته الداخلي.
وفي ضوء هذه الرغبة خضع كل إصلاح داخلي في عهد الإمبراطورية للاعتبارات المتصلة بمصالح الطبقة المتوسطة «المحترمة» أو «العالية» التي ارتبط مصيرها دائما «بالأرض» فتحددت الضريبة على الأملاك والعقارات والأراضي، وتلك هي الموارد الرئيسية لإيرادات الدولة، بصورة ترسم حدود أملاك الأفراد (الزمام)، وتعين حقوق وواجبات كل فرد الخاصة بالأرض التي يملكها ، وبالمثل طلب في التأريع (الذي صدر به قانون منذ 1807) أن تضع القرى كشوفا مفصلة للزمام؛ لبيان أملاك الأفراد بكل دقة، وتقدير قيمة الضريبة التي يدفعونها، وفي ذلك - كما هو ظاهر - ضمان لأصحاب الأرض (المتملكين) من اعتداء الغير على أملاكهم أو «اعتداء» الخزانة «الحكومية» عليهم.
ومع ذلك فقط عظم اعتماد الإمبراطور في بقاء نظامه على إمكان إنشاء هيئة تعليمية وادعة ومسالمة، تكون بمثابة القوى الأدبية التي يستند إلى مؤازرتها صرح إمبراطوريته، ذلك أن نابليون كان يعتقد اعتقادا جازما بأن بقاء الدولة أو كيانها السياسي مرتهن بوجود هيئة تعليمية تدين بمبادئ ثابتة، ما دام أن الإنسان يولد وهو لا يدري أي أنواع الأنظمة جدير بتأييده؛ الجمهورية أم الملكية؟ وهل الأفضل أن يكون صاحب عقيدة وإيمان أو أن يكون لا دينيا؟ وفي رأيه أن الدولة لا تصنع الأمة بل ترتكز الدولة دائما على أسس غير محددة، ومقلقلة، وهي معرضة لحدوث الاضطرابات وخاضعة للتغييرات التي تطرأ عليها.
ثم لم تلبث أن أخذت تتبلور آراء الإمبراطور تدريجيا حتى استطاع أن يعرض آراءه ورغباته على «مجلس الدولة» بصورة محددة في فبراير 1806، وكانت هذه إنشاء «جامعة إمبراطورية» يكون لأعضائها وحدهم الحق في القيام بأعباء التعليم والإشراف عليه، وأن يعهد إليهم بمهمة رئيسية هي «توجيه الرأي العام في الناحيتين السياسية والخلقية»، وبحث مجلس الدولة هذه الرغبة حتى شهر أبريل، ثم تناول مجلس الشيوخ الموضوع، وفي 10 مايو 1806 صدر قرار بتأسيس هيئة تحمل اسم الجامعة الإمبراطورية
1
يعهد إليها بمفردها بمهمة التربية والتعليم العام في أنحاء الإمبراطورية، وهو قرار يقوم على مبدأ المركزية في التعليم.
ولا جدال في أن نابليون لم يكن يريد من وراء هذه المركزية في التعليم إخضاع الشباب الفرنسي وحده لنظام موحد من التعليم والثقافة يكفل - بإشراف الدولة - ربط هذا الشباب الفرنسي بالإمبراطورية، وإنما أراد بهذا النظام الموحد أن يروض كل شباب الإمبراطورية المترامية الأطراف من أبناء الشعوب التي خضعت حديثا للسيطرة العسكرية التي فرضها الإمبراطور عليها بقوة السلاح، ولما يمض الوقت الكافي لاستقرارها على قبول «فكرة» الإمبراطورية ، والرضاء «بنظامها» وذلك بأن يقيم - إلى جانب روابط السيطرة العسكرية وروابط الانخراط في سلك الإدارات «أو الوظائف الحكومية» المحلية - نوعا آخر من الروابط عن طريق هذه المركزية في التعليم والثقافة.
ولقد كانت الخطوة التالية بعد «تأسيس» الجامعة الإمبراطورية، إعداد «دستور» لتنظيم العمل بهذه الجامعة وتعيين وجوه نشاطها، واستطال البحث في مشروع هذه الجامعة، حتى إذا كان يوم 17 مارس 1808 صدر القانون النظامي الخاص بالجامعة الإمبراطورية، وكان يتألف من 144 مادة، وبمقتضى هذا القانون امتنع من الآن فصاعدا على أي إنسان إنشاء مدرسة، أو الاشتغال بالتعليم ما لم يكن من أعضاء الجامعة الإمبراطورية ومتخرجا في إحدى كلياتها، وأما هذه الكليات فكانت خمسا: اللاهوت، والقانون، والطب، والعلوم، والآداب، ويلي هذه الكليات الخمس في الترتيب مدارس التعليم الثانوي «أو الليسيه»، ثم تأتي المدارس الإعدادية «أو التجهيزية» التي تقوم بالإنفاق عليها المجالس النيابية، ثم المدارس الداخلية الخاصة، وأخيرا المدارس الابتدائية.
ونصت المادة 38 من هذا القانون على القواعد التي يقوم عليها التعليم في كل هذه المدارس «وفي الجامعة الإمبراطورية» وكانت ثلاثا: الديانة الكاثوليكية، والولاء للإمبراطور، والطاعة لقرارات الهيئة التعليمية، وكانت هذه ترسم نظاما صارما لأعضائها لدرجة إلزام فريق ممن يشغلون منهم بعض المناصب العالية في هذه الهيئة بالعيش متبتلا.
وفي نفس اليوم (17 مارس 1808) صدر قرار آخر بتعيين رئيس لهذه الجامعة، هو «لويس دي فونتان
Fontanes »، ثم لم تلبث أن وسعت السلطات المعطاة له باستصدار قرار آخر في 17 سبتمبر 1808، وقد اشتمل هذا القرار على بعض المواد الخاصة بتنظيم الجامعة؛ فنصت المادة الثالثة على أنه ابتداء من أول يناير 1809 تغلق أبوابها كل مؤسسة تعليمية لم يصدر من رئيس الجامعة ترخيص باستمرارها في العمل، ثم توالى استصدار القوانين المنظمة لعمل الجامعة واختصاصات كلياتها وعمدائها ولوائحها الداخلية إلخ، ثم من أجل إنشاء مدرسة للمعلمين (30 مارس 1810)، وذلك بإعادة مدرسة المعلمين التي كانت قد تأسست أيام المؤتمر الوطني سنة 1795 لإمداد المدارس المختلفة بالمدرسين اللازمين لها، وقد صدرت كل هذه القوانين بين 10 فبراير 1810 و15 نوفمبر 1811.
وبمقتضى القانون الصادر في 15 نوفمبر 1811 صار للقساوسة الحق في تأسيس مدرسة أكليريكية صغيرة في كل مديرية، لا يقتصر دخولها على الأطفال الذين يراد إعدادهم للكهنوت فقط، وبهذا القانون زيد من ناحية أخرى عدد مدارس الليسيه فبلغت المائة في كل أنحاء الإمبراطورية، كما جعلت كل المؤسسات التعليمية الخاصة خاضعة للجامعة الإمبراطورية، وذكرت أنواع العقوبات التي يمكن توقيعها على أعضاء هذه الجامعة.
وهكذا أدى إنشاء الجامعة الإمبراطورية وتنظيم المؤسسات العلمية والإكثار من عدد المدارس إلى زيادة استمالة الطبقة المتوسطة، وتوثيق علاقاتها بالنظام القائم، وهي الطبقة التي شغفت دائما بالدرجات العلمية و«الشهادات الرسمية» التي تؤمن لأبنائها فتح طريق الوظائف الحكومية، وتجعلهم يطمئنون إلى «مستقبلهم المهني» بينما ترمز الشهادات التي يحصلون عليها إلى الطبقة التي ينتمون إليها، ينهض دليلا على هذا الشغف بالدرجات العلمية للغرض الذي ذكرناه أن معاهد التعليم في فرنسا في عام 1813 وحده أعطت درجة البكالوريوس لعدد من الخريجين بلغ (1658)، والبكالوريوس أولى الشهادات الجامعية حسب قرار 17 مارس 1808، يليها الليسانس، ثم الدكتوراه وهي أعلاها.
على أن التعليم لم يكن كله تحت هذه السيطرة العلمانية وحدها، فترك الإمبراطور للهيئات الدينية تعليم الفتيات، وعني نابليون عناية خاصة ببنات ضباطه الذين لقوا حتفهم في ميادين القتال؛ فأسس لتنشئتهن في مايو 1807 ست مؤسسات أو مدارس إمبراطورية، جعلها تحت «حماية» الملكة هورتنس
Hortense
ابنة زوجه جوزفين، والتي تزوجت من لويس شقيق الإمبراطور، والذي صار ملكا على هولندة (منذ 1806).
وإلى جانب هذا كانت قد أعيدت مدارس «الفرير» الرهبان المسيحية إلى فرنسا منذ 1801، فعهد إليها - الآن - بالتعليم الابتدائي، ولقد كان الغرض الجوهري الذي استهدفه الإمبراطور أن يتعلم أبناء الأمة الفرنسية الديانة المسيحية، وأن يدينوا بكل «التعاليم والإرشادات
Catéchisme Impérial » التي أخذت بها جميع الكنائس في الإمبراطورية الفرنسية «والتي تدور حول واجب المسيحيين نحو نابليون الإمبراطور، وهو واجب يتطلب منهم الحب والاحترام لشخصه، والطاعة لأوامره، والولاء لحكومته، وتأدية الخدمة العسكرية، وكل هذه شرائط ضرورية للمحافظة على الإمبراطورية وعلى عرشه وللدفاع عنهما، وذلك ليس فقط لأن «الإله» قد فوضه الحكم والسلطان، واتخذه صورة منه على الأرض، بل وكذلك لأنه أعاد الدين والعبادة على نحو ما كان يعرفه الفرنسيون ونشأ آباؤهم وأجدادهم عليه، ولأنه عمل على استقرار النظام العام بفضل ما أوتي من حكمة وأصالة رأي، ولأنه يذود عن حياض الدولة بصارمه البتار، ولأنه نال المباركة المقدسة على يد البابا رئيس الكنيسة الأعلى ، وأما أولئك الذين يقصرون في تأدية هذا الواجب عليهم، فهم - حسبما يقول بطرس الرسول - إنما يقاومون النظام الذي أقامه الله نفسه، ويستحقون لذلك نزول اللعنة الأبدية عليهم.»
تلك كانت «التعاليم والإرشادات» التي نادت بها وأذاعتها «كنائس الإمبراطورية» وهي «تعاليم» تؤيد سلطان الإمبراطور المطلق، وتدعو لنفس المبادئ التي حاربتها الثورة أصلا، والتي تقول بحق الملوك المقدس «أو حقهم الإلهي» في الحكم.
وكان ضروريا لاستكمال هذه الدعائم التي قامت على ديكتاتورية الفرد في نظام الإمبراطورية النابليونية أن يفرض الإمبراطور رقابة صارمة على الصحافة التي اتهمها نابليون بترويج الشائعات، أو الأنباء التي يذيعها في القارة الوكلاء الإنجليز أعداؤه، ليحدثوا بلبلة في الأذهان، لا يسع النظام القائم السكوت عليها أو إغفال آثارها السيئة والمؤذية، فكتب منذ 22 أبريل 1805 إلى مدير البوليس «أو الأمن» فوشيه، أن يستدعي هذا الوزير لديه رؤساء تحرير صحف «جورنال دي ديبا
Journal des Débats » و«بوبليسيست
»، و«جازيت دي فرانس
Gazette de France »، وهي الصحف التي اعتقد نابليون أنها واسعة الانتشار ليعلنهم؛ أنهم إذا استمروا يقومون بدور الترجمان الذي ينقل ما يجيء في الصحف والنشرات الإنجليزية وإزعاج الرأي العام بصورة مستمرة - لنشرهم بحماقة الأخبار التي تصدر عن فرانكفورت وأوجزبرج دون تدبر لمعاني ما ينشرونه ودون روية - فإن صحفهم لن يطول بقاؤها، «وليعلموا» أن عهد الثورة قد انتهى، وأنه لم يبق في فرنسا غير حزب واحد.
وقد تكرر الإنذار من نابليون بعد أيام قليلة (28 أبريل) وأعلن أن «إصلاح الصحافة» قد صار ضروريا، وأن إجراء سوف يتخذ قريبا لتحقيق الغاية؛ لأن من الحماقة - كما قال - أن تكون هناك طائفة من الصحف تسيء استقلال حرية الصحافة، ولا تحاول أن تفيد من المزايا التي تكفلها هذه الحرية لها؛ وعلى ذلك فقد صدرت تشريعات في 20-22 مايو، 7 أغسطس 1805 تطلب من الصحف تقديم حساباتها للبوليس، وأن تدفع مبلغا من المال يخصص لإنشاء «رقابة» على الصحف، ثم لم يلبث أن صدر تشريع لتنظيم الرقابة على النشر والطباعة في 5 فبراير 1810، على أن يجري العمل بالتنظيم الجديد ابتداء من أول يناير 1811، وبمقتضى هذا القانون أنشئت إدارة عامة «للرقابة» ألحقت بوزارة الداخلية لها الإشراف على كل ما يتعلق بشئون المطابع والمكتبات - أي دور النشر ومحال بيع الكتب - وعهد إلى هذه الإدارة بإصدار «جورنال عام للمكتبة والمطبعة» بمثابة قائمة بأسماء الكتب المطبوعة، والمطابع التي تولت طبعها، ثم أنقص عدد المطابع في باريس إلى الستين فقط، وتحتم أن ينال أصحابها ترخيصا بممارسة عملهم، وأن يحلفوا يمينا بالامتناع عن طبع شيء يتعارض مع واجب الولاء للإمبراطور وصالح الدولة، وجعل للمدير العام الحق في وقف الطبع في أي وقت يشاء للأسباب التي يراها، ثم يحتم على أصحاب المكتبات - الذين لم يقيد القانون عددهم - أن ينالوا ترخيصا من الحكومة لمحالهم، وأن يقسموا نفس اليمين التي سبقت، ثم لم يلبث أن تحدد بعد قليل عدد الصحف التي يجب إصدارها، فصدر قانون في 3 أغسطس 1810 يجيز إصدار صحيفة واحدة فقط في كل مديرية، بينما صدر من أجل تحديد الصحف في باريس قانون في أكتوبر من السنة نفسها يجيز صدور أربع صحف فقط: كانت «المونيتور
Moniteur » الجريدة الرسمية، و«جورنال دي لامبير
Jour-de l’Empire » - وهو الاسم الذي صارت تسمى به الآن صحيفة «الجورنال دي ديبا» ذات الانتشار الواسع، والتي كانت موضع نقمة نابليون - ثم «جورنال دي باري
Jour-de Paris » - وكان مختصا بنقل أخبار المجتمع - وأخيرا جازيت دي فرانس
Gazette de France ، التي اهتمت بالأنباء الدينية، وفي 18 فبراير 1811 صدر قرار بالاستيلاء على (جورنال دي لامبير) دون دفع أي تعويض لأصحابه، ثم لم يلبث أن تبع ذلك استصدار قرار آخر في 17 سبتمبر 1811 بمصادرة الصحف الباريسية الأخرى، وبذلك تكون قد قضت الإمبراطورية على الصحافة في فرنسا، ومن الآن فصاعدا لم يعد ينشر شيء من الأنباء السياسية إلا بموافقة الحكومة، ونادرا ما كان يحدث هذا، وفي غالب الأحايين كانت هذه الأنباء التي تذاع أنباء كاذبة.
ومثلما فرضت الرقابة على الصحف - وكانت رقابة خانقة - خضع المسرح للرقابة التي كانت أشد تدقيقا وصرامة على نحو ما كان منتظرا، حيث كان إقبال الجمهور على المسرح عظيما في وقت كان للمسرح الفرنسي نجومه المتألقة، في شخص تالما
Talma (1763-1826) الممثل الأثير عند نابليون نفسه، ومدموازيل مارس
Mars
المتخصصة في هزليات موليير، وماريفو
Marivaux ، ثم مدموازيل جورج
Georges
وغير هؤلاء.
وكان نابليون من المعجبين بالمسرح، وبالتمثيليات الجدية، وبتأثير من «تالما» لم يتردد في تشجيع «الكوميدي فرانسيز» بمنح هذه المؤسسة مبلغا جسيما من المال (يوليو 1802، يناير 1803)، ولكن الجمهور كان يقبل على المسارح الصغيرة والتمثيليات الخفيفة التي لا قيمة أدبية أو خلقية لها، وظل منصرفا عن المسرح الجدي، حتى حدث في بداية عام 1806 أن لفت تاليران ومدام دي ريميزا
Rémusat - صاحبة المذكرات المشهورة عن حياة البلاط في عهد نابليون - وغيرهما، نظر نابليون للحالة السيئة التي صار إليها مسرحا الأوبرا، والأوبرا كوميك، وحساباتهما المرتبكة، فقرر الإمبراطور أن يجعل صدور إذن منه ضروريا لتأسيس أي مسرح، وأن يحيل على وزارة الداخلية حسابات المسارح لفحصها؛ حتى يمكن تصفية المسارح التي يثبت خلل في ميزانيتها، ثم أغلقت المسارح القريبة من «الكوميدي فرانسيز» بدعوى مراعاة الذوق والمحافظة على التقاليد، وطلب من مسرح مشهور في حي الباليه رويال الانتقال إلى مكان آخر في تاريخ معين، وتحدد نوع الاستعراضات في دار الأوبرا، بحيث اقتصرت هذه على رقصات الباليه، وحفلات الرقص التنكري.
ولم تمنع مشغوليات السياسة والحرب الإمبراطور من الاهتمام بالمسرح؛ فهو يكتب في 17 مارس 1807 إلى الإمبراطورة جوزفين، من أوسترود
Osterode
التي عسكر بها عقب معركة إيلو
Eylau : «أنها ما يجب أن تذهب إلا إلى المسارح العظيمة، وأن تشهد التمثيلية دائما من مقصورة فخمة»، أما المسارح العظيمة التي عناها نابليون فإنه لم يلبث بعد خمسة أسابيع فحسب أن صدر قرار (25 أبريل 1807) ببيانها عندما قسمت المسارح إلى كبيرة وثانوية؛ فكان من الأولى: الكوميدي فرانسيز، والإمبراتريس (الإمبراطورة) وهو حاليا مسرح الأوديون
Odéon ، والأوبرا، والأوبرا كوميك، وأما الثانية: فكانت مسارح الفودفيل والجايتيه
Gaité
وعدد كبير آخر من نفس هذه الطبقة.
وفي 29 يوليو صدر قرار آخر بجعل عدد المسارح ثمانية فقط، بما في ذلك المسارح الأربعة الكبرى، وابتداء من 6 أغسطس 1807 «لم يعد في استطاعة مخلوق تأدية أية مسرحية على غير المسارح المصرح بوجودها في باريس بأي عذر من الأعذار، ولا السماح بدخول النظارة، حتى ولو كان ذلك بالمجان ، ولا إلصاق أي إعلان أو توزيع أية تذكرة مطبوعة أو مكتوبة بخط اليد دون الوقوع تحت طائلة العقوبات التي فرضتها القوانين وسلطات البوليس على مرتكبي هذه الجرائم»، وبذلك تكون صناعة المسرح قد صارت صناعة حكومية، وحياة المسرح وظائف إدارية وتشرف الدولة على ذلك كله إشرافا وثيقا.
وفي ظل هذا النظام كان الحجر على الفكر الحر أمرا طبيعيا؛ لأن الإمبراطور الذي أراد بناء مجتمع يقوم على التجانس الفكري المرتبط بتلك «التعاليم والإرشادات» الإمبراطورية التي سبق أن أشرنا إليها، لم يكن يرضى عن وجود الكتاب المستقلين في إمبراطوريته، أو الفلاسفة وأولئك السياسيين الذين يعنون بشئون السياسة وبالتفكير في مسائلها دون أن يكونوا من محترفي السياسة الذين تستخدمهم الدولة في وظائفها الدبلوماسية؛ ولذلك فقد ألغى نابليون - كما شاهدنا - من أقسام «المجمع العلمي
Institut » قسم علوم الأخلاق والسياسة (في يناير 1803؛ أي من أيام القنصلية)، وشرع الإمبراطور يوجه عنايته إلى الطريقة التي وجب - في نظره - أن يكتب بها تاريخ الأمة الفرنسية، فهو يبذل العطايا ويعطي المرتبات السخية للكتاب الذين يسجلون تاريخه وسيرته، أو يكتبون تاريخ البلاد من وجهة النظر التي يرضى هو عنها؛ من ذلك أنه عين مبلغا كبيرا من المال لإنجاز «الموجز التاريخي»
2
الذي كان قد بدأه الشاعر والكاتب هينو
Hénault (1685-1770) رئيس برلمان باريس في القرن الماضي، ومنع من ناحية أخرى نشر مؤلف مونلوزييه
Montlosier (1755-1838) «دراسات في تاريخ فرنسا».
3
وقد اشتهر صاحبها بكتاباته ضد اليسوعيين، ولذلك لم يكن عجيبا أن يقف في صفوف المعارضة ضد الإمبراطورية أعظم كاتبين فرنسيين ظهرا في هذا العهد النابليوني، هما شاتوبريان
Chateaubriand ، ومدام دي ستال
Staël .
تلك إذن كانت الأسس التي قامت عليها تنظيمات الإمبراطورية وإصلاحاتها الداخلية، وهي الأسس التي أنشأت تلك الديكتاتورية التي كان لا معدى عنها في اعتبار نابليون لاستقرار الأمور في فرنسا بالصورة التي تكفل بقاء الإمبراطورية كنظام للحكومة الداخلية، ولتثبيت دعائم أسرة بونابرت - البيت الحاكم الجديد في فرنسا.
على أنه مما تجدر ملاحظته أن هذه الأغراض المباشرة التي توخاها نابليون - من فرض ديكتاتورية الإمبراطورية في الداخل - كانت ذات أثر حاسم كذلك في تشكيل علاقات الإمبراطورية بغيرها من الدول والحكومات في أوروبا، ولا ينال من قوة هذا العامل - تثبيت أركان الإمبراطورية ذاتها وضمان بقاء بيت بونابرت الحاكم في فرنسا - أن كانت السياسة التي اتبعها نابليون تهدف إلى دوام السلام العام، وفي دوام السلام العام تثبيت لعروش إمبراطوريته، أو أنها كانت تهدد بإشعال نار الحروب دائما من أجل ضم أملاك جديدة إلى إمبراطوريته، وتوسيع رقعة هذه الإمبراطورية لعله يجد في هذا الاتساع ذلك الاستقرار الذي ينشده لحكومته.
والحقيقة التي لا مشاحة فيها أن هذه الديكتاتورية الداخلية قد أعانته على المضي في سياسة الغزو والحروب الخارجية، كما أنها كذلك وبالدرجة نفسها، قد ساعدت على تقويض عروش إمبراطوريته عندما سدد الأعداء الخارجيون ضرباتهم ضد هذه الإمبراطورية، وعبثا حاول الإمبراطور استنهاض الهمم في أمة أنهكتها الحروب، وكان قد سلبها - من أمد طويل - كل حرياتها.
الفصل الثالث
أوج الإمبراطورية: من أوسترلتز إلى تلست
1805-1807
قابلت أوروبا - بالقلق - إعلان الإمبراطورية وإنشاء تلك الديكتاتورية التي أخضعت الفرنسيين لسلطان نابليون ووضعت كل السلطة في يده، وأفزعت أصحاب التيجان في أوروبا هذه السلطة التي صارت للإمبراطور بالرغم من أنه كان في تأسيس الإمبراطورية ضمان لذلك النظام الاجتماعي، الذي جعل الملوك في أوروبا يتضامنون في مناصبة الثورة في فرنسا العداء من أجل المحافظة على العهد القديم بكل ما كان للطبقات العليا فيه من حقوق وامتيازات.
ولكن مبعث الخوف من هذه الإمبراطورية النابليونية المستحدثة كان التغييرات السياسية التي حصلت في أيام حكومة القنصلية في ألمانيا وإيطاليا وهولندة وسويسرة، والتي كان «خلق» هذه الإمبراطورية ينبئ بأن «الاعتداءات» التي شكت منها «أوروبا الشرعية» سوف تفقد هذه الصفة العدوانية في ظل السيطرة الفرنسية الجديدة، وتصبح تغييرات «مشروعة» من المنتظر لها الاستمرار والبقاء ما دامت الإمبراطورية، ومن المنتظر أن يتزايد الخطر بدرجة تهدد بزوال العهد القديم جملة وبكل ما يشمل من حقوق وامتيازات للملوك «الشرعيين»، ما دام نابليون الإمبراطور قد جعل نصب عينيه دائما تثبيت دعائم أسرته (البيت البونابرتي) في الحكم - ليس في فرنسا وحدها، بل وفي أوروبا - مع ما يستلزمه ذلك من اتخاذ إجراءات عسكرية لتوسيع رقعة الإمبراطورية على حساب الحكومات «الشرعية» من جهة، ونشر المبادئ التي أتت بها الثورة للحد من سلطان هذه الحكومات في داخل بلادها، ثم تقويض عروشها في النهاية على أيدي رعاياها من جهة أخرى.
ولقد ظهرت بوادر هذا الخوف والقلق عندما امتنع أصحاب التيجان «الشرعية» في أوروبا عن تهنئة نابليون بتتويجه إمبراطورا، وشذ عن هؤلاء ملك إسبانيا وحده «فردنند السابع» وكان مع ذلك بربونيا، ثم لم يلبث أن تألف ضد فرنسا - بكل سرعة - ما صار يعرف باسم التحالف الدولي الثالث.
فقد رفض نابليون وساطة القيصر إسكندر الأول الذي رغب في أن يخلي الإمبراطور الأقاليم المحتلة فيما وراء جبال الألب (إيطاليا) ونهر الراين (ألمانيا)، واستدعى القيصر سفيره في باريس في أغسطس 1804، وبقي بها قائم بالأعمال هو «الكونت دوبريل
d’Oubril » الذي لم يلبث أن استدعي هو الآخر في شهر أكتوبر من العام نفسه، وهذا بينما أوفد القيصر إلى لندن مبعوثا «الكونت نيقولا نوفوسيلتزوف
Novosiltsov » يحمل تعليمات لمحالفة مع إنجلترة، ولكن حكومة لندن لم تكن راضية تماما عن شروط هذه المعاهدة المعروضة عليها، وعلى ذلك فقد تأجل عقد هذه المحالفة؛ حتى أمكن الوصول إلى اتفاق بين الحكومتين، فأبرمت معاهدة سان بطرسبرج بينهما في 11 أبريل 1805.
وبمقتضى هذه المعاهدة صار «مفهوما» أن فرنسا يجب أن تنكمش حدودها إلى ما كانت عليه قديما، وأن دولا كبيرة يجب إنشاؤها على هذه الحدود «للسهر» على فرنسا، هي هولندة التي تنضم إليها بلجيكا، وبيدمنت التي تضم إليها ليجوريا وبارما، ومن المحتمل أيضا لمبارديا، ثم بروسيا، وأن ينال القيصر إسكندر تعويضا في بولندة، وقد رفضت إنجلترة الدخول في مباحثات مع روسيا حول مسألة حقوق المحايدين وعدم خضوع سفنهم للتفتيش في أعالي البحار، وتجنبت الخوض في موضوع السلام الدائم، الذي كان يشغل ذهن القيصر إسكندر.
ومنذ 6 نوفمبر 1804 كانت النمسا قد عقدت معاهدة سرية مع روسيا لضمان أراضيها في إيطاليا، ولتقرير الوضع القائم في «الشرق»، ومع ذلك فقد ظلت مدة من الزمن مترددة في إعلان خصومتها، والدخول في محالفة سافرة ضد الرجل الذي أنزل بها كل الهزائم القاصمة التي عرفناها من أيام «الحملة الإيطالية» المشهورة، ولكن النمسا لم تلبث أن قررت الانضمام إلى المحالفة الأوروبية عندما وجدت أن نابليون قد أحال - بعد بضعة شهور من الاحتفال بتتويجه إمبراطورا على الفرنسيين - جمهورية ما رواء الألب
Cisalpine
إلى مملكة سماها مملكة إيطاليا، ثم توج نفسه ملكا على هذه المملكة في ميلان في 25 مايو 1805، ثم عين يوجين بوهارنيه نائبا للملك، ثم لم يلبث أن ضم نابليون إلى الأملاك الفرنسية، جنوة (في 4 يونيو)، ثم أعطى لوقا وبيومبينو
إلى زوج شقيقته إليزا «باكيوشي
»، وجعل من مملكة إيطاليا وجمهورية ليجوريا وجنوة، مديريات فرنسية أدمجت في فرنسا في 30 يونيو 1805، وعندئذ انضمت النمسا إلى محالفة سان بطرسبرج في 9 أغسطس 1805.
وبقيت بروسيا واقفة على الحياد؛ لأن غرضها الاستيلاء على هانوفر التي كان يحتلها نابليون، والتي لم تكن بروسيا تدري ما إذا كان الإمبراطور سيتخلى عنها لإنجلترة.
وكان نابليون - على نحو ما اعتقد فرنسوا الثاني - يهتم في هذا الحين اهتماما جديا بمشروع غزو إنجلترة - بالرغم من قوة البحرية الإنجليزية المتفوقة على البحرية الفرنسية تفوقا كبيرا - فأنشأ منذ 1803 معسكرا عند بولوني، وأرسل السفن المعدة لنقل الجنود إلى المواني الشمالية، وأعد سبعة جيوش لهذا الغزو: في إمبلتوز
Ambleteuse «بقيادة دافو»، وفي بولوني بقيادة «سولت»، وفي مونترويل
Montreuil
بقيادة «ناي»، وفي أراس
Arras
بقيادة «لان»، بينما وقف القائد «مورا» مع احتياطي الفرسان في الخلف، وتولى «مارمون» قيادة طرف الجناح الأيمن عند «يوترخت»، بينما وقف أوجيرو في بريطاني
Bretagne
على طرف الجناح الأيسر، وكان على كل من هولندة وإسبانيا والبرتغال تزويد هذا الجيش بالإمدادات المالية وبالسفن لمحاربة «طغاة البحار».
وكان ضروريا العمل ما أمكن لإخلاء «القنال الإنجليزي» - بحر المانش - من الأسطول الإنجليزي؛ ليتسنى نقل جيش الغزو الفرنسي إلى الشواطئ الإنجليزية دون تكبد خسائر؛ فتظاهر الإمبراطور بأن غرضه الأول إرسال حملة إلى جزر الهند الغربية، وخرجت لهذه الغاية بالفعل السفن الفرنسية بقيادة أمراء البحر «غانتوم» من برست
Brest ، ومسيسي
Missiessy
من روشفور
Rochefort ، ولاتوش-تريفيل
Latouche-Treville
الذي خلفه فيلنوف
Villeneuve
من طولون.
وخرج الأسطول الإنجليزي بقيادة «كورنواليس» لمطاردتهم، ولكن «غانتوم» لم يستطع الابتعاد كثيرا من برست، بينما وصل «مسيسي» مبكرا إلى جزر الهند الغربية بدرجة أنه اضطر إلى العودة إلى روشفور، حيث بقي مختبئا بها، وأما فيلنوف الذي غادر طولون في 29 مارس 1805 فقد وصل إلى المارتنيك في 13 مايو ولم يجد بها أحدا، وعندئذ أمره نابليون بالإبحار إلى فيرول
Ferrol (طرف إسبانيا الشمالي الغربي)؛ ليجتمع بالأسطول الإسباني بقيادة جرافينا
Gravina
ليعيد الكرة من جديد في الهند الغربية.
وقابل هذه الخطوة أمير البحر الإنجليزي نلسن - الذي طارد أسطول «فيلنوف» دون جدوى - بأن أوصى بحشد الأساطيل الإنجليزية عند رأس فينيستير
Finisterre - على الساحل الإسباني الغربي إلى الجنوب من ميناء فيرول - واشتبك زميله أمير البحر الإنجليزي «كالدر
Calder » في معركة غير حاسمة مع الأسطول الفرنسي بقيادة «فيلنوف» في 22 يوليو 1805؛ وعجز عن منع فيلنوف من دخول ميناء فيرول، وعندما حاول فيلنوف بعد ذلك - بسبب تبكيت نابليون الشديد له - الخروج من فيرول (17 أغسطس) للذهاب إلى روشفور وبرست، منعته رياح معاكسة من متابعة السير، وصار مهددا بهجوم العدو عليه بقوات متفوقة على قواته؛ فاضطر للاتجاه إلى ميناء قادش
Cadix «في الجنوب»، ومع أنه كتب إلى وزير البحرية يشكو من أن سفنه في حاجة إلى الإصلاح والترميم، وأن الضباط والنوتية الذين يعملون على ظهرها تنقصهم الخبرة والكفاءة، فقد صدرت إليه أوامر الإمبراطور بالإبحار صوب الشرق لتأييد الحملة التي يقودها الجنرال «جوفيون سان سير» ضد صقلية.
وقرر فيلنوف - عندما هدد الإمبراطور بأن يخلفه أمير آخر للبحر - أن يخرج بسفنه إلى عرض البحر في مأموريته الجديدة بالرغم من معارضة أركان حربه، فاستطاع نلسن أن يلحق به على مسافة عشرين ميلا من الميناء الإسباني بالقرب من رأس الطرف الأغر
Trafalgar ، وفي المعركة التي دارت في (21 أكتوبر 1805) استطاع كولينجوود
Collingwood
نائب أمير البحر الإنجليزي أن يفصل أسطول جرافينا عن الأسطول الفرنسي، ويلحق بالأول هزيمة بالغة، اضطر بعدها جرافينا للانسحاب إلى قادش ليموت بها متأثرا بجراحه، بينما انتصر نسلن على الأسطول الفرنسي انتصارا باهرا، وإن كان نلسن نفسه قد أصيب أثناء المعركة إصابة قاتلة أودت بحياته، فقد وقع فيلنوف في الأسر وتحطمت أو غرقت أكثر قطع الأسطول الفرنسي، وعندما قامت العاصفة في أول المساء استطاع الضابط البحري الفرنسي دومانوار
Dumanoir
العودة بفلول الأسطول الفرنسي-الإسباني إلى ميناء قادش، وكانت «الطرف الأغر» آخر المعارك البحرية العظمى في عهد الإمبراطورية، ولم يتسع نابليون بعد هذه المعركة التي قضت على أسطوله أن يعيد بناء البحرية الفرنسية؛ فصارت إنجلترة هي صاحبة السيطرة الكاملة في البحار.
وانتهزت النمسا فرصة مشغولية نابليون بهذه العمليات البحرية وذيوع الاعتقاد بأنه قد صح عزمه على غزو إنجلترة؛ فبادرت بامتشاق الحسام وزحف إمبراطورها فرنسوا الثاني على بفاريا، فعبر نهر الإن
Inn (أحد فروع الطونة) في 7 سبتمبر 1805 وفي 9 سبتمبر استولى على ميونخ.
ولكن نابليون بالرغم من مشغوليته بمسألة غزو إنجلترة وحوادث الحرب البحرية الخطيرة كان لا يفتر اهتمامه بالتدابير اللازمة لمواصلة الحرب البرية ضد أعدائه؛ فقد أملى على معاونيه منذ 13 أغسطس 1805 وهو في بولوني نفسها خطة الحملة المقبلة؛ ولذلك فقد استطاع تحويل قواته الضخمة الممتدة من بحر المانش (القنال الإنجليزي) إلى نهر الراين للزحف صوب نهر الدانوب، وكان زحفا سريعا، أوصل (الجيش الأعظم) بعد عشرين يوما فقط إلى ماينز
Mainz ، الأمر الذي جعل القائد النمسوي «ماك
Mack » يبادر بالزحف بدوره بكل سرعة عبر الأراضي الألمانية من الجنوب؛ حتى يسد الطريق في وجه نابليون عند الغابة السوداء ونهر الراين، ولكن نابليون انحرف بقواته نحو الشمال ولم يترك إلا جزءا يسيرا من جيشه بقيادة «أوجيرو» يسير صوب ستراسبورج (أي نحو الجنوب)، ثم قصد عن طريق وادي نهر «المين
Main » (أحد فروع الراين) حتى بلغ «ورزبورج
Wurzburg »، ومن هذه انثنى إلى الجنوب واستقر في مكان يسمى «دونويرث
Donauwörth » خلف «أولم
Ulm » التي كان قد وصل إليها الجنرال «ماك»، ثم احتل نابليون أوجزبرج، وبذلك قطع خطوط مواصلات النمسويين بعاصمتهم فينا، ثم التحم مع الجنرال «ماك» في جملة معارك - منها معركة إلشنجن
Elchingen
التي ينسب إليها لقب الدوقية الذي حصل عليه الجنرال ناي، وقد اضطر «ماك» إلى الانزواء في أولم والاحتماء بها بعد هذه الالتحامات ، حتى اضطر إلى التسليم بها في 20 أكتوبر 1805 بعد حملة استمرت أربعة عشر يوما فقط، وبلغ عدد النمسويين الذين سلموا في أولم تسعة وعشرين ألف مقاتل.
وكانت الخطوة التالية مواجهة جيوش روسيا التي حضرت لمعاونة حليفتها النمسا، وكانت الجيوش الروسية بقيادة القيصر إسكندر والمارشال كوتوزوف
Koutousov
قد دخلت الأراضي النمسوية، ووصلت طلائعها أمام فينا، وكان القيصر قد ذهب إلى برلين لمقابلة ملك بروسيا فردريك وليم الثالث وملكتها لويزا، حيث أقسم الملكان على قبر فردريك الأكبر في بوتسدام في 3 نوفمبر يمين الصداقة والولاء، وأذنت الحكومة البروسية للقوات الروسية بالزحف عبر أراضيها في سيلزيا من أجل الدخول في الأراضي النمسوية والوصول إلى فينا، وقد فعلت حكومة بروسيا ذلك دون أن تعلن العداء ضد فرنسا.
وكان بسبب هذه التطورات الأخيرة، وصعوبة الموقف المالي والاقتصادي في داخل فرنسا وقتئذ أن نصح تاليران بالاعتدال، وأشار على نابليون بتنفيذ سياسته؛ فيتخلى الآن عن بروسيا، وعن كل محاولة للتفاهم معها، ويعمل من ناحية أخرى لعقد الصلح مع النمسا على أساس تعويض هذه الأخيرة في الشرق - أي على حساب الإمبراطورية العثمانية - ولكن نابليون لم يأبه لهذه النصيحة، ودخل فينا في 13 نوفمبر 1805، وعندما طلب فرنسوا الثاني الهدنة اشترط نابليون أن تجلو أولا القوات الروسية عن كل أراضي النمسا، ولكن الروس رفضوا الجلاء، فشرع نابليون في مطاردتهم، وعندئذ اتجه القيصر إسكندر صوب بروسيا، وأوفدت هذه وزيرها البارون دي هوجويتز
Haugwitz
يحمل عروضا للتوسط إلى المعسكر الفرنسي، فبلغه يوم 28 نوفمبر، ولكن لم تمض أيام قليلة حتى حدث بالقرب من قرية أوسترلتز
Austerlitz
في صبيحة 2 ديسمبر 1805، أن دارت رحى المعركة التي اشترك فيها أباطرة ثلاثة «فرنسا، النمسا، بروسيا» وانهزمت فيها القوات الروسية النمسوية هزيمة بالغة، كانت كافية لإنهاء المحالفة الثالثة ضد فرنسا والقضاء على أعضائها؛ فطلبت النمسا الصلح ، وتقهقر قيصر الروسيا عن طريق بولندة، واضطرت بروسيا إلى تناسي اتفاقاتها في بوتسدام، وشعرت إنجلترة - بالرغم من النصر الذي أحرزته في «الطرف الأغر» - أنها هي الأخرى قد انهزمت في هذه الواقعة، فقال وليم بيت: «لقد لحقت بي الإصابة أنا كذلك في أوسترليتز»، وتوفي بيت في 23 يناير 1806.
وعلى ذلك فقد عقدت الهدنة بين فرنسا والنمسا في أورشيتز
Urchitz
في 6 ديسمبر 1805، وعقدت المعاهدات بين فرنسا وبين حلفاء النمسا السابقين: بفاريا في 10 ديسمبر، وورتمبرج في 11، وبادن في 12 ديسمبر ورفع ناخبا بفاريا وورتمبرج إلى مرتبة الملكية، وناخب بادن إلى الغراندوقية، واتسعت رقعة أملاك الثلاثة، وفي 15 ديسمبر فرض نابليون على النمسا معاهدة شونبرون
Schoenbrunn ، وبمقتضاها أعطيت هانوفر لبروسيا، وفي مقابل ذلك تنازلت هذه عن أنسباخ
Ansbach
إلى بفاريا، وعن كليف ونيوشاتيل إلى فرنسا، ثم أبرمت معاهدة الصلح النهائية مع النمسا في برسبورج
في 26 ديسمبر 1805، وبمقتضاها تنازلت النمسا عن إستريا
Istria (ما عدا تريسته
Triesta ) ودلماشيا وكل فينيسيا
Venetia
إلى فرنسا لتضم إلى مملكة إيطاليا، وهذه الأقاليم تكفل وصول السيطرة الفرنسية إلى بحر الأدرياتيك، ثم أخذت من النمسا كل الطرق المؤدية إلى نهر الراين، وهي أقاليم: التيرول، فورارلبرج
Vorarlberg (إلى الغرب من التيرول)، وترنتان «أو ترنت»
Trentin Trent
وأعطيت إلى فرنسا، ولم تنل النمسا تعويضا عن ذلك كله غير سالزبورج
Salzbourg ، وقد اعترفت النمسا كذلك بملكي بفاريا وورتمبرج وبسيادتهما الكاملة على أملاكهما.
وكان معنى ذلك أن أتم صلح «برسبورج» عملية انهيار الإمبراطورية الرومانية المقدسة والقضاء عليها نهائيا، وقد وقع فرنسوا الثاني على هذه المعاهدة بوصفه «إمبراطورا لألمانيا والنمسا»، ولكن لم تمض ستة شهور حتى كان فرنسوا الثاني قد خسر لقب الإمبراطور على ألمانيا.
ولكن لم يكد يعود نابليون إلى باريس حتى رفضت بروسيا الإذعان لشروط معاهدة شونبرون (15 ديسمبر)؛ فرفض فردريك وليم الثالث التنازل عن أنسباخ، وطالب بمدن اتحاد الهانسا: برمن، وهمبورج، ومن المحتمل أيضا لوبك، وأعلن الهانوفريين والإنجليز بعزمه على البقاء في احتلال هانوفر حتى وقت السلام العام، وذلك بدلا من القوات الفرنسية أو القوات المتحالفة مع فرنسا، كما لو كان يبغي من هذا الإعلان نقض كل اتفاق حصل مع نابليون الذي اعتبر هذه الخطوة من جانب بروسيا تدبيرا غادرا، وأخذ يتهيأ لحملة جديدة، بينما أرغم البارون دي هو جويتز على التوقيع على وثيقة تحتوي على نصوص معاهدة شونبرون وذلك في باريس في 15 فبراير 1806، وكان على بروسيا إذن أن تختار بين الحرب أو التصديق على هذه المعاهدة، واضطر فردريك وليم الثالث إلى التصديق عليها.
وبسبب هذه الانتصارات قرر نابليون في 26 فبراير 1806 إقامة قوس نصر
Arc de Triomphe
تكريما «للجيش الأعظم» الذي جعل الأمة الفرنسية تشعر بالمجد والفخار، وإن كانت لا تزال تبني آمالا عظيمة على قدرة عاهلها الذي أضفت عليه من ذلك الحين لقب «العظيم
Le Grand » في إعادة السلام إلى فرنسا ونشر ألويته في أوروبا.
وفي نظر كثيرين لم تكن تسمية نابليون بالعظيم صادرة عن رغبة في منافقة الحاكم الذي فرض ديكتاتوريته على الشعب الفرنسي، أو لإظهار فروض الطاعة والاحترام لشخصه؛ وإنما صدرت عن شعور عميق بالإعجاب والتقدير، عبر عنه الرأي العام بإضفاء هذا اللقب على العاهل الذي انتظرت الأمة الفرنسية - قبل أي شيء آخر - أن يستقر السلام على يديه في الداخل والخارج معا.
وقد بذل الإمبراطور (في يناير 1806) قصارى جهده لتصفية الأزمة المصرفية، كما أعاد النظر في تنظيم بنك فرنسا؛ فاستصدر في 22 أبريل 1806 قانونا جعل من هذا المصرف مؤسسة حكومية، ويشرف على إدارته مدير تعينه الحكومة، وإلى هذا العهد كذلك يرجع تاريخ الإجراءات التي اتخذت بشأن الأوضاع السائدة وقتئذ في الحكومات أو الدويلات التي أقامها نابليون في ألمانيا وإيطاليا.
ففيما يتعلق بإيطاليا أعلن الإمبراطور منذ 26 ديسمبر 1805 وهو في شونبرون، أن «ماري كارولين ملكة نابولي - التي عرف الناس علاقاتها المشينة مع نلسن - لم تعد تحكم نابولي»، وفي 19 يناير 1806 كتب إلى أخيه جوزيف من شتوتجارت
Stuttgart
أنه يريد إنهاء حكم البربون في نابولي، وأنه يريد أن يعتلي عرش هذه المملكة أحد أفراد أسرته، وبذلك تكون إيطاليا وسويسرة وهولندة وممالك ألمانيا الثلاث (بفاريا وورتمبرج، وربما برج
Berg
بعد رفعها إلى مرتبة المملكة) الدول التابعة لنابليون والمتحدة اتحادا فدراليا مع فرنسا والتي تتألف منها الإمبراطورية الفرنسية، وقبل جوزيف بونابرت إنشاء إدارة في نابولي بحماية القائدين الفرنسيين جوفيون سان سير، وماسينا.
وفي 30 مارس 1806 أعلن جوزيف ملكا على الصقليتين، أي على نابولي، دون أن يفقد حقوقه في عرش فرنسا، واضطر فردنند الرابع ملك نابولي وزوجه «وأسرته» إلى الاحتماء في جزيرة صقلية حيث نقلهما الأسطول الإنجليزي إليها، وقد ذكرنا كيف أن شقيقته «باولين» أعطيت إدارة جواستالا، وكذلك أعطيت شقيقته الأخرى «إليزا» إمارة لوقا وبيومبينو
، ثم أعطيت بعد قليل غراندوقية تسكانيا، وهكذا لم يعد مستقلا في أملاكه بإيطاليا غير البابا الذي احتج على احتلال الفرنسيين «أنكونا» في 13 نوفمبر 1805، على أن الإمبراطور لم يلبث أن قيد استقلال رئيس الكنيسة الأعلى؛ عندما أملى عليه نوع السياسة التي وجب على البابا اتباعها في علاقاته الخارجية، ومنعه من السماح لمندوبي الدول المعادية لفرنسا بمقابلته، أو لسفنها بالدخول في موانيه، وهي دول سردينيا (بيدمنت)، وإنجلترة، وروسيا، والسويد، وقد احتج البابا بيوس السابع على كل هذه القيود، ولكن دون جدوى (21 مارس 1806).
وفيما يتعلق بألمانيا؛ كانت إعادة تنظيمها مهمة أكثر صعوبة وتحتاج إلى وقت أطول، وكثير من الصبر والحذر، وقد بدأ نابليون بأن أنشأ على ضفة نهر الراين الأسفل غراندوقية برج وكليف التي أعطاها لمورا (زوج شقيقته كارولين) في 15 مارس 1806، ومع أن هذه كانت دويلة صغيرة؛ فقد كان ميسورا أن تتسع رقعتها دائما بتهديد اقتطاع هانوفر من بروسيا وضمها إليها، ثم إن نابليون مضى في «سياسة الزواج» التي أراد بها توثيق العلاقات مع الأسرات الحاكمة الألمانية؛ فزوج يوجين بوهارنيه ابن الإمبراطورة جوزفين، من الأميرة أوجستا
Augusta
ابنة مكسمليان الأول ملك بفاريا (14 يناير 1806)، وكانت هذه مخطوبة لوريث عرش بادن الأمير شارلس، الذي زوجه الإمبراطور من قريبة الإمبراطورة «ستفاني تاشر
Stephanie Tascher » في 18 أبريل 1806، ثم زوج شقيقه جيروم بونابرت من كاترين، ابنة ملك ورتمبرج (23 أغسطس 1807)؛ وبذلك صارت الأسر الحاكمة الثلاث في ألمانيا الجنوبية مرتبطة بالأسرة الحاكمة في فرنسا، وفي 6 مايو 1806 قرر نابليون إلزام كارل دالبرج
Dalberg
كبير مستشاري الإمبراطورية الألمانية وناخب ماينز ومطران راتزبون أن يختار الكردينال فيش
Fesch
عم نابليون معاونا له ، ومن حقه أن يخلفه في منصبه، ثم نال المارشال برثييه
Berthier
رئيس هيئة أركان الحرب العامة إمارة نيوشاتيل التي تخلى عنها فردريك وليم الثالث ملك بروسيا، ثم كان من نتائج هذه السياسة كذلك - سياسة ربط البيوت المالكة في أوروبا عموما بالبيت الإمبراطوري الفرنسي - أن سمى نابليون شقيقه لويس (وزوج هورتنس، ابنة الإمبراطورة جوزفين) ملكا على هولندة (26 مايو 1806).
على أنه كان في 12 يوليو 1806 أن تم في باريس توقيع المعاهدة التي تأسس بموجبها «اتحاد الراين
Confédération du Rhin » أجرأ «تعديل إقليمي» أوجده نابليون في ألمانيا، وكان هذا الاتحاد يتألف من ستة عشر عضوا هم: ملكا بفاريا وورتمبرج وغراندوقات بادن، هس درمستاد، وبرج، ثم كبير مستشاري الإمبراطورية الألمانية «الأمير كارل دالبرج» وعشرة أمراء آخرين من أصحاب الإمارات الصغيرة، ولعل أهم نتيجة عاجلة ترتبت على هذا التعديل الإقليمي؛ أن انفصمت العلاقة تماما بين «الاتحاد» الجديد، وجثمان الإمبراطورية الألمانية، واختفت من الوجود نهائيا الإمبراطورية الرومانية المقدسة، حيث قد اشترطت المعاهدة على كل عضو من أعضاء اتحاد الراين أن يبلغ المجلس الإمبراطوري (الدياط) أو الدايت
Diet
قبل يوم أول أغسطس 1806؛ أنه قد انفصل تماما عن الإمبراطورية، وفي 6 أغسطس تنازل فرنسيس (فرنسوا) الثاني عن لقب إمبراطور ألمانيا، ومن ذلك التاريخ لم يعد إمبراطورا إلا على النمسا وحدها فقط، وذلك باسم فرنسيس الأول، أما نابليون فقد أعلن نفسه «حاميا» للاتحاد، وسمى «كارل دالبرج» كبير المستشارين، أي رئيس مجلس الاتحاد (أو الدياط)، ونقل مقر الدياط الجديد من راتزبون إلى فرانكفورت، وكان على أعضاء اتحاد الراين تقديم المعونة للإمبراطور في وقت الحرب، وأما جيوش الاتحاد (من 36 ألف رجل) فقد وضعت تحت تصرف «حامي الاتحاد».
وبهذه الاستعدادات إذن استطاع نابليون مواجهة الموقف في أوروبا، ولم يكن يبدو آنئذ أن خطر الحرب قريب، بالرغم من أن إنجلترة كانت منذ 16 مايو 1806 قد منعت السفن الإنجليزية من الدخول إلى المواني الفرنسية والهولندية أو غيرها من مواني البلاد المتحالفة مع فرنسا، وهددت بمصادرة السفن الفرنسية أو سفن البلاد المحالفة لها إذا حاولت الدخول في المواني الإنجليزية والاستحواذ على المتاجر في بطون هذه السفن والقبض على الأشخاص الذين يعثر عليهم بها.
ومع ذلك فقد قامت المفاوضات - وقد اعترضتها الصعوبات - بين لندن وباريس من أجل الوصول إلى اتفاق يعيد السلام إلى أوروبا، واشترك في هذه المفاوضات الكونت دوبريل الذي كان قد أوفده القيصر إلى باريس بعد سحبه منها من نحو عامين مضيا تقريبا لهذه الغاية، وقد دارت المفاوضات حول مصبات كتارو
Cattaro (على ساحل الأدرياتيك الشرقي جنوب دلماشيا)، التي كانت قد احتفظت بها معاهدة برسبورج لفرنسا، ولكن استمر الروسيون في احتلالها منذ شهر مارس، ولما كان نابليون قد عاوده حلم تقسيم أملاك الإمبراطورية العثمانية، فقد رفض بقاء الروس في كتارو (في دلماشيا) مثلما رفض بقاء البربون (ملك نابولي وملكتها) في صقلية؛ وعلى ذلك فقد وقع الكونت دوبريل مع الجنرال كلارك
Clarke
في 20 يوليو 1806 معاهدة سلام يتخلى بمقتضاها القيصر عن كتارو، ولكن يستمر في احتلالها «الجزر السبع» و«جزر الأيونيان»، ووعد نابليون بالحصول على جزر البليار من ملك إسبانيا لإعطائها لملك نابولي (الصقليتين) ولكن القيصر إسكندر رفض التصديق على هذه المعاهدة.
وكان القيصر قد أفاد من مشغوليات نابليون، واستطالة المفاوضة معه لإعادة تنظيم جيشه، ثم إنه نجح (منذ 12 يوليو) في انتزاع بروسيا من المحالفة مع فرنسا، وكانت بروسيا تعتبر «اتحاد الراين» تهديدا مباشرا موجها لسيطرتها ولنفوذ أسرة براندنبرج - البيت الحاكم بها - في ألمانيا الشمالية، ونقمت على نابليون «مسلكه الغادر»؛ إذ إنه يعرض سرا إرجاع هانوفر إلى إنجلترة، فعدت ذلك خيانة من جانبه، على أن الموقف لم يلبث أن تغير في إنجلترة عندما مرض وتوفي شارل جيمس فوكس
Fox
في (13 سبتمبر 1806)، وتولى الحكم من جديد الحزب المناوئ لفرنسا، وضاع بذلك كل أمل في إمكان الوصول إلى تسوية مع إنجلترة.
وفي 9 أغسطس قرر فردريك وليم الثالث التعبئة العامة، وفي 26 سبتمبر بعث بإنذار إلى نابليون تنتهي مدته في 8 أكتوبر، وزحف الجيش البروسي عبر أراضي سكسونيا قاصدا إلى الراين، وعندئذ أسرع نابليون لمقابلة البروسيين؛ فوضع قواته في مواجهتهم في خط يمتد من جوتا
Gotha
إلى إيينا
Jena
من أجل الاستيلاء على «إيينا »، وتقع على نهر سال
Saal
أحد فروع نهر الإلب
Elbe ، وقطع مواصلات البروسيين بالعاصمة «برلين» بفضل السيطرة على كباري السال، فحاول البروسيون اجتياز النهر بالقوة، ولكن الفرنسيين أقاموا مدفعية قوية على المرتفعات الغربية، وأنزلوا بالبروسيين هزيمة بالغة (وقد اشترك في المعركة من قواد نابليون كل من: أوجيرو، لان، سولت، وناي، وكذلك فرسان مورا)، فحاول البروسيون العثور على مكان إلى الشمال يجتازون منه النهر ولكن دون جدوى، بل لم يلبثوا أن اصطدموا مع الفرنسيين بقيادة «دافو» عند أورشتاد
Auerstadt ، واشتبك معهم دافو في معركة حامية بالرغم من نصح الجنرال برنادوت له بالتريث (وكان على مسافة غير بعيدة منه)؛ لتفوق البروسيين عليه؛ إذ يبلغ عددهم 70000، بينما جيشه يبلغ 25 ألفا فقط، ولكن «دافو» دحر البروسيين وأرغمهم على التقهقر صوب «فايمر
Weimar »، وقد كافأ نابليون «دافو» بإعطائه لقب دوق أورشتاد، وكانت هذه الواقعة - واقعة إيينا وأورشتاد - في 14 أكتوبر 1806.
ولم تلحق الهزيمة في هذه الواقعة بالجيش البروسي وحده وحسب، بل لحقت الهزيمة بالأمة البروسية قاطبة؛ ذلك أنه بينما كان الجيش الذي استمر يطارده الفرنسيون في بوميرانيا
، وميكلمبورج
Mecklembourg
يلقي سلاحه أمام العدو، عجزت المدن المحصنة والقلاع القوية عن المقاومة، وسلمت ستيتن
Stettin
إلى طلائع فرسان الجنرال لاسال
Lassalle
في 28 أكتوبر، وسلمت مجد برج إلى الجنرال ناي في 8 نوفمبر، وفعلت ذلك أيضا كاسترين
Custrin
التي عرض حاكمها البروسي على القوة الفرنسية الصغيرة التي سلم لها أن يزودها بالقوارب لعبور نهر «الأودر»، وفي 27 أكتوبر 1806 دخل نابليون برلين، وهكذا كما قال هنريك هايني
Heine : «لقد نفخ نابليون بفمه على بروسيا، فلم يعد لبروسيا وجود.»
ولقد بقي نابليون وسط حروبه القارية هذه مشغولا كذلك بنضاله مع إنجلترة؛ فكان وهو يعسكر في برلين أن ابتكر نوعا جديدا من الحرب ضد هذه الدولة، وذلك بأن استصدر يوم 21 نوفمبر 1806 مرسومات برلين المشهورة لفرض الحصار على إنجلترة بإنشاء ما يعرف باسم «الحصار القاري
Blocus Continental »، وقد اتخذ نابليون هذه الخطوة كإجراء مضاد لقرار الإنجليز الذي مر بنا في 16 مايو ضد السفن الفرنسية، فأعلن «في مرسومات برلين» أن إنجلترة قد صار الحصار مضروبا عليها، وحرم التعامل التجاري معها والاتصال بها، وإلا تعرض فاعل ذلك للعقوبة الصارمة، وجعلت متاجر وممتلكات الرعايا البريطانيين خاضعة للمصادرة، ومنعت كل السفن الآتية من إنجلترة أو من مستعمراتها، أو التي زارت في طريقها إحدى المواني الإنجليزية من دخول المواني الفرنسية، وصار يقبض على كل الرعايا الإنجليز، سواء في فرنسا أو في البلاد المحالفة لها، أو التي تحتلها فرنسا.
وتلك كانت قرارات خطيرة، فهي ولا شك قد زادت من حدة الأزمة الاقتصادية في فرنسا وفي القارة الأوروبية، ولم يكن من المنتظر أن تتحمل الإمارات والممالك الخاضعة لسلطان نابليون - والتي تؤلف جزءا من إمبراطوريته أو تلك المتحالفة معه - مضار هذا النظام القاري طويلا، هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى فإن فرنسا لم يكن لديها البحرية التي يسعها السهر على نظام يقتضي تنفيذه وجود السفن الحربية الكافية لمراقبة الحصار المفروض على الجزر البريطانية، ثم على المواني الأوروبية في الأملاك الواسعة الخاضعة للإمبراطورية.
وكان فردريك وليم الثالث قد انسحب في تقهقره إلى كوينجزبرج
Konigsberg
ينتظر بها قيصر روسيا الذي كان يزحف على رأس جيشه صوب نهر الفستيولا، وما إن علم نابليون باحتشاد الروس عند الفستيولا حتى غادر برلين قاصدا إلى بولندة في الأيام الأخيرة من شهر نوفمبر 1806، وكان الوطنيون البولنديون يعلقون على نابليون آمالا عظيمة في أنه سوف يعيد للأمة البولندية استقلالها القديم، وأفاد نابليون من هذا الشعور نحوه؛ فأنشأ «ألايا بولنديا» من الفرسان البولنديين المشهورين بالفروسية، وضم إليهم عددا من البروسيين الفارين من صفوف الجيش البروسي، وقد يكون الإمبراطور قد فكر فعلا في إعادة تأسيس بولندة المستقلة القديمة، على أن يعوض النمسويين عن فقدهم غاليسيا التي سوف تضم إلى بولندة، وذلك بإعطائهم سيلزيا، واقترح على فرنسيس الأول إمبراطور النمسا أن يعيد إليه سيلزيا التي انتزعها فردريك الثاني (الأكبر) من ماريا تريزا، وأضافها إلى أملاك بروسيا، ولكن الإمبراطور لم يذهب في نشاطه إلى أبعد من هذا، عندما كان كل ما اهتم به هو أن يمتنع عن فعل شيء فيه إغضاب لروسيا التي كان يبغي الاعتماد عليها في نضاله ضد إنجلترة، وهي الدولة التي كان من المستعصي عليه عقد السلام معها.
واتخذ نابليون مقره في وارسو التي وصل إليها في 19 ديسمبر 1806، وأقام معسكره بها، (وكان عندئذ أن تعرف بماري والسكي
Walweska
المشهورة)، ومن وارسو أثناء شتاء 1806-1807 صار نابليون يحكم الإمبراطورية، ويشرف على الحكومة، ويصدر أوامره لأعضاء مجلس الدولة الذين حضروا إليه لتلقي هذه الأوامر، ومن المتفق عليه أن نشاط نابليون الذهني قد بلغ ذروته مدة إقامته في معسكر وارسو.
ولم يلبث الروس، الذين تولى قيادتهم الآن الجنرال بنيجسن
Bennigsen
أن استأنفوا نشاطهم في منتصف شهر يناير 1807، وحاول أن يقسم الجيش الفرنسي إلى قسمين، بتوجيه الهجوم ضد قوات برنادوت الذي وقف عند طرف الجناح الأيسر عند البنج
Elbing
على أمل الإلقاء به وبجيشه إلى البحر «البلطيق»، ولكن برنادوت قاوم هذه المحاولة مقاومة صادقة عند «موهرونجن
Mohrungen » (في 26 يناير 1807)، وعندئذ تحول بنيجسن صوب كونيجزبرج خشية أن يستطيع نابليون تطويق جيشه، وفي طريقه إلى هذا المكان الأخير توقف عند «إيلو
Eylau » حيث دارت بهذا المكان رحى معركة عظيمة وسط الثلوج المتساقطة والتي غطت أرض المعركة، وكانت بمثابة الستار الكثيف الذي يحجب حركات الجيوش المتقاتلة (8 فبراير 1807)، فقد كاد يقضي على قوات الجنرال «أوجيرو» بسبب هذا الثلج الكثيف؛ لعجزه عن ملاحظة تحركات الجيش الروسي؛ فاستطاع الفرسان الروس الإحاطة بنابليون، وكاد هؤلاء أن يأسروه لولا هجمات الجنرال مورا الباسلة، وقد استطاع «مورا» اختراق صفوف المشاة الروس، ثم كفل تحقيق النصر أخيرا وصول «دافو» و«ناي».
وبعد هذا النصر (الغالي الثمن) في أيلو، عسكر نابليون «بالجيش الأعظم» عند أوسترود
Osterode ، التي صار يبعث منها الأوامر والتعليمات إلى الحكومة بباريس، يطلب إقامة الأعياد احتفالا بالانتصارات التي أحرزها الجيش، ويؤنب الصحف على الأخطاء التي ترتكبها، ويدافع عن ذكرى ميرابو الذي هاجمه أحد أعضاء المجمع العلمي، ويأمر بطرد مدام دي ستال
Staël ... إلى غير ذلك.
وفي أول أبريل 1807 استقر به المقام في قصر فينكنشتاين
Finckenstein (إلى الشمال الغربي من أوسترود، وكلاهما في بروسيا الشرقية)، وفي هذا المكان أخذ يعد الخطة ويدبرها ضد روسيا: (1) فهو من نهاية مارس كان قد بدأ حصار دانزج
Danzig
وكانت ذات أهمية كبيرة بسبب المؤن العظيمة المخزونة بها، ولموقعها الإستراتيجي على ميسرة «الجيش الأعظم»، حيث يمكن أن تنزل بها القوات الروسية والإنجليزية أو السويدية، وكان يقوم البروسيون بقيادة المارشال كالكروت
Kalkreuth
عن دانزج ضد الفرنسيين الذين يحاصرونها بقيادة ليففر، وقد سلمت دانزج في 26 مايو. (2) ثم إن سباستياني ممثل الإمبراطور في تركيا، استطاع أن يجعل السلطان العثماني «سليم الثالث» يعلن الحرب على روسيا في 24 ديسمبر 1806، وكان الروس قد غزوا ملدافيا (البغدان)، ثم إنه قام بتحصين القسطنطينية بدرجة جعلت الأسطول الإنجليزي بقيادة دكويرث
Duckworth - بعد أن كان قد اقتحم الدردنيل في 19 فبراير 1807 - يرتد على أعقابه في 2 مارس، ولقد صار «سباستياني» المستشار الفعلي للسلطان الذي قرر إرسال جيش عثماني على نهر الدانوب من أجل الانضمام إلى جيش القائد الفرنسي مارمون
Marmont
الذي يحتل دلماشيا. (3) ثم إن نابليون لم يلبث أن أبرم في فينكنشتاين معاهدة مع فارس للمحالفة ضد روسيا وإنجلترة في 4 مايو 1807.
وبفضل هذه الخطوات إذن صار يبدو أن روسيا - ابتداء من حدودها الجنوبية عند تركيا وفارس إلى حدودها الشمالية عند البلطيق - قد باتت تحت رحمة نابليون، ولكن كان لا مفر من إحراز نصر حاسم، وبدرجة أعظم مما حصل في إيلو، حتى يرضخ الروس الذين صلوا لله شكرا على النصر الذي زعموه لأنفسهم في هذه المعركة، ويرضخ حليفهم فردريك وليم الثالث الذي كان بعد واقعة إيلاو هذه قد جدد اتفاقه مع الروس في بارتنشتاين
Bartenstein
منذ 26 أبريل 1807.
وعند فريدلاند
Frideland
إذن في 14 يونيو 1807، وهو يوم ذكرى واقعة مارنجو، أنزل الفرنسيون هزيمة بالغة بالروس الذين اضطر قائدهم بينجسن
Bennigsen
إلى الفرار بفلول جيشه صوب نهر النيمين «نيامن
Niemen »، والتخلي عن الدفاع عن كونيجزبرج التي دخلها «سولت» في 17 يونيو، واشترك من القواد في واقعة فريدلاند كل من لان
Lannes ، ومورتيه
Mortier ، وناي
Ney ، ثم مورا الذي لم يلبث مع فرسانه أن احتل تلست
Tilst
يوم 19 يونيو.
وشعر القيصر إسكندر بالخيبة بعد توالي هذه الهزائم وضاعت ثقته في حلفائه، ورغب في السلام؛ فطلب مقابلة نابليون، واستجاب الإمبراطور لهذه الرغبة ، فأعد لمقابلة العاهلين رمث وسط مجرى النيمن يوم 25 يونيو، واستطاع نابليون وإسكندر تقرير مبادئ الصلح بكل سرعة، وعبثا حاول الاطمئنان على مصير بلاده، ملك بروسيا فردريك وليم الذي انتظر واقفا على الشاطئ تحت المطر الغزير مدة الساعات الثلاث التي استغرقتها مقابلة العاهلين، وقد وافق نابليون - إرضاء للقيصر - على عقد الهدنة مع بروسيا، ولكنه رفض إرجاع حصونها إليها.
وفي اليوم التالي (26 يونيو) حصل اجتماع ثان حضره فردريك وليم، ولكن نابليون أظهر كل ازدراء نحو الرجل الذي وصفه بضيق الأفق، وضعف الشخصية ونقص الكفاءة، وعبثا حاولت لويزا ملكة بروسيا إنقاذ بلادها بذرف الدموع والإلحاف المستند على جمالها، حيث تقرر أن تكون بروسيا الدولة التي تتم تسوية الصلح على حسابها، فتم توقيع الصلح بين فرنسا وروسيا في 7 يوليو 1807 «في تلست»، وفي 9 يوليو بين فرنسا وبروسيا، ففقدت بروسيا كل أراضيها غرب نهر الإلب، والولايات البولندية التي كانت قد ضمتها إليها في تقسيم 1793، ثم الجزء الجنوبي من بروسيا الغربية الذي كانت قد حصلت عليه في سنة 1772، وهذا بينما أعطيت «كوتباس
Cottbus » إلى سكسونيا، وصارت دانزج مدينة حرة تحت حماية سكسونيا وروسيا المشتركة، وقد رضي نابليون أن تبقى بروسيا مكونة من مديريات أو أقاليم أربعة فقط هي: دوقية براندنبرج، ودوقية بوميرانيا، ثم سيليزيا العليا وسيليزيا السفلى، أي بالرقعة التي كانت عليها مملكة بروسيا في بداية سنة 1772، وعلل نابليون موافقته على الإبقاء على بروسيا بحدودها المنكمشة هذه بأنه إنما فعل ذلك استجابة لرغبة قيصر روسيا، الذي يهم نابليون أن يقيم الدليل بالإبقاء على بروسيا نزولا على رغبته، على أنه يعتز بصداقة إسكندر ويبغي أن يقوم بين الدولتين - روسيا وفرنسا - اتحاد على أسس من الصداقة الخالصة والثقة الكاملة، وهكذا فقدت بروسيا نحو نصف مساحتها ونصف عدد سكانها الذين صاروا الآن أقل من خمسة ملايين نسمة، وزيادة على ذلك فقد طلب من بروسيا الاعتراف بالإمارات والممالك التي أوجدها نابليون، فهي (أي بروسيا) قد تخلت عن أقاليمها على يسار نهر الإلب ليضيف إليها نابليون الجزء الأكبر من هانوفر، ويؤسس من هذه الأراضي مملكة وستفاليا التي نودي بأخيه جيروم ملكا عليها، ثم إن بروسيا فقدت ولاياتها البولندية لتتألف منها دوقية وارسو تحت حكم ناخب سكسونيا الذي صار ملكا، بينما أعطيت بيالستوك
Bialystok
لروسيا، وبمقتضى المادة السابعة والعشرين من معاهدة 9 يوليو تعهد فردريك وليم بإغلاق بلاده في وجه السفن والتجارة الإنجليزية.
وفي المعاهدة التي وقعت بين فرنسا وروسيا (في 7 يوليو 1807)، ذكرت موادها كل هذه الأقاليم التي أخذت من بروسيا، وأن بروسيا لم تستبق ولاياتها الأربع السالفة الذكر إلا احتراما من نابليون لرغبة القيصر.
وكان نابليون قد اقترح بالفعل إزالة بروسيا من الوجود كلية؛ حتى يصبح نهر الفستيولا الحد الفاصل بين الإمبراطوريتين الفرنسية والروسية، ثم إن المعاهدة ذكرت كذلك الطريقة التي أراد بها الفصل في مصير هذه الأراضي المأخوذة من بروسيا لإنشاء مملكة وستفاليا ودوقية وارسو.
وقد اعترف القيصر إسكندر بكل هذه الإجراءات والترتيبات، كما اعترف بتلك التي سبق أن أجراها نابليون في ألمانيا وإيطاليا، ثم تخلى القيصر عن كتارو وجزر الأيونيان، ووعد بالاعتراف بجوزيف بونابرت ملكا على نابولي (الصقليتين) إذا أعطي ملكها فردنند جزر البليار أو جزيرة كريت تعويضا له، وكان القيصر - كما سلف القول - قد رفض التصديق على المعاهدة التي وقعها مندوبه الكونت دوبريل في باريس في يوليو من العام السابق بشأن كتارو والأيونيان والبليار، وإلى جانب هذا قبل القيصر وساطة نابليون لعقد السلام بين تركيا وروسيا، بينما قبل نابليون وساطة القيصر لعقد السلام بين فرنسا وإنجلترة.
وفي اليوم نفسه (7 يوليو) أبرمت معاهدة سرية لعقد محالفة بين فرنسا وروسيا، تعهد الحليفان بمقتضاها بمعاونة كل منهما الآخر بكامل قواته، أو بالقدر الذي يحصل الاتفاق عليه عند نشوب القتال بين أحد الطرفين وبين أية دولة أوروبية، ونصت على أن يبلغ قيصر روسيا نواياه إلى إنجلترة بأنه سوف ينحاز إلى جانب فرنسا إذا رفضت إنجلترة وساطة روسيا، أو رفضت إبرام الصلح حتى يوم أول نوفمبر 1807 على أساس اعترافها بحق الدول في حرية الملاحة في البحار، والتخلي عن كل الفتوحات التي استولت عليها إنجلترة منذ 1805 في مقابل إعادة هانوفر إليها، وفي هذه الحالة تدعى الدنمارك والسويد والبرتغال والنمسا لإعلان الحرب على إنجلترة، فإذا رفضت السويد ذلك دعيت الدنمارك للقتال المشترك ضدها.
ونصت المعاهدة السرية على أنه إذا رفضت تركيا وساطة فرنسا انحازت هذه إلى جانب روسيا ضد الباب العالي، وفي هذه الحالة تتفق الدولتان (روسيا وفرنسا) على تحرير كل الولايات الأوروبية الخاضعة للدولة العثمانية، فيما عدا الروملي والقسطنطينية، وهكذا يكون نابليون قد تخلى عن صداقته ومحالفته لتركيا.
ولقد تذرع نابليون - لتبرير هذه الخطوة المنطوية على الخديعة - بأن مؤامرة في السراي طوحت بعرش السلطان سليم الثالث، وأفضت إلى موته يوم 29 مايو 1807، ليتولى مكانه السلطان مصطفى الثالث، فإن نابليون عند وصول أبناء هذا الانقلاب إلى تلست لم يلبث أن اعتبره من فعل الإله لإقامة الدليل على أن الإمبراطورية العثمانية لم يعد ممكنا بقاؤها.
وتم التصديق على المعاهدة الروسية الفرنسية في تلست يوم 9 يوليو، ولقد ترتب على هذه الاتفاقات التي أبرمت في تلست أن تدعم نفوذ نابليون في القارة الأوروبية بأسرها، وبالصورة التي تجعله قادرا على أن يجعل من «الحصار القاري» أداة فعالة يهدد بها إنجلترة، فالجنود الفرنسيون يحتلون دانزج - المدينة الحرة - وبروسيا تحتلها القوات الفرنسية حتى تدفع الغرامة المفروضة عليها، والقيصر إسكندر قد اعترف بالتغييرات الإقليمية التي حصلت في ألمانيا: إنشاء اتحاد الراين، ومملكة وستفاليا، كما اعترف بمملكة هولندة «وملكية لويس شقيق الإمبراطور عليها»، وبمملكة نابولي في إيطاليا وملكها جوزيف بونابرت.
أما نابليون فقد عاد إلى باريس في 27 يوليو، وكتب الكونت دي سيجور
Ségur (كبير الأمناء) في مذكراته:
إن الإمبراطور في ثمانية عشر شهرا اشتبك في مائة واقعة وأربع معارك كبيرة، وحطم أربعة جيوش وخلق ستة ملوك جدد (هم ملكا بفاريا وورتمبرج سنة 1806، وملك سكسونيا سنة 1807، ومن بين أفراد أسرته جوزيف بونابرت، ملك نابولي، ولويس بونابرت ملك هولندة سنة 1806، وجيروم بونابرت ملك وستفاليا سنة 1807)، ثم إن جميع الدول العظمى في القارة الأوروبية من بطرسبرج إلى نابولي الذين كانوا قد تحالفوا ضده بمسعى إنجلترة تحولوا الآن ضد هذه الدولة.
لقد بلغت الإمبراطورية النابليونية في تلست أوج رفعتها، ولقد كان نابليون نفسه يدرك هذه الحقيقة، ويعترف بأن أسعد أيام حياته كانت تلك التي اقترنت بالانتصارات السياسية والعسكرية التي توجتها اتفاقات تلست، فقد سئل فيما بعد وهو بمنفاه في سانت هيلانة عن أسعد الأوقات في حياته، فأجاب: «ربما كانت هذه أيام أن كنت في تلست؛ فقد كنت متوجا بأكاليل النصر، أملي القرارات وأسن القوانين، ويحف بي الأباطرة والملوك كأنهم من رجال حاشيتي.»
وفي فرنسا نفسها كان الإمبراطور يستمتع بالسيطرة المطلقة؛ فلا مقاومة ولا اضطرابات، فهو قد أنقص عدد المسارح الشعبية في باريس إلى ثمانية فقط، بمقتضى قرار 29 يوليو 1807 الذي مر بنا ذكره، على أن أهم تغيير حدث في هذه الفترة لدعم أركان سيطرة الإمبراطور الفردية كان اتخاذ بعض الإجراءات ضد «مجلس التربيون» الذي وصف بأنه لا يزال يحتفظ - بعض الشيء - بذلك الروح المضطرب الديمقراطي الذي تسبب - من مدة طويلة - في إثارة المتاعب بفرنسا، فقد صدر قرار من مجلس الشيوخ في 19 أغسطس 1807 بإلغاء مجلس التربيون، وبأن ينضم أعضاءه إلى المجلس التشريعي الذي جعل سن القبول به لا يقل عن الأربعين سنة، وانتقلت اختصاصات مجلس التربيون إلى ثلاث لجان من هذا المجلس التشريعي.
وفي 15 أغسطس 1807 احتفلت باريس بالنصر الباهر الذي أحرزه نابليون، احتفالا فاق بفخامته كل الاحتفالات السابقة، وكان هذا الاحتفال - بشهادة «فوشيه» - احتفالا «قوميا» بكل ما ينطوي عليه هذا الوصف من معنى؛ فلم يكن الاحتفال - على حد قول فوشيه - لتكريم البطل نابليون، بل لتمجيد العاهل الذي شاء الإله أن يكون هدية السماء إلى الأمة الفرنسية.
ومع ذلك فمما لا شك فيه أن تلك الإمبراطورية - التي بلغت أوج الرفعة في تلست - كانت نتيجة جهود بذلها شخص واحد، وارتبط مصيرها بمصيره، وهي إمبراطورية كان من الواضح أن بقاءها مرتهن كذلك بدوام تلك المحالفة مع روسيا، وهي المحالفة التي اعتمد عليها نابليون في تنفيذ سياسة الحصار القاري، أكبر إجراء موجه ضد إنجلترة، ارتبط بنجاحه بقاء الإمبراطورية النابليونية، كما كان لا معدى عن انهيار الإمبراطورية في النهاية إذا قدر له الفشل، ولكن المحالفة مع روسيا لم تكن عملا من المنتظر دوامه، ومن الواضح أن ثمة عوامل عديدة تجعل هذه المحالفة بين العاهلين إجراء شخصيا لا يستند إلا على أطماعهما ومصالحهما الذاتية فحسب، ولا يستهدف تسوية تكفل الاستقرار في أوروبا، فإذا حدث أي اختلاف بينهما انحلت المحالفة.
وقد تحدق الأخطار بعدئذ بالإمبراطورية من كل جانب، وذلك كان مبعث الضعف في ذلك الصرح الشامخ الذي أقامه العاهل الفرنسي في تلست، وكما كتب دي سيجور أيضا: إن اليد التي رفعت عماد هذا البناء في وسعها وحدها أن تحفظه قائما، وفي وسعها وحدها كذلك أن تهدمه.
وفي السنوات التالية سوف تبرهن الحوادث على مبلغ صدق هذه الملاحظة.
الفصل الرابع
أزمة الإمبراطورية: الحصار القاري
1807-1811
كانت الأغراض التي استهدف نظام الحصار القاري تحقيقها ثلاثة: أولها؛ موافقة الدول «في القارة» الأوروبية بأسرها، سواء بطريق الرضا أو بإرغامها على إغلاق كل موانيها دون التجارة البريطانية، وثانيها: استبدال السلع التي تنتجها المصانع الأوروبية «في القارة» بالمصنوعات البريطانية، وثالثها: تحقيق السلام البحري وضمان حرية البحار، وانتزاع ذلك انتزاعا من العدو المشترك «بريطانيا» بهدم اقتصاديات الإنجليز وتحطيم بحريتهم، بفضل تحالف القوات البحرية في أوروبا بأسرها ضدهم.
وتوقف الوصول إلى هذه الأغراض الثلاثة على استطالة المدة التي يبقى فيها نظام الحصار القاري نافذا، وبمعنى آخر؛ المدة التي تظل فيها أوروبا خاضعة لسيطرة نابليون وتدين بالطاعة له، في وقت كان لا بد أن تئن حكوماتها وشعوبها من وطأة هذا النظام القاري عليها، عندما ترتب على تنفيذه حرمان القارة الأوروبية من السلع والمواد الضرورية، وغلاء الأسعار غلاء فاحشا، ووقف كل تجارة بحرية، وتعطيل النقل البري وعجزه عن إمداد الأسواق بحاجاتها بدرجة كافية أو في صورة رتيبة منظمة، وانتشار الكساد في التجارة الداخلية، وذلك في حين أنه كان من المتعذر على الشعوب في أجزاء القارة التي خضعت للسيطرة الفرنسية إدراك الغرض الذي سعى نابليون إليه من هذا النظام الصارم الذي فرضه عليهم، وتعذر على نابليون والسلطات الفرنسية إقناعهم بأن من الخير لهم التضحية بحاضرهم - وذلك بترويض أنفسهم على الحرمان وشظف العيش في ظل الإمبراطورية - من أجل مستقبل كان - على أحسن الفروض - يحوطه الغموض والإبهام من كل جانب.
ومع ذلك فقد كان نابليون صحيح العزم على تنفيذ نظام الحصار القاري، وكان اعتماده في ذلك - على نحو ما ذكر هو نفسه - أن يدع القوات البرية (الجيوش) تقهر القوات البحرية (الأساطيل)، وتلك محاولة اقتضته أن يشن حربا مدبرة وطويلة الأجل ضد إنجلترة، وكان لا معدى - في الوقت نفسه - لاستمرار هذه الحرب المدبرة بنجاح ضد إنجلترة، أن يتدخل في شئون الأمم، سواء ما خضع منها لسلطانه المباشر كجزء من إمبراطوريته، أو كانت تربطها بعجلة هذه الإمبراطورية معاهدات التحالف والصداقة.
ولم يكن متيسرا - في ظل هذا النظام القاري - أن تقف دولة من الدول في أوروبا موقف الحياد من الحرب القائمة، فتلك التي لا تقاتل إلى جانبه هي بالضرورة في صف أعدائه، فاضطرت الدنمارك إلى إعلان موقفها إلى جانب نابليون، وضرب الأسطول الإنجليزي عاصمتها كوبنهاجن في أول سبتمبر 1807، وحطم سفنها وكل عتاد الحرب في ترسانتها، وفي 7 سبتمبر قررت الحكومة الدنماركية تسليم بقايا أسطولها «للإنجليز»، وبقيت السويد إلى جانب إنجلترة، وكان حينئذ أن استطاع القيصر إسكندر وفقا لمعاهدة تلست، أن يستولي منها على فنلندة (في فبراير 1808).
وأما البرتغال فقد كانت تربطها بإنجلترة معاهدة صداقة وتجارة من الأزمنة القديمة (1703)، وتثق في قوة البحرية الإنجليزية ضد اعتداءات وأطماع الإمبراطور نابليون، ورفضت الحصار القاري، وعندئذ أعلن نابليون من فونتنبلو
Fontainebleu
عزل بيت براجنزا
Braganza
من الحكم، وهي الأسرة الحاكمة في البرتغال (في 29 أكتوبر 1807)، وأعد مع السفير الإسباني إيزكويردو
Izquierdo
مشروعا لتقسيم أملاك البرتغال.
وفي المعاهدة السرية التي أبرمت في فونتنبلو في 27 أكتوبر أعطيت البرتغال الشمالية (لوزيتانيا
Lusitania
وهو الاسم القديم للبرتغال) مع ميناء أوبرتو
Oporto
كعاصمة لها؛ إلى ماري لويز ملكة إتروريا
Etruria «بإيطاليا» على أن تتنازل هذه عن مملكة إتروريا إلى إليزا بونابرت التي طلب إليها منذ 23 نوفمبر أن تتسلم مقاليد الحكم بها.
وفي نفس المعاهدة أعطيت البرتغال الجنوبية إلى مانويل جودوي
Godoy (أمير السلام، ومحظي الملك الإسباني) كما نال لقب أمير الغرب
Algrave (المقاطعة الجنوبية في البرتغال)، وأما ما تبقى من البرتغال، وهو لشبونة وما حولها، فقد تركت لتحتلها قوات نابليون إلى أن يحين الوقت عند عقد السلام العام لإرجاعها إلى شارل الرابع ملك إسبانيا وصاحب السيادة على لوزيتانيا (أي البرتغال الشمالية) والغرب (البرتغال الجنوبية)، وإمبراطور الأمريكتين (أمريكا الإسبانية، والأخرى البرتغالية).
وعلى ذلك فقد عهد إلى القائد الفرنسي «جونو
Junot » بمهمة احتلال البرتغال، فزحف «جونو» على طول نهر التاغوس
Tagus
وأوقع بالبرتغاليين هزيمة حاسمة عند أبرانتس
Abrantés «على النهر» دخل بعدها لشبونة في 30 نوفمبر 1807 ليجد يوحنا السادس صاحب الحكم في البرتغال قد أبحر قبل ذلك بأيام ثلاثة فقط من لشبونة قاصدا إلى البرازيل ليتخذ مقر حكومته بها.
أما إنجلترة فكانت تمر وقتئذ في أزمة اقتصادية طاحنة، يخشى من استفحال نتائجها الاجتماعية والمالية من حيث زيادة التعطل عن العمل وانتشار البطالة، وهبوط قيمة الأوراق المالية، وارتفاع الدين العام من 260 إلى 871 مليون جنيه، ومع ذلك فقد كانت مصممة على الاستمرار في مقاومة الحصار القاري، وكانت الوزارة القائمة هي وزارة المحافظين «حزب التوري
Tory » برئاسة دون بورتلاند
، وقد خلفت هذه وزارة الأحرار حزب الويجز
Whigs (برئاسة جرنفيل
Grenville ) في مارس 1807، وكان من أعضاء الوزارة الجديدة كل من كاسلريه وزيرا للحرب، وجورج كاننج للسياسة الخارجية، وكان كاسلريه وكاننج قد صح عزمهما على أن تسلك الحكومة مسلكا قويا في سياسة المقاومة ضد نابليون، وكانت وزارة جرنفيل السابقة قد اتخذت منذ يناير 1807 قرارات تجيب بها على مرسومات برلين، وذلك بأن أعلنت الحصار على كل المواني الفرنسية ومواني البلاد التابعة لها أو الدول المعترفة بمرسومات برلين، فلم تلبث وزارة بورتلاند - لإظهار استيائها من مرسومات برلين - أن استصدرت قرارات أخرى في 11 نوفمبر 1807، نزل بسببها إرهاق شديد على سفن الدول المحايدة كلها بما في ذلك سفن الدول الصديقة أو حتى المتحالفة مع الإنجليز أنفسهم، فأخضعتها هذه القرارات لحق تفتيش البحرية الإنجليزية لها، وألزمتها فوق ذلك بالوقوف في إحدى مواني بريطانيا (المملكة المتحدة) أو في جبل طارق ومالطة، ودفع إتاوة تعسفية على المتاجر التي في بطونها، والحصول على مأذونية أو ترخيص بالتجارة؛ ليتسنى لها الدخول في إحدى المواني الإنجليزية إطلاقا.
فلقيت الدول المحايدة عناء شديدا، وكانت الولايات المتحدة الأمريكية في طليعة الدول التي ألحقت بها هذه القرارات أذى كبيرا، حتى إنها استصدرت قانونا في 8 ديسمبر 1807 لتنفيذ قانون سابق كان قد صدر في العام الماضي (1806) لمنع التبادل التجاري مع الدول الأوروبية، وطلب جفرسون
Jefferson (رئيس الولايات المتحدة) من الكونجرس استصدار قرارات لإغلاق المواني الأمريكية في وجه التجارة الأجنبية.
وكان يبدو أن نابليون في وسعه - إذا شاء وقتئذ - الاستفادة من شعور الاستياء المتزايد هذا ضد إنجلترة، ولكنه - وقد صمم على المضي في سياسة الحصار القاري إلى النهاية - لم يلبث أن أجاب على إجراءات الإنجليز بأن استصدر في 12 ديسمبر 1807 «مرسوم ميلان» الذي نص على أن كل سفينة - مهما كانت الدولة التي ترفع هذه السفينة علمها - تخضع لتفتيش السفن الإنجليزية، أو ترغم على الرحلة إلى إنجلترة، أو تدفع إتاوة ما إلى الحكومة الإنجليزية، تفقد بسبب هذا الفعل نفسه جنسيتها، وينتهي تمتعها بالضمان الذي يخوله لها علمها الذي ترفعه، وتعتبر أملاكا إنجليزية.
وعلى ذلك فإن «مرسوم ميلان» جاء مكملا لمرسومات برلين في شدتها وصرامتها، وعده نابليون إجراء لا غنى عنه لمواجهة ذلك «النظام الوحشي» - على حد وصفه له - الذي أخذت به إنجلترة، وقال: إن العمل بهذا الإجراء لن ينتهي إلا إذا عاد الإنجليز إلى الاعتراف بحقوق الإنسان واحترموا مبادئ العدالة والشرف.
وتنفيذا لمرسومات برلين وميلان إذن، ولتضييق الحصار القاري المضروب على إنجلترة بضمان إغلاق المواني الأوروبية في وجه السفن الإنجليزية، ومنع كل اتصال بين القارة الأوروبية وإنجلترة، لم يلبث نابليون أن اتخذ من الخطوات ما اعتقد أنه قمين بتأكيد سيطرته على أوروبا.
ففي إيطاليا احتل قائده الجنرال ميوليس
Miollis
روما في 2 فبراير 1808، ولم تمض أسابيع قليلة حتى كانت أدمجت في مملكة إيطاليا كل من مقاطعات أنكونا وأربينو
Urbino
التي انتزعت من الأملاك البابوية.
وفي إسبانيا تزايد تدخل نابليون في شئونها بصورة نشيطة، بسبب الخلافات الناشبة بين أعضاء الأسرة المالكة الإسبانية والتي هددت بزوال نفوذ مانويل جودوي، محظي الملك شارل الرابع، فقد أراد ولي العهد - فردينند (فردينند السابع فيما بعد) ويبلغ الثالثة والعشرين من عمره - التخلص من جودوي، مدفوعا إلى ذلك بتحريض حاشيته؛ لإنهاء النفوذ السيئ الذي كان لهذا الوزير على والديه ، ولكي يصل هو إلى الحكم والسلطة، وكان فردينند مترملا من مدة قصيرة، فأوحى إليه السفير الفرنسي في مدريد «أوجيه بوهارنيه» أن يطلب من نابليون (في 12 أكتوبر 1807) يد إحدى أميرات بيت بونابرت، فلم تمض أيام على «مؤامرة» فردينند حتى ألقت الحكومة القبض عليه وعلى معاونيه (في 29 أكتوبر)، لتفك إسارهم بمجرد أن علمت الحكومة بأن هذه «المؤامرة» غرضها المحالفة مع البيت البونابرتي، وتقدم الملك شارل الرابع نفسه يطلب رسميا إتمام هذه المصاهرة (18 نوفمبر 1807).
وكان الفرنسيون قد استطاعوا التوغل في الأراضي الإسبانية قبل هذه الحوادث، بدعوى إرسال الإمدادات إلى البرتغال (وقد عرفنا أن جونو لم يلبث أن احتل لشبونة في 30 نوفمبر 1807)، وبدعوى حماية إسبانيا نفسها بمنع الإنجليز من إنزال قواتهم في أراضيها عن طريق جبل طارق، فاستطاع القائد «مورا» على رأس جيش من ثمانين ألفا أن يجتاز جبال البرانس، وأن يحتل المواقع الاستراتيجية والحصون في إسبانيا الشمالية، يعاونه في ذلك القواد: مونسي
Moncey ، وبسيير
Bessières ، وديبون
Dupont
تحت إمرته، وأن يزحف على العاصمة مدريد (ودخل مورا مدريد في 23 مارس 1808).
على أنه بينما تمكن نابليون من بسط سيطرته على إيطاليا، وإلى درجة كبيرة - كما يبدو - على إسبانيا، كان من واجبه أن يبذل قصارى جهده لتهدئة قيصر روسيا حليفه، وإزالة مخاوفه، وإقناعه - تبعا لذلك - بالاستمرار على تنفيذ سياسة الحصار القاري ضد إنجلترة، وكان الذي يقض مضجع القيصر إسكندر إنشاء غراندوقية وارسو «على يد نابليون، وفي معاهدة تلست»، فقد اعتبر القيصر إنشاء هذه الغراندوقية محاولة جدية لبعث وإحياء مملكة بولندة القديمة، وفي ذلك خطر على كيان الإمبراطورية الروسية ذاتها ويهدد بانحلالها، أضف إلى هذا أنه كان يخشى من أن تصبح بولندة عند إحيائها ملجأ لليهود «المشردين في أنحاء الأرض» يحشدون بها قوتهم لتهديد الكنيسة الأرثوذكسية (كنيسة روسيا).
ومع أن المحالفة الروسية الفرنسية لقيت كل تعضيد من حكومة القيصر التي تولى فيها روميانتزوف
Roumiantsov
وزارة الخارجية، وسبيرانسكي
Speranski
وزارة الداخلية، ولكن أحدا من النبلاء (الطبقة الأرستقراطية) أو رجال البلاط ما كان يؤيد هذه المحالفة، ولم يشأ النبلاء العسكريون أن يتناسوا ذكرى معركة إيلو (8 فبراير 1807) التي انهزموا فيها، وإن كانوا قد زعموا لأنفسهم النصر بسبب الخسائر الفادحة التي تكبدها الفرنسيون في هذه الواقعة - على نحو ما سبق ذكره في موضعه - فاحتفلت روسيا بأسرها وقتئذ بهذا النصر، زد على ذلك أن طبقة ملاك الأرض «بويار
Boyar » كانت متأثرة بمصالحها فحسب، فهي لا تكاد تجد ما تبيعه لفرنسا، بينما كانت إنجلترة الدولة التي تحتاج بحريتها العظيمة إلى الأخشاب والقنب لصناعة السفن، وتباع هذه الأشياء من أملاك البويار الواسعة، فحرمهم الحصار القاري من أهم مواردهم، وأظهرت الأرستقراطية الروسية شعورها نحو فرنسا بمحاولة الابتعاد دائما عن السفير الفرنسي الجديد «سفاري
Savary »، وقد اعتبره النبلاء مسئولا عن مقتل دوق دانجيان، في حين أنهم صاروا يقربون إليهم «المهاجرين» الفرنسيين، مثل الدوق دي ريشيلو
Richelieu ، أو سفير بيدمنت «بيت سافوي» الذي أسقطه نابليون، وكان السفير «جوزيف دي ميستر
Maistre » صاحب شهرة، عاش في بطرسبرج خمسة عشر عاما (1802-1817)، وسجل أحداثها في مذكرات معروفة باسم «أمسيات سان بطرسبرج
Sorées de Saint-Pétersbourg ».
ومع ذلك فقد بذل نابليون قصارى جهده لإقناع القيصر بالإبقاء على المحالفةفتنازل فردينند السابع في الفرنسية، ولاستلال سخيمة النبلاء الروس، وصار يلوح أمام ناظري إسكندر بالمزايا العظيمة التي سوف تعود على روسيا في القريب العاجل عندما يستطيع الحليفان - وبإشراك النمسا معهما كذلك - الزحف صوب القسطنطينية، ثم صوب الدجلة والفرات؛ للسير من هذه الجهات إلى الهند.
وعندما تعين «كولنكور
Caulaincourt » سفيرا لدى روسيا في مكان «سفاري»، طلب منه نابليون في 2 فبراير 1808: «أن يبلغ القيصر أن رغبات نابليون هي رغباته، وأن «النظام» الذي أوجده نابليون إنما يرتبط ارتباطا وثيقا «بنظام» القيصر نفسه، وأن ليس هناك ما يدعو للاصطدام بينهما؛ لأن الدنيا أو العالم متسع بدرجة تكفي للاثنين أن يتخذا مكانهما به، وأن نابليون لن يلح على القيصر في طلب إخلائه الولايات الدانوبية (الأفلاق والبغدان)، وأن القيصر لا يجب أن يلح عليه في طلب إخلاء بروسيا، وأن نابليون لا يرى صعوبة ما في أن يستولي القيصر على السويد، وأن يأخذ ستوكهلم العاصمة نفسها، بل من الواجب أن يقوم القيصر بهذه الخطوة، ولن تجد روسيا فرصة أنسب من هذه التي تعرض لها لأن تتخذ بطرسبرج مركزا يتوسط أملاكها، وأن تتخلص من هذا العدو الجغرافي (السويد).»
وتلك كانت عروضا متصلة بواقع الموقف في أوروبا، وألصق بمصالح روسيا المباشرة من تلك المشروعات الواسعة التي استهدفت احتلال القسطنطينية والوصول بطريق الدجلة والفرات إلى الهند.
ولكن كل هذه العروض وما صحبها من مباحثات بين السفير الفرنسي الجديد في بطرسبرج «كولنكور» والقيصر إسكندر، ووزير خارجيته روماينتزوف لم تسفر عن شيء؛ إذ سرعان ما تعطلت فجأة بسبب الحوادث التي وقعت في إسبانيا، والتي أثارت أمة بأسرها (الأمة الإسبانية) ضد نابليون.
ولقد كان في إسبانيا أن أوقدت الشرارة التي أشعلت نار الحرب القومية في أوروبا ضد السيطرة النابليونية، فقد ذكرنا كيف أن الفرنسيين توغلوا في الأراضي الإسبانية بقيادة «مورا» حتى وصلوا إلى أبواب مدريد، بدعوى حماية إسبانيا من الإنجليز، لكن مثول الخطر الفرنسي بوجود الجيوش الفرنسية أمام العاصمة ذاتها لم يلبث أن جعل الإسبانيين يدركون أن الإمبراطور الفرنسي إنما يريد الاستيلاء على بلادهم، وأن يطوح باستقلالهم، ويملي عليهم القرارات والقوانين التي يرغمهم على الإذعان لها مهما كانت مناقضة لمصالحهم الوطنية؛ فاهتاجت النفوس ضد هؤلاء الأجانب المعتدين على بلادهم، وضد الحكومة «الإسبانية» الضعيفة التي رضخت عن طيب خاطر لهذه «الإهانات»، وشرع الملك شارل الرابع - الذي أخلى مكانه للغزاة الفرنسيين - يفكر في مغادرة مقره الملكي في «أرانجوز
Aranjuez » على مسافة إلى الجنوب عن مدريد للإبحار من قادش قاصدا إلى أمريكا، ولكن الثورة سرعان ما اشتعلت في 18 مارس 1808، ولم ينقذ «جودوي» من أيدي الثوار إلا تنازل الملك عن العرش لصالح ابنه فردينند السابع، الذي رحب به الشعب، وأحاط بموكبه في الطريق من «أرانجوز» إلى مدريد (23 مارس).
وكان لهذا الحادث - حادث أرانجوز - أكبر الأثر في رأي كثيرين في أن يعمد نابليون إلى تغيير الخطة التي كان قد رسمها لمعالجة مسألة إسبانيا، حقا لقد ظل دائما غرضه أن يتخذ من إسبانيا وسيلة لزيادة قوة فرنسا، ولكن التغيير طرأ على الوسائل المحققة لهذه الغاية، فهو كان يريد مبدأ الأمر التخلص من محظي الملك «مانويل دي جودوي» الذي كان مكروها من الشعب الإسباني، وأن يضع في حكومة البلاد بدلا من «جودوي» رجالا من اختياره، ولكن ثورة فردنند ضد أبيه، واضطرار شارل الرابع إلى التنازل (حادث أرانجوز) جعل نابليون يعدل عن خطته الأصيلة، ويلجأ إلى أساليب أدت إلى نتائج خطيرة.
فما إن وصله خبر تنازل شارل الرابع عن العرش حتى أعلن «نابليون» أن هذا التنازل ملغي، وأن العرش قد صار خاليا.
وفي خطاب بعث به إلى أخيه لويس، ملك هولندة بتاريخ 27 مارس سنة 1808، ويبرز إلى عالم الوجود للمرة الأولى الطريقة التي أراد بها نابليون «معالجة» المسألة الإسبانية، عرض الإمبراطور على شقيقه عرش إسبانيا، وفي هذا العرض كانت أصول «الحرب الإسبانية» التي امتدت سنوات طويلة، والتي كانت أحد العوامل الحاسمة في النهاية في سقوط الإمبراطورية النابليونية.
فقد احتج شارل الرابع - ومن المرجح أن ذلك كان بتأثير من مورا - على الشدة التي عومل بها، حتى اضطر إلى التنازل عن العرش، وبعث بهذا الاحتجاج إلى نابليون، بينما استطاع مورا أن يقنع فردينند (الابن) بالذهاب إلى الحدود الفرنسية لمقابلة الإمبراطور، عله ينال منه تثبيته على عرش إسبانيا، واستدعى نابليون الوالد وولده لمقابلته في بايون
Bayonne
عبر الحدود في الأراضي الفرنسية، وأطلق «مورا» سراح «جودوي» ليذهب هو الآخر إلى بايون، واستقبل نابليون شارل الرابع وزوجه «ماريا لويزا» بمظاهر التكريم اللائقة بالملوك، وبعد مشادة عنيفة بين الأب وابنه، في حضوره، أرغمهما نابليون على التنازل عن كل حقوقهما في عرش إسبانيا «لصديقهما العزيز وحليفهما الإمبراطور»، فتنازل فردينند السابع في 5 مايو، وبعد أيام قليلة (10 مايو) تنازل شارل الرابع الذي بدا كأنه صار لا يبغي إلا تمضية ما تبقى له من عمر بين زوجه وصديقهما «الوحيد» جودوي، ورحلوا جميعا إلى «كومبيين
Compiegne ».
وأما فردينند السابع فقد أعطي إقليم «فلانساي
Valençay » لإقامته، وكان من أملاك تاليران، وتقع كومبيين وفلانساي داخل الحدود الفرنسية.
وفي 6 يونيو سنة 1808 صدر قرار بتنصيب جوزيف بونابرت ملكا على إسبانيا، وقد حل محله في نابولي «مورا» ملكا على هذه الأخيرة.
وفي 15 يونيو قابل وفد إسباني الإمبراطور في بايون ليبدي موافقته على قبول جوزيف بونابرت ملكا على إسبانيا، ووعد نابليون الوفد بأن حكومة عادلة حكيمة سوف تتولى إدخال الإصلاحات الحرة إلى بلادهم.
واغتبط نابليون بهذه النتيجة «السهلة» التي وصل إليها، وزاد من اغتباطه أن جاءه آنئذ خبر إخفاق مؤامرة دبرها في باريس أحد الضباط المطرودين من الجيش لآرائه الجمهورية، الجنرال دي ماليه
Malet ، مع جماعة من أعضاء مجلس الشيوخ «المثاليين» لعزل نابليون، وإعادة تأسيس الجمهورية، فاكتشف أمرها ديبوا
Dubois
مدير البوليس، ومنافس «فوشيه
Fouché » الخطير على وزارة الداخلية (8 يونيو 1808)، فقد اعتقد نابليون أنه في الوقت الذي تآمر عليه بعض الفرنسيين - ولإنهاء عهد الإمبراطورية - أن الشعب الإسباني الذي أساء ملوكه حكومته، قد قبل بسهولة تنصيب أمير عليه (جوزيف بونابرت) من أسرة ينبئ اختياره منها بأن عهدا من الإصلاح والرخاء لا بد أن يبدأ سريعا.
وجمع نابليون في بايون مجلسا
Junta
من الإسبان لوضع دستور جديد للمملكة، واستطاع هؤلاء بعد اثنتي عشرة جلسة فقط أن يعدوا دستورا كان منسوخا من دستور الإمبراطورية الفرنسية نفسه، أعلن نابليون اعتماده له في 7 يوليو 1808، وبعد يومين اثنين دخل جوزيف بونابرت الأراضي الإسبانية، ليجد الثورة مشتعلة في كل إسبانيا.
فقد رفض الشعب الإسباني الاعتراف «بالأمر الواقع»، والإذعان لما يعتبره إهانة لحقت بشرف الأمة، وكانت قد قامت اضطرابات خطيرة في مدريد؛ عندما ذاع خبر «مؤامرة بايون»، وحاول الفرنسيون نقل فرنسوا - أصغر أبناء شارل الرابع - من القصر الملكي؛ فخرج الإسبانيون في مظاهرات صاخبة لم تلبث أن تحولت إلى التحامات دامية عندما أمر «مورا» بإطلاق النار على المتظاهرين، وتبع ذلك اصطدام الفريقين بعضهما ببعض يوم 2 مايو 1808، وهو اليوم الذي اشتهر في تاريخ المقاومة الأهلية بإسبانيا
Dos Mayo
بأنه كان بداية الحرب التحريرية؛ إذ سرعان ما تألفت «المجالس» التنفيذية الثورية في المدن الهامة، وصار يتولى السلطة العليا «مجلس» أشبيلية، وأعلنت «الحرب حتى الموت» ضد الفرنسيين، إلى أن يرحل هؤلاء من بلادهم، وتعود الأسرة الإسبانية (البربون) إلى الحكم ثانية، وتسترجع البلاد استقلالها، وقامت المذابح في فالنسيا
Valencia
وقادش، وفي أكثر الأقاليم الجنوبية، ليس للخلاص من الفرنسيين وحدهم، بل ومن الإسبانيين الموالين لهم، وساعد على المقاومة أن البلاد جبلية، ويخترق الجبال ممرات ضيقة ذات أغوار بعيدة، مما يجعل سهلا حرب العصابات التي كان من أفرادها - إلى جانب المقاتلين - القساوسة والرهبان الذين اعتبروا الفرنسيين أعداء للدين، ولقد استطاع هؤلاء جميعا أن يقاوموا الجيوش الفرنسية مقاومة عنيفة، تحت إرشاد المجالس التنفيذية التي ذكرناها.
وبدأت العمليات العسكرية بأن أمر الإمبراطور بأن يزحف جيش بقيادة الجنرال ديبون
Dupont
على أشبيلية، وعلى أن يكون من مهمته كذلك إنقاذ بقايا الأسطول الفرنسي الذي ظل ملتجئا في قادش من أيام معركة الطرف الأغر، واحتل جيش ديبون قرطبة 7 يونيو 1808، ولكنه سرعان ما اضطر إلى التقهقر أمام القوات الإسبانية المتفوقة عليه، حتى بلغ في تقهقره «أندوجار
Andujar » (وتقع قرطبة، وإلى الشمال منها أندوجار على نهر الوادي الكبير، وتقع جنوب قرطبة على النهر نفسه إشبيلية)، ومكان أندوجار عند مدخل الممرات الضيقة في جبال مورينا
Sierra Morina
وتعذر على «ديبون» التقدم، ولكنه بدلا من الارتداد إلى ممرات سيرا مورينو واتخاذ موقف الدفاع، بعث بالجنرال «فيديل
Vedel » مع نصف الجيش تقريبا للاستيلاء على مرتفعات أو «ممرات» ديسبينا بيروس
Despëna Perros ، وتقع سلسلة الجبال هذه إلى الشمال من أندوجار، فانتهز القائد الإسباني الفرصة (وهو كستانوس
Castanos ) ليبعث بجزء من قواته بقيادة ردنج
Rédinng (من كبار العسكريين والنبلاء الإسبان) إلى بايلن
Baylen
الواقعة بين المكانين كي يفصل بين جيشي ديبون وفيديل.
ولا شك أن تلك كانت مناورة تنطوي على مجازفة كبيرة، وتعرض الإسبانيين في «بايلن» للاندحار التام، لو استطاع جيشا ديبون وفيديل الإطباق عليهم، ودارت في «بايلن» معركة حامية بين ديبون وبين الإسبان بقيادة «ردنج» الذي دفع كل هجمات ديبون الذي أراد اختراق الصفوف الإسبانية دون جدوى، حتى إذا أنهك الفرنسيون وخارت قواهم ظهر «كستانوس» في المؤخرة ليجهز عليهم؛ وعندئذ عرض ديبون أن يستسلم بجيشه إذا سمح له بالعودة مع قواته إلى فرنسا، ومع أن «فيديل» كان قريبا من مكان المعركة ويسمع صوت إطلاق المدافع وفي وسعه إذا أسرع أن يعاون ديبون معاونة جدية ، فقد آثر البقاء في موضعه، وعندما بلغه أن رئيسه يقترح التسليم على العدو، فضل الارتداد صوب الممرات «ديسبينا بيروس»، وكان ذلك مسلكا إجراميا في نظر الكثيرين، ولا يقل عنه خطورة ما فعله «ديبون» نفسه الذي جعل شروط التسليم تشمل جيش «فيديل» أيضا (23 يوليو 1808)، ومع ذلك فقد قبل «فيديل» هذه الشروط، ورجع - الآن - ليستسلم مع جيشه عندما كان في وسعه أن يذهب بجيشه سالما إلى مدريد، أما مجموع الفرنسيين الذين سلموا في هذه الواقعة «بايلن» فكان 18 ألفا، بينما بلغ عدد قتلاهم أكثر من ثلاثة آلاف، وقد رفض مجلس إشبيلية أن يعود الأسرى إلى فرنسا، بل استبقاهم جميعا في حوزته.
تلك إذن كانت هزيمة بايلن، التي زاد من خطورة أثرها إقدام جوزيف بونابرت بعدها بأيام قلائل على إخلاء إسبانيا حتى نهر الإبرو
Ebro
في الشمال.
وأما أثر هذه الهزيمة الآخر، فكان أن شجع النجاح الذي أحرزه الإسبانيون البرتغال على إعلان الثورة، فنادى الأهلون في أوبرتو
Oporto
بتأييدهم لبيت براجنزا (الأسرة المالكة البرتغالية)، وبادروا بإلغاء الحكومة الفرنسية وتأليف مجلس تنفيذي مؤقت للحكم، وانضمت كل الأقاليم في البرتغال الشمالية إلى الثورة التي لم تلبث أن امتدت كذلك إلى الأقاليم الجنوبية، وما إن بلغ الحكومة الإنجليزية نبأ هذه الثورة حتى أسرعت بإرسال جيش إلى البرتغال بقيادة السير أرثر ولزلي
Arthur Wellesley (دوق ولنجتون فيما بعد)، نزل في شاطئ البرتغال عند خليج مونديجو
Mondego (عند مصب نهر مونديجو) يوم 2 أغسطس 1808، وكان جيش «جونو» في البرتغال في لشبونة وما حولها ويبلغ الثمانية والعشرين ألفا قد صار معزولا بها منذ قيام الثورة في إسبانيا، ولو أن «جونو» كان مصمما على الدفاع عن البلاد التي فتحها، فاستطاع القضاء على الثورات «الضعيفة» التي قامت في كل مكان بين 6-16 يونيو، وكانت هذه «ضعيفة»؛ لأن الفرنسيين سبق أن سرحوا الجيش البرتغالي القديم، وجمعوا الأسلحة واستولوا على كل مستودعاتها ومخازن الذخيرة فيها، فلم يجد الشعب «الثائر» قوة مدربة يمكنه الاستناد عليها في ثورته، وتعذر الحصول على الأسلحة، وتجول جيش «جونو» في أنحاء البرتغال، وتمكن من إخماد الثورات المشتعلة بها، واعتقد جونو أن في وسعه الاحتفاظ بفتوحاته طويلا، ولكن نزول الإنجليز في البرتغال سرعان ما حطم هذه الآمال.
فقد انتصر «ولزلي» على جيش جونو عند فيميرو
Vimiero
في 21 أغسطس 1808، وعندئذ اضطر جونو الذي كان يتولى قيادة الجيش الفرنسي بنفسه في هذه الواقعة إلى عقد اتفاق «كينترا
Cintra » في 30 أغسطس، وبمقتضاه وافق القائد الفرنسي على إخلاء البرتغال بأسرها فورا، على أن تحمله السفن الإنجليزية مع جيشه إلى فرنسا (إلى لوريان
Lorient ، ورشفور
Rochefort ) وفي 12 سبتمبر 1808 احتل الإنجليز لشبونة، وفي 30 سبتمبر لم يكن هناك جندي فرنسي واحد في كل البرتغال.
وأقامت هزيمة فيميرو وهزيمة بايلن قبلها، الدليل على أن جيوش الإمبراطور لم يعد الانتصار مستعصيا عليها، وقد ضارعت هذه الهزائم في خطورة آثارها الهزيمة التي لحقت منذ نيف وسبع سنوات الجنرال «منو» في الإسكندرية، وترتب عليها انسحاب جيش الشرق من مصر.
ولا جدال في أن مسئولية الهزيمة التي لحقت بجيش الفرنسيين في إيبريا كانت موزعة على الإمبراطور نفسه وعلى قائديه: ديبون، وفيديل خصوصا، فهو قد أخطأ التقدير عندما استهان بقوة الإسبان، وبعث لغزو بلادهم جيشا ضئيل الحجم لم يتدرب جنوده تدريبا كافيا، بينما افتقر قواده إلى الكفاءة العسكرية والشجاعة الأدبية، على نحو ما ظهر من جانب «ديبون»، وإلى النشاط والقدرة على اتخاذ القرارات الحاسمة، على نحو ما تبين من مسلك «فيديل»، وقد اتهمهما الإمبراطور بالخيانة والجبن، وقد قدمهما للمحاكمة العسكرية، وأثبتت هذه أنهما ارتكبا جريمة الإهمال، وقبلا شروطا للتسليم مهينة للشرف؛ وعلى ذلك فقد سجن كلاهما، فاستمر «ديبون» في السجن إلى سنة 1814، وأما «فيديل» فقد عفا عنه الإمبراطور بعد سنوات قليلة واستخدمه مرة ثانية.
وكان «جونو» وحده الذي خرج من حوادث الحرب في شبه جزيرة إيبريا دون أن يلحق به الأذى، فقد شاء نابليون أن يحمي هذا القائد الذي وقع على «اتفاق كينترا» برفعه إلى مرتبة الدوقية، فنال «جونو» لقب دوق أبرانتس
Abrantés
إحياء لذكرى المعركة التي انتصر فيها جونو على البرتغاليين ودخل بعدها لشبونة في العام السابق (نوفمبر 1807).
ومهما يكن من أمر، فقد أثبت الانسحاب من البرتغال، ومن أكثر أجزاء إسبانيا بعد هذه الهزائم أن «الجيش الأعظم» لم يعد بالجيش الذي لا يقهر، وتجاوب في أنحاء أوروبا صدى هذه الحقيقة التي استكشفت في إيبريا، ووجب على الإمبراطور أن يمنع ذيوع هذا الاعتقاد بكل وسيلة، وإلا ترتب على انتشاره ثم رسوخه في الأذهان تحرك الشعوب بالثورة ضده وسعيها لتقويض أركان إمبراطوريته، وكان نابليون منذ أن بلغته أخبار الهزيمة في «بايلن» - 23 يوليو 1808 - فقد أمر ثلاثة جيوش من خيرة جيوشه «الألمانية» المدربة، وهي جيوش فيكتور
Victor ، ومورتييه
Mortier ، وناي
Ney
بالذهاب إلى إسبانيا، وعقد الآمال على إمكان جوزيف بونابرت (الملك) والجنرال سافاري القائد الأعلى والذي حل محل «مورا» في إسبانيا، الصمود في مراكز أمامية حتى تصلهما النجدة، ولكن هذه الآمال تحطمت بعد الحوادث التي ذكرناها، وصارت مهمة الجيوش الزاحفة أن تعيد من جديد فتح شبه جزيرة إيبريا، وأما هذه القوات الحاضرة من ألمانيا فقد بدأت طلائعها تجتاز ممرات البرانس في آخر شهر أكتوبر 1808، وعندئذ كان الإمبراطور نفسه قد ولى وجهه شطر «إرفورت
Erfurt ».
لقد حاول نابليون مكافحة الأثر الذي أحدثته هزيمة جيوشه في إيبريا بالذهاب بنفسه إلى إسبانيا، لإعادة الأمور إلى نصابها هناك، ولتأكيد أن ما فعله في إسبانيا لم يكن عملا «ثوريا»، ولكن من نتائج العهد القديم؛ لأن إسبانيا - كما قال - يجب أن تكون فرنسية، وهي الإرث الذي طالب به لويس الرابع عشر لابنه ولي العهد من زوجته ابنة فيليب الرابع ملك إسبانيا، ولحفيده الذي صار لويس الخامس عشر، فتلك «وصية» قال نابليون: إن الواجب يقتضيه قبولها مع تاج الملكية على فرنسا، طالما أن لويس الرابع عشر قد أهرق الدماء الغزيرة من أجل أن تتبوأ نفس الأسرة عرش البلدين: فرنسا وإسبانيا، غير أن الإمبراطور ما كان يستطيع الذهاب بنفسه إلى إسبانيا دون أن يستوثق سلفا من أن أوروبا لن تنتهز فرصة سحب أكثر جيوشه منها - لإرسالها إلى إيبريا - للقيام بالثورة في مؤخرته، هذا من جهة، وأن النظام القاري الذي ضرب الحصار على إنجلترة سوف يظل نافذا وبنفس الصرامة التي استمر ينفذ بها بعد إبرام معاهدة تلست على وجه الخصوص مع روسيا (7-9 يوليو 1807) وهذا من جهة ثانية.
ولذلك فقد بادر الإمبراطور بتسوية مسألة بروسيا بأن عقد معها اتفاقا في باريس في 8 سبتمبر 1808، أخلى الفرنسيون بمقتضاه بروسيا، في نظير أن ينقص عدد الجيش البروسي إلى 42 ألف رجل فقط، وأن تدفع تعويض حرب لفرنسا مبلغ 140 مليون فرنك، وعلى شريطة أن تبقى حاميات فرنسية تحتل المواقع الثلاثة التالية: جلوجو
Glogau ، وكاسترين
Küstrin ، وستيتن
Stettin ، وكلها تقع على نهر الأودر، وذلك حتى تقوم بروسيا بتأدية التزاماتها وفق المعاهدة، ثم ذهب الإمبراطور لمقابلة القيصر إسكندر في إرفورت.
وفي إرفورت استمرت مقابلة العاهلين حوالي شهر تقريبا (من 27 سبتمبر إلى 24 أكتوبر 1808)، وكان في إرفورت أن شهد العهد النابليوني أزهى أوقاته إطلاقا، حيث أقيمت الزينات وتميزت الحفلات بالبذخ والفخامة عندما احتشد رجال البلاط من روس وفرنسيين يحفون بالإمبراطور، وقام الممثل العظيم «تالما» بأداء تمثيليات كورنيل
Corneille ، وأصغى الجميع باهتمام وعناية زائدة لكل ما أراد الإمبراطور أن يقصه من ذكريات الشباب عندما كان «ضابط مدفعية»، واستطاع عندما ذهب في رحلة قصيرة إلى فايمر
Weimar ، أن يجزل العطاء لاثنين من ألمع قادة الفكر الألمانيين وقتئذ، هما الشاعر جيته
Goethe ، والفيلسوف القصصي والمؤرخ ويلاند
Weiland .
ولكن تلك كانت جميعها مظاهر خادعة؛ فالقيصر كان متحفظا ولا يريد التورط في تعهدات جديدة، فهو كان قد توقف في كونجسبرج، قبل الذهاب إلى إرفورت وقابل هناك ملك بروسيا فردريك وليم وزوجه لويزا، وهو إلى جانب هذا وجد في إرفورت «تاليران» يحذره من عواقب ترك نابليون يعمل من أجل توسيع رقعة إمبراطوريته، وكان تاليران قد أخلى مكانه في وزارة الخارجية ليحل محله «شامباني
Champagny » وزيرا لها، واستطاع - بمعاونة القيصر - أن يزوج ابن أخيه من أميرة كورلاند، وقد أشار تاليران على القيصر فوق ذلك بعدم الموافقة على مشروع نابليون الذي أراد الزواج من إحدى أميرات البيت القيصري، وأدرك نابليون أن المحالفة التي عقدت أواصرها في تلست قد انتهى أجلها، ولكنه عمد إلى المراوغة كما فعل صاحبه؛ كسبا للوقت، فوعد بإخلاء غراندوقية وارسو ليستخدم في إسبانيا الجنود الذين كانوا في احتلالها، واعترف بحق القيصر في امتلاك الإمارات الدانوبية، ملدافيا وواليشيا
Walachia (البغدان والأفلاق) على أمل أن يتعهد القيصر بإقناع النمسا - وبالوسائل التي يراها - بالوقوف ساكنة أطول مدة ممكنة يريدها نابليون حتى يتفرغ لنضاله المزمع في إسبانيا.
ويبدو أن القيصر قد أشار فعلا على البارون دي فنسنت
Vincent
سفير فرنسوا الأول، إمبراطور النمسا، أن يتخلى هذا الأخير عن محاولة الالتجاء إلى الحرب مرة ثانية لحسم خلافاته مع فرنسا، وقبل القيصر إسكندر الاعتراف من جانبه بكل الإجراءات التي اتخذها نابليون في إسبانيا «واغتصاب عرشها»، ووعد بإمداده بمائة وخمسين ألف جندي في حالة نشوب الحرب ثانية بين فرنسا والنمسا.
وعلى ذلك فقد وقع الفريقان في 12 أكتوبر 1808 «اتفاق إرفورت» الذي تناول الموقف في بروسيا وبولندة وفقا لما سبق الاتفاق عليه في تلست، كما شمل مصير الإمبراطورية العثمانية، على أساس أن تستبقي روسيا مؤقتا في حوزتها الإمارات الدانوبية، مع إرجاء الفصل نهائيا في هذه المسألة؛ خوفا من أن يرتمي السلطان العثماني في أحضان إنجلترة، على أساس أن تمتنع فرنسا عن الاشتراك في الحرب إذا أعلن الأتراك الحرب على روسيا، ثم تعهد نابليون وإسكندر بالمحافظة على سلامة ما بقي من أملاك الدولة العثمانية، وكان واضحا أن الإمبراطور في هذا الاتفاق قد حرم القيصر - على وجه الخصوص - من تحقيق أعز أمانيه، الاستيلاء على القسطنطينية ومضيق الدردنيل، وكان واضحا كذلك - ولهذا السبب نفسه - أن القيصر لن يؤيد نابليون في أي إجراء يتخذه للضغط على النمسا وإهانتها، وهكذا؛ فمع أن العاهلين وقعا معا على رسالة بعثا بها إلى ملك إنجلترة جورج الثالث في 12 أكتوبر يطلبان منه الموافقة على عقد الصلح، ويهددانه بإلحاق الأذى ببلاده إذا تعطل بسبب رفضه إبرام السلام العام - ولم تسفر هذه الرسالة عن نتيجة - فقد وقع نابليون وحده على رسالة شديدة العبارة لتهديد إمبراطور النمسا.
ومع ذلك، فقد أسفر اتفاق إرفورت عن النتيجة المباشرة التي توخاها نابليون منه، وهي السماح له بالذهاب إلى إسبانيا «ليغزوها» من جديد، وكانت المقاومة في إسبانيا قد زادت شدة على شدتها عندما استطاعت قوات الماركيز دي لارومانا
La Romana
الإسبانية الإفلات من رقابة الفرنسيين والانضمام إلى القائدين الإسبانيين: كستانوس، وبلافوكس
، وكان نابليون قد احتجز «لارومانا» بجيشه في جزيرة فونن
Funen
الدنماركية، ولكن «مؤامرة بايون» سببت تذمر هذه القوات الإسبانية، واستطاع الأسطول الإنجليزي أن ينقلها من شمال ألمانيا إلى إسبانيا.
وغادر نابليون باريس في 29 أكتوبر 1808 على رأس مائة وسبعين ألف مقاتل، قسمهم إلى سبعة جيوش بقيادة خيرة قواده: لان، سولت، ناي، فيكتور، ليففر، مورتييه، جوفيون سان سير، بينما تولى قيادة الحرس الإمبراطوري الجنرال بسييير
Bessières ، وحصل أول اشتباك عند زرنوسا
Zornosa «بإقليم بسكاي الإسباني» في 29 أكتوبر، وارتد الوطنيون الإسبانيون، وعند جامونال
Gamonal
أمام برجوس
Burgos
أوقع بهم الإمبراطور هزيمة ساحقة في 10 نوفمبر، وكان الجيش الإسباني الصغير بقيادة إستريمادورا
Estremadura
وقد توالت الهزائم بعد ذلك على الإسبانيين؛ فانهزم القائد الإسباني بواكيم بليك
Blake
عند إسبينوزا
Espinosa (11 نوفمبر)، وانهزمت قوات كستانوس وبلافوكس في 30 نوفمبر عند «توديلا
Tudela » على يد الجنرال «لان».
وزحف نابليون بطابور واحد فقط من جيشه لاقتحام ممرات سوموسييرا
Somosierra
التي وقف على حمايتها الإسبان بقيادة بنيتوسان جوان
Benito San-Juan
فتم له ذلك بعد معركة قصيرة (30 نوفمبر)، وفي 2 ديسمبر كان نابليون على أبواب مدريد التي دخلها يوم 9 ديسمبر 1808 ليضع أخاه جوزيف على عرش إسبانيا ثانية، وليصدر طائفة من القرارات «الإصلاحية» والتي أنهى بفضلها الحقوق الإقطاعية، وألغى محكمة التفتيش، وأغلق ثلثي الأديرة.
وكان الإنجليز في أثناء ذلك قد اعترفت حكومتهم «ووزير الخارجية بها جورج كاننج» بالمجلس التنفيذي
Junta
الذي أنشأه الإسبان في قادش، على أساس أنه يمثل ملك إسبانيا الشرعي فردنند السابع، ويعمل باسمه، وأمد الإنجليز هذا المجلس - الذي اعترفوا له بحقوق الحرب - بالمعونة المالية وبالجيوش، وأرسلوا الإمدادات كذلك لتقوية جيشهم الرابض في البرتغال (بعد اتفاق كينترا بتاريخ 30 أغسطس 1808)، وقد عهد بقيادته إلى السير جون مور
Moore (6 أكتوبر)، ولكن هزيمة الجيوش الإسبانية ودخول نابليون إلى مدريد سرعان ما أرغمت «المجلس التنفيذي» على الفرار إلى «إشبيلية
Seville »، وتفرقت قوات الوطنيين الإسبانية في كل مكان، وباستثناء الجيش الإنجليزي بقيادة السير جون مور في البرتغال بدا كأنما قد صارت إسبانيا بأسرها على وشك التسليم للإمبراطور، ووجد الجنرال مور بعد هذه الحوادث أن موقفه قد بات شديد الحروجة؛ فشرع يتقهقر بجيشه إلى لشبونة (28 نوفمبر) - وكان مور عقب توليه القيادة قد بدأ يزحف صوب إسبانيا ليضم قواته إلى جيوش حلفائه - فارتد الآن نحو العاصمة البرتغالية، ولكنه عاد فصمم على التقدم بعد أن تلقى من الممثل الإنجليزي في مدريد «فرير
Frere » - وكانت هذه لم تسقط بعد في أيدي الفرنسيين - ما شجعه على المضي في مغامرة الزحف صوب مدريد؛ فبلغ سلامنكا
Salamanca
في (13-23 نوفمبر)، ثم بقي بها ينتظر وصول مدفعيته (3 ديسمبر) ليستأنف الزحف إلى بلد الوليد
Valladolid ، ولكن لم يلبث أن جاءته الأنباء عن هزيمة الإسبان وعن دخول نابليون إلى مدريد، وأهم من هذا كله لم يلبث مور أن علم بتحرك الجيوش الفرنسية، ونابليون نفسه للإطباق على قواته، فقرر مور التقهقر بكل سرعة إلى جاليكيا
Galicia (الإقليم الواقع في طرف إسبانيا الغربي)، ونفذ الإنجليز خطة تقهقرهم بنظام حتى وصلوا إلى «أستورجا
Astorga »، ولكن بعد هذه الأخيرة ظهرت بوادر العصيان وعدم الطاعة؛ بسبب المشاق التي تكبدها الجيش المتقهقر في إقليم جبلي، ووسط فصل الشتاء، وعندما بلغ الإنجليز المرتفعات المطلة على «كورونه
Coruna » الميناء الذي أزمعوا الإبحار منه إلى بلادهم، كان الجيش في حالة يرثى لها، وكان عندئذ أن حاول «سولت» محاولة يائسة ليمنع السير جون مور وجيشه من الوصول إلى هذا الميناء والإبحار منه.
وكان نابليون قد جاءته الأنباء بأن إمبراطور النمسا يعمل لفصم علاقاته مع فرنسا، وأن مؤامرة ضد حياة الإمبراطور قد اكتشفت في باريس؛ ولذلك قرر العودة إلى عاصمة ملكه، فغادر إسبانيا يوم 3 يناير 1809 بعد أن عهد بقيادة الجيش إلى «سولت» وأوصاه «بإلقاء الإنجليز إلى البحر».
وطارد «سولت» هؤلاء مطاردة عنيفة حتى اشتبك بهم عند مرتفعات كورونه في معركة حامية يوم 16 يناير 1809، أسفرت عن قتل قائدهم السير جون مور، ولكنها لم تنجح في منع الإنجليز من الإقلاع على مراكبهم من كورونه يوم 18 يناير 1809.
ووصل نابليون إلى باريس يوم 23 يناير عن طريق بلد الوليد وبايون؛ ليوقف المؤامرة التي نمى إليه خبرها ضد حكومته ، وكان تاليران - أثناء حملة إسبانيا - قد اتفق مع فوشيه على التخلص من شخص الإمبراطور؛ ليحل محله الجنرال مورا، واكتفى نابليون بعد مشادة عنيفة مع تاليران بأن حرمه من وظائفه (كبير الحجاب) ثم كان عليه مواجهة المحالفة الدولية الجديدة التي تشكلت ضده (المحالفة الدولية الخامسة).
فقد كان من أثر الثورة في إسبانيا أن نفضت الشعوب الألمانية عنها ثوب الاستكانة والخنوع، الذي جعلها ترضى بالمصير الذي يريده لها نابليون من غير أن تحرك ساكنا، فحركتها الثورة في إسبانيا من سباتها، وتضافرت الأسباب التي جعلت الألمانيين ينتقضون بدورهم على السيطرة النابوليونية، فهم قد غدت بلادهم تحت هذه السيطرة معبرا أو ممرا للجيوش الفرنسية المتقاتلة في أوروبا «وفي إسبانيا»، مع ما يقترن بذلك من وجوب تقديم المؤن، ودفع الإتاوات، وكانت الغرامات العسكرية التي فرضت - عليها إلى جانب هذا - عبئا ثقيلا أبهظ كاهلهم، في وقت اشتدت عليهم فيه وطأة الأزمة الاقتصادية بسبب نظام الحصار القاري الذي فرضه نابليون على كل أوروبا الخاضعة لسلطانه، أو «المتحابة» و«المتحالفة» معه، وتلك شدائد تحملها الشعب الألماني بسبب الهزائم العسكرية التي لحقت به، وكان ضروريا لخلاصه منها أن يعمل لغسل الإهانات التي أتت بها هذه الهزائم العسكرية، فبدأ يستيقظ شعوره الوطني (القومي) رويدا رويدا، ويتوق للقيام بعمل ينهي به السيطرة الأجنبية (النابليونية) التي أذلته كل هذا الإذلال، وأفقدته كرامته الوطنية.
ولقد أتيح للفيلسوف الألماني فيشته
Fichte
أن يعبر عن هذا الشعور القومي الناشئ في ألمانيا، في سلسلة من المحاضرات «الأربع عشرة» التي ألقاها في دار «أكاديمية برلين» في شتاء 1807-1808 بعنوان: «أحاديث أو خطب موجهة إلى الأمة الألمانية» لم يجد البوليس سببا لمنعه من إلقائها، واكتفت الرقابة بحذف المحاضرة الثالثة عشرة فقط؛ لأنها كانت عنيفة، وقد أجاز البوليس هذه المحاضرات على اعتبار أن صاحبها فيلسوف ألماني شهير، لا يبغي منها إلا إصلاح قواعد التربية والتهذيب في بلاده، والواقع أن «فيشته» أراد في محاضراته هذه أن يبين للشعب الألماني أنه هو وحده (أي الألمان أنفسهم) المسئول عن كل الأذى الذي لحق به بسبب الغزو الفرنسي، وأن في وسع الشعب الألماني وحده إزالة هذه المساوئ وإصلاح شئونه بنفسه، وعليه - قبل أي شيء آخر - إبراز القوى الكامنة في كل تلك الخصائص التي يتميز بطابعها كشعب ألماني، فلأن لهذا الشعب «ألمانيته» ومن واجبه الاحتفاظ بهذه «الألمانية»، صار يتحتم عليه الوقوف في وجه أية محاولة للامتزاج بشعب آخر أجنبي عنه، والاندماج فيه لدرجة الاختفاء من الوجود بذاتيته «الألمانية»، وانصهاره في هذا الشعب الأجنبي، بل صار لزاما عليه أن ينشئ أو يخلق قومية مستقلة عن كل الأمم «والدول» الأخرى، وألمانيا فنن جرماني أي أحد فروع الشعب الذي رسالته أن يربط النظام الاجتماعي القائم في أوروبا العجوز بالدين الصحيح، كما هو محفوظ في آسيا المتوغلة في القدم، فيعمل بذلك على بداية عهد جديد.
لقد احتفظ الشعب الألماني بمسقطه، وبلغة أجداده، وبعنصريته، ولكن الألمان خلال نصف القرن الأخير استبدت بهم الأنانية، وصاروا متصفين بالعجز؛ لأنهم تركوا أنفسهم يشردون في عالم الفكر النقي دون أن يزعجهم التفكير في شئون الدنيا حولهم، التي تأزمت فيها الأمور بدرجة صارت تدعوهم إلى أن يوجهوا قواهم الذهنية لعلاجها بعد أن يتجدد شباب هذه القوى بفضل ما هنالك من قابلية للعالم الإنساني للترقي وبلوغ مراتب الكمال، فإذا امتنع الألمان عن نسيان نوع الحياة القائمة على قوة الفكر، صار في وسعهم أن ينزعوا من يد القوة المتوحشة الهيمنة على مصائر العالم.
وكان عندئذ أن تألفت بعض الجمعيات السرية، نذكر منها خصوصا «حلف الفضيلة
Tugenbund » الذي أسسه ماكس لهمان
Max Lehman
الأستاذ والمؤرخ الألماني، بمعاونة أحد الموظفين «موسكا
Mosque »، وقد أشاد كثيرون - وربما لدرجة المغالاة - بالأثر الذي كان لهذه الجمعية في نشر آراء «فيشته» وتوضيحها، وإذاعة أماني الألمان القومية، وجمع المؤيدين والأنصار حول هذه المبادئ القومية الجديدة.
واعتبرت بروسيا خير مكان يتسنى فيه قيام «الأمة» الألمانية الناشئة، إذ إن بروسيا إلى جانب شعور شعبها بضرورة الإصلاح الذي لا معدى عنه للنهوض بالبلاد بعد كبوتها وهزيمتها في الحرب ضد نابليون، كانت كذلك موئل الألمانيين الذين صح عزمهم على التضحية بكل عزيز لديهم لتحرير بلادهم من السيطرة النابليونية، فكان «هاردنبرج
Hardenberg » الوزير البروسي السابق الذي لجأ إلى «ريغا» تحت حماية القيصر، لا يزال يوجه سياسة مليكه فردريك وليم الثالث، ويذكر له المبادئ التي جعلت في نظره الموظفين الفرنسيين - منذ قيام «الثورة» التي فتحت أمام المواطنين جميعهم باب الترقي - يقبلون على خدمة الدولة بحماس، فالثورة جددت شباب فرنسا عندما حطمت أعداء التقدم المتشبثين بالنظام الزائل، وقضت على المساوئ القديمة، وأيقظت القوى النشيطة من سباتها، وتلك هي المبادئ والقوى التي يستمد منها نابليون نفوذه وسلطانه، «إن روح القرن الذي نعيش فيه تدعو حتما - كما استمر هاردنبرج يقول - إلى أن تقوم الدولة ذات النظام الملكي على مبادئ ديمقراطية.»
ثم إن بروسيا وجدت في وزيرها البارون ستين
Stein
خير من يسهر على إدخال الإصلاحات الاجتماعية والإدارية التي تقوم على هذه المبادئ التي بسطها «هاردنبرج»، ومع أن كثيرين حذروا من المغالاة في تقدير آراء «ستين» الحرة، فالذي لا شك فيه أن بروسيا مدينة للبارون ستين بوصولها لمرتبة الدولة القومية الألمانية بالصورة التي أوجدتها العبقرية الألمانية ذاتها، والتي تتفق مع تقاليد ألمانيا ومصالحها، وكان «ستين» - الذي ولد في نساو - قد دخل في خدمة بروسيا قبل تأليف المحالفة الدولية الرابعة، ووصل إلى رئاسة الحكومة (الوزارة) على أثر ذهاب «هاردنبرج» إلى المنفى، فأصدر في 9 أكتوبر 1807 قرارا بإلغاء الرق كان ذا أثر ضئيل؛ لأنه أعطى الفلاحين حق امتلاك الأرض دون أن يمكنهم من امتلاكها فعلا، ثم إنه أعد مشروعا للإصلاح الإداري على أساس اللامركزية في الأقاليم، وذلك بأن يستبدل «بالبيروقراطية» ممثلين بالانتخاب، يعرفون أقاليمهم حق المعرفة بسبب عيشهم الطويل بها، وذلك حتى يتسنى إشراك الأمة في إدارة شئونها والسهر على مصالحها، وهو إجراء - في نظر كثيرين كذلك - لم يكن ذا أهمية بالغة.
وعلى ذلك فقد كانت هذه «الإصلاحات» لا تبعث في حينها على الأمل العظيم في أن عهدا من الإصلاح الواسع المدى قد بدأ في بروسيا، أو أنه كان يخشى من أثرها لتحريك الشعب على الثورة والانتفاض على سلطة الإمبراطورية؛ ولذلك لم يأبه نابليون لهذه الإصلاحات وآثارها، ولو أنه انتهز الفرصة للتخلص من «ستين» استنادا على انتشار التذمر في وستفاليا.
وكان للإمبراطور علاقات بالمتذمرين بها، وعلى رسالة من القائد الروسي وتجنستاين
Wittgenstein
في 15 أغسطس 1808 إلى الملك فردريك وليم الثالث يطلب إبعاد «ستين»، فأصدر نابليون وهو بإسبانيا أمرا بنفيه (في سبتمبر 1808)، فاضطر «ستين» إلى مغادرة البلاد والهرب إلى النمسا، ولكن بعد عامين استطاع «هاردنبرج» أن يظفر برضاء مليكه عليه، فعاد إلى برلين ليتعاون مع «شارنهورست
Scharnhorst »، «وجنسيناو
Gneisenau » على إتمام الإصلاحات التي كان هذان الأخيران قد بدآها في الجيش، وأهم هذه الإصلاحات تسريح الجنود بمجرد تدريبهم على فنون القتال، بعد خدمة قصيرة، ليحل محلهم دفعات جديدة، يدربون بسرعة حتى يأتي فوج آخر بعد تسريحهم، وهكذا، وذلك ليكون لدى بروسيا جيش كبير وقت الحاجة دون أن يزيد عدد الجيش النظامي عن 42 ألف رجل، وهو الرقم الذي حددته معاهدة تلست لأقصى ما يمكن أن يبلغه الجيش البروسي.
ووقعت في أثناء ذلك كله بعض الحوادث التي تدل على وجود الاضطراب وانتشار القلق في أنحاء ألمانيا، والتذمر من السيطرة النابليونية، ومع أنه سهل دائما على السلطات الحكومية «الخاضعة لنظام الإمبراطورية» إخماد هذه الاضطرابات والفورات بكل سرعة، فلقد كانت في حد ذاتها كافية للتدليل على أن حوادث أكثر جدية لا بد واقعة في النهاية، وأن شعورا «قوميا» أخذ يشتد في ألمانيا، ولا يلبث حتى يقوى بدرجة تهدد بتقويض عروش الإمبراطورية النابليونية، وتنهي سلطانها من ألمانيا.
من ذلك «الثورة» التي قامت في إقليم التيرول، والتي اشترك في تحريكها كل من أندريا هوفر
Höfer (صاحب حانة)، وراهب كبوشي يدعى كاسبينجر
Caspinger ، ضد بفاريا التي كانت قد حصلت على التيرول من النمسا بمقتضى معاهدة برسبورج، أي نزولا على رغبة نابليون، وقد استمرت مقاومة الثوار في التيرول حتى شتاء 1810 عندما قبض على «هوفر» وأعدم رميا بالرصاص في منتوا
Mantoue ، ثم كانت هناك محاولات أخرى أخفقت جميعها، منها: محاولة الضابط البروسي كاط
Katt
الاستيلاء على مجدبرج، والمحاولة التي قام بها الكولونيل دورنبرج
Dörnberg
من حرس الملك جيروم بونابرت لتحريك الفلاحين في وستفاليا على الثورة، فحصدت المدافع الثوار تحت أسوار كاسل
Cassel ، ومنها المحاولة الفاشلة التي أراد بها الماجور «شل
Schill » تحريك فرسانه على الثورة (28 أبريل 1809)، وكان «شل» محبوبا من الشعب بسبب بسالته في حملة 1806، واشتهاره بكراهيته للفرنسيين، فقد أخفق وانهزم فرسانه، ولقي مصرعه في سترالسند
Stralsund «شمال ألمانيا»، ومن ذلك أيضا أن دوق برونزويك إولز
Oels
الابن الرابع للدوق برونزويك الذي انهزم في واقعة «أورشتاد»، والذي فقد أملاكه سنة 1806، لم يلبث أن جند ضد الفرنسيين ما أطلق عليهم اسم «فرسان الموت»، فاستطاع الاستيلاء على برنزويك (أملاكه القديمة) واسترجع قصر آبائه، ولكن ذلك لم يستطل إلا أياما معدودة، سرعان ما طرد بعدها من برنزويك، ثم طورد مطاردة عنيفة وهو في طريق فراره عبر وستفاليا، حتى كاد يقبض عليه، ولكنه تمكن من بلوغ مصب نهر الوزر
Weser
بالقرب من برمن
Bremen ، حيث أنقذته سفينة إنجليزية هرب على ظهرها.
وتلك جميعا كانت محاولات متفرقة، لا تستند على تدابير محكمة، ولا تربط بينها خطة معينة للعمل، وكان لذلك مقضيا عليها بالفشل من البداية، ومع ذلك فهي تعتبر بالغة الدلالة على مقدار الضيق الذي شعر به الشعب الألماني حتى نفذ صبره، وما عاد يحتمل الخضوع لسلطان الإمبراطورية النابليونية، وهي كذلك تعتبر مؤذنة بأن انفجارا «قوميا» ضد هذه السيطرة سوف يحدث لا محالة، وسواء في القريب العاجل أو بعد فترة من الزمن، وعند أول بادرة.
ولقد جاءت هذه البادرة التي فجرت بركان المقاومة الأهلية ضد نابليون والسيطرة الفرنسية في ألمانيا على يد النمسا.
فقد حطت - ولا شك - معاهدة برسبورج من شأن النمسا في أوروبا، بعد أن أفقدها الإمبراطور كل أملاكها في إيطاليا، وأرغمها على التخلي عن أكثر أملاكها في ألمانيا لحساب بفاريا وورتمبرج وبادن خصوصا، ووجدت النمسا أنها قد صارت بفضل هذه المعاهدة في عداد الدول الضئيلة القيمة، ولا تحتل في محفل الدول الأوروبية إلا مرتبة ثانوية، ولكن النمسا رفضت الإذعان لهذا المصير، بل إنها وجدت في المبادئ والتعاليم التي نادى بها «فيشته» للاحتفاظ بالذاتية الألمانية، الوسيلة التي تمكنها من جمع الشعوب الألمانية في صعيد واحد للنضال ضد السيطرة الأجنبية (الفرنسية) التي تبغي القضاء على الوطن الألماني، ومحو التقاليد والذكريات الجرمانية العتيدة التي تفخر بها الأمة الألمانية.
ووجدت النمسا في حوادث الاضطرابات والثورات الصغيرة التي ذكرناها في التيرول وفي وستفاليا ما يشجعها على المضي في محاولة إنقاذ الوطن الألماني، وبدأت النمسا استعداداتها بإعادة تنظيم جيوشها، فأشرف على هذا التنظيم وزيرها الكونت فون ستاديون
Stadion (الذي خلف كوبنزل
Cobenzl )، والأرشيدوق شارل.
وفي 12 مايو 1808 صدر قرار بإنشاء «الميليشيا الجديدة»، ووعدت إنجلترة بمد هذه القوة الجديدة بالمال والسفن، وأما روسيا التي كان عليها أن تمنع النمسا من التحرك ضد نابليون ليفرغ لحربه في شبه جزيرة إيبريا فإنها هي الأخرى بدأت تفطن بعد إرفورت، وبفضل مساعي تاليران إلى حقيقة نوايا الإمبراطور، ولم يكن في وسع القيصر الاستغناء كلية عن صداقة نابليون، وهو الذي يلوح أمام ناظريه بمشاريع «الشرق» العظيمة، ولكن إسكندر لم يكن يسعه كذلك أن يغفل أهمية وجود النمسا كحاجز بين إمبراطوريته وإمبراطورية غريمه، ويهمه كذلك الإبقاء على كيانها، وكان اعتمادا على كل هذه الاعتبارات إذن أن حاولت النمسا انتزاع روسيا كلية من محالفاتها مع نابليون، فأوفدت إلى بطرسبرج سفيرها «شوارزنبرج
Schwarzenberg » لهذه الغاية، ووعد القيصر أن يبذل كل ما وسعه من جهد وحيلة ليتجنب امتشاق الحسام جديا ضد النمسا.
وكان اعتمادا على هذه التأكيدات إذن أن زحف الأرشيدوق شارل على رأس جيشه يوم 10 أبريل 1809 صوب بفاريا، واقتحم حدودها، ومعنى ذلك أن النمسويين دخلوا أراضي «اتحاد الراين» الذي كان نابليون «حاميا» له، ويعين استئناف النمسا القتال بهذه الصورة، تأسيس المحالفة الدولية الخامسة ضد فرنسا؛ لأن الحرب التي أشعلتها النمسا الآن جاءت في وقت تدور فيه الحرب في إسبانيا، ولأن إنجلترة أفادت من هذه الحوادث، فأرسلت النجدات إلى لشبونة وعينت لقيادتها السير أرثر ولزلي محل السير جون مور.
وفي يوليو 1809 بعثت بأسطولها لتحطيم الأحواض والأسطول الفرنسي في ميناء أنتورب - أو انفرس - (حملة جزيرة فالشيرين
Walcheren ) وقد أخفقت هذه المحاولة، واضطرت بقية الحملة إلى العودة لإنجلترة في أغسطس من السنة نفسها، ومن جهة أخرى اعتمدت النمسا في نضالها ضد الإمبراطور على عوامل أخرى لها خطرها، هي القوة المعنوية أو الروحية التي بدت في الحركات الثورية التي ذكرناها (حركة أندريا هوفر)، ثم التذمر المتولد من الضيق الاقتصادي بسبب سياسة الحصار القاري، وأخيرا الغضب الديني من معاملة البابا بيوس السابع رئيس الكنيسة الكاثوليكية بالعسف والجور على يد العاهل الفرنسي.
أما نابليون فقد غادر باريس في حملة هذا العام (1809) يوم 13 أبريل بعد أن أناب عنه في الحكم «كمباسيرس»، وكان جيشه في هذه الحملة يكاد يكون بتمامه جيشا جديدا يتألف ثلث قواته من فرق أجنبية «ألمانية»، بينما ضمت القوات الفرنسية إليها شبانا يافعين لم يبلغوا السن القانونية للتجنيد، وتخرجوا في سرعة من المدارس الحربية في سان سير
Saint-Cyr
أو «لافليش
La Flèche » المدرسة الحربية الإعدادية لأبناء الضباط، أو من المدارس الثانوية (الليسية)، كما ضمت إليها جنودا من المسرحين من الخدمة العسكرية، ومع أن جيش نابليون كان أقل عددا من جيش النمسا؛ إلا أنه احتفظ بميزتين هامتين: المدفعية القوية، والسرعة في العمليات العسكرية التي اشتهر بها نابليون.
وعبثا حاول النمسويون بقيادة الأرشيدوق شارل أن يفصلوا جيش «دافو» في راتزبون عن جيش «ماسينا» في أوجزبرج، فقد اشتبك معهم الإمبراطور في معركة (أو سلسلة من المعارك) دارت رحاها خمسة أيام (من 19 إلى 23 أبريل 1809)، كانت أهمها في «إكموهل
Eckmühl » في 22 أبريل - نال دافو على أثرها لقب أمير إكموهل - وعجز النمسويون بعد هذه المعارك عن وقف زحف الفرنسيين، فنشبت معركة دامية عند إبرزبرج
Ebersberg
في 3 مايو، ودخل نابليون فينا للمرة الثانية في 13 مايو 1809.
وجمع الأرشيدوق شارل فلول جيشه ليعد جيشا جديدا من حوالي الثمانين ألف رجل، تقدم بهم على نهر الدانوب حتى صار على مقربة من فينا، وتهيأ نابليون لمقابلته، وفي 20 مايو تمكن جيش ماسينا - من 40 ألف - من اتخاذ مواقعه على الضفة اليسرى للنهر في مكان يتوسط المسافة بين قريتي أسبيرن
Aspern ، وإيسلنج
Essling ، واشتبك الفريقان في معركة حامية، وتبادل الجيشان المتقاتلان احتلال أسبيرن وإيسلنج مرات عديدة، وانقضى يوم المعركة الأول (21 مايو) والأرشيدوق شارل يحتل هذا الموقع (أسبيرن)، وفي القتال الذي دار يوم 23 مايو تحمل الفريقان خسائر جسيمة، ولم يجد الإمبراطور مناصا من إصدار أمره بالتقهقر، وبلغت خسائر الفرنسيين في هذه المعركة ثلاثين ألفا تقريبا، وبلغت خسائر النمسويين عشرين ألفا، وأصيب في هذه الواقعة القائد الفرنسي «لان» بجرح قاتل؛ ليقضي نحبه بعد أيام قلائل، وأما «ماسينا» فقد استطاع أن يجمع فلول الجيش الفرنسي، ونال ماسينا لقب أمير إيسلنج، ولكن هذه الواقعة - واقعة أسبيرن وإيسلنج - (21-22 مايو) كانت ذات أثر خطير على سمعة نابليون.
وقد قضى نابليون ستة أسابيع بعد هذه الواقعة يعمل بكل همة لتعويض خسائره وإعادة بناء الجيش؛ استعدادا لمحاولة جديدة من أجل عبور النهر (الدانوب، عند فينا) والالتحام مع العدو في معارك فاصلة على الضفة الأخرى.
وكان النمسويون عندما بدءوا تعبئة جيوشهم في يناير وفبراير 1809 قد أعدوا جيشا بقيادة الأرشيدوق جون
John
لغزو إيطاليا الشمالية الشرقية، بينما تهيأ الأرشيدوق فردنند للزحف من كراكاو
Cracow
بجيش آخر لاحتلال وارسو (عاصمة غراندوقية وارسو)، وقد تقدم هذا الجيش الأخير بكل سرعة داخل الأراضي البولندية، وأوقع الهزيمة بالوطنيين البولنديين بقيادة «بونياتوسكي
» في 19 أبريل، وفي 23 أبريل دخل وارسو، ولكن بونياتوسكي الذي جمع جيشه في غاليسيا
Galicia
لم يلبث أن احتل لوبلن
Lublin (في 14 مايو)، ثم ساندومير
Sandomir (على نهر الفستيولا) في 18 مايو.
وفي 20 مايو استولى بعد هجوم عنيف على زاموس
Zamosz «جنوب لوبلن، إلى الغرب من نهر الفستيولا»، وتقدم الروس (حلفاء الإمبراطور) في الوقت نفسه عبر الحدود الروسية-النمسوية إلى لمبرج
Lemberg ، بينما شرعت قوات بولندية تزحف على وارسو وتقترب منها، فما إن وجد الأرشيدوق فردنند نفسه مهددا من كل جانب حتى قرر إخلاء وارسو يوم 3 يونيو، والانسحاب إلى مكان بعيد منها، على أن ينسحب بجشيه أخيرا إلى أولمتز
Olmütz (الأراضي النمسوية) عن طريق كراكاو (يوليو 1809).
وكما أخفقت عمليات النمسويين العسكرية ضد بولندة، لم يظفروا بنتيجة من حملتهم العسكرية في إيطاليا؛ فقد عبر جيش الأرشيدوق جون الحدود الإيطالية عند تارفيس
Tarvis
في 9 أبريل، وأنزل بعد ذلك بأيام قليلة هزيمة كبيرة بجيش فرنسي إيطالي يقوده نائب الملك في إيطاليا البرنس يوجين بوهارنيه، عند ساشيل
Sacile «إلى الجنوب» في 16 أبريل، ثم لم يلبث أن انتصر مرة أخرى على الفرنسيين عند كالديرو
Caldiero
في 29 أبريل، ولكن أخبارا سيئة لم تلبث أن وصلته عن سوء الموقف في ألمانيا؛ قرر بسببها الانسحاب إلى ما وراء الحدود الإيطالية (في بداية مايو).
وبعد عدة التحامات مع قوات البرنس يوجين الذي كانت قد وصلته النجدات عندئذ، ولم يحرز النمسويون أية انتصارات جديدة، اضطر الأرشيدوق جون إلى التخلي عن إقليم كارينثيا
Carinthia «النمسوي» لنائب الملك في إيطاليا، والانسحاب إلى المجر (هنغاريا)، فوصل يوم 7 يونيو إلى «راب
Raab » يتعقبه يوجين الذي كانت مهمته الآن تغطية تحركات الجيش الفرنسي الرئيسي الزاحف على المجر، ثم أوقع يوجين بالنمسويين الهزيمة عند «راب» في 14 يونيو، وتقهقر الأرشيدوق إلى برسبورج عن طريق كومورن
Komorn ، وقد استدعي من برسبورج للاشتراك في واقعة واجرام
Wagram .
وكذلك اضطر النمسويون الذين اشتبكوا في معارك مع قوات المارشال مارمون في كرواتيا ودلماشيا إلى الارتداد والانسحاب إلى الأراضي النمسوية.
وفي أثناء ذلك كله كانت العلاقات في هذه اللحظة ذاتها قد ساءت لدرجة بعيدة بين الإمبراطور والبابا بيوس السابع؛ فقد احتل الجنرال ميوليس
Miollis - كما عرفنا - روما في 2 فبراير 1808 من أجل مراقبة تنفيذ الحصار القاري، ومن ذلك الحين وجد البابا أنه في حرب «فعلية» مع الإمبراطورية الفرنسية، فقد أوقف ونفى سكرتير الدولة (البابوية) الكردينال جبرييلي
Gabrielli ؛ لأنه منع الموظفين في الأملاك (أو الدولة) البابوية من حلف يمين الولاء للحكومة الدخيلة، وخلفه الكردينال «باكا
Bacca » الذي سار في نفس سياسة المقاومة ضد السيطرة الفرنسية، وهي المقاومة التي امتدت إلى كل أنحاء إيطاليا.
وقد شرح الكردينال «باكا» لأعضاء الهيئة السياسية في البلاط البابوي (30 نوفمبر 1808) الحال السيئة التي صارت عليها حكومة رئيس الكنيسة الأعلى، تحت السيطرة النابليونية فقال: «إن الكنيسة المستعبدة قد صارت خاضعة لسلطان السلطة الزمنية، بينما قد بقي رئيسها الأعلى حبيس سجن ضيق منذ عشرة شهور، فريسة للإهانات والاعتداءات من كل نوع، محروما من وزرائه ومبعدا عنهم، مشلول السلطة للقيام بوظائفه.» ولكن نابليون لم يلبث أن أجاب على هذه المقاومة باستصدار قرار من فينا في 17 مايو 1809، يعلن فيه أنه لم يعد هناك مسوغ لبقاء السلطة الزمنية التي يمارسها البابا، ذلك أن الأملاك البابوية قد ضمت الآن إلى الإمبراطورية الفرنسية، وأن روما قد صارت مدينة حرة وتابعة للإمبراطورية، وأراد نابليون أن يعوض البابا عن خسارته؛ فقرر زيادة أراضيه ومزارعه بدرجة تستطيع بها أن تدر عليه ريعا سنويا يبلغ مليوني فرنك، على أن البابا لم يلبث هو الآخر من ناحيته أن استصدر بعد ستة أسابيع فقط (10 يونيو 1809) قرار حرمان ضد «أولئك الذين ارتكبوا، وأمروا، ورحبوا بالاعتداءات التي وقعت على السدة الرسولية، وأشاروا بها ووافقوا عليها»، وقاوم البابا أمر نابليون بالقبض على الكردينال «باكا» وأخيرا ألقى الجنرال «رادت
Radet » القبض على البابا نفسه في 6 يوليو 1809، ونقله إلى سافونا
Savona (ناحية الغرب من جنوة) حيث بلغها يوم 20 أغسطس.
واليوم الذي ألقي فيه القبض على البابا بيوس السابع (6 يوليو) كان اليوم الذي أحرز نابليون فيه النصر على النمسويين في واقعة (واجرام) الدموية؛ فقد عبر الجيش الفرنسي نهر الدانوب، وقد بلغ المائة والخمسين ألف مقاتل، قبل ذلك بيومين (4 يوليو)، ثم وقعت الواقعة عند واجرام على مسافة 4 أميال من النهر، وساهم في المعركة نخبة من القواد الفرنسيين: دافو، ماسينا، ماكدونالد، مارمون، أودينو
Oudinot ، وقد رقي الثلاثة الأخيرون إلى مارشالات فرنسا، ثم لوريستون
Lauriston ، ودروت
Drouot ، وبرتييه
Berthier
الذي نال لقب أمير واجرام، وتكبد الفرنسيون في هذه المعركة خسائر لا تقل عن خسائر أعدائهم، كما أنهم عجزوا عن الاستفادة من هذا النصر؛ لافتقارهم للفرسان من جهة، ولعدم وجود قوات احتياطية كافية لديهم من جهة أخرى، ولكن فرانسوا الأول (إمبراطور النمسا) الذي كان يعوزه المال والحلفاء، لم يلبث أن اضطر إلى توقيع الهدنة في زنايم
Znaim
في 11 يوليو، وبدأت من ثم المفاوضات بين مترنخ
Metternich (عن الجانب النمسوي)، وشامباني
Champagnz (عن الجانب الفرنسي) في ألتنبورج
Altenbourg
من أجل عقد الصلح، وسارت المفاوضات بخطى وئيدة.
ولا جدال في أن فرنسوا الثاني (عاهل النمسا) قد وجد نفسه مخدوعا من ناحية القيصر إسكندر، الذي كان يرجو فرانسوا وجوده، والذي اعتقد أن بوسعه - إذا هب لنجدته، أو تدخل مع «حليفه» الإمبراطور - أن يمنع هذا الأخير من التمادي في عدائه ضد النمسا، ووجد فرانسوا نفسه مخدوعا كذلك من ناحية بروسيا التي استسلمت لسلطان نابليون، ثم مخدوعا أخيرا من ناحية الإنجليز الذين أخفقت حملتهم على جزيرة فالشيرين.
ولم يكن نابليون متفرغا تمام التفرغ لمفاوضات الصلح مع النمسا؛ فهو يشك في ولاء فوشيه مدير البوليس الذي تولى شئون وزارة الداخلية مؤقتا بسبب مرض وزيرها «أمانويل كريتيه
Cretet »، وقد انتهز فوشيه فرصة نزول الحملة الإنجليزية في جزيرة فالشيرين ليدعو الحرس الوطني للاحتشاد، وكان يتولى قيادته برنادوت، ويشك نابليون في ولائه كذلك.
ثم إن فوشيه صار يشجع الحركات التي تجمع بين الجمهوريين والملكيين في جهد مشترك ضد نابليون لمناوأة «الطاغية»، واتخذ نابليون من جانبه الخطوات التي رآها كفيلة بإفساد هذه المؤامرات؛ فاستبدل بالقائد برنادوت، الجنرال «بسيير» في الدفاع عن أنتورب (أنفرس)، وأخذ يجرد تدريجيا الحرس الوطني من الأسلحة، وتظاهر بأنه لم ير في مناورات فوشيه إلا دليلا على شدة حماس هذا الأخير في خدمته، فرفعه إلى مرتبة الدوقية (في 15 أغسطس 1809)، وغدا فوشيه دوق أوترانتو
Otranto ، ولكنه عين بوزارة الداخلية في أول أكتوبر مونتاليفيه
Montalivet ، وكان موضع ثقته، أضف إلى هذا أن الإمبراطور صادف متاعب كذلك في فينا عندما حاول أحد الألمان «ستابس
Staps » الاعتداء على حياته (12 أكتوبر).
وأخيرا وقعت معاهدة الصلح مع النمسا في فينا «شونبرون
Schönbrunn » في 14 أكتوبر 1809، وقد أصر نابليون على إنقاص الجيش النمسوي العامل إلى مائة وخمسين ألف مقاتل وحسب، وعلى أن تدفع النمسا تعويضا (85) مليونا من الفرنكات، ثم فقدت النمسا من أملاكها غاليسيا الشمالية التي أعطيت إلى غراندوقية وارسو، على أن تنال روسيا إقليم تارنبول
Tarnopol
الملاصق لحدودها، وقد أراد نابليون بإعطاء تارنبول لروسيا أن يقيم الدليل على أنه لا يعمل لإحياء بولندة القديمة؛ وذلك حتى يقضي على مخاوف القيصر، وكذلك فقدت النمسا سالزبورج
Salzbourg ، وبرونو
Braunau
وقد أعطيتا لملك بفاريا، وأدمجتا تبعا لذلك في اتحاد الراين، ثم تنازلت النمسا عن موانيها على بحر الأدرياتيك (ميناء تريسته) وعن كارينثيا وكارنيولا
Carniola
وجزء من كرواتيا
Croatia ؛ ليتألف من كل هذه الأقاليم بالإضافة إلى دلماشيا (التي سبق أن تخلت النمسا عنها منذ 1805) ما صار يعرف باسم المقاطعات الأليرية
، نسبة للإقليم الجبلي المطل على الأدرياتيك والذي يضم كارنيولا، وكارينثيا، وتريسته.
وقد أدمجت هذه (المقاطعات الأليرية) في الإمبراطورية الفرنسية؛ لإحكام نظام الحصار القاري في هذا الجزء من أوروبا، ثم إن إمبراطور النمسا اعترف رسميا بكل الملكيات والإمارات التي أوجدها نابليون، وتعهد بالامتناع عن إنشاء أية صلات ودية مع إنجلترة، والقيام على تنفيذ نظام الحصار القاري بكل دقة، وهكذا أصبحت النمسا بفضل هذه المعاهدة (معاهدة شونبرون) مجرد دولة ثانوية تخضع لسلطان نابليون وتسير في فلك الإمبراطورية الفرنسية، وبسط نابليون سيطرته على كل أوروبا.
ولقد بدا مع ذلك هذا السلطان مزعزعا، ما دامت تحاك المؤامرات ضد حياة العاهل الفرنسي، وما دام السلام الداخلي - في داخل فرنسا ذاتها - قد ظل مهددا لسبب هام؛ هو افتقار نابليون لوريث من صلبه يكفل إنشاء «بيت بونابرتي»، أي: أسرة حاكمة يلتف حولها الفرنسيون لصيانة نظام الحكم وضمان الاستقرار والسلام في الداخل، ومن أجل المحافظة على صرح الإمبراطورية النابليونية، كي يسود السلام في الخارج.
وانعقدت الآمال في أول الأمر على أن ابن شقيق نابليون - ملك هولندة، لويس - من زوجته هورتنس، ابنة جوزفين بوهارنيه، ولكن هذا الوريث المنتظر «نابليون شارل» لم يلبث أن توفي في سن الخامسة (في 5 مايو 1807)، واستأثرت مشكلة وراثة العرش بتفكير كل من تاليران، وفوشيه، خصوصا أثناء حملة 1809؛ خوفا من أن يصيب نابليون مكروه أو تلحق الهزيمة بجيوشه ويتصدع بناء الإمبراطورية، ثم فاتح كلاهما «مورا» وغيره في هذه المسألة.
وأما نابليون نفسه فكان يفكر من مدة طويلة في الطلاق من زوجه جوزفين، ولكن يمنعه من اتخاذ هذه الخطوة عاطفته القوية نحوها، من جهة؛ ولأن جوزفين قامت دائما بدور الإمبراطورة خير قيام ، وساعد بذخها وإسرافها في إحياء الحفلات وتنظيم الحياة في البلاط الإمبراطوري على رواج التجارة وانتعاش السوق الباريسية، التي اشتهرت سريعا بإنتاج الأطرزة الراقية من أدوات ومستلزمات التجميل، والملابس وما إلى ذلك، ومع ذلك فقد اشتهرت جوزفين بالاندفاع وعدم التريث، وأسرفت إسرافا عظيما في الإنفاق على زينتها، أو على القصور الإمبراطورية، خصوصا في تأثيث وتجميل قصر مالميزون
Malmaison ، قصرها الأثير الذي تخلو فيه بأصدقائها والمقربين إليها.
ثم إن جوزفين أجزلت العطاء دائما للغير في كرم وسخاء؛ فبلغ ما أنفقته خلال ثماني سنوات فقط خمسة وعشرين مليونا من الفرنكات، ثم إن الإمبراطورة كانت مدينة بمبالغ طائلة (استطاع فوشيه تأدية بعض هذه الديون سرا من ميزانية البوليس)، وإلى جانب هذا كله، كانت جوزفين موضع كراهية الأسرة البونابرتية، لا سيما بعد أن عجزت عن إنجاب ولي للعهد، ووريث للعرش الإمبراطوري، الأمر الذي لم يدع مجالا في نظر هذه الأسرة للشفقة والرحمة، وقاومت جوزفين - ما استطاعت المقاومة - فكرة ومشروع الطلاق، ولكنها ما لبثت حتى وجدت نفسها تخضع رويدا رويدا لقبول هذه الفكرة، عندما تخلى «فوشيه» عن تأييدها بعد أن صار يعتقد بضرورة إنجاب وريث للعرش، وصار يصف الطلاق بأنه التضحية التي يجب على جوزفين أن تفتدي بها فرنسا، ثم طفق ولداها يوجين وشقيقته هورتنس يبذلان قصارى جهدهما لإقناعها بضرورة هذا الطلاق، وقد عهد الإمبراطور إلى يوجين (في 3 نوفمبر 1809) بأن يقنع والدته بصورة نهائية بالموافقة على الطلاق، وفي 30 نوفمبر أبلغ الإمبراطور زوجه بعزمه على تطليقها، وعندئذ استدعى أعضاء بيت (أسرة) بونابرت إلى باريس (ما عدا لوسيان، وكان مغضوبا عليه لزواج غير متكافئ أقدم عليه دون موافقة نابليون، وما عدا جوزيف ملك إسبانيا، وإليزا)، وفي حضور الأسرة حصل الطلاق (15 ديسمبر 1809)، وفي اليوم التالي صدق مجلس الشيوخ (السناتو) على هذا الطلاق.
وكان هذا الطلاق طلاقا مدنيا، ووجب تصديق البابا عليه حتى يستوفي شرائطه الدينية، وحاول نابليون عبثا انتزاع هذه الموافقة من البابا الذي أقام دائما في أسره في سافونا، وعندئذ أصدر مجلس الشيوخ قرارا في 17 فبراير 1810، بأن الدولة البابوية (حكومة روما) - وهذه كان قد سبق ضمها إلى فرنسا في الظروف التي ذكرناها، منذ حوادث 1808، 1809 - تؤلف جزءا لا يتجزأ من الإمبراطورية الفرنسية، وأن مدينة روما هي المدينة الثانية في الإمبراطورية، ويحمل ولي العهد الإمبراطوري - والذي لم يولد بعد - لقب ملك روما، ويقيم أمراء البيت الإمبراطوري، أو عظماء الدولة «بلاطا إمبراطوريا في روما»، ويصير تتويج الأباطرة في كنيسة بطرس الرسول في روما بعد أن يتوجوا أولا في كنيسة نوتردام في باريس، وذلك قبل مضي السنة العاشرة من حكمهم.
ولتأكيد استقلال العرش الإمبراطوري نص القرار على أن كل سلطة أجنبية عاجزة تماما عن ممارسة شيء من السلطات الروحية في داخل الإمبراطورية، وأن الواجب يقتضي البابوات حلف اليمين على عدم المساس في شيء بالقرارات التي اتخذها مجمع القساوسة في سنة 1682، والتي قامت عليها الكنيسة الجليكانية (الفرنسية الأهلية)، والتي تقوم عليها كذلك كل الكنائس الكاثوليكية في أنحاء الإمبراطورية، وجاء في قرار 17 فبراير 1810 أن البابا «بيوس السابع» حر في اختيار مكان إقامته، ولكن من الأفضل أن يكون ذلك إما في روما وإما في باريس، وأن تخصص له إيرادات، مليونان من الفرنكات، وأن تتحمل الميزانية الإمبراطورية نفقات جميع الكرادلة في روما، ومنظمة الرسالات الكاثوليكية التبشيرية.
وفي أثناء ذلك كان الإمبراطور ينظر في اختيار زوجة جديدة له، وكلف «كولينكور» أن يجس نبض القيصر في زواج الإمبراطور من أميرة روسية (من أسرة القيصر)، وكان وزراء القيصر: روميانتزوف
Roumiantzov ، وسبيرانسكي
Speranski - وهما اللذان يؤيدان التقرب من فرنسا - قد عقدا آمالا كبيرة على عقد مصاهرة بين الأسرتين في بطرسبرج وباريس؛ من أجل استمرار اتجاه السياسة الروسية نحو التحالف مع فرنسا، ولكن مشروع نابليون سرعان ما اصطدم بصخرة عنيفة، هي مقاومة والدة القيصر إسكندر «صوفيا دورثيا
Sophia Dorothea » الألمانية (أميرة ورتمبرج) وأرملة القيصر بول الأول المقتول في سنة 1801، وكانت هذه تكره كراهية شديدة كل شيء يمت بصلة لفرنسا، وتكره ثورتها والرجل (أي نابليون) الذي جاءت به هذه الثورة وجنى ثمارها، وكان بسبب هذه الكراهية أن بادر إسكندر بمجرد أن شعر باتجاهات نابليون بعد «إرفورت» بتزويج شقيقته كاترين - وتبلغ الثانية والعشرين - من الأمير جورج غراندوق أولدنبرج
Oldenburg ، ولكن كان لدى القيصر شقيقة أخرى تصغرها «سنها خمس عشرة سنة» هي الغرندوقة آن
Anne ، وهي التي تقدم نابليون - الآن - (يناير 1810) يطلب يدها.
وعلى ذلك فقد انتحل القيصر شتى الأعذار للتخلص من المصاهرة، تارة بدعوة أن القيصرة الأم متغيبة في رحلة بعيدة عن العاصمة ويجب انتظار عودتها، وتارة بالقول إن الغراندوقة الصغيرة لا ترغب في استبدال عقيدة أخرى بعقيدتها الأرثوذكسية، مما قد يعرضها لكراهية الشعب الفرنسي، أو على أحسن الفروض لانعدام الميل نحوها، وفوق هذا وذاك هناك الخوف الكامن دائما من محاولة نابليون بعث الدولة البولندية القديمة إلى الوجود، وتهديد كيان روسيا، وضرورة الحصول على ضمانات أوفى لتأمين روسيا من هذه الناحية.
وهكذا تعدد إرسال الرسل بين باريس وسان بطرسبرج دون الوصول إلى نتيجة، وأدرك نابليون في آخر الأمر أن طلبه الزواج من أميرة روسية لا يلقى قبولا، وعندئذ اتجه صوب النمسا.
ولم يكن نابليون في قرارة نفسه راضيا عن الزواج من أميرة نمسوية، وهو الذي اشتبك مع النمسا في حروب دموية، وأوقع بجيوشها الهزائم البالغة مرة بعد أخرى، والتي يحقد عليها حقدا شديدا، وأما النمسا فقد نظر عاهلها «فرنسوا الأول» - كذلك هو فرنسوا الثاني بوصفه إمبراطورا للإمبراطورية الألمانية - لمشروع المصاهرة مع الإمبراطور الفرنسي كخطوة يستطيع بها إنقاذ مملكته المهددة بالفناء السريع أمام الجيوش النابليونية، وعقد وزيرها «مترنخ» الآمال الكبار على هذه المصاهرة من حيث استطاعته التفريق بين نابليون والقيصر إسكندر، وانتزاع نابليون من المحالفة مع روسيا، وجذبه بدلا من ذلك إلى المحالفة مع النمسا؛ حتى يحفظ للنمسا بقاءها، ما دام صاحب السلطان في أوروبا، حتى إذا أفل نجمه وتبين أن صرح الإمبراطورية الفرنسية قد بدأ ينهار، انقلبت النمسا ضده، لتسدد إليه الضربة الغادرة، ومن حيث لا يتوقع نابليون أن تسدد إليه منها؛ لتقوض عروض هذه الإمبراطورية المنهارة.
وكان مترنخ هو الذي أشعر المسئولين الفرنسيين منذ 29 نوفمبر 1809 (في فينا) أن الأرشيدوقة ماري لويز ابنة فرنسوا الأول (منذ 1804 بوصفه إمبراطورا للنمسا) وتبلغ الثامنة عشرة لن يرفض أحد تزويجها من العاهل الفرنسي إذا تقدم يطلب يدها، وجرت مباحثات في هذا الشأن في باريس، وأخيرا جمع نابليون في باريس في 29 يناير 1810 مجلسا كبيرا للتشاور، حضره كبار رجال الإمبراطورية وعدد من الوزراء، فكان كمباسيرس ومورا في صف المصاهرة الروسية، وفضل يوجين بوهارنيه، وشامباني، وتاليران الزواج النمسوي، وكان نابليون نفسه يؤثر زواجا روسيا على كل ما عداه، ولكنه لم يلبث أن وافق على المصاهرة النمسوية؛ اعتقادا منه بأن الزواج من إحدى حفيدات شارل الخامس ولويس الرابع عشر كفيل بأن يحفظ ثمرة انتصاراته، وأن فيه ضمانا لضبط ألوية السلام العام.
وإلى جانب هذا كله فإن المصاهرة مع أقدم البيوت الحاكمة العريقة في أوروبا (أسرة الهابسبرج) لا بد أن يضفي على بيت بونابرت الذي تأسس على أنقاض أسرة مالكة عريقة أخرى (أسرة البربون) صفة الشرعية التي ترفع هذا البيت البونابرتي «المغتصب» إلى مصاف البيوت المالكة في أوروبا، واعتقد نابليون أن الظفر بهذا الاعتراف بمشروعية البيت البونابرتي عن طريق المصاهرة مع أحد البيوت العريقة الحاكمة، سواء في ألمانيا (الهابسبرج)، أو في روسيا (رومانوف)، عمل لا يقل في خطورة أثره عن إنجاب وريث للعرش من أجل المحافظة على الإمبراطورية، وما ينطوي عليه ذلك من دعم السيطرة النابليونية في كل أنحاء أوروبا.
وعلى ذلك فإنه بمجرد أن وصلته الأنباء الأخيرة من روسيا (5 فبراير سنة 1810)، وانعدم كل أمل في مصاهرة بيت رومانوف الروسي، كلف نابليون البرنس يوجين بوهارنيه أن يطلب من السفير النمسوي «شوارزنبرج» يد الأرشيدوقة ماري لويز، وفي 23 فبراير جاءت الموافقة، وفي 2 مارس وصل «برثييه» إلى فينا لعقد صك الزواج (9-11 مارس).
وغادرت ماري لويز فينا يوم 12 مارس في طريقها إلى باريس، وعند كورسيل
Courcelles
بالقرب من سواسون استقبل نابليون زوجه ليسير بها إلى باريس، وفي أول أبريل صار الاحتفال بالزواج المدني «في سان كلو» ليعقبه الاحتفال بالزواج الديني في قصر اللوفر في اليوم التالي.
وقام بالعقد الكردينال فيش، وامتنع عن حضور هذا الزواج عدد من كبار رجال الدين والكرادلة (13)، الذين اعتبروا طلاق الإمبراطور من زوجته السابقة جوزفين غير قانوني، وقد تعرض هؤلاء للنفي في الأقاليم «بسبب عصيانهم» مع مصادرة أموالهم، ومنعهم من ارتداء أردية الكرادلة الحمراء.
ولم يلبث الإمبراطور أن غادر باريس يوم 20 أبريل 1810 قاصدا إلى البلجيك، واصطحب معه في هذه الرحلة زوجه الجديدة لقضاء «شهر العسل»، ومن المعروف أن بلجيكا كانت من أملاك النمسا حتى انتزعتها فرنسا منها «أيام الثورة» سنة 1792، وبقي عديدون من أهل بلجيكا يكنون الولاء للبيت النمسوي، إلا أن نابليون كان له غرض آخر إلى جانب قضاء شهر العسل في هذه البلاد الصديقة لزوجه، ذلك أنه كان يريد مراقبة تنفيذ الحصار القاري في حدود إمبراطوريته المواجهة لإنجلترة التي لم يفتر عداؤها له، ثم في حدود إمبراطوريته المتاخمة لهولندة وقد أصبحت هذه مركزا نشيطا للتهريب إلى إنجلترة ومنها، ويؤمها المصرفيون الذين يحاولون بمناوراتهم المالية إلحاق الأذى بالاقتصاد الفرنسي، وقد اختلطت بهذا كله المؤامرات المنبعثة عن الأطماع الشخصية لدرجة أن أفق السياسة في أوروبا سرعان ما صار متلبدا بالغيوم، ولعل السبب الرئيسي في ذلك كان إصرار نابليون على تنفيذ نظام الحصار القاري بكل صرامة.
وكان غرض نابليون من التشبث بتنفيذ الحصار القاري، التضييق على إنجلترة؛ حتى يرغمها على التسليم وطلب الصلح، على أساس الاعتراف بإمبراطوريته، والخضوع لسلطانه الممتد على أوروبا، ولقد شعرت إنجلترة بالضيق ومرت بأزمة اقتصادية شديدة بسبب هذا الحصار القاري، ولكن الذي لا شك فيه كذلك أن أوروبا ذاتها شعرت بمثل هذا الضيق، وصارت هي الأخرى تمر بأزمة اقتصادية شديدة بسبب سياسة الحصار القاري، وكانت هولندة في طليعة الدول التي شكت من الأزمة بسبب حرمانها من حرية الملاحة والتجارة التي اعتمدت عليها حياتها الاقتصادية، ولم يتردد ملكها لويس بونابرت في إبلاغ الإمبراطور حقيقة الحالة، ورفض الحلول التي أشار بها نابليون لمعالجة هذه الأزمة، وكانت تدور حول خفض قيمة الفوائد وأقساط الديون التي تدفعها الحكومة الهولندية، وحرص الملك لويس على الاقتصاد في نفقات الحكومة، وأغمض عينيه عن تجارة التهريب التي استطاع الشعب الهولندي بفضلها وحدها العيش وقتئذ، ثم قام بمحاولته في سبيل السلام مع إنجلترة، وكان وسيطاه في هذه المحاولة لابوشير
Labouchère
المصرفي الهولندي، وبارنج
Baring
المصرفي الإنجليزي.
وعندئذ ضاق نابليون بأخيه ذرعا، ولم يلبث أن استدعاه إلى باريس في نوفمبر 1809، وألزمه بقبول موظفين فرنسيين لمراقبة الجمارك، وملاحظة الشواطئ الهولندية، ثم عقد معه بعد قليل معاهدة في 16 مارس 1810، انتزع بمقتضاها كل الضفة اليسرى لنهر الفال
Vaal ، وعد الملك لويس هذه الإجراءات إهانة له، وصمم على الاستقالة، وقد نصحه مستشاروه بالبقاء على عرشه (17 أبريل 1810).
على أن اقتطاع هذا الجزء الجديد من هولندة، لضمه إلى فرنسا من أجل تضييق الحصار القاري من هذه الناحية على إنجلترة، كان من أثره أن زادت صلابة الإنجليز وإصرارهم على المضي في النضال ضد العاهل الفرنسي، وقام مصرفي آخر «أوفرارد
Ouvrard » - وهو فرنسي صديق لفوشيه، ويوليه الملك لويس حمايته - بنفس المحاولة التي قام بها من قبل كل من لابوشير وبارنج، واعتقد أن في قدرته أن يعد الإنجليز بالتخلي عن البلاد الواقعة خارج حدود فرنسا الطبيعية، ثمنا لعقد الصلح معهم، ولكن الإمبراطور بمجرد أن علم بالمؤامرة، عزل فوشيه من وزارة البوليس ليعهد بها إلى سافاري دوق دي روفيجو
Rovigo ، وذهب فوشيه «للمنفى» في تسكانيا، لينتقل منها (في 27 أغسطس 1810) إلى أملاكه في أيكس
Aix ، ليرقب من هناك تطور الحوادث، ومؤامرات اليعاقبة أو الملكيين ضد الإمبراطورية، ثم إن نابليون لم يلبث أن تشاجر مع أخيه، وفي أول يوليو 1810 تنازل لويس عن عرش هولندة، ليخلفه ولده، وذهب إلى بوهيميا.
وفي 9 يوليو استصدر الإمبراطور قرارا بضم هولندة إلى الإمبراطورية، وفي 13 ديسمبر صدر قرار من مجلس الشيوخ بتقسيم هولندة إلى مقاطعات «فرنسية» تحت إدارة «لوبران»، وتنظيم الجمارك بها بصورة تربطها بنظام الجمارك الفرنسية، وخفض قيمة الدين العام إلى الثلث.
وهكذا استطاع نابليون إنشاء رقابة فعالة على الشواطئ، ولكن إنجلترة - بفضل أسطولها الكبير - بقيت محتفظة بالسيادة في البحار؛ فلم تنقطع علاقاتها التجارية مع مستعمراتها، ومع المستعمرات الفرنسية ذاتها، ونشطت لإنشاء هذه العلاقات مع البلاد التي ثارت في أمريكا لتظفر باستقلالها، مثل المكسيك، وكولمبيا (أبريل 1810)، كما صارت جزر هيلجولند في بحر الشمال، وصقلية، ومالطة في البحر المتوسط مراكز هامة للتهريب، ومخازن ومستودعات للبضائع، تصدر بها «التراخيص» لسفن الدول المحايدة لتمنع عنها التفتيش والمصادرة.
وقد بلغ عدد ما صدر من هذه التراخيص 2600 في سنة 1807 و18000 في سنة 1810، ولم يكن في وسع نابليون إلا أن يبذل قصارى جهده لمسايرة هذا النظام (نظام التهريب) الذي هدد بتحطيم مراسيم برلين وميلان لفرض الحصار القاري على إنجلترة، فأجاز في 12 يناير 1810 للقراصنة ولصوص البحر أن يعرضوا البضائع والمتاجر التي في حوزتهم للبيع في نظير أن تحصل الحكومة ضريبة بنسبة تتراوح بين 40٪ و50٪ من قيمتها، كما سمح هؤلاء بتصدير بضائعهم ومتاجرهم بعد دفع ضريبة بنفس النسبة، ثم لم يلبث أن صدر قرار آخر في 5 أغسطس 1810 لزيادة نسبة الضريبة المحصلة على المحصولات والمنتجات الآتية من المستعمرات، سواء أكانت هذه إنجليزية أم فرنسية أم غير ذلك، فارتفعت الضريبة من 10٪ إلى 50٪، وصدرت قرارات في 18 و19 أكتوبر 1810 بإنشاء محاكم جمركية، وفيما عدا المنتجات القطنية التي ظلت تجارتها ممنوعة، صار نابليون نفسه - بفضل هذه الأنظمة «الجمركية» التي ابتدعها لمواجهة النشاط الذي حاول به أصحابه اختراق الحصار القاري - «مهربا» هو الآخر، يسعى للاستفادة من حركة التهريب الواسعة هذه؛ ليملأ خزائنه بالمال بدلا من أن يستولي المهربون والقراصنة على أرباح هذه التجارة «السرية».
ولم يكن التهريب الوسيلة الوحيدة التي لجأت إليها إنجلترة في نضالها ضد الحصار القاري؛ فإنه سرعان ما تألف في شمال أوروبا حلف لصالح التجارة البريطانية، كان أهم أعضائه السويد، وإمارة أولدنبرج
Oldenburg ، وكانت السويد - لانحيازها الشديد للسياسة الإنجليزية - قد طردت ملكها جوستاف «الرابع» أدولف منذ 13 مارس 1809؛ لأنها عدته مسئولا عن خسارة بوميرانيا السويدية، التي فشل في محاولة استرجاعها سنة 1807، وفنلندة «التي غزتها روسيا منذ مارس 1808 واستولت عليها من السويد».
وكان الملك شارل الثالث عشر الذي خلفه على العرش لا وارث له؛ فقررت السويد في سنة 1810 اختيار أحد قواد نابليون لوراثة العرش على أمل أن تقربها هذه الخطوة من فرنسا ومن إمبراطورها المظفر، والذي يرمز إلى كل المبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية ، وانتظرت السويد أن ترفعها هذه العلاقة الجديدة إلى مصاف الدول الكبيرة وتزيل عنها آثار إهانة الهزائم السابقة، ووقع اختيارها على المارشال برنادوت الذي كان من أصهار البيت الإمبراطوري لزواجه من ديزريه كليري
Dèsirée Clary
1
شقيقة زوجة جوزيف بونابرت «جوليا كليري»، فتم انتخاب برنادوت وليا للعهد ووارثا لعرش السويد في 21 أغسطس 1810، فاتخذ اسم شارل جان «وصار الملك شارل الرابع عشر في سنة 1818»، ودخل ستوكهلم العاصمة في بداية نوفمبر.
وقد اعتمد نابليون على وجود برنادوت في السويد لتشديد الحصار القاري على إنجلترة من هذه الناحية وإغلاق السويد في وجه المتاجر الإنجليزية، ولكن ولي العهد الجديد لم يشأ أن يكون أداة يحركها الإمبراطور، ولم يكن يؤمن بسياسة الحصار القاري، وكان يريد ضم النرويج إلى السويد والاستيلاء عليها من الدنمارك، التي كانت متحالفة مع نابليون، وأدرك برنادوت أن بوسعه الاستفادة من العلاقات المتقلبة بين فرنسا وروسيا لتحقيق برنامجه، وعلى ذلك فإنه لم يلبث أن أعلن أنه يضع نفسه بملء الثقة في كنف القيصر إسكندر وتحت حمايته، ومن ذلك الحين صار بحر البلطيق مفتوحا للسفن الإنجليزية، وفي أكتوبر 1810 استطاع الإنجليز تفريغ حمولة ستمائة سفينة على الشاطئ البروسي.
ولكن «تهريبا» على هذا النطاق الواسع لم يكن نابليون ليغفل عنه، أو يرضى باستمراره دون اتخاذ إجراء مضاد؛ ولذلك ما لبث الإمبراطور حتى قرر الاستيلاء على الساحل الألماني بطوله، وكان الإمبراطور منذ 14 يناير 1810 قد تنازل لأخيه جيروم ملك وستفاليا عن كل «حقوق» له على هانوفر، أي على الإقليم الواقع عند مدخل بحر الشمال.
وفي 13 ديسمبر من السنة نفسها - وبالرغم من احتجاجات جيروم - عمد الإمبراطور إذن إلى تمزيق قرار 14 يناير، وأمر بضم كل مدن الهانسا إلى الإمبراطورية الفرنسية، ومدن الهانسا
Hansa
هي همبرج، برمن، لوبك
Lübeck ، كما ضم كل الأراضي الواقعة بين مصبات نهري إمز
Ems ، والوزر
Weser ، والإلب
Elbe ، فامتد بذلك سلطان الإمبراطورية إلى بحر البلطيق، وعهد الإمبراطور بإدارة هذه الأقاليم إلى القائد دافو
Davout
الذي اتخذ مقره في همبرج ليشرف منها على حركة «التهريب» في ألمانيا الشمالية، ولتقديم المهربين الذين يقبض عليهم للمحاكمة أمام «محاكم تجارية» لا استئناف لأحكامها.
وشملت هذه الأراضي الممتدة على طول الساحل الألماني الشمالي التي ضمها نابليون لإمبراطوريته إمارة صغيرة هي إمارة أولدنبرج، كان من الصعب - بالرغم من صغرها - ابتلاعها وإدماجها في الإمبراطورية؛ لأن حاكمها الأمير جورج كان زوجا - كما عرفنا - للغراندوقة كاترين شقيقة القيصر، وقد عرض عليه نابليون تعويضا له؛ إرفورت والأراضي المجاورة لها، ولكن أمير أولدنبرج رفض هذا العرض، فاقترح القيصر إسكندر تنصيبه على عرش بولندة، ولكن القيصر عمد في آخر ديسمبر 1810 إلى فتح المواني الروسية لدخول السفن الأمريكية، دون أن يتحقق ما إذا كانت هذه السفن قد وقفت في موانئ إنجليزية أم لا، ثم إنه عمد إلى جانب هذا - بدعوى أنه إجراء مالي وحسب - إلى منع استيراد كل المصنوعات الفرنسية، وعندئذ لم ير نابليون بدا من الإجابة على ذلك باتخاذ قرار في 18 فبراير 1811، يجعل نهائيا الاستيلاء على الأراضي التي ضمها قرار 13 ديسمبر من العام السابق إلى الإمبراطورية الفرنسية بما في ذلك إمارة أولدنبرج.
ولقد كان من أثر تصميمه على تنفيذ سياسة الحصار القاري، أن عناية الإمبراطور شملت ملاحظة حدود إمبراطوريته الداخلية (أو البرية)، كما شملت حدودها الخارجية (أو البحرية)؛ ليمنع تهريب البضائع أو المنتجات الإنجليزية عبر سويسرة إلى إيطاليا - وكانت هذه السوق الرئيسي للمنتجات الفرنسية من الأقمشة والمنسوجات خصوصا - فاحتل الإمبراطور «تيسن
Tessin » عند ممر سمبلون، وإقليم فاليه
Valais (جنوب الجمهورية الهيلفيتية أو السويسرية) في 12 فبراير 1810، وكان إخضاع إسبانيا المشكلة التي استغرقت جانبا كبيرا من نشاطه.
فهو لتنفيذ سياسة الحصار القاري - كذلك - قد عهد منذ 8 فبراير 1810 بالحكم في الأقاليم الواقعة في إسبانيا على الشاطئ الأيسر لنهر الإبرو
Ebro (وهي: كتالونيا، وأرغونة، ونافار، وبسكاي) إلى قواد عسكريين، فاستقطعت كل هذه الأقاليم من حكومة أخيه جوزيف بونابرت في مدريد، وأغضب جوزيف أن يرى كل هذه الأقاليم أخذت منه ليصبح هو - على حد قوله - «مجرد حارس لمستشفيات مدريد»، واستمر يشكو مر الشكوى إلى باريس ولكن دون جدوى، وقاوم الوطنيون الإسبان مقاومة عنيفة، وقد ظلت قادش مقر حكومتهم الأهلية، وحاول «سولت» مرات عديدة تضييق الحصار عليها دون نتيجة، ومع ذلك فقد استطاع المارشال «ماسينا» الاستيلاء - بعد معركة حامية - على سويداد رودريجو
Cuidad Rodrigo
في 10 يوليو 1810، ثم لم يلبث أن سقطت في يده «ألميدا
Almeida »، وكانت من أقوى الحصون في البرتغال، واضطر «ولزلي» بقواته البريطانية البرتغالية لاتخاذ موقع للدفاع عن العاصمة «لشبونة» عند «توريس فدراس
Torres Vedras » التي حصنت تحصينا قويا لهذه الغاية، وطارد الفرنسيون جيش ولزلي (دوق ولنجتون)، ولكنهم انهزموا عند بوساكو
Busaco
في 27 سبتمبر، واستطاع «ولنجتون» السير صوب لشبونة حتى بلغ مرتفعات توريس فدراس، واتخذ مواقعه بها (9 أكتوبر 1810)، وبعد أن أخفق ماسينا في مهاجمة خطوط توريس فدراس، اتخذ هو الآخر مواقعه على نهر التاغوس عند سانتارم
Santarem
في انتظار وصول النجدات إليه، حتى إذا استطالت إقامته بها دون أي أمل في زحزحة الإنجليز عن موقعهم في توريس فدراس، بينما نقصت لديه المؤن وصار جيشه يعاني مشقات شديدة - قرر ماسينا الانسحاب إلى إسبانيا، وفي 5 مارس 1811 غادر مع جيشه سانتارم، وكان من أسباب انسحاب ماسينا - ولا شك - ما وقع من انقسامات بينه وبين قواده، خصوصا «ناي» و«جونو» اللذين ساءهما أن يتولى القيادة العليا عليهما «ماسينا».
وفي ميادين إسبانيا الأخرى كان النصر حليف القائد «سوشيه» وحده، وذلك في كتالونيا، (حيث أخضع تاراجونا
Tarragona
في 28 يونيو 1811، بعد أن حاصر الثوار بها)، وفي فالنسيا حيث نجح في إقامة حكومة مستقرة بها.
وسياسة الحصار القاري نفسها هي التي جعلت نابليون يفكر أثناء ذلك كله (مارس 1811) في منح الأمريكيين بعض التسهيلات التجارية؛ لتشجيعهم على إعلان الحرب ضد إنجلترة التي كانت من جانبها تعمل لتنفيذ الحصار البحري على فرنسا بكل شدة، حتى إنها صارت تقبض على السفن التجارية الأمريكية لتقوية بحريتها، وتجبر الملاحين الأمريكان على الخدمة في سفنها، إلى غير ذلك من الأعمال التي أنذرت بقيام الحرب - لو استمر الحال على ذلك طويلا - بين الأمريكان والإنجليز، «وقد أعلن الأمريكان الحرب فعلا على هؤلاء في يونيو 1812»، بل إن نابليون من أجل استمالة الأمريكان (الولايات المتحدة) إلى جانبه، وتشجيعها على قطع علاقاتها بإنجلترة، صار يفكر في وقف قرارات الحصار القاري بالنسبة لهم؛ حتى يشعروا - كما قال - بثقل وطأة الطغيان الإنجليزي الذي لا يحتمله أحد.
وفي ربيع 1811 والإمبراطورية قد اتسعت رقعتها كل هذا الاتساع الذي وإن جعل ممكنا بسط السيطرة النابليونية على أوروبا، كان ينطوي على عوامل الضعف التي هددت بانهيار هذه الإمبراطورية عاجلا أو آجلا، وفي الوقت الذي كانت تجري فيه كل هذه الحوادث، وتواجه الإمبراطور المشكلات في إيبريا، وهولندة، وإيطاليا، وسويسرة، والسويد، وروسيا، والنمسا، وألمانيا بسبب الحصار القاري، وإصرار الإمبراطور على إحكام تنفيذ نظامه ضد إنجلترة لإرغامها على الخضوع لسلطانه، أنجب نابليون في 20 مارس 1811 ابنا، كان مجلس الشيوخ قد أصدر قرارا قبل ميلاده، بل وقبل زواج الإمبراطور، بإعطاء لقب ملك روما لولي عهد الإمبراطورية (17 فبراير 1810)، وكان الأباطرة الرومانيون يمنحون اللقب لوريث العرش، فأحيا نابليون هذا التقليد، وبدا الآن بمولد ملك روما أن مستقبل البيت البونابرتي - في حكم الإمبراطورية النابليونية التي خلفت الإمبراطورية الرومانية المقدسة القديمة - قد بات مضمونا.
فالإمبراطورية في ربيع 1811 تتألف من 130 مديرية (أو إقليم)، وتمتد حدودها من الدنمارك إلى نهر الأبرو (في إسبانيا)، ومن هولندة إلى دلماشيا، وفي وسع نابليون - بكل جدارة - أن يرى نفسه مساويا لشارلمان، وفي مشروعاته العظيمة هذه ارتفعت باريس حتى صارت عاصمة العالم الغربي قاطبة؛ يؤمها الناس من كل أنحاء أوروبا، وتزدان متاحفها بالتحف الفنية المجلوبة لها من كل البلدان، وباريس المدينة الأولى في الإمبراطورية التي صار بها كذلك مقر البابا رئيس الكنيسة الأعلى، ولو أن مرتبته لم تعد تعلو - في هذا النظام الجديد - مرتبة مجرد كاهن ملحق بخدمة الإمبراطور في شئون العبادة.
وازدحم بلاط الإمبراطورية في باريس بالأتباع من رجال الحاشية والوزراء وكبار الموظفين الذين انحنوا بخنوع أمام نابليون «العظيم»، واختار الإمبراطور كبار موظفيه من بين النبلاء القدامى في العهد القديم، وكان لا مندوحة عن أن يضم البلاط الإمبراطوري هؤلاء النبلاء «الأصليين»؛ لإعطاء المظهر الأرستقراطي اللازم لحاشية أكثرها من أفراد العامة - أي الطبقة الوسطى الذين قامت «الثورة» على أكتافهم ووصلوا إلى مراكز الصدارة - ولقد كان في رأي كثيرين من المعاصرين أن البلاد لم تشهد عهدا من الهدوء والسكينة - مفعما بالسعادة - كعهد الإمبراطورية وقتئذ، من أيام القنصلية، وشهد آخرون بأن الأرستقراطية الفرنسية - حتى في أزهى عصور الملكية - لم يبلغ ثراؤها مبلغ ما وصل إليه الآن، ولم تلمع أضواؤها بالدرجة التي بهرت الأبصار في هذه الفترة من حياة الإمبراطورية النابليونية.
ومع ذلك فلم يكن هذا المجد الظاهري ينطوي على رخاء حقيقي، بسبب ازدياد البطالة والتعطل عن العمل المستمر، ولعجز الزراعة عن سد حاجة السكان، ولرداءة محصول سنة 1811 على وجه الخصوص، حتى نزل الضيق بالشعب وكثر تذمره، ومن ناحية أخرى كان مثل هذا التناقض ملاحظا في شئون البلاد التي خضعت لسلطان الإمبراطورية؛ فالأقاليم التي لقيت من نابليون عناية شخصية مثل جزء الأيونيان، وإيطاليا، واتحاد الراين، وفي كل مكان دخله نابليون بجيوشه، وصار ينشر فيه الآراء التي جاءت بها الثورة الفرنسية، نشط الأهلون في نهضة قومية جديدة يبغون إحياء أمجادهم الماضية، وأما فيما عدا ذلك فقد صار الجميع يثنون من صرامة الديكتاتورية النابليونية، وشدة الطغيان الذي أرهقهم.
ووصف الكونت بالبو
Balbo ، من كبار الإداريين الطليان الذين استخدمهم نابليون في إيطاليا، وقد أحرز بالبو فيما بعد شهرة كبيرة كمؤرخ وكاتب، نقول: إنه وصف ظاهرة هذا التناقض في إيطاليا - وليس هذا الوصف مقصورا على إيطاليا وحدها - في مجتمع يخضع لعسف وطغيان السيطرة الأجنبية المفروضة عليه بحكم الغزو، ثم يشعر في الوقت نفسه بأنه مغمور بموجة من الرخاء، فيزدهر إنتاجه ولا يحول الخضوع لسلطان الأجنبي دون إحساسه بالعزة، وتطلعه إلى بلوغ ذروة المجد الذي يسير في طريقه بخطى ثابتة.
فقال بالبو ما معناه: «إن كل العهود التي خضعت فيها إيطاليا للسلطان الأجنبي لم يعدل أحدها مبلغ الرخاء والخصب والنفع والعظمة مثل ما بلغه عهد السيطرة النابليونية؛ فلم يشعر أي إنسان بأن إهانة ما قد لحقته من جراء خدمة رجل ذي شهرة عالية ونشاط عظيم، كان نصف أوروبا يقوم على خدمته، وهو فوق ذلك إن لم يكن إيطاليا بحكم المولد، فهو بالأقل إيطالي بحكم أرومته، ويتسمى باسم إيطالي، حقيقة حرم الطليان الاستقلال الحقيقي، ولكنهم عوضوا عن ذلك أن الأمل صار يملأ صدورهم في تحقيق أمانيهم في المستقبل القريب، وهم قد حرموا كذلك الحرية السياسية ولكنهم عوضوا عنها بمظاهر هذه الحرية السياسية، ثم سادت المساواة في الحقوق المدنية، وتلك في اعتبار كثيرين كانت تعويضا عن الطغيان الذي استبد بهم، وإذا لم تكن هناك حرية في الكتابة والتعبير عن الرأي، فقد اختفى من جهة أخرى شعور الحسد والحقد ضد المعرفة بكل أنواعها، واحتقار رجال العلم والقلم، وإذا كانت التجارة قد فقدت نشاطها، فقد احتفظت بنشاطها الصناعة والزراعة وحرفة الجندية.
وفي عهد السيطرة النابليونية احترف مهنة الجندية أولا أهل بيدمنت، وتبعهم الأهلون في لمبارديا، ثم رومانا، وأخيرا أهل تسكانيا، ثم روما، ثم نابولي، فصار احتراف الجندية الحياة التي اختارها الطليان؛ ليصبحوا إخوانا في السلاح لأولئك الجند الذين هزموا أوروبا وأخضعوها، ولينالوا من هؤلاء كل مديح أثناء الخدمة في الجيوش الفرنسية، وبالجملة فإن السيطرة التي فرضت الخضوع على إيطاليا لحكم نابليون قد جعلت الطليان يشاركون سادتهم الاستمتاع بالحياة المفعمة بالنشاط والمباهج، ويشعرون بالكبرياء والعظمة التي يسعد بها هؤلاء السادة، ولم يعد هناك مكان لشعور الضيق والكبت والإرهاق والعنت الذي كان يسود بينهم في الماضي، ولقد كان وقتئذ أن بدأ الأهلون ينطقون باسم إيطاليا في محبة وإعزاز، وإن أخذت تختفي النزاعات والأحقاد والمنافسات الإقليمية المحلية، فإذا كانت نهاية القرن «الثامن عشر» تستأهل البداية الطيبة لهذا التحول، فإن هذا العهد - عهد السيطرة النابليونية - سوف يكون فاتحة عهد جديد في مقدرات (أو مستقبل) إيطاليا.»
ولقد كان بسبب هذا التناقض نفسه بين لمعان المجد الظاهر، وما كان يخيم على الحياة الداخلية من مشكلات سياسية وأزمات اقتصادية في أنحاء الإمبراطورية النابليونية، كان من المتعذر في 20 مارس 1811 يوم مولد «ملك روما» أن يقطع أحد برأي فيما إذا كانت الإمبراطورية آنئذ قد أشرفت على الموت والفناء، أو أن في وسع هذه الإمبراطورية «العظيمة» أن تبقى على الزمن، وأن المستقبل قد صار لها وحدها.
ولكن الأزمات الاقتصادية والمالية التي مرت بها الإمبراطورية وقتئذ كانت مشكلات مادية، قد يسهل اتخاذ الإجراءات الملائمة، والنشيطة لمحاولة التغلب عليها، ومع ذلك فقد كانت هناك مشكلات أدبية ودينية، أي روحية تأثر بها الرأي العام في أنحاء الإمبراطورية، لم تكن معالجتها - بصورة يرضى عنها هذا الرأي العام في الإمبراطورية - أمرا سهلا ميسرا، نعني بذلك معاملة نابليون للبابا، رئيس الكنيسة الأعلى، وتداخل السلطة الزمنية - النابليونية - في شئون الكنيسة «والدين» دائما، والذي لا شك فيه أن نابليون لم يكن موفقا إطلاقا في علاقاته مع البابا بيوس السابع والكنيسة.
فقد رفض البابا أن يخضع لسلطان نابليون ويقر تدخله في شئون الكنيسة، فقال بيوس السابع: «إن الآراء المؤسسة على الإيمان والشعور بالواجب تظل راسخة رسوخ الطود، وليس في وسع قوة مادية أو أدبية - مهما كانت - أن تنال شيئا من قوة روحية من هذا الطراز.»
وجمع نابليون مجمعين للكنيسة أحدهما: في سنة 1809، والثاني: في سنة 1811، وأكد كلاهما أن حل كل المسائل الدينية المختلف عليها إنما هو في يد الإمبراطور، وأن المسائل التي تهم العالم الكاثوليكي قاطبة لا يمكن أن يتناولها مجلس كنسي مستقلا عن البابا، ولكن من المستطاع عقد مجلس أهلي من رجال الدين لينظر موضوع «الكونكردات»، أي الاتفاقية التي أبرمت مع البابا في 15 يوليو 1801 - على أيام القنصلية - ويفصل فيما إذا كان يجب العمل بها أو وقفها.
وفيما بين عامي 1809، 1811 قامت محاولتان للوصول إلى تسوية مع البابوية، ولكن دون جدوى، الأولى: كانت على يد كونت لبزلتيرن
Lebzeltern
النمسوي الذي تدخل لدى البابا باسم الإمبراطور فرنسيس الأول (الثاني) وذلك في مايو 1810، والثانية: حصلت في شهر يوليو من السنة نفسها على يدي الكردينال سبينا
Spina
والكردينال كاسيلي
Caselli ، وهما المفاوضان في اتفاقية الكونكردات سابقا، وقد أبدى لهما البابا غضبه من نابليون، ورغبته في العيش في روما.
ثم تفاقمت الأزمة عندما استصدر الإمبراطور أمرا في 3 أغسطس 1810 بأن يبادر أساقفة أربعة بالذهاب إلى أبروشياتهم فور تسميتهم، دون انتظار التقليد «أو التنصيب» القانوني، ثم لم يلبث أن سمى الإمبراطور بعد قليل أسقفين أحدهما: لمطرانية باريس (14 أكتوبر)، والآخر: لمطرانية فلورنسه (22 أكتوبر)، وقد أجاب البابا على هذه الإجراءات باستصدار المنشورات البابوية، التي سرعان ما صادرها البوليس، وأثارت غضب نابليون.
وكان أثناء هذا التوتر أن صمم نابليون على إخضاع الكنيسة والبابا لسلطانه نهائيا، وعلى غرار ما اعتقد أن شارلمان قد سبقه إليه؛ فأعلن في 16 مارس 1811 عزمه على دعوة مجمع كنسي، فقال: «إن العصر الذي نعيش فيه يعود بنا إلى عهد أو أيام شارلمان؛ فقد تجددت كل الممالك والإمارات والدوقيات التي أنشئت منها جمهوريات على أنقاض إمبراطوريته، وذلك بفضل الإجراءات التي صدرت بها قوانيننا، إن كنيسة إمبراطوريتي هي كنيسة الغرب والمسيحية العالمية بأسرها تقريبا، لقد قررت عقد مجمع كنسي للعالم الغربي، وذلك حتى تكون الكنيسة الخاصة بإمبراطوريتي كنيسة واحدة من حيث النظام السائد بها، كما هي كنيسة واحدة من حيث العقيدة التي تقوم عليها.»
ووجه نابليون الدعوة لاجتماع هذا المجمع الكنسي في 25 أبريل 1811، على أن ينعقد يوم 9 يونيو، ولكن الانعقاد تأجل حتى يوم 17 يونيو، بعد أن أخفقت محاولة جديدة قام بها مطارنة تور
Tours
وتريف
Trêve
ونانت للحصول على تنازلات من البابا.
وقد ترأس هذا المجمع الكردينال «فيش»، وحضره (104) من كبار رجال الدين، من بين (149) كانت الدعوة قد وجهت لهم، وبعد مناقشات حامية، سجن بسببها ثلاثة من القساوسة، وأغلق المجمع فترة من الوقت، صدر قرار المجمع في 5 أغسطس 1811 بأنه بعد مهلة ستة شهور من تسمية الأساقفة يستطيع رئيس الأساقفة أو المطران «المتربوليتي» إعطاء التقليد القانوني، أو يقوم بذلك أيضا أقدم الأساقفة، وقد انتهى الأمر بأن تنازل البابا عن موقفه (في 20 سبتمبر سنة 1811)، ولكنه اشترط النص على أن يفعل «المتربوليتي» ذلك باسم البابا القائم، وأنه ينبغي عليه أن ينال من البابا إنابة أو تفويضا رسميا يخوله إعطاء التقليد القانوني، وبهذا الشرط يكون البابا قد احتفظ بحقوقه أعلى من حقوق المجمع الكنسي.
فانتقم نابليون لنفسه بأن طارد أنصار أو أتباع كنيسة روما (أكتوبر 1811)، وألقى «درسا» في العقيدة على البابا نفسه الذي اتهمه بقصور الفهم وعدم التمييز بين القوانين والعقائد الدينية، وبين ما هو زمني وخاضع للتغيير، وأخيرا ألغى الإمبراطور الاتفاقية مع البابا (الكونكردات) في 23 فبراير 1812، فقال إنه يعتبر هذه الاتفاقية ملغاة، وإنه لا يسمح بتدخل البابا في مسألة تقليد الأساقفة القانوني، وفي 21 مايو 1812 أمر نابليون وهو بدرسدن «بألمانيا» أن ينقل البابا إلى فونتنبلو (على مسافة قريبة من باريس)، وهو يرتدي ملابس القساوسة العادية حتى لا يتعرف عليه أحد.
وفي 9 مايو 1812 كان نابليون قد غادر سان كلو بعد أن جمع جيشا ضخما يزيد عدده على مليون مقاتل، يريد أن ينقض به على روسيا؛ حتى يصبح سيدا على كل أوروبا، فلماذا لا يكون سيدا على البابا؟
الفصل الخامس
نهاية الإمبراطورية
من حملة روسيا إلى غزو فرنسا (1812-1814)
لقد كانت المحالفة الروسية الفرنسية تنطوي من أول الأمر على العوامل المؤدية إلى تحطيمها في النهاية؛ فالإمبراطور أغدق على القيصر عبارات المجاملة وأظهر إعجابه بالعاهل الروسي، وفعل مثل ذلك القيصر نحو نابليون، سواء في مقابلاتهما على الرمث الذي أقيم وسط نهر النيامن، أو في تلست أو في أرفوت، ولكن بالرغم من مظاهر الصداقة من الجانبين، والمحالفة العلنية والسرية التي ربطت بينهما، فقد كان واضحا أن الاتفاقات التي أبرمت كانت تخدم «مصالح» وتقوم على «تسويات» إن اعتبرها الطرفان تخدم مآربهما العاجلة، من حيث حمل القيصر على إقرار الترتيبات الإقليمية التي نجمت من وجود الإمبراطورية النابليونية، والموافقة على سياسة الحصار القاري ضد إنجلترة، وامتداد النفوذ الفرنسي إلى الشرق على حساب الدولة العثمانية، والتعهد بوقف النمسا عن قتال الإمبراطور حتى يتفرغ لحربه الإسبانية، وكل ذلك تعزيزا للسيطرة النابليونية في أوروبا في النهاية.
ومن حيث إن القيصر كان يجد من ناحيته في هذه المحالفة وسيلة لمد نفوذه، وتوسيع أملاكه في بحر البلطيق خصوصا، وتحقيقا لحلم القيصرية القديم على حساب الدولة العثمانية كذلك، وإن كان القيصر لم يفز بأي وعد بشأن استيلائه على القسطنطينية، فقد كان من الواضح أن هذه المحالفة إنما تخدم مصالح «وقتية» لم يجد كل من الطرفين محيصا عن التسليم في الظروف القائمة وقتئذ بأن المحالفة - سواء رضي بها كلاهما في أعماقهما، أم ارتضياها نزولا على واقع الموقف الراهن - إنما هي الوسيلة التي يمكن أن تضع موضع الاختبار - لفترة محددة من الزمن - متاخمة الإمبراطوريتين الكبيرتين: الفرنسية والروسية بعضهما لبعض، حتى إذا طرأ «تغيير» على واقع هذا الموقف الراهن ووجد أحد الطرفين أو كلاهما أن المحالفة التي أبرمت والإمبراطورية النابليونية في أوجها (في تلست وإرفورت 1807-1808) قد صارت بعد بضع سنوات فقط (1811) متعارضة مع المصالح التي ينشدها أحدهما أو كلاهما بعد اتساع هذه الإمبراطورية، وتعدد ميادين النضال فيها بسبب سياسة الحصار القاري، وبداية المقاومة الأهلية في بعض أنحاء أوروبا واشتدادها في إسبانيا خصوصا، كان لا معدى حينئذ عن أن يطرأ «تغيير» على هذه المحالفة ذاتها، بتحرر الطرفين أو أحدهما من التزاماتها.
ولا جدال في أن «تغييرا» طرأ على الموقف في أوروبا في السنوات الأربع التالية للمحالفة (1807-1811)، ولا جدال في أن «تغييرا» قد تبعه كذلك وتأثرت به المحالفة الروسية الفرنسية، بدرجة أفضت إلى انحلالها، ولا جدال في أن انحلال هذه المحالفة قد ترتب عليه من الآثار ما يجعله في عداد العوامل التي أدت إلى انهيار الإمبراطورية النابليونية في النهاية.
أما أسباب «التغيير» الذي طرأ على المواقف فمتعددة، لعل أهمها:
أولا:
أن القيصر إسكندر بعد اتفاق إرفورت (12 أكتوبر 1808)، لم يصنع شيئا لمنع النمسا من دخول الحرب ضد نابليون، ولم يقبل الروس (حلفاؤه) على الحرب ضد النمسا إلا بفتور ورخاوة، وأما الجزء من غاليسيا الذي كان نصيب القيصر من هذه الحرب (في صلح شونبرون)، فقد اعتبره الروس ضئيلا، ثم إن الزواج النمسوي كان عملا ذا نتائج خطيرة، حتى إن أحد موظفي البوليس جرؤ على الكتابة إلى «فوشيه» أن الحرب مع روسيا سوف تكون النتيجة الحتمية لزواج الإمبراطور من أميرة نمسوية، ومع أن القيصر رفض زواج إحدى أميرات الروس من نابليون، فقد نظر إلى هذه المصاهرة النمسوية على أنها مؤذنة بحصول انقلاب في محالفات الإمبراطورية الفرنسية، وذلك لصالح النمسا، ثم لم يلبث أن ظهر أثر التغيير في البلاط الإمبراطوري في باريس عندما صار «مترنخ» السفير النمسوي يتقدم في المكان على سفير روسيا البرنس كوراكين
Kourakine .
ثانيا :
أن امتداد نظام الحصار القاري جعل العلاقات متوترة بين البلدين: فرنسا وروسيا، وزاد من توتر العلاقات بين العاهلين: الفرنسي والروسي، وكان الروس في حاجة لإنجلترة التي يصدرون إليها القمح والأخشاب والبوتاس (الملح) والقطران (القار) والغراء، بينما من ناحية أخرى دفعوا أثمانا باهظة في شراء الحلي وأدوات الزينة من المصنوعات الفرنسية التي وجدت منذ 1807 سوقا مفتوحة في روسيا، وفي 31 ديسمبر 1810 صدر قانون (أو قرار قيصري) فرض ضريبة على المنتجات الفرنسية الآتية بطريق البر إلى روسيا، بينما سمح لكل السفن بتفريغ بضائعها - حتى البضائع الإنجليزية ذاتها - في المواني الروسية ما دامت هذه السفن تابعة لدول محايدة، وقد زاد من حدة سوء التفاهم بين القيصر ونابليون ما حدث من إعلان هذا الأخير في 18 فبراير 1811 ضم الشواطئ الألمانية، وخصوصا إمارة «أولدنبرج» إلى الإمبراطورية.
ثالثا:
أن المسألة البولندية زادت الهوة اتساعا بين إسكندر ونابليون، فمن المعروف أن غراندوقية وارسو كانت قد أنشئت سنة 1807 على حساب بروسيا، ثم اتسعت مساحتها في سنة 1809 على حساب النمسا، وصار يخشى الآن من إحياء مملكة بولندة القديمة، وأن تزداد مساحتها مرة أخرى، وعندئذ تكون هذه الزيادة باسترجاع المقاطعات التي كانت أخذتها روسيا في عهد كاترين الثانية من بولندة في التقسيمات الثلاثة المعروفة في سنوات 1772، 1793، 1795، وقد جعل هذا الخوف القيصر لا يكف عن التفكير في هذا الاحتمال، ويحاول الحصول من نابليون على ضمانات للمستقبل في هذه الناحية، فهو يقدم لنابليون بواسطة وزيره روميانتزوف مشروعا في يناير 1810، ولكن نابليون يرفض التقيد باتفاقات معينة تعطل حرية العمل في المستقبل، ولو أنه صار يبذل قصارى جهده لتطمين القيصر من ناحية المسألة البولندية، ثم إن القيصر صار يعمل من جهة أخرى لاستمالة البولنديين أنفسهم لفصم علاقاتهم بالإمبراطور، فعرض على البرنس آدم تزارتورسكي
Czartoryski - وهو صديق له من أيام الطفولة، وزعيم البولنديين الوطنيين الآن - أن يبعث إلى الوجود بولندة القديمة بحدودها التي كانت لها قبل التقسيم الأول سنة 1772 تحت ضمانته، ثم حاول تنفيذ مآربه بتدبير عصيان عسكري في مارس 1811، لم يلبث القائد الفرنسي دافو
Davout
أن قابله بتقوية الحامية في وارسو.
وعلى ذلك فقد تميزت سنة 1811 بقيام مفاوضات طويلة بني العاهلين الفرنسي والروسي، ولكن دون جدوى، حيث اختار كلاهما سياسيين جدد لهذه المفاوضة، فاستبدل نابليون الجنرال لورستون
Lauriston
بسفيره في سان بطرسبرج «كولينكور» الذي اعتبره «روسيا أكثر من اللازم»، بينما بعث القيصر في مهمة خاصة ياوره تشيرنيتشيف
Tchernytchev
ليكون إلى جنب سفيره في باريس البرنس «كوراكين» الذي اعتبره القيصر «فرنسيا أكثر من اللازم»، فلم تسفر هذه المفاوضات إلا عن زيادة حدة الخلاف لدرجة انفجار نابليون ضد «كوراكين» أثناء استقبال رسمي للهيئة الدبلوماسية في 15 مارس 1811، حيث قال الإمبراطور: «لست قاصر الإدراك لدرجة أن أصدق أنك مشغول بمسألة «إمارة أولدنبرج»؛ لأني أدرك تماما أن مسألة بولندة هي التي تستأثر بتفكيرك، وإنكم لتفترضون مشروعات في صالح بولندة، ولكني بدأت أعتقد أنكم إنما تبغون أنتم الاستيلاء عليها، وإني لن أتخلى عن شبر واحد من الأراضي الفارسوفية، حتى لو عسكرت جيوشكم على مرتفعات مونمارتر.»
والحقيقة أن كلا الفريقين بسبب هذا الموقف الذي كان لا يفتأ يزداد سوءا من وقت إلى آخر، كانا حينئذ يجهزان جيوشهما ويبذلان قصارى جهدهما لاستمالة الدول للتحالف معهما؛ تهيؤا للحرب التي لم يعد هناك مفر منها.
أما القيصر إسكندر الذي اصطدمت مشاريعه في بولندة بذلك الولاء الذي أظهره البولنديون وتمسكوا به نحو الإمبراطور الفرنسي، والذي عبر عنه الشاعر البولندي ميكيفتش
Mickiewicz ، ودل عليه وجود ذلك العدد العظيم من البولنديين في خدمة «الجيش الأعظم»، فقد كان في وسعه الاعتماد على السويد، ذلك أن الحرب بين السويد وروسيا - التي استمرت حوالي سنة ونصف سنة وانتهت باستيلاء روسيا على فنلندة (1809) - لم تترك جروحا دامية بين الدولتين، ولم يلبث أن حدث تقرب بينهما عندما احتل نابليون بوميرانيا السويدية في يناير 1812، بل سرعان ما ارتمت السويد في أحضان القيصر، وكان ولي عهد السويد وقتئذ المارشال برنادوت الذي صار يقوم بنيابة الحكم الآن في السويد.
وفي 5 أبريل 1812 عقد إسكندر وبرنادوت معاهدة لتعويض السويد عن فقدها فنلندة، بإعطائها النرويج (معاهدة سان بطرسبرج)، وتأكد الاتفاق في مقابلة آبو
Abo
في 30 أغسطس «في فنلندة على ساحل البلطيق»، وقد حصل القيصر على ضمانة إنجلترة لهذا الاتفاق بشأن النرويج في 3 مايو، وأبرم مع إنجلترة اتفاقا في يوليو، وكذلك مع إسبانيا في الشهر نفسه، أضف إلى هذا أن القيصر حتى يتفرغ تماما لمنازلة نابليون لم يلبث أن سوى علاقاته بتركيا، بأن عقد مع هذه الأخيرة معاهدة بوخارست في 28 مايو 1812 تنازل بموجبها السلطان العثماني لروسيا عن أراضي ملدافيا (الأفلاق) الواقعة شرق نهر البروث، ووعد بإصدار عفو عن أهل الصرب، ووافق القيصر في مقابل ذلك أن يحتل جنود عثمانيون الحصون الصربية.
وأما نابليون الذي لم يعد في وسعه الاعتماد على محالفة مع السويد أو مع تركيا، فقد أصر على أن يضم إليه - وبالرغم منهما - كلا من بروسيا والنمسا، وقد حذر من برلين السفير الفرنسي سانت مارسان
Saint-Marsan
والعملاء الفرنسيون الإمبراطور، كما فعل ذلك أتو
Otto
من فينا، حتى لا ينخدع بالوعود المعسولة وحسب، فأبرم الإمبراطور معاهدة مع بروسيا في 24 فبراير 1812، وضعت بروسيا بمقتضاها عشرين ألف جندي بقيادة الجنرال يورك دي وارتنبرج
Yorck de Wartenburg
تحت أوامر الجنرال الفرنسي ماكدونالد، ثم أبرم مع النمسا معاهدة في 14 مارس 1812 وضعت النمسا بمقتضاها ثلاثة عشر ألف مقاتل بقيادة شوارزنبرج تحت تصرف الإمبراطور، وعلاوة على ذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية التي أغضبتها القوانين الصادرة في إنجلترة لفرض الحصار البحري على فرنسا والإمبراطورية النابليونية، وتدعيم سيطرة الأسطول الإنجليزي في البحار - وقد سبقت الإشارة إلى هذه القوانين - لم تلبث أن أعلنت الحرب على إنجلترة في 18 يونيو 1812، «بالرغم من أن إنجلترة ألغت هذه القوانين في 17 يناير من العام نفسه؛ لأن اتخاذ هذه الخطوة جاء متأخرا.»
في 25 أبريل 1812، أرسل القيصر إلى نابليون ما يشبه إنذارا حربيا، يطلب منه قبل كل شيء جلاء الجنود الفرنسيين من بوميرانيا السويدية، حتى إذا حدث ذلك أمكن بحث مسألة أولدنبرج والوسائل التي يتسنى بها تطبيق نظام الحصار القاري، وأجل نابليون الجواب على هذا الإنذار، ثم غادر باريس فجأة في 9 مايو، ومعه زوجه ماري لويز، قاصدا إلى درسدن، حيث استقبله بها يوم 17 مايو ملك سكسونيا فردريك أوجستوس الأول
Augustus
الذي كان قد أعطي غراندوقية وارسو في صلح تلست، وقد استقبل نابليون استقبالا رائعا بوصفه «عاهل أوروبا»، وأفاد نابليون من وجوده في درسدن، واصطحاب زوجه معه ليوثق صلاته بأصدقائه وحلفائه «الحقيقيين»، فتذرع بدعوى إسعاد ماري لويز بمشاهدة والديها، ليدعو كل أعضاء أسرتها، ودعا مع هؤلاء أيضا الأمراء الألمان، وملك بروسيا نفسه، واستمرت الاحتفالات من 17 إلى 29 مايو، ثم لم يلبث بعدها أن بعث بزوجه إلى براج في بوهيميا، ثم قصد هو إلى بوزن
في بولندة، ولكنه لم يشأ أن يزور وارسو التي أعلن بها «مجلس الدياط» وسط حماس أعضائه قرب إعلان استقلال بولندة، فبادر بحله السفير الفرنسي في وارسو «برادت
L’abbé de Pradt » رئيس أساقفة مالين
Malines ، واعتقد نابليون أن الحرب سوف تكون قصيرة الأجل، لا تزيد مدتها على ثلاثة شهور وحسب، وفي 22 يونيو 1812 أعلن الإمبراطور لجيشه «أن الحرب البولندية الثانية قد بدأت».
وكان عدد جيش نابليون عند دخول المعركة ضد روسيا لا يقل عن 678000 مقاتل، وأكثر قواته من الفرق الأجنبية، من البلدان الحليفة للإمبراطورية أو التي ضمتها هذه إليها، فكان عدد البولنديين (بزعامة بونياتوسكي
) سبعين ألفا، وأما الباقون فكانوا من سكسونيا بقيادة الجنرال الفرنسي رينييه
Jean Rynier ، ومن وستفاليا بقيادة جيرون بونابرت، وإيطاليا بقيادة البرنس يوجين بوهارنيه، والجنرال مورا، وبفاريا بقيادة الجنرال ديروي
Deroy ، والبرنس ريد
Wrede
الجنرال البفاري كذلك، ثم من هولندة وسويسرة وإسبانيا (ولم يشغل الجنود الإسبانيين غير التفكير دائما في الهرب والتخلف من الخدمة)، وبروسيا (20 ألفا بقيادة يورك)، والنمسا (30 ألفا بقيادة شوارزنبرج) وغيرها.
وبلغ عدد جنسيات الأجناد المشتركين في هذه الحملة نحو العشرين، «يتكلمون كل اللغات» ولم يكن الأجناد الفرنسيون أنفسهم يؤلفون نصف قوة هذا الجيش، ومن بين هؤلاء حاول كثيرون الهرب، ودأبوا على عصيان الأوامر، فكان في رأي عدد من المؤرخين من الصعوبة بمكان، لانعدام التجانس بين وحداته ولسوء نظام التموين، منع هذا الجيش من ارتكاب أعمال النهب والسلب في طريقه، وأما قواده فكانوا: دافو، وناي، ويوجين في قيادة «الجيش الأعظم»، وبسيير
Bessières
وليففر ومورتييه يقودون الحرس «الإمبراطوري»، ومورا على الفرسان، ومكدونالد وأودينو وجوفيون سان سير والبروسيون في الجناح الأيسر، وجيروم ورينيه، وشوارزنبرج (القائد النمسوي) في الجناح الأيمن، بينما وقف خلف نهر الفستيولا الجنرال فيكتور على رأس القوات الاحتياطية الأولى، ثم وقف «أوجيرو
Augereu » مع القوات الاحتياطية الثانية خلف نهر الأودر، على أن تتقدم القوات الاحتياطية جميعها في الزحف أماما مع تحركات جيش الغزو، وفيما عدا هذا بقي في فرنسا 150 ألف جندي، وفي إيطاليا خمسون ألفا، وفي إسبانيا 300 ألف، أي إن كل جيوش نابليون بلغ عددها 1188000 مقاتل، دخل منهم روسيا لغزوها 553 ألفا.
وأما الجيش الروسي فقد بلغ 350 ألف مقاتل موزعين في جيشين: جيش الشمال بقيادة ليفونيان باركلاي دي توللي
Livonien Barcly de Tolly ، ويليه في القيادة الجنرال ويتجنستاين
Wittgenstein ، ثم جيش الجنوب بقيادة البرنس باجراتيون
Bagration ، وقد تعززت قواته فيما بعد عندما انضمت إليه أجناد الأميرال تشيتشاجوف
Tchitchagov
الآتية من نهر الدانوب (الطونة)، وكان حماس هذه الجيوش الروسية عظيما لقتال الغزاة المعتدين، كما كان إيمان الجنود عميقا بروسيا المقدسة، وأما الرقيق، رقيق الأرض الذين كان في وسع نابليون أن يجمعهم حوله بالمناداة بتحريرهم، فقد استثارهم النبلاء بدافع العقيدة الدينية لكراهية الفرنسيين المنشقين على الدين، والقتال ضدهم، وأفلحوا في تحريك حماسهم عندما أطمعوهم في نهب مخازن (الجيش الأعظم) ومؤنه وعتاده.
وعبر نابليون نهر النيامن (الحدود الروسية) يوم 24 يونيو 1812، وهذا وقت متأخر نسبيا، لقرب مجيء فصل الشتاء في روسيا، وفي 28 يونيو دخل فيلنا
Vilna ، وكتب للإمبراطورة ماري لويز: «إن أعماله تسير بصورة طيبة جدا، وإن العدو قد فشل في خططه تماما»، وكان القيصر إسكندر يعيش في فيلنا منذ بداية شهر أبريل، وكان قد جمع «مؤتمرا» بعثت إليه الأمم التي أخضعها نابليون لسلطانه، مندوبين من كل أنحاء الإمبراطورية من الوطنيين المتقدين حماسا لتحرير أوطانهم من السيطرة النابليونية «الأجنبية»، كان من بينهم أرندت
Arndt
المشهور بعدائه الكبير ضد فرنسا منذ 1805 خصوصا، وستين
Stein
السياسي البروسي، وكلاهما يعبر عن الروح القومية (الوطنية) السائدة في ألمانيا ضد «الإمبراطورية».
ولكن ما إن جاءت الأخبار منبئة بعبور نابليون نهر النيامن - وكان القيصر يقيم حفلا راقصا - حتى اضطر إسكندر إلى مغادرة فيلنا بكل سرعة .
وفي 17 يوليو غادر نابليون فيلنا، فوصل إلى فيتبسك
Vitebsk
في 28 يوليو، ولم يحصل أثناء هذا الزحف اشتباك بين الجيشين ما عدا بعض المناوشات البسيطة تجنب باركلاي دي توللي قائد جيش الشمال الروسي أثناءها الالتحام مع الفرنسيين، وعول نابليون على إجبار الروس على الاشتباك في معركة كبيرة عند سمولنسك
Smolensk ، المكان الذي كان منتظرا اتحاد جيشي روسيا به (الشمالي بقيادة باركلاي دي توللي، والجنوبي بقيادة باجراتيون)، ولكن في اللحظة التي يحكم فيها نابليون مناورته لتطويق سمولنسك وقطع خط الرجعة على القوات الروسية، يعتمد هؤلاء إلى حرق المدينة، ويتقهقرون بسرعة (18 أغسطس)، فيطاردهم «ناي» مطاردة عنيفة، ويلتحم معهم في معركة عنيفة عند فالوتينا
Valoutina-Goro ، ولكن دون أن يلحق بالجيش الروسي هزيمة حاسمة.
ودلت هذه المعركة (فالوتينا) في رأي كثيرين من ناحية الفن الحربي، على نجاح الخطط العسكرية الفرنسية، وعلى أن السبب الأكبر في هزيمة الروس هو أن قوادهم عجزوا - للخلافات التي بينهم - عن تنسيق جهودهم وتحركاتهم، ومع ذلك فقد عجز نابليون من ناحية أخرى عن إدراك ذلك النصر الحاسم الذي كان ضروريا لإنهاء حملة سنة 1812 قبل حلول فصل الشتاء؛ وعلى ذلك فإنه بدلا من الاستقرار في هذا المكان مع جيشه حتى يحصن خطوطه ومواقعه على نهري دوينا
Dwina ، ودنيبر
Dnieper
وينظر في إعادة تنظيم بولندة وليتوانيا (وقد اجتاز أراضي ليتوانيا في زحفه)، لم يلبث أن غادر سمولنسك في ليل 24-25 أغسطس في وقت كان الحر شديدا خانقا، والمستشفيات ملأى بالجرحى - تحت عناية الجراح لاري
Larrey - وزحف نابليون صوب موسكو المدينة المقدسة والتي لن يتخلى عنها الروس - كما اعتقد نابليون - دون أن يلتحموا مع الغزاة في معارك دامية، ويتسنى للعاهل الفرنسي حينئذ أن ينزل بهم الهزيمة الفاصلة والتي تمكنه من العودة إلى باريس، ثم الاجتماع بزوجه ماري لويز قريبا، كما كتب لها في 2 سبتمبر، وفي كتابه هذا إلى زوجه أشار «نابليون» إلى كل تلك الحروب التي خاضها بنجاح منذ تسعة عشر عاما، ثم إلى الحرب الراهنة التي وعد بأنه سوف ينهيها سريعا.
أما الروس تحت قيادة «كوتوزوف
Koutousov » - وكان من أصل روسي عريق جعله يتميز عن زملائه القواد الذين كانوا من أصول أجنبية وليست روسية خالصة، ويثير لهذا السبب نفسه الحماس في نفوس جنوده - نقول: إنهم استطاعوا تحصين مواقعهم في بورودينو
Borodino
تحصينا قويا على شواطئ كالوتشا
Kalotcha
الذي يصب بعد مسافة قريبة في نهر موسكو
Moscowa .
وقد وصل الفرنسيون أمام هذه التحصينات يوم 7 سبتمبر، ولكن الهجوم الذي قام به هؤلاء «بقيادة يوجين، وناي، ومورا خصوصا» أرغم الروسيين على التقهقر وإخلاء تحصيناتهم، وكاد «دافو» أن يلحق بهم هزيمة ساحقة لو أن نابليون رضي بإعطائه الحرس الإمبراطوري الذي استبقاه نابليون كقوة احتياطية أخيرة «ويبلغ الثماني عشرة ألف مقاتل»، وعلى ذلك تمكن الروس من الإفلات، بعد أن بلغ ضحاياهم من القتلى والجرحى خمسة وأربعين ألفا، وكانت خسائر الفرنسيين في هذه الموقعة (بورودينو) عشرة آلاف قتيل، وأربعة عشر ألف جريح.
وتابع «الجيش الأعظم» زحفه بعد «بورودينو»؛ فسار في سهول مقفرة تركها الفلاحون الذين تقهقروا أمام الغزاة الزاحفين بعد أن أتلفوا الزراعة، وخربوا كل أثر للعمران، واعتمد نابليون و«الجيش الأعظم» على أن موسكو - عند بلوغها - سوف تعوضهما خيرا عن كل المشقات التي صادفاها في هذا الزحف، بفضل ما بها من مخازن مليئة بالمؤن والأغذية والعتاد، وما بها من خزائن مفعمة بالكنور ... إلخ، واعتمد نابليون على الالتحام في معركة فاصلة أخرى سريعة، تمكنه من الاستقرار في موسكو، وقد صار فصل الشتاء الروسي على الأبواب من جهة، وتمكنه من تموين جيشه من جهة أخرى.
ولكن الروس بقيادة «كوتوزوف» دائما، والذين تقهقروا من بورودينو إلى موسكو، كان قد صح عزمهم على عدم تعريض مصير جيشهم للخطر بالاشتراك في معركة كبيرة أخرى مع الفرنسيين، إذا حاربوا من أجل الدفاع عن موسكو؛ فقرروا إخلاءها، وأدرك الروس - إلى جانب هذا - أن الفرنسيين سوف تحل بهم الهزيمة لا محالة عند مجيء الشتاء، إذا وجدوا أنفسهم في أرض العدو، تفصلهم مسافات شاسعة عن قواعدهم ومخازن مؤنهم وعتادهم، وذلك كله دون حاجة لقتالهم والاشتباك معهم في أية معارك؛ وعلى ذلك فإن الجيش الروسي لم يلبث أن غادر موسكو في 14 سبتمبر 1812 متسللا من شوارعها وهو في طريق هربه إلى كولومنا
Kolomna ، وتبعه في انسحابه أكثر أهل موسكو، وكان قد سبق جلاء النبلاء والطبقات العليا من البلدة، كما نقلت منها المخازن والأشياء الثمينة، فلم يبق بها الآن غير قليلين (من الطبقات الدنيا) وأخليت موسكو تماما، وفي مساء اليوم نفسه (14 سبتمبر 1812) دخلت طلائع الجيش الفرنسي موسكو، وفي اليوم التالي (15 سبتمبر) اتخذ نابليون مقره في قصر الكرملين
Kremlin
محل إقامة القياصرة من قديم الزمن في هذه العاصمة التي أقفرت الآن من أهلها.
وكتب نابليون إلى ماري لويز من قصر الكرملين:
إن مدينة موسكو تشبه في ضخامتها باريس، فيها من قباب الأجراس (1600)، ومن القصور الجميلة (1000)، والمدينة مجهزة بكل شيء، ومؤثثة تأثيثا كاملا.
ولكن منذ 19 سبتمبر لم يعد نابليون يذكر هذه القصور «التي تضارع في جمالها قصر الأليزية» في باريس، والمؤثثة على الطراز الفرنسي، وفي بذخ لا يتصوره العقل، أو يذكر ثكناتها العديدة أو مستشفياتها الضخمة، إلا ليتحدث في ألم عميق وأسى بالغ عن التخريب الذي أصاب عاصمة القياصرة القديمة.
ففي مساء 14 سبتمبر، ولما يمض قليل على دخول الفرنسيين إلى موسكو واستيلائهم عليها شبت النار في موسكو، وظلت مشتعلة مدة طويلة، وتغذي سعيرها رياح الخريف، فاستعصى إخمادها إلا بعد أن كانت قد التهمت أكثر من سبعة آلاف مبنى، أي خربت حوالي تسعة أعشار المدينة، وقال نابليون - في حزن وهو يمر بين أطلالها بعد الحريق: «إنهم (أي الروس) لبرابرة حقا، وإن ذلك (حريق موسكو) لدلالة على ما سوف ينطوي عليه المستقبل من كوارث»، حقيقة لقد قضت النار على كل شيء، فهي قد ظلت مشبوبة مدة أربعة أيام، والتهمت الأخضر واليابس، ثم تزايد اشتعال وقودها؛ لأن الطبقة المتوسطة بيوتها الصغيرة مصنوعة من الخشب، فكانت كعيدان الكبريت، وللمرء أن يتساءل: هل كان الحريق مدبرا أم بسبب حادث؟
والذي يبدو محققا أن الحريق كان مدبرا، وأن حاكم موسكو «روستوبشين
Rostopchine » عند انسحابه دبر هذا الحريق، إن لم يكن فعله ونفذه، وكان بتدبيره أن انتزعت مضخات إطفاء الحريق، ومع ذلك فقد تغالى كثيرون في تقدير الخسائر «المادية» التي نجمت مباشرة من هذا الحريق، فإن نابليون الذي كان غادر موسكو أثناء الحريق للإقامة في قصر بتروسكوا الإمبراطوري
لم يلبث أن عاد إلى الكرملين في 18 سبتمبر، وكان من قوله: «إن ما بقي بالمدينة بعد الحريق كان بمقادير تكفي حاجات الجند من مؤن ومتاجر، والعرق (الخمور الفرنسية) ...» أي إنه كان هناك ما يكفي لتموين الجيش بأسره طوال فصل الشتاء.
ولكن كان لحريق موسكو آثار «معنوية» بليغة، لعل أهمها إشاعة اليأس - أو التخاذل - في نفوس الجنود الفرنسيين الذين يقيمون في عاصمة آثر أهلها حرقها وتخريبها على تسليمها لعدوهم، ثم كان من نتائجها أن الوطنيين الروس أنفسهم والذين ظلوا يجهلون تفاصيل حادث الحريق على حقيقتها، سرعان ما اعتقدوا أن الفرنسيين هم الذين أحرقوا عاصمة بلادهم لنهب هذه المدينة المقدسة وتدنيسها، وذلك اعتقاد جعلهم الآن - أكثر من أي وقت مضى - مصممين على المضي في قتال أعدائهم ويرفضون إطلاقا أي اتفاق أو مباحثة معهم، أضف إلى هذا أن «شوارزنبرج» عمد إلى المراوغة بعد هذه الكارثة، ولم يعد يفكر في شيء إلا محاولة إرجاع القوات النمسوية تحت قيادته إلى النمسا سليمة لخدمة عاهلها فرنسوا الأول (الثاني)، ولو كانت الخيانة الثمن الذي يجب دفعه لتحقيق هذه الرغبة، وذلك في حين أن نابليون كان يعتمد على زوجه ماري لويز في حمل والدها العاهل النمسوي على إرسال النجدات لجيش شوارزنبرج لتقويته.
واستطالت إقامة نابليون في موسكو، واعتقد أن امتلاك هذه المدينة لا يزال ضمانا قويا لقبول الروس الاتفاق والصلح في النهاية، فلم يشأ التخلي عنها، وأظهر أثناء إقامته بها نشاطا غير عادي، حيث ظل يصرف شئون الإمبراطورية في همة عظيمة، ولكن كان قد صار فصل الشتاء أثناء ذلك على الأبواب، واستطاع الروس أن يحشدوا جيشهم ويهددوا بقطع المواصلات بين الفرنسيين في موسكو وبين مخازنهم وقواتهم الاحتياطية في سمولنسك، ولما كانت قد أخفقت كل محاولة للمفاوضة السلمية مع القيصر، فقد اضطر نابليون في النهاية إلى مغادرة موسكو على أمل الوصول بكل سرعة إلى سمولنسك، ثم الانسحاب منها إلى «فيتبسك»، وإذا لزم الأمر الانسحاب كذلك إلى موقع أبعد.
وفي 19 أكتوبر 1812 أخلى الفرنسيون (120000) موسكو، وكان في المؤخرة المارشال «مورتييه» لينسف قصر الكرملين بعد جلاء الجيش؛ بناء على تعليمات نابليون نفسه، وقد نفذ «مورتييه» هذا الأمر، وتهدم أكثر القصر، وحتى يتجنب الجيش المنسحب الطريق الذي كان قد اتبعه في زحفه على موسكو، والذي صار الآن متخربا - بفضل المقاومة الروسية - اختار نابليون خطا للانسحاب يميل إلى الجنوب صوب «كالوجا
Kaluga » على نهر أوكا
Oka ، ولكنه اشتبك مع الروس في معركة شديدة عند مالو ياروسلافتز
Malo-Yaroslàvetz
في 24 أكتوبر، لم يلبث أن اضطر بسببها إلى اتباع الطريق الآخر إلى سمولنسك.
وتكبد الفرنسيون مشقات عظيمة؛ فقد بدأ الثلج يسقط يوم 6 نوفمبر مؤذنا ببداية فصل الشتاء الروسي القاسي، وقد عجل الشتاء بقدومه هذا العام عن السنوات الماضية، وكان قاسيا قسوة شديدة، ومات كثير من الجنود وسط عواصف الثلج، وحتى أثناء وقوفهم للراحة في الليل وهم حول نيرانهم للتدفئة، ولقد بلغ عدد الخيول التي نفقت بسبب البرد والصقيع في الأسبوع الأول فقط من بداية تساقط الثلوج، ثلاثين ألفا، وترتب على ذلك أن تخلى الجيش عن كميات عظيمة من الذخائر والعتاد والمدفعية، وإلى جانب هذا كله طارد فرسان القوزاق الروسي كل المتخلفين، أو الرسل الذين ينقلون أوامر القائد العام إلى مرءوسيه.
وحاول «كوتوزوف» أن يرغم وحدات الجيش على الانفصال عن بعضها بعضا بمناوشتها على أمل أن تفصل المسافات الواسعة بين الفرق المجبرة على التخلف وبين الجيش الرئيسي المتقهقر، وأخيرا عندما وصل (الجيش الأعظم) إلى سمولنسك في 10-12 نوفمبر كان البرد والجوع والتعب قد فتك بحوالي الثلاثين ألف مقاتل، والفرسان قد فقدوا كل خيولهم تقريبا، وخسرت المدفعية أكثر من ثلاثمائة مدفع.
ولقد كان في هذه الظروف البائسة، والتي أنبأت ببداية الانهيار أن عرض الوزير النمسوي «مترنخ» في 4 نوفمبر أن يتدخل لدى روسيا، والمعاونة من أجل الحصول على «معاهدة طيبة» للسلام، وذلك بأن يأتي هذا التدخل في صورة وساطة؛ لأن «الوسيط» لا يمكن أن تكون له صفة «المحارب» - وكان للنمسا كما عرفنا قوات بقيادة شوارزنبرج في هذه الحملة الفرنسية ضد روسيا - وواضح أن غرض مترنخ من هذا العرض الذي تقدم به «للوساطة» أي: بالصورة التي تنهي دور النمسا، كدولة محاربة ضد روسيا، إنما كان الاستفادة من موافقة نابليون للخروج من الحرب أولا، وإعادة جيش شوارزنبرج سالما إلى فينا، فيحرم نابليون المساعدة الحربية التي يلقاها من النمسا، وثانيا حتى يتسنى لمترنخ عند انعقاد المفاوضة أن يعمل لتوجيهها ضد صالح الإمبراطور الفرنسي، ولم يشجع نابليون هذا التدخل، كما أنه لم يدفعه أو يوقفه.
ولم يكن مستطاعا البقاء على كل الأحوال في سمولنسك؛ فقد أخذت المؤن تتضاءل، وصار يخشى من نجاح الروس في تطويق «الجيش الأعظم»، وتزايد سقوط الثلوج واشتداد البرد، وقرر نابليون استئناف التقهقر دون إمهال، وقسم نابليون قواته إلى أربعة «طوابير» تفصل بين كل منها مسيرة يوم، ولكن البرد الآن كان قد بلغ درجة الزمهرير، فسجل مقياس الحرارة أيام 14، 15، 16 نوفمبر ست عشرة درجة تحت نقطة التجمد، ثم إن فرسان القوزاق والفلاحين الروس، دأبوا على إزعاج الجيش المتقهقر، ومطاردة الجنود المتخلفين، ولم يستطع الفرنسيون أن يسرعوا السير بسبب قسوة المناخ، وضعف روحهم المعنوية، ولأن قواتهم كانت منهكة.
وفي 16 نوفمبر وصل الفرنسيون إلى «كراسنوي
Krasnoi » جنوب سمولنسك بغرب، ليجدوا الروس بقيادة «كوتوزوف» يقطعون طريق نهر الدنيبر، ومتأهبين للالتحام مع الجيش الفرنسي، وكانوا ستين ألفا، فدارت رحى معركة رهيبة لاختراق الخطوط الروسية عند هذا المكان «كراسنوي» بين 16-18 نوفمبر، نجح الفرنسيون أثناءها في اختراق هذه الخطوط في هجمات ثلاث بواسطة الحرس الإمبراطوري، ثم يوجين، ثم دافو، وقد استطاع «ناي» - الذي بدا كأنما قد انهزم مع المؤخرة - أن يعبر النهر هو الآخر بعد الالتحام في موقعة عنيفة على الثلوج المتجمدة، وأن يلحق بالإمبراطور وبقية الجيش عند أورشا
Orsha
على نهر الدنيبر بفلول «طابوره» الذي بلغ 1500 رجل فقط، وعندما استأنف نابليون السير المتعب نحو نهر البريسينا
Bérésina
لم تكن تعدو قوة «الجيش الأعظم» الصالحة للخدمة (24000) مقاتل وحسب، بينما بقية الجيش (وعددهم 14000) لم يكونوا سوى جنود متباطئين متخلفين، لا قدرة لهم على القتال، وعبء ثقيل على «الجيش الأعظم».
وعند «أورشا» وجد الفرنسيون الروس قد أحاطوا بهم، بقيادة «كوتوزوف» من الشرق، وتنجنستاين من الشمال، وتشيتشاجوف من الجنوب، ليحولوا دون استمرار تقهقر الفرنسيين وعبورهم نهر البريسينا، وعندئذ اشتبك الفرنسيون معهم في معركة حامية لتحطيم هذه الدائرة من القوات المطبقة عليهم (26-29 نوفمبر)، فقد أعد كوبريان (جسران) بكل سرعة لنقل الجنود عبر النهر، ونقل نابليون معظم جيشه إلى الضفة المقابلة، ولكن قوات الجنرال فيكتور التي تولت حماية عملية العبور لم تلبث أن هوجمت هجوما عنيفا، وأرغمها الروس على التقهقر فوق هذين الجسرين دون نظام، فسقط أحدهما تحت ضغط ثقل المدفعية، بينما أمر «فيكتور» بنسف الآخر، فكانت مجزرة، ولقد هلك ألوف في هذه الموقعة «بريسينا» حيث أوقع الروس مقتلة كبيرة بالفرنسيين، وأسروا عددا عظيما منهم، وأتمت هذه الكارثة تحطيم «الجيش الأعظم»، فلم يعد هناك (الآن) غير حوالي عشرين ألف مقاتل، يؤلفون القوة النظامية في هذا الجيش، أما الإمبراطور نفسه فقد نجا من هذه الواقعة، وحينئذ استأنف الجيش الزحف صوب فيلنا، حيث يمكن الوقوف بها «للراحة» والاستجمام بعد كل هذه المشاق التي تكبدها الجيش المتقهقر، وانتظار النجدات التي يجب أن تصله من فرنسا، والبقاء بها في أمان حتى يأتي الربيع.
وفي 3 ديسمبر 1812 وصل الإمبراطور بجيشه إلى «مولوديتشنو
Molodetchno » على مسافة مائة كيلو متر فقط من فيلنا، ومن هذا المكان أصدر «نشرة 3 ديسمبر» المشهورة، أو النشرة التاسعة والعشرين التي كشفت حقيقة الكارثة للمرة الأولى، بعد أن ظلت هذه الحقيقة سرا مكتوما كل هذه الشهور الماضية، ثم عهد بقيادة الجيش إلى «مورا» على أن يتولى برثييه
Berthier
رئاسة أركان الحرب، وقرر نابليون العودة إلى فرنسا في 5 ديسمبر، فغادر «سمورجوني
Smorgoni » متنكرا، وقد اصطحب معه «كولينكور» و«دوروك
Duroc » ومترجما بولنديا، واستخدم الإمبراطور الزحافات لقطع هذه المسافات الشاسعة على الجليد بكل سرعة، فأمكنه الوصول إلى وارسو يوم 10 ديسمبر، وفي مساء 18 ديسمبر دخل باريس، فدهشت زوجه ماري لويز والحاشية، وقد كانوا جميعا لا يتوقعون وصول الإمبراطور، وفي هذه الصورة المفاجئة، بعد أن سبقته بساعات معدودة فقط (النشرة التاسعة والعشرون)، وسببت الوجوم في عاصمة الإمبراطورية.
ولقد كان من أسباب هذا الوجوم كذلك - إلى جانب الأخبار التي أذيعت عن كارثة الحملة الروسية - تلك الهزائم التي لحقت بالجيوش الفرنسية في إسبانيا؛ ففي إسبانيا كان الكورتيز
Cortes (وهو بمثابة برلمان أهلي) في قادش قد استصدر دستورا على مبادئ حرة في 18 مارس 1812، وبدأ دوق ولنجتون حملة 1812 في إسبانيا بالاستيلاء على سويداد رودريجو «واسترجاعها من الفرنسيين» في 19 يناير، ثم على «بداجوز
Badajoz » في 6 أبريل، بعد أن تكبد في سبيل ذلك خسائر فادحة، بيد أن الاستيلاء عليهما أعطى ولنجتون قواعد يستند عليها في عملياته الهجومية التالية، وكان ذا أثر ظاهر في تقرير مصير النضال في إسبانيا، وعندئذ تقدم ولنجتون في داخل إسبانيا والتحم مع الجيش الفرنسي بقيادة «مارمون» في واقعة سلامانكا
Salamanca
التي انتصر فيها الإنجليز انتصارا باهرا في 22 يوليو 1812، وقد جرح «مارمون» في هذه المعركة، وارتد بعد هزيمته إلى «برجوس
Burgos » «في الشمال»، فضرب ولنجتون الحصار عليها، ولكنه ما إن شاهد مجيء النجدات إليها حتى رفع الحصار عنها في 21 أكتوبر.
وكانت مدريد بسبب هزيمة مارمون السابقة قد باتت مهددة، مما اضطر «سولت» إلى رفع الحصار عن قادش منذ 25 أغسطس، والتقدم صوب الشمال للدفاع عن العاصمة، وتولى سولت القيادة العامة في إسبانيا، وأما ولنجتون الذي تابع تقهقره من «برجوس» صوب الجنوب ونزلت بجيشه خسارة كبيرة بسبب انعدام النظام من جهة، وقسوة المناخ من جهة أخرى، فقد تمكن بعد جهد ومشقة من الوصول إلى «سويداد رودريجو»، حيث قرر اتخاذها مقرا لتمضية جيشه فصل الشتاء بها، وعنئذد عاد الملك جوزيف بونابرت إلى العاصمة مدريد، ولكن كان واضحا أن الفرنسيين فقدوا كل إسبانيا، جنوب مدريد دون أي أمل في استرجاعها.
وكان لهذه الهزائم في إسبانيا وما صحبها من إهانات ألحقت الأذى بسمعة نابليون على وجه الخصوص، نتائج ذات آثار تشير بوضوح إلى الطريق الذي سوف تسير فيه الحوادث في المستقبل، ولعل من أبرز هذه الآثار العاجلة كانت تلك المؤامرة الغريبة، والتي كان من الممكن نجاحها - بالرغم من أنها أخفقت - وهي مؤامرة الجنرال ماليه
Malet ، وكان «ماليه» قد اشترك في مؤامرة جمهورية - هي الأولى من نوعها منذ 1801 - وذلك في غضون عام 1808، وقبض عليه مع غيره من المتهمين، وكانوا إما من أعضاء المؤتمر الوطني السابقين أو أعضاء لجنة الأمن (الخلاص) العام، ولكن «فوشيه» بمؤازرة «كمباسيرس» نجح وقتئذ في إقناع نابليون بكتمان المسألة وإنهائها في سكون.
ونقل «ماليه» من السجن إلى مصحة، وأخذ «ماليه» يوثق صلاته ليس بالجمهوريين وحدهم، بل وبالملكيين كذلك هذه المرة، يدبرون جميعا الخطة لإسقاط نابليون، ولقد كان إسقاط هذا العاهل المسألة التي اتفقت كلمة المتآمرين عليها؛ لأنهم اختلفوا في نوع النظام الذي يجب أن يحل محل الحكومة القائمة، بل وإجراء الانتخابات لانعقاد الهيئات الانتخابية لإقراره، واستفاد المتآمرون من ذيوع إشاعة في باريس بأن الإمبراطور قد توفي، وهو في حملته بروسيا، فاستمالوا إليهم بعض الرؤساء العسكريين، ومدير البوليس في العاصمة «فروشو
Frochot »، وفي يوم 23 أكتوبر 1812 تمكن «ماليه» من القبض على وزير البوليس والمدير العام للبوليس «سافاري»، وعندما عجز عن استمالة الجنرال «هولان
Hulin » القومندان العسكري في باريس، أطلق «ماليه» عليه الرصاص، ولكن «ماليه» لم يلبث أن وقع هو وشركاؤه في قبضة الحكومة وأعدموا جميعا رميا بالرصاص في 29 أكتوبر، وبلغت أنباء هذه المؤامرة نابليون يوم 7 نوفمبر قبل وصوله إلى سمولنسك، فكان هذا الحادث من الأسباب التي جعلته يريد العودة إلى باريس بكل سرعة.
وكان وجه الخطورة في هذه المؤامرة - التي كان الفشل نصيبها - أن عددا من الضباط بمجرد أن ذاع النبأ بوفاة نابليون، تمكنوا في ساعات معدودة من الاستيلاء على الحكومة، وأن مدير بوليس العاصمة انحاز إليهم دون أي اهتمام بوجود الإمبراطورة وولي العهد ملك روما، ووزراء نابليون وكل سلطات الدولة، بل إن «ماليه» ربما كان محقا عند استجوابه أمام الهيئة العسكرية التي حاكمته لمعرفة شركائه في المؤامرة، حين قال مخاطبا رئيس الهيئة: «إنهم أنتم أنفسكم يا سيدي، وفرنسا بأسرها كذلك لو قدر لي النجاح»، ولم يكن في وسع نابليون إلا أن يذهب «ليرى بنفسه» ما يحدث بعاصمة إمبراطوريته.
ولا جدال في أن مؤامرة «ماليه» هذه كانت من الحوافز القوية التي جعلته يصمم على العودة إلى عاصمة ملكه، وكان لا بد من رجوعه إلى باريس بعد أن بدأ أعداؤه يرفعون رءوسهم، ويقوى أملهم في التحرر من سيطرته، بسبب الكوارث التي نزلت به خصوصا في روسيا وإسبانيا.
وأما المشكلة العاجلة التي واجهت الإمبراطور عقب وصوله إلى قصر التويلري في باريس في مساء 18 ديسمبر 1812، فكانت اتحاد أوروبا في المحالفة السادسة ضده، وأخذ الإمبراطور يتهيأ لمواجهة أوروبا، وكان لا بد من تنظيم «الجيش الأعظم» من جديد قبل الدخول في الحرب المنتظرة.
وكانت بقايا «الجيش الأعظم» قد وصلت إلى فيلنا يومي 8-9 ديسمبر في حالة يرثى لها، وتحت تهديد القوزاق (الفرسان الروس) الذين نجح «ناي» و«لواسون
Loison » في دفعهم بعد عناء ومشقة، وواصل الجيش تقهقره فغادر فيلنا، بعد أن ترك بها الجرحى والمرضى ليذبحهم الروس دون شفقة، ووصل الجيش المتقهقر إلى «كوفنو
Kovno » على نهر النيامن الذي عبره الجنود يوم 30 ديسمبر، وكان في هذا اليوم كذلك أن عمد الجنرال يورك دي وارتنبرج قائد القوات البروسية (تحت أوامر القائد الفرنسي مكدونالد) إلى توقيع اتفاق مع الجنرال الروسي ديبتش
Diébitch
في تاوروجن
Tauroggen ، ينص على أن جيشه البروسي قد صار محايدا، ثم اضطر «مورا» إلى مغادرة كونجزبرج التي دخلها الروس يوم 15 يناير 1813، بينما تقهقر مورا جنوبا حتى وصل إلى بوزن في بولندة، حيث بدأت الاتصالات بينه وبين مترنخ في مفاوضة عرجاء، ثم لم يلبث أن ذهب إلى نابولي عاصمة مملكته في إيطاليا.
ومع أن ملك بروسيا فردريك وليم الثالث استنكر اتفاق «تاوروجن»، فقد كان سبب ذلك أن برلين حتى يوم 4 مارس 1813 كانت لا تزال تحتلها الجيوش الفرنسية، والحقيقة أن بروسيا بدأت «تخون» العهد مع فرنسا، منذ اللحظة التي لم يعد لدى هذه الأخيرة غير «جنود جرحى، ولا سلاح معهم ولا شجاعة لديهم»، وعبثا حاول يوجين بوهارنيه - الذي خلف «مورا» في قيادة الجيش في «بوزن» (17 يناير 1813) وعلى نحو ما كتب لشقيقته «هورتنس» - أن يؤلف من الجيش الذي تحت قيادته قوة تكفي لوقف جيوش العدو «الروسية» وصدها عن مطاردته من ناحية، وفي الوقت نفسه مواجهة أولئك الذين يعلنون عداءهم ضد فرنسا مرة بعد أخرى.
ثم إن شوارزنبرج وجد الفرصة مواتية لتنفيذ أغراضه، فعرض عليه السياسي الروسي البارون دي أنستيت
Anstett
هدنة من نمط الهدنة التي حصل الاتفاق عليها مع البروسيين في تاوروجن، وبعد أن أحال شوارزنبرج هذا العرض على حكومته في فينا - وهي التي كما رأينا، كانت تعمل للخروج من المحالفة مع فرنسا منذ 4 نوفمبر من العام السابق لتتدخل ضدها - أبرم شوارزنبرج مع الجنرال كوتوزوف في 30 يناير 1813 اتفاق زيتيش
Zeycz
الذي أضحى بفضله كل جناح «الجيش الأعظم» الأيمن مكشوفا؛ وعلى ذلك فقد تقهقر الفرنسيون إلى ما وراء نهر الأودر، بينما دخل القيصر وارسو (في 18 فبراير 1813)، ووقف البرنس يوجين في تقهقره في أقصى حدود سكسونيا الغربية عند نهر سال
Saal (أحد فروع الإلب).
أما نابليون فقد علق على الموقف بقوله في 10 يناير 1813؛ بأنه وإن كان يريد السلام، فهو لا يهاب الحرب، وإنه لا يزال لدى الفرنسيين موارد عظيمة بالرغم من الخسائر التي سببتها قسوة المناخ؛ فالهدوء يسود البلاد في الداخل، ولا تريد الأمة إطلاقا التنازل عن أمجادها وعن قوتها، وفي الخارج تؤكد - بأقصى ما يمكنها فعله - كل من النمسا وبروسيا والدنمارك ولاءها، فلا تفكر النمسا في فصم عرى محالفة من المنتظر أن تجني منها فوائد عظيمة، ويعرض ملك بروسيا تقوية الفرق البروسية (في الجيش الفرنسي)، وقد قدم للمحاكمة الجنرال يورك (دي وارتنبرج) أمام مجلس عسكري، والروسيا في حاجة إلى السلام، ومهما تآمرت إنجلترة لاستثارة حفيظتها فهي - حسب اعتقاده - لا تريد الاستمرار في حرب تكون عواقبها وخيمة عليها في النهاية.
ولا جدال في أن هذه كانت مجرد تصريحات رسمية مبنية على تفاؤل، لم يكن بحال من الأحوال نابليون مخدوعا به نفسه، ينهض دليلا على ذلك ما صار يبذله من جهد لإعادة بناء قوة فرنسا والإمبراطورية بالدرجة التي تجعلها قادرة على مواجهة الأزمات المقبلة.
وكانت وسائل نابليون لتحقيق هذه الغاية متعددة؛ فهو (أولا) أدرك أن الواجب يقتضيه إرضاء الشعور الكاثوليكي ، وذلك بالصلح مع البابا، وكان نابليون قد نقله إلى «فونتنبلو
Fontainebleau » منذ 19 يونيو 1812، قريبا من باريس ليبقى تحت رحمته؛ وعلى ذلك فإنه لم تمض أيام ثلاثة على عودته إلى باريس حتى بادر نابليون بمناسبة السنة الجديدة فكتب للبابا بيوس السابع في 29 ديسمبر 1812: «إنه بالرغم مما وقع من حوادث، ظل دائما يحتفظ بنفس المحبة لشخصه، ويؤكد له رغبته الصادقة في إنهاء كل الخلافات التي تفصل الدولة عن الكنيسة.»
وقد حضر إلى «فونتنبلو» يوم 9 يناير 1813 أسقف نانت «ديفوازان
Duvoisin » وثلاثة من الكرادلة يحملون إلى البابا مقترحات نابليون التي ظلت موضع بحث ومفاوضة، ساهم فيها نابليون بنفسه عندما زار البابا فجأة في 18 يناير، وبقي معه بضعة أيام يبحثان معا شروط الصلح، ثم أسفر الأمر عن الاتفاق في 25 يناير 1813 على إحدى عشرة مادة تألفت منها اتفاقية أو كونكردات فونتنبلو، وقد تضمنت هذه الاتفاقية شروطا طيبة في صالح البابا والكنيسة، ولكنها احتفظت بموجب المادة الرابعة منها بالترتيبات التي وافق عليها المجلس الكنسي في سنة 1811 بشأن التقليد القانوني، والتي عرفنا أنه بعد مهلة ستة شهور يكون للبابا أثناءها حق التقليد القانوني، تنتقل ممارسة هذا الحق إذا تأخر التقليد إلى المطران (أو المتربوليتي) أو إلى أقدم الأساقفة في المقاطعة، وكان بسبب ذلك أن وقع البابا على «الكونكردات»، وهو في قرارة نفسه لا يرضى عنها.
وفي مساء يوم التوقيع نفسه أعلن نابليون في مذكرة رسمية أنه لم يكن يدور في خلده إطلاقا أن يجعل البابا ينزل بسبب هذه الاتفاقية، وما ذكرته موادها، عن حقوق سيادته الزمنية على أملاك «الدولة» البابوية، ومع ذلك فقد ظل البابا غير راض عن «الكونكردات»، ولم يتردد في إظهار عدم رضائه عنها، وعندئذ رأى نابليون أن يتعجل الأمر، فجعل مجلس الشيوخ يعلن في 3 فبراير أن الاتفاقية (الكونكردات) الجديدة، قانون من قوانين الدولة.
ولكن البابا نزولا على رغبة الكرادلة لم يلبث أن احتج على إعلان مقدمات الاتفاق بوصف أنها المعاهدة النهائية (24 مارس)، وأرسل إلى الإمبراطور استدراكا رجع فيه عن موافقته السابقة بدعوى أنه استدرجه لارتكاب هذا الخطأ ، غير أن هذا التنصل لم يثن نابليون عن عزمه، وإظهار أن كل مسائل الكنيسة قد سويت بالتفاهم التام والموافقة الكاملة من الجانبين، فأعلن في اليوم التالي (25 مارس) أن الكونكردات نافذة في كل أنحاء الإمبراطورية، وتقديم كل من يجرؤ على مخالفة نصوصها للمحاكمة، ليس أمام مجلس الدولة كما كان المعمول به سابقا، بل أمام المحاكم الإمبراطورية، وزيادة على ذلك بادر نابليون بتعيين اثني عشر أسقفا للأسقفيات الشاغرة، واتخذ الإجراءات الكفيلة بعزل البابا عن مستشاريه وخلصائه، وبدا كأنما كل الخلافات قد أزيلت بين البابا والإمبراطور.
وأحدث هذا الصلح «الظاهري» الأثر المطلوب لدى سواد الأمة والعالم الكاثوليكي، ولكن الحقيقة كانت إخفاق نابليون في كل محاولاته في استرضاء البابا بيوس السابع الذي بقي «سجينا» في «فونتنبلو» حتى يوم 22 يناير 1814 «لينقل منها إلى سافونا في 24 يناير، ثم يعود من هذه إلى روما في 19 مارس بعد هزيمة الإمبراطورية»، وأما الكونكردات التي أبرمت في فونتنبلو فقد ولدت ميتة.
وكان نابليون قد أحضر معه إلى فونتنبلو الإمبراطورة ماري لويز عندما ذهب «لزيارة» البابا، ولعله كان يريد أن يقوم البابا بتتويجها حتى تزيد سمعتها ومكانتها ارتفاعا ويطمئن الإمبراطور نفسه - بفضل هذا التتويج البابوي - إلى استقرار الحكم في الإمبراطورية في أسرته، وأن يخلفه ابنه وولي عهده ملك روما على عرش هذه الإمبراطورية، فكان (ثانيا) التفكير في تقوية مركز الإمبراطورة ماري لويز، واتخاذ الإجراءات التي تكفل استقامة الأمور عند وفاته، وعدم تعرض العرش للضياع إذا تآمرت بعض العناصر المعادية لقلب نظام الحكم، على نحو ما حاول «ماليه» ورفاقه أن يفعلوا، وحرمان أسرة بونابرت وملك روما عرش الإمبراطورية.
وعلى ذلك فقد استصدر نابليون قرارا من مجلس الشيوخ في 11 مارس 1813 بتخصيص صداق لزوجه تتمتع به عند ترملها، قدره أربعة ملايين فرنك، إلى جانب قصر الأليزيه وقصري التريانون «في فرساي، أحدهما الكبير: وقد بناه لويس الرابع عشر، والآخر الصغير: وهذا بناه لويس الخامس عشر»، ثم استصدر قرارا في 30 مارس بإنشاء مجلس للوصاية
Conseil de Régence
برئاسة ماري لويز، وكان هذا الإجراء مخالفا لدستور السنة الثانية عشرة، أي دستور الإمبراطورية (بتاريخ 18 مايو 1804)، ولكنه في نظر نابليون كان إجراء ضروريا لتجنب حدوث اضطرابات دستورية، أو أخرى من نمط الانقلابات التي ذكرنا أن محاولة «ماليه» كانت من أمثلتها لقلب نظام الإمبراطورية.
على أن بقاء الإمبراطورية وضمان استمرار الحكم في بيت بونابرت كان كلاهما مرتهنا بوجود القوة العسكرية التي تعتمد عليها السيطرة النابليونية في أوروبا، وكان دوام هذه السيطرة النابليونية شرطا أساسيا للحيلولة دون انهيار الإمبراطورية، ولتثبيت دعائم النظام الذي أراد نابليون أن ينتقل العرش بمقتضاه إلى ملك روما، وأن تبقى من حق البيت البونابرتي وراثة الحكم في فرنسا؛ وعلى ذلك فقد كانت (ثالثا) العناية بإعادة تنظيم الجيش أمرا لازما؛ لا سيما بعد الكوارث التي كبدته خسائر فادحة في الحملة الروسية والحرب الإسبانية، ولأن الدول في أوروبا تألبت الآن ضد فرنسا في المحالفة الدولية السادسة، من إنجلترة وبروسيا والولايات أو الإمارات الألمانية، وإسبانيا والبرتغال وروسيا ثم السويد والنمسا، وذلك بعد أن تبين لها أنه قد بات ممكنا إنزال الهزيمة بجيوش نابليون «المظفرة»؛ فاستصدر نابليون قرارا في 22 ديسمبر 1812 بتوقيع العقوبة على الآباء الذين يمتنعون بشتى الوسائل عن تقديم أبنائهم للتجنيد، واستصدر قرارا آخر في أبريل 1813 بإنشاء أربعة فرق من فرسان الحرس الذين يجري اختيار أكثرهم من الشبان أبناء الأغنياء في الأقاليم ليتألف منهم الحرس الإمبراطوري، وإلى جانب هذا فإنه لما كان مجندو طبقة سنة 1813 قد تم تجنيدهم فعلا منذ أكتوبر 1812، فقد دعيت للتجنيد الآن الطبقة التالية، أي مجندو سنة 1814، على أساس تقديم تاريخ الطلب للجندية عامين عن موعده، وقد أشرفت الوصية على العرش، ومجلس الوصاية على عملية التجنيد هذه الأخيرة خصوصا؛ لاستحثاث الموظفين المسئولين على السرعة في إنجازها؛ ولذلك فقد أعطي الجنود الشبان من هذه الطبقة لقب «الماري لويز».
وإلى جانب ما تقدم كانت هناك (رابعا) استعدادات للتنظيم والتعبئة من نوع آخر تتناول مسائل ذات أهمية اجتماعية، من ذلك - على وجه الخصوص - استصدار قرار صار مشهورا بتاريخ 26 مايو 1813 بتنظيم استخراج الفحم الحجري من إقليم أو مقاطعة ميرث
Meurthe
بفرنسا - على حدودها الوسطى الشرقية - على أساس اشتراكي بإشراف الدولة؛ حيث أنشئت جمعية للخدمة الاجتماعية تضم إليها الصناع والمستخدمين، تتخذ مقرها في «لييج» مركز المقاطعة الرئيسي، وتتألف مواردها من إعانة تدفعها الحكومة ومستقطعات من أجور ومرتبات أعضاء الجمعية بنسبة اثنين في المائة، وإتاوات يدفعها أصحاب المناجم بنسبة 0,50٪ من جميع الأجور والمرتبات الدائمة التي يدفعونها، وتقوم هذه الجمعية بتوزيع الإعانات والمعاشات، أي إن عملها كان تأمين العمال والمستخدمين ضد تقدم السن والتعطل عن العمل، والحوادث، ثم المرض، على أن يسمح بامتداد هذا النظام إلى أقاليم مناجم الفحم الأخرى، وأن يشمل أصحاب الحرف الأخرى، ولم يمنع انتشار هذا النظام الاشتراكي ونجاحه غير انهيار الإمبراطورية النابليونية في الوقت الذي كان قد بدأ العمل به في أول مراحله، ولما يكد يمض زمن كاف على البدء في تنفيذه.
وأما هذا الانهيار فقد جاء النذير به من ناحية بروسيا، ذلك أن الفرنسيين بمجرد أن اضطروا إلى إخلاء بروسيا الشرقية على أثر تقهقرهم من روسيا في الظروف التي سبق ذكرها، حتى حضر من المنفى الوزير البروسي «ستين» لينضم إلى الجنرال يورك دي وارتنبرج، ولينشئ في هذه المقاطعة حكما دكتاتوريا، ويشرف على إعداد جيش قوي حسب النظام العسكري البروسي الجديد، ومن ناحية أخرى نجح «هاردنبرج» في إقناع الملك فردريك وليم الثالث - الذي كان من شيمته التردد دائما - بالذهاب إلى برسلاو في سيليزيا (22 يناير 1813)؛ ليجد بها على قدم الاستعداد جيشا بروسيا كبيرا من خمسين ألف مقاتل، يتولى قيادتهم أعظم القواد البروسيين: شارنهورست وجنسيناو
Gneisenau ، وكلوسوتيز
Clauswitz ، وبلوخر
Blüchehr ، وقد رفض هؤلاء خدمة الإمبراطور نابليون، فاستمرت تنحيتهم عن العمل مدة، حتى تولوا (الآن) القيادة، وكان امتناعهم السابق عن خدمة نابليون من الأسباب التي جعلتهم يتولونها.
وقد اتخذت عدة إجراءات لتنظيم هذا الجيش، كانت موضع تفكير طويل ودراسة عميقة من مدة سابقة، من ذلك أنه صدر قرار في 8 فبراير 1813 يجيز للقناصة المتطوعين من الجنود المشاة والفرسان، أن يتحملوا أنفسهم نفقات تسليحهم وعتادهم، في 16 فبراير صدر قرار آخر بوقف الإعفاء من الجندية طول مدة الحرب، وقد كان وقف الإعفاء من الجندية هذا - الذي لم يلبث أن صار معمولا به بصورة نهائية - الأصل الذي استند عليه نظام الخدمة العسكرية الإجبارية الذي عرفته بروسيا قبل غيرها من الأمم.
وفي 10 مارس (عيد ميلاد الملكة لويزا) أنشئ نظام الصليب الحديدي لتكريم كل أولئك الذين يمتازون بالبسالة في ميادين القتال ضد العدو، وذلك دون نظر للمولد أو للمنصب، وفي 17 مارس صدر قرار بتأسيس وتنظيم الجيش المعد للدفاع عن البلاد
Landwehr ، وفي 21 أبريل صدر القرار الخاص بقوات الدفاع المؤلفة من كل القادرين على حمل السلاح، أي تعبئة الصالحين للخدمة العسكرية
Landsturm ، وتلك كانت قوات «حرة» غير الجيش النظامي العادي، وأقبل على الانضمام إلى صفوفها الفلاحون وأبناء الطبقة المتوسطة، وساهم النساء في تزويد الجيش بحاجاته وتأسيس هذه القوات المقاتلة «الحرة» بكل الوسائل، وصرن يبعن ما لديهن من مصوغات وحلي من أجل الانتصار في الحرب المنتظرة «حرب التحرير
Befreingskrieg »، وهي الحرب التي تاق لها الألمان، وراحوا يعبرون عن ذلك الروح الوطني، أو الشعور القومي الجديد الذي أحيا في صدورهم الأمل في التخلص من السيطرة الأجنبية التي فرضها نابليون عليهم، وحفزهم إلى التكتل في مجهود وطني متحد يهدف إلى غرض واحد هو إحياء الأمة الألمانية.
هذا الشعور القومي، وهذه الرغبة القوية في التحرير والخلاص عبر عنهما الألمان في أغنياتهم وأناشيدهم، وفي منشوراتهم العدائية ضد السيطرة أو الديكتاتورية النابليونية، وفي الكراسات أو النشرات التي أذاعوها، من ذلك «أنشودة المزاهر والسيوف» للشاعر الألماني كارل تيودور كورنر
Körner
الذي تطوع في حرب التحرير، وغنى لها، ثم قتل في ساحة الوغى، بينما كان أرندت
Arndt - الذي سبق ذكره، وهو أستاذ بجامعة جريفزوالد
Griefswald - صاحب «أهازيج الحرب»، والشاعر فردريك روكيرت
Rückert
وله أغان مشهورة، وهنريك كلايست
Kleist
وغير هؤلاء، وقد عبروا جميعا عن ذلك الشعور القومي الذي جاش في نفوس الألمان لمدة طويلة قبل انفجار الثورة في ألمانيا سنة 1813 للخلاص من السيطرة الفرنسية.
ولقد سبق أن تحدثنا عن محاضرات «فيشته
Fichte » في جامعة برلين، التي تأسست في عام 1810 فقط، فقد ختم محاضراته يوم 19 فبراير 1813 بقوله: «إن هذه المحاضرات سوف توقف إلى أن تنتهي الحملة «أو الحرب» الحالية، وسوف نستأنف إلقاءها وقد تحررت بلادنا، أو أن نلقى الموت في سبيل الحرية»، وكان لهذه العبارات دوي عظيم.
وفي جامعة برلين - كذلك - اشتهر أستاذ آخر «شلايرماخر
Schleirmachet » بتحريك النفوس، واستفزاز الأمة الألمانية للنضال ضد الرجل الذي يجب تحطيمه (نابليون)؛ لأنه - على حد قول أرندت - قد حطم الحرية وهدم صرح القانون.
ولقد كانت المفاوضات في كاليش
Kalish
بين القيصر إسكندر، والقائد البروسي كنسبيك
Knesebeck (عن فردريك وليم الثالث ملك بروسيا) في 9 فبراير 1813، وكانت مفاوضات دقيقة؛ لأن القيصر أراد إرجاع بولندة إلى روسيا والاحتفاظ بها تحت سلطانه، ودفع بروسيا صوب الغرب في اتجاه سكسونيا ونهر الراين، بينما أرادت بروسيا أن تتدعم أركانها في الشمال والشرق.
ثم استؤنفت المفاوضات في برسلاو، حيث حمل البارون أنستيت
Anstett
إلى فردريك وليم رسائل من قيصر روسيا (21 فبراير)، وانتهت المفاوضات إلى إبرام معاهدة برسلاو في 27 فبراير، ثم التصديق عليها في كاليش في أول مارس 1813 لإنشاء محالفة دفاعية هجومية ضد فرنسا، وقد تعهد الطرفان بعدم الدخول في مفاوضات منفصلة مع العدو (فرنسا)؛ لأجل عقد السلام، وبأن يتخذا - بالاشتراك فيما بينهما - الخطوات اللازمة للحصول على تأييد النمسا من جهة، وعلى المعونة المالية من إنجلترة من جهة أخرى، وفي مادة سرية اتفق الفريقان على أن تعود بروسيا إلى ما كانت عليه حدودها في سنة 1806، على أن يكون لها من الأقاليم ما يربط بروسيا القديمة بأراضي سيليزيا، وقد ترك هذا الإجراء لروسيا احتمال إرجاع بولندة تحت سيطرتها، ودخل الروس برلين في 11 مارس، وفي 15 مارس قابل القيصر الملك فردريك وليم في برسلاو، وكان الوزير البروسي هاردنبرج عشية هذه المقابلة قد بعث إلى فرنسا بمذكرة يفسر فيها أسباب فصم العلاقات مع فرنسا، وخروج بروسيا على الإمبراطور.
وفي 17 مارس أعلنت بروسيا الحرب على فرنسا وأصدرت قرار تأسيس وتنظيم جيش الدفاع عن البلاد
Landwehr - الذي سبق الكلام عنه - ثم أذاع الكاتب الألماني تيودور جوتليت هيبل
Hipple
دعوته المشهورة لاستنهاض أمته للنضال ضد الأعداء (الفرنسيين)، وهي الدعوة أو النداء الذي يحدد بداية الثورة الألمانية - أو النهوض القومي - والذي تجاوبت أصداؤه في جميع أنحاء ألمانيا؛ فقد وجه «هيبل» النداء «للبراندنبرجيين، والبروسيين، والسيليزيين، والبوميرانيين، والليتوانيين، الذين يعرفون أنهم تذوقوا مرارة العذاب سبع سنوات بتمامها، والذين يعرفون ماذا يكون مصيرهم المحزن إذا هم لم ينهوا - في شرف واستبسال - هذا النضال الذي بدأ الآن.»
وناشد «هيبل» مواطنيه أن يذكروا آباءهم وأجدادهم، والأمجاد التي كانت لهم؛ ليسترجعوها في ميدان الجهاد من أجل تحرير الوطن، بتحمل التضحيات التي لا يمكن أن توازي - مهما بلغت - كل تلك الأهداف المقدسة التي يجب عليهم أن يحاربوا من أجلها، وأن ينتصروا للفوز بها، إذا شاءوا إقامة الدليل على أنهم دائما أبدا بروسيون وألمان.
ولقد أصدر القائد الروسي وتجنستاين بمجرد دخوله إلى برلين نداء مشابها يدعو كل شعوب ألمانيا لحمل السلاح، استهله بقوله: «الحرية أو الموت»، ثم أخذ يوجه الكلام «للسكسونيين والألمان» قائلا: «إن كل اعتزاز بالأصول العريقة قد انتهى وطويت سجلات النبلاء بانتهاء سنة 1812؛ لأن أعمال جدودنا المجيدة قد طمستها الإهانات التي لحقت بأحفادهم، ولكن ثورة ألمانيا ونهوضها سوف يتولد منها أسرات نبيلة جديدة، وهي وحدها التي سوف تعيد للأجداد المجد الذي فقدوه»، وثورة ألمانيا هي التي جعلت في صفوف الجيش البروسي «يقف جنبا إلى جنب ابن العامل وابن الأمير.»
وفي برسلاو أبرم الوزير البروسي «ستين» مع الكونت نسلرود
Nesselrode
ممثل القيصر اتفاقا في 19 مارس 1813 بشأن تنظيم الإدارة والحكومة في الأقاليم الألمانية التي يصير استرجاعها من نابليون، وذلك بإنشاء خمس دوائر إقليمية كبيرة للإدارة العسكرية تحت نوع من الحكم، لوحظ فيه أن يكون حلا وسطا بين الميول والاتجاهات المحلية الإقليمية، لعدم إثارة مخاوف الملوك والأمراء الألمان، واحتراما لرغباتهم، وبين المبادئ التي تهدف للوحدة والتي اعتنقها «ستين» نفسه.
وفي 25 مارس أصدر القائد الروسي «كوتوزوف» منشورات تحدث فيها إلى الشعب الألماني، ليس عن الاستقلال وحده وحسب للخلاص من السيطرة الأجنبية (الفرنسية)، بل عن الحرية كذلك، أي: تمتع الشعب الألماني بكل حقوقه المشروعة، والتي كانت قد طمستها الديكتاتورية النابليونية.
ذلك كان الحال في بروسيا التي أدت ثورتها القومية إلى إعلان الحرب على الإمبراطورية الفرنسية، فماذا كان الموقف في الدولة «الألمانية» الكبيرة الأخرى، وهي النمسا؟
لقد دأب المؤرخون الألمان دائما على اعتبار مترنخ - الوزير النمسوي - صنوا للوزير البروسي «ستين» في شدة الإخلاص للوطن، وغمر المؤرخون الألمان الوزيرين بصنوف المديح والإطراء، وانعقد الرأي على أن مترنخ تحت ستار المحالفة مع فرنسا - منذ الزواج النمسوي وبسببه - كان لا يعمل إلا لتحطيم السيطرة الفرنسية، وإجبار فرنسا على التراجع والانكماش داخل حدودها «الشرعية»، وإعادة التوازن إلى أوروبا، وهو التوازن الذي هدمه نابليون بفتوحاته الواسعة.
وقد تحدثنا فيما سبق عن الوساطة التي عرضها مترنخ «للتدخل» مع روسيا من أجل الوصول إلى «معاهدة طيبة» للسلام بينها وبين فرنسا أثناء الحملة الروسية (نوفمبر 1812)، وشرحنا غرض مترنخ الحقيقي من هذه الوساطة، فعاد مترنخ الآن يقترح الوساطة مرة أخرى، بأن أوفد إلى باريس الكونت بوبنا
Bubna ، يعرض التدخل مع أعداء فرنسا، وغرضه الصحيح في هذه المرة التغلب على شكوك نابليون ومخاوفه من اتفاق الهدنة الذي أبرمه شوارزنبرج مع الجنرال كوتوزوف في «زيتيش» في يناير 1813، ثم من ناحية المرشال شوارزنبرج نفسه، الذي كان قد أرسل في سفارة غير عادية لدى حكومة نابليون في باريس.
وفي الوقت نفسه بعث مترنخ رسولا إلى لندن، البارون ويزنبرج
Wessenberg
متخفيا ويحمل تعليمات بتاريخ 18 فبراير لم يلبث أن أبلغها إلى وزير الخارجية الإنجليزية لورد كاسلريه
Castlereigh
في 13 مارس، وقد أتبعها مترنخ - بعد معاهدة كاليش بين روسيا وبروسيا - بتعليمات أخرى بتاريخ 10 مارس، وصلت ويزنبرج يوم 24 أبريل، ومن ناحية أخرى عرض السفير الفرنسي الجديد في فينا الكونت ناربون
Narbonne - والذي خلف «أوتو» - مشروعا لتنظيم وسط أوروبا (29 مارس) على أساس سيطرة نمسوية بدلا من النظام الروسي-البروسي الذي كانت معاهدة كاليش تمهد له، فيتم تقسيم بروسيا، وتنال النمسا سيليزيا التي فقدتها من أيام حرب الوراثة النمسوية (صلح برسلاو 1742).
ولكن مترنخ عارض هذا المشروع باقتراح المبادئ التي رآها ضرورية لإعادة التوازن السياسي إلى أوروبا، وفحواها تنازل فرنسا عن فتوحاتها والأملاك التي ضمتها إليها لإقامة صرح إمبراطوريتها، والتنازل عن سياسة الحصار القاري وإلغاء نظامه، والمحافظة على كيان بروسيا كمملكة لم تفقد شيئا من أراضيها ومتحدة اتحادا وثيقا مع النمسا التي لا ترغب في توسيع حدودها؛ وعلى ذلك فإن ناربون عندما استقبله الإمبراطور النمسوي فرنسوا الأول بعد أيام قليلة (في 23 أبريل) لم يلق أي ترحيب، بل كان استقباله ببرود كثير، ومن جهة أخرى فإن السفير النمسوي شوارزنبرج - الذي ذكرنا أنه موفد في سفارة خاصة لدى نابليون، وكان يحمل مقترحات مشابهة - لم يجرؤ عند مقابلة الإمبراطور (في 9 أبريل) على إبلاغها له.
وفي 15 أبريل 1813 غادر نابليون باريس في طريقه بكل سرعة إلى ماينز، ومنها إلى إرفورت ليتولى قيادة جيشه، وكان الحلفاء قد زحفوا من «الأودر» صوب نهر الإلب، ثم بعد عبور هذا النهر الأخير أخذوا يتقدمون نحو نهر السال الذي تقع خلفه وعلى مسافة منه إرفورت، وكانت خطة الفرنسيين حشد قواتهم في جيشين: أحدهما بقيادة يوجين بوهارنيه، يعتلي نهر السال، والآخر يضم ناي، وأودينو، ومارمون، يأتي من الجنوب حتى يتلاقى الجيشان في سيرهما.
وفي 2 مايو وقع أول اشتباك بين الفريقين في سهول «لوتزن
Lutzen » وكان انتصارا «كاملا» - كما وصفه نابليون لزوجه ماري لويز - أحرزه الفرنسيون على القوات الروسية البروسية بقيادة وتجنستاين، الذي عهد إليه بالقيادة العامة بعد وفاة كوتوزوف، ولو أن هذا النصر كلف «الجانبين» ثمنا غاليا، وطارد الفرنسيون العدو المتقهقر «والذي وجد السلامة في الانسحاب السريع في كل مكان».
وفي 8 مايو دخل نابليون «درسدن
Dresden » حيث وافاه بها ملك سكسونيا العجوز فردريك أوجستوس الأول الذي ضاعت معه مساعي مترنخ وبقي على ولائه للإمبراطور حتى النهاية، وقد أعاده نابليون الآن إلى عرش مملكته.
وتزايد تذمر نابليون من صهره فرنسوا إمبراطور النمسا، وتزايدت شكوكه من ناحية مترنخ، وغضبه منه، ووصفه بأنه رجل مكايد ومؤامرت، وقد جاء «الكونت بوبنا» لمقابلة نابليون في درسدن (16 مايو) ليعرض عليه الشروط التي تراها النمسا ضرورية «لوساطتها» بين الفريقين المتقاتلين: «إنهاء وحل غراندوقية وارسو، والتنازل عن الفتوحات وكل الأملاك التي للإمبراطور في ألمانيا، وإرجاع المقاطعات الليرية إلى النمسا»، ورفض نابليون هذه الشروط، وأوضح للكونت بوبنا: «أن أحدا لا يستطيع أن يأخذ من الفرنسيين شيئا بضرب العصا»، وأنه - أي نابليون - لن يتنازل عن شيء إطلاقا من كل تلك الأقاليم التي صارت دستوريا متحدة أو مندمجة في فرنسا، وأن الشرف يمنعه من فعل شيء من ذلك، وأن النمسا على كل حال لم تكن أقوالها صريحة، أو تنبئ عن أغراضها الحقيقية؛ فالنمسويين بدءوا بمطالبته بإرجاع المقاطعات الليرية، ولكنهم سوف يطالبونه بعد ذلك بإخلاء البندقية، ثم ميلان، ثم تسكانيا، ثم إنهم سوف يرغمونه على القتال معهم والدخول في حرب ضدهم، وقال نابليون: ومن الأفضل إذن أن نبدأ بالقتال من الآن، وهكذا لم تسفر عروض الوساطة النمسوية عن شيء في صالح السلام.
وزحف الإمبراطور من درسدن للالتحام مع العدو الذي حشد قواته في موقع حصين إلى ما وراء بوتزن
Bautzen ، وهنا دارت رحى معركة حامية، يومي 20-21 مايو 1813 تشتت فيها جيش «وتجنستاين»، وقتل في أثنائها «ديروك
Duroc »، وفي 22 مايو أكمل الاشتباك الذي حصل في «ورشن
Wurschen » النصر الذي أحرزه نابليون على الجيش الروسي البروسي، واستطاع أن يقول: «لعل في هذا النصر ما يجعل الوزارة في فينا تقلل من أطماعها»، ذلك أنه قد ترتب على هذا النصر أن تم طرد العدو من سكسونيا، وإن أمكن غزو وإخضاع نصف سيليزيا، ثم إعادة جيروم بونابرت إلى العرش في وستفاليا، ودعم سلطان «دافو» في همبورج.
ولكن العدو لم تيئسه هذه الانهزامات؛ فقد تقهقر الروس والبروسيون إلى شفايدنيتز
Schweidnitz
في «سيليزيا» ليعيدوا تنظيم قواتهم، وحيث وصلتهم النجدات من السويد وأمكنهم الحصول على إعانات مالية جديدة من إنجلترة.
واستمر مترنخ في دور التمويه الذي دأب عليه من بداية هذه الحرب خصوصا، فهو يكتب أن الانتقال من الحياد إلى الحرب أمر يتعذر حصوله إلا عن طريق الوساطة المسلحة، أي الإرغام، وصار يعتقد بعد واقعة «بوتزن» أن الفرصة قد صارت مواتية لأن يعرض على نابليون إبرام الهدنة التي تمهد لاجتماع مؤتمر ينظر في شروط الصلح لعقد السلام العام، ووافق الإمبراطور على الهدنة التي وقع عليها في بليزويتز
في 4 يونيو 1813، وكانت مدة هذه الهدنة حوالي شهرين تنتهي في يوم 28 يوليو.
أما نابليون فقد وصل إلى درسدن في ليل 9-10 يونيو ليقضي بها وقت الهدنة، وحيث جلب إليها جوقة الكوميدي فرانسيز، وفي 25 يونيو وصل مترنخ، وفي 26 يونيو اليوم التالي لوصول مترنخ كانت المحادثة المشهورة التي صاح أثناءها نابليون، بعد أن تبين له من «تمويه» الوزير النمسوي وخداعه، أن النمسا لا محالة منضمة إلى أعدائه، لقد كان من الحمق البالغ أن أتزوج أميرة نمسوية! ولقد كتب نابليون إلى زوجه ماري لويز في أول يوليو، يصف مترنخ بأنه رجل مكائد ومؤامرات، وأنه أساء النصح «للأب فرانسوا» والد ماري لويز وصهره، ثم كتب لها مرة ثانية في 7 يوليو: أن من الممكن الوصول إلى إبرام السلام العام لو أن النمسا امتنعت عن الصيد في الماء العكر، وأن الإمبراطور فرانسوا مخدوع بوزيره مترنخ الذي رشاه الروس وابتاعوه بأموالهم، والذي يعتقد أن السياسة هي القدرة على نسج الأكاذيب.
وكان نابليون محقا في حذره من مترنخ ونقمته عليه، وفي توقعه كذلك أن تنضم النمسا إلى المحالفة القائمة ضده، ذلك أن مفاوضات لم تلبث أن قامت بين النمسويين وبين الروس والبروسيين، انتهت بعقد اتفاق في رايشنباخ
Reichenbach
بين الأطراف الثلاثة في 27 يونيو 1813، وكان في رايشنباخ أن تعهدت إنجلترة منذ 14-16 يونيو بدفع إعانة شهرية قدرها 17 مليونا لبروسيا، 33 مليونا لروسيا لاستمرار الحرب، ولكن تنفيذ هذا الاتفاق كان معلقا على رفض نابليون وساطة النمسا بينه وبين الروس والبروسيين، وعندئذ يكون غرض الحلفاء الثلاثة (روسيا، وبروسيا، النمسا) أن تعود حدود النمسا إلى ما كانت عليه في سنة 1805، وأن تطالب بإخلاء كل ألمانيا، وإسبانيا، وإيطاليا، وهولندة.
ولكن مترنخ الذي توسط في عقد هذا الاتفاق كان لا يطمئن لنوايا القيصر - وكما كان ذلك رأيه - بينما اعتقد أن في وسعه في الوقت نفسه الوصول إلى اتفاق مع نابليون، فقابله في درسدن، حيث وصل إليها يوم 25 على نحو ما ذكرناه، وعرض نابليون عليه المقاطعات الليرية في نظير بقاء النمسا على الحياد، الأمر الذي رفضه مترنخ عندما أصر على فرض وساطة النمسا بين الجانبين المتقاتلين لإبرام الصلح بينهما ، أو أن النمسا إذا رفضت وساطتها سوف تنضم حتما إلى الحلفاء ضد فرنسا، مما جعل نابليون يصف نفسه بالحمق البالغ؛ لأنه تزوج من أرشيدوقة نمسوية، على أن نابليون في 30 يونيو لم يلبث أن غير موقفه، وقبل الوساطة التي عرضها مترنخ أيضا ، وامتد أجل الهدنة إلى يوم 10 أغسطس.
وأراد نابليون كسب الوقت، فلم يصدر تعليماته إلى «كولينكور» إلا يوم 28 يوليو، وقد نصت هذه على المطالبة بإعادة الحالة إلى ما كانت عليه قبل الحرب، ورفض نابليون أن يزوده بسلطات التعاقد الكاملة، وعلى ذلك فقد رفض مفوضو الحلفاء عند وصول «كولينكور» إلى براج
- المكان المعد لعقد المؤتمر (في 28 يوليو) - المفاوضة معه، وبعثوا به إلى مترنخ الذي تمسك بشروط هدنة بليزويتز، وأصر على قبول نابليون لمقدمات الصلح التي يريدها الحلفاء، وعندئذ (في 13 أغسطس) وافق نابليون على إخلاء غراندوقية وارسو، وتمسك بدانزج، ورضي بإعادة مملكة بروسيا على شرط تعويض ملك سكسونيا (حليفه) عن الأراضي التي سوف يفقدها بأراض أخرى عدد سكانها نصف مليون نسمة، كما تنازل نابليون عن المقاطعات الليرية ما عدا تريسته، وإيستريا
Istria ، ولكن عندما وصلت عروض نابليون هذه إلى المؤتمر (أي في 13 أغسطس) كان وصولها بعد فوات الوقت؛ لأن كاسلريه - الذي شجعه انتصار ولنجتون الحاسم في إسبانيا على الفرنسيين في واقعة فيتوريا
Vittoria (في 21 يونيو 1813) - لم يلبث أن طالب بالاحتفاظ بصقلية لفردينند الأول ملك نابولي، واشترط أن ينال برنادوت «في السويد» كل ما وعده الإنجليز به، وعمد مترنخ إلى إعلان انتهاء المؤتمر - مؤتمر براج - الذي سماه نسلرود «بالمؤتمر السخري أو الاستهزائي
Congrès dérisoire »، وفي 12 أغسطس أعلن الحرب على فرنسا.
وكانت جيوش الحلفاء ثلاثة: جيش الشمال بقيادة برنادوت، وجيش سيليزيا بقيادة بلوخر، وجيش بوهيميا بقيادة شوارزنبرج، وأفاد الحلفاء من مشاورات وخبرات اثنين تركا صفوف الفرنسيين لخدمة العدو أحدهما: جوميني
Jomini
وهو سويسري كان رئيس أركان حرب القائد ناي، والثاني: مورو
Moreau
الذي عاد من الولايات المتحدة الأمريكية بناء على طلب القيصر، وقد نصح «مورو» بعدم الاشتباك في معركة مع نابليون نفسه، وبدلا من ذلك الالتحام مع قواده، حتى إذا انهزم هؤلاء سهلت هزيمة نابليون وإجباره على التقهقر، ثم إملاء شروط الصلح عليه في باريس.
والذي حدث في هذه الحملة (حملة 1813) أن اشتبك الفريقان في سلسلة من المعارك؛ فانهزم شوارزنبرج في معركة درسدن في 27 أغسطس أمام نابليون، ولكن الحلفاء سجلوا انتصارات على قواد نابليون؛ فانتصر برنادوت على جيش أودينو
Oudinot
في جروس بيرين
Gross-Beeren
في 23 أغسطس، وانتصر بلوخر على ماكدونالد في كانزباخ
Katzbach
في 26 أغسطس، وانتصر الروس على القائد فاندام
Vandamme
في كالم
Kulm
في 29-30 أغسطس، وانهزم «ناي» في دينويتز
Dennewitz
في 6 سبتمبر.
ثم إن الحلفاء (روسيا، بروسيا، النمسا) بادروا بدعم المحالفة الثلاثية في تبليتز
Teplitz
في 9 سبتمبر، وفي 3 أكتوبر انضمت إنجلترة إلى المحالفة، وفي 8 أكتوبر أبرمت معاهدة ريد
Reid
للتحالف بين بفاريا والنمسا، وبمقتضاها خرجت بفاريا من اتحاد الراين وتعهدت بضم قواتها فورا إلى جيوش الحلفاء، وفي 9 أكتوبر حصل الاتفاق بين إنجلترة والنمسا، ومدت الأولى الثانية بإعانة مالية كبيرة لتغطية نفقات الحرب، وفي 23 أكتوبر خرجت ورتمبرج على نابليون وانضمت إلى المحالفة.
وما إن تلقى الحلفاء نجدات جديدة من روسيا (50000) بقيادة بنينجسن، حتى زحفوا مرة أخرى على سكسونيا في 3 أكتوبر، واتخذوا مواقعهم على الضفة اليسرى لنهر الإلب، وكان من الواضح أن خطة الحلفاء هي حشد قواتهم في سهول ليبزج
Leipsig
في مؤخرة الفرنسيين حتى يقطعوا عليهم خط الرجعة عند تقهقرهم إلى فرنسا.
واضطر نابليون - بسبب خروج بفاريا من اتحاد الراين من جهة، ولأن الحلفاء حاولوا قطع خطوط مواصلاته مع نهر الراين - إلى الارتداد والزحف على ليبزج، فبلغها يوم 15 أكتوبر على رأس جيش من (160000) مقاتل، ومع أن هذا كان جيشا ضخما فإنه كان ينقص كثيرا عن عدد قوات الحلفاء الذين حشدوا في ميدان المعركة في ليبزج ما لا يقل عن (320000)، وفي المعركة التي دارت بين 16-19 أكتوبر والتي عرفت باسم «حرب الأمم» انهزم نابليون، وكان من عوامل هذه الهزيمة وصول قوات جديدة في يوم المعركة الأول بقيادة برنادوت وكولوريدو
Colloredo ، وبنينجسن
Bennigsen (السويد، النمسا، روسيا)، بينما لم يكن في وسع نابليون الاعتماد على أية نجدات لتقوية جيشه، وقد أدرك نابليون خطورة الموقف؛ فعرض في مساء اليوم نفسه (16 أكتوبر) مقترحات للاتفاق على هدنة تمهيدا للمفاوضة من أجل الصلح، ورفض الحلفاء مقترحاته عندما تعهدوا فيما بينهم بعدم الدخول في أية مفاوضات مع الإمبراطور إلا بعد أن يكون آخر جندي فرنسي قد انسحب من الأراضي الألمانية حتى نهر الراين، وعلى ذلك فقد استؤنف القتال يوم 18 أكتوبر، وكانت معركة حامية، انتصر فيها الحلفاء بسبب تفوقهم العددي، وقدرتهم دائما على تعويض خسائرهم في الرجال، ولأن جنود سكسونيا وورتمبرج وعددهم اثنى عشر ألفا، تخلوا عن نابليون أثناء اشتداد المعركة وغادروا صفوف جيشه لينضموا إلى قوات برنادوت.
وانهزم نابليون وتقهقر جيشه إلى إرفورت (صوب الغرب)، وكانت عملية التقهقر هذه مشوبة باختلال النظام لعدم وضع خطة محكمة لها، وعندما عبر الجنود الجسر الوحيد من بين عدد من الجسور كان نابليون قد أمر بإقامتها على نهر السيتر
Elster
لم يلبث أن تحطم تحتهم، وكان من بين الغرقى القائد البولندي (بونياتوسكي)، وفي صباح اليوم التالي (9 أكتوبر) وجد الحلفاء ميدان المعركة خاليا، وتأكد لهم أنهم كسبوا المعركة.
وفي إرفورت التي وقف فيها الإمبراطور يومين، استطاع نابليون جمع ثمانين ألف جندي استعدادا لاستئناف التقهقر صوب فرنسا، والزحف على هناو
Hanau
لعبور المين
Main
أحد فروع نهر الراين، ولما كان الجيش البفاري بقيادة الجنرال ريد
Wrede
قد اتخذ مواقعه عند هناو ليمنع الفرنسيين من عبور النهر، فقد اشتبك الفريقان في معركة حامية يوم 30 أكتوبر، انتصر فيها الفرنسيون انتصارا حاسما، وتمكن الإمبراطور من متابعة السير بكل سرعة صوب الراين الذي عبره مع جيشه عند ماينز
Mainz
يوم 2 نوفمبر.
وعند ماينز ترك الإمبراطور الجيش الذي بلغ عدده الآن أقل من 70 ألف مقاتل وحسب، وأسرع هو في العودة إلى عاصمته، فغادر القصر الملكي في ماينز يوم 7 نوفمبر ووصل إلى سان كلو في 9 نوفمبر.
ولم يكن تقهقر الإمبراطور من ألمانيا كل الهزيمة التي لحقت به وبالإمبراطورية، فقد انكمشت حدود هذه الإمبراطورية في كل نواحيها الأخرى؛ ففي إسبانيا حيث انتصر ولنجتون - كما ذكرنا - على قوات جوزيف بونابرت في واقعة فيتوريا في 21 يونيو 1813، اضطر الفرنسيون إلى الانسحاب منها، بعد أن قررت واقعة فيتوريا مصير حكومة (أو ملكية) جوزيف بونابرت قصيرة الأجل، فإنه لم يمض أسبوعان على هذه الواقعة، حتى كان ولنجتون مستوليا على كل الحدود الإسبانية الشمالية الغربية من رونسيسفال
Roncesvalles
إلى مصب نهر البيداسو
Bidassoa ، ويقف على حصار قلعة سان سباستيان
San Sebastian
على الشاطئ وبامبيلونا
في الداخل، وبدأ المارشال سولت - الذي تولى القيادة العامة الآن ووصل إلى بايون في 13 يوليو - يعمل لتخليص بامبيلونا؛ فحصلت معارك يائسة بين 25 يوليو وأول أغسطس عند ممرات البرانس في رونسيسفال ومايا
Maya
انتهت بارتداد سولت إلى ما وراء الجبال في الأراضي الفرنسية.
ثم إن سان سباستيان لم تلبث أن سقطت في أيدي قوات ولنجتون في 31 أغسطس، وعبر الإنجليز نهر البيداسو يوم 7 أكتوبر، وفي 31 أكتوبر وبعد حصار عنيف وطويل سلمت بامبيلونا للإسبان، وهذا في حين أن ولنجتون نفسه استطاع السيطرة على كل الإقليم الشمالي الغربي خلف البرانس، وفي الأراضي الفرنسية حتى أبواب مدينة بايون نفسها، وكان القائد الفرنسي الآخر «سوشيه
Suchet » قد أخلى هو الآخر فالنسيا
Valencia
على الشاطئ الشرقي ووصل إلى نهر البيداسو منذ 2 يوليو، وعلى ذلك، ولما لم يعد يحتل الأراضي الإسبانية جندي فرنسي واحد اضطر نابليون إلى إبرام معاهدة فالنسيه
Valençay (بفرنسا) في 8 ديسمبر 1813، وبموجبها استرجع الملك فردنند السابع عرش إسبانيا.
ومن ناحية حدود الألب - أي في إيطاليا - حارب يوجين بوهارنيه النسمويين، الذين صاروا خطرا يهدد سلطان الفرنسيين في إيطاليا؛ إذ إنهم احتلوا المقاطعات الليرية، ثم بدءوا يزحفون الآن عن طريق نهر الدراف
Drave
والتيرول، وقد ساعدهم على ذلك انتقاض بفاريا على الفرنسيين في الظروف التي عرفناها، فتقهقر يوجين على نهر الأديج، ومع ذلك فقد اشتبك مع النمسويين في معركة عند كالديرو
Caldiero
في 15 نوفمبر 1813، وانتصر عليهم ولكنه كان نصرا لا جدوى منه ولا طائل تحته؛ فقد احتل النمسويون الرومانا
Romagna
والمقاطعات الوسطى من الولايات البابوية
Marshes ، وكان «مورا» قد ترك نابليون في إرفورت ليعود إلى عاصمة ملكه في إيطاليا، وبمجرد وصوله إلى نابولي بدأ المفاوضة مع البرنس مترنخ ليحصل من النمسويين على اعتراف بمملكته في نابولي لقاء أن ينضم هو للحلفاء ضد نابليون، ورحب النمسويون برسول مورا في فينا، ولم يؤجل «الخيانة» بعض الوقت إلا محاولات الإنجليز الذين أرادوا أن يعيدوا الأسرة المالكة السابقة «البربون» والمقيمة في بليرمو بجزيرة صقلية إلى العرش في نابولي، فقد احتفظ الإنجليز للملك فردنند، ملك نابولي السابق بكل حقوقه وطالبوا بإرجاع جيتا إليه، وأظهروا استعدادهم لإنزال خمسة وعشرين ألف رجل في إيطاليا، فأغضب ذلك «مورا» وجعله ينضم إلى نابليون، ولكنه عاد للمفاوضة مع مترنخ الذي عقد معه معاهدة صلح ومحالفة في 11 يناير 1814 تضمن لمورا عرش نابولي في نظير أن يضمن مورا عرش صقلية للملك فردنند الرابع.
ومن ناحية الحدود الشرقية (الراين) فقد أخليت هولندة، وتألفت بها حكومة مؤقتة أعلنت استقلال «الولايات المتحدة الهولندية» في 21 نوفمبر 1813.
وفي ألمانيا لم يعد بها غير الحاميات الموزعة في المدن الألمانية الكبيرة، في درسدن، ويتنبرج، مجدبورج، ستيتن
Stettin ، كاسترين
Custrin ، جلوجو
Glogau ، وقد صمد القائد الفرنسي راب
Rapp
في الدفاع عن دانزج سبعة شهور، ولم يبق غير «دافو» في همبورج التي عجز الحلفاء عن إخراجه منها، فلم يسلم «دافو» المكان إلا بعد سقوط الإمبراطورية، وبناء على أوامر رسمية من الملك لويس الثامن عشر حين عودة البربون إلى فرنسا.
ولم يكن الحلفاء - وخصوصا مترنخ - جادين في إبرام السلام؛ ولذلك فقد عمد مترنخ إلى تدبير ما صار يعرف باسم «حملة السلم»، والتي كان غرضه من إثارتها خديعة الرأي العام وكسبه إلى جانبه، باعتبار أنه «والحلفاء» يرغبون حقيقة في عقد الصلح مع نابليون، واستخدم مترنخ لهذا الغرض الوزير الفرنسي السابق لدى حكومة سكسونيا الكونت سانت إينان
Saint-Aignan
وكان أسيرا في «فايمار
Weimar » أثناء الحملة الماضية، وكان موجودا (الآن) في فرانكفورت التي اتخذها الحلفاء مقرا عاما لهم (أول نوفمبر 1813)؛ فعرض بواسطته على نابليون شروط الصلح على أساس انكماش فرنسا إلى حدودها الطبيعية «الألب والراين والرانس»، واستقلال ألمانيا، وهولندة وإيطاليا «عن فرنسا» مع التحفظ فيما يتعلق بالأراضي النمسوية، ثم إرجاع البربون إلى الحكم في إسبانيا، ولم يرد شيء عن مملكة نابولي، ومع أن هذه كانت شروطا قاسية فقد اعتبرها كل من هاردنبرج، وبلوخر، وكاسلريه غير كافية «للانتقام من نابليون».
ويعزو المؤرخون الفرنسيون السبب في إخفاق محاولة عقد الصلح على أساس هذه الشروط نفسها إلى مترنخ الذي لم يكن جادا حتى في هذه الشروط «المتطرفة»، فقد أجاب نابليون على هذه العروض بواسطة وزير خارجيته ماريه
Maret
منذ 16 نوفمبر، بأنه مستعد لإرسال «كولينكور» إلى منهايم
Mannheim
للمفاوضة، ولكن مترنخ في 25 نوفمبر تمسك بأن من الضروري أولا أن يعلن الإمبراطور رأيه في «القواعد العامة» التي يقوم عليها الصلح، وأجاب «كولينكور» في 2 ديسمبر بأن الإمبراطور قابل للقواعد العامة التي عرضت عليه، لتكون أساسا لمفاوضات الصلح، ويرى الكتاب الفرنسيون في تعيين كولينكور وزيرا للخارجية - وهو من أنصار السلام - محل الوزير السابق «ماليه» وهو من أنصار الحرب، دليلا على رغبة نابليون الصادقة في إبرام الصلح، وعلى القواعد التي عرضت عليه، ولكن الحلفاء «ومترنخ» غداة جواب كولينكور كانوا قد اتخذوا من دعوى عدم مجيء هذا الجواب بالسرعة اللازمة ذريعة لإصدار منشور في 4 ديسمبر يحملون فيه نابليون مسئولية فشل المفاوضات، ويحاولون أن يفصلوا بين الإمبراطور وبين فرنسا، ويعرضون الصلح من جديد على فرنسا: (السلام مع الأمة الفرنسية، والحرب ضد نابليون).
ولكن هذه كانت مناورة خاسرة؛ لأن سواد الفرنسيين بقوا على ولائهم للإمبراطور بالرغم من قوانين التجنيد واستطالة الخدمة العسكرية، ولكن الطبقات العليا لم تكن راضية عن الحالة التي وصلت إليها فرنسا، وراح كثيرون - وعلى نحو ما توقع مترنخ - يحملون الإمبراطور مسئولية فشل الصلح، لا سيما وقد جاءت متأخرة موافقته على «مقترحات فرانكفورت»، وهي العروض التي أراد الحلفاء «ومترنخ» أن تكون قواعد للصلح المنتظر، وذلك أن «لوبران» دوق بياكنزا والحاكم الفرنسي في هولندة كان قد اضطر منذ 16 نوفمبر إلى إخلاء أمستردام، وقامت الثورة في اليوم التالي (17 نوفمبر) في لاهاي، وأقام الهولنديون بها حكومة بادرت بطلب المعونة من إنجلترة، ودعوة أمير أورانج الذي بادر بإجابة ملتمسهم - بكل سرعة - لتسلم أزمة الحكم في هولندة، وكان انكماش الحدود الفرنسية الشمالية الشرقية بهذه الصورة أهم سبب جعل الحلفاء يصدرون منشور 4 ديسمبر السالف الذكر.
وأما المتذمرون من أهل الطبقات العليا الفرنسية، والذين نقموا على الإمبراطور لأنه أضاع - في زعمهم - فرصة إبرام السلام العام؛ فقد ضموا إلى صفوفهم فريقا من الوزراء والموظفين الذين خدموا النظام القائم من زمن طويل، وأهل الطبقة المتوسطة العالية، حتى إن الملكيين الذين كان الإمبراطور قد قضى عليهم تماما منذ عشر سنوات مضت، سرعان ما بدءوا يرفعون رءوسهم ويحيكون المؤامرات، ثم عمد جماعة من كبار الشخصيات للتآمر ضد النظام القائم، وكان على رأس هؤلاء «تاليران».
وأبدى نابليون منذ وصوله إلى باريس نشاطا عظيما؛ فهو يعمل لاستنهاض الهمم وإشاعة الثقة في النفوس لمعالجة النزول الذي حصل في الأوراق المالية، والذي كان قد بدأ عقب الحملة الروسية، ويصدر التعليمات لتجنيد الفئات التي لم تكن قد بلغت دور الاقتراع والخدمة العسكرية، ويفرض الضرائب باسم إمداد الحرب بالمعونة المالية، وفي 19 ديسمبر 1813 يدعو المجلس التشريعي للاجتماع في جلسة يحضرها الإمبراطور وفي حضور مجلس الشيوخ (السناتو) ومجلس الدولة؛ ليعرض على أعضاء هذه الهيئات جميعا ما قام به من جهود من أجل السلام العام، وليعبر عن ثقته في أن الفرنسيين لن يترددوا عن التضحيات الضرورية إذا لزم الأمر، وقد تألفت لجنة من خمسة أعضاء لتفحص الرسائل والتقارير الدبلوماسية.
وفي 29 ديسمبر أعدت هذه اللجنة تقريرا عن الموقف في ضوء هذه المراسلات الدبلوماسية جاء فيه أن الواجب يقتضي أن يكون الغرض الأوحد من الحرب في المستقبل «استقلال الشعب الفرنسي وسلامة أراضيه»، وأنه - لإشاعة روح التوثب في صفوف الجند المحاربين - يجب على الإمبراطور أن يقوم بتنفيذ القوانين التي تكفل للفرنسيين حقوقهم في الحرية وتؤمنهم على سلامتهم وأملاكهم، والتي تضمن للأمة ممارسة حقوقها السياسية في حرية تامة، ولكن الإمبراطور منع طبع التقرير وإذاعته لما فيه من تعريض ظاهر بحكومته من جهة، وبالسياسة التي أدت في نظر المتذمرين - وأكثرهم من أعضاء هذه الهيئات التي جمعها لينال منها تأييدا لسياسته، وموافقة على مواصلة الحرب - إلى الدخول في حروب أنهكت قوى الأمة، وأضاعت فرص السلام العام، وعلى ذلك فقد حل الإمبراطور المجلس التشريعي (20 ديسمبر).
وجاء في خطابه الموجه إلى أعضاء هذا المجلس: «أنه كان في وسعهم أن يسدوه صنيعا طيبا ولكنهم لم يفعلوا إلا إلحاق الضرر به، وأنهم لا يمثلون الشعب، في حين أنه هو الذي يمثل هذا الشعب، ولقد دعته الأمة أربع مرات ليتولى زمام الحكم بها ، وحصل في كل مرة من هذه المرات الأربع على أصوات خمسة ملايين من المواطنين المؤيدين له، فهو لديه السند الذي يخوله الحكم، بينما لا يجد المجلس التشريعي سندا ما يستند عليه، فهم ليسوا إلا نوابا عن مقاطعات الإمبراطورية، أما المسيو «لينيه
Lainé » أحد أعضاء لجنة الخمسة والذي قرأ التقرير السالف الذكر الذي أعدته هذه اللجنة، فقد وصفه نابليون بأنه رجل دسائس ومؤامرات، وعميل لإنجلترة، وذو نفس خبيثة»، ثم سألهم: «وما الذي فعلته معكم فرنسا هذه المسكينة حتى تريدوا إلحاق كل هذا الأذى بها؟»
واستمر يوجه الخطاب إليهم قائلا:
لقد أردتم أن تلطخوني بالوحل، ولكني من أولئك الرجال الذين يلقون الموت ويأبون المعرة، وهل بمثل هذه التأنيبات تزعمون أنكم تقيلون عثرة العرش؟ وما العرش؟ إنه يتركب من قطع من الخشب المذهب عددها أربع، يغطيها قماش من القطيفة، إنما العرش هو الأمة، ولا يمكن أن يفصل أحد بين شخصي وبين الأمة دون أن يحطم هذه الأمة؛ لأنها في حاجة إلي أكثر من حاجتي أنا إليها، وماذا هي صانعة من غير قائد يقودها وزعيم يتولى أمورها؟ وأنتم تتقدمون بمطالب من أجل إصدار قوانين وتأسيس أنظمة، في حين أن صد العدو ودفعه هو المطلب الذي يجب أن تتوفر كل الجهود لتنفيذه كما لو لم يكن لدينا قوانين أو أنظمة، فأنتم حينئذ تودون محاكاة «الجمعية التأسيسية» القديمة وتريدون إشعال الثورة! ولكني لا أشبه الملك الذي كان موجودا وقتذاك، وإني لأوثر أن أكون أحد أبناء الشعب صاحب السيادة على أن أكون ملكا مستعبدا أو مسترقا ... عودوا إلى مقاطعاتكم ...
ومن هارتويل
Hartwell
بإنجلترة، أصدر الكونت دي بروفنس
(شقيق لويس السادس عشر) والمتطلع إلى العرش الفرنسي، منشورا في أول يناير 1814 وقعه بإمضائه ملكا على فرنسا، وفي هذا الوقت بدأ «شاتوبريان» - من الكتاب المعارضين للإمبراطور - يخط السطور الأولى في كراسته عن «بونابرت والبربون»، وكثر تململ تاليران واشتد تذمره، حقا لقد أنبأت الأحوال بأن النهاية قد بدأت.
وفي هذه الظروف إذن كان الحلفاء قد حشدوا جيوشهم (ربع مليون مقاتل) خلف نهر الراين ، وصاروا يتهيئون لغزو فرنسا، وكان الجيش النمسوي (120000) جيش بوهيميا بقيادة شوارزنبرج قد عبر نهر الراين عند «بازل
Basel » على الحدود السويسرية يوم 21 ديسمبر، وزحف على مهل نحو «لانجر
Langres » التي أخضعها في 16 يناير 1814، ووقف عند مدخل حوض نهر السين، ثم استأنف زحفه في حوض هذا النهر قاصدا إلى باريس من الجنوب الشرقي، ومن ناحية الشرق في الوسط كان جيش سيليزيا (65000) بقيادة بلوخر قد عبر نهر «الراين» من عدة جهات بين منهايم وكوبلنز (أول يناير 1814)، وبعد أن اجتاز جبال الفوزج استولى على نانسي
Nancy ، وكانت الخطة بعد الاستيلاء على شالون
Châlons
وعلى حوض نهر المارن
Marne
الانضمام إلى جيش شوارزنبرج أمام باريس، ومن ناحية الشمال كان جيش الحلفاء بقيادة الروسي وينزينجرود
Winzingerode
والبروسي بولو
Bulow
ومعهما برنادوت.
وكانت مهمته الزحف على فرنسا بطريق كولون
Cologne ، ولييج
Liége ، ونامور
Namours ، واستطاع هذا الجيش أن يتخذ مواقعه أخيرا في الطريق الموصل إلى باريس، مارا بلاوون
Laon ، وسواسون
Soissons .
ومع أن قوات الحلفاء في ميادين القتال بلغت 200000 مقاتل عدا جيش الشمال، فقد تعذر على نابليون بالرغم من المحاولات التي بذلها، أن يجهز للمعركة أكثر من 110000 رجل عدا القوات المحاربة في إسبانيا بقيادة «سولت» ضد ولنجتون، وقوات «سوشيه» في قطالونيا وأرغونه، ووقع على الإمبراطور وقواته التي كانت تحت أوامره مباشرة عبء مقاومة العدو، وذلك بعد أن كان الغزاة - ولما ينته شهر يناير (1814) - قد احتلوا خطا لعملياتهم العسكرية يمتد من «لانجر» في الجنوب، وإلى «نامور» في الشمال امتدادا متصلا، ويجعل ما يقرب من ثلث مساحة فرنسا واقعا تحت سيطرتهم العسكرية.
وعلى ذلك فقد وقع الإمبراطور في 23 يناير 1814 قرارات رسمية لتجديد نيابة ماري لويز على العرش «يعاونها كمباسيرس»، وجمع في قصر التويلري رئيس وكبار ضباط الحرس الأهلي في باريس؛ ليعهد إليهم في لغة مشوبة بالعاطفة العميقة، بالسهر على شخص الإمبراطورة، وولي العهد الصغير ملك روما «أعز ما لديه في العالم»، ثم صدر قرار بتعيين جوزيف بونابرت (ملك إسبانيا السابق) النائب أو القائم مقام العام في الإمبراطورية والمستشار الأول لصاحبة النيابة أو الوصاية، ماري لويز، وفي هذا القرار ترك الإمبراطور الإمبراطورة وملك روما في أيدي الحرس الأهلي الشجعان، وفي ساعة مبكرة من صباح يوم 25 يناير 1814 غادر نابليون باريس.
ولم تكن المعارك الأولى التي التحم فيها نابليون مع العدو معارك حاسمة، فهو قد بدأ بمحاولة الاشتباك بالجيش السيليزي بقيادة بلوخر؛ لمنعه من الاتصال بجيش بوهيميا، قيادة شوارزنبرج، فالتحم بقوات بلوخر على نهر «أوب
Aube » - أحد فروع السين - عند بريين
Brienne
في 29 يناير 1814 وانتصر عليه، ولكن بلوخر استطاع الاتصال بجيش شوارزنبرج، وفي أول فبراير واجه الإمبراطور عند لا روثيير
La Rothiére
قوات تبلغ ثلاثة أضعاف قواته؛ فانهزم، واضطر إلى التراجع إلى ترويز
Troyés
ثم إلى نوجنت
Nogent «وكلاهما على السين».
وكان واضحا حينئذ أن من العبث مواصلة القتال، وأن من الخير لنابليون - لو أنه شاء الاحتفاظ بعرشه - المفاوضة مع العدو، وفي ليل 4-5 فبراير يبعث إلى «كولينكور» بتعليمات تعطيه تفويضا كاملا لعقد الصلح، وفي 7 فبراير وصلت «كولينكور» في شاتيون
Chatillon
الشروط التي يريدها الحلفاء للصلح، وكان هؤلاء يريدون إرجاع فرنسا إلى حدود 1792، وعبثا حاول «كولينكور» إقناع الحلفاء بالعودة إلى مقدمات فرانكفورت، أي إلى القواعد التي ذكرنا أن نابليون كان قد قبلها في 2 ديسمبر 1813، وعندئذ بدلا من تحمل المسئولية - وفي رأي كثيرين الفصل في مصير فرنسا، على أساس بقاء الحكومة النابليونية - أحال «كولينكور» هذه الشروط على نابليون لاتخاذ القرار النهائي، وفي ليل 7-8 فبراير بعد ساعات عصيبة، رضخ الإمبراطور، ولكن ليعود في صباح 8 فبراير لنبذ هذه الشروط كلية، وساعد على إحياء الأمل في نفس نابليون أن الحلفاء ارتكبوا أخطاء عسكرية عندما جعلوا جيوشهم تنفصل عن بعضها بعضا مرة أخرى، باعتبار أن ذلك سوف يساعد هذه الجيوش على الزحف السريع صوب باريس من جهة، ويتيح الفرصة لتموينها بصورة أسهل؛ وعلى ذلك فقد انفصل بلوخر عن شوارزنبرج ليتقدم هذا الأخير على نهر السين ، بينما يقصد بلوخر إلى باريس عن طريق سيزان
Sezanne (2 فبراير)، وأمله أن يقطع خط الرجعة على القائد الفرنسي ماكدونالد «على نهر المارن» الذي كان يتقهقر أمام القائد البروسي يورك (فون وارتنبرج).
وعلى ذلك فقد بادر نابليون بانتهاز الفرصة، ومحاولة الاشتباك مع كل جيش على حدة؛ فأنزل عدة هزائم بجيش بلوخر، وكان موزعا على الطريق من شالون إلى شاتوتيري
Château-Thierry (امتداد المارن)، فهزم هذه القوات المجزأة، الواحدة بعد الأخرى في معارك: «شامبوبير
Champaubert » (10 فبراير)، «مونتميراي
Montmirail » (11 فبراير)، «فوشان
Vauchamp » (14 فبراير)، واضطر بلوخر إلى التقهقر بعد أن تكبد خسائر فادحة، وكان ذلك نصرا باهرا، ولكن لم يقض على العدو الذي عادت قواته للتجمع مرة أخرى في شالون.
وأما جيش شوارزنبرج فكان قد عبر نهر السين، وأرغم القائدين الفرنسيين «أودينو» و«فيكتور» على التقهقر، وعبثا حاول «ماكدونالد» - الذي انضم إليهما - وقف الزحف النمسوي، وكان غرض شوارزنبرج الوصول إلى «مونتارجيس
Montargis » وفونتنبلو «ثم باريس».
وعندئذ تقدم نابليون من «فوشان» صوب «مونتريه
Montéreau » وأرغم العدو على التقهقر، واستعاد نابليون بعد مشقة - لنقص قواته - مونتريه في 18 فبراير، وانسحب شوارزنبرج إلى «ترويز»، ومع أن بلوخر كان قد وصل إلى فرع النهر المقابل «أوب»، فقد استمر تقهقر شوارزنبرج صوب «شومونت
Chaumont » و«لانجر».
واستطاع بلوخر تنظيم قواته، ولكن نابليون شرع الآن (28 فبراير) في مطاردته، فتوقف بلوخر (في أول مارس) ليتجه صوب الشمال لينضم إلى قوات «بولو» و«وينزينجرود»، وكانت تهاجم بلدة سواسون، وكادت تحل به كارثة لو أنه استمر في زحفه؛ لتعرضه لإطباق الفرنسيين عليه من الأمام والخلف، ولكن لم تلبث أن سلمت سواسون فجأة يوم 3 مارس، وطارد نابليون بلوخر إلى ما وراء نهر الإيسن
Aisne
ليحشد بلوخر قواته من جديد، واشتبك في «لاوون» مع نابليون في معركة في 9 مارس، وأرغم نابليون على الارتداد جنوبها، وكان «مارمون» يقف بقواته إلى الشرق، ولكنه لم يلبث أن تعرض هو الآخر لهجوم مفاجئ ونزلت به الهزيمة أثناء الليل، وفي 10 مارس تعرض نابليون بدوره لهجوم جديد، فارتد إلى سواسون.
وتجددت مساعي الصلح، وكان الإمبراطور قد أرسل وزير خارجيته «كولينكور» منذ 5 يناير 1814 يعرض على الملوك الحلفاء المفاوضة من أجل عقد الصلح على أساس «القواعد» التي عرضت في فرانكفورت؛ فتركه الحلفاء في لونفيل أياما طويلة (من 5 إلى 25 يناير) يضيع وقته فيها هباء، ثم وجهوا إليه الدعوة بالحضور للمفاوضة في شاتيون يوم 3 فبراير، ووقع اختيار الحلفاء على مفاوضين من جانبهم، اشتهروا بعدائهم العظيم لنابليون؛ وكان هؤلاء ستاديون
Stadion
عن النمسا، وكاسلريه عن إنجلترة، والبرنس «أندريه رازموسكي
Razoumovski » عن روسيا، وقد عرض هؤلاء أساسا للصلح عودة فرنسا إلى حدودها في سنة 1790، وتجاهلوا مسألة الحدود الطبيعية، والعروض التي قدموها سابقا في فرانكفورت.
وكان شوارزنبرج حتى قبل هزيمته في «مونتريه» يوم 18 فبراير قد طلب في اليوم السابق عقد هدنة، ورفض وقتذاك نابليون الرد عليه؛ لأنه ما كان يفكر إطلاقا - كما كتب لأخيه جوزيف بونابرت - في أن ينال الحلفاء منه شيئا ما دامت بلاده
terrritoire
لم تتطهر منهم، ولم يكن نابليون يريد إلا صلحا «معقولا» يكتب له البقاء والاستدامة، على أسس لا تتجاوز تلك التي قدمت في فرانكفورت، ووافق عليها نابليون نفسه، وكان غرض نابليون - الذي كتب لزوجه ماري لويز، ابنة الإمبراطور النمسوي يشرح لها أغراضه هذه - أن يستميل فرنسوا الأول لتأييد مقترحات ومساعي «كولينكور» في مؤتمر الصلح في شاتيون، وألا يكون «أداة» في يد إنجلترة، وطلب نابليون من ماري ليوز (25 فبراير) أن تكتب لوالدها في ذلك، وأن تطلب من والدها رعاية مصالحها ومصالح ولدها ملك روما، وأن تؤكد له أن «الموت أفضل من قبول سلام مهين، ومناقض للشرف والعزة والكرامة»، فضلا عن أنها سياسة خاطئة تلك التي ترضى بسلام من هذا النوع؛ لأنه لن يدوم طويلا.
وعاود النمسويون طلب الهدنة - بعد طلبهم الأول يوم 17 فبراير - وذلك يوم 24 فبراير، وأوفد نابليون في هذه المرة الجنرال دي فلاهو
Flahaut
إلى لاسيني
Lassigny (في مقاطعة أوب) للمفاوضة، وزوده بتعليمات - مطابقة لما جاء في خطاب نابليون نفسه إلى «والد زوجته» بتاريخ 22 فبراير - هي التمسك بالقواعد التي قدمت في فرانكفورت أساسا للصلح، ولكن دون نتيجة، وقرر الحلفاء في شومونت يوم 26 فبراير الإصرار على المقترحات التي قدموها في شاتيون إلى «كولينكور»، مع تحديد يوم 10 مارس آخر موعد لقبولها، وقبل انقضاء هذه المهلة «الأخيرة» بيوم واحد استطاع كاسلريه (9 مارس 1814) إبرام الميثاق الذي جمع الدول الأربع الكبرى: إنجلترة، النمسا، بروسيا، روسيا، في محالفة مدتها عشرون سنة، وموجهة ضد فرنسا، وتعهد الأطراف الأربعة بأن يجهز كل منهم جيشا من 150000 مقاتل عند الحاجة للذود عن النظام الأوروبي الجديد الذي صح عزمهم على تأسيسه هم وحدهم، على أنقاض الإمبراطورية النابليونية المنهارة، وقد جعل تاريخ هذه المعاهدة (معاهدة شومنت) يوم أول مارس، وتعهدوا جميعا بمتابعة القتال وعدم الدخول في مفاوضات لعقد صلح منفرد مع فرنسا، وحينئذ تعهد كاسلريه - وقد وجد آماله تتحقق في عقد هذه المحالفة الرباعية ضد فرنسا - بأن تدفع إنجلترة معونة مالية للحلفاء قدرها خمسة ملايين من الجنيهات عن سنة 1814.
وأما مؤتمر شاتيون فقد ظل يتعثر في أعماله، حقيقة حصل كولينكور يوم 10 مارس على مد أجل المهلة، وتقدم يوم 15 مارس بمشروع مقابل، على أساس بقاء يوجين بوهارنيه (نائب الملك) في إيطاليا، والاحتفاظ بسكسونيا لملكها فردريك أوجستاس، ومساهمة فرنسا في مؤتمر يعقد لتنظيم أوروبا من جديد، ولكن بعد إبرام معاهدة شومنت لم يعد هناك أي أمل في الوصول إلى تسوية مع نابليون بالطرق السلمية على غير الأسس التي يريدها الحلفاء، أي انكماش فرنسا إلى حدود 1790 وحسب، وفي 19 مارس إذن أعلن انفضاض المؤتمر «في شاتيون».
واستعد الفريقان للمعركة الحاسمة: (معركة باريس) ذاتها.
وكان نابليون قد احتل هضبة كراءون
Craonne
شمال نهر الإيسن، بين سواسون ولاءون؛ ليرقب حركات بلوخر، واستطاع أن يدفع عنه هجوما روسيا لزحزحته من هذا الموقع (7 مارس)، ولكنه لم يلبث أن اصطدم أمام «لاءون» بالمواقع القوية التي اتخذها جيش بلوخر في هذا المكان، ولم يصب نابليون أي نجاح، ثم استطاع بعد قليل (13 مارس) أن ينتزع من أيدي الروس والبروسيين «ريمز
Reims »، ولكن هذه الواقعة كانت آخر عهد نابليون بالانتصارات، ولم يعد الحظ يبتسم له بعدها، فمع أنه التحم مع شوارزنبرج يوم 20 مارس في معركة دامية عند «أرسيز-سير-أوب
Arcis-Sur-Aube »، كانت أحمى وقائع هذه الحملة إطلاقا وذات نتائج تضارع في أثرها الحاسم معركة لودي التاريخية أيام الحملة الإيطالية، فإن نابليون بالرغم من أنه أرغم شوارزنبرج على الارتداد فقد عجز عن الانتصار عليه انتصارا حاسما، «بل إن نابليون - الذي خشي من عودة العدو لاستئناف الهجوم عليه - لم يلبث أن ارتد هو الآخر بطريق فيتري
Vitry
على المارن.»
وكان غرض نابليون من هذا الارتداد أن يضع قواته بأكملها وراء الجيش النمسوي؛ حتى يقطع خطوط مواصلاته مع نهر الراين، ويضطره إلى الابتعاد عن باريس والدخول في عمليات عسكرية في ميادين تقع حينئذ في المكان الذي يختاره نابليون، وفي غير الاتجاه الذي سارت فيه العمليات السابقة نحو باريس، وكادت هذه الخطة تنجح؛ لأن الحلفاء عولوا على الارتداد نحو «لانجر» و«فيسول
Vesoul » لتحطيم جيش الإمبراطور أولا - أي في ميدان المعركة الذي اختاره نابليون - ثم الزحف على باريس بعد ذلك، ولكن الحلفاء لم يلبثوا أن غيروا عزمهم، عندما سقط في أيديهم خطاب من نابليون إلى ماري لويز (23 مارس)، وخصوصا خطاب من «سافاري» - المشرف على البوليس - يشرح لنابليون هياج الخواطر في باريس تحت تأثير الدعاية التي يذيعها العدو، وتشيع روح الهزيمة في نفوس الباريسيين، فكان أن أشار القيصر - في مجلس الحرب الذي انعقد لبحث الموقف - بضرورة الزحف مباشرة على باريس.
وفي 25 مارس تحركت الطوابير النمسوية لتنضم إلى جيش بلوخر في الزحف على باريس، بينما انفصل جزء من قوات الحلفاء بقيادة وينزينجرود ليتتبع نابليون؛ لإيهام هذا الأخير أن الحلفاء قد استجابوا لمناوراته والاتجاه صوب الجنوب بدلا من الزحف على باريس، وقد اشتبك نابليون بكل قواته مع جيش «وينزينجرود» بالقرب من «سان ديزييه
St-Dizier » في 26 مارس، وانطلت عليه الحيلة، ولكنه ما عتم أن وقف على الحقيقة في الصباح التالي من بعض أسرى العدو، فبادر عندئذ وبسرعة خاطفة ينكص على عقبيه صوب (ترويز) التي وصلها مساء 29 مارس، ولكن الحلفاء كانوا قد سبقوه في زحفهم إلى الشمال بأيام ثلاثة بتمامها، وفي يوم 26 مارس نفسه كانوا أمام باريس، ولم يكن في طوق إنسان مهما أوتي من قوة ومهارة أن يلحق بهم، وبات متعذرا على نابليون أن يبلغ باريس في الوقت المناسب؛ حتى يضع قواته تحت أسوارها للدفاع عنها.
ومع ذلك فقد اعتمد نابليون على مهارة وبسالة قائديه: مارمون، ومورتييه، وعلى وطنية الباريسيين، فواصل الجيش السير نحو باريس، وسبق نابليون نفسه جيشه، ولكن الحلفاء كانوا قد أوقعوا الهزيمة بقوات مورتييه ومارمون في 25 مارس عند فيرشامبنواز
Fère-Champenoise ، حتى إن هؤلاء ارتدوا إلى أسوار باريس (يوم 29 مارس) وهو نفس اليوم الذي غادرت فيه العاصمة ماري لويز ومعها ملك روما إلى بلوا
Blois
مقر الحكومة الجديد، وتجدد القتال في اليوم التالي (30 مارس)، ودافع ببسالة عن العاصمة كل من مارمون، ومورتييه، ومونسي
Moncey
مع الحرس الأهلي، وطلبة المدرسة الحربية قبل أن يرغموا على إلقاء السلاح، وقد أعطى جوزيف بونابرت نفسه الأمر بالتسليم قبل أن يغادر باريس.
وفي ليل 30-31 مارس 1814 تم التوقيع على تسليم باريس، وفي تسليم باريس كانت نهاية الإمبراطورية، فلم تفد شيئا في إحيائها وبعثها إلى الوجود أية محاولات بعد ذلك، وبالرغم من نضال نابليون المرير طوال الخمسة عشر شهرا التالية.
الفصل السادس
حكم المائة يوم وواترلو
1814-1815
آذن تسليم باريس بأن الإمبراطورية النابليونية - التي قامت قبل كل شيء على حد السيف - قد انطوت صفحتها، عندما ثبت (الآن) أن نابليون لن يكون في وسعه - بسبب الإرهاق الذي صارت تعانيه البلاد، والخسائر الجسيمة التي تكبدتها في الرجال، بعد حروب استمرت دون انقطاع تقريبا من أيام المحالفة الأولى ضد الثورة (1792) - أن يجند الجيوش التي تعادل في قوتها جيوش الحلفاء، أولئك الذين صح عزمهم على تقويض عروش إمبراطوريته والانتقام «منه»، بالانتقام من فرنسا التي قامت فيها الثورة أولا، فأطاحت بعرش الملكية الشرعية (البربون)، وقبلت أخيرا ديكتاتورية «المغتصب» الذي أذاعت جيوشه مبادئ الثورة في أوروبا، وقوضت عروش الملوك والأمراء الشرعيين لتقيم على أنقاضها تلك الإمارات والممالك التي ضمتها إمبراطوريته.
ولكن تسليم باريس لم يضعف عزم نابليون الذي صمم على المقاومة، فهو كان قد وصل إلى بار (الواقعة على نهر أوب)
Bar-Sur-Aube
يوم 29 مارس عندما بلغه نبأ وصول الحلفاء إلى أبواب باريس، وفي المساء وصل إلى «ترويز» - كما قدمنا - وتابع السير بكل سرعة فبلغ فونتنبلو في مساء 30 مارس، وبعد أربع وعشرين ساعة أخرى وقف عند «فرومنتو- جوفيزي
Fromenteau-Juvisy » في الطريق إلى باريس ليستبدل الخيول، وهناك علم بتسليم باريس، وعندئذ لم يشأ نابليون التسليم بأن خسارة العاصمة من شأنها إنهاء المعركة، وأراد الاجتماع بقواده (مارشالات فرنسا) ليشرح تفاصيل الخطة للمعركة المقبلة: إما التقدم لتوجيه الهجوم على باريس ذاتها؛ لاسترجاع العاصمة، وإما الانسحاب إلى نهر اللوار، حيث يوجد مقر الحكومة الجديدة في بلو لإعادة تنظيم جيشه، فاجتمع بالمارشال مارمون عند إسون
Essones
في أول أبريل، وهو المكان الذي انسحب إليه مارمون بعد تسليم باريس، وفي 3 أبريل عقد نابليون مؤتمرا حضره قواده الذين أرادوا إقناع الإمبراطور بإعلان تنازله عن العرش، ولكن نابليون جعلهم يرجعون عن رأيهم.
على أنه أثناء ذلك كان القيصر إسكندر، وملك بروسيا فردريك وليم قد دخلا إلى باريس يوم 31 مارس في احتفال رسمي، على رأس الجيوش المتحالفة (230000)، وقوبل العاهلان في الأحياء الغنية بالعاصمة بهتافات الحشود بحياة الملك! وحياة البربون! ثم هتف الناس في أنحاء باريس بحياة الإمبراطور إسكندر، وحياة ملك بروسيا، وحياة لويس الثامن عشر، كما نادوا بسقوط الطاغية نابليون.
واتخذ القيصر مقره في منزل «تاليران»، حيث انعقد على الفور مؤتمر ضم إليه أعضاء الشيوخ من أصحاب المكانة، وكبار موظفي الحكومة، وكان بناء على طلب هؤلاء أن أصدر الملكان منشورا أعلنا فيه أنهما لن يتفاوضا مع نابليون بونابرت، ولا مع أي فرد من أعضاء أسرته، وحاول «تاليران» إيجاد حل دستوري لإنشاء حكومة مؤقتة تحل محل حكومة فونتنبلو برئاسة نابليون المتهيئ للحرب، وحكومة بلوا، مقر ماري لويز، صاحبة الوصاية أو النيابة في الحكم، والتي تتحمل مسئولية التسليم؛ وعلى ذلك فإنه بناء على قرار من مجلس الشيوخ - أي الأعضاء الحاضرين من هذا المجلس وهم 64 شيخا من 140، ودون اجتماع رسمي أو أية مباحثات - أنشئت حكومة مؤقتة من دوق دالبرج
Dalberg ، والكونت جوكور
Jaucourt ، ورجل الدين مونتسكيو
Montesquiou ، والجنرال بورنونفيل
Beurnonville ، ويترأس هذه الحكومة تاليران، وصدر هذا القرار في أول أبريل.
وهذه الحكومة المؤقتة التي قبل الحلفاء المفاوضة معها فقط، اتخذت لنفسها كذلك سلطات جمعية تأسيسية؛ فاستصدرت تصريحا موجزا بالمبادئ التي يقوم عليها الدستور: بقاء مجلس الشيوخ (السناتو) والمجلس التشريعي، وإطلاق حق الانتخاب، والإبقاء على الرتب والمعاشات العسكرية، واحترام التزامات الدين العام، والاعتراف بقانونية مبيع الأملاك الأهلية، والعفو عن أصحاب الآراء التي لم تكن يرضى عنها نظام الإمبراطورية، وحرية العبادة، وحرية الصحافة، والتعبير عن الرأي، واعتبرت هذه الحكومة المؤقتة أن نابليون قد اعتدى على الدستور؛ فطلبت من المجلس التشريعي إعلان عزله، ونفذ المجلس هذه الرغبة يوم 3 أبريل.
وكان حينئذ - بعد مقابلة عنيفة بين الإمبراطور والمارشال «ناي» وأحاديث طويلة مع قواده: أودينو، وليففر وغيرهما - أن رضي نابليون يوم 4 أبريل بالتنازل عن العرش لصالح ابنه ملك روما، وبعث نابليون بقواده ناي ومكدونالد، ووزير خارجيته «كولينكور» إلى القيصر، وقد اصطحب هؤلاء معهم «مارمون»، وكان يقيم في «إسون»، وقد بدا لأول وهلة أن القيصر يميل لقبول تنازل نابليون لصالح ولده، غير أن الحكومة المؤقتة استطاعت التأثير على جيش مارمون، بينما تمكن شوارزنبرج من استمالة مارمون نفسه إلى التخلي عن نابليون؛ فحدث في ليل 4-5 أبريل - بفضل مساعي الحكومة المؤقتة - أن انضم جيش مارمون إلى صفوف الأعداء، وكشف بذلك فونتنبلو - مقر حكومة نابليون - وعندئذ أصر القيصر على وجوب تنازل نابليون، من غير قيد أو شرط، وفي 6 أبريل وقع نابليون وثيقة التنازل، ومن غير قيد أو شرط.
وفي اليوم نفسه نادى مجلس الشيوخ بالحكومة الملكية الوراثية، ووجه الدعوة لاعتلاء عرش فرنسا إلى لويس ستانسيلاس إكسافييه
Stansilas-Xavier
شقيق الملك السابق لويس السادس عشر، واعتمد وثيقة دستور جديد يتألف من 29 مادة، وبمقتضى هذا الدستور أبقي في وظائفهم - واستمروا يفيدون ماليا تبعا لذلك من هذه المناصب وكما فعلوا في الماضي - أعضاء مجلس الشيوخ الحاليون وسائر النواب الذين حضروا جلسة المجلس التشريعي، التي صدر عقبها قرار التأجيل إلى أجل غير مسمى «ثم الحل» في 29 ديسمبر من العام السابق، واحتفظ هذا الدستور في نظر أصحابه بالآثار المتخلفة عن «الثورة»، وفقا للمبادئ التي أعلنت يوم أول أبريل ، كما تناول التنظيم الحكومي؛ فنص «في المادة الرابعة عشرة» على أن الوزراء يجوز أن يجمعوا بين الوزارة وعضوية مجلس الشيوخ أو المجلس التشريعي، «وفي المادة الحادية والعشرين» على أن جميع قرارات الحكومة يجب أن يوقع عليها الوزير المختص، ولكن الوزراء مسئولون عن أعمالهم.
وعامل الحلفاء نابليون معاملة سخية نظير تنازله؛ فأعطوه جزيرة إلبا
Elba
لإقامته، مع معاش سنوي يبلغ المليونين من الفرنكات، وجعلوه يحتفظ بلقب الإمبراطور، وتم ذلك في معاهدة أبرمت في فونتنبلو يوم 11 أبريل، وقد ضمنت هذه المعاهدة أيضا إعطاء الإمبراطورة «ماري لويز» دوقيات بارما، وبليزانس أو بياكنزا
، وجواستالا
Guastalla (وكلها في إيطاليا)، وقد حاول نابليون في الليلة التالية الانتحار بتناول السم، وفي 20 أبريل ودع حرسه القديم وداعا مؤثرا، ثم غادر فونتنبلو في طريقه إلى المنفى، مارا بروان، وليون، وإفينون، ثم أبحر من فريجوز
Fréjus
يوم 4 مايو إلى جزيرة إلبا على ظهر فرقاطة إنجليزية.
وفي الوقت الذي غادر فيه نابليون فونتنبلو في طريقه إلى إلبا، غادر الملك لويس الثامن عشر القصر الذي أقام فيه في هارتويل في مقاطعة بكنجهامشاير في إنجلترة (21 أبريل) في طريقه إلى لندن، وكاليه، ليصل إلى هذه الأخيرة يوم 24 أبريل، وليدخل العاصمة باريس رسميا يوم 3 مايو 1814، وبذلك عادت الملكية إلى فرنسا، وقضي على الأنظمة التي تولدت من الثورة: الجمهورية، والقنصلية (الجمهورية) والإمبراطورية.
ومنذ 26 فبراير 1814 كتب نابليون للإمبراطورة ماري لويز:
إن الروس هم الذين أرادوا تقديم البربون وتأييد قضيتهم، فكانوا بسبب ذلك موضع سخرية الناس بهم، ولم يشأ إنسان مؤازرتهم في هذا العمل، فلم يؤيدهم النمسويون الذين لا يريدون إطلاقا الكلام في موضوع البربون.
ويبدو أن نابليون كان وقتئذ على صواب فيما ذهب إليه؛ لأن الحلفاء ما كانوا يفكرون جديا في إعادة البربون إلى عرش فرنسا، وكان مترنخ يؤثر إقامة وصاية نمسوية، تشرف على حكومة باسم نابليون الثاني، أي تولية «ملك روما» عرش فرنسا، وحتى يوم 10 مارس كان الحلفاء ضد عودة البربون، فقوبل مندوب تاليران لديهم، وكان من الملكيين (وهو البارون دي فيترول
Vitrolles ) مقابلة جافة عندما أخذ يتحدث عن البربون ، ولكن تاليران ظل مثابرا على تأييده لقضية البربون، واستطاع التأثير على القيصر إسكندر الذي ذكرنا أنه أقام في بيته، حتى أقنعه بأن عودة البربون إلى عرش فرنسا إنما هي اعتراف «بالمبادئ» التي يقوم عليها السلام وترمز لها، كما ترمز للاستقرار المنتظر في ظل النظام الجديد في أوروبا.
وفي رأي كثيرين من المؤرخين أن ليس صدقا القول بأن «البربون عادوا في ركاب الأجانب» إلى فرنسا، وليس صدقا كذلك - في الوقت نفسه - القول بأن فرنسا كان لها مطلق الحرية - حسب ما وعد به القيصر إسكندر - في أن تختار نوع الحكومة التي تريدها، والواقع أن مبدأ إرجاع البربون إلى عرش فرنسا كان تقرر وحصل الاتفاق عليه بين رؤساء المحالفة الدولية وبعض رؤساء الإمبراطورية «النابليونية».
على أن موضوع انتقال السلطة إلى الملك العائد كان أكثر تعقيدا من تقرير العودة في حد ذاتها؛ فقد دعي لويس ستانسيلاس إكسافييه، كما شاهدنا يوم 6 أبريل لاعتلاء عرش فرنسا، ولكن لم يكن مستطاعا إعلان ملكيته - ملكا على الفرنسيين - إلا إذا قبل الدستور وأقسم على احترامه، ولقد دأب لويس «الثامن عشر» - منذ وجوده في المنفى في ميتاو
Mittau (وذكرنا أنها في كورلاند بروسيا)، ثم بعد ذلك في هارتويل (في إنجلترة) - على انتهاز الفرص، ولم يفتر له نشاط، وكان من هارتويل إذن بمناسبة الحوادث الأخيرة أن أصدر منشورا في أول يناير 1814 لتأييد حقوقه في العرش، ولما كان يشكو داء المفاصل (النقرس)؛ فقد سبقه شقيقه الكونت دارتوا في الدخول إلى باريس (يوم 12 أبريل) بوصفه قائم مقام المملكة - وهو اللقب الذي أعطي له يوم 14 أبريل - باعتبار أنه مندوب - على حد قول فوشيه - عن مجلس الشيوخ، وذلك إلى أن يقبل لويس ستانسيلاس إكسافييه الدستور ويقسم على احترامه.
وقد وجد المعاصرون في هذا الترتيب ضمانا لسلطان الأمة وسيادتها، ولكن الذي حدث أنه سرعان ما صار مبعث مناقشات كثيرة حول قيمته، خصوصا كإجراء يجب التقيد به في تقرير سيادة الأمة، أو تأييد حقوق الملكية الراجعة (الشرعية).
ومهما كان الأمر، فقد وجد الكونت دارتوا نفسه على رأس الحكومة بوصفه قائم مقام المملكة، واتخذ بهذه الصفة عدة إجراءات أثارت انتقادات كثيرة، منها الإبقاء على فئات وأنواع معينة من الضرائب التي كانت موضع شكاية الشعب أيام الإمبراطورية، والتي كان «أرتوا» نفسه قد وعد بإلغائها يوم 20 أبريل، ومنها أنه عين قومسييرين غير عاديين، مهمتهم مراقبة ولاء الموظفين (22 أبريل)، ومنها أنه وقع اتفاقا مع الحلفاء في 23 أبريل على أساس إرجاع حدود فرنسا إلى ما كانت عليه سنة 1792، ثم إعادة الحصون التي يحتلها الفرنسيون خارج هذه الحدود بكل ما فيها من مدفعية، وذخائر، وسجلات؛ الأمر الذي جرد فرنسا من السلاح قبل إبرام الصلح معها.
وعندما استطاع لويس الثامن عشر أخيرا مغادرة هارتويل، ظل مترددا بين اتباع مشورة «بوزو دي بورجو
» - وكان لاجئا كورسيكيا التحق بخدمة القيصر وصار من مستشاريه، ويدين بالمبادئ الحرة، وقد نصح الملك بقبول الدستور - وبين نصيحة أولئك الذين وضعوا حقوق الملك المشروعة فوق كل اعتبار، وكان لويس حريصا على الاحتفاظ بكل سلطاته، ولا يريد بحال التفريط في شيء منها، ولكنه كان كذلك حذرا للغاية، ولا يود أن يرفض الدستور رفضا صريحا.
فقد هنأ رئيس المجلس التشريعي الملك لويس على رغبته في إقامة حكومة «حكيمة ومتزنة»؛ لأنه لم يطلب من الحقوق إلا ما كان كافيا لممارسة الملك سلطاته بصورة تجعل ممكنا تنفيذ «الإرادة العامة» تنفيذا أبويا؛ فأجاب الملك مؤكدا الاتحاد التام الذي يربطه بممثلي الأمة، والذي يجب أن ينبثق منه «استقرار الحكومة، وسعادة الشعب»، وعندما تحدث تاليران باسم مجلس الشيوخ أشار إلى الأنظمة الإنجليزية «الدستورية»، ولكنه راح يرجو «أن تكون فرنسا حرة؛ حتى يكون الملك قويا»، وهكذا كان واضحا أن الرأي لم يستقر على شيء قطعي فيما يتعلق بشكل الحكومة الدستورية المزمع إقامتها على أيدي الملكية الراجعة، هل يكفل الدستور سلطات الأمة وسيادتها، فيعمل الملك وحكومته لتنفيذ «الإرادة العامة» أو أن الدستور سوف يحفظ للملك سلطات واسعة تجعله قادرا على إقامة حكومة غير مسئولة فعلا أمام ممثلي الأمة؟
ولقد ظهر هذا التردد - وإن شئت الإبهام - في التصريح الذي أذاعه الملك من سانت أوين
Saint-Ouen
يوم 2 مايو قبل دخوله عاصمة ملكه، فقد أشرف على إعداد هذا التصريح كل من البارون دي فيترول - وسبقت الإشارة إليه - والدوق دي بلاكاس
Blacas
من أنصار الملك، وذلك من غير إشراك الهيئات السياسية في البلاد، وفي هذا التصريح أوضح الملك آراءه ونواياه، فقد استهله بتأكيد مبدأ «الشرعية» في قوله إنه ملك فرنسا بإرادة الله، وإنه قد استرجع عرش آبائه وأجداده بسبب حبه لشعبه، ولكنه أشار إلى تلك الثقة المتبادلة بينه وبين شعبه، والتي قال إنه لا غنى عنها لانتشار الهدوء والسكينة وتوفر أسباب السعادة، ثم إنه اعتبر الدستور الذي أعده مجلس الشيوخ (في 6 أبريل) - والذي دعاه بمقتضاه ليتبوأ العرش باسم الأمة - مجرد مشروع لم يكن في وسعه إطلاقا - وهو الذي يستمد حقوقه المقدسة في الحكم من عند الإله - قبوله، وقال الملك: «إن هذا المشروع مدموغ بطابع السرعة، كما يلاحظ ذلك في معظم مواده؛ ولا غنى - لهذا السبب - عن مراجعة هذا الدستور وإعادة النظر فيه «لتصحيحه.»
وهكذا رفض الملك الاعتراف بأن هناك سلطات أعلى من سلطاته، أو أنه يستند في اعتلائه العرش على دعوة الأمة له بأن يفعل ذلك، أو أن للأمة «سيادة» تعلو السيادة التي له، أو أنه باعتلائه العرش إنما يمارس السلطات التي يجري بها تنفيذ «الإرادة العامة»، حتى إذا اطمأن الملك في «تصريحه» من هذه الناحية، لم يجد صعوبة ما في الاعتراف بأن القواعد التي قام عليها «مشروع» الدستور «قواعد طيبة»، وهي القواعد التي سبق ذكرها: (ضمان الحرية الفردية والمساواة في الحقوق المدنية، وقانونية مبيع الأملاك الأهلية، والإبقاء على أنظمة الحكم التي عرفها العهد الإمبراطوري، من حيث توزيع السلطات بين الهيئات التشريعية المعروفة، والهيئات التنفيذية، ثم وجوب إنشاء الحكومة على أسس دستورية).
وعلى ذلك فقد اختفى من «تصريح سانت أوين» كل ذكر لسيادة الأمة، بل إن الملك هو الذي سوف يصدر عنه الدستور، وحتى حينئذ استبدل باسم الدستور
Constitution ، العهد أو الميثاق، أو القانون النظامي للمملكة
Charte .
وعلى ذلك فقد تشكلت لجنة لوضع الدستور الجديد، انتهت من مهمتها بين 22 و27 مايو، وأخذ واضعو الدستور «التنظيم السياسي» عن الإنجليز، من حيث تقرير أن الملك يمارس سلطاته التنفيذية بواسطة وزراء مسئولين، وأن من حقه وحده اقتراح القوانين، وأن مجلسا للأعيان
Chambre des Paris
وآخر للنواب
Ch. des Députés des Départements
يقترعان على الضرائب وعلى القوانين، وأن مجلس الأعيان أعضاؤه يعينهم الملك ، ومن الممكن أن تكون العضوية به وراثية، وأن مجلس النواب أعضاؤه بالانتخاب، على أن يكون للذين يدفعون ضريبة مباشرة قدرها خمسمائة فرنك حق الانتخاب، وللذين يدفعون ضريبة قدرها ألف فرنك حق النيابة، وفيما عدا ذلك، فقد تحول «الآن» ومؤقتا المجلس التشريعي الذي عرفته الإمبراطورية إلى مجلس للنواب، بينما تألف من الأرستقراطية الجديدة أكثرية مجلس الأعيان، من بينهم أربعة وثمانون «شيخا» و«مارشالا»، وهذا الدستور قدم للقراءة في المجلسين يوم 4 يونيو 1814.
وظاهر أن هذا الدستور قد احتفظ بالتغييرات العريضة التي أحدثها، والمزايا التي نجمت من «الثورة» و«الإمبراطورية» في الناحيتين السياسية والاجتماعية، وإن كان قد تم في صورة تنازل صدر عن إرادة الملك، وفي ظل سيادته العليا.
ولقد كان الذي استأثر باهتمام الفرنسيين ولا شك، ليس صفات الملك وأغراضه، بقدر المعنى الذي انطوت عليه عودة الملكية إلى فرنسا؛ ففي اعتبارهم كان معنى الملكية الراجعة انتشار السلام، وذلك ما كانت قد بدأت في إقامة الدليل عليه «الحكومة المؤقتة» - برئاسة تاليران - عندما بادرت بتسريح المجندين، والتوقف عن طلب أية دفعات جديدة للجندية، كما ساعد على ذلك عقد الهدنة على يد الكونت دارتوا (في 23 أبريل) في الاتفاق الذي سبقت الإشارة إليه، والذي دل على أن العهد الجديد (الملكية الراجعة) لا تهتم بالتوسع الذي أحرزته فرنسا على أيام الثورة ونابليون، ولم يكن قبولها انكماش الحدود الفرنسية إلى ما كانت عليه سنة 1792 إلا عملا غير حكيم، سوف يفقدها مزايا كان في وسعها الاعتماد عليها في المساومة الخاصة بإبرام معاهدة الصلح النهائي مع الدول المتحالفة ضدها، ومن شأنه كذلك حرمان البلاد من ضمان ثمين للمحافظة على مصالحها عند النظر في تصفية المشاكل التي نجمت من «تجربة» إقامة الإمبراطورية النابليونية.
ولقد حاول تاليران أن يحصل على بعض تعويضات لقاء تخلي فرنسا عن كل هذه الفتوحات التي فقدتها؛ فتحدث في ذلك مع مترنخ، ومع نسلرود، ومع كاسلريه - ولو أنه لم يشأ المباحثة مع هاردنبرج؛ لعدم توقعه الوصول إلى شيء مع بروسيا - ولكن دون جدوى، وحاول تاليران إقناع الحلفاء بأن تقوية حدود فرنسا الشرقية ضروري - من ناحية بلجيكا خصوصا - حتى يتسنى الدفاع عن حدودها، وذلك بإعطائها مونز
Mons ، ونامور
Namur ، ولكسمبرج، وبما في ذلك أيضا قيصر سلوترن
Kaiserslautern
في البلاتينات، واستنكر الحلفاء هذا المطلب، وكفى في نظرهم لتأمين فرنسا من ناحية حدودها الشرقية إعطاؤها سافوي وكونتية نيس، ومن ناحية حدودها الشمالية، تحسين حدود 1792 بضم الأقاليم المجاورة إليها في فيليبفيل
، وماريانبورج
Marianbourg ، ثم سارلويي
Sarrelouis ، ثم لانداو
Landau ، وكلها مواقع تفيد في الدفاع وصد الغزو من نواحي نهري واز
Oise ، وسار
Saare ، ثم جبال الفوزج.
وأراد الحلفاء أن يفرضوا غرامة حرب أو «تعويضا» على فرنسا، ودارت مناقشات طويلة حول هذا «التعويض»، ولم يثن الحلفاء عن عزمهم غير رفض لويس الثامن عشر دفع أية تعويضات، وعندئذ وقعت معاهدة الصلح الأولى في باريس في 30 مايو 1814، وقعها تاليران عن الملك الفرنسي، وممثلو النمسا وروسيا وبريطانيا وبروسيا.
وبمقتضى معاهدة الصلح هذه انكمشت فرنسا داخل الحدود التي كانت لها أيام «العهد القديم»، بل إنها تعهدت بالاعتراف بكل الترتيبات التي يتفق عليها الحلفاء بشأن الأقاليم التي تخلت عنها فرنسا والنظام الذي سوف ينجم من هذه الترتيبات ليكفل التوازن الحقيقي والدائم في أوروبا، وأما هذه الترتيبات المنتظرة فكان قد تم تقرير المبادئ التي تقوم عليها بحيث تتألف من الأراضي المنخفضة دولة واحدة تجمع بين بلجيكا وهولندة، وأن تسترجع النمسا كلا من لمبارديا والبندقية «فينيسيا
Venetia »، وأن تستقل ألمانيا، ويتألف منها اتحاد كونفدرائي، وأن تحتفظ إنجلترة ببعض الجزر التي استولت عليها، وكانت جزءا من المستعمرات الفرنسية: تباجو
Tabago ، أيل دي فرانس
Ile de France ، سانت لوسي
Sainte-Lucie ، سيشيل
Seychelles .
ودلت شروط الصلح الذي تم في باريس إذن على أن الذي حصل لم يكن رجوع الملكية إلى فرنسا وحسب، بل كان الغرض المتوخى منها كذلك إضعاف فرنسا ذاتها - وفرنسا كما كانت في العهد القديم - حقا لقد احتفظت فرنسا بأفينون
Avignon «في الجنوب على نهر الرون»، ومنتبليار
Montébeliard ، وملهوسن
Milhausen «في الشرق في إقليم الراين الأعلى»، وشامبري
Chambéry ، وأننسي
Annecy «في سافوي»، وكانت فرنسا قد استولت على هذه الأقاليم قبل 1792، وكذلك احتفظت بحقوقها القديمة في الصيد في «الأرض الجديدة»، نيوفوندلاند، الجزيرة الإنجليزية في أمريكا الشمالية، ولكنها فقدت عددا من مستعمراتها، وحرمت من أن يكون لها صوت ما في توزيع الأسلاب من الإمبراطورية النابليونية.
وقد طلب الحلفاء قبل مغادرتهم باريس، أن يبادر لويس الثامن عشر باعتماد الدستور؛ لاعتقادهم أن في اعتماده ضمانا لاستقرار الأمور ونشر الهدوء والسكينة، عندما لاحظوا هياجا في الخواطر، وثورة فكرية حول الدستور من جانب أصحاب الآراء الحرة الذين أرادوا التوسع في الحقوق المعطاة للأمة وتقرير سيادتها العليا، وأصدروا النشرات أو الكراسات لتأييد وجهة نظرهم، مثلما فعل جريجوا
Grégoire (من أعضاء المؤتمر الوطني القدامى)، وبنيامين كونستان
Constant
وغيرهما، ومن جانب أعداء الفكرة الدستورية والمناوئين للدستور، وقد اشتركت الصحف في تأييد وجهات النظر المختلفة، فأيد الجورنال دي ديبا
Journal des Débats ، وجورنال دي باري
de Paris
فريقا، وأيدت غازيتة فرنسا
Gazette de France
فريقا آخر، فتألفت يوم 18 مايو لجنة لوضع الدستور، باشرت عملها بكل سرعة، وقد ذكرنا كيف أنها انتهت من وضعه يوم 27 مايو، وأن الدستور قدم للقراءة في المجلسين يوم 4 يونيو.
على أن مهمة الملكية الراجعة الرئيسية - وهي ممارسة شئون الحكم - لم تلبث أن بدأت وكانت هذه مهمة خطيرة، بسبب التغييرات التي طرأت على نظام الحكم في الداخل من جهة، من حيث إقامة الملكية الدستورية التي يتوقف نجاحها على مدى تطبيق الدستور بصورة تحفظ حريات الأمة، وتنال رضى الشعب عن العهد الجديد، وبسبب انكماش الحدود الفرنسية بمقتضى المعاهدة التي أبرمت مع الحلفاء في باريس، ومدى نجاح الملكية الراجعة في تجنب العزلة، ومحاولة إرضاء الشعور الوطني عن طريق المساهمة بدرجة ملحوظة في الترتيبات الإقليمية المنتظرة لإعادة التنظيم السياسي في أوروبا.
وكان لويس الثامن عشر يتمتع بمزايا كثيرة، منها معرفته لشئون أوروبا، والمثابرة على العمل مع الحيلة والقدرة على المجاراة وتسيير الأمور، ولكن كان يلتف حوله «المهاجرون» من الذين طمست شهوة الانتقام من «الثورة» بصائرهم، وأرادوا استرجاع كل امتيازاتهم وحقوقهم المفقودة، والذين قيل عنهم: «إنهم لم يتعلموا من دروس الماضي شيئا، ولم ينسوا من حوادث هذا الماضي شيئا»، والذين نقموا على «الدستور» أو ميثاق 1814 أنه مؤذن بانتشار «الفوضى الثورية» في البلاد وعقدوا آمالهم على «حكومة إصلاح»، مهمتها القيام بحركة تطهير شاملة لتصفية الموظفين، وإلغاء الحقوق الأساسية التي تكفل حريات الأفراد والجماعات، وإعادة النظر في مبيعات الأملاك الأهلية؛ وبالجملة إزالة كل الآثار الاجتماعية والسياسية التي تمخضت عنها الثورة والإمبراطورية، والعودة بالبلاد إلى نظام «العهد القديم».
وألف الملك وزارته الأولى في 13 مايو، ولم يعين رئيسا للوزارة، ولكن كان من الواضح أن تاليران هو الذي يحتل مكان الصدارة في هذه الوزارة، ولما كان يستأثر بكل اهتمامه مسألة إعادة التنظيم السياسي في أوروبا - وهي المسألة التي سيتناولها مؤتمر فينا في نوفمبر، والتي غادر تاليران باريس من أجلها منذ سبتمبر لحضور هذا المؤتمر - فقد ترك تصريف شئون البلاد الداخلية للملك ووزرائه، ولا شك في أن غياب تاليران عن الوزارة كان ذا آثار سيئة عليها، حيث انعدم الانسجام بين أعضائها، فهناك فريق من الوزراء يضم وزير الحرب «ديبون
Dupont » من قواد نابليون، ووزير البحرية «مالويه
Malouet » وهو من أعضاء الهيئة التأسيسية أمام «الثورة»، ووزير المالية البارون لويس من أنصار المبادئ الدستورية، ووزير البوليس كونت «بوجنو
Beugnot » من كبار الإداريين في عهد الإمبراطورية، وغرض هؤلاء استمالة طبقات الأمة لقبول النظام الجديد على أساس تطعيم الثورة بالمبادئ الملكية.
ثم كان هناك الفريق الآخر، مثل وزير الداخلية «مونتسكيو» عضو الحكومة المؤقتة السالفة الذكر، ووزير الخاصة الملكية الكونت «دي بلاكاس»، ووزير البريد «فراند
Ferrand »، ثم وزير العدل «دامبراي
Dambray »، وكل هؤلاء من الملكيين الرجعيين يريدون العودة بالبلاد إلى «العهد القديم».
وكان هذا الانقسام في الوزارة صورة مصغرة من الانقسام السائد في الأمة، وبقيت إجراءات الوزارة موضع مناقشة عنيفة؛ بسبب تلك الاتجاهات المضادة التي لخصناها، واتسمت الحكومة بالفشل في كل نواحي سياستها الداخلية، فمن الناحية المالية والاجتماعية واجه وزير المالية جملة احتجاجات شديدة من جانب الملكيين المتطرفين
Ultra-Royalists
مثل شقيق الملك «أرتوا
Artois »، ودوقة دانجوليم
Angouléme ، ابنة لويس السادس عشر وزوجة ابن الكونت داتورا البكر «لويس»، وذلك عندما اعتزم بيع مسافة كبيرة من الأراضي التي تغطيها الغابات كانت ملكا لرجال الدين من أجل موازنة الميزانية.
واشتركت الصحف «اليومية
Quotidienne » و«الجورنال الملكي
Journal Royal » وغازيتة فرنسا في الاحتجاج على هذه الخطوة المزمعة، ولم يكن الاتفاق على مسألة الأملاك الأهلية بين الذين ابتاعوا هذه الأملاك في عهدي الثورة والإمبراطورية - وقد بقيت حقوق هؤلاء في امتلاكها غير ثابتة نهائيا - وبين أصحاب هذه الأملاك الأصليين، والذين انتزعتها الدولة منهم، وهؤلاء من المهاجرين.
كما كانت الدولة استولت كذلك على أراضي الكنيسة؛ فتألفت لجنة برئاسة «فراند» لنظر هذه المسألة، وصلت إلى قرار في شهر سبتمبر (1814) بإبقاء الأملاك الأهلية في أيدي الذين صارت لهم، وذلك تحقيقا لما نص عليه الدستور «أو الميثاق»، ولكنها اقترحت إعادة الأملاك التي لم يحصل التصرف بالبيع فيها إلى أصحابها الأصليين.
وواضح أن هذا الترتيب أخضع موضوعا قانونيا - حق التملك - لتأثير الفرصة وحدها، فالذين ابتاعوا هذه الأملاك واغتنموا الفرصة سابقا، بقيت الأملاك في حوزتهم ولم يسترجع أصحابها الأصليون شيئا، والذين فاتتهم الفرصة في السابق، أو كانوا هم أصحاب الأملاك التي لم تتصرف فيها الدولة، بقي موقف الفريق الأول منهم على حاله، وأجيز للفريق الثاني استرجاع أملاكهم، وكانت الدولة مستولية على الأملاك التي لم يبتعها الأفراد، ومع ذلك فقد رفض اقتراح لتوزيع الأملاك غير المبيعة على الذين فقدوا أملاكهم بنسبة خسائرهم، وتقرير بدلا من ذلك صرف تعويضات لهم عندما يصلح حال مالية الدولة، وأغضب وزير المالية إلى جانب هذا دافعي الضرائب عندما وجد من واجبه - لموازنة الميزانية - الاحتفاظ بأنواع الضرائب التي كان الكونت دراتوا قد وعد بإلغائها (منذ 20 أبريل).
وكان دارتوا قد وعد كذلك بإلغاء التجنيد، وكان من السهل تنفيذ هذا الوعد؛ لانتهاء الحرب من جهة، ولضرورة إنقاص النفقات العسكرية من جهة أخرى، ولكن تسريح الجنود استتبع الاستغناء عن عدد كبير من الضباط؛ فبلغ عدد الذين صاروا في الاستيداع ولا يصرف لهم سوى نصف مرتباتهم، اثنى عشر ألف ضابط، وتزايد تذمر هؤلاء واستياؤهم عندما وجدوا «المهاجرين» من الضباط الذين وصلوا إلى الرتب العسكرية وهم يحاربون ضد فرنسا ذاتها، يحتلون المراكز التي أخلاها هؤلاء المسرحون، وحاول وزير الحربية الجنرال (ديبون) أن يجعل الالتحاق بالمدارس الحربية مقصورا على أبناء الطبقات الأرستقراطية، ولكن الاحتجاجات ضد هذا الإجراء بلغت درجة من الشدة اضطرت الحكومة إلى العدول عنه.
وجانب التوفيق الوزير الجديد «سولت» الذي خلف «ديبون» في وزارة الحرب في ديسمبر عندما اتخذ عدة إجراءات أثارت ضده غضب الفرنسيين، وأوذيت بسببها سمعة الحكومة، لعل من أخطرها اضطهاده الجنرال إكسلمانز
Excelmans ، ثم تقديمه للمحاكمة أمام مجلس عسكري، بسبب وقوع خطاب منه إلى «مورا» ملك نابولي في أيدي الحكومة، ووعد «إكسلمانز» في خطابه هذا، إذا لم يحصل «مورا» تسوية طيبة في مؤتمر فينا، أن يهب لنجدته واضعا تحت تصرف «مورا» «ألف ضابط من الشجعان الذين تخرجوا في المدرسة «الحربية» وتحت أنظار جلالة الملك» أي «مورا» نفسه، وكان «ديبون» الوزير السابق قد اكتفى بتوجيه اللوم لهذا القائد، ولكن «سولت» أنقص مرتباته إلى النصف، وأمره بمغادرة العاصمة، وعندما رفض القائد تنفيذ هذا الأمر الأخير، هوجم منزله ليلا لتفتيشه، وانتهى الأمر بتقديمه للمحاكمة، ولكن عندئذ كان قد انتشر خبر هذه «الاعتداءات» في كل أنحاء فرنسا، وتحمس الشعب لقضيته تحمسا كبيرا، حتى غدا «إكسلمانز» بين عشية وضحاها «بطلا» من الأبطال المعدودين، فكاتبته مدام دي ستال
Staël ، وصار يزوره «لانجونيه
Lanjuinais » (وقد مر بنا خبره في تاريخ الثورة)، وعرض عليه «لفاييت
Lafayette » استضافته في بيته في الريف، مكانا أمينا يلجأ إليه، وعندما حكم في «ليل
Lille » ببراءته في 25 يناير 1815 قوبل هذا الحكم من الشعب بحماس منقطع النظير.
وكان من أسباب الاستياء كذلك من إدارة «سولت» في وزارة الحربية، ومن الحكومة عموما، أنه طلب من الجيش المساهمة في التبرعات التي جمعت لإقامة نصب تذكاري للمهاجرين الذين اشتركوا في حوادث ثورة «الملكيين» الشوان
Chouan
في كويبرون
Quiberon
سنة 1795، وقد عرفنا عند الكلام عن هذه الثورات في عهد المؤتمر الوطني، أن الأسطول الإنجليزي كان قد نقل إلى شبه جزيرة كويبرون بضعة آلاف من المهاجرين وغيرهم للاشتراك في هذه الثورة.
ولم تدرك الوزارة نجاحا كذلك في معالجة الشئون الدينية، وكان من الحوادث التي أهاجت الخواطر أن رفض رجال الدين إقامة الصلاة الجنائزية للاحتفال بتشييع جثمان راقصة مشهورة (28 يناير 1815) - مدموازيل روكور
Raucourt - مما تسبب عنه حصول الاضطرابات في باريس، ثم زاد من بلبلة الأفكار، إقامة الصلاة الاستغفارية في جميع أنحاء البلاد يوم 21 يناير (1815) لإحياء ذكرى الملك لويس السادس عشر الذي أعدم في مثل هذا اليوم سنة 1793، وبدأ الناس يتكلمون ثانية عن الاضطهادات والمصادرات المتوقعة.
وهكذا لم تنقض شهور على العهد الجديد حتى كان القلق قد استبد بالنفوس، ووجد الأحرار الأكثر اعتدالا من غيرهم، أنهم بسبب ثورة الخواطر العارمة هذه قد صاروا يتآمرون ضد النظام القائم؛ فهناك لفاييت يعلن أن الحرية في خطر، وهناك مدام دي ستال تعقد الاجتماعات في قصرها (بشارع كليشي
Clichy )، وتدعو للعشاء على مائدتها الأحرار من كل العناصر، وهناك البونابرتيون يجتمعون في منازل أصدقائهم، وكان أعظم المتآمرين نشاطا جماعة عهد الإرهاب القديم، وعلى رأس هؤلاء «كارنو» الذي يبعث بمذكرة للملك تحوي أسباب الشكوى العامة من الحكومة، ثم «فوشيه» الذي يحيك المؤامرات لمساعدة الدوق دورليان على اعتلاء العرش، ثم «ثوريو
Thuriot » و«جريجوار» و«ثيبودو
Thibaudeau » وغير هؤلاء، بينما كان القائد «دورييه
Drouet » في ليل، يفكر في الزحف بجنوده على باريس.
وتضاربت آراء هؤلاء المتآمرين حول النظام الذي يجب أن يحل محل النظام القائم، فجماعة أيدوا الدوق دورليان، وآخرون آثروا البرنس يوجين، وفريق نادى بالجمهورية، وفريق ثان أراد عودة نابليون إلى الحكم، ومع ذلك فقد اتفقوا على أمر واحد، هو أن هذا النظام القائم لا يمكن أن يدوم، وأخذ كثيرون يحددون تاريخ اليوم الذي ينتهي فيه هذا النظام، ويختفي من الوجود تماما، وبينما كان «المهاجرون» يريدون إعادة بناء حصن «الباستيل» الذي خربته الثورة، ورمز الحكومة الاستبدادية في العهد القديم، تداعت أركان الملكية الراجعة، وانتهت أيامها مؤقتا (15 يوليو 1815) ليحكم نابليون من جديد، خلال المائة يوم التالية، قبل أن يستطيع البربون استرجاع العرش الذي فقدوه للمرة الثانية، والعودة إلى الحكم في فرنسا بعد أن تنتصر جيوش الحلفاء على نابليون في واقعة واترلو
Waterloo .
ذلك أن هذا التذمر المتزايد من حكومة الملكية الراجعة وأساليبها، لم يكن يغيب نبأه عن نابليون وهو في منفاه في جزيرة إلبا «جزيرة الراحة» على نحو ما وصفت به، يرقب تطور الحوادث في فرنسا، ولا يفقد الأمل في استرجاع سلطانه المفقود، فهو قد نزل في «بورتوفيراجو
» إحدى مواني جزيرة إلبا يوم 4 مايو 1814، ولم يكن مكتئب النفس، فأبدى رضاه عن المكان الجميل الذي أعد لإقامته، والحديقة التي يضمها، والهواء الطيب، والنظافة التي لاحظها، وطيبة الأهلين، ثم إنه أنشأ إدارة أو «حكومة» حقيقية عندما جعل «برتران
Bertrand » وزيرا للقصر، و«دروت
Drouot » حاكما ووزيرا للحرب، و«بيروس
» وزيرا للمالية، و«كامبرون
Cambronne » قائد الجيش من (1600) رجل، و«تاياد
Taillade » قائد الأسطول من «طاقم عدده 129 رجلا»، وأبدى نابليون نشاطا فائقا، فهو يقوم بالتفتيش على أعمال التحصينات، وينشئ المنازل والملاجئ، ويفتح الشوارع، ويبني دارا للتمثيل، ويزرع الكروم، ويربي دود القز، ويزيد من مساحة الأراضي الصالحة للزراعة، ويعمل لتجميل المدينة ولتزويدها بالماء، ولم يكن يزيد عمره وهو في هذا المنفى عن خمسة وأربعين عاما.
ولكن جروحا عميقة كانت آثارها تحز في نفسه، فقد حرمه الحلفاء أو أعداؤه زوجه ماري لويز، وابنه ملك روما، الذي اقتيد إلى فينا لينشأ بها نشأة أمير نمسوي، وقد شكا مر الشكوى من ذلك، ولكن دون طائل، ولو أن والدته «ماريا ليتتزيا رامولينو
Maria Letizia Ramolino » لم تلبث أن جاءت لتقيم معه (في أغسطس 1814)، أضف إلى هذا أن المعاش السنوي (2 مليون فرنك) الذي تقرر له في معاهدة فونتنبلو لم يصله منه شيء، وقامت عدة محاولات لاغتياله، وراح تاليران المندوب الفرنسي في مؤتمر الصلح في فينا يحذر من عواقب وجود نابليون في هذه الجزيرة القريبة، ويشير بنقله إلى مكان بعيد من فرنسا، وكان في هذا المكان القريب من فرنسا، أن حضر (الآن) أحد قدامى الموظفين بمجلس الدولة «فليري دي شابلون
Fleury de Chaboulon » (في 13 فبراير 1815) ليبلغه نبأ انتشار التذمر في الجيش، وكراهية الشعب المتزايدة للبربون؛ وعندئذ قرر نابليون الفرار من إلبا والعودة إلى فرنسا.
وقد غادر نابليون إلبا يوم 26 فبراير 1815، فبلغ الشاطئ الفرنسي ومعه عدد من جنود الحرس «الإمبراطوري» القديم، ونزل في خليج «جوان
Jouan » يوم أول مارس «عند فيريجوس
Fréjus » وتجنب نابليون طريق نهر الرون، حيث يوجد أنصار الملكية، واختار طريقا آخر للذهاب إلى باريس، بقي الأهلون من أنصار «الثورة» على طوله، ويمر هذا الطريق بالمدن الآتية: كان
Cannes ، جراس
Grass ، دين
Digne ، سيسترون
Sisteron ، جاب
Gap ، «كورب
Corps »، لافري
Laffray ، وكان وصوله إلى هذه الأخيرة في 7 مارس، وهنا رحب جنود الصف الخامس بعودة إمبراطورهم، ثم بلغ فيزيل
Vizille ، وهنا رحب به كذلك جنود الصف السابع، ثم رحب به كل جنود الحامية في جرينوبل
Grenoble .
ومن الآن فصاعدا كانت رحلة نابليون إلى باريس موكب نصر حقيقي بطريق ليون، حيث أصدر قرارا بإلغاء راية البربون البيضاء والأنظمة التي أوجدها لويس الثامن عشر، ثم أوكسير
Auxerre
حيث ألقى ناي بنفسه في أحضان الإمبراطور، وقد هزته ولا شك مشاعر جنده نحو إمبراطورهم، وذلك بعد أن كان «ناي» وعد بأن يأتي بالإمبراطور موضوعا في قفص من حديد، وفي 20 مارس دخل نابليون باريس، وبذلك تكون قد انتهت قصة «طيران النسر».
وفي باريس وجد نابليون أن الملك لويس الثامن عشر قد تعلق بأذيال الفرار في ليل 19-20 مارس قاصدا إلى «ليل» ليذهب منها إلى غنت لاجئا بها مدة المائة يوم التي حكم فيها نابليون فرنسا.
ومع أن الملكيين حاولوا المقاومة في بوردو
Bordeaux ، بزعامة دوقة دانجوليم، وفي طولون بزعامة فيترول ودوق دانجوليم، وحيث سلم جيشهما بعد أن كان أيدهما بعض الوقت المارشال ماسينا، وفي الغرب في أقاليم فنديه وبريتاني وأنجو، فقد أخفقت كل هذه المحاولات، ولم يكن السبب في ذلك نجاح الجيش وقوات الإمبراطور، بقدر ما كان مبعثه الاستياء العام من آل بربون الذين يبدو أنهم يريدون القضاء على كل تراث الثورة الذي عز على الشعب أن يفقده، والذي كان يرمز له في نظره شخص نابليون نفسه، وهكذا كانت «عودة نابليون» بمثابة عودة «الثورة» في صورة هجوم ضد البربون الذين أنكروا الثورة وأرادوا تحطيمها، فتضافر الآن الجنود والفلاحون ليرجعوا إلى الحكم الرجل الذي شعروا نحوه بالحب من جهة، والذي ربطت بينهم المصلحة لتأييده وإعادة العرش إليه، وكانت «عودة نابليون» في رأي كثيرين لذلك «حركة وطنية عظيمة».
وأدرك نابليون أن الواجب يقتضيه إقامة الدليل على أن أنصار «الثورة» قد صاروا فعلا مندمجين في صفوف مؤيدي «البونابرتية»، فألف حكومته الجديدة من الفريقين: ماريه «سكرتير دولة»، دكريه
Decrès
للبحرية، جودان
Gaudin
للمالية، وموليان
Mollien
للخزانة، وكمباسيرس للعدل، ودافو للحربية، وكولينكور للخارجية، ثم كارنو للداخلية، وبدا تعيين كارنو على وجه الخصوص بمثابة الإشارة إلى الامتزاج الذي حصل بين «الثورة» و«البونابرتية»، وفضلا عن ذلك فقد عمد نابليون إلى إشاعة الطمأنينة في النفوس، ووعد بأن يكون الحكم على قواعد دستورية، وقد طلبت منه الهيئات الحكومية المختلفة أن يكون الحكم دستوريا (26 مارس).
ولما كان نابليون قد أكد رغبته في تعديل أنظمة الإمبراطورية لتتمشى مع الروح الدستورية الجديدة، فقد استطاع «فوشيه» أن يأتي لمقابلة الإمبراطور بالرجل الذي اشتهر بآرائه الحرة من أيام الثورة، والذي نقم على نابليون ديكتاتوريته السابقة، والذي كان حتى الأمس القريب يصف الإمبراطور بالطغيان ولا يسميه إلا بأسماء البرابرة المتوحشين، من طراز «أتيلا» و«جانكيز خان»، وكان هذا الرجل «بنيامين كونستان»، الذي أشرف على وضع التعديلات التي صدر بها ما يعرف باسم «القانون الإضافي
Acte Additionnel »، والذي أطلق عليه كذلك اسم صاحبه: «القانون البنياميني
Benjamine »، وهو قانون إضافي؛ لأنه أضيف إلى دستور الإمبراطورية، وكان صدوره في 22 أبريل ووافق عليه الشعب بالاقتراع العام، ولو أن عدد الذين اشتركوا في هذه العملية كان لا يزيد على مليون ونصف مليون نسمة، أي نحو نصف العدد الذي وافق سنة 1802 على نظام القنصلية الذي صار نابليون بونابرت بمقتضاه قنصلا أول مدى الحياة، وفي أول يونيو أعلن «القانون الإضافي» رسميا.
وكان في خطوطه العريضة يشبه «الميثاق» من حيث إنشاء مجلسين؛ أحدهما للأعيان، والآخر للنواب، مع فارق هام هو توسيع اختصاصات هذين المجلسين وسلطاتهما في شئون التشريع والضرائب والميزانية، وتقييد سلطة الإمبراطور بتقرير مبدأ المسئولية الوزارية، وتأمين القضاة على مناصبهم، وإلى جانب هذا، نص القانون الإضافي على حرية العبادة دون أن يذكر شيئا عن دين الدولة الرسمي، وعلى حرية الصحافة دون فرض أية رقابة مبدئية عليها، والاكتفاء بتطبيق القانون العادي عليها إذا لزم الأمر، وأمام المحلفين، كما يجب استصدار قانون لإعلان الأحكام العرفية، ونصت آخر مواد هذا القانون الإضافي - وهي المادة السابعة والستون - على أنه لا يسمح لأي شخص بحال من الأحوال أن يقترح إعادة البربون، أو طبقة النبلاء الإقطاعية القديمة، أو الامتيازات والحقوق الإقطاعية، أو ضريبة العشور، أو أية عبادة ذات امتيازات وسيطرة، ولا يجوز قطعا محاولة النيل من مشروعية بيع الأملاك الأهلية.
ذلك إذن كان جوهر النظام الجديد في الإمبراطورية العائدة، أو الإمبراطورية الدستورية التي أراد نابليون إقامتها، ولكن كان واضحا من أول الأمر أن حياة هذه الإمبراطورية الجديدة مرتهنة بقدرة نابليون على الانتصار في ميادين القتال - قبل كل شيء آخر - على أعدائه، ذلك أن الإمبراطور منذ أن دانت له السلطة، صار يحاول إقناع الحكومات الأجنبية - والحلفاء خصوصا - بأن نواياه سلمية، وأنه لا يريد الحرب، ولكن أحدا ما كان يثق في تصريحاته ووعوده، بل على العكس من ذلك، بادر ممثلو الدول المجتمعون في فينا - بمجرد أن بلغهم نبأ فرار نابليون - بإعلان أن «الغاصب» قد فقد حماية القانون (13 مارس) أي إنه قد جرد من كل حقوقه المدنية وغيرها وأهدر دمه، ثم عمدوا إلى تجديد معاهدة شومونت في 25 مارس 1815، وتعهدت الدول الأربع العظمى: روسيا، النمسا، بريطانيا، بروسيا، بعدم إلقاء السلاح «طالما بقي احتمال في قدرة بونابرت على إثارة المتاعب، أو محاولة استرداد السلطة والحكم في فرنسا وتهديد أوروبا في أمنها وسلامتها.»
وبالفعل حشد الحلفاء جيوشا تزيد على المليون رجل، منهم (100000) من الإنجليز والهولنديين بقيادة دوق ولنجتون، وكان مقرهم بلجيكا، ثم (150000) من البروسيين بقيادة بلوخر حول نامور، ثم (350000) من النمسويين في جيشين: أحدهما صوب الراين، والثاني صوب جبال الألب، ثم (225000) من الروس يزحفون من نورمبرج، ووقفت فرنسا النابليونية أمام هذه الجحافل في عزلة تامة، واعتمدت على مواردها، واستطاع «دافو» في بضعة أسابيع إنشاء جيش من (275000) مقاتل.
وعول نابليون على تحطيم القوات الإنجليزية البروسية في الأراضي البلجيكية قبل وصول الجيوش النمسوية والروسية، فعبر نهر السامبر
Sambre (أحد فروع الموزيل) عند شارلروا
Charleroi
يوم 15 يونيو سنة 1815، فوقف بجيشه بين الإنجليز والبروسيين، وتمت عملية العبور «للجيش كله » في اليوم التالي، وتمكن نابليون يوم 16 يونيو من هزيمة البروسيين عند ليني
Ligny ، بينما ينجح «ناي» في إلحاق الهزيمة بالإنجليز في «كاتربرا
Quatre-Bras »، ولكن لم ينشطا كلاهما للاستفادة من هذا النصر، وترك نابليون لقائده «جروشي
Grouchy » مهمة احتواء «بلوخر» وحبسه في مواقعه، بينما زحف هو للالتحام مع الإنجليز عند غابة سوان
Soignes ، وتقع في طرفها الجنوبي بلدة واترلو، وعندئذ وقعت معركة واترلو التاريخية، التي انهزم فيها نابليون (18 يونيو 1815).
وكان من أسباب الهزيمة أن نابليون نفسه كان مريضا، وأن تأخيرا حصل في بدء الهجوم على مواقع الإنجليز، وأن نوعا من الخيانة لم يمكن تحديده سبب خلل خطة المعركة، وأن «جروشي» عجز عن احتواء «بلوخر» الذي استطاع إعادة تنظيم قواته بسرعة وجاء لنجدة حلفائه الإنجليز، ثم تأخر «جروشي» في الوصول إلى ميدان المعركة بينما سبقه إليه «بلوخر» ونقص قوات المشاة لدى نابليون، ولقد نجا المارشال «ناي» من الموت أثناء المعركة بأعجوبة، ووقع على عاتق القائد «كامبرون
Cambronne » تأمين مؤخرة الجيش المتقهقر.
عاد نابليون إلى باريس بعد هذه المعركة، فبلغها في ليل 20-21 يونيو مصمما على مواصلة الدفاع، ولكن لم يصغ إليه أحد، وعبثا حاول إثارة الرأي العام لتأييده، وعبثا حاولت حكومته تجهيز جيش جديد للمعركة، وانقسم قواده فريقين: أحدهما؛ يريد الحرب إلى النهاية، ومن هؤلاء دافو، ودروت
Drouot (وكان عدد الجند الذين يمكن تأليف جيش جديد منهم لا يزيد على ثمانين ألفا وحسب)، وفريق يرى مستحيلا الاستمرار في القتال، وبهذه القوات القليلة، وهؤلاء كانوا: «ناي» و«ماسينا» والقواد القدامى.
وكان من الواضح في هذه الظروف إذن أن نابليون قد غدا وحده العقبة الكئود في طريق السلام، وحينئذ اقترح «لفاييت» على مجلس النواب والأعيان دعوة الإمبراطور إلى التنازل عن العرش، وفي 22 يونيو تنازل نابليون عن عرش فرنسا، وأعلن في الوقت نفسه أن حياته السياسية قد انتهت، ولكنه احتفظ بالتاج لابنه الذي نادى به إمبراطورا على الفرنسيين باسم نابليون الثاني.
ولم يشأ مجلس النواب اتخاذ قرار في هذه المسألة - وبالرغم من مساعي لوسيان بونابرت - وقرر التأجيل، ثم لم يلبث أن انعقد بصورة جمعية أهلية أو تأسيسية؛ ليسمي «لجنة تنفيذية» من خمسة أعضاء، كان منهم فوشيه وكولينكور، ثم صدر «أمر يومي» بالاعتراف بنابليون الثاني، ولما كان نابليون الثاني في النمسا، وعاد لويس الثامن عشر إلى فرنسا منذ 24 يونيو، ويساعده فوشيه بتآمره على نابليون، فقد بات ظاهرا أن لا أمل في اعتلاء نابليون الثاني العرش، ولقد أصدر لويس الثامن عشر منشورا من «كمبراي» في 28 يونيو، قال فيه: إنه «وضع نفسه بين الفرنسيين وبين جيوش الحلفاء»، ووعد بإعلان العفو العام.
وأقنع فوشيه نابليون بأن الوقت قد حان لمغادرة باريس؛ فغادرها في 29 يونيو، وفي اليوم التالي وصل ولنجتون أمام العاصمة، وحاول مجلس النواب التخلص من حكم أسرة بربون، وبعث بوفد إلى ولنجتون يطلب أن يحل دوق دورليان محل لويس الثامن عشر، وكان تاليران الذي ظل في فينا من هذا الرأي أيضا، ولكن دون نتيجة، وعندئذ انفض المجلسان (مجلسا النواب والأعيان) وانحلت اللجنة التنفيذية، ووقع «دافو» - الذي عهد إليه بقيادة الجيش - وثيقة تسليم باريس في 3 يوليو، وانسحب إلى ما وراء نهر اللوار، ليدخل لويس الثامن عشر باريس مرة أخرى يوم 8 يوليو 1815.
وكان نابليون أثناء ذلك قد وصل إلى ثغر روشفور
Rochefort
يوم 3 يوليو بقصد الإبحار إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وطلب من اللجنة التنفيذية بعض الفرقاطات لحراسته إليها بدعوى وجود بوارج إنجليزية لمنع عبوره المحيط، ورفضت اللجنة التنفيذية إجابة طلبه، ومنعته من ركوب البحر، وأبقته في الحقيقة سجينا تحت تصرفها، ثم أمر لويس الثامن عشر بتسليمه إلى الإنجليز (14 يوليو)، وكان نابليون نفسه قد بدأ يتفاوض معهم منذ 9 يوليو لينقلوه إما إلى أمريكا وإما إلى إنجلترة، وفي 15 يوليو سلم نفسه إليهم على ظهر سفينة الحرب الإنجليزية «بلروفون
Bellerphon » التي أبحرت به رأسا إلى إنجلترة، فوصلها يوم 24 يوليو، ليجد أن الحكومة الإنجليزية لا تبيح له النزول إلى البر، ثم صدر قرار هذه الحكومة بإرساله إلى المنفى في جزيرة سانت هيلانة - في المحيط الأطلسي - وأذنت له الحكومة الإنجليزية باختيار رفاقه في المنفى، فاصطحب معه القواد الثلاثة: مونثولون
Montholon ، وبرتران
Bertrand ، وجورجو
Gourgaud ، ثم الكونت لاس كاسيس
Las Cases ، ونقلته إحدى سفن الحرب الإنجليزية الأخرى (نورثمبرلند) إلى سانت هيلانة التي وصلها يوم 16 أكتوبر 1815، وقد بقي نابليون في المنفى إلى أن قضى نحبه يوم 5 مايو 1821، ولم تنقل رفاته من هذه الجزيرة النائية إلى باريس إلا بعد مضي حوالي عشرين سنة أخرى، حيث حل في مثواه الأخير تحت قبة الأنفاليد في 15 ديسمبر سنة 1840.
الباب الثالث
أوروبا والإمبراطورية
الفصل الأول
سياسة الإمبراطورية
تمهيد
انتهت الثورة الفرنسية بانتهاء القرن الثامن عشر، أي خلال السنوات الأخيرة من هذا القرن، وبدأت صفحة جديدة في تاريخ فرنسا وفي تاريخ أوروبا بتسليم نابليون بونابرت زمام الحكم في فرنسا ابتداء من عهد القنصلية، وعلى وجه الخصوص من وقت تأسيس الإمبراطورية، ومع ذلك فقد اختلف الرأي حول حقيقة الدور الذي قام به نابليون في تحديد اتجاهات بلاده السياسية، وتشكيل العلاقات التي نشأت بينها وبين سائر الأمم الأوروبية أثناء الخمسة عشر عاما التي تلت انتهاء الثورة الفرنسية، وانقسم المؤرخون إلى فريقين: فمنهم من يعتبر نابليون بمثابة «النتيجة» الحتمية التي أفضت إليها «الثورة»، ويرى أن الثورة قد استمرت حتى بعد عهد القنصلية، وتأسيس الإمبراطورية، ولكن «متجسدة» في شخصه، وفريق آخر يرفض هذا الرأي، ويعتبر نابليون - على العكس من ذلك - رمزا لكل ما هو «مناقض» للثورة، و«ينفي» المبادئ والآراء التي جاءت بها الثورة.
وفي مقدمة المؤرخين، أصحاب الرأي الأول، المؤرخ الفرنسي «جورج ليففر
Lefebvre » الذي يعتبر نابليون بالنسبة لأوروبا أنه «هو» الثورة؛ ينهض دليلا على ذلك - في رأي «جورج ليففر» نظام نابليون القاري - وهو خلاف «الحصار» القاري، وكان الإمبراطور يهدف من نظامه القاري إلى تحقيق غرض مقصود، هو تغيير تكوين أوروبا وإعادة بنائها على أسس المبادئ والآراء التي أتت بها الثورة الفرنسية، ومعنى ذلك إنهاء سلطان الحكومات المستبدة ونقل السيادة العليا في الدول الأرستقراطية للشعوب، واستصدار الدساتير التي تكفل لهذه الشعوب حقوقها المدنية والسياسية، وتخضع السلطة التنفيذية لإشرافها، وتنشئ الحكومات التي تستند حينئذ على ما هنالك من عقود مبرمة بينها وبين هذه الشعوب إذا أخلت بشرائطها، حق للشعب أن يزيلها من الحكم ويتخلص منها.
ثم إن إعادة بناء أوروبا على أسس المبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية، معناه كذلك تحرير الشعوب التي ترضخ لسلطان الحكم والنفوذ الأجنبي، ومعاونة هذه الشعوب على الشعور بذاتيتها وكيانها؛ حتى يتسنى نمو الشعور القومي بها، فتصبح شعوب أوروبا وقد استيقظ ثم اكتمل شعورها القومي «مجمع» قوميات متحررة، تدين بالآراء والمبادئ التي جاءت بها الثورة الفرنسية وتقدسها.
ولقد حاول نابليون نفسه، وبكل ما وسعه من جهد وحيلة، إقامة الدليل على أنه ما كان يبغي من سياسته ونشاطه الحربي سوى تحقيق هذا «النظام القاري» على أسس تلك المبادئ التي ذكرناها، فعل ذلك على وجه الخصوص عندما صار يملي على رجال حاشيته في سانت هيلانة أجزاء من المذكرات والذكريات التي حرص هؤلاء على تسجيلها، فكان نابليون نفسه صاحب تلك «الأسطورة النابليونية»
1
التي صار يروجها فيما بعد ابن شقيقه لويس، والذي اعتلى عرش فرنسا بعد وفاة الإمبراطور بثلاثين عاما تقريبا، باسم نابليون الثالث، كما صار يروجها المعجبون به، ولا جدال في أن «الإمبراطورية» كانت ذات نشاط أوسع من «الثورة» في إيقاظ شعور القومية لدى الشعوب الأوروبية، ولكن الذي تجب معرفته على وجه الدقة، هو ما إذا كانت هذه اليقظة القومية نتيجة «لسياسة» تحررية قومية، وتستند إلى المبادئ الحرة التي نادت بها الثورة حقيقة، أم أنها كانت نتيجة «لرد فعل» حصل ضد «الإمبراطورية» التي فرضت سلطانها على أوروبا، فهبت الشعوب تناضل من أجل الخلاص من السيطرة النابليونية، سواء أكان الحافز على هذا الجهاد شعور بوطنية أو «قومية محلية» أم شعور قومي ناضج يشمل الأمة بأسرها متحدة في نضالها لخلق «قومية» أي أمة متحررة جديدة.
وأما هذه «الأسطورة النابليونية»، ودعوى الذين يعزون إلى الإمبراطور أنه كان يريد إنشاء «نظام قاري » يعيد به بناء أوروبا على أسس المبادئ التي جاءت بها الثورة الفرنسية، فسوف تتضح حقيقة ذلك كله، ومدى انطباقه على ما وقع فعلا في عهد هذه السيطرة النابليونية في أوروبا وضدها إذا أمكن بيان «السياسة» التي سار عليها نابليون، والمبادئ أو الآراء التي استرشد بها في علاقاته مع حكومات أوروبا وشعوبها، ثم بيان الأسلوب الذي أمكن به عمليا تطبيق هذه المبادئ والآراء النابليونية، خصوصا في ألمانيا وإيطاليا وبولندة، وفي بولندة أمكن بعث «أمة» وإحياء «قومية»، ولكن هذه السياسة النابليونية المستندة على المبادئ «الثورية» في بولندة كانت من إملاء اعتبارات محدودة، ولخدمة مآرب سياسة خاصة، ومرتبطة بنشاط الإمبراطور وعلاقاته بالدول الأخرى، ومشروعاته التوسعية. (1) سياسة نابليون
ومن المتعذر إخضاع سياسة نابليون للفحص كوحدة كلية، أو استصدار حكم شامل عليها جملة؛ لأن «شخصية» الإمبراطور و«خلقه» كانا في تغير وتطور مستمر من جهة، ولأن الظروف والمناسبات التي اقتضت اتخاذ إجراءات أو قرارات سياسية معينة، كانت متغيرة هي الأخرى بصورة مستمرة؛ وعلى ذلك فالرأي الذي قد يبديه أو يأخذ به في لحظة معينة لا يعني بالضرورة أن الإمبراطور متمسك به في كل أدوار نشاطه، أو أنه لا يزال على حاله عندما يحين الوقت بعد سنوات لوضعه ذاته موضع التنفيذ، وهكذا كان ضروريا التمييز في حياة نابليون بين أدوار محددة تشكلت فيها آراؤه و«سياسته» في صور معينة.
ولقد كان نابليون «عمليا» في تفكيره، وهذا إلى جانب أنه حصل دراسة كلاسيكية كانت ذات شأن في تكوينه، وهو قد درس التاريخ دراسة «واقعية»، أي كحوداث مسبوقة بأسبابها ومتبوعة بنتائجها؛ فلم يكن حينئذ ممن يدينون بالفكرة «المثالية» المتحررة من الحس والمادة، التي أخذت بها «الثورة» لتعريف «الوطن» وإدراك معناه، فالوطن في اعتبار نابليون إنما هو الأرض والبلاد، وليس معنى «مثاليا» أو فكرة مطلقة، وأما «القومية الفرنسية»؛ فقد كان تفسيرها في ذهن نابليون يقرب من تفسير «النظام الغالي» الذي تأسست بمقتضاه ملكية فيلبريك الأول، من أسرة المرفنجيين في بلاد «غالة» - فرنسا - والذي كان موضع بحث المفكرين في ماهية الدولة والأمة في القرن الثامن عشر، وعلى نحو ما سبقت الإشارة إليه في مكانه.
على أن نابليون من جهة أخرى كان قد تأثر بفكرة معينة من «الأفكار» التي جاءت بها الثورة، هي فكرة «الحدود الطبيعية»، أي ضرورة أن تصل فرنسا إلى حدودها الطبيعية في الشرق والجنوب الشرقي والجنوب، وقد احتفظ نابليون بهذه «الفكرة» وتمسك بضرورة الوصول إلى الحدود الطبيعية طوال عهد الثورة، ثم حتى نهاية عهد القنصلية، وكانت إيطاليا هي الناحية الوحيدة خلال هذين العهدين التي تجاوزت فيها فكرة «الحدود الطبيعية» النطاق المنتظر لها، وإيطاليا هي البلاد التي وجد فيها المغامرون دائما منفذا لنشاطهم، ومتسعا لتحقيق أحلامهم، ولقد كان نابليون يريد من فتوحه الإيطالية في حملته الأولى إنشاء «مملكة» لنفسه، ولو أنه في مسألة إيطاليا هذه إنما كان يقوم بتنفيذ الخطط التي رسمتها حكومة الإدارة، ثم إن إيطاليا كانت بمثابة طريق عسكري، حتى بعد اجتياز جبال الألب بالنسبة لحدود فرنسا الجنوبية الشرقية.
والفتوحات الأولى في إيطاليا، والتي يمكن الاستدلال بها على سياسة نابليون، كانت ضم جزيرة إلبا (في 26 أغسطس 1802)، ثم بيدمنت (في 11 سبتمبر 1802)، ولقد كان في إيطاليا كذلك أن حصلت أولى فتوحات الإمبراطورية في جنوة في سنة 1805.
وفيما عدا ذلك تظاهر نابليون بأنه أمين على مبدأ «الوصول إلى الحدود الطبيعية»، وسواء كان مجرد ادعاء وتظاهر يخفي نفاقا ورياء، أم صدر عن نية خالصة، فقد صار نابليون يردد مرات كثيرة أنه إنما يبغي أن يظل أمينا على فكرة أن تكون فرنسا بحدودها الطبيعية فحسب؛ فيعلن وهو في برلين سنة 1807 أمام وفد من أهل الطبقة المتوسطة (البورجوازية) أنه «لا يريد الحرب بل يكتفي بالراين» حدودا لبلاده، وفي اللحظة التي ضم فيها إلى الإمبراطورية همبورج ولوبك، من مدن اتحاد الهانسا في ديسمبر 1810، أعلن «أن الواجب يقتضيه ألا يدع مجالا للشك في نواياه وفي موقفه، من حيث عدم تجاوز الحكومات الخاضعة له (أي للإمبراطورية) مباشرة نهر الراين.»
وواضح مقدار ما كان ينطوي عليه هذا التصريح من تناقض ظاهر! ومع ذلك فقد بقيت «فرنسا بحدودها الطبيعية» الفكرة المسيطرة على ذهنه، حتى عند مفاوضته مع «الحلفاء» المنتصرين عليه أثناء 1813-1814، فقد كانت فرنسا في نظره هي «فرنسا الثورة» أي بحدودها عند نهر الراين وجبال الألب، يعارض بها فكرة «فرنسا بحدودها القديمة» قبل الثورة، وهي النظرية التي أخذ بها «الملكيون » الذين يمهدون لعودة ملكية البربون إلى فرنسا.
وهكذا - ومن أول الأمر - لم تكن «المثالية العالمية» - أي عدم التقيد بالانتماء إلى وطن معين التي أتت بها الثورة الفرنسية - هي الفكرة التي دان بها نابليون؛ بل إنه أخذ بفكرة «فرنسا العظمى» التي يحدها جغرافيا جبال البرانس وجبال الألب ونهر الراين، ومن أول الأمر أظهر نابليون استخفافا كبيرا بحقوق الشعوب، من ذلك إجراء استفتاء في هولندة لاعتماد الدستور الذي أرادت القنصلية أن تفرضه على الهولنديين، فقد تبين أن هناك ستة عشر ألفا فقط يؤيدون الدستور، بينما يرفضه خمسة وعشرون ألفا، فعمدت «القنصلية» للخروج من هذا المأزق إلى اعتبار الممتنعين عن التصويت، وعددهم (347) ألفا، مؤيدين له وفي صف الموافقين، أضف إلى هذا أن الفتوحات التي سبقت الإشارة إليها قد حدثت دون استشارة الشعوب المعنية، على العكس مما حصل على أيام «الثورة»، بل لقد تحولت الجمهورية الإيطالية إلى «مملكة» في 12 نوفمبر 1802 دون استشارة الأهلين في إيطاليا الشمالية، وفي سويسرة أعطى «كانتون» أو ولاية «فاليه
Valais » دستورا في (28 أغسطس 1802) دون استشارة أهلها.
وإلى جانب هذا كله فالذي يجب ذكره أنه كان هناك فارق عظيم بين هذه «الاستفتاءات النابليونية» التي كان الغرض منها الموافقة على «أمر واقع» حدث فعلا، وبين الاستفتاءات الشعبية العادية التي غرضها معرفة رغبة الشعوب العامة من أجل تحقيقها؛ وعلى ذلك ففي وسعنا القول بأن نابليون ما كان يقيم وزنا كبيرا للنظرية الثورية بشأن ذلك «التعاقد» الذي يؤسس الوحدة القومية على الموافقة الحرة.
تلك إذن كانت «الفكرة» الأولى التي أخذ بها نابليون، وواضح أنها بعيدة كل البعد عن النظرية «الثورية»، على أن الإمبراطورية لا تلبث بعد هذه السنوات الأولى من تاريخها أن تتجه نحو فكرة أخرى؛ هي فكرة «الوحدة الأوروبية
Unité Européenne »، ومعنى «الوحدة الأوروبية » في سياسة نابليون: أن تتزايد سيطرة فرنسا السياسية في أوروبا، وكان ابتداء من سنة 1805-1806 أن بدئ العمل لتحقيقها، حتى إذا جاءت سنة 1810 صار نصف القارة الأوروبية من الناحية العملية «فرنسيا»، ولا جدال في أن سياسة «الوحدة الأوروبية» المنطوية على بسط السيطرة الفرنسية على أوروبا، إنما هي سياسة مضادة لأي اتجاه «قومي»، ولا يمكن أن تتواءم مع «القومية» إلا في حالة واحدة، وذلك إذا كانت «الوحدة الأوروبية» بدلا من إخضاع أوروبا لسلطان فرنسا، تهدف إلى إنشاء اتحاد فدرائي من الأمم في صورة «ولايات متحدة» أوروبية.
ولقد اعتمد نابليون على الدعاية الماهرة والنشيطة لتبرير بسط سلطانه على أوروبا؛ فأعلن أنه لم يشأ الاعتداء على أوروبا، ولكن «إنجلترة» وحدها هي التي أرغمته إرغاما على فعل ذلك بموقفها العدائي منه، ثم راح نابليون يدعي أن «الوحدة الأوروبية» إنما أنشئت كإجراء موجه ضد إنجلترة، وتلك «بروبجاندا» كانت ذات أثر طيب بين سواد الشعب الفرنسي؛ لاستغلالها شعور الكراهية الذي ولدته في صدور الفرنسيين حروب الثورة ضد إنجلترة، وكانت هذه الكراهية هي الشعور «الوطني» الوحيد وقتئذ الذي شعر به الفرنسيون حقيقة؛ وعلى ذلك فإن أحدا لم يناقش في ذلك الحين فكرة إنشاء «الوحدة الأوروبية» كإجراء لمقاومة إنجلترة، وقبل الناس في فرنسا وفي أوروبا هذا التفسير الذي أراده نابليون لسياسته التوسعية.
ولكن إذا نحي جانبا موضوع تحديد المسئولية أصلا في إثارة هذه الحرب غير المنقطعة ضد إنجلترة، فهل كانت رغبة نابليون حقا الاستمرار في الحرب ضدها؟ لقد كانت الاتفاقات والمعاهدات التي أبرمت في «برسبورج» في 26 ديسمبر 1805، وفي «تلست» في 7 يوليو 1807، وفي (فينا) - صلح شونبرون - في 14 أكتوبر 1809 تتضمن شروطا سبق أن ذكرناها في موضعها، لم تكن تستهدف مواصلة النضال ضد إنجلترة، ولا يمكن تفسيرها في ضوء هذه الرغبة، لقد كان «الحصار القاري
Blocus Continental » وحده هو الذي يفسر السياسة الفرنسية، باعتبار هذا الحصار القاري سلاحا اقتصاديا موجها ضد إنجلترة، وهو بهذا المعنى وحده إنما يوحي بوجود فكرة «الوحدة الأوروبية»، ويفترض وقوف أوروبا كوحدة اقتصادية في وجه إنجلترة لمقاومة الإنجليز وإغلاق مواني القارة ومنافذها في وجوههم.
وكانت سياسة «الحصار القاري» هذه مبعث الفتوحات «الشاطئية» التي حصلت وقتئذ على يد نابليون، ومع ذلك فلو صح أن الغرض من «الحصار القاري» إنشاء «الوحدة الأوروبية»، بمعنى جمع الكلمة في أنحاء القارة الأوروبية ضد إنجلترة، فإن النظام القاري قد جاء متأخرا، ثم إنه لم يستمر إلا وقتا قصيرا جدا لتتولد منه كتلة أوروبية حقيقية، ولقد أدى تنفيذ سياسة النظام القاري إلى زيادة الصعوبات التي صار يصادفها نابليون، إلى جانب المقاومة في البلدان الخاضعة لسلطانه، بسبب التجنيد والضرائب وأعباء السيطرة الفرنسية عموما، والتي صارت تئن من ثقلها وتريد الخلاص منها الشعوب الداخلة في نطاق هذه الإمبراطورية النابليونية؛ ولذلك فلا يمكن اعتبار أن الحصار القاري قد أوجد «شعورا أوروبيا» نجح في إزالة تلك العاطفة «العالمية» التي نادى بها رجال الثورة، على أساس المشاركة في الشعور «بوطنية» إنسانية عالمية، أي: عدم التقيد بمحبة وطن معين هو مسقط رأس الإنسان وبلده، أو حتى إزالة الشعور بالقومية المحلية، وتلك نتائج في حد ذاتها تجعل متعذرا التمسك بفكرة «الوحدة الأوروبية» الموجهة ضد إنجلترة؛ لتبرير السيطرة النابليونية على أوروبا.
أما كيف كانت تتألف «الأمة» التي احتوتها الإمبراطورية النابليونية، وبسطت سلطانها عليها، وبمعنى آخر؛ كيف تأسست هذه «الأمة»، وماذا كانت الأسس التي قام عليها التوسع الفرنسي لإنشاء هذه الإمبراطورية، فذلك أمر توضحه كل تلك الآراء والنظريات التي تولدت تباعا في ذهن نابليون، فجاءت متغايرة ومتناقضة، وبقدر اختلاف الظروف والمناسبات والحوادث الواقعة، وبقدر ما كان يتطلبه معالجة كل موقف وكل حالة، فكان هناك أصلا «تراث» الثورة: الوصول إلى الحدود الطبيعية، بما في ذلك الاعتداء على إيطاليا واقتطاع أجزاء منها، مما كان معناه ببساطة زيادة «حجم فرنسا» واتساعها، ولقد أدمجت الأراضي التي تألفت منها فرنسا «المتسعة» هذه في الأراضي الفرنسية.
ولقد كان في هذا الدور كذلك أن لوحظ أثر عامل شخصي طرأ على هذه السياسة المنبعثة من «الثورة»، ذلك هو إنشاء «جمهورية ما وراء الألب»، والتي صارت فيما بعد «جمهورية إيطالية»، فلا جدال في أن مبعث إنشائها كان تفكير نابليون في إنشاء «دولة» أو مملكة لنفسه في إيطاليا، وتلك فكرة لم تلبث أن تخلى عنها سريعا عندما هيأت له الظروف أن يصبح سيدا على «دولة» أكبر حجما، وأكثر أهمية، وبدرجة عظيمة من تلك التي كان يريدها لنفسه في إيطاليا، فصار سيدا على «فرنسا» بعد انقلاب برومير الذي أوجد القنصلية، وبذلك لم تعد فكرة تأسيس مملكة أو دولة لنفسه في إيطاليا فكرة نافعة، ومع ذلك فمما لا شك فيه أن هذا التفكير ذاته كان يعني بداية تحول ملحوظ في سياسة نابليون، التي صارت تهدف من ذلك الحين إلى تأسيس سيطرة شخصية، وتشمل - إن أمكن - أوروبا بأسرها، وأما هذه «الجمهورية الإيطالية» فقد أصبحت في سنة 1805 «مملكة إيطاليا».
تلك إذن كانت القاعدة الأولى التي ارتكزت عليها «الإمبراطورية»: بسط السيطرة الفرنسية، ولقد كانت تستند هذه السيطرة على فكرة جديدة؛ هي إخضاع أوروبا لسلطان موحد، أي فكرة إنشاء تلك السيطرة القارية، التي كانت مستوحاة من آراء من طراز ما كان يأخذ به لويس الرابع عشر، بشأن تأسيس دولة قومية أو وطنية عظيمة، بمعنى أن ترتكز فرنسا على عدد من الدول المتمتعة باستقلالها الذاتي، والتي تتبع فرنسا وتنال حمايتها في الواقع، وترتبط بها بروابط شخصية، وأما فرنسا العظمى هذه فقد ضمت إليها كدول «محمية»، الجمهورية الهولندية بدستورها الذي صدر في سنة 1802 في عهد القنصلية، ثم الجمهورية السويسرية (الهلفيتية) سنة 1803، واتحاد الراين (الكونفدرائي) في يوليو 1806، وارتبطت الجمهورية الهلفيتية واتحاد الراين بفرنسا برباط شخصي عندما صار الإمبراطور هو «الوسيط
Mediateur » بين الجمهورية الهلفيتية وفرنسا، ثم «حامي
» اتحاد الراين، وتلك «سياسة» تعيد إلى الأذهان «السياسة العظمى» التي سار عليها لويس الرابع عشر، لإحراز التفوق السياسي لفرنسا في القارة الأوروبية.
ولم يقف نابليون عند فكرتي السيطرة القارية، وإنشاء فرنسا العظمى، بل إنه لم يلبث أن أضاف إلى هاتين الفكرتين فكرة ثالثة، كانت سائدة خلال القرن الثامن عشر، ثم بعثت الآن من جديد، ونعني بذلك فكرة «الميثاق العائلي
»، فقد ارتكزت امبراطورية نابليون على نوع من الميثاق العائلي، ولكن بين أعضاء أسرته عندما شرع يعين أشقاءه وشقياته وأزواج شقيقاته أمراء وملوكا، ويخلق لهم ممالك وإمارات في أوروبا، وكان هؤلاء جميعا أدوات للسياسة الفرنسية؛ فقد أنشئت غراندوقية برج
Berg
للجنرال «مورا» زوج شقيقته كارولين في يوليو 1806، وتعين أخوه جوزيف ملكا على نابولي في مارس 1806، ثم أخوه الآخر لويس ملكا على هولندة في يونيو 1806.
وهكذا تعاقبت ثلاث فكرات، كانت ذات أثر واضح في تشكيل «الإمبراطورية الفرنسية»، ومع ذلك فقد كانت هذه الإمبراطورية في الحقيقة نظاما فدرائيا ممتزجا بنظام عائلي، فإن امتداد اتحاد الراين الكونفدرائي لم يلبث أن وسع كل ألمانيا تقريبا، وألمانيا هذه هي التي كانت قد أنشئت بها التيجان التي وزعت على «ملوك» بفاريا وورتمبرج وهانوفر وغيرها، وهي التي «خلق» بها نابليون مملكة جديدة - هي مملكة وستفاليا - توج أخوه «جيروم» ملكا عليها.
أما في الشرق فقد بعث نابليون بولندة مرة أخرى، عندما أسس «غراندوقية وارسو» والتي سلم زمام الحكم بها ناخب سكسونيا، وهكذا نرى الإمبراطورية في سنة 1807 تتجه نحو فكرة جديدة؛ فكرة إنشاء اتحاد فدرائي يجمع دول أوروبا.
على أن هذا الاتحاد لن يستمر طويلا، بل إن نابليون لا يلبث حتى يعود مرة أخرى - وبعد 1809-1810 - لفكرة إدماج أجزاء من أوروبا في كيان الإمبراطورية الفرنسية، فقد ترتب على سياسة «الحصار القاري» وواجب تطبيق هذه السياسة، أن استأنف نابليون خطة «الإدماج» التي سار عليها قبلا؛ ففي سنة 1809 عمد الإمبراطور إلى ضم «الدولة البابوية» إلى فرنسا، ثم هولندة في سنة 1810، ثم مقاطعات الهانسا في سنة 1812، كما ضم إلى فرنسا في جهات أخرى من أوروبا «المقاطعات الليرية
» «المطلة على ساحل الأدرياتيك الشرقي، وتشمل كارنيثيا، كارنيولا، كرواتيا، دلماشيا»، ثم البرتغال التي وضعت تحت الإدارة الفرنسية.
وإلى جانب هذا كله، فثمة فكرة «إقطاعية» كانت ذات أثر في تشكيل أو بناء هذه الإمبراطورية، مبعثها رغبة نابليون في مكافأة «ماريشالاته» وكبار موظفي الإمبراطورية، بأن يقطعهم الإقطاعيات التي اختارها لهم قبل كل شيء في إيطاليا، ثم في ألمانيا، مثل إمارة بنفنتو، وبارما، بياسنزا، التي أعطيت بالتوالي إلى تاليران، وكمباسيرس، ولوبران ، إلى جانب عدد من الإمارات والدوقيات الأخرى الكثيرة.
وعلى ذلك فقد كانت الإمبراطورية النابليونية متولدة من تفاعل «فكرات» وآراء تتابعت بعضها في إثر بعض، ثم اختلف بعضها عن بعض، وكثيرا ما كانت متناقضة، الأمر الذي جعل الإمبراطورية تبدو في النهاية جثمانا سياسيا «ممسوخ الخلقة»، لا يجمع بين أجزائه المختلفة سوى رباط واحد، هو طموح الإمبراطور وأطماعه «الشخصية»، وحبه للسيطرة والسلطان، ولا تندرج هذه الأجزاء التي اختص كل منها بنظام وتكوين يختلفان فيها عن غيرها، إلا تحت «نظام واحد» هو تحمل أعباء الخدمات العسكرية، والأنظمة المالية والاقتصادية التي فرضت على «الدول» التي تألفت منها أجزاء هذه الإمبراطورية النابليونية دون أي اعتبار لمبادئ القانون العام، وواضح أن «تركيب» الإمبراطورية بهذه الصورة لم يكن يفسح - بحال من الأحوال - أي مجال للاعتراف بوجود «قوميات» في أوروبا، أو أن هذه الإمبراطورية كانت تسترشد من بعيد أو من قريب بفكرة القومية.
ولعل هذه الحقيقة لا تلبث أن تتضح إذا عرضنا للطريقة التي حصلت بها كل التغييرات الإقليمية التي صنعتها الإمبراطورية، خصوصا في ألمانيا وإيطاليا، مسرحي هذه العمليات الواسعين، ثم بحثنا موقف «الشعوب» من هذه التغييرات التي حدثت، والتي انبسطت بفضلها السيطرة النابليونية على أوروبا.
أما الذي تجدر ملاحظته من أول الأمر، فهو أن كل هذه التغييرات التي جعلت أوروبا تتحول هذا التحول الضخم تحت السلطان الفرنسي، إنما استغرق إجراؤها خمس سنوات وحسب (1805-1810)، وتلك مدة قصيرة جدا، فتتابعت التغييرات والتوزيعات والترتيبات الإقليمية، نتيجة لكل تلك المعاهدات والاتفاقات التي تخللت الحروب المتصلة، ولقد شهدت ألمانيا على وجه الخصوص - قبل حروب المحالفة الدولية الثالثة أو بعدها - أقاليم تبدل عليها سلطان حكومات مختلفة، لا لسبب سوى مشيئة القدر - إذا صح هذا التعبير - ودون أن يتولد من هذه السيطرات الحكومية المتغيرة أي رد فعل عميق لدى شعوب هذه الأقاليم.
ولقد كانت الفكرة البارزة من وراء هذه التغييرات «الحكومية» رعاية مصالح سياسية أو اعتبارات استراتيجية معينة، أو رغبة الإمبراطور «نابليون» في توقيع العقوبة على أحد الأمراء أو تعويض أمير آخر عما فقده من أملاكه ... وهكذا، أي إن الذي تحكم في مصير هذه الأقاليم وفي مصير أهلها وشعوبها تبعا لذلك، كان إرادة فردية وتحكمية بحتة، ومع ذلك فقد كان لا معدى عن أن تترك هذه التغييرات الإقليمية المتلاحقة والانقلابات العظيمة، أثرا واضحا في نفوس المعاصرين ؛ هو أن فقد الناس أولا: كل شعور بالاطمئنان والأمن والاستقرار، وثانيا: أن الكثيرين صاروا ينظرون لكل ما حدث كأشياء طارئة لا تلبث أن تزول هي الأخرى كما زال غيرها، وأن المستحيل دوام هذا البنيان الشامخ الذي صنعه الإمبراطور بيديه، بل إن هؤلاء المعاصرين كانوا يشاركون والدة نابليون نفسه «ليتيتزيا رامولينو» شعورها عندما تمنت لو أن هذا كله يدوم!
2
أي لا يتصورون دوام الأوضاع القائمة، والواضح أن هذه التغييرات والانقلابات الأوروبية لم تكن تسمح في طبيعتها بإقامة بناء سياسي مستقر.
وعلينا أن نعرض الآن للآثار التي ترتبت على هذه التغييرات والانقلابات التي حدثت في ألمانيا وإيطاليا، أي في البلدين اللذين كانا أكثر تعرضا من غيرهما لأكبر هذه الانقلابات وأضخمها، التي حصلت على يد نابليون.
في ألمانيا
ولعل أول ما تجدر ملاحظته بشأن التغييرات والانقلابات التي حصلت على يد نابليون في ألمانيا؛ أن التعديلات الإقليمية بها كانت كثيرة، وأن أهم انقلاب حدث كان اختفاء الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة، وأن كلا الأمرين وقعا دون أن يحصل رد فعل يتحرك «الرأي العام» في ألمانيا بسببه، بل إن الذي حصل كان احتجاج بعض أصحاب المصالح الذين أوذيت مصالحهم، بسبب هذه التغييرات والانقلابات، أو الذين تعذر إشباع أطماعهم، والاستجابة لمطالبهم بدرجة كافية، من هؤلاء بارونات الإمبراطورية الذين ضمت أملاكهم أو أخضعت في صورة من الصور للنفوذ الفرنسي مباشرة أو غير مباشرة، فانخفضت مرتبتهم بحكم تبعيتهم لصاحب السيطرة الفعلية عليهم، والذين تأثر مركزهم بسبب التغييرات الإقليمية التي أجراها نابليون في نطاق النظام الذي أراد به إخضاع ألمانيا لسلطانه، ويعرف أمثال هؤلاء البارونات والأمراء بأنهم هم الذين صاروا بفضل هذه الإجراءات لا يتبعون «الإمبراطورية» الألمانية
Mediatisés .
ولما لم يكن من شأن هذه التغييرات إذن إنعاش أو إحياء آية آمال لدى سواد الشعب في «تغيير» الحال التي كانوا عليها إلى ما هو أفضل منها، فقد ظل «الرأي العام» لدرجة كبيرة لا يأبه بها.
وأول هذه التغييرات الهامة، والتي يمكن مقارنتها بتلك التي أوجدتها من قبل معاهدات وستفاليا (1648) من حيث نتائجها ، فقد كان منشؤها القرار النهائي للإمبراطورية الجرمانية
Recès d’Empire ، الذي صدر في 25 فبراير 1803 على يد الدياط (المجلس الإمبراطوري) المنعقد في «راتزبون»، ولقد تذرع نابليون ليعيد تنظيم ألمانيا، بدعوى ضرورة أن ينال الأمراء الذين حرمهم أملاكهم وأراضيهم، ضم الأقاليم الواقعة على شاطئ الراين الأيسر إلى فرنسا؛ تعويضا عن هذه الأملاك والأراضي التي فقدوها في داخل ألمانيا ذاتها، وكانت مسألة «التعويضات» هذه عملية مالية مربحة، حينما أقبل الأمراء الألمان «يتساومون» في مكتب «تاليران» خصوصا في باريس، على مقدار التعويض الذي ينالونه ومكانه ... إلخ، وتدفقت الهدايا «والبقاشيش» والرشاوى، وكثرت المساومات حتى صارت باريس سوقا للمزايدة.
ولقد كان «القرار النهائي» للإمبراطورية الجرمانية هذا إجراء ذا صبغة دولية معينة؛ فقد تقدمت به فرنسا وروسيا بالاتفاق فيما بينهما (منذ 18 أغسطس 1803) كخطوة موجهة ضد النمسا إلى حكومة فينا، ثم إن فرنسا من ناحية أخرى قد صار لها بفضله «أتباع» عديدون في ألمانيا، وفي هذين المعنيين كان هذا «القرار النهائي» من صميم السياسة الفرنسية من أيام الملكية القديمة التي خدمها ورسم خطوط سياستها التوسعية كل من «ريشليو» و«مزران» في النصف الأول من القرن السابع عشر.
ووقع عبء تنفيذ هذا «القرار النهائي للإمبراطورية» على وجه الخصوص في ألمانيا الغربية؛ فكانت هذه أكثر الأقاليم التي تأثرت به؛ لأنها كانت مقطعة الأوصال، ومجزأة إلى «دويلات» ضئيلة أكثر من غيرها؛ فهناك إمارات و«دويلات» بارونات الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة، ثم الإمارات الكنسية العديدة، حتى إذا صفيت هذه «الدويلات» بفضل «القرار النهائي» كان قد تغير وجه ألمانيا الغربية تغيرا كاملا.
ولقد تألف هذا «القرار النهائي» من إجراءات ثلاثة كبيرة: أولها؛ إحداث تغيير في الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة، بنقلها من حال إلى حال مختلف عن السابق كلية؛ فقد صار عدد «ناخبي الإمبراطور» عشرة ، بسبب تعيين أربعة جدد هم مطران «سالزبورج» ودوق بادن، ودوق ورتمبرج، ودوق هس كاسل، واختفى اثنان من الناخبين الكنسيين القدامى، هما ناخب كولونيا، وناخب تريف، وبقي على حالهم الناخبون الستة القدامى، وهم ناخبو بفاريا البلاتينات، وبوهيميا، وبراندنبرج، وهانوفر، وسكسونيا، وماينز، وهؤلاء جميعا صارت تتألف منهم «كلية الناخبين»، وفي هذا الوضع الجديد صار بها أربعة من الناخبين الكاثوليك فقط، هم مطران ماينز، ومطران سالزبورج، وملك بوهيميا، وملك بفاريا، وذلك مقابل ستة من الناخبين البروتستنت.
وأما «كلية المدن» فقد اختفت أو كادت تختفي عمليا، فقد كانت هذه تشمل قبلا (51) مدينة حرة، فلم يبق منها الآن سوى ست: كانت فرانكفورت، وهمبرج، وبريمين، وكوبك، ونورمبرج، وأوجزبرج، وكل هذه المدن بروتستنتية، وأما «كلية الأمراء» فقد تغير تأليفها بسبب التعديلات الإقليمية التي حصلت، فقد ترتب على عملية إلغاء تبعية الأمراء والبارونات للإمبراطورية المقدسة، وتخفيض مراتبهم بسبب الإجراءات الإقليمية وغيرها
Médiatisations
أن اختفى تمثيل كل الدويلات الضئيلة، وأن تحولت الإمارات الكنسية إلى علمانية، وأنقص هذا الإجراء الأخير بدرجة عظيمة نفوذ الكنسيين؛ ففي حين كانت نسبة تمثيل الإمارات الكنسية في «كلية الأمراء» في الماضي حوالي 37 في المائة، فقد اختفت هذه النسبة في الترتيب الجديد، وصارت نسبة أصوات البروتستنت في «كلية الأمراء» الجديدة سبعين صوتا، مقابل أربعة وخمسين صوتا للكاثوليك.
وأخيرا فقد قسمت الإمبراطورية الرومانية المقدسة إلى ثماني «دوائر» بدلا من العشر السابقة، وهكذا تغير وجه الإمبراطورية المقدسة من الناحية السياسية، حيث قد صار «الدياط» أو المجلس الإمبراطوري الذي يتألف من هذه الكليات والدوائر «بروتستنتيا» في جوهره، وانحسر نفوذ الكاثوليك في هذا المجلس الإمبراطوري حتى بات ضعيفا جدا.
وأما النتيجة الهامة الثانية «للقرار النهائي للإمبراطورية الجرمانية»؛ فهي أنه قد حصل «تركيز إقليمي» على أثر اختفاء عنصرين هامين، هما: الدويلات الكاثوليكية، والنبلاء التابعين للإمبراطورية «المقدسة» مباشرة، فلم يبق من الدويلات الكنسية سوى «ماينز» التي فقدت جزءا من أراضيها؛ فصارت لا تتعدى أملاكها شاطئ الراين الأيمن، في حين ضمت إليها أسقفية راتزبون؛ تعويضا لها عن الأراضي التي فقدتها، وإلى جانب «ماينز» بقيت الدويلات الكنسية التي كانت لرئيس فرسان التيتون،
3
ولرئيس دير مالطة.
4
وفيما يتعلق بالنبلاء أو طبقة الفرسان
Ritterschaft ؛ فقد اختفت تماما هذه الطبقة المؤلفة من كبار النبلاء، والفرسان، أو صغار النبلاء، وفي الوقت نفسه الذي اختفت فيه الدويلات الكنسية وطبقة النبلاء التابعين للإمبراطورية مباشرة ، برزت إلى عالم الوجود حفنة من «الدول الكبيرة» ذات الحجوم أو المساحات الواسعة، أما أهم هذه الدول الكبيرة فكانت: بفاريا، وورتمبرج، ودوقية بادن، ودوقية هس-درمستاد، وبروسيا التي بلغت مساحتها الآن (12000) بدلا من (2750) كيلو مترا مربعا، وزاد عدد سكانها؛ فصار نصف مليون نسمة، بعد أن كان حوالي (125) ألفا، موزعين في جهات مبعثرة، ثم تزايدت مساحة «هانوفر» كذلك، فترتب على هذا «التركيز الإقليمي» إذن أن نقص عدد الدويلات الألمانية من (360) إلى ثمانين دويلة فقط، وتلك نتيجة «إقليمية وسياسية» ضخمة ولا شك.
ولقد ساعدت إعادة تنظيم الإمبراطورية الرومانية المقدسة «الجرمانية» - بفضل هذا «القرار النهائي» الإمبراطوري - على إخراج النمسا من ألمانيا، حيث فقدت النمسا أكثر ممتلكاتها فيما يعرف باسم المدن الحدودية على نهر الراين، إلى جانب عدد من الممتلكات الصغيرة في الغابة السوداء، ثم المدن الصغيرة التي كانت للنمسا «منعزلة» في إقليم سوابيا، ولقد تنازلت النمسا عن بعض أقاليمها في ألمانيا لبعض الأمراء الطليان الذين أخذوها كتعويض لهم عما فقدوه من أملاكهم في إيطاليا، فنال دوق «مودينا
Modena » إقليمي بريزجو
Brisgau ، وأورثينو
Orthenau ، ونال غراندوق تسكانيا إمارة سالزبورج التي تألفت من المطرانيات القديمة والتي تحولت إلى أملاك علمانية في سالزبورج، وإيشستاد
Eichstadt .
أما النمسا فقد أخذت في مقابل ذلك بعض الأراضي في الألب: إترنت
Trente ، بريكسن
Brixen ، وقسم من مطرانية بساو
، وبذلك فقدت النمسا أكثر ممتلكاتها «الإقليمية» في ألمانيا، وفضلا عن ذلك فإن النمسا فقدت - بسبب إعادة تنظيم الإمبراطورية المقدسة - ما كان لها من نفوذ عظيم في ألمانيا، وأخيرا فإن النمسا ذاتها لم تلبث أن تحولت إلى «إمبراطورية النمسا» في 11 أغسطس 1804.
فقد رأت النمسا في وجود إمبراطور فرنسي - إلى جانب الإمبراطور الوحيد الذي عرفته أوروبا حتى هذا الوقت، وهو إمبراطور «الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة» - إهانة لها، وعلى ذلك فقد صار للنمسا تاج إمبراطوري، وبدأت من هذا الحين تبتعد عن ألمانيا، وتنفصل بحياتها الخاصة بها عن الجثمان الألماني؛ لتصبح ذات كيان مستقل في نموه وتطوره عن سائر ألمانيا؛ الأمر الذي كان له نتائج ذات شأن كبير خلال القرن التاسع عشر ، لا جدال في أن أهم هذه النتائج وأخطرها كان تخلي النمسا عن ألمانيا لتتولى بروسيا زعامتها.
تلك إذن كانت «النتائج» المترتبة على ذلك «القرار النهائي» للإمبراطورية
Recès d’Empire (Recès Germanique)
في سنة 1803، والذي يعتبر بحق نقطة التحول في حياة ألمانيا الحديثة؛ فقد تولد بسبب هذا القرار - وكما شاهدنا - عدد من «التجمعات» الإقليمية القوية في داخل ألمانيا، بفضل القضاء على التنظيم الإقطاعي القديم القائم على طبقة النبلاء والفرسان
Ritterschaft
وعلى الدويلات الكنسية، على أن الذي تجب ملاحظته أنه لم يكن هناك في كل ما حدث أي شعور لصوالح وطنية أو قومية، بل إن الذي حصل لم يكن سوى «ترتيبات» بين الألمانيين، لإعادة التوزيع الإقليمي على أساس جديد من القوى في نظام لم يكن من شأنه قطعا إفساح أي مجال «لقومية ألمانية».
ومع ذلك فإن هذا التحول أو التغير العظيم الذي طرأ على ألمانيا بسبب «القرار النهائي الإمبراطوري» لم يكن من المنتظر بقاؤه طويلا، لا في شكله الإقليمي، ولا في صورته السياسية؛ فمن الناحية الإقليمية لم يكن هذا «القرار النهائي» إلا إجراء أوليا، سوف تتلوه إجراءات أخرى يهدف بها نابليون إلى إعادة رسم خريطة ألمانيا، بالقضاء على بعض الدول الجديدة التي أوجدها هو نفسه، كما أنه لم يلبث أن قضى على ثلاث من المدن الحرة في سنة 1806؛ فلم يبق من المدن الحرة بألمانيا سوى ثلاث: هي همبورج، وبريمين، ولوبك، ثم إن هذه لم تلبث أن اختفت جميعها في سنة 1810.
ثم إنه قضى على دول قديمة كانت قائمة في الماضي، هي «هس همبورج» في سنة 1806، ودوقية برنسوبك في سنة 1807، ودوقية أولدنبورج في سنة 1810، ثم إنه لم يلبث أن انتهى من مسألة إلغاء تبعية الأمراء والبارونات الألمان للإمبراطورية المقدسة
Médiatisation
بأن تقرر في سنة 1806 أن جميع الأمراء أو البارونات الذين لا يسمح بدخولهم شخصيا في «اتحاد الراين» يصير اعتبارهم تابعين للحكومات التي يعيشون في أرضها، ويتحتم عليهم لذلك الحصول على «جنسية» الدول الإقليمية التي يقيمون بها، ولقد ترتب على هذا القرار أنه صار لا يوجد هناك من الآن فصاعدا في ألمانيا مواطنون أو أمراء تربطهم أية روابط مباشرة بالحكومة المركزية، فكل هؤلاء من مواطنين وأمراء قد حصلوا الآن على «جنسية إقليمية».
واختفت من خريطة ألمانيا السياسية كذلك الدول التي تمتعت أصلا بعطف نابليون، وأوجدها «القرار النهائي الإمبراطوري»، من ذلك اختفاء نائب «هس-كاسل» في سنة 1807، وأما الدول «أو الحكومات» الجديدة التي أوجدها نابليون، فكانت غراندوقية برج على شاطئ الراين الأيمن في سنة 1806، ثم غراندوقية «ورتزبرج
Würtzberg » التي أعطيت إلى فردنند صاحب تسكانيا بدلا من «سالزبورج» التي كانت النمسا تنازلت له عنها.
وفي السنة نفسها (1806) أنشأ غراندوقية فرانكفورت التي أعطيت إلى «دالبرج
Dalberg » مطران ماينز القديم، ثم إلى جانب هذه الغراندوقيات الثلاث أنشأ نابليون مملكة وستفاليا التي أعطاها لأخيه «جيروم
Jérome ».
ولقد حصل «أتباع» السياسة النابليونية والمؤتمرون بأمر الإمبراطور على زيادات إقليمية، اتسعت بسببها مساحة «دولهم»، من ذلك غراندوقية «بادن
Baden » التي كانت في سنة 1789 تبلغ مساحتها (3600) كيلو متر مربع، وعدد سكانها (200000) نسمة، فصارت في نهاية عهد الإمبراطورية تبلغ مساحتها (15000) كيلو متر مربع، وبلغ عدد سكانها مليون نسمة، وأصبحت دولة مهمة، وكذلك زادت مساحة «بفاريا» من (56000) إلى (96000) كيلو متر مربع، وعدد سكانها من مليونين إلى (3800000) نسمة، ثم دوقية «ورتمبرج» من (9500) إلى (19500) كيلو متر مربع، ومن (650000) إلى (1350000) نسمة، ثم سكسونيا بقيت على حالها تقريبا، أي إن مساحتها كانت (40000) كيلو متر مربع، وعدد سكانها مليونا نسمة، وأما هذه جميعها فقد صارت - الآن - «دولا متوسطة» كبيرة، وكلها خضعت لتغييرات مختلفة.
ولقد كانت «هانوفر» أكثر «الدول» التي خضعت لهذه التغييرات، وكانت «هانوفر» أملاكا بريطانية؛ ولذلك فقد عمد نابليون إلى تجزئتها في صالح جيرانها، والتصرف في مصيرها حسب مشيئته؛ فهو يعطي هانوفر ذات مرة إلى بروسيا، ثم لا يلبث حتى ينتزعها منها، ثم لا يلبث حتى يقضي عليها ؛ فتختفي «هانوفر»، ثم لا يلبث نابليون حتى يعيد إنشاءها من جديد ليضيف إليها أراضي جديدة، وليجعل منها المملكة المعروفة باسم «مملكة وستفاليا».
أضف إلى هذا أن السويد قد أخرجت من ألمانيا بعد أن كانت تمتلك بها «بوميرانيا»، ثم إن بروسيا قد اقتطعت أجزاء منها حتى إنها فقدت نصف أراضيها.
ولقد أفضت هذه التعديلات والتغييرات الجديدة إلى خلق «تركيزات إقليمية» جديدة على أساس اختفاء ما يزيد قليلا على نصف «الدول» التي تركها «القرار النهائي الإمبراطوري»؛ فنزل عدد الدول الألمانية من ثمانين إلى ثمان وثلاثين دولة فقط في آخر عهد الإمبراطورية، كما كانت قد استبعدت وطردت من ألمانيا العناصر الأجنبية عنها.
وهكذا كان لا يمكن اعتبار «القرار النهائي الإمبراطوري» وثيقة أو إجراء يستهدف ترتيبات إقليمية مستديمة، ومثل ذلك كان الترتيب أو التنظيم السياسي الذي وضعه نابليون لألمانيا؛ فإن هذا التنظيم هو الآخر لم يعمر طويلا.
فقد قرر نابليون زوال الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة واختفاءها من الوجود، وفرض ذلك على النمسا في معاهدة «برسبورج»، وتنازل فرنسيس الثاني رسميا عن لقب إمبراطور ألمانيا في 6 أغسطس 1806، وبفضل هذا الإجراء خرجت النمسا من ألمانيا النابليونية، وفي الوقت الذي اختفت فيه الإمبراطورية المقدسة، رفع نابليون إلى مرتبة الملكية كلا من «بفاريا» و«ورتمبرج»، وفي مكان هذه الإمبراطورية التي عمرت من العصور الوسطى، أوجد نابليون في ألمانيا «ترتيبات» أخرى: «اتحاد الراين» الذي تأسس في 12 يوليو 1807، ويضم إليه ستة عشر أميرا ألمانيا في الغرب والجنوب، ثم لم يلبث أن اتسع نطاق هذا «الترتيب»، أو هذه «المجموعة» السياسية في السنوات التالية، حتى صارت تضم في سنة 1808 ثلاثة وسبعين عضوا، أي كل «الحكومات» أو الدول الألمانية تقريبا، فيما عدا بروسيا والنمسا، فقد بقيتا خارج الاتحاد.
ولقد حصل هذا الاتحاد على «دستور» تحددت فيه حقوق وواجبات الدول التي يتألف منها بالنسبة لبعضها بعضا؛ فصار لهذه «الدول» مجلس أو «دياط» يتولى توجيه الإدارة المشتركة بينها، غير أن هذا الدستور بقي دون تنفيذ؛ لأن نابليون سمى نفسه «حامي اتحاد الراين»،
5
فتركز في يديه توجيه وإدارة شئون السياسة الخارجية من ناحية، وتجنيد الجيوش من أهل الاتحاد الصالحين للخدمة العسكرية من ناحية أخرى؛ وعلى ذلك فإن من المتعذر اعتبار «اتحاد الراين» دولة ألمانية تأسست في هذه البلاد، وإن كان الاتحاد - ولا شك - نوعا من التكتل الذي حصل في ألمانيا، والذي يعتبر من وجهة النظر هذه إجراء «جديدا» بالنسبة لحالة التشتت والتفكك التي كانت سائدة في ألمانيا قبل إنشائه.
وواضح من هذه التفصيلات التي ذكرناها أن شيئا مما حدث جميعه لم يكن يستند على مبدأ من المبادئ التي جاءت بها الثورة الفرنسية؛ فلم يكن هناك احترام لقاعدة التكتل وحق الشعوب في التجمع على أساس «التعاقد»، ولم يكن هناك وجود لقاعدة موافقة الشعوب على الحكومات التي إنما تتألف بناء على رغبة هذه الشعوب ذاتها ورضائها عنها، ولم يكن هناك مكان لمبدأ القومية، بل إن الذي حدث لم يكن سوى إجراءات و«ترتيبات» تعسفية وحسب، وأقوى دليل على هذا «التعسف» أن هذه الترتيبات استمرت تخضع لكل تلك التغييرات التي طرأت عليها والتي أفقدتها صفة «الاستقرار» الذي تعذر بدوره أن يكون من نصيبها؛ لأنها إنما وضعت قوة واقتدارا لمواجهة حالة طارئة وظرف معين، وللتغلب على «صعوبة» وقتية، أو لتنفيذ «فكرة» عابرة، ولا يحكمها سوى أطماع نابليون الشخصية، وطموحه هو نفسه، ولقد تعذر على كثيرين من المؤرخين - في ضوء كل الاعتبارات التي ذكرناها - التسليم بأنه كان لدى نابليون أية فكرة لقومية ألمانية تستند عليها إجراءاته و«ترتيباته» في ألمانيا.
ومع ذلك، وبالرغم من أن نابليون لم يكن لديه أية فكرة عن «خلق» قومية ألمانية، فإن العمل الذي أتمه في ألمانيا قد أدى إلى تكوين القومية الألمانية، وخلق شعور قومي ألماني، أما كيف أدت هذه «الترتيبات» النابليونية إلى خلق الشعور القومي الألماني، فذلك أمر يوضحه أولا: ملاحظة أن التركيز الإقليمي الذي أنقص عدد الدويلات الألمانية من (360) إلى (38) فقط كان إجراء لا يمكن الرجوع فيه، وخطوة اتخذت بصورة نهائية، ويتعذر بعدها إطلاقا عودة ألمانيا إلى ذلك التشتت، وتلك التجزئة التي كانت عليها في الأزمان السالفة، ولن تكون بألمانيا بعدئذ دولة كنسية أو مدن حرة.
ففي ألمانيا النابليونية لم يكن يوجد بها من الدويلات الضئيلة (أي أقل من خمسة آلاف نسمة) سوى ثلاث فقط، نجت لأسباب شخصية؛ أي لارتباطها بأشقاء نابليون نفسه، وتلك كانت الدوقيات الثلاث : جيرولدسيك
Géroldsek ، إيزمبورج
Isemburg ، ليشتنشتاين
Lichtenstein ، وبمعنى آخر فإن هذه التعديلات التي صنعها نابليون في ألمانيا جعلت التمهيد لوحدة البلاد ممكنا.
وتفسير ذلك أن عدم الاستقرار السياسي والإقليمي الذي شاهدنا كيف أنه كان «القاعدة» التي حكمت الإجراءات والترتيبات الإقليمية والسياسية النابليونية في ألمانيا، لم يلبث أن حطم الصلات أو الروابط التاريخية التي في وسعها تأييد الشعور المحلي في الحكومات المختلفة، وجعل هذه الروح المحلية شيئا مشروعا في آخر الأمر في ألمانيا.
فقضى عدم الاستقرار الإقليمي والسياسي على كل هذه التقاليد التاريخية الموضعية، و«القوميات» أو الوطنيات المحلية التي كانت تستند عليها، وثمة نتيجة هامة وأخيرة: هي أن الترتيبات الإقليمية والسياسية النابليونية قد اجتثت من جذورها قسما من طبقة النبلاء الألمانية المؤلفة من بارونات الإمبراطورية المقدسة، أي أولئك الفرسان الذين كانت أراضيهم سابقا تتبع مباشرة الإمبراطور «في الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة»، والذين لم تعد لهم الآن جنسية ما غير الجنسية الألمانية منذ أن اقتلعوا من أراضيهم التي كانت لهم، وهؤلاء الأمراء والنبلاء الذين فقدوا أراضيهم، «وعوضوا عن قسم منها» وانفصمت صلتهم بالإمبراطور «في الإمبراطورية المقدسة
Médiatisés »، لم تعد لهم أية حياة سياسية غير الحياة الألمانية، مثال ذلك البارون «ستين
Stein » الذي تردد ذكره كثيرا أثناء هذه الدراسة والذي يمثل نوع الألماني الأول الذي صار يدين بشعور الألمانية المتحدة.
ولا جدال في أن تلك كانت آثارا حقيقية وعميقة، وإن كانت ثمارها قد ظهرت بعد ذلك وفي وقت متأخر، بمعنى أنه كان بعد مرور سنوات عديدة أن صار مستطاعا تشكيل هذه الأحداث النابليونية في ألمانيا، في نتائجها التي أفضت إلى توحيد «أو اتحاد» ألمانيا.
في إيطاليا
ولقد كانت سياسة نابليون في إيطاليا أكثر وضوحا من سياسته في ألمانيا؛ لسبب واحد: هو أن نابليون كان غير مقيد بأية قيود في نشاطه في إيطاليا، بل حرا طليقا لدرجة كبيرة جدا، يفعل ما يشاء ويهوى بها، ولا جدال في أنه من الممكن بسهولة في هذا الميدان الإيطالي معرفة الأسس التي قامت عليها السياسة الأمبريالية «التسلطية» النابليونية، وما إذا كانت هذه «التسلطية » تنطوي ضمن ما تنطوي عليه على أي اعتبار لمبدأ القومية، أم أنها لم تكن تأبه لخلق قومية إيطالية.
ولعل أول ما تجدر ملاحظته أن إيطاليا كانت البلد الوحيد الذي راح نابليون يؤكد رغبته في أن يجعل منه «أمة» إيطالية، بل إنه لمما يشير إلى هذه الرغبة تسمية نابليون جمهورية ما وراء الألب عند تحويلها إلى مملكة «بمملكة إيطاليا»؛ فقد أراد نابليون أن يتم هذا التحول بصورة تشمل شبه الجزيرة الإيطالية، وحتى يتسنى إنشاء «مملكة إيطاليا» التي سوف تضم إليها حينئذ كل بلاد أو «دويلات» إيطاليا.
ولقد كانت هذه هي المرة الأولى التي يعطى فيها اسم «إيطاليا» إلى أي تكوين أو ترتيب سياسي في شبه الجزيرة الإيطالية، وعندما قدم الإيطالي «ملزي
Melzi » رئيس الجمهورية القديم (جمهورية ما وراء الألب) تاج «مملكة إيطاليا» الجديدة - وحصل التتويج في ميلان في 26 مايو 1805 - قال له نابليون: «لقد كانت رغبتي «أو نيتي» دائما إنشاء «أو خلق» أمة إيطالية حرة ومستقلة، وأنا أقبل التاج وسأحافظ عليه، ولكن طوال الوقت - فقط - الذي تقتضي فيه مصالحي أن أفعل ذلك.» وذلك تصريح يشمل معنيين: أولهما؛ أن إيطاليا كانت البلد الوحيد الذي أكد نابليون رغبته في أن يخلق به «أمة»؛ أي كان منتظرا لذلك أن يتبع في إيطاليا سياسة إن لم تقم على أساس قومي، فهي بالأقل تعترف بمبدأ القومية. وأما ثانيهما: فهو أن المصلحة «الشخصية» حسب تصريح العاهل الفرنسي كانت «نقطة الابتداء» بالنسبة للسياسة النابليونية في إيطاليا، ولقد تقدم كيف أن نابليون قد طاف في ذهنه خيال إنشاء مملكة لنفسه في إيطاليا قبل ذلك، وكيف أنه أراد فعلا أن يتخذ من إيطاليا «مقفزا» لتحقيق أطماع التوسع والمجد والشهرة، آية ذلك تلك «الترتيبات» التي تضمنتها معاهدة «كمبو فرميو» خصوصا - 1797 - لإنشاء سيطرة قوية في حوض البحر الأبيض المتوسط، ولإنشاء سيطرة «شرقية»، وفي كلا الأمرين احتلت إيطاليا مكانا مرموقا في برامج تلك (السياسة العظمى) الخاصة بالسيطرة، سواء في البحر المتوسط أو في «الشرق».
ولقد كان في وسع نابليون - كما ذكرنا - أن يعيد تنظيم إيطاليا بالصورة التي يريدها؛ فقد سبق أن أوضحنا كيف قضت «الثورة الفرنسية» على إيطاليا «التقليدية» أو إيطاليا «التاريخية»، ثم إن النمسا منذ أن أبرمت معاهدة «برسبورج» - في 26 ديسمبر 1805 - كانت قد طردت كذلك من إيطاليا؛ وعلى ذلك فقد صار نابليون «مطلق اليد» حر التصرف، كما صار الميدان مفتوحا أمامه في إيطاليا لينشئ تلك «الأمة الإيطالية» التي تحدث عنها - إذا شاء أن يفعل ذلك حقا.
ومع ذلك، فقد سلك نابليون في إيطاليا طريقا، أقل ما يوصف به أنه قائم على النزعات والنزوات الشخصية المتعارضة والمتناقضة، ومن المقطوع به أنه لم تكن لديه أية فكرة عن «وحدة إيطالية»، اللهم إلا إذا اعتبرت كذلك تلك الصورة التي ارتسمت في ذهنه عن إخضاع أقاليم إيطاليا رويدا رويدا في «مجموعة» واحدة لإرادته وسلطانه وتوجيهه الشخصي والمباشر، وفيما عدا ذلك فالذي جرى في ألمانيا كان نفس ما حصل في إيطاليا من حيث «المزج» بين آراء غريبة ومتناقضة، قامت على أساسه الترتيبات الإقليمية والسياسية في إيطاليا.
فهناك «الملكية»، وهي أقدم الصور التي أحاط بها إطار هذا «المزج»، فتأسست في سنة 1805 «مملكة إيطاليا» التي تحدثنا عنها، والتي أخذت بمقتضى معاهدة «برسبورج» البندقية «فنيشيا» والأملاك البابوية في شمال جبال «الأبيناين»، الأمر الذي يبدو منه كأنما قد تم توحيد إيطاليا الشمالية، ومع ذلك فإن إيطاليا الشمالية هذه كانت قد اقتطعت منها جنوة، وبيدمنت، وأدمجتا في الإمبراطورية الفرنسية؛ فترتب على ذلك وجود «ثنائية» في النظام السياسي السائد في إيطاليا الشمالية، لا جدوى منها ولا طائل تحتها، حيث دخل قسم منها في نطاق الإمبراطورية الفرنسية فصار مندمجا بها، في حين بقي القسم الآخر يؤلف مملكة كان نابليون نفسه ملكا عليها.
ولقد عرفنا أن «تسكانيا» قد تحولت إلى مملكة «إتروريا» على يد نابليون ، لينال تاجها ابن دوق بارما المتزوج من ابنة ملك إسبانيا، وذلك ترتيب اقتضاه صالح سياسة نابليون الإسبانية، وقد صارت ابنة ملك إسبانيا «ماري لويزا» وصية على مملكة «إتروريا» باسم ابنها، أو نيابة عنه لوفاة والده - لويس دوق بارما - منذ شهر مايو 1803.
ثم إن نابليون لم يلبث أن أعطى في السنة نفسها (1801) جمهورية «لوقا» ودوقية «ماساكاراري
Massa-Carrare » إلى شقيقته «إليزا باكيوشي»، وأخيرا فقد أقصيت أسرة البربون عن عرش نابولي، وهي الأسرة التي قرر نابليون إسقاطها في ديسمبر 1805، ثم أعطى مملكة نابولي إلى أخيه جوزيف في 30 مارس 1806، ثم إلى «مورا» الذي خلف جوزيف على عرشها في سنة 1808 - وقد تقدم تفصيل كل ذلك في موضعه.
ويستبين من هذه الإجراءات المتخذة في إيطاليا، أنه كانت هناك ثلاث «فكرات» متباينة تستند هذه عليها، أولاها: فكرة شخصية متمثلة في وجود «المملكة الإيطالية» التي ليست مملكة فرنسية أو مندمجة في كيان الإمبراطورية الفرنسية، ولكنها تابعة لهذه الإمبراطورية ويملكها نابليون «شخصيا»، وثانيتها: فكرة فدرالية «اتحادية» من نمط تلك الفكرة التي لوحظت في ألمانيا، وانبنى عليها الترتيب السياسي والإقليمي بها، وثالثتها: فكرة أسرية «أي عائلية» متمثلة في إنشاء مملكة نابولي لأخيه، وإمارة لوقا لشقيقته، ومع ذلك فهناك فكرة رابعة لا ندحة عن إضافتها إلى ما تقدم، وهذه كانت فكرة إقطاعية؛ لأن نابليون لم يلبث أن أنشأ اثنتى عشرة «إقطاعية» لماريشالاته، ثم إمارتين: إحداهما؛ لتاليران، وهي إمارة «بنيفنتو» المعروفة، والأخرى: لبرنادوت، هي إمارة «بونتي-كورفو
».
وهكذا كانت إيطاليا - ذلك الميدان المفتوح، والذي كان نابليون حرا طليقا يفعل فيه ما يشاء بمطلق إرادته - مسرحا لفكرات أربع متعارضة، ومتقاطعة.
ولم يكن هذا كل ما حصل؛ فقد أدخلت تعديلات جديدة بعد «تلست» - وهو الاتفاق بين نابليون والقيصر إسكندر، الذي يعين بداية مرحلة جديدة في تاريخ الإمبراطورية النابليونية - اختفت بسببها إتروريا، فأخذها نابليون لنفسه في 7 أكتوبر 1807، ثم وضع على حكمها شقيقته «إليزا باكيوشي» في السنة التالية (1808)، وأعطيت «إليزا» كذلك الحكم في «بارما»، و«بياكنزا» أو «البليزانس
»، وفي أبريل 1808 أضيفت إلى مملكة إيطاليا الأراضي الواقعة بين «كمبانيا الرومانية» وشاطئ الأدرياتيك، وهذه من الأملاك البابوية التي كان يحكمها البابا، وفي فبراير 1808 كانت قد احتلت روما نفسها، ثم لم تلبث أن أدمجت الأملاك البابوية في الإمبراطورية الفرنسية في 27 مايو 1809.
ومن الواضح أنه كان هناك اختلاف ظاهر في الأوضاع القائمة أثناء هذه السيطرة النابليونية في كل من إيطاليا وألمانيا؛ ففي إيطاليا اتخذ الخضوع للسيطرة النابليونية أشكالا ثلاثة: إما في صورة حكومات شخصية، يحكمها نائب ملك في مملكة إيطاليا، أو تحكمها شقيقة الإمبراطور في تسكانيا، وإما كحكومات خاضعة لسيطرة فرنسا مباشرة، وتؤلف جزءا من الإمبراطورية الفرنسية في روما، وجنوة، وبيدمنت، وإما حكومات تابعة، يتولى الحكم فيها شخص مفروض عليها فرضا، وذلك في مملكة نابولي.
وعلى ذلك فقد اختفى النظام السابق في إيطاليا اختفاء تاما، واستعيض عنه الآن بقيام «تركيز إقليمي» لم يترك سوى أربع كتل إقليمية فحسب، هي: مملكة إيطاليا، (تسكانيا)، الأملاك البابوية القديمة، مملكة نابولي، ومع ذلك فإنه لم يكن هناك وجود «للوحدة» القومية أو السياسية في هذا الترتيب الإقليمي والسياسي، والذي لم يكن يستهدف بحال من الأحوال إنشاء تلك «الأمة الإيطالية» التي تحدث عنها نابليون، وعن رغبته ونواياه الصادقة في «خلقها»؛ فلم ينشئ نابليون إيطاليا.
وفي ضوء ما تقدم جميعه يصبح متعذرا القول بأن نابليون - سواء فيما يتعلق بألمانيا أو إيطاليا - كان يتبع سياسة ترمي إلى إحياء القوميات وبعثها، أو أنه قد أوجد إطلاقا في البلدان التي دانت لسلطانه، شعورا قوميا؛ بمعنى أنه كان يسعى «إيجابيا» لخلق هذا الشعور القومي عن طريق سياسة مرسومة تهدف لهذه الغاية بذاتها.
في سائر أوروبا
على أنه قد يكون للعاهل الفرنسي سياسة أوسع مدى بالنسبة لتنظيم أوروبا بأسرها، على اعتبار أن التقطيعات والتجزئات التي حصلت في ألمانيا وإيطاليا خصوصا، ليست سوى خطوة أو خطوات تمهيدية، قد تؤدي إلى إنشاء «دولة» فذة في نوعها، فلا تعود تلك التقطيعات والتجزئات مما يؤبه له، سواء أكانت عابرة أم كانت باقية ومستديمة، طالما أنها سوف تمهد في النهاية لظهور القوميات، والاعتراف بها في أوروبا.
ولقد سبق في بداية هذا البحث أن كنا عرضنا لرأي المؤرخ الفرنسي «جورج ليففر» الذي فسر السياسة النابليونية في ضوء ما أسماه «بالنظام القاري»، الذي أخذ به نابليون بعد «تلست»، ويتلخص رأي «جورج ليففر» في أن نابليون إنما كان يبغي من سياسته اتحاد أوروبا بأجمعها، بأن تندمج تدريجيا في كيان «الإمبراطورية العظمى»، تلك الإمبراطورية التي تأسست في سنة 1805 أولا، ثم تلك التي جرى إنشاؤها بعد سنة 1807 في نطاق «النظام القاري» الذي فرضه نابليون على أوروبا، والذي كان متوقعا أن يحيل هذه الإمبراطورية العظمى النابليونية إلى إمبراطورية من الطراز الروماني، متحدة أو موحدة، ويتولى إدارة شئونها رئيسها الأوحد فقط، ويدفعها أو يوجهها دافع أو حافز سياسي واحد يلزم هذه الإمبراطورية السير بأجمعها في طريق واحد.
ويستمر «جورج ليففر» فيقول: «إن الفكرة التي كان يدين نابليون بها عند تطبيق هذا «النظام القاري» على أوروبا، كانت إدخال «تجديد سياسي» على أحوال القارة، من حيث إعادة التنظيم الإداري والاجتماعي بها، وإنعاشها أو إعادة الشباب والفتوة إليها، وتلك الفكرة - «فكرة التجديد السياسي» - هي التي كانت بمثابة «الملهم» لنابليون، والتي أوحت إليه بكل الإصلاحات الداخلية التي أتمها فعلا، أو كان يريد تنفيذها في كل الدول التي خضعت لسيطرة فرنسا، وأما الأداة التي وضعت بها هذه الفكرة «التجديدية» موضع التنفيذ؛ فكانت «قانون نابليون
Code Napoléon ».»
وتلك نظرية في رأي كثير من المؤرخين «مغرية» حقا، ومع ذلك، فلو صح أن «النظام القاري» كان هدف نابليون، أي إنشاء «وحدة» أوروبية في نطاق «الإمبراطورية العظمى»، تحت السيطرة الفرنسية والنابليونية، فإن هذا النظام القاري نفسه متعارض مع مبدأ القومية؛ لأن «التجديد» المنشود سوف يبعث إلى عالم الوجود تنظيما سياسيا من طراز «الملكية العالمية» التي راجت فكرتها خلال القرن الثامن عشر، والتي شوهد رواجها قبل ذلك خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر، لصالح الإمبراطور شارل الخامس أولا، ثم لصالح لويس الرابع عشر؛ ولأن هذا «التجديد السياسي» إنما كان معناه خلق حضارة معينة، لا تلبث حتى «تذوب» في أتونها حضارات الشعوب المختلفة، أضف إلى هذا أن فكرة «النظام القاري» من وجهة النظر الفرنسية، إنما تعني بسط السيطرة الفرنسية على أوروبا بأجمعها، وتلك كانت السياسة التي اتبعتها «الثورة» في الإقليم الواقع خلف نهر الراين، فأرادت «الإمبراطورية» الآن أن تجعلها تمتد حتى تشمل أوروبا بأسرها.
ومن المقطوع به أن نابليون في اتباعه هذه السياسة لم يكن يستهدف غير تحقيق المصلحة الفرنسية، وليس صالحا أوروبيا، ينهض دليلا على ذلك التعليمات التي زود بها الملوك والملكات الذين أعطاهم السيطرة في أوروبا، وكانت هذه تعليمات متفقة جميعها في الغرض المرجو منها؛ فهو يقول لأخيه «لويس»: «لا تنقطع عن أن تكون دائما فرنسيا»، ويكتب إلى «مورا»: «تذكر أني إنما جعلت منك ملكا لصالح نظامي»، ويكتب إلى أخته «كارولين»: «إني أرغب قبل كل شيء آخر أن تجري الأعمال بما يتفق وصالح فرنسا، فإذا كنت قد غزوت ممالك وصارت لي فتوحات؛ فذلك حتى تفيد منها فرنسا»، وأما أولئك الملوك والملكات والغراندوقات الذين «خلقهم» نابليون، وسلمهم مقاليد الحكم في أنحاء أوروبا، فقد كانت «تصرفاتهم» موضع استنكار الإمبراطور الشديد، إذا هم حادوا عن السياسة التي يعتبرها نابليون في صالح فرنسا، فيغضب عليهم، بل وينتهي الأمر بإلغاء مناصبهم، وضم الدول التي أعطاها لهم إلى فرنسا، كما حدث عندما غضب على أخيه «لويس» في هولندة.
ولقد اتسمت السياسة التي اتبعها نابليون وفرضها على بلدان أوروبا الخاضعة لسلطانه بالتناقض؛ فلم تكن سياسة الإصلاحات الداخلية واحدة، لا في «الأماكن» ولا في «المناسبات» المتشابهة، بل كانت هناك سياسة قد يصح القول بأنها متلائمة مع كل دولة أو حكومة على حدة. مثال ذلك ما حصل في ألمانيا التي وجد بها «دولتان» متجاورتان، هما: غراندوقية فرانكفورت ومملكة وستفاليا؛ ففي كل منهما قامت سياسة داخلية مختلفة، واختلف التنظيم الداخلي في كل منهما عنه في الأخرى، بالرغم من تلاصقهما.
ثم في إيطاليا التي يعتقد «جورج ليففر» أن «النظام القاري» قد بلغ بها ذروة كماله، لم تكن هناك سياسة داخلية موحدة في كل تلك التجزئات أو الأقسام التي أوجدها الإمبراطور الفرنسي، بل إن هذه الاختلافات في السياسة الداخلية مشاهدة كذلك في البلدان التي خضعت لإدارة نابليون مباشرة، ثم إنها أبرز وضوحا أيضا في البلدان التي كانت تحت «حمايته»، فاختلفت التنظيمات الداخلية في كل من بفاريا وورتمبرج وبادن عنها في الأخرى.
والحقيقة أن الإصلاحات التي حصلت على يد نابليون نفسه ، أو كانت «مستوحاة» منه في مختلف أنحاء أوروبا، كانت مختلفة بعضها عن بعض، بل وكانت متناقضة، ولا تبدو لهذا السبب نفسه أنها «أداة» أو وسيلة طيبة لتثبيت أقدام السيطرة الفرنسية، وتوطيد سلطان فرنسا في أوروبا، وهذا الاختلاف والتناقض كان مبعث الرأي الذي أخذ به فريق من المؤرخين الفرنسيين، وعلى رأسهم المؤرخ «شارل بوتاس
» الذي يقول: «إنه من المتعذر بتاتا الاعتقاد بوجود «سياسة منسقة» ومترابطة يسير عليها نابليون في أوروبا ويسعى لتنفيذها وتحقيقها، بل كل ما هنالك أنه وجدت طائفة من الحلول لمعالجة المواقف الطارئة، والتغلب على «الظروف» الوقتية.»
ومع ذلك فإن هذا المؤرخ (شارل بوتاس) كان من بين الذين لاحظوا أن هذه السياسة غير المنسقة والتي تألفت من «حلول» لمعالجة مشكلات «طارئة» وفي مناسبات وظروف وقتية، كانت تعمد إلى استخدام فكرة القومية بدرجة معينة، وكوسيلة تجعل تنفيذ هذه السياسة ممكنا، على نحو ما فعل نابليون عندما جعل الشاعر الهنغاري «باكساني
Bacsanyi » يوجه نداء للهنغاريين في 15 أغسطس 1809 يدعوهم فيه إلى «استئناف حياتهم كأمة»، ومع ذلك فإن هؤلاء لم يلبوا هذه الدعوة الموجهة لهم.
وقد يتضح المعنى الذي صورته فكرة القومية والقوميات في ذهن نابليون، من محاولته إظهار الفوائد التي يجنيها أخوه «لويس» ملك هولندة لصالح هذه البلاد، إذا هو ظل «هادئا مستكينا»، فيقول نابليون (في 20 مايو 1805): «إنه يستطيع أن يضم إلى هولندة كل شمال ألمانيا الغربي»، معللا ذلك بأن هذا القسم نواة لأولئك الشعوب الذين يفقدون روحهم الألمانية، الغرض الأول الذي تستهدفه سياسته، وواضح أن هذا القول ينطوي على مناقضة تامة لأية سياسة قومية، حيث يقرر نابليون نفسه في هذه العبارة أنه يريد أن يفقد الألمان «روحهم الألمانية».
ومن هذه الناحية تعتبر بولندة خير مثال لبيان الطريقة التي عالج بها نابليون فكرة القومية، فقد سبق أن لاحظنا كيف أن مصير بولندة كان مرتهنا بمشيئة نابليون، وأن نابليون لم يكن ينظر إلى بولندة إلا «كورقة» سياسية وعسكرية في يده، «يلعب» بها كما «يلعب» بها القيصر إسكندر نفسه، ولم يكن القيصر إسكندر يأبه لآمال البولنديين الوطنية؛ فقد أعد البرنس «تزارتوريسكي» مذكرات بعث بها إلى القيصر في شهري يناير وأبريل، ثم في ديسمبر 1806 يحاول فيها إقناعه بضرورة إحياء مملكة بولندة القديمة دولة جديدة، وبأهمية إنشاء اتحاد فدرائي من الشعوب السلافية حول روسيا وتحت حمايتها، باعتبار أن يكون ذلك بمثابة القاعدة لسياسة روسية «عظيمة» تكفل لها السيطرة على تركيا، وعلى حوض البحر الأبيض المتوسط، ولكن هذه المحاولات ذهبت سدى، ولم يصنع القيصر الروسي شيئا لإحياء بولندة.
ونظر نابليون من ناحيته إلى بولندة كمسألة «طارئة» لمعالجة «ظروف» وقتية فحسب، وتتصل - كما يتوقع هو - بعلاقاته مع روسيا أو «بالحل» الذي قد يفوت على روسيا أغراضها في السيطرة على تركيا والبحر المتوسط؛ ففي «النظام النابليوني» تجاور بولندة وتركيا روسيا، الأولى من الغرب، والثانية من الجنوب، وتجعلان روسيا في «عزلة»، وتبعدانها من السيطرة في البحر الأبيض المتوسط؛ وعلى ذلك فقد بقيت بولندة في يد نابليون «أداة» - وحسب - لمعاونته على معالجة مشكلة طارئة، هي بالأقل احتواء روسيا داخل حدودها ومنع امتداد نفوذها غربا إلى وسط أوروبا، وجنوبا إلى البحر المتوسط؛ ولذلك فقد راح نابليون يساوم بمصير بولندة في مفاوضاته في آخر سنة 1808 مع قيصر روسيا، في موضوع زواج العاهل الفرنسي من شقيقة القيصر الغراندوقة كاترين، فعرض إعطاء القيصر بولندة لقاء الزواج من أخته، وفي اللحظة التي أراد فيها نابليون (في سنة 1809) محالفة القيصر ضد النمسا، عرض نابليون إعطاء القيصر إسكندر إقليم غاليسيا، وهو الذي كانت قد حصلت عليه النمسا في تقسيم بولندة الثالث (سنة 1795) ولم تكن هذه «المساومات» - كما هو ظاهر - تنطوي على محاولة لتحقيق وجهة نظر بولندة.
ثم إنه حدث خلال العمليات المشتركة التي قام بها الروس والبولنديون أثناء حملة 1809 ضد النمسويين في «غاليسيا» أن وقعت اصطدامات بين الفرق الروسية والفرق البولندية، مما يدل على تعارض «السياستين»: الروسية والفرنسية، ومع ذلك فقد نال القيصر في معاهدة فينا «شونبرون» التي أبرمت مع النمسا في أكتوبر 1809 جزءا من غاليسيا (إقليم تارنبول)، في حين أعطيت بقية غاليسيا إلى غراندوقية وارسو.
وبالرغم من هذا «التصرف الشخصي» في مصير البولنديين، فقد بقي هؤلاء يتحمسون لنابليون حماسة عظيمة، وبلغ اعتقادهم - كما يقول المؤرخ الفرنسي «البيرسوريل» - في قدرة نابليون على إحياء أمتهم درجة لا يعدلها غير حماس البولنديين المعروف للتضحية بأرواحهم في سبيل إحياء مملكة بولندة القديمة، وراح البولنديون يؤيدون نابليون، وبعد هزيمة بروسيا سنة 1808 التف هؤلاء حول الفرنسيين زرافات ووحدانا عندما وصل نابليون إلى وارسو، ثم إنهم انخرطوا في سلك الجيش الفرنسي، ولقد ظلوا متمسكين بإيمانهم بالعاهل الفرنسي، ويغذي حماسهم الأمل إلى النهاية، بأن نابليون سوف يعمل قطعا لإحياء بولندة وبعث الأمة البولندية.
على أن الذي فعله نابليون - أي إنشاء غراندوقية وارسو (في صلح تلست في يوليو 1807) - لم يكن ذلك الذي عقد البولنديون عليه آمالهم، أضف إلى هذا أن الذي قام بتنظيم حكومة الغراندوقية الجديدة كان الفرنسيون، وليس رئيس «الدولة» الجديدة، ملك سكسونيا الذي ظل مقيما في درسدن، ولم يمارس شئون الحكم في دولته الجديدة، وقد حصل البولنديون من نابليون على دستور (في 22 يوليو 1807) أنشأ سلطة تنفيذية وأوجد تمثيلا للشعب في مجلس «دياط» يتألف من غرفتين: مجلس شيوخ من النبلاء، ومجلس نواب من ممثلين للأهلين على قاعدة الانتخاب بدفع قدر معين من الضرائب، على أن هذا التمثيل «الأهلي» لم يكن مجديا؛ لأن مدة انعقاد «الدياط» جعلت خمسة عشر يوما فقط كل سنتين مرة واحدة.
وإلى جانب هذه «الحكومة المركزية» جعل نابليون للبولنديين أنظمة أو مؤسسات حكومية من نمط الأنظمة الحكومية الفرنسية: إدارات وزارية، ومصالح «أو إدارات» عامة كبرى وهكذا، ولو أن بولندة تقلصت في هذا الترتيب أو «النظام النابليوني» إلى غراندوقية وارسو، فقد صار لها لأول مرة في حياتها سلطة مركزية محددة، ونظام معين من الموظفين الفنيين أو المحترفين، وفي هذه الغراندوقية أدخل الإمبراطور في سنة 1810 القانون المدني الفرنسي، بعد أن ألغى «رقيق الأرض»، وكان إلغاء رق الأرض كل ما فعله نابليون للفلاحين البولنديين.
ومع أن بولندة النابليونية هذه كانت ذات طابع أرستقراطي؛ فلم يكن أهل الطبقة الأرستقراطية يشعرون بالاطمئنان؛ بسبب السياسة النابليونية «المتغيرة»؛ فكانوا يخشون دائما من أن يعمد نابليون إلى سياسة تحريرية بعيدة الأثر في صالح الفلاحين.
وانقسم «العظماء
Magnates » أصحاب الأملاك الواسعة - والذين تتألف منهم الأسر العظيمة - فريقين: أحدهما؛ تميز بعدائه الصريح لفرنسا، وقد بقي هؤلاء يؤيدون «الترتيبات» الروسية السياسية، ومن هؤلاء كان البرنس «تزار توريسكي» الذي ظل يؤيد وجهة النظر الروسية، ثم الفريق الآخر؛ وهؤلاء انحازوا إلى جانب فرنسا، كما فعل «يونياتوسكي».
وبين هؤلاء وهؤلاء وقف رجال الدين موقفا «مبهما» أو «غامضا»، فهم قد أفادوا من السيطرة الفرنسية التي حفظت لهؤلاء أملاكهم ومناصبهم السامية في الدولة الجديدة، ولكنهم من ناحية أخرى كانوا غير مطمئنين للسياسة الفرنسية التي أعلنت حرية العبادة وحرية الضمير في الغراندوقية، وتزايد قلقهم وانزعاجهم بسبب انتشار المحافل الماسونية واتساع نشاطها في البلاد، كما أقلقهم ما أعطي لليهود من حقوق سياسية، ولو أنه كان بسبب هذا الانزعاج الكبير نفسه أن تقرر بعد فترة من الوقت سحب هذه الحقوق السياسية من اليهود مدة عشر سنوات، وكذلك حق امتلاك الأراضي، وعلى ذلك كان هذا القلق مبعث الشعور بعدم الرضى الذي أخذ يطغى تدريجيا على رجال الدين، وخصوصا لدى الرهبان الذين لم يلبثوا أن قاموا بحملة كبيرة ضد نابليون، عندما بدأ هذا سياسته المعروفة لاضطهاد البابا.
ولقد صادفت غراندوقية وارسو إلى جانب هذا كله طائفة من المشكلات الداخلية التي تزايد خطرها، واحدة بعد أخرى، ولو أنه من المتعذر معرفة نتائج هذه الصعوبات، وما قد ينشأ عن تفاقمها، أو الوصول إلى رأي قاطع بشأن الوضع الذي سوف تكون عليه بولندة بسبب هذه الصعوبات نفسها، والسبب في ذلك أن غراندوقية وارسو التي خلقها نابليون لم تعمر إلا وقتا قصيرا جدا، على أن الذي يجب ذكره سواء وجدت هذه الصعوبات أو انتفى وجودها، وسواء نال إنشاء هذه الغراندوقية رضاء الأمة البولندية رضاء تاما، أو أن البولنديين لم يشعروا بالرضى الكامل من ناحية تحقيق «الفكرة القومية» وخلق الوطن البولندي، فقد كان - ولا شك - إحياء بولندة - ولو أنه جاء بهذه الصورة المحددة - خطوة ذات شأن، بعد أن كانت هذه الدولة قد انمحت من الوجود، واختفت من خريطة أوروبا السياسية بعد التقسيمات الثلاثة المعروفة في القرن الثامن عشر.
ولذلك فقد بقي البولنديون وحدهم من بين شعوب أوروبا على ولائهم للعاهل الفرنسي، بالرغم من كل التقلبات «السياسية» التي حدثت بعد ذلك؛ فهم قد أمدوا جيوش نابليون في أول الأمر بثلاثة وخمسين ألف مقاتل، ثم بلغت القوات البولندية أثناء حملة روسيا تسعين ألفا، وفي جيش نابليون تولى القيادة ثلاثة عشر قائدا بولنديا، توفي منهم اثنان في المعارك الحربية، أحدهما: المارشال «بونياتوسكي»، وكان من بين ضباط الجيش النابليوني ستة بكباشية، ظلوا قوادا في الجيش الفرنسي بعد سنة 1815، ولقد بقي قسم من هذه القوات البولندية في فرنسا بعد سقوط نابليون، باعتبارهم «مهاجرين» في خدمة الجيش الفرنسي.
ولقد كان في بولندة إذن أن بلغت سياسة نابليون «القومية» ذروتها، وبالصورة المحدودة التي شاهدناها؛ ولذلك فمن المتعذر القول بأن نابليون كان نصير الحركات القومية في أوروبا، أو أنه بنى سياسته على تشجيع القوميات بها، وفي المرات القليلة التي نجم من سياسته «تشجيع» أو «إحياء» لهذه القوميات، لم يكن ذلك على الأقل شيئا حدث باختياره، أو كغرض معين اتجه صوبه عامدا وبناء على سياسة موضوعة تستهدف تحقيقه لذاته.
والحقيقة أن القوميات سوف تربح ربحا كبيرا من هذا «النظام النابليوني»، ولكن ليس كنتيجة «لمبادئ» و«توجيهات» منبعثة من نابليون نفسه، وإنما كرد فعل في شكل مقاومة عميقة وواسعة ضد السيطرة النابليونية في أوروبا.
الفصل الثاني
المقاومة ضد فرنسا
تمهيد
لقد شاهدنا عند الكلام على الأثر الذي أحدثته الثورة الفرنسية في أوروبا، كيف أن أوروبا قد رحبت - بصورة تكاد تكون إجماعية - بهذه الثورة، إذا استثنينا - بطبيعة الحال - تلك المصالح التي كانت متعارضة مع الثورة، سواء أكان أصحاب هذه المصالح أهل الطبقات صاحبة الامتيازات أم الحكومات التي أوجدها «النظام القديم»، ولا جدال في أن «الثورة الفرنسية» كانت تتمتع وقتئذ بسلطان روحي عظيم في أوروبا.
على أن هذه السيطرة الروحية سرعان ما تبدلت على يد نابليون، فصارت سيطرة مادية استبدادية، قائمة على إخضاع أوروبا وشعوبها، تحت سلطان ذلك «النظام القاري» الذي تحدث عنه «جورج ليففر» والذي كان متعارضا - كما رأينا - في جوهره مع مبدأ احترام القوميات وتحرير الشعوب، والذي تسبب عنه إثارة رد فعل كبير من جوانب متعددة ضد السيطرة الفرنسية والنابليونية، ولقد اتخذ رد الفعل الذي حصل شكل المقاومة الوطنية، الأمر الذي أحيا الشعور بالقومية ليسير جنبا إلى جنب مع شعور الوطنية.
والذي يجب ذكره - وعلى نحو ما فعلنا مرارا وتكرارا أثناء هذه الدراسة - أن نابليون لم يكن هو صاحب الفضل عن طريق إجراء مباشر أو غير مباشر ومنبعث منه في خلق القوميات الأوروبية، وإنما هذه قد برزت إلى عالم الوجود كحركة مضادة للسياسة النابليونية، ومن أجل مقاومة ذلك «النظام القاري» نفسه الذي عزاه بعض المؤرخين إلى العاهل الفرنسي.
وثمة ملاحظة أخرى: هي أن رد الفعل الذي حصل لم يكن متشابها في مقداره ومداه وآثاره، والزمن الذي وقع فيه، ولم يحدث رد الفعل هذا في البلدان جميعها في وقت واحد ولحظة ومناسبة واحدة، واختلفت النتائج كذلك التي ترتبت على حدوثه.
ولعل رد الفعل الأول، والذي يسهل تتبع آثاره، كان ذلك الذي حدث في مجموعة الدول «القديمة» في أوروبا، أي تلك التي تم تكوينها في الأزمنة القديمة، وصار لها كيان، بدأ النضال بين أهل البلاد وحكوماتها من أجل المحافظة عليه وحمايته ضد اعتداءات الغزاة الفرنسيين، وذلك نضال بدأ من وقت مبكر، ثم حصل في صورة رد فعل «وطني» كذلك، والذي يدعو للدهشة أن نابليون نفسه عجز عن أن يفطن لحقيقة هذه المقاومة الوطنية ورد الفعل «القومي»، بل إنه لم يكن يتوقع حدوثه، ثم صار لا يأبه له حتى بعد حصوله، ولعل أظهر مثال لذلك تلك المقاومة التي حطمت قواعد «النظام القاري» النابليوني في إسبانيا وروسيا، والنمسا وإيطاليا، إلى جانب هولندة والدول الألمانية مثل: بفاريا، ووورتمبرج، وبادن، وبروسيا خصوصا، وتلك كانت حركة المقاومة التي سوف تتبلور في «حرب الأمم» المعروفة للقضاء على السيطرة النابليونية في أوروبا.
في إسبانيا
فقد وقفت إسبانيا موقفا سلبيا من كل المناورات والاتفاقات السياسية التي قامت بها حكومتها؛ حكومة «جودي
Godoi » أمير السلام المعروف، وكان الغرض منها التهيؤ للحرب إلى جانب فرنسا، أو الدخول في محالفة معها، فلم يحرك الإسبان ساكنا، أما رد الفعل العكسي فإنه لم يلبث أن حدث مباشرة بمجرد أن حاولت السيطرة الفرنسية الاستقرار بإسبانيا وفرض نفوذها الشامل عليها، ولقد أجمع المؤرخون على أن نابليون لم يظهر قدرا من النفاق والقسوة الوحشية في معالجة شأن من الشئون مثلما بدا منه في معالجة هذه المسألة الإسبانية.
فرفض نابليون الاعتراف إطلاقا بأن في وسع الإسبان أن يكون لهم في مجموع البلاد الخاضعة لهم ذاتية أو كيان ذو ملامح خاصة به، بل اعتقد أن الإسبان - كما صار يقول - إنما هم كغيرهم من الشعوب الأخرى سوف يسعدهم أعظم السعادة قبولهم «الدساتير الإمبراطورية»؛ أي أنظمة الحكم التي تضعها لهم وتفرضها عليهم الحكومة الفرنسية، واحتقر نابليون من ناحية أخرى قدرة الثوار الإسبان العسكرية، ومدى الأعمال أو المقاومة التي كان في وسعهم أن يقوموا بها.
ولقد تسبب عن هذا الازدراء بالثوار والاستخفاف بقوتهم، أن عمد نابليون إلى بعثرة قواته وجيوشه في شبه الجزيرة، وإلى عدم إرساله إطلاقا القوات العسكرية الكافية للقضاء على المقاومة وإخماد الثورة في إسبانيا بصورة حاسمة فاصلة، ولم يعن بتنظيم جيشه في إسبانيا بالدرجة التي اعتنى بها عادة عند تنظيم جيوشه المحاربة في ميادين أخرى، حتى لقد صارت طبيعة البلاد الجغرافية والمسافات الشاسعة التي وجب أن تقطعها من مكان إلى آخر قوات مشاته العسكرية، من العوامل التي أدت إلى الهزيمة في عدة مواضع، وكان هذا الاستخفاف بقوات الإسبان المحاربة، مبعث إهماله تنظيم «القيادة العامة»، فانعدم أي تنسيق في عمليات القادة والرؤساء، وفي الحالات الاستثنائية القليلة التي كان نابليون موجودا ليتولى القيادة العامة أو الإشراف عليها بنفسه، درج قواده على العمل مستقلين عن بعضهم بعضا في «جبهات» القتال المتعددة، ومع ذلك فالجدير بالملاحظة هنا أن الإسبان ما كان في وسعهم بتاتا - سواء بوصفهم ثوارا يحاربون حرب عصابات، أو جيوشا نظاميين - أن يتخلصوا من الجيوش الفرنسية وحدهم، ومن غير أن يكونوا مؤيدين من الإنجليز، الذين كانوا أصحاب «السيطرة البحرية».
ولقد احتفظ الإنجليز بسيطرتهم في البحار دائما طوال الحرب ضد الثورة ونابليون، وكان بفضل احتفاظهم بهذه السيطرة البحرية أن استطاعوا «تغذية» الحرب في إسبانيا ونجدة الإسبان في قتالهم ضد فرنسا إلى النهاية.
أما نقطة البداية في رد الفعل الذي حصل ضد السيطرة الفرنسية النابليونية في إسبانيا، فكانت احتلال شمال إسبانيا بدعوى تأمين مواصلات الجيش الفرنسي في البرتغال، وهو الجيش الذي تولى قيادته الجنرال «جونو» في آخر سنة 1807 وبداية السنة التالية، ولقد مر بنا أثناء دراسة تاريخ الإمبراطورية النابليونية كيف أن «مورا» دخل إلى مدريد، العاصمة الإسبانية في 23 مارس 1808، وكيف أن «الأحداث» السياسية التي وقعت بعد هذا الاحتلال الفرنسي كانت تنازل الملك شارل الرابع عن العرش الإسباني في 14 مارس، ثم مقابلة «بايون» المشهورة التي نزل فيها الملك شارل الرابع وولده فردنند السابع في مايو من السنة نفسها «لصديقهما العزيز وحليفهما الإمبراطور» عن كل حقوقهما في عرش إسبانيا، ثم إعطاء تاج إسبانيا إلى جوزيف شقيق نابليون في 5 مايو 1808، ثم اجتماع «مجلس» انتخب أعضاؤه حسب الطريقة التي أرادتها الحكومة الفرنسية من ثلاث طبقات من الناخبين، استصدر دستورا «للملكية الإسبانية» بعد أن قبل جوزيف بونابرت تاج هذه الملكية، وقد دخل جوزيف مدريد يوم 20 يوليو.
وضد هذه السيطرة الفرنسية التي فرضت على الإسبان، حصل رد فعل مباشر في صورة مقاومة فعلية، وكان قد سبق هذه المقاومة حركة عصيان أو ثورة، وقعت في «أرانجوز» يومي 17، 18 مارس 1808، قلبت حكومة «جودوي» الذي ذكرنا أن تنازل الملك عن العرش لصالح ابنه كان السبب في إنقاذه من غضب الشعب، ثم وقع عصيان آخر بعد شهر من هذا الحادث الأول، وذلك بعد دخول الجنود الفرنسيين إلى مدريد، فقضى «مورا» على هذا العصيان بقسوة ووحشية في اليوم التالي (2-3 مايو)؛ فكان حينئذ أن رفع الإسبان علم الثورة مباشرة.
والذي تجدر ملاحظته أنه لم يكن يوجد بإسبانيا طبقة متوسطة «بورجوازية»، اللهم إلا إذا استثنينا بعض المواني، خصوصا قادش ، ومعنى ذلك أنه كان مختفيا من إسبانيا ذلك العنصر الذي كان مستعدا في بقية أوروبا لقبول النفوذ الفرنسي، فأمكن إذن أن تتحد كل عناصر المجتمع الإسباني في مقاومة السيطرة الفرنسية، وأول هذه العناصر الجيش النظامي، حيث إن الثورة التي اشتعلت في إسبانيا الآن لم تكن من صنع الشعب وحده فقط؛ فقد أعلن الجيش الإسباني النظامي معارضته ومقاومته ضد فرنسا، في مجموعتين تشكلتا في التو والساعة، إحداهما: في الشمال في جاليكيا
Galicia ، وجالوتزو
Galuzzo ، والأخرى: في الجنوب في أندلوشيا
Andalucia ، وقد حصل هذا الجيش الإسباني على المعونة اللازمة - والتي بدونها ما استطاع أن يفعل شيئا - من الجيش الإنجليزي الذي نزل في البرتغال، وهكذا انعدم في إسبانيا - وعلى خلاف ما حدث في ألمانيا وإيطاليا - وجود أي تعاون أو مشاركة عسكرية بين الإسبان والفرنسيين.
وكان عنصر المقاومة أو الثورة الباقي هو الشعب، ولقد توافرت الأدلة من أزمان بعيدة على أن الشعب الإسباني متصف بالتعصب الديني، وبشدة التمسك بتعاليم المسيحية الأولى، ثم الكراهية للأجنبي، وذلك شعور ظهر جليا ضد الإنجليز أنفسهم، كما ظهر ضد الفرنسيين، ثم لم يلبث أن «تركز» ضد الآخرين لعدة أسباب؛ كان أهمها ولا شك: حدوث الغزو الأجنبي لبلادهم، ثم كل المساوئ والأضرار المادية التي تحملها الإسبان بسبب هذا الغزو نفسه، ومع ذلك فقد قامت الثورة أصلا في مقاطعات لم تتعرض لغزو الفرنسيين، وفي ذلك دليل على أن العاطفة الوطنية، أو الشعور الأهلي «القومي» كان الحافز على هذه الثورة، مع الأخذ بعين الاعتبار كذلك الأضرار المادية التي أشرنا إليها، والتي وقع عبئها على كاهل الشعب الإسباني.
فقد بدأت الحركة في إقليم «استورياس
Asturias »، وجاليكيا في الشمال وفي أندلوشيا في الجنوب، أضف إلى هذا كله أن القساوسة ورجال الدين كانوا أصحاب نفوذ «ديني» عظيم على الشعب الإسباني، استطاعوا بفضله أن يحرضوا «الفلاحين» على الثورة ضد الفرنسيين، ولا جدال في أن الشعور العميق بالكراهية للأجانب - الذين يمثلون في نظر الشعب الإسباني كل ما هو مخالف ومناقض للتقاليد الإسبانية العريقة - كان حافزا قويا من الناحية العاطفية، على تحريك المقاومة ضد الفرنسيين.
وعلى ذلك فقد كانت الثورة في إسبانيا حركة «جماهيرية» ساهم فيها الفلاحون وصغار الناس من أهل المدن، وبقول آخر: «سواد الشعب الإسباني»، ولقد كان بسبب اشتراك هذا العنصر الشعبي في الثورة، أن أخذت تذيع في أوروبا «أسطورة» الكفاح في إسبانيا، باعتبار أنها حركة مقاومة عمادها الشعب الذي وقف في جبهة واحدة في وجه الغزاة الفرنسيين.
وثمة عنصر آخر من عناصر «الثورة» أو المقاومة المسلحة ضد السيطرة الفرنسية؛ هو جماعة النبلاء الذين عظم لديهم الشعور بالكبرياء الوطني أكثر مما يشعر به سواد الشعب، ثم أثارهم ضد الفرنسيين - ولا شك - شعورهم بالكراهية ضد «نظام» عمد إلى إقصاء النبلاء؛ ففقد هؤلاء بسببه نفوذهم السياسي، وكل سلطة في البلاد، ولقد جعلهم ذلك يقومون مباشرة في وجه «جودوي»، ثم في وجه «فردنند السابع»، بمجرد أن أدركوا ارتباط هذا الأخير واتفاقه مع الفرنسيين «العنصر الأجنبي».
وأضمر النبلاء الإسبان عداء شديدا ضد «الإصلاحات» التي يريد إدخالها «النظام الفرنسي» والتي يمثلها هذا النظام نفسه، وهو «نظام» يقتضي إهدار كل الامتيازات التي كانت لطبقة النبلاء في إسبانيا، وتلك كانت امتيازات اجتماعية على وجه الخصوص، لم يكونوا يريدون التخلي عنها، حتى في الحالات التي صار بعض هؤلاء يميلون فيها إلى الإصلاح السياسي المأخوذ من الأنظمة الإنجليزية؛ فقد كان معنى استمرار السيطرة الفرنسية في بلادهم - مع ما تنطوي عليه هذه السيطرة من العمل لإزالة الحقوق الإقطاعية، وتقرير مساواة الأفراد أمام القانون - أن يفقد النبلاء الإسبان كل سيطرتهم الاجتماعية؛ ولذلك فقد كان أحد هؤلاء النبلاء، الماركيز «دي سانتاكروز
Santa-Cruz » هو الذي أعطى إشارة الثورة في «أوفيدو
Oviedo » في أوائل يونيو 1808.
ومع ذلك فقد كان العنصر الرابع - رجال الدين - هو العنصر الجوهري في هذه الثورة، حتى إن نابليون لم يلبث أن دمغ هذه الثورة وهو يعلق على الحوادث الجارية في إسبانيا بأنها ثورة رهبان!
1
والحقيقة أن عدد رجال الدين في إسبانيا كان عظيما، وأن هؤلاء كانوا أصحاب نفوذ قوي وسلطة كاملة، ولقد كان يفوق عدد رجال الدين في إسبانيا آنئذ، ما كان يوجد بفرنسا ذاتها منهم، في سنة 1789، مع أن عدد سكان فرنسا كان يزيد عن عدد سكان إسبانيا؛ فوجد بإسبانيا ستون ألفا من القساوسة العالميين (أو العلمانيين غير القانونيين)، وحوالي المائة ألف من القساوسة القانونيين، وكل هؤلاء كانوا جميعا في عداء ضد السيطرة الفرنسية، وللفكرة الفرنسية؛ لأن الثورة الفرنسية دأبت على اضطهاد رجال الدين، ولأن «النظام الفرنسي» إنما يرمز إلى تحويل الدولة إلى «دولة علمانية» والمجتمع إلى «مجتمع علماني»، ولأن نابليون العاهل الذي أراد أن يفرض السيطرة أو النظام الفرنسي على إسبانيا، كان في هذه الآونة ذاتها قد بدأ سلسلة اضطهاداته ضد البابا، رئيس الكنيسة الكاثوليكية، الأمر الذي أثار ثائرة العالم الكاثوليكي ضد الإمبراطور الفرنسي.
وعلى ذلك فقد ثار جميع رجال الدين الإسبان - باستثناء بعض أحبارهم في حالات نادرة جدا - ضد فرنسا، بل وكان رجال الدين هؤلاء هم الذين قاموا بتنظيم الكفاح ضدها، فيكتب (في 20 يونيو 1808) مطران أشبيلية من روما التي كان بها وقتئذ إلى مطران غرناطة، تعليقا على الحوادث التي أفضت إلى تسمية جوزيف بونابرت ملكا على إسبانيا:
لا شك أنك تدرك تماما أن الواجب علينا عدم الاعتراف بشخص «ماسوني» - أي من البنائين الأحرار - مهرطق، ولوثري «أي منشق على كنيسة رومة» ملكا على البلاد، كما هو حال كل أفراد أسرة بونابرت، وكل أفراد الأمة الفرنسية.
ولقد كان أصحاب الدور الأكبر، والكلمة النافذة أثناء الثورة، بعض هؤلاء الأحبار (كبار رجال الدين)، خصوصا مطارنة غرناطة، وإشبيلية، و«سانتاندر
Santander » وأرسل الأساقفة منشورات إلى القساوسة المحليين، يرشدونهم فيها إلى الخطة التي يجب أن يتبعوها، ثم كان رجال الكنيسة في أحايين كثيرة هم الرؤساء المحليون للثوار، من ذلك أن متزعم الثورة في (فالنسيا) كان الكاهن القانوني «كالفو
Calvo »، وفي «فالنسيا» هذه فتك الثوار بثلاثمائة وثمانية وثلاثين فرنسيا، ولقد كان في أحايين كثيرة الذين تزعموا الثورة هم رؤساء الأديرة، والرهبان، وحتى الراهبات كذلك، على أن «النظام الفرنسي» كان أصلا قد كفل احترام وضع رجال الدين؛ فلم يذكر «دستور بايون» شيئا عن تحويل إسبانيا إلى «دولية علمانية»، كما أن الكاثوليكية وحدها هي التي صار الاعتراف بها دينا رسميا للدولة، ولكن نابليون بمجرد استيلائه على مدريد بادر بإلغاء «محاكم التفتيش»، وحل الأديرة، وصادر ممتلكاتها، الأمر الذي صار سببا جديدا لاستثارة رجال الدين ضده.
وهكذا، فإنه على خلاف ما حصل في جهات أخرى من أوروبا؛ لم تلق «الآراء الفرنسية» المؤازرة اللازمة لتأييدها أو «الأداة» والوسيلة التي تروج بها، حتى إن الطلاب في جامعات «ألكالا
Alcala »، و«سلامنكا
Salamanca »، و«بلد الوليد
Valladolid » كانوا في طليعة الذين ناضلوا ضد السيطرة الفرنسية؛ فثار «النظام القديم» بكل بنائه الاجتماعي والديني في إسبانيا في وجه هذه السيطرة الفرنسية، والحقيقة أن التركيب الذي كان عليه هذا «النظام القديم» في إسبانيا آنئذ لم يكن يسمح بحال من الأحوال أن توجد في البلاد من أقصاها إلى أقصاها «عناصر» أو عوامل تحول دون حدوث هذه المقاومة المسلحة ضد فرنسا، وبذلك اتحدت جميع عناصر المجتمع الإسباني، فكانت يدا واحدة في كفاحها ضد «النظام الفرنسي».
ولقد كانت لهذه المقاومة أو الثورة الإسبانية «ملامح» معينة اختصت بها، أولها: تلك القسوة والوحشية التي اتسمت بها أحداثها والتي كان مبعثها من جانب الإسبان، التطرف أو المغالاة التي اتصف بها الخلق الإسباني من ناحية، ثم كل تلك الشدائد التي تحملها الشعب الإسباني نتيجة لهذه السيطرة الفرنسية الأجنبية المفروضة عليه من ناحية أخرى، فاتخذ النضال بين الفريقين من أساسه شكل المذابح والاغتيالات والقتل وتعذيب الأسرى، أو المعتقلين في الجيوش.
ولعل أبرز مثال لهذه «الوحشية» ما وقع لجيش «ديبون» و«فيديل» عند تسليم الفرنسيين المعروف في «بايلن» في 23 يوليو 1808، على أساس عودة هؤلاء إلى بلادهم، فرفض «مجلس إشبيلية» أن يعود الجنود إلى فرنسا، وبقي هؤلاء أسرى في جزيرة «كابريرا
Caberera » حيث ماتوا جميعهم جوعا، ولقد قابل الفرنسيون - وعلى نحو ما كان منتظرا - هذه القسوة بمثلها؛ فقد صاروا يعدمون الأهلين «بالجملة» ويحرقون القرى، فكان نضالا رهيبا، على أن هذه الفظائع التي ارتكبت كان مبعثها كذلك من جانب الإسبان، استثارة شعورهم الوطني أو القومي الذي وجد متنفسا له في هذه الصورة «العملية »، والتي تعددت أنواعها، والتي كان أبرزها - ولا ريب - ذلك الدفاع المجيد الذي ثابر عليه الإسبان طيلة شهرين بتمامهما - في يناير وفبراير 1809 - ضد الفرنسيين الذين ضربوا الحصار على «سارجوسه
Saragossa »، فدافع الإسبان عنها شبرا شبرا، وفقدوا في هذه المعركة الهائلة ستين ألفا من القتلى، عدا الذين هلكوا من المرضى وكانوا ثمانية وخمسين ألفا.
ثم إن من خصائص هذه الثورة أنها كانت عامة شاملة، خرجت من «أستورياس» و«جاليكيا» من ناحية، ومن «أندلوشيا» من ناحية أخرى، لتمتد إلى كل أرجاء إسبانيا.
ولقد اتخذت هذه الثورة في كل الأماكن التي نشبت بها شكلا يقوم على تأليف اللجان المحلية لقيادة الثورة، أي «المجالس الثورية» المعروفة باسم «جونتا
Junta »، جمعت العصابات وزودتها بالأسلحة لتجول في طول البلاد وعرضها، وأنشأت «المجالس الثورية» الجيوش المحلية (المليشيا)، ولقد أيدت هذه العصابات والجيوش المحلية (المليشيا) عمليات الجيوش النظامية، أو خاضت هي بمفردها المعارك، إذا تبين أن الجيوش النظامية مشتبكة في ميادين أخرى.
وبلغ عدد «المجالس الثورية» سبعة عشر مجلسا «أو جونتا» منتشرة في مختلف أنحاء إسبانيا، وتعتمد على تأييد الشعب الإسباني، وهذا «التنظيم» أو «العمومية» التي اتسمت بها الثورة هي التي تفسر - إلى حد كبير - عجز العمليات العسكرية الفرنسية؛ لأنه بالرغم من الانتصارات التي كان يحرزها الفرنسيون في المعارك التي خاضوا غمارها مع القوات الإسبانية النظامية أو الثورية، كانت لا تلبث حتى تبدأ عمليات جديدة في أماكن وميادين أخرى، فعجز الفرنسيون تماما عن إحراز نصر عسكري «فاصل» يحسم هذا النضال المستمر بينهم وبين الإسبان، ومع أنه من المسلم به أن الإسبان ما كانوا يقدرون في النهاية أن يظفروا بنتائج حاسمة، من غير المؤازرة المستمرة التي نالوها من الإنجليز، فقد كانت القوات الثورية الإسبانية كافية لتجعل الجيوش الفرنسية عاجزة من الناحية العسكرية.
وثمة طابع آخر لهذه الثورة أو المقاومة الإسبانية، هو اعتمادها على «الشعور المحلي»؛ لأن «عمومية» الثورة بالصورة التي شاهدناها، أي بمعنى اتفاق الكلمة ضد السيطرة الفرنسية لم تكن تدل على وجود «وحدة» أو اتحاد، تنصهر فيه كل عناصر المقاومة في جهد «قومي» متحد لتحرير «الأمة» الإسبانية من السيطرة الأجنبية؛ وذلك لأن التنافس كان شديدا بين «مجالس الثورة» المتعددة، حتى أمكن التمييز بين مجموعتين من هذه المجالس: إحداهما في الشمال، حيث كان مجلس «جونتا» استورياس، ثم مجلسا «جونتا» ليون
Leon ، وقشتالة القديمة تخضع جميعا لمجلس جاليكيا، حتى حدث أن انفصل سريعا المجلسان «جونتا» الأخيران عن مجلس جاليكيا.
وفيما يتعلق بالمجموعة الأخرى في الجنوب، اتخذ مجلس إشبيلية لنفسه اسم «مجلس (جونتا) إسبانيا والهند» أي الممتلكات الإسبانية فيما وراء البحار، ولو أن «جونتا إشبيلية» لم يكن يؤلف حكومة عامة، ومع ذلك فقد رفض «قائد» هذا المجلس الثوري، الكونت دي تيلي
Tilly ، أن يغادر جيش إشبيلية هذه المقاطعة للقيام بعمليات عسكرية في أقاليم أخرى، ولقد رفض كذلك «المجلس الثوري» في غرناطة المجاورة لها، الاعتراف بسلطان «جونتا إشبيليا» الذي يسمي نفسه «مجلس إسبانيا».
ولقد كان فقط في شهر سبتمبر 1809 بناء على اقتراح من «فلوريدا بلانكا
Florida Blanca » أحد السياسيين القدامى، ورئيس «المجلس الثوري» في مارشيا
Murcia
في الجنوب الشرقي، أن تقرر اجتماع نواب عن المجالس الثورية في المقاطعات المختلفة، في «مجلس» ينعقد بمدينة «أرانجوز»، يتألف من النبلاء ورجال الدين، على أن المناقشة في هذا المجلس سرعان ما تناولت المسائل السياسية، فظهر التعارض بين فكرتين: إحداهما فكرة «الاستبدادية المستنيرة»، ويتزعم هذا الاتجاه «فلوريدا بلانكا»، وفكرة الملكية من الطراز الإنجليزي، ويتزعم هذا الرأي «جوفيلانوس
Jovellanos »
2
الشاعر المسرحي.
ومع ذلك فقد نجح هذا المجلس في تأليف وزارة إسبانية، ولكنهم لم يعينوا «قيادة عليا»؛ لأن القواد آثروا الاحتفاظ باستقلالهم، وهكذا أمكن تأليف «جونتا مركزية»، غير أن هذه عجزت عن توطيد سلطانها، أو نفوذها الإداري في غير مقاطعتين اثنتين وحسب، وهما «ليون» و«قشتالة القديمة»، وهذا العجز عن إنشاء سلطة موحدة ومركزية وطنية يوضح ذلك الميل الغريزي لدى الإسبان الذين يميلون إلى التفكك «المحلي»، وإنشاء سلسلة من الوحدات الإقليمية ذات الطابع المحلي بمجرد اختفاء الطغيان المركزي، أي ظهور عجز السلطة المركزية عن فرض سلطانها الموحد على البلاد، وسوف تبرز هذه الحقيقة واضحة عند دراسة تاريخ إسبانيا بعد سقوط الإمبراطورية النابليونية خصوصا، ولو أن ظاهرة «التفكك» و«المحلية» هذه سوف تبقى من خصائص التاريخ الإسباني طوال القرن التاسع عشر، وحتى الجزء الأول من القرن العشرين.
على أن هذه الثورة أو المقاومة الإسبانية كانت تنطوي كذلك على «جرثومة» الانقسامات والاختلافات السياسية، التي صار لها شأن بعد فترة من الزمن، وخصوصا في المدة بين 1815، 1848 على نحو ما سنفصله في فصول تالية.
فقد استطاع «جوفيلانوس» في سنة 1809 أن يرغم «الجونتا المركزية» على دعوة المجلس الوطني «الكورتيز
Cortes » للاجتماع، فاجتمع الكورتيز في قادش في 24 سبتمبر 1810، وكان يتألف من أعضاء انتخبتهم مجالس «الجونتا» الإقليمية، فيما عدا المقاطعات التي تعذر فيها إجراء الانتخابات بسبب الغزو والاحتلال الفرنسي، فقد سمى اللاجئون من هذه المقاطعات في قادش الأعضاء الذين يمثلونهم في «الكورتيز» أو تولى تعيينهم مباشرة «مجلس الوصاية» الذي أنشئ في قادش كجزء من ذلك النظام المركزي الذي حاولوا إقامته في «غيبة» الجالس على العرش.
ولقد ضم «الكورتيز» إليه كذلك ستة وثلاثين نائبا يمثلون المستعمرات الإسبانية في أمريكا، جرى تعيينهم بنفس الطريقة، ويدل تأليف الكورتيز بهذه الصورة «الحرة» على أن طبقة معينة تدين بالآراء التقدمية، إذا قيست بسائر الطبقات الإسبانية، وفي مختلف أنحاء إسبانيا، كانت ذات أثر في تشكيل المجلس الوطني، ونعني بها الطبقة المتوسطة (البورجوازية)، فقد انفردت قادش وقتئذ بأنها المكان الوحيد الذي وجدت به فعلا طبقة بورجوازية هامة، وكانت الآراء السائدة في هذا المركز التجاري والسياسي الكبير آراء تقدمية نوعا وبدرجة صار بها «الكورتيز» - وبسبب الطريقة التي تألف بها كذلك - لا يمثل الرأي العام في إسبانيا بمجموعها ولا يتفق معه، ومع ذلك فإن هذا المجلس الوطني بحكم تأليفه، والآراء التي صار يدين بها من حيث مؤازرته «للنظام القديم» القائم على دعامتي الملكية والكنيسة وتأييد النبلاء ومعارضته للحركات الثورية، كان مناقضا للثورة في ذاتها.
وهذا «الكورتيز» هو الذي استصدر دستور 1812 لإسبانيا، وكان صورة من الدستور الفرنسي الأول (سنة 1791) مع تعديل أدخل عليه بشأن اتخاذ الكاثوليكية وحدها دينا للدولة، ولقد رفض القساوسة الاعتراف بهذا الدستور بالرغم من ذلك، ثم عمد الكورتيز إلى إلغاء محاكم التفتيش وإنقاص عدد الأديرة.
وهذا الدستور الذي صدر في سنة 1812 والذي قبلته إسبانيا «الرجعية» سرعان ما أصبح مثار الانقسامات السياسية بين مختلف الأحزاب الإسبانية عقب عودة الملكية، على أثر انهيار السيطرة النابليونية، وتقوض عروش «الإمبراطورية»، ودار الخلاف في عهد الملكية الراجعة، وحتى سنة 1848 بين الإسبانيين حول دستور 1812، إما لتأييده والتمسك به، وإما للقضاء عليه وإنهائه، وعلاوة على ذلك فقد صار لهذا الدستور نفسه أهمية كبيرة في تاريخ إيطاليا، عندما صار برنامج الثوار الطليان السياسي والذي عارضوا به طغيان الملكية المستبدة في بلادهم ورجعية «الحلف المقدس» وتداخله في شئون بلادهم لمحاولة إخماد الحركات القومية التحررية. •••
تلك إذن كانت العناصر المختلفة التي تألفت منها هذه الحركة القومية (الوطنية) في إسبانيا، ولقد كانت هذه الحركة «إسبانية» في خصائصها وملامحها، فالإسبانيون كان لديهم شعور قوي ونشيط بقوميتهم الممتزجة بوطنيتهم وبتقاليدهم، ولقد كان هذا «الشعور» هو مبعث المقاومة الشديدة ضد السيطرة الفرنسية، ومع ذلك فإن رد الفعل الذي حصل ضد هذه السيطرة، كان مع خطورته بسيطا للغاية من وجهة النظر المثالية؛ إذ إنه كان رد الفعل الوطني الذي لا مناص من حدوثه ضد الغزو الأجنبي.
وفي روسيا
كان رد الفعل الذي حصل ضد السيطرة الفرنسية شبيها بما حصل في إسبانيا؛ فلقد أسمى الروس حرب سنة 1812 «بالحرب الوطنية»،
3
وكانت هذه هي المرة الأولى التي تعرضت فيها بلادهم للغزو الأجنبي، وأحدق الخطر بالروس منذ أن غزا السويديون بلادهم في عهد بطرس الأكبر من نحو قرن مضى، وارتكب نابليون الخطأ الذي لم يكن محتملا أن يغير شيئا من قوة رد الفعل الذي حصل في روسيا، وذلك بأنه رفض أن يجعل الحرب «شعبية» أي مقبولة من الشعوب التي يهمها الانتصار على روسيا، خصوصا أولئك البولنديين الذين أرادوا إعلان إنشاء «مملكة بولندة» - في 28 يونيو 1812 - والذين أرادوا أن يضموا إليها المقاطعات التي كانت استولت عليها روسيا وقت تأليف غراندوقية وارسو وأن يضموا «ليتوانيا» إلى بولندة، وذلك ما كان مستعصيا على نابليون الموافقة عليه ؛ لأنه كان يريد المفاوضة مع روسيا.
ومن ناحية أخرى فقد عجز نابليون عن استمالة الفلاحين الروس إلى جانبه أثناء هذه الحرب الوطنية، أو فريق منهم على الأقل؛ لأنه لم يكن يجرؤ على إعلان إلغاء رقيق الأرض، والعمل من أجل توزيع الأرض عليهم، ولا ريب في أن نابليون لو أنه أقدم على هذه الخطوة لكان محتملا كثيرا نجاحه في جذب فريق من الفلاحين على الأقل، كما ذكرنا لتأييده، ومن المقطوع به على كل حال جذب سواد الشعب البولندي إلى جانبه لو أنه حقق مطالب «الأمة» البولندية السياسية والاجتماعية، ولكن نابليون فقد فرصة جعل الحرب الروسية «حربا شعبية» أي مقبولة من الشعبين البولندي والروسي على السواء، بسبب ما كان يدور في ذهنه من اعتبارات سياسية.
وأما المظهر الذي اتخذه رد الفعل ضد السيطرة الفرنسية أثناء حملة 1812، والذي دل على الطابع القومي الذي اتسمت به هذه الحرب الوطنية من الجانب الروسي، فقد كان اجتماع كلمة الروس، واتحاد الرأي فيما بينهم على رفض كل مفاوضة مع الفرنسيين بالرغم من محاولات نابليون المتكررة للدخول في المفاوضة مع حكومة القيصر إسكندر، وتشبث الروس بموقفهم حتى آخر لحظة.
ولم يكن هناك مجال للمفاوضة حينما انحصرت المسألة لدى الروس في واحد من أمرين: إما التمسك بموقف الدفاع فحسب؛ لإجلاء الفرنسيين عن الأراضي الروسية وتحرير هذه منهم، وتلك كانت وجهة نظر القائد «كوتوزوف
Kotouzov » وزعماء الروس القدامى، وإما على العكس من ذلك متابعة القتال بمجرد تحرير الأراضي الروسية إلى أن يتسنى إسقاط نابليون نفسه، والاطمئنان إلى تحرير أوروبا بأسرها، وذلك كان رأي القيصر إسكندر والدوائر المحيطة به، وكذلك اللاجئين في بلاط القيصر.
ولقد كان بفضل نشاط عصابات المقاومة الوطنية «أو القومية» أن أمكن هزيمة «الجيش الأعظم» الفرنسي، عندما عمدت هذه العصابات إلى تحطيم وإتلاف المؤن، وتخريب القرى في طريق الجيش الفرنسي الزاحف؛ حتى لا يجد الفرنسيون زرعا ولا ضرعا، وقاسى هؤلاء شدائد وأهوالا من المجاعة التي انتشرت بينهم، حتى إن الرأي الجديد بين المؤرخين يكاد يكون متفقا على أن «المجاعة » وحدها - وليس «البرد» كما هو شائع في «الأساطير» المتواترة عن «حملة 1812» - كانت سبب الهزيمة الرئيسي التي حاقت بالفرنسيين، فالثابت أن فصل البرد الشديد في روسيا لم يبدأ إلا بعد هزيمة الجيش الفرنسي واضطراره إلى الارتداد، وبعد أن كان قد وصل في تقهقره إلى «سمولنسك»، أي إن البرد القارس قد بدأ عندما كاد يكون الجيش الفرنسي متحطما تماما، بل إن البرد بقي بعض الوقت «معتدلا» إن صح هذا التعبير، فلم يكن نهر «بريزينا» متجمدا عندما حاول الفرنسيون واستطاعوا أن يعبروه، فلم يحطم البرد إذن الجيش الفرنسي، ولكن حرب العصابات هي التي حطمته، ومقاومة الروس أنفسهم.
وهكذا قوبل الغزو الفرنسي برد فعل «غريزي» ووطني للدفاع عن البلاد ضد الفاتح والغازي الأجنبي، ورد الفعل الذي حصل هو الذي أمكن بفضله تقوية الأمة الروسية وتماسكها وترابطها، ولقد ترتب على ذلك حصول رد فعل من نوع آخر، هو رد فعل ثقافي ضد آراء الغرب وأساليب تفكيره، تمثل في علمين من أعلام الأدب والفن، أحدهما: الموسيقي «جلينكا
Glinka » 1802-1857، والآخر: المؤرخ «كارامزين
Karamzin » 1765-1826، وقد أصابا شهرة واسعة، وكانا قبل الغزو قد أسسا صحفا أدبية في روسيا، وهما كذلك من الذين تأثروا قبلا بالآراء الفرنسية، وبالحركة التعقلية التي أتت بها فلسفة المعرفة والتنور الألمانية
Aufklärung ، ثم بالروح العالمية، أي: الشعور بالانتماء لكل الأوطان والبلدان
4
التي أتت بها هذه الفلسفة، ولقد تبدلت كل هذه الآراء على أثر رد الفعل الشديد الذي حصل بسبب غزو بلادهم، فحل محلها شعور بالوطنية و«المحلية» عميق.
وهذه الغريزة الوطنية التي أفضت إلى تأكيد وجود «قومية» كان لها كيان سابق، كانت كذلك العامل الذي أكد وجود القومية الهولندية، فقد زادت التقاليد القومية في هولندة قوة على قوتها أثناء السيطرة الفرنسية، ذلك بأن «الجمهورية الباتافلية» - التي أنشأها الفرنسيون - لم تلبث أن أدخلت الإصلاحات السياسية الضرورية، والتي ساعدتها على النجاح في الدفاع عن حكومتها الذاتية «واستقلالها الذاتي» في موقفها من فرنسا، حتى إن لويس بونابرت الذي فرضه شقيقه الإمبراطور ملكا على هولندة لم يلبث أن وجد نفسه مضطرا إلى العمل ضد «إرادة» نابليون الذي أراد أن تتبع هولندة نظام السياسة الفرنسية، وتقف إلى جانب فرنسا في «نظامها القاري»، فخسر لويس بونابرت عرش هولندة؛ بسبب اضطراره إلى مسايرة الشعور الذاتي «أو القومي» الهولندي.
ولقد أثار الهولنديون صعوبات عديدة في طريق طائفة من الإصلاحات - خصوصا الإصلاح الزراعي - التي أراد الفرنسيون إدخالها بالقوة في بلادهم، ثم إنهم صاروا يتحملون متاعب شديدة بسبب الأضرار الاقتصادية التي لحقت بهم من جراء «الحصار القاري» الذي فرضه نابليون على البلاد عنوة واقتدارا لمحاربة إنجلترة، وكان لهذا الأذى الذي لحق بالمصالح الاقتصادية أكبر الأثر في استثارة الشعور الوطني «أو القومي» القديم في هولندة، (ابتداء من سنة 1810)، ولم يقبل الهولنديون «القانون المدني» وسائر القوانين الفرنسية، ولم يقبلوا كذلك تخفيض الفوائد المحتسبة للدخول السنوية بقيمة الثلث (1810)، كما رفضوا إدخال الضرائب الفرنسية إلى بلادهم (1813)، ومما يجب ذكره أن كل الأثر الذي أحدثته هذه «المصالح المادية» لم يكن سوى زيادة شدة رد الفعل الوطني «أو القومي» الذي كان موجودا من قبل.
وأما النتيجة الهامة لهذه السيطرة الفرنسية في هولندة، فكانت تقوية شعور العطف نحو أسرة أورانج الوطنية وزيادة تعلق الشعب الهولندي بها، وإعطاء هذه الأسرة طابعا قوميا، جعلها مقبولة من سواد الأمة الهولندية عند عودة الملكية إلى هولندة بعد سقوط الإمبراطورية (1815). •••
وتلك الحالات التي درسناها لوجود رد فعل وطني ضد السيطرة الفرنسية في كل من إسبانيا وروسيا وهولندة، كانت حالات مبسطة للغاية من وجهة النظر المثالية لشعور وطني «أو قومي» مبعثه الشعب نفسه الذي كان لديه «قوميته» أو ذاتيته القديمة، على أن رد الفعل الذي حصل قد اتخذ مظهر العداوة الشديدة ضد السيطرة الفرنسية، كمقاومة وطنية لإجلاء الغزاة والفاتحين الأجانب عن البلاد، ولم تكن هذه المقاومة «الوطنية» مستندة إلى أية فكرة توحي بأنه كانت هناك يقظة قومية، أي مقاومة منبعثة عن شعور عام شامل بوجود اتحاد كل عناصر المجتمع في مجهود مشترك ناجم عن وعي كامل بضرورة تضافر كل أفراد الأمة، في نضال موجه لتحرير الأمة من كل سيطرة خارجية، بل إن الذي حدث في الحالات التي شاهدناها كان لا يعدو «مظاهر» لمقاومة فردية في بعض الأحايين، أو لمقاومة وطنية محلية في أحايين أخرى ضد الاحتلال الفرنسي والسيطرة النابليونية، ومعنى ذلك أن المقاومة التي حصلت إنما كانت من جانب «حكومات» معينة أو من جانب «أفراد»، وأن هذه «الحكومات» وهؤلاء «الأفراد» إنما تولوا المقاومة ضد الاحتلال الفرنسي من تلقاء أنفسهم، أي بدافع وطني «أو قومي» غرزي، وشعور وطني محلي، وليس بناء على شعور أهلي «أو قومي» عام.
وكان لتصدي «الحكومات» للمقاومة أهمية مزدوجة بالغة، من حيث إن ذلك قد ساعد أولا على زيادة تركيز السلطة المركزية في «الدولة» وزيادة قوة الدولة، ومن شأن ذلك تطور بناء الدولة، وتقدم تكوينها كوحدة سياسية كاملة، ومن حيث إن هذا التقدم ذاته في تكوين الدولة قد ترتب عليه زيادة الشعور «المحلي» قوة على قوته، بحيث صار يتعذر في حالات معينة أن يتم «إدماج» هذه الدولة المحلية في وحدة سياسية أعلى، وتتضح هذه الحقيقة بشطريها على وجه الخصوص فيما حصل في كل من بفاريا وبروسيا.
فلقد وصلت بفاريا إلى مرتبة «الدولة الحديثة» في عهد السيطرة الفرنسية، وذلك بفضل الإصلاحات التي كان بدأها الوزير البفاري «فون مونتيجلاس
Montgelas » منذ سنة 1800، والتي استمرت ابتداء من سنة 1807، ثم توجت باستصدار دستور سنة 1810، وتلك «إصلاحات» تمت بالتعاون مع فرنسا، وقد تناولت بناء الدولة نفسه، وأدت في الوقت نفسه إلى تقوية هذا البناء ودعمه، فإن بفاريا لم تلبث أن أنشأت عدة مصالح للشئون العامة مثل التعليم والقضاء والبريد، والخدمات والمعونة العامة «والموازين والمكاييل»، مما أوجد «بيروقراطية» أو خدمة حكومية تقوم عليها هذه الخدمات «والمصالح» العامة، وكان ذلك شيئا جديدا في تاريخ بفاريا.
ولقد خلقت هذه البيروقراطية للدولة وحدتها الاقتصادية؛ فعممت الضريبة المباشرة، وقضي على المكوس (الجمارك) الداخلية، وبدئ في عمل «تأريع» لتنظيم الضريبة العقارية «على الأرض»، ولقد أنشئت كذلك أجهزة للحكومة المركزية في شكل وزارات، ومجلس دولة ثم مجلس نيابي - كان بطبيعة الحال صوريا - لأنه لم تكن هناك حكومة برلمانية، ثم إن البلاد لم تلبث أن قسمت إلى «دوائر» أو مناطق إدارية، لكل واحدة منها الإدارات الخاصة بها، إلى جانب مجلس بلدي يخضع للإشراف الإداري الحكومي، ولقد جعل هذا التنظيم الحديث أملاك الملك الخاصة، ومرتبات الملك أو مخصصاته، منفصلة عن أملاك وأموال الدولة العامة؛ وبذلك أمكن بناء الدولة الحديثة في بفاريا.
ثم إن الوضع الديني في هذه «المملكة» لم يلبث أن طرأ عليه تغيير ملحوظ عندما تقرر مبدأ التسامح الديني في سنة 1803، وصار إلزاميا الالتحاق بالمدارس التي لا تمييز بين المذاهب فيها في سنة 1805، وحصل البروتستنت على «وضع» لهم في سنة 1809، ثم تحولت أموال الأديرة وأملاكها إلى أموال عامة (1802-1803) وحددت الحكومة البفارية علاقتها مع الكنيسة عندما استصدرت في فبراير 1809 «القانون الديني»
5
الذي وضع قيودا على سلطات الكنيسة (كنيسة روما) في صالح الحكومة البفارية عند محاولة رسم العلاقات بين الكنيسة والحكومة، مما أدى إلى منع إبرام أي اتفاق (كونكردات) بين هذه الحكومة وبين كنيسة روما؛ لرفض هذه الأخيرة القيود التي وضعت على سلطاتها.
ولقد تم إلى جانب هذا كله قدر من الإصلاح الاجتماعي، وإن لم يكن بنفس التقدم الذي شوهد في الإصلاحات السياسية، حقيقة ألغيت الطبقات صاحبة الامتيازات في سنتي 1807-1808 وألغيت المجالس التي كانت لها، ثم ألغي الرق والواجبات المفروضة على الأفراد بسببه، ولكن البارونات أو الأمراء الذين فقدوا أملاكهم وتبدل «وضعهم» بسبب التغييرات الإقليمية والسياسية التي حصلت
Mediatisation
بقيت لهم امتيازاتهم، كما تأسست لصالح طبقة النبلاء خصوصا بعض الامتيازات، ثم احتفظت هذه الطبقة بحقوق قضائية معينة، من ذلك «تسخير» الفلاحين وتشغيلهم في الأرض دون أجر، ومع ذلك وبالرغم من عدم السير بهذا الإصلاح الاجتماعي إلى نهايته، فقد ترتب عليه عموما اختفاء «النظام القديم»، واختفاء البناء الإقطاعي ليحل محلها تكوين فردية أو ذاتية سياسية جديدة، حديثة وقوية، لا شك في أنها سوف تكون عنصر مقاومة، بفضل العقبات التي سوف تضعها في طريق أي وحدة ألمانية في السنوات المقبلة.
وفي «الدول» المجاورة لبفاريا، مثل «ورتمبرج» و«بادن» حصل في درجات مختلفة وصور متفاوتة نفس ما حصل في بفاريا؛ بحيث صار وجودهما مبعث صعوبات وعراقيل عديدة وخطيرة في طريق الوحدة الألمانية، وهكذا فإنه بعد «الوحدات» أو «الذاتيات» السياسية الضئيلة والبائسة التي شوهدت في ألمانيا سابقا، لم تلبث أن وجدت بألمانيا وحدات قوية مستندة على وطنية وقومية قوية، على أن الذي تجدر ملاحظته أن هذه الوحدات القومية كانت وحدات مبعثها الشعور المحلي وحسب، وهو الشعور الذي قوي تحت السيطرة النابليونية أو بسببها، وكان لاستفحال خطر هذا الشعور المحلي الوطني آثار «معطلة» عندما جاء الوقت لإنشاء الوحدة القومية في ألمانيا بعد ذلك.
في بروسيا
ولقد حدثت نفس هذه الظاهرة في بروسيا كذلك، ولكن نتائج هذه «الذاتية» المحلية والشعور الوطني المحلي، كانت أشد خطرا وأعظم جسامة مما حصل في بفاريا أو في غيرها؛ وذلك لأن التحول أو التغيير الداخلي «الشخصي» الذي وقع في بروسيا لم تلبث أن شملت آثاره كل ألمانيا، ليس في هذه الآونة فحسب، بل وفي السنوات المقبلة، وعلى صورة أوسع مما ترتب على بروز «ذاتية» بفاريا، ومن أسباب ذلك أن إعادة تنظيم بروسيا، أثار اهتمام سواد الألمان أكثر مما أحدثته إعادة تنظيم بفاريا، حقيقة خضعت بروسيا آنئذ للإشراف «والسيطرة» الفرنسية، ولكن بروسيا بقيت مع ذلك الدولة الوحيدة «المستقلة» بصورة فعلية في ألمانيا، ولو أنها فقدت حوالي نصف أملاكها، والدولة التي احتفظت بتقاليدها المنبعثة من أمجادها القديمة، والتي كان المسعى لإحيائها وإنهاضها ضروريا لصنع «أداة العمل» التي سوف تكون ضرورية لتخليص ألمانيا من نير السيطرة الفرنسية، ولا جدال في أن العمل من أجل إحياء بروسيا ونهضتها إجراء أو «حركة» موجهة ضد فرنسا، سواء جاء هذا العمل من ناحية فريق من القادة والمسئولين الذين صح عزمهم على تدبير النضال ضد فرنسا، أو كان مبعثه ارتياح بروسيا لهذا التغيير، أي التحرر من السيطرة الفرنسية نتيجة لكل تلك الشدائد التي ظل يعانيها الشعب الألماني بسبب احتلال الجيوش الفرنسية لبلادهم.
ولقد تضافرت هذه الحقائق جميعها على أن تكسب حركة بعث بروسيا وإحيائها اهتماما اتخذ صورة قومية، كما صار لها نفوذ لم يلبث هو الآخر أن صار نفوذا قوميا.
ومع ذلك فقد كانت هذه «الحركة» - إحياء بروسيا ونهضتها - عملا بروسيا محضا، ثم إنه لم يكن نتيجة لحدوث ثورة أو انقلاب، بل إن الذي قام به كان البيروقراطية، ثم الجيش.
والحزب الوطني البروسي الذي نشد هذا البعث لم يكن سوى تلك الجماعة القديمة المحبة للحرب كخير وسيلة لتحقيق أغراض الدولة الناشئة، والتي عرفها «البلاط» البروسي من قديم، ولكن بعد أن دخلها «التجديد» ودبت فيها روح الشباب بفضل العناصر «الأجنبية» التي جاءت من مختلف جهات ألمانيا، لمعاونتها على بناء بروسيا في الظروف الصعبة التي كانت تجتازها الدولة وقتئذ، حيث كانت الحكومة البروسية قد لجأت إلى «كونجسبرج» في الظروف التي عرفناها، في حين استمرت الجيوش الفرنسية تحتل بروسيا حتى سنة 1808.
ولقد سبق أن تكلمنا عن إعادة تنظيم الجيش في بروسيا على يد «شارنهورست» وأصله من هانوفر، لجأ إلى بروسيا ليعيش بها، ثم «جنسينار» وهو من سكسونيا، وقد تعاون كلاهما مع الضباط البروسيين في هذا العمل، ومن هؤلاء الأخيرين كان «كلوزويتز
Clauzewitz »، فتناول الإصلاح تطهير القيادة العليا وتنظيمها، مع رئاسة هيئة أركان الحرب، وإنشاء القوات المقاتلة الألمانية في ستة جيوش، وتأسيس مدرسة حربية، ومصلحة للحرب
Kreigsdepartment
كانت بمثابة هيئة أركان الحرب العامة، وإعادة تنظيم قوات المشاة في ضوء الفنون العسكرية الفرنسية (ومن ذلك تجديد المدفعية).
ولعل أهم إجراء في نظر الكثيرين اتخذ كعمل عدائي موجه ضد فرنسا للتخلص من سيطرتها في ألمانيا آنئذ كان اختراع «نظام الاحتياطي» الذي أمكن بفضله أن تستغل هيئة أركان الحرب الألمانية لصالحها القيود التي فرضتها معاهدة فرنسا مع بروسيا بتحديد عدد الجيش البروسي برقم أقصاه (42000)، فقد تقرر لإمكان تجاوز القوات العاملة هذا العدد أن يتدرب الفلاحون الذين لا ينخرطون في سلك الجيش العامل تدريبا عسكريا، وذلك مدة الخدمة العسكرية «أو التجنيد» التي جعلت شهرا من الزمان، يعود هؤلاء بعدها إلى أعمالهم العادية؛ لينالوا تدريبا وتعليما عسكريا آخر على أيدي الضباط الذين يكونون في عطلة أو الجنود القدامى المسرحين، وهؤلاء العسكر الذين يجندون لمدة شهر واحد ليعودوا بعده إلى بيوتهم، حيث يتلقون هناك تعليما حربيا صاروا يسمون «بأحصنة التقوية أو النجدة»
6
ويؤلفون قوات «الرديف».
وهكذا استطاعت هيئة أركان الحرب البروسية تعليم وتدريب أعداد عظيمة من الفلاحين وإنشاء احتياطي للجيش، يدعون للخدمة العسكرية العاملة عند التعبئة، ثم إن هيئة أركان الحرب لم تلبث أن جددت تأليف هيئة الضباط وإعادة الشباب إليها، بأن أدخلت أفراد الطبقة المتوسطة (البورجوازية) في صفوف الضباط بعد اجتيازهم الاختبارات والتدريبات المخصصة لأولئك الذين يريدون التعليم للالتحاق ضابطا في الجيش البروسي، على أن الذي يجب ذكره أن هذا الجيش قد ظل جيشا بروسيا برغم من أنه قد أعيد نظامه، وصار تجديده حسب نظريات وآراء فرنسية، وتحت تأثير أغراض ونزعات قومية، فبقي الجيش - جيش بروسيا القديم - جيش نبلاء، وليس جيشا شعبيا أو قوميا، وإن كانت هيئات الضباط «القديمة» هذه قد صارت متأثرة بروح «وطنية» جديدة، ويسودها شعور العداء والكراهية ضد فرنسا.
ولقد شمل إحياء بروسيا وإنعاشها - إلى جانب إعادة تنظيم الجيش - إصلاح الحكومة والإدارة، وذلك كان العمل الذي قام به أولا «ستين»، واستمر بعد ذلك - ولو أنه كان قد صار مشوها لدرجة معينة - على يد «هاردنبرج»؛ فقد ألغى النظام الحكومي القديم الذي يرجع إلى عهد فردريك الثاني، والذي كان مجلس وزراء الملك يدير بمقتضاه شئون الحكم والإدارة، واستعيض عنه بتعيين ستة من الوزراء، كما ألغى نظام الوزراء والمجالس القديمة في الأقاليم، وحل «الحكام» أو المديرون محل هؤلاء في الأقاليم، وعندما تسلم «هاردنبرج» زمام السلطة مرة أخرى في سنة 1810 تعين «مستشارا
Chancelier » الأمر الذي ترتب عليه أن صار هو المهيمن على أعمال الوزارة.
وأما فيما يتعلق بالحكومة المحلية؛ فإن «ستين» أدخل إصلاحا في سنة 1808 تناول شئون المجالس البلدية، ولو أن هذه المجالس بقيت دائما تخضع للإشراف والمراقبة من الناحية الإدارية للسلطة المركزية، فصارت تتألف من مجلس منتخب هو الذي يسمى «العميد»، أو رئيس البلدية ومعاونيه، ولم يعد هذا المجلس مؤلفا من النقابات القديمة، بل بواسطة الانتخاب الذي يشترك فيه دافعو الضرائب، وفي سنة 1812 أنشئت في المقاطعات المختلفة هيئات للشرطة المحلية تخضع لإشراف «الدولة»، فكان بفضل هذه الإصلاحات إذن أن أمكن إنشاء سلطة متماسكة وقوية في وسعها إنهاء التردد الذي اتسمت به سياسة فردريك وليم الثالث الذي أحاط نفسه بكل تلك المنافسات والخلافات الداخلية، والتي جعلت بروسيا دولة عاجزة وضعيفة، وهكذا لم تعد الدولة مجرد آلة، بل صارت - على حد قول «ستين» نفسه - كائنا حيا.
وأما المظهر الثالث والأخير لحركة إحياء بروسيا وإنعاشها، فكان الإصلاح الاجتماعي، وكان قد حصل التفكير في إجراء إصلاح زراعي يتناول الأرض، كضرورة لا مفر منها نتيجة للأضرار الناجمة من الحرب في بروسيا الشرقية، وبسبب الضرورة التي أوجبت على أصحاب الأرض من السادة أن يعيدوا تجزئة الأرض وإرجاعها مرة أخرى للفلاحين الذين كانوا يستغلونها ويعيشون عليها، ثم أخرجوا منها، فقد كان تقرر في شهر أكتوبر 1807 ليتسنى إعادة تنظيم الأملاك العقارية في بروسيا الشرقية، أن يكون لأصحاب الأملاك الحق في طرد فلاحيهم من الأرض وإدماج الأرض التي يستغلها هؤلاء في أملاكهم، وأن يزول ما كان عليهم من واجب حماية هؤلاء الفلاحين
Bauerschietz ، وذلك كله في نظير إلغاء «رق الأرض» وفي نظير تأسيس أنواع جديدة من التملك أو حقوق الملكية للفلاحين، ذلك أنه طلب من أصحاب الأملاك تخصيص قدر من الأراضي التي تعطى للفلاحين التزاما، على أن تكون ذات مساحة مساوية للأراضي التي كانوا يستغلونها سابقا، وذلك إجراء «وسط» كان الغرض منه التوفيق بين حالة ناجمة من إلغاء الرق والنظام الإقطاعي، وبين ما كان لطبقة النبلاء من حقوق مستمدة من هذا النظام الإقطاعي نفسه.
ولقد فرضت في الوقت نفسه ضريبة على الدخل حتى يمكن إعادة تنظيم موارد الدولة، وقد أخذ بهذين الإصلاحين - الإصلاح الخاص بملكية الأرض، والآخر المتعلق بضريبة الدخل - برلمان
Landtag
بروسيا الشرقية، وصدر عن المجلس هذان الإصلاحان لسبب هام، هو أن الحكومة عمدت إلى إفساح المجال بشكل أوسع لتمثيل الطبقة البورجوازية في هذا المجلس، ثم إنها جعلت التصويت بداخله عدديا بدلا من أن يكون طبقيا، نمط الاقتراع السائد بمجالس القرن الثامن عشر، أما الإصلاح الذي حدث في بروسيا الشرقية، فإنه ما لبث حتى امتد إلى المقاطعات الأخرى بفضل استصدار طائفة من «القرارات الإقليمية» بين سنتي 1808، 1810 جعلت ممكنا أن يبتاع الفلاحون الواجبات الإقطاعية التي كانت مفروضة عليهم في ظل «النظام القديم» الإقطاعي.
ولقد صار تحرير الفلاحين من الرق في أملاك الخاصة الملكية منذ 1807، وفي سنة 1811، أضاف «هاردنبرج» إصلاحا آخر صار بمقتضاه الفلاحون من ملتزمي الأرض ملاكا لها، في حين ألغيت السخرة والالتزامات الإقطاعية، وفي نظير أن يترك الفلاحون للسادة أصحاب الأرض ثلث مساحة أرض الالتزام، وفي بعض الأحايين نصفها، وفي نظير أن يتنازل الفلاحون عن الحقوق التي لهم على الملاك في مقابل أن يضفي هؤلاء الآخرون عليهم «حمايتهم»، ولقد كان من نتائج إلغاء الرق في مقابل تنازل الفلاحين عن جزء من الأراضي التي كانوا يستغلونها بالالتزام؛ أن صار هؤلاء أكثرهم أجراء باليومية.
ولقيت هذه الإصلاحات «الاجتماعية» معارضة شديدة من جانب النبلاء البروسيين؛ حتى إن «ستين» و«هاردنبرج» صارا يريان ضروريا الاعتماد على قوة الرأي العام لإمكان تنفيذها؛ ففكر «ستين» في إصلاح المجالس (البرلمانات) الإقليمية، وفي إنشاء مجلس أو برلمان قومي، «أو وطني» يتألف من طبقات تمثل مختلف العناصر التي يتألف منها المجتمع، ولكن على أن يكون التصويت بهذا المجلس عدديا وليس طبقيا، ولقد قوبل هذا المشروع بمعارضة قوية، فاضطر «ستين» إلى التخلي عنه، أما «هاردنبرج» فقد استطاع في سنة 1811 أن يجمع «مجلس أعيان» لاستشارته في الإصلاحات التي يريدها بالرغم من معارضة النبلاء، ثم إنه جمع في السنة التالية (1812) مجلسا منتخبا روعي فيه تساوي نسبة التمثيل بين المقاطعات، بأن يكون لكل مدينة اثنان من النبلاء، واثنان من النواب، ومثل هذا العدد للدوائر الريفية (خارج المدن)، على أن يكون هؤلاء من الذين يملكون عقارا «أو أرضا »، ومع ذلك فقد كان هذا المجلس محروما من كل سلطة، ولا يجوز القول أنه كان هناك بسببه أي «تمثيل» سياسي في بروسيا.
وهكذا بقيت بروسيا دولة أرستقراطية، كانت طبقة النبلاء صاحبة النفوذ القوي بها، وهي الطبقة التي عارضت معارضة شديدة اتخاذ أي إجراء لإعادة تنظيم الدولة على أساس قومي، باعتبار أنه عمل ثوري، ولشد ما كان ترحيب النبلاء إذن عندما طرد «ستين» من الحكم في سبتمبر 1808 بناء على أمر من نابليون، وبذلك نجحت طبقة هؤلاء النبلاء من ملاك الأرض «اليونكر
Junkers » في تعطيل إصلاحات هاردنبرج - في غير شئون المال والاقتصاد - ونالوا في مقاومتهم هذه تعضيد الملك، فكان معنى ذلك أن بروسيا التي أرادت أن تبقى بروسيا وحسب، ودون أن يكون لها شأن بمعالجة الأمور من وجهة نظر قومية ألمانية، قد نجحت في أن تبقى «كما هي»، ولا تنظر للمسائل إلا من وجهة نظر بروسية «محلية» فقط، وكان معنى ذلك أيضا أنه بالرغم من الشعور القوي السائد بالبلاد ضد فرنسا لم تجد بروسيا عائقا يمنعها عند الضرورة من التعاون مع فرنسا سياسيا؛ فبروسيا لم تلبث أن اتجه تفكيرها في سنة 1808 للانضمام إلى «اتحاد الراين» على أمل أن ينفع ذلك في إقناع الفرنسيين بالتعجيل في الجلاء عنها، وكذلك انضمت بروسيا إلى فرنسا في النضال ضد روسيا، وأمدت فرنسا بقوات بروسية للاشتراك في القتال الدائر مع روسيا.
وواضح من دراسة موقف «الحكومة» سواء في بروسيا أو في بفاريا، أن رد الفعل الذي حصل ضد السيطرة الفرنسية كان «فرديا»؛ فلم يكن ثمة تنسيق بين جهود أو موقف هذه الحكومات حيال النفوذ الفرنسي؛ وذلك لسبب واحد هام، هو غلبة الشعور الوطني المحلي، وانعدام الشعور القومي «أو الوطني» الذي يترتب على استثارته توحيد جهود الأمة الألمانية في كفاح وطني عام يهدف إلى إنهاء كل سيطرة أجنبية ليس من بروسيا أو من بفاريا، أو من أية دويلة وإمارة أخرى وحدها، بل من كل ألمانيا بأسرها، حقيقة تأسست - تحت السيطرة الفرنسية وبسبب هذه السيطرة ذاتها، سواء في بفاريا أو بروسيا - وحدات سياسية كانت أكثر قوة وحداثة من سابقاتها، بفضل «الإصلاحات» التي شاهدناها، ولكن تلك لم تكن «تنظيمات قومية».
على أن الذي يجدر ذكره أنه قد حصل كذلك - وفي غير ميدان «الحكومات» - رد فعل ضد السيطرة الفرنسية، من جانب «الأفراد» لم يكن مبعثه هو الآخر أي شعور أكيد بالقومية، فقد أضرت السيطرة الفرنسية والإصلاحات التي صحبتها والتغييرات التي حصلت بسببها، بمصالح كثيرة، فكان من الذين أوذيت مصالحهم طبقة الفرسان
Ritterschaft
التابعين مباشرة للإمبراطورية الرومانية «الجرمانية» المقدسة، والذين أخذت منهم أراضيهم بسبب التنظيمات الإقليمية الجديدة، وقضي على حقوق سيادتهم، ثم كان من هؤلاء أيضا النبلاء وأفراد الطبقة المتوسطة «البورجوازي» الذين تحملوا خسارات فادحة بسبب نقص دخولهم نتيجة للتغيير الذي طرأ على قيمة السندات المالية، ثم بسبب إلغاء الحقوق الإقطاعية والالتزامات والحقوق التي كانت للطبقات أو عليها جميعا، وعلاوة على ذلك فقد استغني عن خدمات عدد كبير من الضباط والموظفين، وذلك عند إعادة تنظيم الحكومات والإدارات المختلفة تحت السيطرة أو الإشراف الفرنسي.
واستبد القلق بالشباب الذين تبدد أملهم في ملء الوظائف التي تطلعوا إليها، ثم إن الاحتلال الفرنسي كان عبئا ثقيلا بهظ كاهل الأهلين بسبب النفقات الجسيمة التي تحملها هؤلاء، وبسبب المصادرات التي حصلت، ولقد ترتب على هذا كله أن استبد شعور الكراهية ضد فرنسا بالأهلين، وكان شعورا «وطنيا»، حدث من تلقاء نفسه، أو كان مبعثه تعرض المصالح - التي لمختلف طبقات الأمة - للخطر.
ولقد كان من أسباب استثارة هذه الروح العدائية «الوطنية» ضد فرنسا، وزيادة هياج الخواطر في ألمانيا، ما وقع من حوادث في إسبانيا في غضون عامي 1808، 1809؛ فقد هزت المقاومة أو «الثورة» الإسبانية، الشعب الألماني هزا عميقا ليفيق من سباته الطويل، وذلك في الوقت الذي بدأت فيه الحرب ضد النمسا (أبريل 1809).
ولقد كنا أشرنا إلى بعض حوادث المقاومة ضد السيطرة الفرنسية، مما وقع في أجزاء من أوروبا النابليونية، مثل الحركات الثورية التي قام بها بعض الضباط البروسيين أو الوستفاليين، أو حركات الدعاية والنشر ضد السيطرة الفرنسية، وكان قد أصدر أحد أصحاب المكتبات ، ويدعى «بالم
» وهو بفاري، بعض الرسائل والكتيبات ضد الفرنسيين في غضون سنة 1806، ولكن سرعان ما ألقى الفرنسيون القبض عليه وأعدموه رميا بالرصاص، حتى إذا قامت الحرب مع النمسا وتعددت حوادث المقاومة، فحاول أحد الشبان «سباتس
Spats » في شونبرون اغتيال نابليون في 12 أكتوبر 1809 بعد سقوط فينا، وحاول بعض الضباط البروسيين والوستفاليين - كما ذكرنا - تحريك الثورة، وقد كنا ذكرنا من هؤلاء الملازم «كاط
Katt »، الذي حاول الاستيلاء على مجدبرج؛ فقبض عليه في «ستندال
Stendal » في 3 أبريل 1809، ثم الكولونيل «دورنبرج» من حرس الملك جيروم في وستفاليا الذي استثار فرقته في 22 أبريل من السنة نفسها، وأمكن التخلص منه بسهولة بجوار «كاسيل
Cassel »، ثم الميجور «شيل
Schill » الذي قام على رأس فرقة من الفرسان (الهوسار) يقصد إلى «كاسيل» في 28 أبريل 1809، فوجد الطريق إليها مقفلا، وانحرف صوب الشمال لينزل في «سترالسوند» حيث حلت به الهزيمة وقتل (31 مايو)، ثم دوق «برنسويك أولز» الذي قاد ألايا من الهسيين في بوهيميا، فاحتل مدينة «ليبزج» مدة من الزمن، واستطاع أن يخترق ألمانيا ليصل إلى شاطئ البلطق في الشمال، تنقله سفينة إنجليزية عند مصب «الوزر
Weser » بالقرب من «بريمين» إلى إنجلترة، ولقد كانت هذه حركات منعزلة بعضها عن بعض، لم تحدث أثرا ما على «الرأي العام» في ألمانيا، ولم تكن لها أية أهمية «قومية» حيث كانت جميعها حركات مقاومة «فردية».
وكنا قد أشرنا كذلك للثورة التي قامت في التيرول على يد الفندقي «أندريا هوفر» الذي حاز بسببها شهرة واسعة، وعلى يد أحد الرهبان الكابوشيين «كاسبينجر
Caspinger »، ولقد كانت هذه الثورة أكبر أهمية من الحركات السابقة؛ فقد حرض «هوفر» و«كاسبينجر» البلاد على الثورة، واتخذ الثوار الجبال معقلا لهم شهور عدة (من أبريل إلى أكتوبر 1809)، ثم لم تلبث أن استؤنفت الثورة، ولكن في هذه المرة قبض على «أندريا هوفر» الذي اقتيد إلى ميلان وأعدم بها (في 20 فبراير 1810).
ولقد كانت هذه الحركة التي حدثت في التيرول ثورة قام بها الشعب في مجموعه، وإن كان لا يجوز تسميتها بحركة وطنية ألمانية؛ لأن الثورة التي حصلت كانت موجهة ضد بفاريا التي كان إقليم التيرول قد دخل في حوزتها، فاتبعت بفاريا سياسة تبغي منها تركيز السلطة في يدها، فألغت «البرلمان» أو المجلس التمثلي
Landtag ، ومع أن أهل البلاد «التيروليين» كانوا شديدي التمسك بالكاثوليكية، عمدت الحكومة البفارية إلى اتباع سياسة «علمانية» في إدارتها الكنسية أو الدينية، فألغت الأديرة ومؤسسات الكنيسة الخيرية، ثم إنه كان من أسباب تحريك الثورة في هذه الجبال؛ انتشار البؤس والضنك والشقاء بسبب سياسة «الحصار القاري»؛ وعلى ذلك فقد كانت هذه الثورة موجهة ضد الاستبدادية المركزية التي أرادت منها بفاريا إدماج هذه الجهات في أملاكها، وليس ضد السيطرة الفرنسية بمعناها الفعلي أو الصحيح، ولقد كان لهذه «الثورة» التيرولية - على كل الأحوال - آثار ملموسة في كل من إيطاليا الشمالية، وحوض الأديج وفي إقليم الرومانا «في إيطاليا».
وثمة حركة «فردية» يمكن اعتبارها من مجموعة الحركات التي ذكرناها، ونعني بذلك تلك الحركة التي قامت بها جمعية «حلف الفضيلة
Tugendbund » السرية التي سبق كذلك أن أشرنا إليها عند الكلام عن الموقف في ألمانيا في خريف 1809، أثناء الحرب والمقاومة في إسبانيا، وقد تأسس «حلف الفضيلة» - وهو من المحافل الماسونية أصلا - في «كونجزبرج»؛ أنشأه ثلاثة رجال، هم: «لهمان»، و«بارديلبين
Bardeleben »، و«بارش
Barsch » إلى جانب «موسكوا
Mosqua » الذي يعتقد كثيرون أن الدور الذي قام به - هذا الأخير - لم يكن بالأهمية التي أعطيت له، أما «غرض» حلف الفضيلة؛ فكان السهر والملاحظة لفضيحة أولئك الألمان الذين لا يكفون عن التعاون مع السلطات الفرنسية، وكان للحلف عدا «كونجزبرج» مراكز في برلين، وسيليزيا، وفي سنة 1809 كان لديه خمس وعشرون «غرفة» - الاسم الذي سميت به المجموعات السرية - تضم إليها حوالي السبعمائة عضو، على أقصى تقدير، أو عددا يتراوح بين الثلاثمائة والأربعمائة فقط في رأي كثيرين، وعرض هذا الحلف خدماته على الملك فردريك وليم الثالث والملكة لويزا، وأمكن إغراؤهما بتأييده، ولكن «الحكومة» وقفت موقفا معاديا من «حلف الفضيلة»؛ فنقمت عليه، وتجنب «ستين» و«شارنهورست» أن يكون لهما علاقة به، وانتهى الأمر بإلغاء «حلف الفضيلة» في غضون سنة 1810.
وواضح من كل ما تقدم أنه وجد فعلا اضطراب أو «تحريك» وطني في ألمانيا، كان بمثابة محاولة للقيام بالثورة، ويتفق حدوث هذه الحركة مع الوقت الذي بدأت فيه الحرب مع النمسا في سنة 1809، وواضح كذلك أن السيطرة الفرنسية كانت مكروهة من الشعب الألماني، آية ذلك كل الحوادث التي ذكرناها والتي كان مبعثها «رد الفعل» الذي حصل ضد هذه السيطرة الفرنسية، ومع ذلك فكل تلك إنما كانت حركات لم تترتب عليها أية آثار إيجابية أو أنها أفضت إلى نتائج محدودة، ولم تكن كذلك في حد ذاتها شيئا عظيما، أو حركات قومية إطلاقا، ولا يجب إغفال هذه الحقيقة بالرغم من محاولات المؤرخين الألمان أن يضفوا عليها أهمية كبيرة عند محاولتهم - فيما بعد - «تمجيد» حركتهم القومية، فراحوا يضعون لهذه «الحركات» الفردية والمتناثرة «تفسيرات» قومية.
والمقاومة الوطنية أبسط الأشكال التي يتخذها الشعور القومي عند وصوله إلى درجة من النضج تؤذن بظهوره بعد قليل في وضوح كامل، ومع ذلك فلم يكن هناك ما يدل في هذه الآونة على أن «الشعور القومي» قد نضج بالدرجة التي تؤذن بظهوره فورا، بل كان لا بد لحصول ذلك من مرور فترة أخرى، ولا جدال في أن الحركة الفكرية القومية قد سبقت ظهور «الشعور القومي» بمدة طويلة، ولا جدال في أنه لم يكن هناك أي احتمال لقيام ثورة ما ضد السيطرة الفرنسية بعد صلح فينا (14 أكتوبر 1809) الذي أنهى الحرب مع النمسا، وبعد زواج نابليون من الأرشيدوقة ماريا لويز النمسوية (أبريل 1810)، فاختفى كل أمل في إمكان التخلص من هذه السيطرة الفرنسية، وصار يبدو أن الألمان - في مجموعهم - قد وطدوا العزم على التسليم بأحكام القدر بشكل منعهم من الإتيان بأية حركة، حتى لقد أعلنت ملكة بروسيا نفسها أنه لم يعد لديها أي أمل في شيء.
وفي هذا الوقت الذي تبددت فيه آمال الألمان في الخلاص، كانت تتزايد العوامل التي سببت استياء الشعب الألماني وتذمره من السيطرة الفرنسية وسخطه عليها، من ذلك ارتفاع أثمان المواد الغذائية إلى ثلاثة أمثالها، نتيجة لسياسة «الحصار القاري»، فالقهوة والسكر والكاكاو، وتؤلف جميعها عناصر هامة في غذاء الألمان قد بلغت أثمانها أرقاما خيالية، فكانت مأساة لم يقابلها الشعب بالثورة، بل بقي سادرا في استكانته، يخيم عليه نوع من الخمول وعدم الاكتراث، ومع ذلك فقد ترتب على انهيار بروسيا (1806-1807) وسط هذا «الخمول» وعدم الاكتراث الذي خيم على ألمانيا، أن نهض المفكرون وأولو الرأي والمثقفون عموما، يرسمون الخطوط لحركة جديدة باعتبار أن بروسيا كانت بمثابة المعقل الأخير الذي من المحتمل صموده في وجه السيطرة النابليونية، ولا مفر من حدوث كارثة وطنية شاملة نتيجة لانهيارها، إذا اتضح أن هؤلاء المفكرين والمثقفين لم يبادروا باعتبار هذا الانهيار «نقطة تحول» في معنى الوطن والوطنية، لإحياء «الشعور القومي» وبعثه في البلاد.
ولقد كان للفيلسوف «هردر» في أول الأمر الفضل في خلق الحركة الأدبية «الابتداعية» أو الرومانتيكية (الرومانسية)، التي لم تلبث أن صارت في طورها الثاني تولي اهتمامها العظيم لتاريخ البلاد، حتى لقد سطع أعلام كثيرون - إلى جانب رجال الأدب - من المؤرخين واللغويين، ووسع نشاطهم مراكز عديدة في ألمانيا، كانت أهمها - دون شك - مدينة «هيدلبرج
Heidelberg »، حيث اشتهر أديبان هما «برنتانو
Brentano » و«أرنيم
Arnim » واللذان أسسا في سنة 1806 مجلة «بوق الأطفال المدهش»،
7
كانت عبارة عن مجموعة من الأغاني الشعبية، واستمرت تظهر حتى سنة 1808، وفي هذه السنة الأخيرة أسسا «جريدة الناسك
Einsiedler Zeitung ».
ولقد اجتمع حول هذين لفيف من الأدباء، من هؤلاء «لاموت فوكيه
La Motte-Foqué » وهو من أصل فرنسي، هاجرت أسرته إلى ألمانيا بعد إلغاء مرسوم نانت في فرنسا «في القرن السابع عشر»، وإليه يرجع الفضل في إحياء الأساطير الألمانية القديمة، ومن هؤلاء كذلك كان «جوريز
Goerrés » الذي سبق الحديث عنه عند الكلام عن الحركة «السيزرينانية»، والذي ذكرنا أنه تحول ضد فرنسا لتخليها عن المذهب الحر.
وقد انضم «جوريز» إلى هذه الجماعة سنة 1807، وبدأ ينشر بعض القصص المأخوذة من الكتب الشعبية الألمانية،
8
ونشأ إلى جانب «هيدلبرج» مركز ثقافي آخر في مدينة «كاسيل»، كان قوامه الأخوان «جريم
Grimm » وهما أمينا مكتبة هذه المدينة، وقد بدأ هذان بأن نشرا مجموعة من الأساطير والقصص الألمانية،
9
وفي كولونيا قامت حركة اتجهت بادئ الأمر إلى التنقيب عن أصول المسيحية القديمة، وإحياء العصر الوسيط الديني الألماني خصوصا، وكان الأخوان «بواسيري
Boisserie » متزعمي هذه الحركة، ولكن «هيدلبرج» كانت على ما يبدو أهم هذه المراكز الثقافية والأدبية، من حيث إشعال المقاومة ضد السيطرة الفرنسية، فيقول «ستين» في ذلك: إن «هيدلبرج» هي التي أشعلت أساسا تلك النيران التي أدت فيما بعد إلى طرد الفرنسيين من ألمانيا.
ولقد كان من هذه المراكز التي ذكرناها: هيدلبرج، كاسيل، كولونيا، أن امتدت الحركة الأدبية الوطنية التي أشادت بماضي ألمانيا إلى كل مكان فيها، فلا يلبث أن يصدر في درسدن من أعمال سكونيا، مجلة
10
لتقوية دعائم الفن والآداب والعلوم الألمانية تحت إشراف «آدم مولر
Müller »، وفي فينا ألقى «أوجست شليجل
Schlegel » صديق مدام دي ستال، سلسلة من المحاضرات في موضوع الأدب الألماني، هاجم فيها الذين يعمدون إلى تقليد الأدب الفرنسي هجوما عنيفا، وحاول تحرير الأدب الألماني من كل نفوذ «غربي».
ثم حذا حذو هؤلاء الأدباء واللغويين ومن إليهم، طائفة كبيرة من الذين كرسوا أنفسهم للتنقيب عن «الوثائق» التي تلقي أضواء على جوانب عديدة من التاريخ الألماني؛ من هؤلاء المؤرخ «رومر
Raumer » الذي تخصص في دراسة عهد أباطرة هوهنشتاوفن، ثم القانوني «سافيني
Savigny » الذي وضع التقاليد والعادات الجرمانية الأصيلة في مواجهة الآراء والقواعد التي تأسس عليها القانون الفرنسي، وكان يرى في هذه العادات الجرمانية القائمة على الحرية «الجرمانية» الغرزية، الأسس التي يجب أن ترتكز عليها المقاومة والمعارضة ضد السلطة المفروضة على البلاد والمستندة على القانون الفرنسي.
وأقام «هاجن
Hagen » و«بوشينج
Büsching » متحفا يضم طرائف الفن والأدب في ألمانيا القديمة، وانتشرت في كل مكان الأناشيد «القومية» الألمانية، وتخصص عدد من الشعراء في نظم الشعر الوطني، مثل «تيودور كورنر
Koerner » الذي سقط في معركة «ليبزج»، يحارب في صفوف الحلفاء ضد جيوش الإمبراطور الفرنسي، ثم «كلايست
Kleist » وكان ضابطا بروسيا ترك الخدمة العسكرية بعد واقعة «يينا
Jena »، وضع عددا من «الدرامات» التي استوحى موضوعاتها من التراث الألماني، وكانت أعظم هذه الدرامات شهرة واحدة بعنوان «معركة أرمينيوس»، تدور وقائعها حول ثورة حركها «أرمينيوس» ضد الرومان، وكانت الإشارة في هذه الدراما واضحة إلى احتمال حدوث ثورة ضد السيطرة الفرنسية وضد نابليون.
و«كلايست» كان صاحب دراما أخرى بعنوان «أمير همبورج»، مثلت سنة 1821، أي بعد وفاته بسنوات عديدة، (وكان قد مات منتحرا في سنة 1811)، وتعتبر هذه المسرحية وسابقتها أروع ما أنتجه هذا المؤلف المسرحي الألماني ، ولقد كانت الفكرة المسيطرة على هذه «الدرامات» أو التمثيليات مستوحاة من شعور الكراهية العميقة للأجنبي، ثم شعور التحقير والازدراء بالأمراء الألمان «المتعاونين» مع الإمبراطور والسيطرة الفرنسية، كما أن هذه المسرحيات كانت تحث الألمان على ضرورة التكتل، وتدعو لترويض النفس على النظام الدقيق من أجل خلاص ألمانيا وتحريرها من النفوذ الأجنبي «الفرنسي».
ولقد تميز من بين هؤلاء الشعراء الوطنيين - وكان أبرزهم أثرا الآن في ميدان العمل - «آرندت
Arndt »، وقد عرفنا عنه أنه كان أصلا أستاذا للتاريخ بجامعة «جريفزوالد
Greifswald »، ثم رحل منها قاصدا إلى السويد وقت الاحتلال الفرنسي، فبقي بالسويد بعض الوقت حتى غادرها إلى روسيا سنة 1812 لينضم إلى «ستين» الذي كان آنئذ يقيم بها.
وكان «آرندت» من الذين يعتقدون بأن البلدان جميعها وطن لكل إنسان، شأنه في ذلك شأن سائر «المتنورين» والمثقفين الألمان في عصره، فنشر في سنة 1802 مؤلفا بعنوان «ألمانيا (جرمانيا) وأوروبا»،
11
استوحى فكرته من كتابات «فيتشه» وفلسفته الداعية لانتماء المواطن لكل بلدان العالم، ولكن لم يلبث أن تحول «آرندت» عن هذه «المواطنية العالمية» على أثر الشدائد والأهوال التي ذاقها الشعب الألماني تحت السيطرة الفرنسية، فاستبدت به الكراهية للفرنسيين ولشخص الإمبراطور، ولم يلبث أن عبر عن هذه الكراهية الشديدة لهم في مؤلف يختلف تماما عن سابقه بعنوان «روح العصر»،
12
ظهر في سنة 1807، وأشاد «آرندت» في هذا الكتاب بما أسماه المائة سنة العظمى في تاريخ ألمانيا، وذلك كان القرن السادس عشر، ثم تناول الأسباب التي أدت إلى انحدار ألمانيا بعد هذا القرن وإلى ضعفها، فوصل إلى أن مبعث ذلك كان الضعف الذي لحق بالخلق الألماني ذاته من جهة، ثم فعل الكتاب والفلاسفة الألمان الذين قيدوا أنفسهم بالآراء والأساليب الأجنبية وتأثروا بها، والذين وصفوا أنفسهم بأنهم مواطنون عالميون، أي ينتمون في وطنيتهم إلى جميع بلدان العالم، وعرف عنهم تعلقهم بالبشرية أو الإنسانية.
وقد ترك هذا النوع من «التفكير» آثارا سيئة ورديئة في نظر «آرندت» الذي يقول: «إنه بدون شعوب لا وجود لأية إنسانية، وليس هناك شعوب من غير مواطنين أحرار، ولا وجود لعظماء الرجال بدون شعوب عظيمة، ولا وجود لشعوب عظيمة من غير وطنية»، ولقد حمل «آرندت» على بروسيا؛ لأنها أخفقت في تأدية الرسالة التي جعلها القدر من نصيبها، فكان من رأيه أن فردريك الثاني - وإن كان ملك بروسيا - إلا أنه لم يكن قط ملكا ألمانيا، فلم يهتم بسعادة ألمانيا، ولم يبذل جهدا لتحقيق هذه السعادة ولرعاية المصلحة الألمانية، بل إن فردريك الثاني كان يسترشد في أعماله «وإصلاحاته» بالآراء والأساليب الفرنسية، أي إنه كان يستوحي نشاطه من «الخارج».
وهاجم «آرندت» الأمراء الألمان الذين أسماهم «بالخدم والأتباع»، والذين باعوا أنفسهم لسلطان الأجنبي، فكانوا في نظره «مجرمين» - على نحو ما وصفهم في خطاب وجه فيه الكلام إليهم - لم يفكروا في ألمانيا لأنهم يجهلونها، ولم يضعوا كل ثقتهم في مستقبلها لأنهم لا يعرفونها، ثم راح يحملهم وزر اختفاء شعور الألمان بأن هناك روابط تجمعهم في صعيد واحد، أهمها اللغة الواحدة والأصل المشترك، حتى بات لا وجود لألمانيا؛ نتيجة لفعل الأمراء الألمان أنفسهم، وبسبب الأخطاء التي ارتكبوها هم وحدهم.
وفي روسيا، كتب «آرندت» قصائده الملآنة بالإشادة بالوطنية الألمانية والتي صار يدعو فيها مواطنيه للثورة، ونالت بعض قصائده شهرة عظيمة، من ذلك قصيدته عن نهر الراين الذي هو نهر وليس حدودا لألمانيا، وأثناء حملة 1813 أصدر سلسلة من القصائد لم تلبث أن جمعت بعنوان: «أغاني الحرب».
وواضح أن هذا النوع «من الوطنية» الذي ظهر في تفكير وكتابات وقصائد وأغاني: آرندت، كلايست، هاجن، بوشينج، كرونر وغيرهم، لم يكن «فرديا»، «خصوصيا» أو «محليا» من نمط تلك «الوطنية» التي حركت أهل التيرول على الثورة ضد بفاريا، ولكن هذه كانت وطنية ألمانية تشمل آفاقها كل ألمانيا، وعلى النحو الذي ظهر خصوصا في قصائد «آرندت».
ولقد كان «فيشته» - الذي تحدثنا عنه كثيرا - خير من يمثل بكتاباته وآرائه هذا التحول الذي طرأ على الفكر الألماني من الاتجاه نحو «المواطنية العالمية» والنظرة الإنسانية الواسعة إلى تحبيذ الوطنية «والقومية» الألمانية البحتة، بسبب الكوارث التي نجمت من اندحار بروسيا في واقعة «يينا» في 14 أكتوبر 1806، وكان أثناء الحرب أن أراد «فيشته» الانخراط في سلك الجندية لا كمقاتل؛ لأنه لا يستطيع ذلك، ولكن كواعظ يبذل قصارى جهده لتقوية أخلاق الجند وشد أزرهم، ولم يلبث «فيشته» أن تبع البلاط الذي انتقل بعد كارثة «يينا» إلى «كونجزبرج»، ثم أقام بعض الوقت لاجئا في «كوبنهاجن» بعد ذلك، ولكنه آثر العودة بكل سرعة إلى برلين، بالرغم من وجود الاحتلال الفرنسي بها، معرضا نفسه للأخطار، غير أن السلطات الفرنسية لم تتعرض له بشيء.
وكان في شتاء 1807-1808 أن بدأ «فيشته» دروسه المشهورة التي جمعت بعنوان: «محاضرات للأمة الألمانية»،
13
يعني الأمة الألمانية، وليس للبروسيين، ذلك بأن فكرة وحدة ألمانيا هي التي استلهم منها هذه الدروس، وكانت مسيطرة على محاضراته، فقال في محاضرته الأولى: «إنما أخاطب الألمان عموما، كل الألمان ودون استثناء، فإني لم أعد أعرف شيئا عن تلك الانقسامات التي جزأت الألمان، وكانت سيئة الأثر عليهم، والتي أدت إلى نزول الكوارث بنا، وإني أخاطب الغائبين الذين لا يحضرون هذه المحاضرات، مثلما أوجه خطابي إلى المستمعين لهذه الدروس، وأرجو - صادقا - أن يصل صوتي إلى أقصى الحدود الألمانية»، على أن «فيشته» لم يشأ - بالرغم من ذلك - التخلي عن بعض آرائه الفلسفية القديمة، تلك الآراء الكانطية بشأن الإرادة والواجب الحتمي.
ولقد وجه «فيشته» الدعوة لكل طبقات الشعب بشدة وحرارة؛ ليؤدي هؤلاء واجبهم الذي يفرض عليهم مقاومة الغزاة الذين احتلوا بلادهم، وعقد «فيشته» آمالا كبيرة على الشباب في القيام بأوفى نصيب من المقاومة المنتظرة، «فكل فرد مسئول أمام الأجيال القادمة عن الجهد الذي يبذله من أجل تحرير ألمانيا وضمان خلاصها وأمنها»، فلا يجب أن تعتمد ألمانيا في خلاصها على أية مساعدة خارجية، بل يجب أن تضع ألمانيا كل ثقتها من أجل النجاح في الإرادة الحقة والواجب المطلق، اللذين يفرضان عليها فرض المقاومة والنضال للتحرر من كل سيطرة أجنبية، وقال «فيشته»: «إن ألمانيا باعتمادها على هذه «الوطنية» وحدها، سوف تنال - من غير شك - خلاصها.»
وفي رأي «فيشته» أن إصلاح التربية والتعليم شرط أساسي لإعادة خلق أو صنع الروح الألمانية من جديد، وتلك فكرة أوحت بها إليه تعاليم «كانط»، فنادى «فيشته» بوجوب وضع تربية وطنية «قومية» تستند عليها الثقافة الألمانية المراد إعادة خلقها أو صنعها، وكان من ضروب الإصلاح التربوي الذي أراده «فيشته» أن يعزل الأبناء عن آبائهم؛ حتى لا يتلوث جيل الشباب المقبل بالرذائل القديمة التي سببت هلاك ألمانيا، فيعهد إلى الدولة بهؤلاء الأبناء لتعمل على تنشئتهم في نوع من المدارس الداخلية بعيدين عن أسرهم، فيتساوى الأطفال جميعهم في تلقي العلم، ويعيشون في منازل التعليم داخل «عالم مغلق» يتكفل بإنتاج كل ما يحتاج إليه هؤلاء الأطفال من أغذية وملابس وأدوات ضرورية، حتى إذا زاد الإنتاج على حاجة هذه «المنازل التعليمية»، بيع الفائض ودخل الثمن خزينة هذه المؤسسات للإنفاق على الطلاب «الداخلية».
وكان غرض «فيشته» من هذا النظام أن يعيش الطلاب في مجتمعات صغيرة، معزولين عن المجتمع الألماني؛ وذلك حتى تتسنى تنشئتهم بروح جديدة غير تلك الروح الملوثة القديمة والتي كان نصيبها الفشل، أما هذا النظام التربوي الذي أراده «فيشته» فقد مزج - وعلى نحو ما هو ظاهر - بين التربية العقلية والأخرى اليدوية، أي ذلك النوع من التربية الذي ساد التفكير حوله في القرن الثامن عشر، ومع أن هذا الإصلاح التربوي والتعليمي كان ينطوي على ترتيبات غير عملية، أو «وهمية»؛ فقد اعتقد «فيشته» أنه الوسيلة الوحيدة لإمكان حدوث بعث خلقي ونهضة أخلاقية، كانا في نظر «فيشته» شرطا أساسيا لإحياء ألمانيا ذاتها ونهضتها، وعقد «فيشته» الآمال الكبار على أجيال الشباب المسلحين بالخلق القويم لإنعاش ألمانيا.
ولم يكن ما نادى به «فيشته» في هذا الميدان إلا مستلهما من آراء وفلسفة «كانط»، ولكن الجديد في تفكير «فيشته» أنه صار يؤمن بفكرة «القومية» كما نادى بها «هردر»، فاتخذت «القومية» مكانة عالية في تفكير «فيشته» وبدت في صفائها ونقائها فكرة «الإنسانية»، ورأى «فيشته» في اللغة الألمانية دليلا يبرهن على علو مكانة «القومية» وتفوقها على «الإنسانية»؛ فاللغة الألمانية - في نظره - اللغة الأصيلة الوحيدة والتي احتفظت بصفائها البدائي، ونقاوتها الأصيلة، على عكس اللغات الأخرى التي ليست في نظره بدائية «أو فطرية » بل مشتقة من اللغة اللاتينية، مثل الطليانية والإسبانية والفرنسية، وعلى عكس اللغات التي هي مزيج من عناصر مختلفة مثل الإنجليزية، وتلك جميعها لغات دخلت الصنعة في خلقها ففقدت حيويتها، فمالت إلى التقليد، بخلاف اللغة الفطرية والأصيلة التي يتكلمها الألمان، والتي كان من طبيعتها المحافظة على طابعها الأصيل، أما هذا النقاء والصفاء الذي امتازت به اللغة الألمانية فقد عده «فيشته» البرهان الناصع والدليل الحي على رفعة قدر «القومية الألمانية» وعلو مكانتها، وتفوقها على غيرها من القوميات.
ولدى «فيشته» كان الشعب الألماني شعبا بدائيا فطريا، مثل لغته البدائية الفطرية، تسنى له - أكثر من غيره من الشعوب الأخرى - الاحتفاظ بتلك الجرثومة التي وضعها الله في خلقه لإنجاب أفضل الرجال وأعظمهم سموا وكمالا، ولقد ترتب على هذه الحقيقة - في نظر «فيشته» - أن صار الأدب الألماني والثقافة الألمانية بمثابة «الرسالة» التي عهد بها الإله إلى الشعب الألماني لهداية وتنوير الإنسانية «أو البشرية»، وفي دروسه ومحاضراته تتبع «فيشته» الدور العظيم والمجيد الذي لعبته ألمانيا على مسرح التاريخ، وخصوصا في عهد الإصلاح الديني الذي كان «عملا أو نتاجا» ألمانيا يتعارض في رأيه مع ما أسماه بالأكاذيب التي قبلتها الشعوب اللاتينية، والرومانية، من جراء الفساد الذي انتشر على يد «الكنيسة» في عالم المسيحية.
ولقد خرج «فيشته» من كل هذا بفكرة واضحة؛ هي أن ألمانيا صاحبة رسالة لا يجب على المرء أن يتركها تزول وتموت؛ لأنها رسالة تريد النفع والخير لألمانيا وللإنسانية قاطبة؛ فألمانيا هي التي سوف ترسم للعالم الطريق وترشده إلى السير فيه للتوفيق بين «الإنسانية» أي الرغبة في تحقيق النفع للبشر، وبين «الحركة التعقلية» التي تزن الأمور بميزان العقل، وتفسرها في ضوء الأحكام العقلية، وكان في رأي «فيشته» أن هذا التوفيق سوف يترتب عليه الوصول إلى حل لمشكلة «الدولة المدنية»، ذلك أن الحركة التعقلية الفرنسية والفكر الفرنسي، إنما قد انتهيا فقط إلى تقرير الفكر الحر الذي لا قيود عليه، وإلى الكفر بالله والإلحاد، وإلى قيام الثورة الفرنسية.
ذلك كان موجز الآراء والنظريات التي نادى بها «فيشته» في دروسه ومحاضراته الموجهة إلى الأمة الألمانية، وواضح أن موقفه الآن قد صار يختلف - بل يتعارض - تماما مع موقفه قبل الكارثة التي حلت ببروسيا؛ فهو الآن يؤكد أن الألماني الذي يتشبث بألمانيته بكل ما وسعه من قوة، هو الذي في وسعه بفضل هذه «الألمانية» ذاتها أن يخدم «الإنسانية»، في حين أن أنصار «المواطنية العالمية» الذين رددوا سابقا وجوب انتماء المرء لكل الأوطان أو البلدان، كانوا يرون أن بهذه الصفة العالمية وحدها يكون المرء في الوقت نفسه وأكثر من أي وقت مضى ألمانيا، و«فيشته» قد استطاع الآن - بجعله الحضارة (الثقافة) والأمة والدولة كلا واحدا - أن يصل إلى فكرة القومية الكاملة.
ولقد كان لدروس ومحاضرات «فيشته» هذه آثار على جانب عظيم من الأهمية في بروسيا وفي كل ألمانيا الشمالية؛ فقد بثت في نفوس الألمان الإيمان بأن لهم حقوقا «قومية»، وهيأتهم لاحتمالات المستقبل، وتحمس الشباب - على وجه الخصوص - لآراء هذا الفيلسوف الذي بشر بالقومية، ولقد ظهر في الوقت الذي نشط فيه «فيشته»، أحد رعاة الكنيسة البروتستنت في برلين، «شلير ماخر
Schleiermacher »، شرع منذ 1808 ينشر دعوة مشابهة لدعوة «فيشته»، وغزت الآراء التي نادى بها كلاهما المحافل الماسونية والجمعيات السرية خصوصا.
على أن الذي يجدر ذكره أن الآراء التي نادى بها «فيشته» وغيره من المفكرين كانت لها آثار مستديمة، أو على الأقل بقيت آثارها زمنا طويلا؛ فقد صار «فيشته» أحد أنبياء القومية الألمانية، وفي الصورة التي اتخذتها هذه القومية، أي الدعوة للألمانية «أو الجرمانية»، أما الوطن الألماني فلم تكن له حدود أو نهاية في اعتبار «فيشته»، كما أنه في اعتبار «آرندت» كل مكان يدق فيه ناقوس اللغة الألمانية، وتلك الآراء التي شهدنا إذن مولدها في (1808-1809) كانت لذلك نقطة التحول في «مثالية» سوف تنتشر خلال القرن التاسع عشر حتى تعم كل ألمانيا، وإن كانت قد وجدت لها الآن مركزا تنبثق منه وجهازا يعاونها على الانتشار، ونعني بذلك إنشاء جامعة برلين.
فمن المعروف أن أساتذة الجامعات في ألمانيا خلال القرن الثامن عشر، وفي بداية القرن التاسع عشر - إن لم يكن في السنوات التالية كذلك - كانوا يحتلون في تقدير الشعب الألماني مكانة كبيرة، ولقد لعبت الجامعات الألمانية في كل العصور والأوقات دورا كبيرا في تطور الفكر الألماني، كما كان لها نفس الأثر في الحياة السياسية في ألمانيا، ولقد كان قادة الفكر الألمان جميعهم تقريبا ممن تخرجوا في الجامعات أو قاموا بالتدريس بها، وانبعثت من الجامعات كل الحركات الفكرية، والآراء والمذاهب التي تأثر بها الألمانيون عموما، ولعل أقرب مثال لذلك انتشار اللوثرية على يد مارتن لوثر، الذي كان أستاذا جامعيا، ولقد أدرك هذه الحقيقة تماما الحكام من آل هوهنزلرن؛ فاقترنت كل خطوة من خطوات إنشاء الدولة البروسية بإنشاء جامعة جديدة، فوجدت في الأصل جامعة «كونجزبرج»، ثم لم يلبث أن تبعها إنشاء غيرها، فأسس الهوهنزلرن جامعة في «هال
Halle » عندما ارتفعت بروسيا إلى مرتبة مملكة.
ولقد حدث أن فقدت بروسيا في اتفاق تلست (يوليو 1807) بين القيصر إسكندر والإمبراطور نابليون نصف مساحتها تقريبا، فكان رأي ملكها «فردريك وليم الثالث»: «أن الدولة يجب عليها الاستعاضة عن القوة المادية التي فقدتها بالقوة الذهنية»، وكان قد كتب «شلير ماخر» قبل ذلك من «هال» في أول ديسمبر 1806 يصف التأثير الذي في استطاعة أستاذ الجامعة أن يحدثه في عقول (أو أذهان) تلاميذه، بأنه قد صار الآن أعظم مما كان في أي وقت مضى، ويؤكد اعتقاده بأن ألمانيا التي وصفها بأنها «قلب أوروبا» سوف تصبح قريبا ذات قوة جديدة وكبيرة، ثم لم يلبث أن انتقل إلى برلين ليبدأ سلسلة «عظاته» في الوقت الذي جذب إليه هذا المركز الثقافي الجديد كل المثقفين في البلاد.
وهكذا تضافر الغرضان: السياسي والفكري أو الثقافي؛ ليجعلا ممكنا إنشاء جامعة برلين، على أساس إدخال الإصلاح الأخلاقي والفكري أو الثقافي الذي كان يعد ضروريا لبعث ألمانيا وإنعاشها وإنهاضها، فقال «شلير ماخر»: «سوف تصبح برلين مركز النشاط الثقافي «والذهني» في ألمانيا الشمالية والبروتستنتية والأرض الصلدة المهيأة لتأدية الرسالة التي اختصت بها وحدها الدولة البروسية»، ومعنى ذلك أن إنشاء هذه الجامعة «في برلين» لم يكن من أجل تنفيذ برنامج ذهني وثقافي فحسب، بل كان لتحقيق غرض سياسي كذلك.
وكان ببرلين وقتئذ عدد من المدارس الخاصة، ولكن لم يكن بها جامعات، في حين أن مدينة «هال» والتي وجدت بها جامعتها العظيمة كانت قد فقدتها بروسيا ضمن الأملاك التي خسرتها بمقتضى معاهدة «تلست»، وفي براندنبرج لم يعد هناك غير المدارس الخاصة، ثم جامعة «فرانكفورت على نهر الأودر»، وهذه كانت جامعة صغيرة لا تكفي بحال من الأحوال لتأدية الرسالة المطلوبة، وعلى ذلك فبمجرد انفصال «هال» عن براندنبرج بادر أساتذة الجامعة بها بإرسال وفد إلى الملك «فردريك وليم الثالث» المقيم وقتئذ في «ممل
Memel »؛ يرجونه نقل جامعتهم من «هال» إلى برلين، وخشي الملك إذا هو فعل ذلك أن يثير عليه غضب الإمبراطور الفرنسي؛ لأن نابليون ما كان يرضى - بلا شك - أن تنتقل جامعة «هال» إلى ذلك الجزء من بروسيا الذي بقي على حاله، فرأى الملك «فردريك وليم الثالث» أن من الخير إنشاء جامعة جديدة، بدلا من الاكتفاء بنقل الطلاب وهيئة التدريس إلى برلين.
وصادف مشروع تأسيس الجامعة الجديدة صعوبات معينة، مبعثها ما كانت تعانيه الدولة من ضائقة مالية بعد هزيمتها وانهيارها تجعل متعذرا إنفاق المال في إنشاء جهاز لم تكن هناك في الظاهر حاجة ملحة لإنشائه، وثمة صعوبة أخرى «أخلاقية» مبعثها التخوف من معارضة جامعة فرانكفورت التي لم تكن تريد وجود منافس جديد لها، ثم معارضة مجلس بلدية برلين الذي خشي من وجود الطلاب الجامعيين في المدينة وتعريض «البرلينيات» - كما قال هذا المجلس - لما من شأنه إضعاف أو إفساد أخلاقهن بسبب ذلك، أضف إلى هذا صعوبة إنشاء المراكز الكبيرة في هيئة التدريس بدرجة تكفي لإغراء الأساتذة وجذبهم للجامعة الجديدة، ولقد أمكن التغلب على كل هذه الصعوبات شيئا فشيئا، وبرزت فكرتان بشأن الجامعة المزمعة، فأراد «فيشته» أن تكون هذه بمثابة «دير علماني»، في حين نادى «شلير ماخر» بوجوب أن تكون جامعة برلين جامعة عادية من نمط سائر الجامعات المعروفة.
أما منشئ هذه الجامعة؛ فكان العالم اللغوي والأثري «وليم همبولدت» الذي ذكرناه مرارا، والذي تولى في سنة 1809 وزارة المعارف في بروسيا، وقد احتفظ «همبولدت» من صفة «المواطنية العالمية» باتساع الأفق، واحترام الاستقلال الذهني، وإن كان هو الآخر قد تخلى عن هذه «المواطنية العالمية» وصار يعتنق الفكرة الوطنية، ويفسر الرغبة في إنشاء جامعة برلين قول «همبولدت»: «إنه لم يعد هناك ملجأ أو حمى للعلوم والفنون الألمانية، في وقت خضعت فيه ألمانيا لسلطان سيد أجنبي، ولسيطرة لغة أجنبية؛ ولذلك فقد صار واجبا افتتاح مركز للعلوم الألمانية وتوجيه الدعوة للعمل به إلى كل أولئك الرجال من أصحاب المواهب والكفايات الذين لا يعرفون ملجأ يلجئون إليه.»
وحصل «همبولدت» من الدولة على كل المعاونة اللازمة؛ فأعد قصر الأمير هنري، شقيق فردريك كمقر لها، وذلك كان أحد قصور برلين الهامة، ثم أعطيت الجامعة منحة مالية كبيرة، وأنشئت للأساتذة «وظائف» كافية، أي خصصت لهم المرتبات التي تكفي لجذبهم إلى الجامعة الجديدة، وعني «همبولدت» أعظم عناية باختيار الأساتذة الذين اشتهروا بولائهم لبروسيا، وكان من بين هؤلاء - وكما هو منتظر - «فيشته» الذي شغل بضعة شهور منصب مدير الجامعة، و«شلير ماخر»، كما وفد إليها طائفة من الأعلام المشهورين من مختلف أنحاء ألمانيا، نذكر منهم: «ميفيلاند
Miefeland » في الطب، و«رايل
Reil » في التشريح، و«سافيني
Savigny » في القانون، ثم العالم اللغوي والفيلسوف «وولف
Wolfe »، وافتتحت الجامعة في شهر أكتوبر من سنة 1810، وعدد تلاميذها (256)، وهو رقم لم يحصل تجاوزه قبل 1814-1815، بل لم يلبث أن نقص هذا العدد في صيف 1813، وفي شتاء 1813-1814؛ فبلغ ثلاثة وعشرين، وتسعة وعشرن فقط؛ بسبب انخراط الطلاب في سلك الجندية جماعات ووحدانا.
وفي ضوء الأرقام التي ذكرناها قد لا يجوز اعتبار جامعة برلين في هذه السنوات الأولى «مركزا» ثقافيا، ولكنها كانت «بداية» أكثر من أنها «نتيجة».
ولا جدال في أن جامعة برلين كانت - على كل الأحوال - مركزا ثقافيا، ومستقرا للمشاعر الوطنية الملتهبة، وأحد العناصر الهامة في التجديد والإنعاش الروحي، والنهضة الأخلاقية التي عاونت على تقويم ألمانيا وتثقفيها.
ولم يكن البحث عن فكرة جديدة «للقومية الألمانية» من نصيب المفكرين ورجال الأدب والفلاسفة وحدهم، بل ساهم في ذلك أيضا طائفة من الرجال الذين كان العمل «والتنفيذ» ميدانهم، ومن هؤلاء «ستين» الذي سبق ذكره كثيرا والذي التف حوله كل الذين أرادوا «العمل» والنضال القومي من أجل تحرير ألمانيا، وكان «ستين» الذي ولد سنة 1757 من «بارونات الإمبراطورية» وتقع أرضه في حوض «اللاهن
Lahn »، ولقد انتزعت منه هذه في التغييرات الإقليمية التي حصلت في سنة 1804، وضمت إلى «نساو»، ففقد «ستين» بسبب هذا الحادث كل صلة قد تربطه بدولة معينة في ألمانيا، أي إن «ستين» صار يدين بالتبعية لألمانيا ذاتها، وليس لواحدة من الدول التي وجدت بها.
ولقد كان لهذا «الأصل» الذي انحدر منه «ستين» أكبر الأثر في احتفاظه بكل تلك التقاليد الرجعية التي لطبقة فرسان الإمبراطورية الرومانية «الجرمانية» المقدسة، فهو لم يفعل شيئا لتحسين أحوال فلاحيه، وهو يحتقر الفلاسفة والكهنوتيين على السواء، أولئك الذين أيدوا الاستبدادية المستنيرة، وهو بطبيعة الحال ولسبب أقوى يحتقر كذلك «المواطنية العالمية»، ويرعبه أشد الرعب كل تلك الآراء «الاجتماعية» التي جاءت بها الثورة الفرنسية، واشتد مقته وعظمت كراهيته لها.
ولقد كان «ستين» من ناحية أخرى ورعا تقيا، تلقى ثقافته الروحية وتكوينه الخلقي بجامعة «كوتنجن
Coettingen »، وعشق دراسة التاريخ، حتى إنه لم يلبث منذ انسحابه من الحياة السياسية بعد ذلك أن شرع في سنة 1815 في إعداد مجموعة من الوثائق الخاصة بتاريخ ألمانيا؛
14
وعلى ذلك فقد اجتمعت في «ستين» كل عناصر التقاليد الصحيحة الألمانية.
وقد التحق «ستين» بخدمة بروسيا كمهندس أولا، ثم كإداري، ثم عين وزيرا للدولة في سنة 1804، ولم يكن «ستين» ممن يهتمون بتفاصيل الإدارة التي تركها لمرءوسيه، في حين اهتم هو بالمسائل الرئيسية، وحاول «ستين» بعد كارثة «يينا» إزالة مساوئ الإدارة وإصلاح الجهاز الحكومي؛ فقدم في ذلك مذكرات عديدة إلى الملك فردريك وليم الثالث، يطلب فيها إصلاحا كاملا ينهي ذلك النظام الإداري الذي كانت تسير عليه الدولة من أيام فردريك الثاني، والذي ساعد على انهيار الدولة عند أول كارثة نزلت بها، والذي ثبت فشله.
وفي نهاية شهر مارس 1807 انسحب «ستين» إلى نساو، التي لم يلبث أن بعث منها «بمذكرة نساو» المشهورة إلى الملك يعرض فيها برنامجا لإصلاح الدولة على أن يستند هذا الإصلاح على ما أسماه «ستين» بالروح العام الذي تمثله الهيئات الإقليمية، وكان هذا البرنامج منشأ الإصلاحات التي أجراها «ستين» في بروسيا؛ فقد دعاه الملك للوزارة بعد تنحية «هاردنبرج» في آخر شهر سبتمبر من سنة 1807، وظل «ستين» في كرسي الوزارة حوالي ثلاثة عشر شهرا، وكان أهم عمل قام به؛ استصدار مرسوم تحرير الرقيق الذي كان قد أعده قبل وصوله للوزارة، ثم إصلاح مجالس البلدية «في نوفمبر 1808»، ثم الإصلاح الإداري «الذي نفذ في ديسمبر»، ولقد ترك «ستين» الوزارة في 24 نوفمبر (سبتمبر) 1808 - كما عرفنا - بناء على رغبة نابليون بدعوى اكتشاف السلطات الفرنسية أن «ستين» كان مشتركا في تدبير عصيان أو ثورة تنشب في سيليزيا، وأنه كان يريد أن يجعل بروسيا تتدخل إلى جانب النمسا في الحرب التي أعلنت ضد فرنسا.
ولعل أهم ما قام به «ستين» أثناء وزارته، أن نفخ روحا جديدة في هيكل الإدارة والحكومة البروسية؛ فقضى على البيروقراطية الموروثة من زمن فردريك الثاني، وسهر على تنفيذ الإصلاحات التي أدخلها حتى تتم بكل سرعة، وبصورة تجعل ممكنا المضي فيها بدونه، وعندما نفاه نابليون خارج «الإمبراطورية»؛ لجأ «ستين» إلى النمسا حيث أخذ يؤيد إصلاحات الوزير النمسوي «ستاديون
Stadion » الذي هيأ النمسا لتصبح قادرة على الانتقام من فرنسا، واستقر المقام «بستين» أولا في قرية «برون
Brünn »، ثم في مدية «براج»، وأخذ يدبر الخطط والمشروعات لإشعال الثورة في ألمانيا ضد السيطرة الفرنسية، وبقي متصلا بالوزير «هاردنبرج» وبالوطنيين البروسيين.
ولقد غادر «ستين» براج عندما ساءت العلاقة نهائيا بين القيصر إسكندر ونابليون، وفي شهر مايو 1812 استقر به المقام قريبا من القيصر في سان بطرسبرج، فلم يعد إلى ألمانيا إلا بعد أن حلت الكارثة بجيش نابليون الأعظم في روسيا، وانتقاض العسكر البروسي بقيادة الجنرال يورك
Yorck
على الجيوش الفرنسية، فرجع إلى «كونجزبرج» في يناير 1813.
على أن الذي تجدر ملاحظته أن «ستين» برغم أنه خصص أكثر نشاطه السياسي لخدمة ملك بروسيا، لم يكن «بروسيا» في تفكيره وتدبيره، بل كان «ألمانيا» في نظرته للأمور وتقديره لها، وتلك كانت ميزة «أصيلة» تميزه من «هاردنبرج» - الذي كان أصلا من هانوفر - ومن الوطنيين البروسيين مثل «شارنهورست» وكل المصلحين العسكريين في بروسيا.
وعندما احتج «ستين» على فقد أملاكه في «لاهن» لم يكن مبعث هذا الاحتجاج حرصه على مصلحته الشخصية، أو نزعة أنانية، ولكن لأن هذه التغييرات الإقليمية والسياسية المترتبة على «القرار النهائي للإمبراطورية
Recès d’Empire » كانت إجراء لا يمكن - على حد قوله - أن تفيد منه ألمانيا في تحقيق استقلالها، ولضمان الاستقرار بها، وهكذا كان استقلال ألمانيا واستقرارها - وتلك وجهة نظر «ألمانية» ولا شك - وليس المحافظة على مصالح خاصة وفردية الغرض الذي صار يعمل لتحقيقه، والهدف الذي استرشد به في كل أعماله.
بل إن «ستين» كان يرى وجوب أن تكون هذه التغييرات الإقليمية «والسياسية» على نطاق أوسع بكثير مما حدث؛ حتى لا يبقى في ألمانيا بأسرها سوى دولتين اثنتين فقط، هما بروسيا والنمسا، فهو عدو لكل الدويلات الصغيرة والوسطى، ويقسو قسوة بالغة على كل أولئك الأمراء «الجبناء» الذين حاولوا بطريق التقرب إلى الحكومة الفرنسية، زيادة مساحة أراضيهم وإماراتهم، فقد أقض مضجعه أن التغييرات الإقليمية والسياسية والتي طلب من طائفة من الأمراء التضحية ببعض ما يمتلكون بسببها لم تكن لصالح ألمانيا، أو لتحقيق غرض نبيل وعظيم، يعود بالنفع على الأمة بأسرها.
وإذا كان «ستين» في السنوات التالية، أراد إصلاح حكومة بروسيا، فقد كان غرضه من ذلك أن يجعل بروسيا على درجة كافية من القوة تهيئها لاستناف النضال ضد فرنسا؛ فهو يكتب في مذكرة بعث بها إلى «ستاديون»:
إن الواجب يقتضي الآن تذكير كل ألماني بواجبه نحو الوطن المشترك، ودعوته لتأدية هذا الواجب بأن يبدأ النضال ضد أعداء البشرية، وأعداء ألمانيا.
ولقد جاء في مذكرة أخرى له في مارس 1810، أن الحاجة قد باتت ملحة لإعادة صنع وتنشئة الشعب الألماني؛ لاعتقاده أن تربية الشعب الألماني شرط أساسي لتقويمه، حيث إن القوة الروحية «والخلقية» قمينة بأن تجعله يتغلب في النهاية على القوة الجثمانية، والتي تمثلها في نظره السيطرة الأجنبية «الفرنسية».
وفي مذكرة قدمها للقيصر في سبتمبر 1812، أوضح «ستين» الفكرة التي استند عليها في الحالة التي يجب أن تسود ألمانيا بعد الانتصار المنتظر على نابليون، فقال:
إن من الواجب قبل كل شيء الامتناع عن إعادة الأحوال القديمة إلى ما كانت عليه سابقا، ذلك أن «الوضع» الذي نشأ نتيجة لمعاهدات وسيفاليا (1648) كان يدعو للحزن والأسى حقا، بالرغم من أنه لم يكن في صالح ألمانيا ولا في صالح أوروبا أن تكون ألمانيا «مشلولة» الحركة ولا حول لها ولا طول؛ بسبب الترتيبات الإقليمية والسياسية التي أوجدتها هذه المعاهدات، وبقيت آثارها «المشئومة» ما يزيد على قرن من الزمان.
أما الحل الذي ارتآه «ستين» فكان وحدة ألمانيا في دولة واحدة ذات نظام ملكي، وذات سلطة عليا واحدة يخضع الجميع لها، على أن تبقى لكل الأحرار حقوقهم المدنية والسياسية، فإذا تعذر إنشاء هذه الوحدة، وكان لا معدى عن وجود بروسيا والنمسا تتمتع كل منهما بذاتيتها المنفصلة، ولا مفرد من وجود عدد من الدويلات إلى جانبهما، فلا أقل من أن يكون عدد هذه الدويلات قليلا، وأن يتألف من تلك التي في الشمال اتحاد كونفدرائي حول بروسيا، ومن تلك التي في الجنوب اتحاد كونفدرائي آخر حول النمسا، وبذلك سوف يمتنع على هذه الدويلات أن تحيا حياة مستقلة، وأن تتبع سياسة خاصة بها، فلا تدخل في مفاوضات مباشرة، أو تبرم معاهدات ما مع الدول الأجنبية.
ومع ذلك وبالرغم من أن «ستين» كان «ألمانيا في أغراضه وسياسته»؛ فقد تعرض للوم الكثيرين من الذين عدوه «بروسيا»، وأخذوا عليه أنه إنما كان يعمل لصالح بروسيا فحسب، واتهموه بأنه يسيئ استخدام نفوذه في ألمانيا لنصرة المصالح البروسية، ولقد أجاب «ستين» على هذه المآخذ والاتهامات التي وجهت إليه في رسالة بعث بها في 20 نوفمبر 1812 إلى السياسي الهانوفري الكونت فون مونستر
Munster ، يؤكد فيها أنه إنما يعمل دائما لما فيه صالح ألمانيا بأسرها، وليس لصالح بروسيا، قائلا: إنه لا وطن له غير وطن واحد اسمه ألمانيا، وإنه يخلص لهذا الوطن إخلاصا كاملا ومن كل قلبه؛ فهو لا يقيم وزنا في هذه اللحظات الخطيرة للأسر الحاكمة إلا من حيث إنها وسائل وأدوات «للحكم» فحسب، ولا يريد إلا أن تصبح ألمانيا بلدا عظيما وقويا، وأن تسترجع استقلالها وحرياتها وذاتيتها القومية (أي شعورها بهذه القومية)، وأن تصبح قادرة على الدفاع عن ذلك كله بالرغم من موضعها بين فرنسا وروسيا، وتحقيق هذه الرغبة إنما هو في صالح الأمة وأوروبا معا ... ثم إنه يريد الوحدة، وأما إذا كانت الوحدة مستحيلة، فلا أقل من حصول انتقال يفضي إلى هذه الوحدة.
وفي وسع الذين يلومونه على «بروسيته» أن يضعوا أية دولة أخرى يشاءونها في مكان بروسيا إذا أرادوا ذلك، وأن يحصنوا النمسا ويزيدوا من قوتها بإعطائها سيليزيا، وبادن، وبراندنبرج، وألمانيا الشمالية، مع استبعاد الأمراء الذين في المنفى، وأن يعودوا ببفاريا وورتمبرج وبادن إلى الوضع الذي كان لها قبل سنة 1802، وبالاختصار في وسعهم أن يجعلوا النمسا صاحبة السلطة والقوة والنفوذ الأعلى في ألمانيا، فإنه لن يتردد في الموافقة على ذلك إذا اتضح أنه إجراء طيب ويمكن تنفيذه عمليا، ولكن يجب على الألمان «والحكومات الألمانية» أن تضع حدا لخلافاتها ومنازعاتها التي تشبه - كما قال «ستين» - خصومات أسرتي «مونتاجيو» و«كابوليه» في مسرحية «شيكسبير» الخالدة «روميو وجولييت».
وفي سنة 1813 سوف لا يكون «ستين» مدفوعا في نشاطه بأي اعتبار لمصالح الحكومة البروسية، على أن الذي تجدر ملاحظته أن «ستين» لم يكن يفكر في ألمانيا، والذي كان هدفه رعاية مصالحهم من غير النمسا، ففي فكره اشتملت ألمانيا دائما على النمسا؛ لأنه إنما كان يسعى لبناء «ألمانيا العظمى».
وهكذا صار «ستين» يمثل فكرة الوحدة القومية الألمانية في معناها الأعلى، وفي أكبر درجات الشعور بها، ولا جدال في أن «ستين» كان يتقدم معاصريه كثيرا في تفكيره هذا، ويتقدم بقدر كبير جدا في هذا التفكير على الحكومات الألمانية التي استرشدت بمصالحها الخاصة الإقليمية، سواء في الجنوب أو في الغرب، وسرها أن ترى بروسيا وقد تقوضت عروشها «في الحرب التي شنها عليها نابليون»، ووجدت في التعاون مع فرنسا ما يخدم مصالحها، ولقد تقدم ستين في تفكيره كذلك على «الرأي العام» الألماني الذي ظل لا يعبأ بفكرة القومية.
على أن «ستين» كان متقدما في هذه الناحية كذلك على جماعة الوطنيين البروسيين الذين شاركوه شعور الكراهية ضد نابليون، ولكنهم كانوا أنفسهم «بروسيين» وليسوا «ألمانيين»، فقد تبعه «كلوزويتز» و«بوين
Boyen » إلى روسيا، وأما «جنسناو» صاحب اليد الطولى في إحياء جيش بروسيا، فكان مثل «ستين» «ألمانيا» لا يأبه بالبروسية، وبقي لذلك بمعزل عن سائر زملائه، واستطاع «جنسناو» الإفلات إلى إنجلترة في مهمة خاصة، وقدم للوصي على العرش
15
في شهر أغسطس 1812 مذكرة يطلب فيها إنزال جنود من الإنجليز على الشواطئ الألمانية؛ ليعاونوا في إنشاء إمبراطورية ألمانية عظيمة في الغرب والشمال، وفيما عدا الذين تبعوا «ستين» إلى روسيا، وفيما عدا «جنسناو» نفسه، بقي الآخرون في أماكنهم يواصلون عملهم لتأدية رسالتهم؛ فحاولوا تحريك الثورة في سيليزيا، كما فعل أحدهم «جرونر
Grüner »، أو ظلوا يتربصون الحوادث، حتى سنحت الفرصة بعد هزيمة نابليون في حملة روسيا (1812).
وفي أثناء هذا كله كانت «الحكومة البروسية» ذاتها تقوم بدور مزدوج، فيسلم «هاردنبرج» الوطنيين إلى البوليس النمسوي، ويتحالف مع نابليون بالاتفاق مع «مترنخ» في حملة روسيا، في حين أنه استمر خفية ينشئ الصلات المتينة مع الوطنيين، ولقد فصم هذا الفريق من الوطنيين كل علاقة له بفرنسا، عندما حلت الكارثة بنابليون في روسيا، ولم يعد هناك أي مجال للشك في أن قوة «الجيش الأعظم» قد تحطمت نهائيا، فكان عندئذ فقط أن حاول هؤلاء وضع قوة بروسيا الجديدة تحت تصرف أولئك الذين صح عزمهم على الانتقام من نابليون وإنهاء السيطرة الفرنسية.
في إيطاليا
وقد لا تكون إيطاليا ميدانا بارز المعالم، له خصائصه المميزة له على نحو ما حدث في ألمانيا، ولكن الفكرة القومية كانت قد بدأت تظهر كذلك في إيطاليا، ولم تلبث أن سجلتها حوادث شتى بسبب المقاومة ضد السيطرة الفرنسية، فكانت هناك حركات «فكرية» واتجاهات في الرأي، ثم حركات عملية، أو ثورية ضد هذه السيطرة النابليونية، وإن كان من المتعذر وصف هذه «الحركات» بأنها كانت «قومية» فعلا وحقيقة، من هذه الثورة التي قامت في «كلابريا
Calabria »، ثم امتدت إلى أن وسعت مملكة نابولي كلها، فقد كانت هذه ثورة أو عصيانا حرضت عليه الملكة «ماري كارولين» ملكة نابولي، ضد «جوزيف بونابرت» والسيطرة الفرنسية، وأيدت قوة إنجليزية نزلت في يوليو 1807 هذه الثورة.
وضمت الثورة إليها عناصر متعددة؛ فكان رؤساؤها من النبلاء، مثل «روديو
Rodio »، ومن اللصوص وقطاع الطرق، مثل: «فراديافولو
Fra Diavolo »، ومن القساوسة ورجال الدين، ومن الفلاحين، إلى جانب المهربين، وكل الخارجين على القانون من رجال عصابات «المافيا
Maffia » في جبال الجنوب، والذين اشتركوا في النضال والثورة كوسيلة لتماديهم في أعمال السلب والنهب في الحقيقة، ثم كان من بين الثوار كذلك كل أولئك المتذمرين الذين أرهقتهم «المصادرات» المتعددة والإتاوات الكثيرة المفروضة عليهم، إلى جانب قسوة «النظام» الجديد، وإصرار «الحكومة» على جمع الأسلحة منهم، ولقد كانت الفوضى «التقليدية» في نابولي هي التي أرادت أن تتخذ من «الحركة الوطنية» ستارا لاستمرارها وبقائها، ومع ذلك فقد تألفت الجمعيات السرية لمتابعة المقاومة ضد السيطرة الفرنسية، انفردت واحدة منها على وجه الخصوص بأن صار لها شأن كبير في المستقبل، ونعني بذلك جمعية «الكاربوناري
Carbonaria ».
ويبدو أن أصل هذه الجماعة كان جمعية سرية من «أبناء العم الفحامين الطيبين»
16
في مقاطعة «فرانش كومتيه»، ويبدو أنه كان أثناء حكومة «يواكيم مورا» في نابولي أن صار «الكاربوناري» يدينون بفكرة وحدة إيطاليا.
ولقد كان بسبب الإيمان بفكرة الوحدة الإيطالية أن صار للكاربوناري وللجمعيات السرية الأخرى - التي دانت هي أيضا بهذه الفكرة - شأن كعنصر نشاط من عناصر المستقبل التي قام على أكتافها العمل من أجل تحرير إيطاليا، في المحاولات التي حصلت بين سنتي 1815-1848.
على أن الذي يجدر ذكره أن «مورا» من جهة أخرى قد بذل قصارى جهده لإرضاء «الشعور المحلي» والرغبات المحلية، أي الاستجابة لمطالب «شعبه»، فأراد أن يسلك في علاقاته مع الإمبراطور الفرنسي مسلكا مستقلا، ولا ينبئ عن خضوع حكومته خضوعا كليا للسيطرة النابليونية، فقال: «لا يكون المرء ملكا ليطيع أوامر غيره!» ولتنفيذ هذا التحرر من نفوذ نابليون إذن، طفق «مورا» يجمع حوله طائفة من الطليان الذين عرف عنهم - بصورة من الصور - عداؤهم لنابليون، ومن هؤلاء وزيره «جالو
Gallo »، ورئيس شرطته «ماجنيلا
Magnella »، والذي كان متصلا بالجمعيات السرية، ويبدو أنه يدين بفكرة توحيد إيطاليا تحت سلطان «مورا» نفسه.
وواضح أن أنواع المقاومة التي ذكرناها ضد السيطرة الفرنسية لم تكن حركات «قومية» صحيحة، ولم تكن كذلك من الحركات القومية الصحيحة، كل أنواع المقاومة التي قامت ضد السيطرة الفرنسية، على أيدي حكومات البربون التي أفقدها نابليون عروشها، ولجأت إلى صقلية أو إلى سردينيا، أو تلك التي قام بها الموظفون ورجال الدين في خدمة البابوية، ضد السيطرة الفرنسية، عندما أعلن نابليون (في 17 مايو 1809) ضم الأملاك البابوية إلى الإمبراطورية.
على أن السيطرة الفرنسية من ناحية أخرى قد أحدثت تغييرا وتحولا عميقا في الأحوال الاجتماعية والسياسية السائدة في شبه الجزيرة الإيطالية، وبدرجة يمكن اعتباره بها عملا ممهدا لإنشاء الوحدة الإيطالية، ومع أن نابليون اتبع في «سياسته» الإيطالية خططا متعارضة ومتناقضة، وعلى نحو ما فعل في ألمانيا، فالشيء الواضح إجمالا أن النظام المبني على الإقطاع قد ألغي، كما ألغي حق القضاء الخاص الذي تمتع به الملاك أصحاب الأراضي، وجعل من اختصاص الخدمة العامة أو القضاء العام، وخضع النبلاء لقانون مشترك عام في كل ما يتعلق بأراضيهم وأشخاصهم، وألغيت العشور التي كانت تدفع لرجال الدين، كما ألغيت الواجبات أو الالتزامات الشخصية التي على الأفراد نحو الملاك والسادة، وأمكن - إلى جانب هذا كله - ملاحظة بداية إصلاح زراعي في أماكن متعددة من إيطاليا.
ثم تناول الإصلاح الإداري - في النواحي الخاضعة لهيمنة السلطات الفرنسية - تبسيط الإجراءات الإدارية وإلغاء عدد عظيم من «الوظائف» الإدارية التي كانت عبئا ثقيلا ضج الأهلون منه، مثل الوظائف الشرفية التي يتناول شاغلوها أجورا عالية دون عمل يؤدونه، وكان عدد الوظائف عظيما، ثم الوظائف التي كانت تباع وتشترى، ثم عمدت السلطات الفرنسية في الجانب الآخر إلى تنظيم المصالح والإدارات، لا سيما تلك المتعلقة بالحسابات العامة، وشكلت في كل مكان تقريبا هيئات نظامية من الموظفين الذين يخضعون لأساليب وقواعد العمل الفرنسية.
ولقد كان للسيطرة الفرنسية في إيطاليا آثار ظاهرة فيما حدث من تنظيم للحياة القومية بها في نواح متعددة، من ذلك تشكيل جماعة الموظفين الذين استخدمتهم السلطات الفرنسية من بين أهل الطبقة المتوسطة (البورجوازية)، والذين تعاونوا مع السيطرة الفرنسية، فقد كانت تضم هؤلاء المحافل الماسونية إليها، وهي التي أعيد تنظيمها فصارت تسمى «بالماسونية الملكية والإيطالية»،
17
والتي نشأت أصلا في إيطاليا الشمالية، ثم كان هناك الجيش الذي امتص عددا كبيرا من السكان، بسبب اتساع نطاق التجنيد حتى شمل كل أنحاء إيطاليا تقريبا، وذلك عندما بلغ عدد الذين هلكوا من الطليان في جيوش نابليون ستين ألفا.
ولقد وصل عدد الجيش في «مملكة إيطاليا» أي في إيطاليا الشمالية سنة 1810 حوالي تسعة وأربعين ألفا، وفي سنة 1811 بلغ الرقم واحدا وتسعين ألفا، ومعنى ذلك أنه لم يكن هناك مفر من اتصال الأهلين - سكان البلاد الطليان - بالجيوش النابليونية المعسكرة في أقاليمهم، وكان معنى ذلك أيضا أن هذه الجيوش النابليونية - التي اعتمدت في إيطاليا على تجنيد الطليان لملء صفوفها - كانت تتألف من حشود من أصول مختلفة، صارت مجتمعة في مكان واحد، وفي «منظمة» واحدة - هي الجيش - لأول مرة، فصار ممكنا حينئذ - وللمرة الأولى كذلك - أن يحصل الاتصال والامتزاج بين النابوليتان والسردينيين، والجنوبيين، بأهل الميلانيز والشماليين عموما، ولقد كان ذلك أول امتزاج حدث من نوعه.
وأما الضباط الذين استخدمهم نابليون في جيشه؛ فقد صار اختيارهم - بقدر المستطاع - من بين النبلاء، ومن بين أفراد الطبقة المتوسطة (البورجوازية)، وثمة عامل آخر «لتوحيد» الطليان في نطاق الخضوع للسيطرة الفرنسية، نشأ من سياسة «الحصار القاري» التي أوجبت إنشاء نوع من الاقتصاد الموحد في إيطاليا، بمعنى التزام الطليان في أنحاء شبه الجزيرة باتباع نظام معين في علاقاتهم الاقتصادية مع بعضهم بعضا، ومع البلدان الأجنبية.
وهكذا، فإن نابليون دون أن يخلق «قومية إيطالية» - وذلك ما كان يتعذر عليه فعله، وما لم يفعله إطلاقا - قد أوجد السيطرة الفرنسية التي جعلت ممكنا تعرف العناصر الإيطالية المختلفة والتي عاشت أجيالا طويلة مشتتة على بعضها بعضا وبدرجة طيبة، ثم جعلت ممكنا قيام العمل المشترك بين هذه العناصر المختلفة، بإتاحة الفرصة لها لفعل ذلك، ولا جدال في أن هذا التعارف، ثم الاشتراك في العمل، كانا كلاهما ضروريين للتمهيد لبناء «قومية» إيطالية في المستقبل.
على أنه - إلى جانب هذا كله - لا يجب إغفال ما كان للحياة الذهنية والثقافية والخلقية في إيطاليا من آثار هامة وعميقة في صنع الشعور القومي وإحياء الروح القومية في هذه البلاد، وعلى غرار ما حدث في ألمانيا؛ فقد شهدت إيطاليا في هذه الفترة نهاية عصر الأدب الكلاسيكي، وقبل أن تخرج إلى عالم الوجود الحركة الابتداعية (الرومانتيكية)، فوجد من الكتاب من كانوا لا يزالون يكتبون باللهجات المحلية، ويستلهمون موضوعات كتابتهم من العناصر المحلية، والحياة الشعبية، ولكن هؤلاء كانوا الأخيرين من طرازهم، نذكر منهم الكاتب المحلي «ميلي
Meli » وهو سيشلياني من بالرمو (1740-1815)، وزميله «كارلوبورتا
Carlo Porta » وهو من ميلان (1777-1821)، وأما أكثرية الكتاب فكانوا من الملتحقين بخدمة الفرنسيين كموظفين في الإدارات المختلفة، أو ينالون من حكومة الإمبراطور الفرنسي الإعانات والمرتبات.
ولقد كان فريق من هؤلاء الكتاب أساتذة بالجامعات الإيطالية في بافيا وميلان وفلورنسة، وفريق آخر كانوا أعضاء في الهيئات التشريعية في «المملكة» الإيطالية، مثل «بوتا
Botta »، ولقد كان هؤلاء جميعا يدينون بالآراء الديمقراطية التي أخذوها عن الفرنسيين، ويكتبون في تمجيد «الثورة الفرنسية» ويكيلون المدح لشخص نابليون.
ومع ذلك فقد كانت جهود وآثار هؤلاء الكتاب أثناء «العهد الإمبراطوري» في إيطاليا جهودا «قومية» في معان متعددة، ذلك أن جمال الأسلوب والموضوع الذي سبب ازدهار هذا النوع من الأدب، لم يلبث أن جعله جزءا من التراث الإيطالي، وضمن نجاحا باقيا لهؤلاء الكتاب، حتى بعد أن انتهى هذا الشكل الفني الذي تميزت به كتاباتهم، أضف إلى هذا أن كثيرين من هؤلاء الكتاب دأبوا على تمجيد الوطن، وأشادوا بفكرة الوطنية ومحبة البلاد ، بالرغم من أنهم كانوا من أصول محلية، يعنون بالمحليات، والتحقوا بخدمة الفرنسيين، فكان ممن نالوا شهرة ذائعة في هذا العصر «أوجوفوسكولو
Ugo Foscolo » (1778-1827) الذي أصدر في سنة 1802 «رسائل جاكوبو أورتيز الأخيرة»
18
يصور فيها الآلام التي انتابت بندقيا بسبب اختفاء وطنه (البندقية)، ثم لفشله في الحب، حتى إنه عمد لإنهاء آلامه بالانتحار، ونال «فوسكولو» شهرة عريضة بفضل قصائده التي ظهرت إحداها سنة 1807 بعنوان: «القبور»،
19
يشيد فيها بذكر الأرض التي صارت مقدسة لوجود قبور العظماء بها، وهم الذين يقودون المجتمعات البشرية ويرشدونها للأعمال العظيمة، والقبور التي صارت لذلك تربط الحكومات بالأرض التي نبت فيها الإنسان.
وهناك كاتب آخر نال شهرة مساوية؛ هو «فنسنتو مونتي
Vincento Monti » الذي كان معاصرا «لفوسكولو» لمولده في سنة 1754، وكان صاحب نتاج ضخم من القصائد التي تغيرت موضوعاتها حسب الظروف والمناسبات وتحت تأثير الأحداث السياسية؛ فهو يكتب قصيدة في سنة 1793 بمناسبة وفاة القائم بالأعمال الفرنسي «بازفيل
Basville » الذي قتل في رومة، وهو ينشد قصيدة أخرى لتحية أحد الشعراء وعلماء الرياضة «ماشيروني
Mascheroni »، وحتى يحتفل «مونتي» بهذا الشاعر الرياضي نظم أغنيات وأناشيد وطنية تحدث فيها عن أمجاد إيطاليا ممثلة في شخصيات عظماء رجالها من أقدم الأزمنة.
ثم إن «مونتي» لم يلبث أن صار «الشاعر الرسمي» للإمبراطور؛ فنظم القصائد في مديح نابليون، حتى إذا بدأ نجم الإمبراطور في الأفول جذبت عروض النمسا المغرية هذا الشاعر بعد سنة 1814 للتخلي عن المذهب الحر الذي كان قد اعتنقه، وصار يسبح بحمد هذه الدولة الأوتوقراطية؛ وهكذا لم تكن أحاسيسه السياسية صادرة عن مبدأ واحد ثبت عليه صاحبه، ومع ذلك فقد كان «مونتي» في كل مراحل تطوره لا يفتأ يبحث عن العناصر التي تتألف منها عظمة إيطاليا وعظمة الوطن وصالحه؛ ليصوغ كل هذه المعاني في قصائده.
ولقد كان هذا الأدب كذلك أدبا قوميا، بمعنى أنه حقق الغاية من ذلك المجهود الذي بذل من زمن طويل لتطوير اللغة، حتى صنع هذا الأدب من الإيطالية ما يصح تسميته بلغة قومية؛ فقد اتفق الكتاب جميعا - على اختلاف منابتهم وبيئاتهم واتجاهاتهم - على ضرورة دراسة الإيطالية ، وضرورة تنقية هذه اللغة وتقديسها، فعل ذلك حتى أولئك الذين كانوا منهم في خدمة الفرنسيين أو التفوا حولهم، مثل «مونتي» و«سيزارولي
Cesaroli » أو أولئك الذين احتفظوا باستقلالهم الكامل، مثل «فوسكولو»، أو «جوشو
Guoco »، وهذا الأخير كان يدين بالآراء التي نادى بها «هردر» في ألمانيا عن تقديس اللغة «الأهلية» والأساطير الشعبية الأصيلة، واعتبارها أساسات يرتكز عليها بناء الأمة، وأخيرا أولئك الذين عرفوا بعدائهم للسيطرة الفرنسية، مثل «نيكوليني
Niccolini ».
وقد استطاع هؤلاء جميعا، وعن طريق بحوثهم في نقد الأدب، ودراساتهم في قواعد اللغة، وبفضل نتاجهم الأدبي العالي الذي صار مثلا يحتذيه الأدباء الناشئون وغيرهم؛ نقول: استطاع هؤلاء جميعا تنقية اللغة، وإحداث نهضة لغوية «إيطالية» أو «وطنية» عظيمة في إيطاليا، ولقد كانت اللغة الإيطالية السائدة هي «اللسان» التسكاني، حيث كانت «التسكانية» اللغة الرسمية الإيطالية منذ أمد طويل، فعمد هؤلاء الآن إلى تطهير هذه «اللغة» من كل شائبة وإعادتها إلى نقاوتها الأولى.
ولقد كان من أسباب نجاح جهودهم؛ التشجيع الذي نالوه من نابليون نفسه، حتى ظفروا بتحقيق شيء مما أرادوه في هذا السبيل في سنة 1809 عندما تقرر أن تكون الإيطالية هي اللغة المستخدمة في المحاكم، حتى في الأراضي التي ضمت «من إيطاليا» إلى فرنسا، وفي سنة 1812 وافق نابليون على إعادة تشكيل «أكاديمية العلوم» في فلورنسة، فكان هذا النشاط الأدبي واللغوي مبعث شعور جديد لدى الطليان بالفخر والكبرياء، يضاف إلى شعورهم القديم بأمجادهم الغابرة، كما لا يجب إغفال نهضتهم المعاصرة في الفنون الأدبية والموسيقى.
وواضح مما تقدم إذن، أن الفكرة القومية في إيطاليا بقيت في هذا العهد ضمن إطار الأقوال وحسب، تلقى تعبيرا عنها في نوع الأدب الجديد، والإحياء اللغوي «الأدبي» ولم تدخل بتاتا إلى ميدان العمل السياسي، فلا تزال معدودة لذلك «إضافة» تزيد من قيمة ومقدار التراث الأدبي والفني الإيطالي فقط، في وقت لم يكن منتظرا فيه - بسبب ما حصل من تعاون مع الفرنسيين - أن تبرز إلى عالم الوجود «فكرة قومية» أو شعور قومي صحيح في إيطاليا، وإن كانت كل العوامل التي ذكرناها قد مهدت لوجود هذا الشعور القومي بعد ذلك.
الفصل الثالث
انهيار السيطرة النابليونية
تمهيد
حاولنا في الفصلين السابقين تتبع رد الفعل الذي حصل ضد السيطرة الفرنسية في مختلف أنحاء أوروبا، وهو رد الفعل الذي جعل الشعوب تحاول التحرر من سلطان الحكومة الأجنبية، والذي أدى لذلك إلى مولد «القومية» ومهد لظهورها، ولقد شاهدنا كيف أن المحاولات الناجمة من رد الفعل الذي حصل كانت «فردية» أو «محلية» أو «منعزلة» عن غيرها؛ فلم يكن مبعثها شعور عام، وجهد منسق يجمع كل عناصر الأمة، سواء في ألمانيا، أو في إيطاليا، أو في غيرهما من البلدان التي خضعت لهذه السيطرة الفرنسية في «ثورة» واحدة أو قومة «وطنية» تبغي التحرر والخلاص من هذه السيطرة وإنهاءها؛ لتقيم في مكانها «وحدة قومية» ألمانية أو إيطالية.
على أن الذي نريد بيانه الآن، أن هذه السيطرة الفرنسية لم تلبث أن انهارت بفعل الحروب التي حصلت في أوروبا في غضون سنتي 1813-1814 والتي عرفت «بحروب التحرير والخلاص»،
1
والتي مهد لها تحطيم «الجيش الأعظم» في حملة روسيا، وغزو ألمانيا وانقلاب النمسا على الإمبراطور «نابليون»، وثورتها على السيطرة الفرنسية، وكل تلك كانت حوادث بمثابة اختبار لقوى ذلك الشعور القومي الذي شهدنا بدايته أو بزوغه في كل أنحاء أوروبا.
ونحن في هذا الفصل سوف نحاول بيان مدى مساهمة الشعوب في الحوادث أو الحركات السياسية والعسكرية التي أفضت إلى سقوط نابليون، ثم طرده وإنهاء سيطرته من أوروبا الوسطى أولا، والتي أفضت إلى هزيمة فرنسا وإنهاء حكومته بها ثم طرده منها أخيرا، وواضح أن مثل هذه المحاولة سوف تستلزم حتما تتبع الفكرة القومية ومراقبتها عن كثب في كل «مظهر» تتخذه هذه الفكرة، ثم عند انتقالها من حيز الفكر إلى ميدان العمل: عسكريا وسياسيا؛ لتبرز أخيرا إلى عالم الوجود على أنقاض السيطرة النابليونية والإمبراطورية الفرنسية. (1) بولندة
وكانت بولندة البلد الأول الذي انحسر عنه سلطان الفرنسيين، وفي حين بقي القواد العسكريون، مثل «بوفياتوسكي» على ولائهم للإمبراطور نابليون، كان السياسيون يبذلون قصارى جهدهم للمحافظة على المظهر القومي الذي صار على كل حال لبولندة بإنشاء غراندوقية وارسو، وعلى ذلك فقد طلب البرنس «تزارتوريسكي» - الذي عرفنا أنه من الموالين لروسيا - من القيصر إسكندر بعث مملكة بولندة القديمة، بإنشاء مملكة جديدة يكون ملكها أحد أشقاء القيصر نفسه، أي الغراندوقات الروس، فقال «تزارتوريسكي» - مخاطبا القيصر: «فإذا حانت الساعة لتنتقم الأمة البولندية من الغزاة، ولقيت المعاونة من جلالتكم في ذلك، وحاربت لتحقيق هذه الغاية، فإن أثر ذلك سوف يكون عظيما رائعا، بل ويتجاوز كل ما قد تنتظرونه، وإني متعهد بالتوقيع على كل شيء دون إبطاء.»
ولقد عرضت كذلك من ناحية أخرى «حكومة وارسو» التسليم لروسيا على شرط إعادة أو إحياء بولندة حتى ولو كان ذلك تحت حكومة روسية مع اتحادها مع «ليتوانيا»، واستصدار دستور لها.
ولكن هذه العروض «البولندية» لقيت مقاومة ومعارضة شديدة من جانب الوطنيين الروس، مثل «نسلرود
Nesselrode »، بل ومن جانب البارون دي ستين الذي ذكرنا أنه لجأ إلى بطرسبرج، وصار أحد مستشاري القيصر، فكان من رأي «ستين» الذي ذكره في رسالة له بتاريخ 7 نوفمبر 1812؛ أن الواجب منع إنشاء مملكة بولندة مهما كان الثمن؛ لأن إنجلترة والنمسا سوف تتحدان في مقاومة هذا العمل، ثم إنه يخشى على وجه الخصوص أن يترتب على إحياء أو إعادة تأسيس مملكة بولندة، اصطدام النمسا مع روسيا، والحيلولة دون نجاح التحالف الدولي ضد فرنسا، فكان تحت تأثير «ستين» من جهة، ومعارضة «نسلرود» من جهة أخرى، أن تجنب القيصر الاستجابة لعروض البولنديين (13 يناير 1813)، وراح يبذل الوعود المعسولة لهم، الأمر الذي كان - على الرغم من ذلك - كافيا لأن يلزم البولنديون السكينة ليشهدوا سقوط الغراندوقية دون أن يحركوا ساكنا، وليتمكن الروس من الاستيلاء على وارسو دون قتال في 9 فبراير 1813.
وأما «موقف» المعارضة الذي وقفه «ستين» من إعادة تأسيس أو إحياء مملكة بولندة القديمة، فيفسره أن القومية الألمانية قد وقفت - بمجرد ظهورها - موقف العداء من القومية البولندية، ورفض الألمان أن يتمتع البولنديون بالمزايا التي لهذه الحياة القومية، والتي كان الألمان يريدونها لأنفسهم. (2) بروسيا الشرقية
وكانت بروسيا الشرقية، التالية بعد بولندة في ترتيب البلدان التي انحسرت عنها السيطرة النابليونية «الفرنسية»، وكانت ثورة بروسيا الشرقية أول مظهر لوجود القومية الألمانية، والجدير بالذكر هنا أن الكارثة التي حلت بالإمبراطورية الفرنسية بسبب حملة نابليون في روسيا، لم يكن ممكنا إدراك أهميتها أو عمق أثرها في التو والساعة في أنحاء الإمبراطورية، بل إن إدراك مقدار الخسارة الفادحة التي سببتها هذه الكارثة لم يحدث إلا تدريجيا، حتى إذا اتضحت هذه الحقيقة أخذت تتساقط «خطوط» الفرنسيين العسكرية والسياسية، واحدا بعد واحد، وصار الفرنسيون لا يقفون في تقهقرهم، مرحلة بعد أخرى، إلى أن تخلصت الأراضي الألمانية من وجودهم، وتحررت من سيطرتهم بانحسار موجة المد الفرنسي عن ألمانيا انحسارا مطردا، أولا عن «خط» الفستيولا، فيصل الفرنسيون في تقهقرهم إلى خط الأودر (في نهاية فبراير 1813)، ثم يرتدون بعدئذ إلى نهر «الإلب».
ولقد شاهدنا في الفصول السابقة - عند الكلام عن انهيار الإمبراطورية النابليونية - كيف أن القوات الفرنسية في أقصى الشمال كان عليها أولا الارتداد إلى نهر «النيامين» في النصف الثاني من شهر ديسمبر (1812)، فصدر الأمر إلى «ماكدونالد» بالانسحاب إلى «تلست» في 18 ديسمبر 1812، ثم تبع ذلك الانسحاب إلى «الفستيولا» من نهر «النيامين» وهو الانسحاب الذي ترتب عليه الجلاء عن بروسيا الشرقية.
ولقد كان بفضل هذه الحوادث أن تسنى قيام الثورة في بروسيا الشرقية، فقد كان «ماكدونالد» يتولى حينئذ قيادة أقصى الميسرة، حيث يؤلف الجيش العاشر قسما من «الجيش الأعظم» في احتلال إقليم «كورلاند
Courland »، وكان فريق من هذا الجيش العاشر يتألف من البروسيين بقيادة الجنرال «يورك
Yorck »، وهو من الطبقة الأرستقراطية البروسية المحافظة، وكان «يورك» أصلا من الذين يكرهون «الثورات» كراهية شديدة، ولا يريد بحال من الأحوال أن تكون ألمانيا - على حد قوله - مسرحا لحوادث دامية كتلك التي حصلت أثناء «الثورة» في فرنسا، ثم إنه كان من الذين يحرصون بقوة على تقاليد الجيش البروسي، من عهد فردريك الأكبر (الثاني)، وحز في نفسه كثيرا لذلك أن يرى هذا الجيش وقد وصل إلى حال سيئة، ولقد تسنى لهذا القائد «البروسي» بحكم موقع قواته في أقصى اليسار أن يكون ملما بالأنباء المفصلة عن حقيقة الموقف، أكثر من القائد العام الفرنسي «ماكدونالد» الذي بقي في عزلة، ويجهل ما كان يدور في مؤخرة جيشه.
وأما الذي حدث في «مؤخرة» جيش ماكدونالد فهو أن عروضا تقدم بها الروس في نهاية شهر سبتمبر 1812 إلى الجنرال «يورك» على يد الحاكم الروسي في «ريجا
Riga » - والذي كان إيطاليا يدعى «باولوتشي
» - وعلى يد القائد الأعلى للقوات الروسية، وبعث «يورك» يطلب تعليمات من حكومته في «برلين»، ولكن هذه تركته دون أية تعليمات، وبقي «يورك» يماطل الروس مدة شهرين، ويسعى ليظفر بفسحة من الوقت في اتصالاته بقائده الأعلى «ماكدونالد».
ولقد عمل «يورك» - من تلقاء نفسه - على توسيع نطاق المفاوضات التي عرضها عليه الروس، وكان يريد الحصول على ضمانات للمملكة بأسرها، أي الدولة البروسية؛ فحصل من القيصر إسكندر في 18 ديسمبر 1812 على تعهد بعدم إلقاء روسيا السلاح قبل إعادة تأسيس بروسيا بالأقاليم التي كانت لها حتى تسترد مكانتها بين الدول الكبرى، وهي المكانة التي كانت متمتعة بها قبل سنة 1806.
وهكذا استطاع هذا القائد - الذي كان في عزلة عن حكومته ودون تلقي تعليمات منها - أن يحيل مفاوضات «عسكرية» بدأت لإبرام هدنة لوقف القتال إلى مفاوضة «سياسية»، وعندما وصلته في 29 ديسمبر 1812 أوامر «ماكدونالد» باللحاق به عند «تلست» خلف نهر «النيامين»، بادر «يورك» بعد تردد قصير بالتسليم للروس في اتفاق «تاوروجين
Tauroggen » في 30 ديسمبر 1812.
وكان تسليم «تاوروجين» على غاية من الأهمية، بل ويعتبر نقطة التحول في «الحركة الألمانية»؛ فمن الناحية العسكرية وجد «ماكدونالد» نفسه مكشوفا بسبب هذا التسليم في جناحه الأيسر، فاضطر إلى التقهقر من «النيامين» صوب «الفستيولا»؛ وكنتيجة لذلك اضطر إلى إخلاء «بروسيا الشرقية»، ومع ذلك فلا يجب اعتبار هذا «التمرد» الذي حصل من جانب «يورك» - بالرغم من جسامة الآثار الناجمة من هذه الخطوة - حركة قومية ألمانية، بل إن الذي حدث لا يعدو أن يكون «رد فعل» عسكري ووطني من جانب أحد البروسيين فحسب.
ولقد صار الموقف متغيرا بسرعة عظيمة بعد تسليم «تاوروجين»؛ لأن بروسيا الشرقية كانت حالها على درجة كبيرة من السوء بسبب التخريب والدماء الذي حل بها، نتيجة للقتال الذي دار في أرضها أثناء حملة 1807 (معركتا إيلو وفريدلاند)، ثم أثناء عمليات سنة 1812 عند إعداد الحملة ضد روسيا، وأثناء الحملة نفسها، فأنهكت قوى بروسيا الشرقية تماما - وعلى وجه الخصوص - بسبب مصادرة المؤن وغير ذلك من المنتجات التي استولت عليها فرنسا «لتموين» جيوشها، الأمر الذي هيأ بروسيا الشرقية لأن تشعر بالعداء المستحكم ضد فرنسا.
على أن «بروسيا الشرقية» كانت - إلى جانب هذا - القسم من ألمانيا الذي شاهد أهله وحدهم «الجيش الأعظم» بعد أن حلت به الكارثة في روسيا؛ فشهدوا «الهاربين» المهزومين من الجنود الذين اجتازت فلولهم هذا الإقليم، في طريق تقهقرهم المطرد وقد استبد بهم الهلع والفزع بعد الهزيمة التي أصابتهم، أضف إلى هذا أن «الموظفين» في بروسيا الشرقية كانوا من البروسيين «الوطنيين»، الذين أرادوا تخليص «وطنهم» من وطأة السيطرة الأجنبية.
تلك إذن كانت الأسباب التي أدت إلى إشعال الثورة في بروسيا الشرقية، ولقيت هذه الثورة كل تأييد من جانب «شون
Schoen » رئيس الإدارة البروسي، والذي كان منتميا لنفس الجماعة الوطنية التي التفت حول «ستين»، ثم من جانب القائد الأعلى في بروسيا الغربية الجنرال «بولو
Bulow » الذي أخذ على عاتقه دعوة كل «المسرحين» إلى الخدمة.
وأما «يورك» فقد بدأ من تلقاء نفسه يشن هجوما على خطوط الفرنسيين الخلفية، في الوقت الذي استمر فيه الروس يهاجمون هؤلاء، وبالرغم من أن «الحكومة البروسية» كانت لا تزال «حليفة» لنابليون. والذي تجدر ملاحظته أن كل النشاط الذي حدث أثناء هذه الثورة كانت الهيئات المختلفة في الإدارة والجيش معا هي القائمة به، ولكن دون تصريح من هذه الحكومة ذاتها أو اعتراف من هذه به، وخارج نطاق «المسئولية الحكومية».
والواقعة الحاسمة في هذه الثورة كانت وصول البارون «ستين» إلى كونجزبرج في 22 يناير 1813، وقد حضر «ستين» مزودا بتفويض كامل من القيصر إسكندر للعمل ضد الفرنسيين، ولقد كنا ذكرنا عن «ستين» أنه كان في تفكيره «ألمانيا» ولا يأبه كثيرا بمصالح بروسيا في حد ذاتها، ومنفصلة عن صالح ألمانيا، فكان «ستين» مدفوعا في نشاطه بعدائه وكراهيته لفرنسا؛ ولذلك فقد وجه اللوم بمجرد وصوله هو «وجنسناو» إلى رئيس الإدارة في بروسيا الشرقية «شون»؛ لأنه لم يذبح الفرنسيين الذين مروا من «مقاطعته»، ولم تكن في نظر «ستين» ثورة بروسيا الشرقية إلا أداة أو وسيلة للقيام بعمل أعظم؛ هو خلاص ألمانيا وتحريرها، وتأسيس ألمانيا «جديدة» مرة أخرى.
وكان من أجل خلاص ألمانيا وتحريرها وإعادة إنشائها، أن عمد «ستين» إلى رفع «الحصار القاري» فورا، والذي كان عبئا ثقيلا على بروسيا، وإلى جمع الإتاوات للإنفاق منها على المقاومة التي يعزى إليه كل الفضل في تنظيمها بأن بادر بجمع «مجلس الطبقات» الإقليمي في بروسيا الشرقية لتقرير إنشاء وتنظيم الجيش، واستطاع «ستين» أن يؤسس من العناصر المحلية نوعا من «الحكومة» تتولى شئون الإدارة والحكم وتنظيم المقاومة في غيبة الحكومة الملكية.
أما المجلس الإقليمي فقد اجتمع في «كونجزبرج» في 5 فبراير 1813، وفي 7 فبراير أقر المشروع الذي كان قد أعده «ستين» لإنشاء الجيش، وعندئذ غادر «ستين» بروسيا الشرقية ليذهب إلى الروس تاركا لأصدقائه الذين خلفهم بها مهمة تنظيم الثورة، وكان «المجلس الإقليمي» يتألف من سبعين عضوا؛ نصفهم من ممثلي طبقة النبلاء، والنصف الآخر ممن يمثلون المدن والمهن الحرة، وكان هذا المجلس في حقيقة أمره مجلس نبلاء فحسب؛ حيث لم يشترك الشعب في انتخاب أعضائه، فبقي الشعب بعيدا عن هذه الحركة.
على أن هذا المجلس بسبب انعقاده دون صدور دعوة له بالاجتماع من الملك، وبفضل القرارات التي اتخذها، نجم من وجوده افتئات على حقوق الملك، كما كان إجراء ثوريا في صميمه، بالرغم من كل تصريحات وإعلانات الولاء لمليكهم التي أصدرها أعضاؤه، وتأكيدهم الخضوع للملكية.
ولذلك فقد تميزت الحركة البروسية بظاهرتين، بقيتا تلازمانها في كل أدوارها، أولاهما: أنها كانت حركة «نبلاء» قامت بها الطبقات العليا في المجتمع البروسي، وثانيتهما: أن هذه الحركة لم تكن «حكومية» ولم تخش العمل خارج النطاق الحكومي، وصارت لذلك تدعو لمبادآت العمل الثورية، فكان أن أتم «المجلس» تأليف الجيش الإقليمي، عندما اتخذ قرارا بذلك في 7 فبراير 1813 بأن يصير تشكيل هذا الجيش الإقليمي
Landwehr
خارج نطاق الجيش النظامي، والسبب في ذلك أنه كان لا يزال يسود الطبقات المتنورة في بروسيا شعور بعدم الارتياح، أو بالعداء ضد الجيوش المحترفة، وهو الشعور الذي كان ملحوظا بين أوساط هذه الطبقات في أواخر القرن الثامن عشر، أما هذا الجيش الإقليمي
Landwehr
المؤلف من أهل البلاد، فهو الذي يجب أن يكون الأداة اللازمة للدفاع عن أرض الوطن ضد الغزو الأجنبي من جهة، وكذلك أداة الثورة ضد السيطرة الأجنبية بمجرد اختراق العدو لحدود البلاد.
والتحق بهذا الجيش الإقليمي كل الشباب والرجال من سن الثامنة عشرة إلى سن الخامسة والأربعين، المتطوعون منهم أولا، ثم أولئك الذين يأتي دورهم للخدمة العسكرية بطريق «القرعة»، على أن يكون لهؤلاء الاختيار في الوقت نفسه في أن يأتوا بمن يحل محلهم في الجيش.
والذي تجب ملاحظته أن هذا الإجراء الأخير لم يكن مذكورا في مشروع «ستين» الأصلي، الذي ذكرنا أن «المجلس» كان قد اقترع بالموافقة عليه في يوم 7 فبراير نفسه، ولكن لم تلبث أن طلبت «الطبقة الثالثة» - التي تمثل المدن - إدخاله، كما أبدى الجنرال «يورك» رغبته في ذلك، ولقد بدأ التنفيذ فور الاقتراع على مشروع إعادة تأسيس الجيش وتنظيمه، دون انتظار موافقة الملك الذي كان بعيدا.
ولكن للمرء أن يتساءل عن أثر أو صدى هذه الثورة التي حصلت في بروسيا الشرقية على سائر المقاطعات التي تتألف منها دولة بروسيا، فإن الذي حصل كان أن غادر الملك برلين في 22 يناير 1813 قاصدا إلى «برسلاو
Breslau » بعد أن عمل على تنحية الجنرال «يورك» من قيادته، وبعد أن وجه اللوم إلى «مجلس الطبقات» في كونجزبرج بسبب القرارات التي اتخذها، وعلى ذلك فإنه لم تلبث أن تركت حكومة الملك جانبا، وتشكل نوع من «الحكومة المضادة» من الوطنيين في براندنبرج، وعمد القواد الذين شاهدناهم على رأس الثورة، مثل «يورك» و«بولو» إلى التفاهم مع القائد الروسي الأعلى «ويتجنستين
Wittgenstein »
2
من أجل الزحف صوب نهر «الأودر» ضد الفرنسيين، وضغط هذا الإجراء على يد الملك؛ فوجه فردريك وليم الثالث في 3 فبراير 1813 دعوة للمتطوعين للانخراط في صفوف الجيش حتى يزيدوا من قوته، وفي 9 فبراير أوقف الملك كل الاستثناءات من الخدمة العسكرية في طبقة الشبان من سن السابعة عشرة إلى الرابعة والعشرين، فكان من أثر هذه الترتيبات أن أصيب الشعب البروسي «بحمى» خفيفة من أجل الدفاع عن الوطن وخلاصه.
ولقد كان «الجيش الإقليمي» إذن -
Landwehr - بمثابة حجر الأساس للقومية البروسية، عندما أقبل على التطوع به البروسيون من مختلف الطبقات، وخصوصا الطبقات المثقفة التي لوحظت فيها الملامح الأولى للقومية الألمانية، فاعتنق أهلها - بحماس شديد - فكرة التسليح العام للنضال ضد فرنسا، فصار أساتذة الجامعات يتولون «شرح وتفسير» مرسوم الدعوة للمتطوعين (منذ 3 فبراير)، فعل ذلك «فيتشه» في برلين، و«ستفان
Stefens » في برسلاو، وغيرهما في سائر الجامعات في «هال» و«كونجزبرج»، وحتى في بروسيا القديمة التي كانت قد ضمتها إليها «الدولة الفرنسية»، ثم في «يينا» في شهر مارس (1813).
وجذبت هذه الحركة - على وجه الخصوص - كل الشباب؛ فكان شباب الجامعة هم الذين التحقوا «بالجيش الإقليمي» أولا، وبقيت جامعة برلين مدة من الزمن تكاد تكون خالية من طلابها؛ فلم يوجد بها سوى ثلاثة وعشرين وحسب، واشتركت طبقتا النبلاء والبورجوازي مع الشباب في حركة التطوع هذه، وكان لذلك أن صارت هذه الحركة، حركة الأوساط المثقفة والطبقات العالية، وقدمت برلين وحدها ستة آلاف متطوع، في حين بلغ عدد سكانها وقتئذ مائة وخمسين ألفا، ولقد ترتب على حماس الرغبة في التطوع أن خلت الكليات في أماكن أخرى من طلابها، وتعددت الأمثلة على صدق هذه الرغبة؛ ففي «سيليزيا» طلبت كل هيئات الموظفين أن تحل هيئات أخرى محلها ليتطوع أفرادها في الجيش، ثم عمد أحد القواد الشبان «لوتزوف
Lützov » إلى إنشاء فرقة من «القناص السود
Chasseurs Noirs »، مهمتها إدخال المتطوعين في صفوف الجيش الإقليمي، من الذين يريدون ذلك في جهات أو أقسام ألمانيا الأخرى.
على أن هذه الحركة لم تلبث - على ما يظهر - أن أزعجت السلطات الحكومية في ألمانيا وخارجها، فانزعج «مترنخ» مما أسماه «بهياج الخواطر الفظيع» المنتشر في سيليزيا، وفي بوهيميا، ووستفاليا، ثم في التيرول كذلك، فكتب في 18 فبراير 1813: «إنه ليس بالأعمى الذي لا يرى خطورة هذه الحركات الشعبية المستثارة باسم شرف ألمانيا واستقلالها؛ لأن هذه سوف لا تلبث أن تحطم الصلات والروابط السياسية والاجتماعية»، ولقد كان الانزعاج الذي حصل وقتئذ هو مبعث كل ذلك الانزعاج والتخوف الذي غشي الحكومات الأوروبية بعد انقضاء عهدي الثورة الفرنسية وإمبراطورية نابليون، والتي صارت تتوجس خيفة من كل حركة شعبية تتوقع أن تنقلب - عاجلا أو آجلا - إلى «ثورة» عارمة تجرف هذه الحكومات نفسها.
وأما هذه الجيوش «أو القوات» البروسية الكبيرة؛ فقد صارت مدفوعة في نشاطها بحدة العاطفة «الوطنية» وشعور الكراهية العظيمة، الذي كان مبعثه كل تلك الأحقاد التي أثارتها السيطرة الفرنسية، وزرعها في القلوب النظام النابليوني. ولقد طغى شعور الكراهية هذا على كل ألمانيا؛ فامتد الهياج حتى شمل كل ألمانيا الشرقية، ثم ألمانيا الشمالية عندما ضمت «حركة التطوع» إليها مدينة «همبورج» وأقاليم الهانسا.
ومع أن «حكومة» بروسيا أرادت التزام خطة «التحفظ»، وكانت تبغي ربط قضيتها بمصالح النمسا، وتشعر بالارتياب من ناحية روسيا، وكانت متحذرة من أطماع القيصر إسكندر، ويستبد بها القلق والخوف من الأساليب والأعمال الثورية التي اقترنت بنشاط الحركة الوطنية، فقد اضطرت هذه الحكومة إلى العمل تحت ضغط هذا التيار الجارف من الشعور الوطني، ورضخ فردريك وليم الثالث لآراء «ستين» الذي حضر بنفسه إلى «برسلاو» - المكان الذي قصد إليه الملك كما ذكرنا بعد مغادرته برلين - فكان بسبب ضغط «ستين» عليه أن قبل فردريك وليم الثالث المحالفة مع روسيا في معاهدة «كاليش
Kalisch » في 27 فبراير-أول مارس سنة 1813، وقد كانت تلك معاهدة مزعجة تماما لحكومة بروسيا؛ لأن القيصر مقابل التحالف ضد فرنسا قد تعهد «في مادة سرية» بإرجاع بروسيا إلى الحدود التي كانت بها سنة 1806، دون أن يصدر منه أي تأكيد بأن تسترجع بروسيا الأقاليم جميعها التي كانت في حوزتها قبل سنة 1806، ودون الحصول على أي ضمان بإعادة تأسيس بروسيا بالصورة التي كانت عليها قبل الغزو الفرنسي، وذلك في مقابل هذه المخاطرة العظيمة: الاشتباك في حرب جديدة مع روسيا ضد فرنسا.
ولقد كان وصول القيصر نفسه إلى برسلاو في 15 مارس 1813 ضروريا ليعلن فردريك وليم الثالث الحرب على فرنسا في 16 مارس، وليتخذ في اليوم التالي (17 مارس) قرارا على جانب عظيم من الأهمية؛ هو أن يعمم نظام «الجيش الإقليمي» الذي نشأ في بروسيا الشرقية، حتى يشمل كل مقاطعات أو أقاليم المملكة، ولكن مع فارق هام، هو إلغاء حق الاختيار الذي يخول الأفراد المقترعين للخدمة تسمية غيرهم ليحلو محلهم في هذه الخدمة العسكرية - على نحو ما سبق تفصيله - وفي 12 أبريل 1813 قرر الملك نوعا من «التعبئة العامة» في بروسيا من طراز ما فعلته «الثورة الفرنسية» في سنتي 1792-1793، وفرضت الخدمة العسكرية الإجبارية على البروسيين مدة اشتعال الحرب.
وهكذا تبدو هذه الحركة البروسية «تلقائية» من نوع أخلاقي، تلتقي فيه الحركتان اللتان سبق أن تناولنا كلا منهما على حدة: المقاومة البروسية الصحيحة ضد السيطرة الفرنسية، أو الحركة «الوطنية» البروسية، ثم «فكرة» الإحياء والتجديد أو الانتعاش الأخلاقي التي كان قد أخذ بها الرؤساء والقادة الألمان المثقفون وعملوا بها من أجل خلق ألمانيا جديدة، ببث الروح القومية بها.
ولمعرفة مدى اشتراك المجتمع البروسي مع سائر المجتمعات في ألمانيا في هذه الثورة ضد فرنسا، كانت ضرورية دراسة التنظيم العسكري الذي حصل على أثر الحوادث التي وقعت في بروسيا، أي الوقوف على مقدار الأثر الذي كان للقرارات التي ذكرناها في شهري فبراير ومارس 1813 والأسلوب أو الطريقة التي نفذت بها.
وبشأن التنظيم العسكري الذي حدث، لا مناص من التمييز بين عنصرين تتألف منهما القوات المقاتلة، هما: «المتطوعون»، و«الجيش الإقليمي
Landwehr »؛ فالأولون كانت تضمهم فرق مخصوصة ومعزولة، لكل واحدة منها رئيسها، فلم تدخل في نطاق الجيش، ومبعث هذا النوع من التنظيم كان احترام آراء كل أولئك الذين ظلوا يسيئون الظن «بالجيش المحترف» ويضمرون العداء له، وهم الذين تجمعهم الطبقات المتنورة والغنية في بروسيا؛ فكان انخراط المتطوعين في مجموعات منفصلة، وفرق «حرة» بمثابة الامتياز الذي صار لأهل الطبقات المثقفة والمتعلمة والتي كانت في بحبوحة من العيش، وعلى ذلك فقد قل عدد المتطوعين لدرجة كبيرة جدا في سلاحي المدفعية والمهندسين، وهما «السلاحان» اللذان لم يكن بهما «متطوعون»، أو أن هؤلاء كانوا قد اندمجوا فيهما اندماجا كليا مع سائر الجند، وأما عدد «المتطوعين»؛ فقد بلغ في شهري مارس وأبريل 1813 حوالي خمسة عشر ألف متطوع، وذلك رقم قياسي، تدرب من هؤلاء حوالي سبعة أو ثمانية آلاف بدرجة تؤهلهم للاشتراك في العمليات العسكرية ، ابتداء من شهر مايو، وأما الجيش الذي انهزم على يد نابليون في واقعتي «لوتزن» و«بوتزن» - في مايو 1813 - فقد كان الجيش النظامي البروسي، لم يكد يزيد حجمه على ما كان عليه في وقت السلم، ولم ينضم إليه إلا عدد قليل من قوات المتطوعين، والرديف
Krümper
فبلغ عدده خمسة وثلاثين ألف مقاتل.
وأما «الجيش الإقليمي»؛ فقد عظم به عدد المتطوعين الذين استجابوا لنداء الدولة، وكان تنظيم هذا الجيش بطيئا، وتم في صور غير متكافئة، وإن كان قد صار يشكل في مجموعه «جيشا وطنيا» مؤسسا على «التعبئة العامة»، ومع ذلك فقد صار هذا الجيش الوطني في حقيقته تنظيما إقليميا؛ لأن «مجالس» المقاطعات أو الأقاليم هي التي قامت بتنظيمه وتشكيله، فأنشأت هذه لجانا من اثنين من النبلاء واثنين من ممثلي العامة لتعيين الضباط، ولم يتم تنظيم «الجيش الإقليمي» بدرجة متساوية في كل من سيليزيا وبروسيا الغربية، أي في بروسيا القديمة البولندية، فقد كثر فرار المجندين من صفوف الجيش، وأكثر الذين هربوا من الخدمة - بدلا من الالتحاق بالجيش - كانوا من أصل بولندي، فعبروا الحدود إلى خارج البلاد.
وفي بروسيا الشرقية كان كذلك عدد الهاربين من التعبئة العسكرية كبيرا، وفي بوميرانيا استطاع الفارون من الخدمة العسكرية - وكانوا كذلك كثيرين - الهروب بطريق البحر واللجوء إلى السويد أو إلى الجزر الدنماركية، وعجز «الفلاحون» في الريف عن «الفرار» من الخدمة؛ لوقوعهم من أجيال عديدة تحت نفوذ وسلطان سادتهم من «اليونكر»، ومع ذلك ففي أحايين كثيرة شوهد هؤلاء الأسياد «اليونكر» يقودون بأنفسهم «فلاحيهم» إلى مراكز الخدمة العسكرية، ولكن نجاح «الجيش الإقليمي» كان محققا في المقاطعات أو الأقاليم التي كانت أصلا بمثابة الدروع الواقية ضد الغزاة على حدود بروسيا، فكثر عدد الذين انخرطوا في سلك «الجيش الإقليمي» دون انتظار «للقرعة العسكرية» ومدفوعين بالواجب الوطني؛ ففي حين بلغت في المتوسط نسبة الملتحقين بالجيش الإقليمي بطريق «القرعة» 12٪ فحسب، وهي نسبة ضئيلة، وصلت هذه في أقاليم الثغور في بروسيا الشرقية 27٪، وفي وسط براندنبرج كانت 14٪، وفي بقية المقاطعات بلغت حوالي 8٪، وتلك الأرقام تدل - ولا ريب - على أنه كان هناك نوع من «الزعزعة» الوطنية.
ولكن لا يجب أن يغيب عنا كذلك أن نظام القرعة لم يشمل كل «المجندين» في الجيش الإقليمي؛ فقد أرغم قسم كبير من الأهلين على الانخراط في سلك الجيش إرغاما بطريق التجنيد الجبري.
وفي هذا الجيش
Landwehr
احتفظ النبلاء بالمراكز والوظائف العسكرية العليا؛ فوحدوا صفوفهم ليبعدوا من هيئة الضباط - بكل ما وسعهم من جهد - أفراد الطبقة المتوسطة (البورجوازية)؛ فصار النبلاء هم الذين يشغلون وظائف «الضباط» في هذا الجيش، وكان هؤلاء من الذين عني «شارنهورست» في السنوات السابقة بتدريبهم وتهيئتهم لملء هذه المناصب.
وبلغ عدد قوات «الجيش الإقليمي» حوالي المائة والعشرين أو المائة والثلاثين ألفا من مجموع الجيش البروسي بأسره، الذي قدر بنحو مائتين وسبعين ألف مقاتل، وكان في شهر أغسطس 1813 أن ظهر «اللاندفهر» في ميدان المعارك، وكان يؤلف وقتئذ حوالي نصف عدد القوة «العاملة»، ولا جدال في أن وجود «الجيش الإقليمي» قد أدخل تغييرا كاملا على طابع الجيش البروسي و«شكله» الذي كان حتى هذا الوقت «جيشا محترفا»، على أن الذي يجدر ذكره أن تشكيل «الجيش الإقليمي» والتغيير الذي حدث بسببه على طابع وتكوين الجيش البروسي عموما، لم يؤديا بحال من الأحوال إلى اندماج أو امتزاج «الطبقات الاجتماعية» في الفرق العسكرية؛ وذلك لأن الجيش الإقليمي لم يكن «تعبئة ديمقراطية» على غرار التعبئة العامة التي حصلت على يد حكومة «الثورة» في فرنسا، بل إن هذا الجيش الإقليمي كان مجرد تنظيم عسكري، ولا غرض من إنشائه إلا الحرب والقتال فحسب، فلم يكن غير «المتطوعين» في هذا الجيش الإقليمي ممن يعتبرون عنصرا وطنيا وقوميا حقيقة.
وهكذا، فالذي يبدو من هذه الدراسة أن الحركة الوطنية أو القومية البروسية قد بقيت غير مستكملة، وبالدرجة أو الصورة التي بقيت بها غير مستكملة كذلك إصلاحات «هاردنبرج» والحكومة البروسية التي ذكرناها في ميادين الاجتماع والإدارة؛ ولذلك فإن هذا «الجيش الإقليمي» مع ما كان يرمز إليه من نهضة أخلاقية ووطنية، كان لا يعدو كونه أداة مواتية لمواجهة موقف عسكري، هو ضرورة القتال للتحرر من السيطرة الأجنبية. (3) سائر ألمانيا
ذلك إذن كان أثر الثورة التي حصلت في «بروسيا الشرقية»، والتنظيم العسكري الذي أوجد «الجيش الإقليمي» على بروسيا.
أما في خارج بروسيا، وبمعنى آخر في سائر ألمانيا؛ فالذي لا شك فيه أن ألمانيا بأسرها كان يحركها للثورة شعور الكراهية والعداء العظيم لفرنسا، وهو شعور وطني، ومع ذلك فإن هذه الحركة لم تتغلغل بالدرجة الكافية ليتأثر بها المجتمع الألماني بأجمعه، ولم تكن عامة في كل أنحاء ألمانيا، ولا يجب لذلك المغالاة في تقدير قيمتها، أو التسليم بادعاء الأسطورة القائلة بأن ألمانيا بشعوبها قد هبت متكتلة في ثورة عارمة شاملة ضد السيطرة النابليونية، وتلك حقيقة سوف توضحها الحوادث التالية.
فقد بذل «ستين» بادئ ذي بدء وجماعته قصارى جهدهم لإحداث ثورة عامة في كل أنحاء ألمانيا لإشعال حرب قومية «ألمانية» ضد فرنسا، فأكثر من توجيه النداءات وإذاعة الدعوة التي شفعها بالإنذارات والتهديدات لتحريك هذه الثورة «القومية»، وآثر «ستين» العمل في هذا الميدان - على نحو ما جرت عليه عادته - بالتعاون مع روسيا، فأصدر - بالاشتراك مع «نسلرود» في 19 مارس 1813 باسم ملكيهما - نداء موجها «لألمانيا» أوضحا فيه أن خلاص ألمانيا هو الغرض من الحرب، ودعوا للاشتراك في هذه الحرب التحريرية كل شعوب وملوك وأمراء ألمانيا، ولقد رسم هذا النداء صورة لما سوف يكون عليه الوضع سياسيا في ألمانيا بعد إنهاء السيطرة النابليونية؛ فأعلن «ستين» و«نسلرود» انحلال «اتحاد الراين الكونفدرائي» على أن تحل محله «لجنة مؤقتة» لإدارة الأراضي الألمانية المستنقذة من السيطرة الفرنسية، وتتألف من مجلس مندوبين عن روسيا وبروسيا والحكومات الأخرى التي تنضم إليهما، مع تسمية «ستين» رئيسا لهذه الإدارة.
وبمقتضى البرنامج الذي وضعاه تصبح البلاد مقسمة إلى خمسة أجزاء، من: سكسونيا، ووستفاليا، وغراندوقية برج
Berg ، وأقاليم «ليب
Lippe »، ومصبات نهر الإلب مع مكلنبرج، ثم راح الاثنان في هذا النداء يتهددان كل أمير ألماني يتخلف عن إجابة الدعوة بفقد ممتلكاته. وواضح من لهجة هذا النداء والأغراض التي هدف إليها أن «ستين» نفسه كان إلى حد كبير مسئولا عنه.
وإلى جانب هذا النداء صدر نداء آخر، وجهه إلى ألمانيا القائد الروسي المعروف «كوتوزوف» في 25 مارس 1813، وهذا النداء يفسر الغرض من «الحركة» أو الثورة بقوله: «إنه مساعدة الشعوب والأمراء في ألمانيا على استرجاع ذلك التراث الذي اغتصب منهم، والذي يتعذر النيل بشيء منه، ونعني بذلك حرياتهم واستقلالهم، الشرف والوطن! فلا يسع كل ألماني مستحق لهذه التسمية إلا المبادرة بالانضمام إلى صفوفنا فورا ... وبقدر استناد قواعد هذا العمل ومبادئه على الروح القديمة التي للشعب الألماني واقتدائه بها، سوف يتسنى لألمانيا - التي تجدد شبابها، وزاد نشاطها، وصارت متحدة - أن تعود للظهور ثانية؛ لتتبوأ مركزا ممتازا بين أمم أوروبا.»
ولقد كانت تلك التي صدر بها هذان النداءان في 19 و25 مارس «لغة ثورية»، الأمر الذي كان في حد ذاته شيئا جديدا في ألمانيا، والذي ترتب عليه من جهة أخرى أن طفق الألمان يفسرونه بأنه بمثابة التعهد المزدوج، في صالح الحرية السياسية من ناحية، وفي صالح الوحدة القومية من ناحية أخرى.
وأما هذه الحركة «القومية» التي وجهت الدعوة للألمان من أجلها، فقد أثمرت في التو والساعة حركة من القريض الوطني، حيث نبت جيل جديد من الشعراء، عرفنا منهم «تيودور كرونر» الذي ذكرنا أنه قتل في واقعة «ليبزج»، والذي جمعت أغانيه وأناشيده بعنوان «المزهر والسيف»،
3
كما كان منهم الشاعر «روكيرت
Rüekert » الذي نشر منظوماته، ثم «شينكندورف
Senenkendorf »، ثم «أوهلاند
Uhland » وغير هؤلاء كانوا كثيرين.
على أن «الحكومات» الألمانية وقفت - على العكس من ذلك - موقفا في غاية «التحفظ» من الأحداث الجارية؛ فلم تشأ هذه الحكومات «الانتقاض» على نابليون إلا في خريف سنة 1813، أي بعد أن تأكد لديها أن سقوط نابليون وهزيمته قد صار أمرا محققا، وذلك على خلاف ما حدث في ألمانيا الشمالية، التي انتشرت بها الثورة بكل سرعة في «همبورج» في 18 مارس، ثم في «مكلنبرج» التي قدمت وحدها عددا من «المتطوعين» بلغ ستة آلاف، أما «بفاريا» فإنها لم تنبذ الولاء لنابليون إلا يوم 16 سبتمبر، وكان في 8 أكتوبر فقط أن أعلنت الحرب ضده، وانتظرت «ورتمبرج» هزيمة نابليون في واقعة «ليبزج» بين 16-19 أكتوبر لتعلن موقفها العدائي منه أخيرا في 23 أكتوبر، ولقد كانت هذه الحكومات تتجه بنظرها صوب النمسا، وتوجيهات الحكومة النمسوية «ووزيرها مترنخ»، وليس صوب المجموعة البروسية الروسية التي يشرف على توجيهها - كما شاهدنا - «ستين» بالتعاون مع «نسلرود».
ثم إن حركة المقاومة هذه أو الثورة لم تمتد إلى ألمانيا الغربية، بل بقيت لا تتعدى ألمانيا الشرقية والشمالية؛ فظلت بلاد الراين بعيدة عن هذه الحركة، حتى إن «بوجنو
Beugnot » القائم الفرنسي بشئون الحكم والإدارة في غراندوقية «برج» لم يلبث أن لاحظ - كما أثبت ذلك في جورناله - كيف أن الطبقات العليا الراينية وحدها كانت تقابل بالسرور خبر انكسار الجيش الفرنسي في روسيا، في حين أن سواد الأهلين قد أحزنتهم حزنا عميقا هذه الكارثة، على أن الذي يجب ذكره على كل الأحوال أن الإدارة الفرنسية في إقليم الراين قد خلفت آثارا بعيدة الغور سوف يظهر تفاعلها من جديد فيما سوف يقع من حوادث بعد سنة 1815 خصوصا.
ولقد صادفت هذه الحركة الثورية «في ألمانيا» صعوبات عديدة، مبعثها رغبة أصحاب «المصالح» السياسية في سد الطريق أمامها، وفي مقدمة هؤلاء كان الوزير النمسوي «مترنخ»، الذي اتخذ الاحتياطات اللازمة ضد هذه الحركة الثورية، بأن أخضع «ستين» ولجنته الإدارية التي سبق الحديث عنها لإشراف «لجنة دبلوماسية» خاصة، ثم أثار أصحاب البنوك الألمان المصاعب عندما رفضوا قبول السندات الإنجليزية التي قدمها الإنجليز إلى الحكومة الألمانية لتمويل العمليات العسكرية التالية، ثم كان من هذه الصعوبات التي صادفتها الحركة الثورية أنه لم توجد «عصابات» للمناوشات المحلية خلف الخطوط الفرنسية، على غرار ما حدث في الحرب الإسبانية.
وهكذا، لم تكن هذه الحركة - كما ذكرنا - ثورة عارمة عمت ألمانيا بأسرها ضد السيطرة الفرنسية، ولو أنه مما لا شك فيه أن البلاد (ألمانيا) في مجموعها قد قامت بالثورة فعلا، مدفوعة بعاطفة أو شعور الكراهية الشديدة ضد فرنسا.
ولقد كان على أساس هذه الكراهية لفرنسا وللاحتلال الفرنسي في البلاد أن ارتكزت نهائيا وبصورة حاسمة العاطفة أو الشعور القومي في ألمانيا.
وكان أثناء «المباحثة» في الشروط التي يجب عقد الصلح مع فرنسا على أساسها في سنة 1814، أن برز هذا الشعور القومي - بمعنى الانبثاق من الكراهية لفرنسا ولسلطانها - في إطارات معينة؛ فقدم «ستين» إلى القيصر مشروعا للصلح، طلب فيه أن تكون حدود ألمانيا عند نهر الموز
Meuse ، ولكسمبورج، ونهر الموزيل، وجبال الفوزج
Vosges ، وعلى أن يدخل في نطاقها كذلك قسم من الدنمارك، وفي سنة 1814 صار «ستين» يؤيد ادعاءات روسيا وبروسيا على بولندة وسكسونيا، في الوقت نفسه الذي طالب فيه باتساع ألمانيا من ناحية الغرب.
وفي سنة 1815 صار «ستين» يحاول إقناع القيصر إسكندر بأن سلامة ألمانيا وأمنها يحتمان وصول حدودها الغربية إلى نهر الموز، وفي مذكرة أعدها في 18 أغسطس 1815، ذكر «ستين» أن العاهل الفرنسي لويس الرابع عشر كان في سنة 1710 قد نظر موضوع التخلي عن «الألزاس»، وذلك في مفاوضات «جيرترودنبرج
Gertruydenberg » بالأراضي المنخفضة والتي حصلت على أثر هزائمه في حرب الوراثة الإسبانية، وهي الحرب التي انتهت بصلح بوترخت في مايو 1713.
ولقد وجد فريق آخر من أنصار القومية الألمانية عند النظر في شروط الصلح المرتقب مع فرنسا، وكان «جوزيف جوريز
Goerres » الذي سبق ذكره كثيرا، متزعم هذا الفريق، فنشر سلسلة من المقالات في الجريدة الراينية «عطارد الراين»
4
يبين فيها إرجاع فرنسا إلى حدودها التي كانت لها في سنة 1792، إنما يعتبر حلا رديئا للمسألة؛ لأن سلامة القومية الألمانية تتطلب أن تكون الحدود عند جبال الفوزج وهضبة الأردين
Ardenne ، وفي أثناء حكومة «المائة يوم» عند عودة نابليون من جزيرة إلبا إلى فرنسا، كتب «جوزيف جوريز» مقالا بعنوان «فرنسا المقسمة» أو فرنسا المصفدة
5
أعلن فيه أن أوروبا لن تعرف السلام إلا إذا أنزلت فرنسا إلى مرتبة الدولة من الدرجة الرابعة.
وفي مقال آخر كتب «جوريز»:
إنه لن يكون هناك أي أمل في السلامة والأمن من جانب هذا الشعب الفرنسي إلا إذا صار عاجزا تماما، وصار للألمان من ناحية أخرى قوة ساحقة، ولا يجرؤ على التفكير في تحدي هذه القوة أحد، والفرنسيون عاجزون عن التمسك بأية قيم أخلاقية، وليس هناك أساس لإمكان الاعتماد عليه في التعامل معهم؛ ولذلك فقد وجب علينا أن ننتزع منهم أملاك شارل الجسور، أو عند تعذر ذلك الإلزاس واللورين وملحقاتهما.
ولقد طالبت صحيفة أخرى
Deutsche Blätter
باسترجاع كل الأقاليم التي اقتطعت من ألمانيا في مختلف العصور؛ الأراضي المنخفضة، الدنمارك، والمقاطعات البلطيقية، وكورلاند، فطالبت بضم كل مكان «أو إقليم» تقطن به أسر ألمانية من الإلزاس، حتى «ليفونيا
Livonia »، ومن أقاليم «جريسون
Grisons » حتى «شلزويج» حيث يتطلب الاشتراك في اللغة والعادات، والمزاج «أو العبقرية» أن يتأسس نوع من التنظيم السياسي المشترك أو المتحد، يبسط حمايته على بلجيكا وهولندة في الغرب، وجوتلندة
Jutland
في الشمال، وعلى أن يحد هذا التشكيل السياسي من الغرب هضبة «الأردين» وغابتها، وجبال الفوزج والجورا
Jura ، ومن الجنوب جبال الإلب حتى بحر الأدرياتيك، ومن الشرق جبال الكربات، وأما داخل هذه الحدود فلا يجب أن يكون هناك غير لغة واحدة، ومثل سياسي واحد.
وواضح أن هذه المطالب إنما تستند على الآراء التي نادى بها «هردر»، وتكاد تكون صورة طبق الأصل من نظريته القائلة باستناد القومية على اللغة، ولكن مع توسع في الصورة السياسية التي سوف تتجسم فيها هذه الفكرة بدرجة لا شك في أنها مما قد يدهش له «هردر» كثيرا.
وهكذا كانت القومية الألمانية عند بدء ظهورها، أو في فجر بزوغها، قومية تدعو للألمانية أو الجرمانية، كما أنها كانت تمتاز بذلك الطابع الديني الذي جعل «الجيش الإقليمي
Landwehr » يتخذ شعارا له: «مع الله، ومن أجل الملك والوطن»، والذي جعل المجندين أو المتطوعين للالتحاق بهذا الجيش، يبدءون حياتهم فيه بحضور صلاة دينية، حتى إن الجنرال «بولو» كتب لأحد أصدقائه في مارس 1813 أن بوسعه - وكما فعل أوليفر كرمويل «الإنجليزي» - أن يعطي كل فارس من فرسانه نسخة من الكتاب المقدس ليحملها معه في سرج جواده، ولقد أقيم نصب تذكاري بأسماء القتلى في الحرب في كل كنيسة لوثرية، وأما هذا الطابع الديني فقد نهض وجوده دليلا على ذلك الاتجاه الذي حصل منه انبثاق الروح القومية في ألمانيا، ليجعل من ألمانيا «أداة» في يد الإله، يصدر نشاطها عن مشيئة الإله نفسه ولتأدية الرسالة التي يريدها المولى. (4) بقية أوروبا
وفي غير ألمانيا: لم تتخذ حروب التحرير ذلك الشكل العنيف، ولم يكن لها ذلك الأثر الفعلي النافذ بالدرجة التي شوهدت في ألمانيا.
ففي إسبانيا
كانت حركة التحرير العبء الذي وقع على كاهل القوات العسكرية، وخصوصا القوات العسكرية الإنجليزية؛ فقد انتشرت الثورة في هذه البلاد في خريف 1813 في أقاليم بسكاي ونافار، بصورة ألزمت فريقا من القوات الفرنسية بقيادة «كلوزيل
Clausel » على الوقوف وعدم الحراك في أماكنهم، ثم كان من نتيجة الزحف الذي قام به «ولنجتون» على «سلامنكا» من جهة، ثم قيامه من عند نهر «دورو» قاصدا إلى «جاليكيا
Galicia » لإمداد الثوار بالمساعدة من جهة أخرى، أن اضطر «جوزيف بونابرت» إلى الانسحاب من مدريد مع عسكره حتى نهر «الإبرو
Ebro »، ولقد ذكرنا عند الكلام عن الحرب الإسبانية ضد نابليون، كيف أن «ولنجتون» - بعد أن أنزل الإنجليز جنودهم على الساحل الإسباني بعد تحريره - استطاع أن يحرز انتصارا عظيما على الفرنسيين في واقعة «فيتوريو» في 21 يونيو 1813، وهو النصر الذي أرغم جيش «جوزيف بونابرت» على التقهقر خلف نهر «البيداسوا»، أي إنه أرغم على ترك إسبانيا بأسرها، وأما جيش «كلوزيل» في «جاليكيا» فقد التقى به خلف الحدود الإسبانية كذلك، في حين تقهقر جيش «سوشيه
Suchet » صوب «روسيليون
Roussillion »، وبالجملة فإن الذي حصل في إسبانيا لم يكن إلا تعاونا كاملا بين الثورة القومية أو الوطنية في البلاد والحملة الإنجليزية العسكرية. •••
على أن الوقائع العسكرية في أوروبا الشمالية الغربية - على خلاف ما حصل في إسبانيا - لم يكن لها أثر حاسم في حركة التحرير التي حدثت، بل كانت الوقائع السياسية قبل كل شيء آخر هي التي فعلت ذلك؛ بمعنى أن «السياسة» التي جرت عليها البلدان في هذا القسم من أوروبا، كانت المسئولة عن خلاص الشعوب والحكومات وتحريرها من السيطرة النابليونية.
ومن ناحية الترتيب الزمني؛ حصل تحرير أوروبا الشمالية الغربية بعد تحرير أوروبا الوسطى، ولا جدال في أن وجود عنصر سياسي - كعامل جوهري - وأكثر أهمية من العنصر العسكري في بعث أو مولد الشعور القومي في هذه المنطقة، مما يضفي على تاريخ «القومية» طابعا فريدا في نوعه.
ففي هولندة
اضطر حاكمها الفرنسي «لوبران» - القنصل القديم في عهد القنصلية بفرنسا - إلى مغادرة العاصمة في 16 نوفمبر 1813، وكانت خطة الإنجليز أن يزحف «برنادوت» مع قواته - التي تؤلف الجناح الشمالي الأقصى لجيوش الحلفاء - على هولندة بكل سرعة لينتزعها من الفرنسيين، وأن يمد يد المساعدة للقوات الإنجليزية المنتظر نزولها في هذه البلاد، ولكن بدلا من الزحف صوب هولندة مباشرة، آثر «برنادوت» أن يزحف عن «هولشتين
Holstein »، مدفوعا بمصالحه الخاصة، حيث أراد إرغام الدنمارك - وقد وصل إليها «الآن» بقواته - على التخلي له «وللسويد» عن النرويج، وعلى ذلك فقد وجد الهولنديون - بسبب تخلف «برنادوت» - أنه صار عليهم وحدهم القيام بكل الأعباء والجهود اللازمة للتحرر والخلاص، وكان من هذه الحقيقة أن اتخذت حركة الخلاص والتحرر في هولندة طابعا قوميا في جوهره؛ فبدأت الثورة في 17 نوفمبر 1813 في لهاي وأمستردام، وتشكلت حكومة ثلاثية برياسة «هوجندروب
Hogendrop » - أحد رجال السياسة.
وطلبت هذه الحكومة النجدات من لندن، ووجهت نداء للبرنس أورانج حتى يحضر لقيادة الثورة، وبالفعل نزل «أورانج» في البحر عند «شفيننجن
Scheveningen » في 30 نوفمبر 1813 وسط مظاهرات الشعب الحماسية، وذلك في حين أن القائد البروسي «بولو» لم يلبث أن وصل من الغرب مخترقا هولندة في بداية شهر ديسمبر؛ فبلغ «أوترخت» التي أصدر منها بتاريخ 9 ديسمبر 1813 منشورا موجها إلى البلجيكيين، وكان الموظفون الفرنسيون في أثناء ذلك كله قد بادروا بمغادرة البلاد بكل سرعة، خلال النصف الأخير من شهر نوفمبر وبداية شهر ديسمبر من سنة 1813.
وواضح أن انتهاء السيطرة الفرنسية من هولندة لم يكن نتيجة عمليات عسكرية، ولقد كان من أثر ثورة الهولنديين لخلاص بلادهم، أن انتقل خط الدفاع الفرنسي إلى بلجيكا ودون أن يكون لهذا «الدفاع» قدرة ما على الافتئات أو «الاعتداء» على هولندة، وثمة حقيقة يجب ذكرها، هي أن السيطرة الفرنسية في سنواتها الأخيرة في هولندة - «كحكومة» أجنبية شديدة الوطأة على البلاد - قد أفلحت في أن يزيد تعلق الهولنديين بأسرة أورانج ومحبتهم لها، فرحب هؤلاء في حماس عظيم بحكومتهم الجديدة، واستقبلوا بهذا الحماس نفسه «استقلالهم القومي» الذي كان لهم في الماضي، والذي استرجعوه الآن بزوال السيطرة الفرنسية.
وفي بلجيكا
تضافرت في أول الأمر عوامل عدة جعلت من اليسير انحياز البلجيكيين إلى جانب السيطرة الفرنسية، من ذلك تسوية الخلاف مع الكنيسة بفضل «الكونكردات»، أي الاتفاق الذي أبرمته الحكومة القنصلية الفرنسية مع البابا بيوس السابع في 15 يوليو 1801 «وصار نافذا من التصديق عليه في 10 سبتمبر، ومنذ أن اعتبر أحد قوانين الدولة في 18 أبريل 1802»، فأعيدت الديانة الكاثوليكية رسميا في بلجيكا - والبلجيكيون من المتمسكين بالكاثوليكية، ومن ذلك الفوائد التي صاروا يجنونها من الإصلاحات الاجتماعية والإدارية التي أدخلها الفرنسيون في بلادهم - ولقد ساد الرخاء فترة من الزمن في أول الأمر، نتيجة لسياسة «الحصار القاري»، فانتشر الهدوء والأمن الداخلي، ولم يصعب على البلجيكيين حينئذ قبول السيطرة الفرنسية.
أضف إلى هذا أن البلجيكيين لم يشعروا بأية عاطفة ولاء نحو النظام الذي كان قائما في بلادهم قبل عهد «الثورة الفرنسية»، حيث كانت بلجيكا - الأراضي المنخفضة الجنوبية - جزءا من الأملاك النمسوية، وخضعت لذلك لسيطرة نمسوية كانت شديدة الوطأة عليها، ومصحوبة بنوع من التعسف والطغيان الاجتماعي، الذي أخذ به «السادة» - كبار أصحاب الأراضي والأملاك ورجال الدين - الشعب مأخذا شديدا، والذي أوجده - من وجهة نظر الكنيسة من ناحية أخرى - فرض سلطان الحكومة على الكنيسة ذاتها.
ولم يكن هناك وجود تحت السيطرة النمسوية وفي عهدها «لأراض منخفضة» أو «بلجيكا»، أو أية «ذكريات» قد تربط البلجيكيين بتراث «قومي»، ولكن ذلك كله لم يلبث أن أخذ في الظهور تحت السيطرة الفرنسية بسبب ثقل وطأة هذه السيطرة على البلجيكيين، وخصوصا في السنوات الأخيرة منها، وأثناء انهيار الإمبراطورية الفرنسية، فكان عندئذ أن بدأت تبرز الخطوط الأولى لما سوف يصبح «قومية بلجيكية»، ولما سوف يصنع كل تلك العوامل التي أفضت بين عامي 1815-1830 إلى مولد الدولة البلجيكية بعد حوادث الثورة التي قامت في بروكسل، وامتدت إلى سائر البلاد في شهر أغسطس 1830 على نحو ما سيأتي تفصيله في موضعه.
ولقد كان العنصر الأول في هذه الحركة الوطنية - والذي كان على درجة كبيرة من الأهمية - تلك «المقاومة الدينية» التي وجهت ضد الحكومة الإمبراطورية، وكان مبعث هذه المقاومة قبل كل شيء تلك «التعاليم الإمبراطورية الدينية» التي تحدثنا عنها في فصول سابقة،
6
والتي جعلت معارضة النظام الإمبراطوري السائد إنما يستحق مرتكبها اللعنة الأبدية، ورفض رجال الدين والبلجيكيون عموما قبول هذا النوع من «التعاليم الدينية» أو المسيحية الإمبراطورية، وأثار نضال الإمبراطور مع البابا بيوس السابع الذي أخذ يشنه في بداية سنة 1810 - واضطهاد نابليون للبابا - تذمر وغضب البلجيكيين.
ومنذ سنة 1810 بدأت حركة عميقة من جانب رجال الدين والأهلين الكاثوليك في بلجيكا، قوامها المعارضة للحكم الفرنسي، وتزعم المعارضة والمقاومة الأساقفة «حتى الذين كانوا من أصل فرنسي»، نذكر من هؤلاء القادة الكنسيين: أسقف «جاند
Gand » وأسقف «تورناي
Tournai »، ومن كبار رجال الدين والمطارنة: «دي بروجلي
Broglie » و«هيرن
Hirn » ثم غير هؤلاء، وقد كانوا جميعا يتمتعون بنفوذ عظيم على الشعب، خصوصا اثنان منهم، هما: «فاند فلد
Van de Velde »، و«دوفيفيه
Duvivier »، ولقد تصدى هذان الأسقفان لمعارضة مشروعات نابليون التي اتضحت في «المجمع الكنسي
Concile » الذي عقده في شهر يونيو 1811، والتي كان الغرض منها - على نحو ما ذكرناه في موضعه - أن ينتزع الأساقفة حق رسامة القساوسة، وهو الحق الذي رفض البابا أن يكون لهم، وكان الأسقفان البلجيكيان في مقدمة المعارضين لهذه المشاريع، فألقى نابليون القبض عليهما، وسرعان ما نجم من هذه الخطوة انتشار روح تمرد وعصيان حقيقي بين رجال الدين في بلجيكا، كان على درجة بالغة الخطورة.
فقد رفض القساوسة في أبرشياتهم أو أسقفياتهم، الاعتراف بمن يحل في مكان هذين المقبوض عليهما، ثم إنهم رفضوا الاعتراف بالأساقفة الذين صار تعيينهم في «مالين
Malines »، وفي «لييج
Lièges » بقرار من الحكومة، وصدر الأمر بتولي العمل في أبرشياتهم دون انتظار لرسامة البابا (منذ شهر أغسطس 1810)، وكان هذان هما الرئيس الديري «برادات
L’Abbé Pradt » وزميله «لوجياز
Lejeas ».
ثم إن تلامذة المدارس الأكليريكية كانوا أقوياء الشكيمة، لم يلبثوا أن آثروا الالتحاق بالجيش على الاعتراف بالرؤساء الديريين الجدد، فألقي بعديدين منهم (حوالي مائة وثلاثة وتسعين من تلاميذ المدارس الأكليريكية في جاند) في سجون بلدة «ويزل
Wesel » الواقعة على نهر الراين، ومات منهم كثيرون، أما الخوارنة فقد رفضوا أن يطلبوا الخير وطول الحياة في تراتيلهم بعد القداس، بل صاروا بدلا من ذلك يحرضون الفلاحين على الثورة، ثم كثر عدد أولئك الذين أخذوا يقصون خبر «المعجزات» التي أجازت السماء حدوثها - «إشارة» إلى قرب زوال عهد السيطرة الفرنسية، وأفول نجم الإمبراطور نابليون - وكثر عدد أولئك «المتنبئين» والضاربين في عالم الغيب الذين شرعوا يجولون في طول البلاد وعرضها يوزعون على الأهلين «الرسائل» التي أخفوها تحت أرديتهم وعباءاتهم.
ولقد تضافرت الأدلة على أن مقاومة القساوسة ورجال الدين هذه كانت تلقى تأييدا كبيرا من جانب «الرأي العام» في بلجيكا، الأمر الذي جعل لهذه المقاومة آثارا بعيدة.
وثمة سبب ثان لهذه المقاومة ضد السيطرة الفرنسية كان منشأه الأزمة الاقتصادية التي ساعدت على اتساع دائرة التذمر والغضب من الإدارة الفرنسية، والذي كان أصلا - كما شهدنا - تذمرا دينيا؛ فصار يشمل الآن كل تلك الطبقات التي كانت ذات ميول عدائية ضد الكنيسة، ثم تلك التي كانت أثناء عهد الرخاء تدين أكثر من غيرها بالآراء الفرنسية، والذي تجب ملاحظته أنه بالرغم من التدين الذي اشتهر به البلجيكيون عموما، وإيمانهم العميق بالعقيدة الكاثوليكية؛ فقد كان هناك فريق من السكان أو الأهلين في بلجيكا، اتخذوا - على العكس من ذلك - موقفا عدائيا من الكنيسة، وأيدوا الحركة «التعقلية»، وتلك حقيقة هامة؛ لأن العداء كان مستحكما بين هذين العنصرين، وهو عداء بين «مثاليتين» كان موجودا من أيام السيادة النمسوية، ثم إنه لا يلبث أن يتضح مرة أخرى عندما يصبح هذان التياران المتناقضان أساس تأليف الأحزاب السياسية في بلجيكا، عند استقلال البلاد بعد ذلك وإنشاء الملكية بها.
أما الأزمة الاقتصادية فقد بدأت تستفحل سنة 1813، نتيجة لنظام الحصار القاري خصوصا الذي أصاب صناعة النسيج بالعجز؛ لتعذر الحصول على المواد الخام اللازمة لها؛ فاضطر الغزالون في «جاند» مثلا أن يستغنوا عن ألف وثلاثمائة عامل دفعة واحدة، وفي خريف 1813 نزل إنتاج الأقمشة إلى العشر فقط من مقداره السابق، وفي المقاطعة التي بها «بروكسل» خرج حوالي ستة آلاف من العمل «بأن نقص عدد العمال من خمسة عشر ألفا إلى تسعة آلاف فقط».
ومنذ 1811 كان قد بدأ يتزايد إفلاس المصارف (البنوك) وأشهر عديدون من التجار كذلك إفلاسهم، ولحق الأذى بالمواني مثل «أوستند»، و«انتورب» حيث أصيب بالشلل نشاطهما نتيجة للحصار القاري، وكان من المتوقع أن يؤدي الحصار القاري إلى ارتفاع تكاليف المعيشة الذي مبعثه هذه الأزمة الاقتصادية ذاتها، والذي كان سببه كذلك الضرائب الثقيلة التي فرضتها الحكومة الفرنسية تنفيذا لسياسة الحصار القاري، ولأنه تعذر بفضل هذا الحصار نفسه ورود المواد الخام وغيرها من السلع من الخارج، وقد عانى سواد الشعب البؤس والضنك نتيجة غلاء المعيشة والأزمة الاقتصادية، ثم زاد تذمره بسبب «التجنيد» الذي أخذت تشتد وطأته يوما بعد آخر؛ فبلغ عدد المجندين من شعب بلجيكا القليل مائة وعشرة آلاف في سنة 1811، ثم ارتفع هذا الرقم إلى مائة وعشرين ألفا في سنة 1812، وإلى مائة وستين ألفا في سنة 1813، يضاف إلى ذلك «الحرس الأهلي» الذي بلغ مائة ألف رجل.
وكثرت محاولات الشباب الإفلات من الجندية، وساعدت المجالس البلدية هؤلاء الشبان على الفرار من الخدمة العسكرية، ولم تتعاون مع السلطات المسئولة عن التجنيد، حتى إنه لم تلبث أن صارت «الجندرمة» تطارد الصالحين للخدمة العسكرية، وكان من بين الحوادث الكثيرة المتصلة بهذه المسألة قيام المجندين بعصيان كبير في مدينة «بروج
Bruges » في شهر أبريل 1813، فأوسعوا رئيس هيئة التجنيد بها ضربا حتى قتلوه، ثم مزقوا سجلات التجنيد والتعبئة، وتزايدت وطأة التجنيد حتى صار يشمل الأسر الموسرة والأعيان؛ فقد صار يؤخذ أبناء الطبقة المتوسطة (البورجوازي) لإدخالهم المدارس الحربية، وفي سنة 1813 فرض نابليون على هؤلاء تأليف حرس شرف، فبعث هذا الإجراء الرعب والفزع في قلوب الأسر البورجوازية، عندما رأى الأثرياء الذين دفعوا مبلغا كبيرا من المال (خمسة آلاف أو ستة آلاف فرنك) لإعفاء أبنائهم من الخدمة العسكرية، هؤلاء ينتزعون منهم «لتجنيدهم » بالرغم من هذه التضحية.
ولقد كان هناك سبب ثالث للتذمر الذي حدث من السيطرة «والحكومة» الفرنسية، مبعثه ذلك النظام البوليسي الذي تأسس في بلجيكا، والذي نشر نوعا من الاضطهاد والضغط تزايدت صرامته يوما بعد آخر، حتى صارت الحياة في البلاد تشبه الحياة في ظل محاكم التفتيش الرهيبة في الأزمان السالفة، فعظم الحجر على حرية الرأي وحرية الفرد، بفضل التنظيمات التي أنشأها الحكم الفرنسي.
فمنذ سنة 1811 صار تنظيم «هيئة عليا للبوليس
Haute Police » في بلجيكا، ذات وكالات أو قوميسيريات خاصة
7 «ولجان عامة»
8
لا تخضع للمديرين أو مأموري البوليس، ولكنها تتلقى أوامرها من باريس مباشرة، وفي بعض الأحايين ضد هؤلاء «المأمورين» أنفسهم، لدرجة أن هؤلاء لم يلبثوا أن شعروا بوطأة هذه «الجاسوسية» المهيمنة عليهم وعلى الأهلين على السواء، وعلى ذلك فقد كانت هيئة «البوليس العليا» هذه «سلطة» تعسفية، تتدخل في شئون كل إنسان وفي دقائق كل مسألة، ومع ذلك فقد عرف البلجيكيون كيف يتشبثون بحرياتهم الشخصية، حينما كانت الحرية الشخصية - أي حرية الفرد - مع تقاليد الحكم الذاتي عن طريق المجالس البلدية، أقوى الخصائص التي تميز بها شعور البلجيكيين السياسي.
ولقد حدث في اللحظات الأخيرة للإمبراطورية أن ثارت «فضيحة» أحدثت رجة عنيفة بين أهل البلاد، وذلك عندما ألقى البوليس القبض على «وربروك
Werbrouck » عميد بلدية «أنتورب» الذي ارتاب البوليس خطأ - ولا شك، ودون أن ينهض دليل على ذلك على كل الأحوال - في أنه يشجع «التهريب» لاختراق الحصار القاري، ومع أن رئيس البوليس تقدم بشخصه ضامنا له، فقد أوقف عميد البلدية عن عمله ووظائفه، ثم لم يلبث أن صدر أمر شخصي من الإمبراطور نابليون؛ فألقي القبض عليه وقدم للمحاكمة في نفس الوقت الذي صودرت فيه أملاكه بصورة غير قانونية، وبالرغم من أن قضاة المحكمة والمحلفين قد «اختيروا» بعناية؛ فقد برأت محكمة بروكسل ساحة «وربروك» في ربيع 1813 بعد أن تولى الدفاع عنه أحد المحامين الفرنسيين «برييه
Berryer » - الذي سوف يتولى الدفاع بعد عامين من هذه الحوادث عن المارشال «ناي
Ney » في فرنسا (1815).
وقابل الرأي العام تبرئة «وربروك» بمظاهرات صاخبة، وجن جنون نابليون الذين كان في هذه اللحظة مشغولا بقيادة العمليات العسكرية في سكسونيا؛ فأصدر أوامره من «درسدن» إلى مجلس الشيوخ لإلغاء الحكم الصادر من محكمة بروكسل، وتقديم عميد بلدية أنتورب للمحاكمة من جديد أمام محكمة أخرى؛ فأعيد القبض على «وربروك» وأودع السجن، وكان «وربروك» متقدما في السن فلم يلبث أن توفي في محبسه، وقبل أن يظهر أمام محكمة أخرى، ولكن في أثناء ذلك كانت إمبراطورية نابليون قد تقوضت عروشها.
وعلى ذلك، وبسبب كل هذه العوامل الدينية والاقتصادية والسياسية، تحول الرأي العام في بلجيكا في غضون سنتي 1813-1814 تحولا تاما ضد فرنسا؛ فكل الطبقات في غضب شديد ضد السيطرة «والحكومة» الفرنسية، وكان تحت تأثير السخط والتذمر أن «استيقظت» الذكريات القديمة، فارتسمت في أذهان البلجيكيين صور «زاهية» لذلك الحكم الذاتي الذي «تمتعوا» به قبل السيطرة الفرنسية، وشعر المسنون - خصوصا وهم يؤلفون الطبقة المحافظة - بالحنين لذكريات «السيطرة النمسوية» التي كانت سيطرة «أبوية» لم تسبب للأهلين إرهاقا ولا عنتا.
ومنذ هزيمة الجيش الأعظم في روسيا وتقهقره من موسكو، وذيوع هذا الخبر في بلجيكا، أبلغ مديرو البوليس عن إشاعات «مؤذية» صارت رائجة في كل مكان تقريبا، في مقاطعة «ليز
Lys »، وفي أكثر المقاطعات اصطباغا بالفرنسية في بلجيكا مقاطعة «أورت
Ourthe »، أي في الجنوب الشرقي، وفي إقليم «لييج» حذر مديره السلطات من «أن رغبة الأهلين عامة إنشاء دولة منفصلة»، وفي شهر أبريل 1813 انزعج مدير جديد عين لهذا الإقليم عندما شاهد عند وصوله إلى بروكسل الجدران في كل مكان وقد غطتها اللافتات والإعلانات ذات العبارات الشديدة اللهجة والمعادية لفرنسا، ولقد تبين من تقارير المديرين في مجموعها أن ثلاثة أخماس الأهالي في مقاطعة «أورت» كانوا لا يزالون متعلقين بالفرنسيين ومتمسكين بولائهم لهم قبل معركة ليبزج، ولكن في المقاطعات الأخرى لم يلبث أن صار أربعة أخماس السكان - على العكس من ذلك - أعداء لفرنسا بعد معركة ليبزج، وانتشر روح التمرد والعصيان انتشار البارود بينهم.
ولقد كان للثورة التي قامت في هولندة آثار عميقة في بلجيكا؛ فقد اشتعلت الثورة في هولندة - كما شاهدنا - في 17 نوفمبر 1813، فلم تمض أيام قلائل حتى أعلن مدير بروكسل في 21 نوفمبر أنه يخشى من حدوث ثورة عامة، ولم يلبث أن امتنع الناس عن دفع الضرائب، ورفضت المجالس البلدية أن تبعث للإمبراطور بالخطب والالتماسات التي طلب منها إرسالها له، وامتنع المجندون عن الالتحاق بالجيش ، وتألفت في المدن فرق من «الحرس» الخاص بالمدن،
9
مهمتها - من حيث المبدأ - الدفاع عن هذه المدن ضد الغزاة أو المعتدين على البلاد، ولكن لم يلبث «المدير» في جيماب أن صار يتساءل: إذا لم تكن مهمة هذا «الحرس» الحقيقية هي مد يد المساعدة لجيوش الحلفاء عند حضورها؟ ولقد حضرت جيوش الحلفاء فعلا إلى بلجيكا في آخر ديسمبر 1813، فجاءت طلائعها أولا، ثم جاءت بعدها الجيوش ذاتها في شهر يناير 1814 فدخلت بروكسل في أول فبراير آتية من الشمال، وقد استمرت العمليات العسكرية في بلجيكا حتى نهاية شهر مارس 1814 تقريبا.
ولكن هؤلاء البلجيكيين الذين اتفقت كلمتهم على الكراهية لفرنسا، واتحدت جهودهم ضد السيطرة والحكم الفرنسي، ثم حضرت جيوش الحلفاء لتحرير بلادهم واستنقاذها من هذه السيطرة الفرنسية البغيضة، لم يكن لهم رأي مسموع لدى دوائر هؤلاء الحلفاء أنفسهم - العسكرية والسياسية - بشأن مستقبلهم، ذلك أن تقرير مصير البلاد سوف لا يكون مرتبطا بالرغبات التي يبديها البلجيكيون «لحل» مسألتهم، بل إن «الحلفاء» هم الذين سوف يتولون إيجاد حل للمسألة البلجيكية، يستند على اعتبارات سياسية عامة، قوامها المحافظة على توازن القوى في أوروبا، ودون استشارة الشعب البلجيكي نفسه، أو حتى التفاهم معه على «المصير» المنتظر له.
ففي اللحظة التي دخل فيها الجنرال «بولو» مدينة «بوترخت» وجه نداء للبلجيكيين يدعوهم فيه للثورة، ثم إن دوق «ساكس فايمر» الذي كان قد وقع عليه الاختيار أولا ليحكم البلاد، لم يلبث هو الآخر أن أصدر منشورا من بروكسل في 7 فبراير 1814، جاء فيه: «إن الطغيان قد انتهى أجله، وإن النظام قد أصبح يسود البلاد من جديد، وإن استقلال بلجيكا قد صار أمرا لا شك فيه»، ودعا البلجيكيين إلى أن يكونوا هم «المحررين» لبلادهم.
ولكن الذي يجب التساؤل عنه، هو هل قام البلجيكيون بالثورة العامة، أو بمجهود مسلح تمخضت عنه كراهيتهم الشديدة للفرنسيين وتذمرهم من الحكم الفرنسي، فساهموا في استنقاذ بلادهم إلى جانب جيوش الحلفاء التي حضرت إلى بلجيكا لإنهاء السيطرة الفرنسية منها؟
الحقيقة أن سواد البلجيكيين كانوا قانعين بأن يشاهدوا نهاية الحكم الفرنسي تتقرر على أيدي جيوش الدول المتحالفة ضد نابليون، دون أن يسهموا هم أنفسهم في العمليات المحققة لهذه الغاية، فلم تحذ أية مدينة من المدن البلجيكية حذو المدن الهولندية، مثل أمستردام أو لهاي أو غيرهما، بل على العكس مما حدث في هولندة كان موقف البلجيكيين مدموغا بعدم الاكتراث، و«البلادة» أو الخمول، وعدم المبالاة بما يجري حولهم؛ فهم لم يشتركوا في المعركة، لا في جانب الحلفاء «المحررين»، ولا في جانب الفرنسيين، بل تركوا الأمور تجري في أعنتها، وراحوا ينتظرون ما سوف تسفر عنه من نتائج.
ولقد أفصح «هوجندروب» زعيم الثورة الهولندية عن اشمئزازه من مسلك البلجيكيين، فكتب في يناير 1814:
لو أن البلجيكيين أظهروا من النشاط ما يكفي لأن ينجحوا وحدهم في طرد الفرنسيين من بلادهم؛ لصار يحق لهم أن يقرروا هم أنفسهم مصيرهم، ولكن المرء لا يسمع منهم إلا مقالة واحدة تتردد من كل مكان، إنهم يريدون مشاهدة جنود الدول المتحالفة ومجيئ هؤلاء إلى بلادهم، وبمعنى آخر إنهم يريدون أن يفتتح غيرهم بلادهم وأن يغزوها.
ولا جدال في أن بعض السبب في ذلك التخاذل أو عدم الاكتراث، كان مرده إلى ذلك الخلاف والانقسام الذي أشرنا إليه في صفوف البلجيكيين بين جماعة الطاعنين في السن، من المحافظين الذين ذكرنا أنهم كانوا يحنون لذكريات العهد النمسوي، ويريدون عودة النظام القديم، والذين طالبوا باجتماع ممثلي الأمة عن مجلس الطبقات في كل من ولايتي «برابانت
Brabant »، و«هينولت
Hainault »، واتصلوا من أجل ذلك بالإمبراطور النمسوي فرنسيس الثاني، اعتقادا منهم بأن النمسا سوف يهمها الأمر باعتبار أنها الدولة التي كانت تملك الأراضي الواطئة «البلجيكية» قبل «الثورة الفرنسية»، على أن جماعة الشباب من الذين لم يعرفوا «النظام النمسوي»، ومن الأهلين الذين اشتغلوا بالصناعة، والذين صارت لهم مصالح جديدة، كانوا جميعا من أنصار «حقوق الإنسان»، وعدم إلغاء الإجراءات التي تم بها «بيع» الأملاك الأهلية.
ولقد حكم الحلفاء بلجيكا بواسطة قومسييرين من النمسويين، ثم إنهم احتفظوا - أو على الأقل تظاهروا بأنهم يريدون الاحتفاظ - بالجهاز الإداري الذي أوجده الفرنسيون دون إدخال تعديل عليه؛ فعينوا بدلا من الفرنسيين في الوظائف الكبرى، موظفين من أهل البلاد، ولكنهم أبقوا الفرنسية لغة رسمية، وكان في الأقاليم الفلمنكية فقط أن اضطروا إلى ترجمة الكتابات الرسمية إلى اللغة الفلمنكية، بجوار النص الفرنسي.
وفي 7 مارس 1814 صدر قرار بإلغاء «الكونكردات»، وتولت الكنيسة رعاية الشئون الدينية، وكل تلك كانت اتجاهات دلت على أن الحلفاء يريدون انتهاج سياسة تستجيب لمطالب الأهلين، وترضي رغبتهم في الاستقلال، ولكن سرعان ما صار «احتلال الحلفاء» عبئا ثقيلا، أرهق الأهلين أكثر مما أرهقهم الاحتلال الفرنسي السابق؛ لأن الحلفاء الذين عرفوا أن احتلالهم «مؤقت» ولن يدوم بقاؤهم في بلجيكا، طفقوا يصادرون ويستولون على الأموال والمواد من الأهالي دون شفقة أو هوادة، حتى إن احتلال هؤلاء «المحررين» سرعان ما صار موضع كراهية أشد من تلك التي أثارها الاحتلال الفرنسي الذي تخلصت البلاد منه.
ولقد بقي الشعب البلجيكي في واقع الأمر، يتخذ موقفا سلبيا وسط كل هذه الاضطرابات وهياج الخواطر الذي شمل أوروبا بأسرها وقتئذ، حتى إن البارون فنسنت
Vincent - وهو «القومسيير العام» أو الحاكم الذي تولى الحكم في بلجيكا إلى أن يحين موعد الفصل في مصيرها - سجل في مذكراته عند الكلام عن البلجيكيين:
إن المرء لا يسعه في حكومة بلادهم إلا أن يتوخى - أكثر من اللازم في إدارة الشئون العامة بها - الحرص على تجنيب السلطات خطر وجود نفسها في موضع يجعلها تصطدم بادعاءات ومطالب الأهلين الديمقراطية من جهة، وبذكريات الدساتير «أو الأنظمة القديمة»، وهي الذكريات التي يكمن الخطر كذلك في إحيائها وبعثها.
ولعبارات هذا الحاكم العام النمسوي أهمية كبيرة من حيث إنها تشير إلى وجود ذلك الانقسام الذي تكلمنا عنه بين فريق المحافظين من الأهالي المشدودين إلى الماضي، وفريق الشباب المربوطين بالإصلاحات التي جاءت بها «الثورة الفرنسية » والمبادئ التي نادت بها.
وكان هذا الانقسام مبعث عجز البلجيكيين، ومبعث المنازعات التي حصلت بينهم، ومع ذلك فقد لمس هذا الحاكم النمسوي في الوقت نفسه وجود رغبة واحدة لدى الفريقين، هي تحقيق الحرية المحلية، سواء اتخذت هذه الرغبة صورة «العزلة» والحياة الإقليمية، أو إنشاء الوطن القومي البلجيكي، ولقد كان متعذرا أن تتحقق هاتان الغايتان معا وفي وقت واحد، ولا جدال في أن «تفاعل» كل منهما على حدة من ناحية، ثم وجودهما «بآثارهما» إلى جانب بعضهما بعضا، إنما يؤدي إلى ذيوع نوع من الفوضى في «الفكر» و«العاطفة»، وينهض في الوقت نفسه دليلا على وجود هذه الفوضى في تفكير البلجيكيين وعواطفهم.
والحقيقة أن البلجيكيين في هذه المرحلة، وبعد إنهاء السيطرة الفرنسية من بلادهم لم يكونوا بعد قد بلغوا الوضع الذي يؤذن بتأسيس «الدولة»؛ فهم دائما متمسكون بحرياتهم وحقوقهم وتقاليدهم المحلية، وأنظمتهم الإقليمية ومجالسهم البلدية، وتعوزهم الرغبة أو الإرادة في أن تكون لهم حريات أسمى وأعلى من تلك التي يتمتعون بها في ممارسة أعمالهم المحلية «الصغيرة»، ولقد كان هناك - من ناحية أخرى - إدراك كامل لكل تلك المصالح الاقتصادية، أو الحقوق المدنية التي نشأت من أيام «الثورة الفرنسية»، والتي ظلت قائمة بعد سقوط فرنسا، ولكن من المقطوع به أنه لم يكن هناك وجود بعد «لقومية بلجيكية»، بل كان كل الذي حدث أن احتوى الانقسام الذي شهدناه بين فريقي المحافظين، كبار السن، والشباب المتأثرين بالإصلاحات والمبادئ «الفرنسية» الحديثة، على البذور التي نبت منها فيما بعد الشعور القومي في بلجيكا.
وفي إيطاليا
كانت البلاد مسرحا للمؤامرات والتيارات السياسية المختلفة التي كان بعضها يستهدف الوحدة الإيطالية، أو خلق الأداة التي تفيد في بلوغ هذا الغرض في النهاية، ولكن دون أن يتفق ذلك مع «حركة» ما من جانب سواد الشعب الإيطالي، ودون أن يعني انتقال الفكرة «الإيطالية» - فكرة إنشاء دولة إيطاليا - إلى دور الشعور السياسي وإلى ميدان العمل، حتى بين الطبقات التي كانت أكثر نموا وتطورا في تفكيرها السياسي من غيرها، وكانت تدين بهذه الفكرة ذاتها.
وفي عهد السيطرة الفرنسية في إيطاليا، كان يساند الفكرة القومية عدد من «الجماعات» التي ظهرت في ميدان السياسة؛ فحاول فريق منهم أن يفيد من أطماع بعض كبار السياسيين أو يبثوا في نفوسهم هذه الأطماع، وفريق آخر كان مدفوعا بمصالحه الشخصية، ثم كان أولئك الذين هم أكثر «مثالية» ويدينون حقيقة بآراء قومية، وهؤلاء الأقوام هم الذين التفوا حول «يوجين بوهارنيه» نائب الملك في «مملكة إيطاليا» في الشمال، أو حول «يواكيم مورا» في الجنوب، ولقد قامت مؤامرات كبرى ثلاث على أيدي أنصار هذه الجماعات، لم تلبث أن صفيت واحدة منها بسرعة كبيرة، وهي التي كان يحكيها «يوجين بوهارنيه»، وبقيت الأخريان من تدبير «مورا» و«مترنخ» وتحريكهما.
وقد بدأ الفريقان نشاطهما بالتعاون فيما بينهما، ثم انتهى الأمر إلى قيام المنافسة الشديدة بينهما بشأن مصير البلاد، وقد كان بفضل السياسات التي اتبعها هؤلاء الثلاثة: «يوجين بوهارنيه»، و«مورا»، و«مترنخ» أن صار ممكنا وضع المسألة الإيطالية على بساط البحث، ثم إخراج هذه المسألة في الوقت نفسه من دائرة نشاط الدول القارية المباشر، والتي لم تكن تهتم بالمسألة الإيطالية، والتي تركت بين أيدي النمسا وحدها فقط، منذ بداية سنة 1813، تدبير حل لهذه المسألة.
إلا أن إنجلترة - بالرغم من ذلك - صارت الدولة التي أولت اهتمامها المسألة الإيطالية؛ فهي قد أيدت أسرة البربون اللاجئة في صقلية، ثم إن سفيرها في نابولي، لورد «بنتينك
Bentinck » قد أخذ من تلقاء نفسه، ولدرجة معينة - دون انتظار تعليمات بهذا الشأن من حكومته - يفرض إرادته على فردنند الرابع ملك نابولي (ملك الصقليتين)، وساهم في توجيه السياسة الإيطالية ضد «مورا» الذي حل محل «فردنند» على عرش نابولي.
وفي إيطاليا الشمالية: كانت «مؤامرة» يوجين بوهارنيه تدور حول رغبة هذا الأخير في الاحتفاظ لنفسه «بمملكة إيطاليا»؛ فلا يقنع بمنصب نائب الملك، بل يريد أن يكون الحكم من حقه مباشرة بأن يستمر بقاء هذه المملكة، وأن يكون هو الملك المتوج عليها، وبعد معركة «ليبزج» (في أكتوبر 1813) - وكان يوجين قد اشترك في هذه الواقعة التي انهزم الفرنسيون فيها - رجع «يوجين» إلى ميلان، ورفض إخلاء إيطاليا الشمالية على خلاف الأوامر التي صدرت إليه من نابليون، ليفعل ذلك، وليعود مع الموظفين الفرنسيين إلى فرنسا، ومع ذلك فقد كان مركزه على درجة كبيرة من الخطورة من الناحية العسكرية، بسبب زحف النمسويين الذين جاءوا من المقاطعات «الإلليرية» بطريق نهر الدراف
Drave
من جهة، ثم مجيئ نمسويين آخرين بطريق نهر «الأديج» من جهة أخرى، مما أرغم «يوجين» على الارتداد والتراجع إلى لمبارديا فيما وراء «الأديج»، في حين احتل النمسويون من ناحية إقليم الرومانا، ثم جبال الألب من ناحية أخرى.
ومع ذلك فقد كان «يوجين» نفسه مترددا؛ فهو يريد البقاء على «عرشه» ثم هو لا يجرؤ على خيانة نابليون خيانة علنية، ثم هو لا يجرؤ كذلك على دعوة ممثلي الشعب للاجتماع؛ ليعتمد على تأييد الشعب له، وحاول «يوجين» المفاوضة مع الحلفاء ليقر هؤلاء بقاءه على العرش، وبالرغم من أنه في لحظة من اللحظات لقي تأييدا من القيصر إسكندر، إلا أن تنازل نابليون عن العرش «في 6 أبريل 1814» لم يلبث أن ترتب عليه إرغام «يوجين بوهارنيه» عسكريا على التسليم إلى القائد النمسوي «بيلجارد
Bellegarde » في 26 أبريل 1814.
ولقد ظهرت في ميلان في هذا الوقت الأحزاب السياسية، فكان أحدها «الحزب النمسوي» الذي تألف قبل كل شيء من أولئك الذين آثروا السكينة والسلام على أية اعتبارات أخرى، ثم من أولئك «الرجعيين» الذين أرادوا عودة «النظام القديم»، ثم من أولئك الذين عقدوا آمالهم على النمسا، فتوقعوا أن تنال لمبارديا حكما ذاتيا، وقاموا بحملة دعاية عريضة في صالح النمسا، ولقد وجد إلى جانب هذا الحزب النمسوي، حزب لا شك في أنه يثير اهتماما أكبر، هو «الحزب الحر الإيطالي» الذي شمل أكثرية النبلاء في إقليم ميلان (الميلانيز)، والذين أرادوا استقلال ميلان (الميلانيز)، على أن تكون ميلان المستقلة دولة أكبر اتساعا، هي مملكة إيطاليا لا يعنيهم أن يكون الأمير أو الملك المنتظر تتويجه على هذه المملكة نمسويا أو إنجليزيا أو إيطاليا؛ طالما قد تحقق استقلال المملكة، واطمأنوا لدوام هذا الاستقلال، ولاحتفاظ مدينة ميلان بأهميتها كعاصمة لهذه المملكة، وبما كان لها من سيطرة في إيطاليا الشمالية، وطالما صحب تأسيس هذه المملكة المستقلة إعطاؤهم حق الإشراف على شئونها وتوجيه نشاطها.
وكان رئيس هذا الحزب الحر الإيطالي «كونفالونييري
Confalonieri » الذي بادر مع حزبه بتحريك أهل ميلان للقيام بالثورة عند تنازل نابليون عن العرش ؛ حتى يرغم مجلس الشيوخ في ميلان على دعوة الدوائر الانتخابية، فقامت الثورة فعلا في 20 أبريل 1814، وأنشأ مجلس بلدية ميلان حكومة «وصاية» لم تلبث أن أوفدت «كونفالونييري» نفسه إلى باريس ليتباحث مع الحلفاء في موضوع استقلال مملكة إيطاليا الشمالية وإعطاء هذه المملكة دستورا، ولكن «كونفالونييري» وصل إلى باريس متأخرا وبعد فوات الفرصة؛ لأن النمسويين كانوا «المنتصرين» في الحرب من ناحية، ولأن «الحلفاء» كانوا قد قرروا من ناحية أخرى تسوية المسألة الإيطالية دون انتظار لمعرفة رغبات الطليان أنفسهم؛ فدخل «بيلجارد» ميلان في نهاية شهر مايو 1814، وصار يبذل الوعود الطيبة للأهالي، في الوقت الذي اتخذ فيه احتياطات عسكرية معينة، بالتخلص من القواد الطليان الذين كان محتملا أن يتزعموا المقاومة ضد السيطرة النمسوية.
والحقيقة أن هذا «الحزب الحر الإيطالي» لم يكن بالقوة التي كان يجب أن تكون له لو أنه كان يمثل حركة إيطالية عامة؛ ذلك بأن هذا الحزب لم يكن إلا عنصرا من عناصر هذه الحركة وحسب، فهو حزب محلي (ميلاني) وليس حزبا «إيطاليا»، واقتصر تفكيره على مصير ميلان، ولم يشمل إيطاليا في مجموعها؛ فهو حزب وطني محلي، كان قوامه الجيش إلى جانب النبلاء، وكان الجيش على أهبة الاستعداد لتأييد حكومة مستقلة إذا وجدت هذه الحكومة، ولكنه في جوهره كان حزبا محليا، أضف إلى هذا أن الدولة المستقلة أو مملكة إيطاليا المنتظرة - حسب تقدير هذا الحزب - لم تكن تتعدى الأقاليم الميلانية (الميلانيز)، وأقاليم البندقية، وعندما جمع الحزب الدوائر الانتخابية حدث ذلك فقط في الجهات التي يتكلم أهلها باللهجة المحلية اللومباردية.
ولقد كانت الدعوة أو النداءات التي صدرت عن القائمين بالحركات التي تزعمها «مورا» أو تلك التي دبرها «مترنخ» تنطوي على «فكرات» أوسع مدى وأبعد عمقا من تلك التي نادى بها هذا الحزب الميلاني (الحزب الحر الإيطالي)، واستطاع أولئك الذين التفوا حول «مورا» و«مترنخ» تأدية مهمتهم بنجاح، حتى إن هذين سرعان ما صارا مدفوعين رويدا رويدا، إلى اعتناق أو قبول «الفكرات» أو «المدركات» الواسعة التي نبت أو تولد منها ما صار يعرف باسم «إيطاليا».
أما «مترنخ» فقد أراد قبل كل شيء - وتلك كانت نقطة البداية في سياسته - أن يفصل إيطاليا من نابليون، أي أن ينتزعها منه، وأن يفصل «مورا» من الإمبراطور؛ حتى يتسنى له التخلص من «يوجين بوهارنيه»، واستنقاذ إيطاليا الشمالية من الفرنسيين المسيطرين عليها، ولقد كان بسبب هذا الدافع أن صار «مترنخ» ميالا عند الضرورة للتفاهم مع «مورا»، وبقي «مورا» في نابولي بعد التقهقر من روسيا (4 فبراير 1813)، وانحصرت غايته في الاحتفاظ بتاجه وعرشه، وكان «مورا» يعلم جيدا أنه موضع ريبة وشك من جانب نابليون، بسبب سلوكه كثيرا مسلك «الملك» المستقل، وبدليل أن نابليون كان قد هدده بالعزل، وبطلب استدعائه؛ ولذلك فقد كان «مورا» على أهبة الخروج على نابليون والتخلي عنه عند الضرورة، في نظير بقائه على عرش نابولي، ومنذ عودته إلى مقر ملكه بادر بإيفاد بعثة إلى فينا برياسة الأمير «كارياتي
Cariati »، مهمتها الحصول على ضمانات في صالحه، معلنا استعداده في نظير ذلك للترحيب بزحف الجيوش النمسوية على إيطاليا.
ووفد إلى نابولي، والتف حول «مورا» أناس صاروا يغرونه على المضي في طريقه، وهؤلاء كانوا أعضاء «الكاربوناري» الذين هم عنصر ثوري، ويدينون بآراء جمهورية في جملتها، ويرفضون عودة «النظام القديم» بحال من الأحوال، والذين اشتد عداؤهم له، وإلى جانب هؤلاء «الكاربوناري» الثوريين وجد الوطنيون الذين اعتنقوا فكرة إنشاء إيطاليا حقيقة، والذين كانوا من الطبقة المتوسطة (البورجوازية) ومن «المستنيرين» الذين أرادوا إنقاذ الحريات المدنية، والإصلاحات الحرة التي أدخلتها إلى البلاد السيطرة الفرنسية، والذين كانت تجيش في صدورهم الروح الوطنية (القومية) في الوقت نفسه.
ثم وجدت إلى جانب هؤلاء وأولئك جماعة المناوئين للحركات الثورية، والذين لا يترددون إذا قامت الثورة في استخدام أسوأ أساليب السياسة لإخمادها، ولقد دفع هؤلاء «مورا» إلى السير في سياسته دون أن يخشى من أية اضطرابات داخلية قد تحدث بدعوى أن النمسويين سوف يتدخلون لا محالة عندئذ لإخمادها ولإعادة النظام إلى نصابه بعد ذلك.
ثم كانت هناك تحريضات لورد «بنتينك» السفير الإنجليزي الذي أنشأ وهو بصقلية علاقات مع «مورا»، ويريد استخدام «مورا » ضد الفرنسيين، وعرض عليه إرسال نجدة من خمسة وعشرين ألف إنجليزي على شرط أن يسلم «مورا»، «جيتا
Gaëte » لينزل بها هؤلاء من البحر، والذي لا شك فيه أن السفير الإنجليزي كان يعمل لخديعة «مورا»؛ إذ من الثابت أن «بنتينك» إنما كان يخدم مصالح الملك البربوني «فردنند»، في صقلية، في الوقت الذي حاول فيه إقناع «مورا» وجعله يعتقد أن «بريطانيا العظمى» مستعدة لتأييده في أي عمل يأتيه ضد «الطاغية»؛ أي: نابليون.
كل هذه «المجموعات» حول «مورا» اشتركت في مداهنته وتملق كبريائه، وزين هؤلاء له المجد والشهرة مما سوف يصبح حقا له إذا صار «محرر إيطاليا ومنقذها»، واستخدموا كل ما لديهم من وسائل الضغط والإغراء ليقنعوه بتزعم حركة التحرير؛ ليصبح بطل الحرية الإيطالية، وتردد «مورا»، وفجأة بمجرد أن طلب نابليون منه الانضمام إليه في حملة ألمانيا، تراجع «مورا»؛ فكتب إلى الإمبراطور يلبي الدعوة في 12 أبريل 1813، وبادر بالذهاب إليه، وحارب في معركة «ليبزج»، ولكن قبل الهزيمة الأخيرة صح عزم «مورا» على التخلي عن المصلحة الفرنسية نهائيا؛ فترك نابليون في «إرفورت»، وعاد إلى نابولي في 4 نوفمبر 1813، وفي هذه اللحظة كان «مورا» قد قرر إيثار صالحه الخاص على صالح نابليون، والعمل لنفعه الشخصي هو وحده.
ولقد اقترح «مورا» على نابليون في 10 نوفمبر 1813، إعلان استقلال الطليان، وإنشاء أمة واحدة في إيطاليا، ومن المحتمل أن مبعث هذا الاقتراح كان رغبة «مورا» في اتخاذ رفض نابليون له عذرا يسوغ به انتقاضه عليه وانفصاله عنه، أو كان مبعثه أن «مورا» نفسه يريد أن يقوم بهذا الدور ذاته - إعلان استقلال إيطاليا، وإنشاء «الأمة» الإيطالية - وقد لخص «كولينكور» المقترحات التي تقدم بها «مورا» في مذكرة لتعرض على نابليون، كان مما جاء بها تعليقا على ما يقترحه «مورا»:
إن الغرض الذي يريده الملك «مورا ملك نابولي» هو استقلال إيطاليا ... ولقد صنعتم جلالتكم - مخاطبا نابليون - من إيطاليا أمة، وتريد أكثرية الطليان أن تكون لهم حياة سياسية، ولقد أدرك ذلك ملك نابولي؛ فأخذ يبذل قصارى جهده مستخدما كل الوسائل ليصبح هذا هو الرأي السائد في كل مكان، وليجمع في صعيد واحد - إذا استطاع - كل أعضاء (أقسام) إيطاليا.
وفي تلك العبارات تتجسم للمرة الأولى فكرة إنشاء إيطاليا موحدة ومستقلة، وعلى أن يكون «مورا» صاحب صولجان الحكم بها.
ولقد كانت النمسا صحيحة العزم آنئذ على انتزاع «مورا» من جنب نابليون، وانتزاع إيطاليا من السيطرة النابليونية، وفي أثناء حملة ألمانيا، كان «مترنخ» على اتصال مستمر بزوجة «مورا» الملكة كارولين - شقيقة نابليون - يتفاوض معها، وبعد عودة «مورا» - عقب واقعة «ليبزج» - إلى نابولي، أوفدت إليه النمسا - بموافقة إنجلترة وروسيا - سفيرا هو الجنرال «نايبرج
Neipperg »، تقرر سفره إلى نابولي في 10 نوفمبر 1813، فبلغها في آخر ديسمبر، وجرت المفاوضات بين «نايبرج» و«مورا» بكل سرعة؛ فأبرم «مورا» في 11 يناير 1814 معاهدة تحالف متبادل مع النمسا؛ فضمنت النمسا تاج «مورا» وتعهدت باستخدام وساطتها لدى الحلفاء لاستمرار هذا التاج في حوزته، ولقد ألحق بهذه المعاهدة اتفاق سري تعهدت فيه النمسا بأن تبذل قصارى جهدها؛ لتحصل على تنازل من فردنند البربوني عن كل حقوقه في عرش نابولي، ولتقنع إنجلترة بإبرام السلام فورا مع «مورا»، وفي هذا الاتفاق السري قبلت النمسا كذلك أن يزداد حجم مملكة «مورا»، بضم بعض الأراضي من الأملاك البابوية إليها، بزيادة أربعمائة ألف نسمة.
وبالفعل تمكن «مترنخ» من إقناع لورد «بنتينك» بإبرام «هدنة» بين الإنجليز و«مورا» في 3 فبراير 1814، وكان «مورا» نفسه - تنفيذا لمعاهدة التحالف مع النمسا - قد قطع كل صلة له بنابليون منذ 14 يناير، وأعلن الحرب عليه، وبدأ عملياته العسكرية باحتلال رومة في 19 يناير، ودخل الجيش النابوليتاني أنكونا في 30 يناير، وفي 31 يناير دخلوا «بولونا»، في حين احتل النمسويون من جانبهم الأملاك البابوية في رافنا
Ravenna ، وفرارة
Ferrara ، وبولونا، وبذلك تكون قد انهارت السيطرة الفرنسية في إيطاليا الوسطى؛ كانهيارها في أكبر قسم من إيطاليا الشمالية - على النحو الذي شهدناه عند تسليم «ميلان» للنمسويين في 26 أبريل، واحتلال هؤلاء لها - وبمجرد إعادة البابا «بيوس السابع» إلى إيطاليا بعد أن فك إساره من «فونتينبلو» التي كان نابليون قد نفاه إليها منذ مايو 1812، حاول «مورا» جهد طاقته - منذ وصول البابا إلى إيطاليا في آخر مارس 1814 - لإقناعه بالتنازل له عن جزء من الأملاك البابوية.
والذي تجدر ملاحظته أن كل «الترتيبات» والمباحثات التي حصلت حتى هذه اللحظة بين «مترنخ» و«مورا» كانت تدابير سياسية بحتة، وذات صبغة محلية، وبصفة شخصية بحتة كذلك، ولكن من اللحظة التي نجحا فيها في تحطيم السيطرة الفرنسية في إيطاليا اتسع برنامج كل منهما طفرة واحدة؛ فتزايدت أطماع «مورا» الذي استمر يتكتل حوله الطليان من الجماعات التي سبق ذكرها، وأخذ يفد - ضمن من وفدوا عليه في نابولي - وفود من رومة يرجونه الاستيلاء على مدينتهم، وأراد «البناءون الأحرار» الماسون - الذين كان «مورا» أستاذا أعظم لهم - أن يضعوه على رأس إيطاليا بأجمعها، وكان تحت تأثير كل هذه العوامل وحتى يزيد عدد أتباعه وأنصاره أن سار «مورا» حثيثا في طريق الإصلاحات الدستورية التي أرادها لمملكته، وجاءه التأييد من كل جانب، من ناحية أولئك الذين ابتاعوا أملاك الكنيسة بعد أن صارت هذه علمانية، وصارت أملاكها أموالا عامة، أو الذين ابتاعوا كذلك أملاك النبلاء التي بيعت.
وكان «مورا» قد أوضح للسفير النمسوي، أن النمسا لن تربح شيئا من كل تلك الدويلات الصغيرة التي تريد إنشاءها في إيطاليا، ولكن الهدوء والسكينة سوف يسودان إيطاليا، ونفوذ النمسا سوف يتوطد بها إذا جعل النمسويون في قدرة «مورا» أن يكون لديه دائما جيش من ستين ألف مقاتل، وفي الوقت نفسه أخذ «مورا» يتراسل مع نابليون في جزيرة إلبا، واستمر يتفاوض مع البابا كي يحصل منه على الاعتراف بتاجه، ولينال قسما من الأملاك البابوية، يضمه إلى مملكته في نظير استرجاع البابا لبقية أملاكه «أو الدولة» البابوية، وكان لدى «مورا» برنامجان للعمل يستندان على وجود «احتمالين»، مبعثهما اعتقاد «مورا» أن سقوط نابليون قد ألحق الضعف على كل الأحوال بمركزه، فهو إما أن ينجح في الاعتماد على وجود «رأي عام» إيطالي قوي يؤيده في إنشاء دولة إيطالية تحت حكمه، وإما أن يحصل نهائيا على تاج نابولي إذا أخفق المشروع الأول.
وأما «مترنخ» الذي تسنى له الخلاص من نابليون، فقد أخذ يفكر الآن في الخلاص من «مورا»، ولكنه كان مقيدا بالمعاهدة - معاهدة التحالف - المبرمة بين مورا والنمسا في 11 يناير 1814، ثم بالاعتبارات المرتبطة بالطريقة التي أراد بها «مترنخ» التصرف في مصير الأملاك (الدولة) البابونية، و«الأرشيدوقات» النمسويين الذين يريد ترتيب نظام للحكم لهم في إيطاليا، و«دويلاتها» الصغيرة المبعثرة.
وأراد «مترنخ» أن يضع للمسألة الإيطالية حلا يوجد بها ترتيبات، من نوع تلك الترتيبات التي حصلت في ألمانيا؛ فيؤسس اتحادا كونفدرائيا إيطاليا، يكون أعضاؤه من المؤيدين لسياسة النمسا، والخاضعين لنفوذها، فتحتفظ النمسا بمملكة إيطاليا باسم «مملكة لمبارديا فينيسيا»، وفي بيدمنت يرتب زواج أحد الأرشيدوقات النمسويين من ابنة «فكتور عمانويل» الذي لا ولد له ذكرا، فيتسنى عندئذ - وبعد إلغاء قانون الوراثة المعمول به، والذي يمنع النساء وأولادهن من الملك - أن يصبح هذا الأرشيدوق ملكا على بيدمنت وسردينيا، وفي تسكانيا ومودينا تأسست بها حكومة الأرشيدوقين، أما «ماري لويز» الإمبراطورة القديمة، وكذلك الحكام من أسرة البربون في بارما، فقد أراد مترنخ أن يكون لهم الحكم في وسط إيطاليا، وكل هذه الحكومات الخاضعة لنفوذ النمسا هي التي يضمها الاتحاد الكونفدرائي الذي أراده مترنخ.
ولذلك فقد وجد برنامجان متعارضان لتقرير مصير إيطاليا، هما برنامج «مورا» و«مترنخ»، ولكن من المستطاع أن يؤدي كل منهما إلى إعادة تنظيم إيطاليا، وذلك بتأسيس دولة «إيطاليا»، إما في صورة «مملكة»، وإما في شكل «اتحاد كونفدرائي»، وكلا النوعين إن هو إلا تنظيم عام وشامل، لم يسبق أن شهدت له إيطاليا مثيلا في حياتها كلها.
ولكن الفشل كان مزدوجا؛ لأن «مورا» اعتقد أن عودة نابليون بعد فراره من إلبا سوف تمكنه من تحقيق مشروعه، وكان «مورا» قبل ذلك قد طلب من مترنخ إعطاءه حق المرور بقواته عبر الأملاك البابوية لمقاومة النفوذ النمسوي ، وقابل مترنخ هذا الطلب بالرفض، ولكن «مورا» لم يلبث أن بدأ عملياته العسكرية بعد نزول «نابليون» في «فريجوز»، باختراق خط الحدود الذي يفصل بين نابولي والأملاك البابوية؛ فقد طلب في 19 مارس 1815 حق المرور لقواته عبر إقليم «كامبانا» الرومانية، ورفض البابا؛ فاحتل جيش «مورا » إقليم «كامبانا
Campagne »، وفي 29 مارس اجتاز خط الحدود النمسوية، ودخل إلى «الرومانا»، فكان معنى ذلك قطع العلاقات مع النمسا، وعمد «مورا» إلى إصدار «نداء» من «ريميني
Rimini » في 30 مارس، موجها للإيطاليين، جاء فيه:
إن الساعة قد حانت ليتحقق مصير إيطاليا المجيد، فإن الله يدعو الإيطاليين ليكونوا «أمة مستقلة»، فلتدو إذن صيحة واحدة تتجاوب أصداؤها من جبال الألب في الشمال، إلى مضايق صقلية في الجنوب، تنادي باستقلال إيطاليا ... إن ثمانين ألفا من الطليان يزحفون تحت أوامر مليكهم، ويحلفون يمينا مغلظة أنهم لن يذوقوا طعم الراحة حتى تتحرر إيطاليا.
واختتم «مورا» هذا النداء بأن طلب من كل الأحرار الشجعان في إيطاليا أن يلتفوا حوله؛ ليخوضوا المعركة سويا، وفي 2 أبريل دخل «مورا» بولونا، ثم بعد يومين (4 أبريل) دخل «مودينا».
ومع ذلك فإن «الحركة القومية» التي بنى «مورا» آماله على إثارتها والاستفادة منها لم تحدث؛ فلم تثر «حركة» مورا هذه أي حماس، اللهم إلا بين قسم من الشباب وبعض الطبقات المستنيرة المثقفة؛ فألف الموسيقار «روسيني
Rossini » «أنشودة الاستقلال»، وتعين «روسي
Rossi » أستاذ القانون في «بولونا»، قومسييرا للمقاطعات الأربع، وكان من أنصار هذه الحركة القومية، وتألفت هذه الجماعة أو هذا الحزب الوطني (القومي) من عناصر جاءت جميعها من بين الطبقات المتعلمة، إلى جانب بعض النبلاء ورجال الجيش، فلم يكن هناك وجود لحركة «شعبية» أي من جانب سواد الشعب، وظل الخمول وعدم الاكتراث يسيطران تماما على سواد الأهلين؛ واضطر «مورا» إلى الاعتماد على قواته المقاتلة وحدها، فكان عندئذ أن سهلت هزيمته على يد الجيش النمسوي الذي أرغم «مورا» على التقهقر بكل سرعة صوب «نابولي»، ثم لم يلبث أن تنازل عن عرشه وسلمه للإنجليز، ثم غادر البلاد إلى «كان
Cannes » في 20 مايو 1815، ثم ذهب إلى «كورسيكا» التي لم يلبث أن غادرها في 21 سبتمبر؛ ليقوم بحركة لاسترجاع عرشه المفقود، فألقي القبض عليه عند نزوله من البحر في «بيزو
» في أرض «كلابريا»، وحكم عليه بالموت وأعدم رميا بالرصاص في 13 أكتوبر 1815، على نحو ما سبق ذكره في موضعه.
ولقد كان بفضل «تدابير» وترتيبات شخصية، أن تسنى «لمورا» أن يصبح بطل «القضية الإيطالية» عندما أراد استخدام هذه التدابير «البسيطة» كوسيلة لصنع أو خلق «دولة» إيطالية، ولم يكن هناك وجود في الحقيقة لذلك «الحزب الوطني» أو القومي الذي وجه له «مورا» نداءاته؛ لأن هذا الحزب الوطني لم يكن يوجد إلا في صورة طائفة من المبادئ والأفكار المثالية لم تتح لها الفرصة بعد للذيوع والانتشار، والتي كان يعتنقها بعض العناصر من المثقفين والعسكريين، والذين تأثروا كذلك بالفكرة الدستورية.
وكما أخفقت تدابير «مورا» المستندة على «الملكية» و«القومية»، ولتأسيس دولة إيطالية موحدة؛ فقد أخفقت كذلك تدابير «مترنخ» لإنشاء دولة اتحادية (كونفدرائية) في إيطاليا؛ فقد تخلى «مترنخ» عن جزء من أطماعه عندما صار ضروريا الانتهاء سريعا من وضع تسويات الصلح في فينا، فكان من المستحيل أن يحصل على الأملاك البابوية، بل استرجع البابا أقاليم «رافنا» و«فرارة» و«بولونا» لتعود أملاكه إلى الوضع الذي كانت عليه في سنة 1789، وكانت الدول - بعد انتهاء الخطر الذي كان يتهددها من ناحية نابليون بعد هزيمة هذا الأخير في «واترلو» - قد صارت تقابل بتحفظ وحذر شديدين مقترحات مترنخ، وتقف من «سياسته» موقفا أكثر استقلالا من الماضي، وتشعر بأنها صارت قوية بالدرجة التي تقدر فيها على مقاومته، وكانت تلقى الدول تأييدا في موقفها هذا من جانب روسيا وفرنسا.
وعلى ذلك فقد «تجنب» ملك نابولي (فردنند الرابع، أعيد إلى عرشه الآن باسم فردنند الأول)، والبابا وملك بيدمنت، الإصغاء لمقترحات مترنخ، ورفضوا «الكونفدرائية» التي اقترحها «مترنخ» حلا للمسألة الإيطالية، بل إنهم رفضوا كذلك - بعد فترة من الزمن قصيرة - اقتراحا لإنشاء «اتحاد بريدي» لتنظيم البريد بين الدويلات والإمارات الإيطالية؛ وعلى ذلك فقد بقيت إيطاليا «مصطلحا جغرافيا»، حسب التعريف الذي صاغه مترنخ نفسه بعد ذلك ليصف به إيطاليا.
ولعل أهم ما تجدر ملاحظته عند المقارنة بين الحركتين الإيطالية والألمانية أن ثمة اختلافا كبيرا يميز كلا منهما عن الأخرى؛ ذلك بأن الطليان لم يشتركوا - وعلى نحو ما فعل الألمان - في تحرير بلادهم واستنقاذها من السيطرة الفرنسية، فلم يعد الدور الوحيد الذي قاموا به، تأليف ذلك الحزب الميلاني الذي أسمى نفسه «الحزب الوطني الإيطالي»، والذي لم يكن إلا حزبا محليا، ثم تقوية كل تلك الأماني الوطنية التي صارت مرتكزة على النشاط الذي سوف يقوم به «مورا»، والتي كانت في الحقيقة لا تستند على أصول عريقة ولا تنسيق يربط اتجاهاتها ويوجه نشاطها.
ومن ناحية أخرى فقد كان هناك أصحاب المصالح الذين أزعجهم ضياع كل الإصلاحات والتغييرات التي حصلت على أيام السيطرة الفرنسية، وصاروا لا يريدون عودة «النظام القديم»، بل لقد كانت الفكرة القومية يحوطها الإبهام الشديد، حتى في تفكير الأدباء والمثقفين، والذين عرفوا بالتقدم الذهني أكثر من سواهم، وصفوة القول: إن من المتعذر ملاحظة يقظة قومية في إيطاليا، من طراز تلك اليقظة القومية التي شوهدت في ألمانيا آنئذ.
الخلاصة
أما وقد انتهينا من هذه الدراسة الطويلة والدقيقة، التي شملت عهدي الثورة الفرنسية والإمبراطورية النابليونية، وموقف «أوروبا» من هذين الحدثين العظيمين، وتأثرها أو بالأحرى تأثر حكوماتها وشعوبها بهما، من حيث محاولة تقويض دعائم «النظام القديم» أو القضاء على بقايا «الإقطاع» من كل النواحي الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ثم من حيث إفساح المجال لظهور الطبقة المتوسطة (البورجوازية) التي وقع على كاهلها عبء المقاومة «روحية» كانت - وتلك متمثلة في حركة الفكر والأدب والفن - أم «مادية» فعلية - متمثلة في العمليات العسكرية - ثم من حيث إفساح المجال كذلك لطبقات النبلاء ورجال الكنيسة في بقايا المجتمع القديم، للمساهمة الجدية أحايين كثيرة في حركات التحرر والخلاص من السيطرة الفرنسية (الأجنبية)، الأمر الذي ترتب عليه جميعه - وبفضل وجود هذه السيطرة الفرنسية ذاتها والتي بدأت تمتد إلى أوروبا من أيام «الثورة»، ثم صارت تشمل القارة بأسرها تقريبا أيام «الإمبراطورية» - أن تكشفت «قوميات» كان لها كيان، وإن لم تكن قد أتيحت الفرصة لبروزها إلى حيز الوجود قبل حوادث «الثورة» وحروب نابليون و«سياسته»، وإن بدأ إلى جانب ذلك ميلاد «قوميات أخرى عديدة».
على أن الذي نود الإشارة إليه مستخلصا من كل هذه الدراسة: أن الثورة الفرنسية والإمبراطورية النابليونية لم يكن لديهما قطعا - وكما شاهدنا - أية «سياسة» قومية، أو سياسة تهدف إلى خلق وصنع «القومية» أي الدول والأمم التي تشعر بقوميتها وكيانها الذاتي الخاص بها، وواضح أن «السياسة» القومية غير «الفكرة» القومية أو «نظرية» القومية؛ لأن «النظرية» القومية قد وجدت فعلا على أيام الثورة الفرنسية والإمبراطورية النابليونية.
والأمم التي توفر بها وجود العناصر اللازمة لخلق «القومية» كان في وسعها أن تقطع شوطا ملحوظا في طريق الشعور بذاتيتها وكيانها، وذلك إما بفضل هذه «النظريات» التي أتت بها الثورة الفرنسية وزودت بها هذه الأمم، وإما بفضل «الأمثلة» التي قدمتها الثورة في صلاتها مع الشعوب التي أرادت الثورة أن يكون من حق هذه الشعوب وحدها الفصل في مصيرها، وإما لأن «الثورة» قد أعطت هذه الشعوب الفرصة للنضال من أجل التحرر من كل سيطرة أجنبية، وتأسيس «ذاتية» مستقلة، وكانت اليونان وإيرلندة وبولندة من البلدان التي فعلت ذلك، ولو أنه تعذر الوصول إلى نتائج حاسمة من نضالها؛ لأن أهل هذه البلدان كانوا «معزولين» ويصعب إرسال النجدات إليهم، ولأن «السياسة الفرنسية» قد تخلت عنهم.
ومع ذلك فقد أثارت «الثورة الفرنسية» والإمبراطورية النابليونية، رد فعل كبير في البلدان الأخرى للدفاع عن الوطن، والدفاع عن الوطن هو أول الأسس التي تقوم عليها كل «قومية»، وفي هذه الصورة الوطنية أمكن ظهور بوادر الشعور القومي، أو الفكرة القومية للمرة الأولى، وذلك كان عين الذي حدث في الأمم التي تمتعت بكيان ذاتي، أو وطني وقومي، قبل أن تمتد السيطرة الفرنسية على أوروبا، ونعني بذلك إسبانيا وروسيا وهولندة.
وثمة نوع آخر من الأمم في ألمانيا، ولدرجة أقل في إيطاليا، كانت من الناحية السياسية في مستوى ينخفض عن مستوى الأمم السالفة الذكر، حيث إن العاطفة القومية لديها لم تكن مع وجودها قد تعدت - حتى هذا الوقت - النطاق الفكري والثقافي البحت، وفميا يتعلق بألمانيا وإيطاليا، كانت المشكلة هي معرفة ما إذا كان الشعور القومي سوف يستمر باقيا بعد زوال ضرورة الدفاع المشترك عن الوطن في ألمانيا وإيطاليا، وسوف يجد أسبابا أخرى غير النضال ضد الاحتلال الأجنبي للبلاد تكفل له الاستمرار والبقاء.
أما السيطرة الفرنسية؛ فمن المسلم به أنها خلفت بعض الآثار و«الجروح» في أوروبا؛ فأوروبا سوف لا تعود إلى الحال التي كانت عليها سابقا، ذلك أن هذه السيطرة قد أحدثت «تبسيطا» في كيانها السياسي عندما تأسست في كل من ألمانيا وإيطاليا والنمسا وحدات إقليمية كانت أكبر حجما من «الدويلات» التي وجدت بها في الزمن السابق، ثم أحدثت هذه السيطرة «تبسيطا» كذلك في كيانها الاجتماعي، عندما ألغيت الامتيازات والإدارات الإقليمية والتي كانت للنبلاء، وقضي على العراقيل التي قيدت نشاط الأفراد واتصالهم ببعضهم بعضا داخل «الدولة»، مثل الأنظمة الجمركية ورسوم استخدام الطرق وما إلى ذلك، وفي كل مكان - تقريبا - ترتب على الإصلاحات الاجتماعية شيء من التقريب بين طبقات المجتمع، لم يسبق إطلاقا حصوله بأية درجة.
وأخيرا فقد ازدحمت في أذهان الناس ذكريات عديدة تعذر عليهم التخلي عنها أو نسيانها فيما بعد، وكانت مرتبطة بتلك الآراء والنظريات والمبادئ التي جاءت بها الثورة الفرنسية، أو نجمت من رد الفعل الذي حصل ضد السيطرة النابليونية.
ولقد بقيت شعوب أوروبا متأثرة بهذه «الذكريات» مدة قرن من الزمان، كانت الثورة الفرنسية تستثير في أذهانهم دائما معاني الحرية والمساواة والبطولة والتضحية في سبيل هذه المبادئ، ومن أجل الدفاع عن الوطن، ولقد كانت هذه «المبادئ» والمثل العليا التي غرستها الثورة الفرنسية والسيطرة النابليونية - الأولى: بفضل المبادئ التي أذاعتها، والثانية: بفضل رد الفعل الذي حصل ضدها - هي التي جعلت ممكنا يقظة الشعور القومي على درجاته المتفاوتة التي شاهدناها، ثم بداية الحركات القومية في السنوات التالية، عندما استأنفت الشعوب - مباشرة بعد سقوط إمبراطورية نابليون - الصراع ضد الحكومات الراجعة، وبقايا الإقطاع في ظل «النظام القديم» الذي أراد الملوك والأمراء الراجعون إلى عروشهم التي كانوا قد طردوا منها ، أن يعيدوه بحذافيره.
ولقد كانت «الطبقة المتوسطة» البورجوازية هي التي قامت على أكتافها الحركات القومية في الأدوار التالية، ليس من أجل تحرير أوطانهم من السلطان الأجنبي وحسب، بل ولإنشاء الحكومات الدستورية التي انتظرت «البورجوازية» أن يكفل الدستور - الذي يجب أن تقوم هذه الحكومات على أساسه - مشاركتها في الحكم، إن لم يكن استئثارها بكل أسبابه، وذلك كان نضالا شديدا استمر طيلة الفترة التالية (1815-1848) التي هي موضع دراستنا في الفصول التالية، وهو نضال قد استمر كذلك إلى ما بعد هذه السنوات التي ذكرناها.
الكتاب الرابع
أوروبا تحت نظام مترنخ (1815-1848)
المقدمة
كانت مهمة الدول بعد سقوط نابليون وزوال إمبراطوريته أن تضع تسوية للمشكلات التي أوجدها التوسع الفرنسي، أثناء السيطرة النابليونية في أوروبا، وذلك بإعادة تنظيم أوروبا من الناحيتين السياسية والإقليمية خصوصا، ولقد استرشدت الدول الكبرى عند وضع هذه التسوية بقواعد معينة أساسية: أولها؛ الشرعية، أي التمسك بمبدأ إرجاع العروش إلى أصحابها الشرعيين، ومعنى ذلك إعادة الأسر الحاكمة القديمة التي أقصيت عن الحكم منذ 1792 على أيام الثورة ونابليون، واستبدل بها غيرها في حكومة الأقطار أو الدول والممالك التي أنشئت من جديد أو تلك التي أزيل عن عروشها أصحابها الأصليون، وفي أكثر الأحايين لم يكن هؤلاء الحكام (الملوك والأمراء) الراجعون معروفين لشعوبهم كما كرههم هؤلاء كراهية شديدة، فأدى العمل بهذه القاعدة إلى عودة البربون إلى فرنسا، وحرمان أسرة بونابرت من الحكم، ثم إنه كان من معنى الشرعية أن صار معمولا بالمبدأ القائل بضرورة اعتبار الشعوب أن الواجب يقتضيهم أن يقبلوا الحكام الذين يفرضون عليهم وأن يذعنوا لهم، وأن يمتنع عليهم حتى مجرد التفكير إطلاقا في أن لهم حقا في اختيار من يريدون تنصيبه حاكما عليهم.
وأما ثاني هذه الأسس: فكان المحافظة على توازن القوى بين الدول، ومعنى الموازنة بين القوى - التوازن الدولي - أن لا يسمح لدولة بالتفوق على غيرها من الدول؛ وذلك حتى لا تبسط سيطرتها على أوروبا، على غرار ما فعلت الإمبراطورية النابليونية، ولكن مبدأ المحافظة على التوازن الدولي عند تطبيقه كان معناه العودة إلى ما درج عليه العمل في القرن الثامن عشر، من حيث المبادرة إلى توزيع الأسلاب بين المنتصرين على أن يكون لأقوى الدول النصيب الأوفر منها.
فكان الذي أفاد من تطبيق مبدأ التوازن الدولي بهذه الصورة كل من إنجلترة وروسيا، وبروسيا والنمسا والسويد، فسوف نرى أن إنجلترة احتفظت بمقتضى التسوية الأوروبية بالسيطرة في البحار، الأمر الذي ساعد على زيادة نشاطها وتوسعها التجاري، كما أضافت إلى أملاكها عددا من المستعمرات، أما روسيا فقد استولت على أكثر الأقاليم التي تكونت منها قديما مملكة بولندة، كما احتفظت بفنلندة. ثم إن بروسيا ضمت إليها النصف الشمالي من سكسونيا، وكذلك عددا من الإمارات والمقاطعات عند نهر الراين، وضمت السويد إليها النرويج بعد أن انتزعت هذه الأخيرة من الدنمارك، وأما النمسا فقد أفادت من مبدأ التوازن الدولي، باسترجاع سيطرتها السابقة في إيطاليا، والعمل - كما أراد مترنخ - على تفكيك أوصال إيطاليا لتصبح شبه الجزيرة الإيطالية مجرد تعبير أو مصطلح جغرافي.
والمبدأ الثالث: كان تأمين أوروبا ضد تجدد الغزو من ناحية فرنسا؛ فقد خشيت الدول أن تسترد فرنسا أنفاسها بعد الهزيمة التي لحقت بها، فتبدأ في التسلح من جديد، وتصبح خطرا يتهدد أوروبا بالغزو مرة ثانية، ولقد كان هذا الخوف من ناحية فرنسا أهم المؤثرات التي ظلت تسيطر على مباحثات المؤتمرات التي عقدت في أوروبا لإبرام الصلح أولا، ثم للمحافظة على السلام بعد إبرام معاهدات الصلح في الفترة التالية، وكان هذا الخوف - بدوره - هو مبعث ما حدث من ترتيبات سياسية وإقليمية أنشأت حول الحدود الفرنسية حلقة من الدول التي تكون على درجة من القوة تكفي لاحتجاز فرنسا أو لاحتوائها داخل حدودها التي رسمتها لها معاهدات الصلح النهائية، فيكون في وسع هذه الدول الحاجزة ضد الغزو الفرنسي إذا تجدد.
وعملا بهذه القاعدة إذن، ضمت بلجيكا إلى هولندة، ونالت بروسيا الأراضي الألمانية في جهة نهر الراين، وضمنت الدول استقلال سويسرة وحيدتها كإجراء ضروري لتقوية الاتحاد السويسري، وأعطيت سافوي إلى بيدمنت، واقترن العمل بهذا المبدأ ثم بمبدأ توازي القوى قبله باتباع قاعدة «التعويضات» التي أخذ بها السياسيون في مؤتمر فينا، من أجل تعويض الدول التي اقتطعت أجزاء منها، أو فقدت بعض أملاكها بما يساوي مساحة هذه الأجزاء التي فقدتها أو عدد سكانها.
وتلك المبادئ جميعها، التي أخذت بها الدول «الكبرى» عند وضع التسوية الأوروبية لم تلبث أن صارت - وعلى نحو ما سنفصله في موضعه - مبعث كل الأحداث والمشكلات التي عرفها القرن التاسع عشر، وهي مشكلات قامت على أساس رغبة الشعوب التي اكتمل نضجها القومي في نقض هذه التسوية وإلغائها فيما يتعلق بالترتيبات الإقليمية والسياسية التي قامت على المبادئ الثلاثة السالفة الذكر؛ فإيطاليا وألمانيا كلتاهما ترغبان في الوحدة أو الاتحاد، وبلجيكا والنرويج كلتاهما تريدان الانفصال والاستقلال، الأولى عن هولندة، والثانية عن السويد، وبولندة تبغي التحرر والخلاص من روسيا، وإلى جانب هذا كله قامت الشعوب في الدول «الصغيرة» تريد التخلص من الحكام الرجعيين الذين جاء بهم مبدأ «الشرعية»، وتعمل للتحرر من تدخل الدول «الكبرى» في شئونها حتى تفرض عليها حكما رجعيا استبداديا، أو لترغمها على الرضوخ لحكم أجنبي عنها.
وفي السنوات من 1815 إلى 1848 بذلت الدول الكبرى كل ما وسعها من جهد وحيلة «لتنفيذ» هذه المبادئ الثلاثة التي قامت عليها التسوية الأوروبية، وكان معنى «التنفيذ» محاولة التمسك بجوهر هذه التسوية وتفاصيلها في وجه كل الرغبات المشروعة التي كانت تجاهلتها الدول الكبرى عند وضع التسوية الأوروبية، وعلى ذلك فقد تميزت هذه السنوات الثلاثون، من أجل المحافظة على الأوضاع التي أوجدتها هذه التسوية الأوروبية، بقيام نوع من المحالفات بين الدول الكبرى على أساس التدخل في شئون الدول «الصغرى»؛ لإخماد كل نزعة أو محاولة للتخلص من الحكم الأجنبي، ولإنهاء الحكومة الاستبدادية، أي إن هذه السنوات الثلاثين قد شهدت صراعا مستمرا بين الحكومات «الشرعية» الراجعة أو العائدة، وأنصار الرجعية، وبين الحركات القومية الوطنية وأنصار الحرية في أوروبا.
وأما هذا النظام الرجعي الذي استند على التسوية الأوروبية من جهة، وعلى ضرورة استمرار هذه التسوية وبقائها والمحافظة على آثارها من جهة أخرى، وذلك بمحاولة القضاء على الحركات الدستورية (المذهب الحر)، والأخرى الاستقلالية (المذهب القومي)، فقد كان يمثله في أوروبا البرنس دي مترنخ
Clement Metternick-Winneburg (1773-1859).
وقد أملت على مترنخ الظروف التي نشأ فيها في خدمة الإمبراطورية النمسوية «وآل هابسبرج» السياسة التي لم يكن هناك مناص من اتباعها، ليس فقط من أجل المحافظة على كيان الإمبراطورية النمسوية نفسها ، وكانت هذه تتألف من شعوب وعناصر «أو جنسيات» متعددة: جرمانية، سلافية، مجيارية ... إلخ، وتتكلم هذه الشعوب بلغات مختلفة، بل ولضمان الفوز بمكان الصدارة الذي يرجو مترنخ أن تحتله هذه الإمبراطورية بين الدول في أوروبا، فهو عدو لكل تغيير في داخل الإمبراطورية النمسوية يهدف إلى تحرر شعوبها المتباينة عن طريق إنشاء الحكومات الوطنية والدستورية، الأمر الذي يهدد بانحلال هذه الإمبراطورية، وهو عدو لكل تغيير يحدث في داخل الدول الأوروبية الأخرى، أو يطرأ على العلاقات الدولية المؤسسة على التسوية الأوروبية (في سنة 1815)؛ لأن من شأن هذا التغيير تعكير السلام العام، وتهديد التوازن الدولي الذي كفلته التسوية الأوروبية، والذي حفظ للنمسا نفوذا كبيرا في كل من إيطاليا وألمانيا، وذلك نفوذ حرصت النمسا دائما على تدعيمه، وإن كان قد عاد ذلك عليها بالضرر والوبال في النهاية.
وعلى ذلك فقد صار اسم مترنخ علما على سياسة «التدخل» في أوروبا، أي السياسة التي اتبعت من أجل القضاء على الحركات القومية (الاستقلالية) والدستورية بها، ذلك أن مترنخ كان صاحب سياسة المحالفات العملية التي قام عليها الاتحاد الأوروبي، وهو الذي يتدخل لقمع الثورات في إيطاليا وألمانيا، ويعقد مع روسيا وبروسيا اتفاقات القمع ضد الحركات الدستورية والقومية، ويمتنع عن تأييد ثورة اليونانيين ضد السلطان العثماني صاحب السيادة الشرعية عليهم، بالرغم من اتفاق كلمة الدول الكبرى على إنقاذ اليونانيين من الفناء على يد الجيوش المصرية العثمانية، ويبادر بتأييد السلطان العثماني نفسه في نضاله مع واليه وتابعه في الباشوية المصرية، وذلك لتمسك مترنخ في كلا الحالين بمبدأ الشرعية فوق الاعتبارات الأخرى.
أما في داخل بلاده (النمسا) فقد صار «نظام مترنخ» علما على الدولة البوليسية التي اعتمدت على الأساليب البوليسية الصارمة في تعقب المناوئين للنظم القائمة ومطاردتهم، وهم الأحرار والقوميون، وعمدت إلى إلغاء حرية الفرد السياسية، وحرية الصحافة، وفرضت القيود التي وأدت حرية الرأي، وأخضعت أنظمة التعليم للرقابة الصارمة، والجامعات للتضييق الشديد، ولقي الأحرار والقوميون على أيديها السجن والنفي والتشريد، ولقد اتبعت الدول الأخرى في أوروبا هذه الأساليب نفسها، بدرجات متفاوتة؛ لتحقيق الغاية الكبرى ذاتها التي هدف إليها «نظام مترنخ» بأكمله، وهي المحافظة على التسوية الأوروبية التي وضعت سنة 1815 دون تغيير.
على أن مترنخ بنظامه البوليسي الرجعي إنما كان يناضل ضد قوات لم يكن هناك معدى عن نجاحها في آخر الأمر، وبعد شوط طويل من المقاومة، ونقصد بذلك قوات الشعوب التي طالبت بحقوقها الدستورية والاستقلالية، والتي لم يكن يتسنى لها أن تظفر بهذه الحقوق إلا عن طريق تحطيم التسوية الأوروبية ذاتها؛ التسوية التي نهض «نظام مترنخ» للمحافظة والإبقاء عليها؛ ولذلك فقط اشتعلت الثورات في كل مكان تقريبا، وفي أزمنة متفقة أو متفاوتة، وكان اشتعالها بمثابة رد الفعل لهذا النظام المترنيخي نفسه، ولغرض القضاء عليه.
ثم إن الثورة لم تلبث أن اشتعلت في النمسا أيضا، وذلك على أثر قيام ثورة فبراير 1848 المشهورة في باريس، فوقعت الثورة في فينا في 13 مارس 1848، واضطر مترنخ إلى الاستقالة، وفي اليوم التالي (14 مارس) غادر مترنخ البلاد هربا «مع زوجه» بطريق مورافيا وسكسونيا، ثم هانوفر وهولندة، إلى إنجلترة للانزواء في برايطون
Brighton ، ومع أن «نظام مترنخ» لم يقض عليه مباشرة بفرار صاحبه، فقد خسر هذا النظام أكبر العاملين على تأييده، وكان اختفاء مترنخ من الميدان مؤذنا ببداية انتصار المذهب القومي والمذهب الحر في أوروبا «والتمهيد بذلك للسيطرة البورجوازية»، وإن كان هذا الانتصار لم يتم إلا رويدا رويدا، وفي مراحل متعددة، استمر فيها النضال طيلة الثلاثين سنة التالية.
الفصل الأول
التسوية الأوروبية
(1) مؤتمر فينا
لقد تقدم كيف انتهت الحروب التي بدأت في أوروبا في عهد الثورة الفرنسية، ثم استمرت في عهد الإمبراطورية النابليونية، بأن انتصر الحلفاء على نابليون في ليبزج (1813)، ثم لم يلبثوا أن غزوا فرنسا نفسها في أوائل العام التالي، واستطاع البربون أن يعودوا إلى عرش آبائهم ، وأن يعقد الحلفاء الصلح مع فرنسا في معاهدة باريس الأولى في 30 مايو 1814.
ولكن حروب الثورة ونابليون كانت أكثر من مجرد نضال بين الدول المتحالفة وبين فرنسا، بل إن هذه الحروب كانت بمثابة العاصفة الهوجاء التي اجتاحت أوروبا؛ لتبيد معالم الحياة القديمة بها، فلم تستطع دولة أو شعب أو أسرة الإفلات من التأثر بها؛ ولذلك فقد بات ضروريا أن يجتمع «مؤتمر» يتسنى فيه البحث في شئون أوروبا العامة وتسوية المشكلات التي نجمت من هذه الحروب الطويلة، ووقع الاختيار على فينا لتكون مقر هذا المؤتمر؛ لأنها مدينة أوروبية عظيمة، وعاصمة لدولة من الدول الكبرى التي انتصرت في الحرب، ولأن حكومتها - حكومة الإمبراطورية النمسوية - كانت تمثل كل ما ينطوي عليه معنى المحافظة على التقاليد والقانون والنظام في أوروبا وقتئذ.
على أن ثمة ملاحظات بشأن هذا المؤتمر جديرة بالذكر، منها: أن هذا المؤتمر لم ينعقد لإبرام الصلح، والسبب في ذلك أن شروط الصلح كان قد تم وضعها في معاهدة باريس الأولى في 30 مايو 1814، ومن ذلك الحين كانت الحرب منتهية فعلا وقانونا بين فرنسا وبين الدول المتحالفة، وفي استطاعة فرنسا لذلك عند انعقاد المؤتمر أن تطلب الانضمام إلى الأسرة الدولية، أضف إلى هذا أن الغرض من عقد هذا المؤتمر لم يكن إعادة تنظيم شئون أوروبا على قواعد جديدة، باعتبار أن «النظام الأوروبي» قد انهار فعلا من أساسه نتيجة لحروب الثورة ونابليون خلال العشرين سنة الماضية، وأن الواجب يقتضي أصحاب التسوية أن يؤسسوا نظاما أوروبيا جديدا، تختلف القواعد التي يقوم عليها عن تلك التي استند إليها التنظيم الأوروبي في القرن الثامن عشر.
ولكن الذي حدث أن السياسيين الذين اجتمعوا في هذا المؤتمر، اعتقدوا على العكس من ذلك، أن النظام القديم وبالصورة التي عرفها القرن الثامن عشر - أي احترام السلطات الحكومية وتمجيد التقاليد، والمحافظة على التوازن الدولي - هو خير نظام وجد ليضمن للشعوب حرياتها، وليحقق سيادة القانون، وأن كل ما تدعو الحاجة إليه الآن لا يعدو حينئذ أن يكون إدخال بعض التحسينات وحسب، والتي وإن كانت ضرورية فإنها لا يجب أن تنال بحال من الأحوال من جوهر هذا النظام القديم نفسه، ولا جدال في أنهم قد فعلوا ذلك، وأنهم أصروا على أن تعود الحال إلى سابق العهد بها، وأنهم تجاهلوا فيما فعلوا حادث الثورة «الفرنسية» العظيم، وكل المبادئ الجديدة التي جاءت بها هذه الثورة، الأمر الذي أدى إلى اعتبار فترة انعقاد هذا المؤتمر، ثم الفترة التالية التي شهدت رجوع الملكيات السابقة إلى الحكم، والعودة إلى الأنظمة القديمة عموما، أنها عهد الرجعية في أوروبا.
وكان الأصل في نشأة هذا المؤتمر أنه جاء في معاهدة باريس الأولى (30 مايو 1814) في مادتها الثانية والثلاثين، أن تتعهد الدولة المشتركة وقتئذ في الحرب من كلا الطرفين بإرسال مندوبيها في خلال شهرين إلى فينا؛ للاجتماع في مؤتمر عام لوضع التسوية التي تضمنتها نصوص هذه المعاهدة، على أنه لما كان يحق لفرنسا - بحكم هذه المادة، ولأنها كانت في حالة سلم مع الدول بفضل إبرام معاهدة الصلح هذه - أن تشترك في وضع التسوية المزمعة، فقد أراد الحلفاء أن يحرموها هذا الحق، فأضافوا مادة سرية، اضطرت فرنسا إلى الموافقة عليها، نصت على أن يكون للحلفاء فيما بينهم هم وحدهم فقط الحق في وضع المبادئ والقواعد التي تجري عليها تسوية الصلح النهائية.
وعلى ذلك صار المؤتمر يتألف من الدول التي وقعت على معاهدة باريس الأولى، وكانت سبعة، هي: بريطانيا، وروسيا، والنمسا، وبروسيا، والسويد، وإسبانيا، والبرتغال، وحينما تبين أن العدد كبير، انحصر النشاط بموجب اتفاق بين الدول الكبرى بين دول أربع فقط، هي: بريطانيا، وروسيا، والنمسا، وبروسيا؛ تألف منهم ما يعرف باسم «لجنة الأربعة»، ولقد نجح تاليران عند اجتماع المؤتمر - بفضل مهارته السياسية - في أن يجعل الدول توافق على انضمام فرنسا إلى هذه اللجنة التي تحولت عندئذ إلى «لجنة خماسية»، وكانت لجنة الخمسة هذه هي المؤتمر فعلا؛ فاستأثرت وحدها ببحث المشكلات والمسائل الهامة، وباتخاذ القرارات الحاسمة بشأنها، وعندما انتهى مؤتمر فينا من أعماله انضمت ثلاث دول أخرى هي: السويد، وإسبانيا، والبرتغال إلى الدول الخمس الأولى في التوقيع على وثيقة أو قرار المؤتمر النهائي
Final Act
في 9 يونيو 1815.
وأما ممثلوا سائر الدول والإمارات الذين بلغ عددهم في فينا المائة تقريبا، فقد اشترك قليلون منهم في أعمال اللجان الأخرى الفنية، ولما كان المؤتمر لم يجتمع إطلاقا بهيئته الكاملة، ولم يعقد جلسة واحدة رسمية تضم جميع أعضائه ، سواء عند البدء في العمل أو عند الانتهاء منه، فقد قضى المؤتمر - بمعناه الأعم - وقته في إقامة الحفلات الراقصة والمآدب، ووجد فريق من ممثلي الدول والإمارات والدوقيات وما إليها فراغا من الوقت لكتابة المذكرات والرسائل؛ فكتب أحد هؤلاء البرنس دي لين
Ligne
يصف «نشاط» المؤتمر لصديق له:
لقد كان قدومك في الوقت المناسب؛ لأنه إذا كانت تروقك الحفلات الراقصة والأعياد (الزينات) فأنت قمين بأن تجد ما يشبع نهمك منها؛ فالمؤتمر لا يمشي ولكنه يرقص! وفينا مزدحمة بأصحاب التيجان، والكل يصرخون: السلام، العدالة، التوازن الدولي، التعويضات، وأما أنا فإني قانع بالمشاهدة والملاحظة فحسب، وكل ما أطلبه من تعويض هو قبعة جديدة؛ لأن قبعتي بليت من المرات العديدة التي أرفعها لتحية السادة الذين أصادفهم في كل منعطف وشارع.
ولقد شهدت فينا أيام هذا المؤتمر عددا من الشخصيات العظيمة حقا، من هؤلاء مترنخ وزير النمسا وأعظم السياسيين في أوروبا حنكة وتجربة، مع أنه لا يتجاوز الواحد والأربعين من عمره، ثم إسكندر الأول قيصر روسيا، الرجل الخيالي الحالم والعبقري، والذي يحمل على كتفيه رأسا مزدحما بالآراء والمشروعات، ثم فردريك وليم الثالث ملك بروسيا، الرجل الطيب والضعيف، ثم لورد كاسلريه
Castlereagh
وزير خارجية بريطانيا، وهو رجل عمل وجد وذو تجربة، ويتصف بالاتزان والأمانة، وأخيرا تاليران الذي خدم نابليون وزيرا لخارجيته حتى سنة 1814، ثم نبذه للإمبراطور وهو يصيح في وجهه: «إنك لن تحجم عن ارتكاب الخيانة حتى في حق أبيك نفسه.»
وبدأت أعمال المؤتمر أخيرا باجتماع ممثلي الدول الأربع: بريطانيا، روسيا، النمسا، بروسيا في 13 سبتمبر 1814، وفي 23 سبتمبر وصل تاليران إلى فينا، ولم يرتح تاليران لعزلة فرنسا وانزوائها بعيدة عن لجنة الأربعة؛ فقرر تصحيح هذا الوضع بأساليب سوف يأتي ذكرها في حينه، وتحققت رغبته عند إنشاء لجنة الخمسة التي ضمت فرنسا إليها، وإلى جانب هذه اللجنة الخماسية أنشأ المؤتمر عددا من اللجان الأخرى لدراسة الموضوعات التفصيلية وإعداد البيانات اللازمة؛ فكانت هناك «لجنة الثمانية»، وهي التي وقعت على القرار النهائي - كما تقدم - في 9 يونيو 1815، ولم تكن مهمة هذه اللجنة سوى تلقي القرارات والبحوث الخاصة بالمسائل الأوروبية الهامة، ودرست هذه اللجنة موضوع تجارة الرقيق ومسألة الاتحاد السويسري، ثم كانت هناك «اللجنة الألمانية» لبحث شئون ألمانيا ووضع دستور لها، ثم «لجنة الإحصاءات» وقد اختصت بتعداد السكان في الأراضي التي يراد استبدالها أو إعطاؤها كتعويض كجزء من التسويات التي يتفق عليها المؤتمر.
وأما سكرتيرو المؤتمر فقد تميز منهم اثنان، أحدهما: فردريك فون جنتز
Gentz ، أكبر الدعاء والناشرين الذين حملوا على نابليون الأول، وكان جنتز في خدمة بروسيا ثم انتقل في عام 1802 إلى خدمة النمسا، ومنذ 1812 صار «الروح الشريرة» المتسلطة على مترنخ، أو شيطانه الذي لا يفارقه، ولقد بقي فون جنتز بعد مؤتمر فينا سكرتيرا لكل المؤتمرات التي عقدت حتى سنة 1822، وأما الآخر: فكان دي مارتنس
Martens ، وهو لا يقل شهرة عن فون جنتز، وصاحب مجموعة المعاهدات المعروفة
Recueil de Traités .
ولقد تناول المؤتمر مسائل تسعا تتعلق ببولندة وسكسونيا، وبحدود الراين، وببلجيكا وهولندة، وبالدنمارك والسويد، وبسويسرة، وبإيطاليا، وبالاتحاد الألماني، وبالأنهار الدولية، وبتجارة الرقيق.
غير أنه قبل الكلام عن الحلول التي وصل إليها السياسيون في هذه المسائل يجب أن نذكر أن المؤتمر كان مقيدا في أعماله بطائفة من المعاهدات والاتفاقات التي أبرمتها الدول فيما بينها أثناء القتال ضد فرنسا، وكانت هذه توضح الطريقة التي يجري بها توزيع الأراضي والأقاليم في إيطاليا الشمالية والأراضي المنخفضة السفلى (بلجيكا)، وعلى ضفة نهر الراين اليسرى، وكذلك مسألة إعداد دستور فدرائي لسويسرة.
وفيما يلي أهم هذه المعاهدات والاتفاقات: (1)
معاهدة كاليش
Kalisch
في 28 فبراير 1813 بين روسيا وبروسيا، تنازلت بروسيا بموجبها عن شطر كبير من ادعاءاتها على بولندة، في نظير تعويضها من أراضي ألمانيا (عدا هانوفر) بقدر ما كان لها قبل سنة 1806. (2)
معاهدة ريشنباخ
Reichenbach
في 27 يونيو 1813 وهي معاهدة تحالف بين النمسا وروسيا وبروسيا لاقتسام غراندوقية وارسو فيما بينها. (3)
معاهدة تبليتز
Teplitz
في 9 سبتمبر 1813، لدعم أركان المحالفة السابقة، وكان الظاهر في سكسونيا ستكون التعويض الذي تناله بروسيا. (4)
معاهدة ريد
Ried
في 8 أكتوبر 1813، وبمقتضاها حصل ملك بفاريا على حق استبقاء ما كان بيده من الأراضي ما عدا التيرول والمقاطعات النمسوية على نهر «الإين
Enns ». (5)
معاهدة كييل
Kiel
في 14 يناير 1814، وبمقتضاها تنازل فردريك السادس ملك الدنمارك عن النرويج في نظير حصوله على لونبرج
Luneberg ، واستبقت إنجلترة في يدها جزيرة هيلجولند، وكانت السويد قد حصلت منذ آخر أغسطس 1812 في معاهدة أبو
Abo
مع روسيا على حق الاستيلاء على النرويج في نظير مساعدتها الحلفاء ضد فرنسا. (6)
معاهدات شومونت
Chaumont
في أول مارس 1814، وكانت ثلاثا ذات منطوق واحد بين بريطانيا من جانب، وكل من النمسا وبروسيا وروسيا على حدة من جانب آخر، وقد تقرر في مادة سرية أن تسترد الولايات أو الإمارات الألمانية استقلالها، ولكن في نطاق اتحاد عام يجمع بينها، وقد صار إدماج هذا النص في معاهدة باريس الأولى (30 مايو 1814).
وزيادة على ذلك فإن الحلفاء الذين وقعوا في أثناء النضال ضد نابليون، على معاهدة شومونت وهم مترنخ عن النمسا، وهاردنبرج عن بروسيا، ونسلرود عن روسيا، وكاسلريه عن إنجلترة، قد اتفقوا أيضا على عقد اجتماعات دورية لتأكيد التفاهم وتوثيق الصلات الودية فيما بينهم، وبذلك تكون معاهدة شومونت قد تضمنت أيضا أساس نظام المؤتمرات التي عقدتها الدول الكبرى، عندما أخذت هذه الدول تباشر حقها في المحافظة على السلم في أوروبا، وهي المهمة التي اضطلعت بالقيام بها، وكان مؤتمر فينا نفسه أول وأهم هذه المؤتمرات التي عقدتها الدول لهذه الغاية، وإن لم يكن آخرها. (7)
معاهدة باريس الأولى في 30 مايو 1814، وهذه المعاهدة تعتبر «المفتاح» لأعمال المؤتمر؛ لأنها تضمنت كثيرا من الحلول التي عرضت الآن على المؤتمر كأمر واقع ومفروغ منه، من ذلك إرجاع الحدود الفرنسية إلى ما كانت عليه في أول يناير 1792 مع زيادة بسيطة في الجنوب الشرقي والشمال والشمال الشرقي؛ فتنازلت فرنسا عن حقوق سيادتها على أكثر من اثنين وثلاثين مليون نسمة، ثم نصت المعاهدة على انضمام بلجيكا إلى هولندة في مملكة واحدة، وانضمام البندقية ولبمارديا إلى النمسا، وجمهورية جنوة إلى بيدمنت (سردينيا).
ثم إنها نصت على إنشاء اتحاد من الولايات الألمانية، كما أبقت جزيرة مالطة وبعض المستعمرات الفرنسية (جزر توباجو، سان لوسيا، إي لدي فرانس) ثم مستعمرة الرأس الهولندية في حوزة بريطانيا ، وأخيرا مهدت معاهدة باريس الأولى لظهور النزاع بين الدول المتحالفة حول المسألة البولندية السكسونية، وذلك حينما كانت بولندة (غراندوقية وارسو) من الأراضي التي انتزعت من فرنسا النابليونية، وكانت مملكة سكسونيا حليفة نابليون، من أراضي العدو التي يجب النظر في مصيرها؛ وذلك كله نتيجة لانكماش حدود فرنسا - حسب هذه المعاهدة - إلى ما كانت عليه قبل حروب الثورة ونابليون. (2) المسألة البولندية-السكسونية
وكانت هذه في الحقيقة أصعب المشكلات التي كادت تتحطم بسببها أعمال المؤتمر، ومنشأ هذه المشكلة أن معاهدة كاليش (28 فبراير 1813) كانت - كما رأينا - قد تضمنت وعدا بتوسع بروسيا في ألمانيا الشمالية، بينما نالت روسيا حق التصرف في بولندة؛ فاعتمدت روسيا على هذه المعاهدة في المطالبة بكل بولندة، وأراد القيصر إسكندر الأول أن يضم غراندوقية وارسو التي أنشأها نابليون، إلى بقية أجزاء بولندة التي كانت روسيا قد استولت عليها من أيام تقسيم بولندة في القرن الثامن عشر في معاهدات التقسيم الثلاث المعروفة في 1772، 1793، 1795.
والغرض من ذلك أن يتسنى بعث بولندة القديمة إلى الوجود مرة ثانية، ولقد أراد القيصر أن يمنح بولندا دستورا ديمقراطيا، وأن يقيم بها حكومة برلمانية، وأن يجمع بين بولندة وروسيا في اتحاد تحت تاج القيصر الشخصي فقط، ولكن غراندوقية وارسو كانت تتألف من المقاطعات البولندية التي هي أصلا من نصيب بروسيا في التقسيمات السابقة؛ ولذلك فقد بات واجبا الحصول على موافقة بروسيا، وقد وافقت بروسيا على رغبات القيصر لقاء أن تنال هي تعويضا في سكسونيا بالاستيلاء خصوصا على درسدن وليبزج أهم مدنها، بدعوى أن ملك سكسونيا فردريك أغسطس قد سقط حقه وحق أسرته في الاستفادة من مبدأ الشرعية، أي إرجاع الحقوق إلى أصحابها الشرعيين؛ لأنه استمر مواليا للإمبراطور نابليون حتى معركة ليبزج (أكتوبر 1813)، ولم يعد له أي حق في الاحتفاظ بأملاكه؛ لأنه خان المصلحة الألمانية، ولم تجد روسيا ما يمنعها من قبول وجهة النظر هذه، وراحت روسيا وبروسيا تعضد كل منهما مطالب الأخرى.
على أن هذه المشروعات لم تكن تلقى تأييدا من جانب مترنخ رجل المؤتمر الأول؛ لأن إحياء أو بعث بولندة القديمة على نحو ما أرادت روسيا كان معناه استيلاء روسيا على غاليسيا
Galicia ، وكراكاو
Cracow ، وكانت كلتاهما من نصيب النمسا في تقسيمي 1772، 1795، ومعناه أيضا امتداد نفوذ روسيا إلى نهر الفستيولا الذي تقع عليه وارسو، أي إلى وسط أوروبا، وذلك ما كانت تخشاه النمسا، ثم إن مترنخ كان يخشى من ناحية أخرى من ازدياد نفوذ بروسيا في ألمانيا الشمالية والوسطى إذا هي استولت على أهم أجزاء سكسونيا، ثم إن كاسلريه - إلى جانب هذا كله - مع عطفه على إحياء بولندة وبعثها إلى الوجود ثانية كان متخوفا هو الآخر من زيادة نمو بروسيا بدرجة تهدد هانوفر (مسقط رأس الأسرة الإنجليزية المالكة) بالخطر.
وعلى ذلك فقد انقسمت الدول الأربع فريقين: روسيا وبروسيا في جانب، وإنجلترة والنمسا في جانب آخر، ولم تلبث أن تأزمت الأمور بين هذين الفريقين؛ حتى إن القيصر أخذ يتهدد المؤتمر، ثم قال في حديث له مع تاليران: «إن لدي مائتي ألف جندي الآن يرابطون في دوقية وارسو، فليحاول من يشاء إخراجي من هذه الدوقية، وأما أنا فقد أعطيت سكسونيا إلى بروسيا»، وهذا الخلاف الظاهر على مسألة بولندة-سكسونيا هو الذي أعطى تاليران الفرصة التي كان يتحينها منذ وصوله إلى فينا (23 سبتمبر)؛ ليخرج فرنسا من عزلتها وليشركها في محادثات لجنة الأربعة، فقد أدرك تاليران أن بوسع فرنسا أن تفعل ذلك إذا هي قبضت الآن على ناصية التوازن بين هذه الدول.
وشارل موريس دي تاليران بيريجور
Taliyrand-Périgord
كان قد نال حنكة كبيرة وتقلبت به ظروف السياسة منذ أن بدأ حياته في سلك رجال الدين وبلغ مرتبة أسقف قبل الثورة، ثم جلس في مجلس طبقات الأمة الذي انعقد في 1789، ولم يلبث أن ترك وظائفه الدينية ليذهب في سنة 1791 إلى لندن في مهمة سياسية، وقد قضى تاليران بعد ذلك حوالي السنتين ونصف السنة في الولايات المتحدة الأمريكية (1793-1795)، فلم يعد إلى بلاده إلا في عهد حكومة الإدارة، وتعين حينئذ وزيرا للخارجية، حتى إذا سقطت حكومة الإدارة التحق تاليران بخدمة نابليون، فبقي في خدمته حتى استغنى عنه الإمبراطور في سنة 1814.
وعند عودة الملكية الراجعة، ملكية لويس الثامن عشر، شغل تاليران منصب وزير الخارجية، وصار يعمل لإنقاذ وطنه من انتقام الحلفاء المنتصرين، مستندا على أن فرنسا النابليونية قد انتهى أمرها بسقوط نابليون، وأن فرنسا البربونية ليست مسئولة عن الحروب الطويلة الماضية، وبمجرد وصوله إلى فينا، أخذ تاليران يعمل لتحقيق مأربه، ولما كان شديد الإعجاب بالنظم الإنجليزية - منذ زيارته للندن في 1791 - وكانت إنجلترة من ناحية أخرى تبدي في شخص وزيرها كاسلريه عطفا على فرنسا، فقد سهل التفاهم بين كاسلريه وتاليران، وبخاصة عندما أخذ تاليران يؤيد وجهة نظر إنجلترة والنمسا في الخلاف القائم حول المسألة البولندية السكسونية.
وعلى ذلك فما إن عقد المؤتمر أولى جلساته الرسمية في 24 ديسمبر 1814 حتى تقدم كاسلريه ومترنخ باقتراح يطلبان فيه أن تضم فرنسا إلى المؤتمر، وأصرا على قبولها ضمن لجنة الأربعة، فأزعج هذا الاقتراح والإصرار على التمسك به كلا من روسيا وبروسيا، ولكن تعذر عليهما الرفض؛ لأن فرنسا منذ أن وقعت على معاهدة باريس الأولى (في 30 مايو 1814) لم تعد دولة معادية، هذا من جهة، ولأن تاليران راح يهدد من جهة أخرى باستثارة الدول الصغيرة للوقوف موقف المعارضة، وبتحريضها على المطالبة بالمساهمة الفعلية في أعمال المؤتمر، إذا رفض الاقتراح بانضمام فرنسا إلى الدول الأربع الكبرى، وعندئذ اضطرت روسيا وبروسيا إلى القبول، وكانت الأمور قد تحرجت بينهما وبين إنجلترة والنمسا، وفي 24 ديسمبر 1814 دخل تاليران إلى لجنة الأربعة.
ومنذ أن تشكلت لجنة الخمسة - بدخول تاليران إلى لجنة الأربعة - أقبل تاليران على تعضيد النمسا وإنجلترة وتأييدهما قلبا وقالبا، وأسفر تعضيده لهاتين الدولتين عن عقد محالفة سرية «دفاعية» بين الدول الثلاث: إنجلترة وفرنسا والنمسا في 3 يناير 1815، وحينئذ لم يكن هناك مناص أمام روسيا وبروسيا، إذا بقي الفريق الآخر متمسكا بموقفه، وأرادتا تجنب الحرب من قبول حل وسط لفض المشكلة البولندية السكسونية.
أما هذا الحل الوسط الذي تم الاتفاق عليه، فقد أبقيت بمقتضاه سكسونيا مملكة مستقلة، ويدخل في نطاق حدودها كل من درسدن وليبزج، ولو أنها اضطرت إلى التخلي عن خمس مساحتها الشمالية إلى بروسيا، كما نالت بروسيا تعويضا آخر «بدلا من سكسونيا» في وستفاليا وعلى شاطئ الراين، وأما روسيا فقد استولت على بولندة فيما عدا بوزن
، وبروسيا الغربية (بما فيها دانزج وثورن
Thorn ) فقد احتفظت بهما بروسيا، وفيما عدا غاليسيا (بما فيها تارنبول
Tarnopole ) التي احتفظت بها النمسا، وفيما عدا كراكاو التي أعلنت مدينة حرة، وبهذا سويت المشكلة البولندية السكسونية.
على أنه إذا كان هذا الحل الوسط قد خدم مصالح إنجلترة والنمسا في هذه المسألة، فمن المشكوك فيه كثيرا أن تاليران أفاد شيئا من تأييده لهاتين الدولتين، وذلك عدا خروج فرنسا من عزلتها، ودخولها في لجنة الأربعة، وانحلال المحالفة ضد فرنسا، وهي الأمور الثلاثة التي قال هو نفسه: إنه جناها من تأييده للمصالح الإنجليزية النمسوية في مشكلة بولندة سكسونيا.
والحقيقة في رأي طائفة من المؤرخين أن تاليران بتدخله الذي أدى إلى هذا الحل الوسط لفض المشكلة البولندية السكسونية قد تسبب في ضياع أكبر فرصة أتيحت لسياسي فرنسي كان في وسعه بانتهازها أن يسدي خدمة جليلة لوطنه؛ وذلك لأن بروسيا وروسيا كانتا على استعداد في هذه الآونة لأن تبذلا في سخاء لقاء حصولهما على مؤازرته لهما، فتقدم إليه المندوب البروسي «هاردنبرج
Hardenberg » عن بروسيا وروسيا معا باقتراح فحواه: أن ينال ملك سكسونيا في حالة استيلاء بروسيا على مملكته، تعويضا في أقاليم أخرى تقع على شاطئ الراين الأيسر ليؤسس فيها مملكة جديدة؛ بحيث تتألف هذه الدولة الناشئة من دوقية لكسمبرج، ومطرانية تريف
Tréves ، ومدينة بون
Bonn ، وأديرة بروم
، وستافيلو
Stavelot ، ومالميدي
Malmédy ، ويبلغ سكانها 700000 نسمة.
وقد لقي هذا المشروع معارضة شديدة من جانب مترنخ؛ لأن هذا الأخير كان لا يريد استيلاء بروسيا على سكسونيا كما عرفنا، ثم انبرى كاسلريه كذلك لمعارضة المشروع؛ لأن الوزير الإنجليزي لم يكن يريد إقامة دولة ذات ميول واضحة نحو فرنسا على شاطئ الراين الأيسر، فتصبح بلجيكا مهددة بخطر جديد، وتلك جميعها أسباب مفهومة لتفسير معارضة كل من النمسا وإنجلترة للمشروع المقترح، ولكن الذي لم يكن مفهوما أن يتصدى تاليران لمعارضة مشروع تفيد فرنسا من نجاحه فوائد ظاهرة، وهي فوائد يمكن إجمالها في الحقائق التالية؛ وأولها: أن ناخب سكسونيا فردريك أغسطس، كان صديقا لفرنسا، وأن الدولة الجديدة من المنتظر أن تكون الكاثوليكية عقيدتها، وأن يكون أكثرية سكانها من الغاليين، وأن الأسرة المالكة بها، وهي التي أبعدت عن مواطنها الأصلي في سكسونيا، من المنتظر أن يشتد نفورها من بروسيا، وأن الدولة المقترحة سوف تكون بمثابة حاجز بين فرنسا وألمانيا، ومن المحتمل أن يمنع وجود هذه الدولة الحاجزة وقوع الاصطدام بين هاتين الدولتين أجيالا طويلة.
وقد يبدو أن تاليران كان متخوفا إذا هو أيد المشروع البروسي «الروسي» أن تعمد إنجلترة والنمسا إلى خوض غمار الحرب لمنعه ووقفه، ومع ذلك فقد كان محتملا كذلك أن يؤدي انحيازه إلى جانب إنجلترة والنمسا وإصرار هاتين الدولتين على التمسك بآرائها إلى نشوب الحرب كذلك.
وعندما وقع تاليران على معاهدة التحالف بين الدول الثلاث: إنجلترة والنمسا وفرنسا، كتب في اليوم التالي (4 يناير 1815) إلى مليكه لويس الثامن عشر، مزهوا بعمله هذا:
مولاي! لقد انحل التحالف الآن، وإلى الأبد!
حقيقة حطم تاليران بهذه الخطوة التحالف الأوروبي ضد فرنسا، ولكن في رأي الذين نقدوا سياسة تاليران «أنه قد نجح في إعطاء فرنسا شرف القتال من أجل المحافظة على سلامة النمسا وتأييد النصر الذي أحرزته السياسة الإنجليزية.» (3) تسوية فينا
ومنذ أن سويت المشكلة البولندية السكسونية صار سهلا أن يتم الاتفاق على حلول مقبولة للمسائل الأخرى، وهكذا فإنه بمجرد أن بلغت المؤتمر أنباء فرار نابليون من جزيرة إلبا في 6 مارس 1815 - وكان نابليون قد غادرها منذ أول مارس - انزعج المندوبون انزعاجا كبيرا وبادروا يعملون بكل سرعة لإنجاز «القرار النهائي»، ثم وقعوا على هذا القرار في 9 يونيو 1815، أي قبل نشوب معركة واترلو بتسعة أيام فقط، وأما هذا القرار النهائي فقد تضمن التسوية التي وضعها السياسيون للمسائل التسع التي سبقت الإشارة إليها، وذلك في الصورة التالية:
أولا:
حصلت روسيا على فنلندة من السويد، ثم على بسارابيا من تركيا، وبسطت سلطانها - كما رأينا - على دوقية وارسو، فاستطاعت أن تنفذ إلى وسط أوروبا.
ثانيا:
رفضت النمسا استرجاع ممتلكاتها في جنوبي ألمانيا وفي بلجيكا؛ لبعد بلجيكا ولصعوبة الدفاع عنها، ولأن النمسا - كما أراد مترنخ - أرادت أن تؤسس إمبراطوريتها بعيدة عن كل اتصال مباشر بفرنسا، وأن تعمل بدلا من ذلك على توحيد قوتها في وسط وجنوبي أوروبا، فاستولت لذلك على التيرول وسالزبرج.
وأما بلجيكا فقد ضمت إلى هولندة في مملكة واحدة تحت تاج أسرة أورانج
Orange ، على أمل أن يضمن وجود مملكة متحدة الاستقرار في هذه المنطقة الخطرة (بين مصبات الشلدت والراين)، وهي التي تهدد دائما السلام في أوروبا.
ثم نالت النمسا عن خسارة بلجيكا تعويضا في شبه الجزيرة الإيطالية، فاسترجعت إقليم الميلانيز (لمبارديا) التي خضعت لها منذ معاهدات بوترخت في سنة 1713، كما حصلت على البندقية ودلماشيا، وكافة الجزر التي كانت لجمهورية البندقية في سنة 1797 ما عدا جزر الأيونيان: كرفو، وزانطي، وكيفالونيا وغيرها مما تألف منها الآن دولة واحدة حرة ومستقلة (بمقتضى معاهدة في 5 نوفمبر 1815) ووضعت تحت حماية بريطانيا، وأصبحت النمسا بفضل استيلائها على البندقية وشاطئ الأدرياتيك دولة بحرية.
ثالثا:
ولما صار مترنخ يريد أن يجعل من إيطاليا «تعبيرا أو مصطلحا جغرافيا» فقد طبقت الدول في إيطاليا مبدأ «الشرعية» أي إرجاع الحقوق إلى أصحابها الشرعيين، فرجع ملك سردينيا إلى مملكته، وضمت إليه جمهورية جنوة القديمة، وأعيدت أسرة إست
Este
إلى مودينا
Modene ، وأسرة لورين هابسبرج إلى تسكانيا، ثم خولف هذا المبدأ مؤقتا عندما أعطيت ماري لويز زوجة نابليون وابنة إمبراطور النمسا فرنسيس الثاني، دوقية بارما لمدة حياتها، حتى إذا توفيت (وكانت وفاتها في سنة 1847) عادت بارما إلى أسرة بوبرون بارما، بينما عادت لوقا
Lucca
التي كانت في يد هذه الأسرة الأخيرة طوال المدة الماضية بمقتضى التسوية إلى غراندوقية تسكانيا، وعندما انضم «مورا» ملك نابولي إلى الإمبراطور نابليون وقت فراره من إلبا وعودته إلى فرنسا، خرجت مملكة نابولي من حوزته، ثم أعدم فورا بعد ذلك، وعادت نابولي إلى ملكها القديم فردنند الأول، من بيت بربون، ولقد أسفرت هذه التسويات عن تمتع النمسا بنفوذ عظيم في شبه الجزيرة الإيطالية.
رابعا :
وكان التعويض الذي أخذته بروسيا في منطقة الراين يتألف من الإمارات الكنسية القديمة التي كان نابليون استولى عليها في ماينز، وتريف، وكولونيا مع غيرها من المطرانيات، وهذا إلى جانب عدد من الإمارات العلمانية، والمدن الإمبراطورية الحرة التي كان قد استولى عليها نابليون أيضا، فتألفت من هذه جميعها الآن مقاطعة الراين السفلي
Nieder Rhein ، وكذلك حصلت بروسيا على مقاطعة وستفاليا (حول مونستر
Münster
خصوصا)، ثم أخذت من الدنمارك، بوميرانيا السويدية
في نظير تنازلها للدنمارك عن دوقية لونبرج على نهر الإلب.
خامسا:
احتلت إنجلترة جزيرة هليجولند (من أملاك الدنمارك) - ومما تجدر ملاحظته أن إنجلترة تنازلت عنها فيما بعد إلى بروسيا في معاهدة أبرمت سنة 1890 - ثم احتفظت بمالطة، وجزر الأيونيان، ومستعمرة الرأس الهولندية، وسيلان، وديمارارا «في جوايانا البريطانية» وسان لوسيا وتوباجو وترينداد.
سادسا:
تضمنت التسويات الباقية: فصل النرويج من الدنمارك وإعطاء النرويج إلى السويد في نظير استيلاء روسيا على فنلندة من أملاك السويد، ثم استيلاء بروسيا على بوميرانية السويدية، تسوية مسألة الاتحاد السويسري بالإبقاء على الكانتونات (المقاطعات) التسع عشر القديمة، مع إضافة ثلاثة كانتونات جدد إليها «منها جنيف»، ووضع دستور فدرائي لها، ثم ضمان حياد سويسرة بواسطة الدول الثمان، وضع دستور اتحادي لألمانيا، فصار الاتحاد الكونفدرائي الألماني يتألف من أربع وثلاثين إمارة (زيدت واحدة فصارت خمسا وثلاثين في سنة 1816)، وأعطيت رياسة الاتحاد إلى النمسا، جعل الملاحة حرة في الأنهار الدولية، إعلان الدول الثمان أن إلغاء تجارة الرقيق في العالم أمر يستحق كل عناية وكل انتباه، ولو أن تحديد الوقت المناسب لإلغاء هذه التجارة صار من حق كل دولة أن تختاره متى شاءت، أبقيت الحدود بين إسبانيا والبرتغال على حالها.
سابعا:
لم يتناول المؤتمر مسألة أمريكا الإسبانية، ولو أن كاسلريه على وجه الخصوص كان يدرك أن من المتعذر في المستعمرات الإسبانية «وكذلك في المستعمرات البرتغالية» العمل بالنظام الحكومي القديم الذي أعيد في شبه جزيرة إيبريا، كما كان واضحا أن أمريكا الإسبانية سوف تصبح «أسواقا» لبريطانيا التي زادت أملاكها في العالم الجديد بمقتضى تسويات الصلح، ولقد كان مفروغا منه أن أزمة سوف تحدث في أمريكا الإسبانية نتيجة لسياسة القمع والحكومة الأوتقراطية التي تجري عليها إسبانيا في أملاكها الأمريكية، كما أنه كان من المتوقع أن تتعقد الأمور في البرتغال التي أعلن اندماج «البرازيل» مستعمراتها القديمة معها في مملكة واحدة، ولكن عند انعقاد المؤتمر في فينا (1814-1815) لم تكن واحدة من الدول العظمى سوى بريطانيا تريد التدخل في شئون المستعمرات الإسبانية في أمريكا؛ وذلك لأن روسيا كانت تطمع أن تشغل في البلاط الإسباني في مدريد مركز المستشار المخلص الأمين للحكومة الراجعة، في حين أن فرنسا كانت تؤيد مصالح فرع أسرة بربون الإسباني.
نقد التسوية
قامت تسوية فينا على أساسين هما: توازن القوى، والتعويضات، قاعدتا الدبلوماسية الأوروبية في القرن الثامن عشر، فأرجع السياسيون فرنسا إلى ما كانت عليه قبل حروبها الأخيرة كي يعيدوا التوازن الدولي في أوروبا، ثم إنهم اتبعوا خطة تعويض الدول التي أخذت منها أراضيها لإعطائها إلى دول أخرى، ولو أن كلا من إنجلترة وبروسيا والنمسا وروسيا قد احتفظت بما استولت عليه، سواء كان هذا الذي استولت عليه «حكومات» لم يعد لها وجود مثل مالطة والبندقية، أو مقتطعا من حكومات، كانت سابقا من حلفاء فرنسا، مثل السويد وتركيا وبولندة، كذلك صار إرجاع الأسر القديمة إلى الحكم في الدول التي نحى نابليون أصحابها عن عروشهم وضمها إلى فرنسا، ولكن هذا المبدأ (الشرعية) لم يتبع أيضا بحذافيره، فلم يشأ المؤتمر عودة الأسر الحاكمة التي كان يسوؤه رجوعها أو التي أراد توزيع أملاكها في شكل «تعويضات» تعطى للدول التي تولى المؤتمر التصرف في أملاكها، وفي الواقع أن هذا كله إنما كان يجري وفق المبادئ والتقاليد وما أخذ به العرف الدبلوماسي في القرن الثامن عشر، فلم يفكر إنسان أن هناك ما يدعو لاستشارة الشعوب التي أخذ المؤتمر على عاتقه أن يفصل هو وحده في مصيرها.
ثم إن المؤتمر لم يلبث أن أضاف إلى قاعدتي توازن القوى والتعويضات اعتبارا آخر؛ هو ضرورة الاطمئنان لعدم تكدير السلام من ناحية فرنسا في المستقبل، أي اتخاذ التدابير والإجراءات التي تمنع فرنسا من الإقدام على أية اعتداءات جديدة؛ فأحاط المؤتمر مدن فرنسا بحلقة من الدول التي أرادوا أن تكون قوية بدرجة تكفي لمنع فرنسا من استئناف الاعتداء؛ فضموا بلجيكا - كما رأينا - إلى هولندة، وأعطوا الأراضي الواقعة على ضفة الراين اليسرى إلى ألمانيا بينما دعموا استقلال سويسرة التي ضمنت الدول حيادها، ثم أعطوا سافوي إلى بيدمنت لتقوية الحدود الشرقية الجنوبية بالنسبة لفرنسا.
ولقد ترتب على العمل بمبدأ توازن القوى نتائج هامة؛ فقد كان أساس النظام الجديد - حسب تسوية فينا - إنشاء توازن القوى بين مجموعتين من الدول العظمى: إنجلترة وفرنسا، الدولتان الغربيتان في جانب، وروسيا وبروسيا والنمسا الدول الثلاث الشرقية في جانب آخر، ولم تكن واحدة من هذه الدول العظمى قوية بالدرجة التي تعطيها السيطرة بمفردها على شئون أوروبا أو القدرة على المغامرة بدخول الحرب وإحراز النصر على الدول الأخرى، وكان يقع بين هاتين المجموعتين إقليم وسط أوروبا، ويشمل ألمانيا وإيطاليا وسويسرة والأراضي المنخفضة (بلجيكا وهولندة).
أما ألمانيا وإيطاليا فكانت كل منهما مجزأة إلى دويلات وإمارات صغيرة، بينما ضمنت الدول حياد سويسرة ثم الأراضي المنخفضة، وتمكنت أسرة هابسبرج النمسوية من السيطرة على الدويلات الصغيرة في إيطاليا وألمانيا؛ بفضل ما كان لها من أملاك في إيطاليا، وما تمتعت به من نفوذ في ألمانيا بسبب أن الإمبراطور النمسوي كان رئيس الاتحاد الكونفدرائي بها، فلم تعد أسرة هابسبرج في حاجة إلى توسع جديد من ناحية، في حين أنها وجدت من ناحية أخرى أن من صالحها أن تظل قائمة هذه الدويلات الصغيرة، فصارت سياسة النمسا التمسك بالوضع القائم والمحافظة عليه وإخماد كل الثورات القومية والدستورية في المستقبل.
ولكن كان من أثر زيادة نفوذ النمسا في كل من إيطاليا وألمانيا أن تأخرت وحدة الأولى، وتعطل اتحاد الثانية مدة خمسين سنة تقريبا، أي حتى 1870-1871، أضف إلى هذا أن انشغال النمسا وتدخلها في شئون إيطاليا وألمانيا حرمها فرصة التفرغ لمد نفوذها في أوروبا الجنوبية الشرقية، وكان هذا ميدانا أفضل وأكثر سهولة لتوسعها، وأدعى لخدمة مصالحها السياسية من ميدان وسط أوروبا.
ثم إن انسحاب النمسا من الحدود الفرنسية الشرقية بتخليها عن بلجيكا، ثم حصول بروسيا على بعض الأقاليم الواقعة على نهر الراين، لم يلبث أن جعل منوطا بمملكة بروسيا حق الدفاع عن ألمانيا عموما، فارتفع شأن بروسيا، ثم انتقلت إليها تدريجيا الزعامة في ألمانيا حيث صارت قبلة أنظار الدويلات والإمارات الصغيرة التي تطلعت إليها في الدفاع عنها، واضطرت بروسيا إلى إنشاء جيش قوي، في قدرته تأدية هذه المهمة. أضف إلى هذا أن التسوية التي حدثت في فينا وأعطت بروسيا أقاليم متفرقة في أنحاء ألمانيا، لم تلبث أن جعلت بروسيا مرغمة على العمل لربط هذه الأقاليم بعضها ببعض، فكان ذلك بداية السياسة التي أفضت إلى تشييد صرح الاتحاد الألماني (1870-1871).
وفي الوقت الذي قوي فيه نفوذ النمسا وروسيا، وقد أعطيت هذه الأخيرة - كما عرفنا - منفذا إلى أوروبا الوسطى باستيلائها على بولندة، فلم يبق من بولندة ذاتها سوى مدينة «كراكاو» التي أنشئت مدينة حرة ذات حكومة جمهورية أرستقراطية، ثم بدأ يرتفع شأن بروسيا، كانت السويد مرغمة على الانزواء في اسكندناوة بعد أن فقدت فنلندة وبوميرانيا السويدية، وقد نالت السويد - كما رأينا - النرويج تعويضا لها عن الأقاليم التي فقدتها.
وأما الإمبراطورية العثمانية فلم يكن لها مندوبون أصلا في مؤتمر فينا؛ لأن المؤتمرين تجاهلوا - خطأ منهم ولا شك - وجود المسألة الشرقية بمشكلاتها الشائكة في اليونان، والولايات الدانوبية: الأفلاق والبغدان «ولاشيا وملدافيا» ومصر، وتلك مشكلات لم يكن هناك مناص من مواجهتها عاجلا أو آجلا.
ومما يجدر ذكره أن العمل بمبدأ توازن القوى كان معناه أيضا، بمجرد أن أعيدت «الدول» التي غيرت الثورة ونابليون حكوماتها، أن يعود الملوك والأمراء السابقون إلى حكوماتهم القديمة، وبالطراز الذي كان سائدا أيام «النظام القديم»، وحينئذ انتشرت الملكيات المطلقة في أوروبا، فلم يزد عدد الدول التي كان لها دساتير تقيد حكوماتها على ست فقط، كانت إنجلترة وفرنسا والأراضي المنخفضة والجمهوريات السويسرية الأرستقراطية التي يضمها اتحاد سويسرة الكونفدرائي، والنرويج (منذ نوفمبر 1814) ومملكة بولندة الجديدة (التي أنشأها القيصر إسكندر الأول ومنحها دستورا سنة 1815)، ومع ذلك حتى هذه الدول أبقت دساتيرها جميعا السلطة الحقيقية في يد الملك، أو في يد أرستقراطية صغيرة.
وكان من المتعذر إغفال آثار المبادئ الحرة التي جاءت بها الثورة الفرنسية، والتي هدفت إلى إنشاء نوع من الحكومات أكثر ديمقراطية من الحكومات الراجعة، فتزايد عدد المتذمرين الذين أخذوا يعارضون الأنظمة السياسية التي أعادها السياسيون إلى الوجود سنة 1814، ثم أغفلوا رغبات الشعوب (والمذهب القومي وليد حروب الثورة ونابليون) عندما شرعوا يقتسمون الأراضي ويوزعونها بسكانها فيما بينهم دون أن يستشيروا أهلها في مصيرهم، فأنشئوا دولا غابت منها روابط اللغة والجنس والشعور بالمصلحة، أو الاتفاق في المذهب، مثال ذلك تجزئة إيطاليا وألمانيا وبولندة، أو توسع النمسا حتى صارت تضم بين حدودها مجموعة من الأمم لا يربط بينها رابط، فانتشر بسبب هذا العمل التذمر بين الأهلين الذين راحوا يؤلفون في الدول المختلفة أحزابا «وطنية» للمطالبة بتحقيق الأهداف القومية، ولقد كان من المنتظر - وكما حدث فعلا - أن ينضم المتذمرون «الأحرار» الذين يريدون الحكومة الديمقراطية إلى المتذمرين «الوطنيين» أصحاب المطالب القومية، فيؤلف الفريقان حزبا أو جماعة واحدة، مهمتها المعارضة الشديدة من أجل تحطيم التسوية التي وضعها السياسيون في فينا.
فلما أن عمدت الحكومات الأوتقراطية والرجعية إلى التقرب من بعضها بعضا كي تتآزر فيما بينها لتدفع عنها هذا الخطر، شعر «المعارضون» في كل دولة بضرورة التقرب من زملائهم في الدول الأخرى، والتعاون فيما بينهم جميعا ضد الحكومات الاستبدادية والأجنبية التي فرضت سلطانها عليهم.
ولما كانت إمبراطورية النمسا تضم في حدودها أكبر مجموعة من الأمم ذات الأهداف القومية والديمقراطية التي يهدد تحقيقها كيان الإمبراطورية نفسه، فقد اهتمت النمسا قبل غيرها من الدول بضرورة اتخاذ الإجراءات السريعة والحازمة من أجل القضاء على كل حركة للتذمر والمقاومة في أرجائها، وأسمى مترنخ هؤلاء المتذمرين «بالثوريين»، ثم راح يلخص الموقف في قوله: «إن غرض هذه الجمعيات الثورية واحد لا يتغير، هو قلب كل نظام حكومة قانوني قائم، فالواجب على الملوك أن يقابلوا هذا بمبدأ واحد لا يتغير أيضا، هو المحافظة على كل نظام حكومة قانوني قائم.»
وبين أولئك الملوك وأصحاب السلطان الشرعي الذين يريدون المحافظة على كل نظام حكومة قانوني قائم، وبين أحزاب المعارضة من الوطنيين والأحرار والديمقراطيين الذين أرادوا قلب كل نظام حكومة قانوني قائم، لم يلبث أن نشب ذلك النضال المستعر الذي استمر طيلة القرن التاسع عشر، عندما صارت بلجيكا تطلب الانفصال عن هولندة، والنرويج عن السويد، وصارت بولندة تنشد استقلالها، وتحاول كل من إيطاليا وألمانيا تحقيق وحدتها أو اتحادها، ثم صارت الشعوب في الدويلات الأقل أهمية تبذل قصارى جهدها للتخلص من حكامها الرجعيين، ولإنشاء الحكومات الوطنية والقومية، والتحرر من السيطرة الأجنبية المفروضة عليها.
ومع ذلك، وبالرغم من كل هذه المثالب والعيوب، فقد نجحت تسوية فينا في تحقيق الغرض المباشر الذي هدفت إليه الدول التي وقعت على معاهدة باريس الأولى (في 30 مايو 1814)، وكانت تريد وقتئذ إقامة نظام حقيقي ودائم للتوازن الدولي في أوروبا، حقيقة طرأ على هذا النظام شيء من التبدل بانفصال بلجيكا عن هولندة في سنة 1831، أو حينما خطت إيطاليا خطوة كبيرة نحو وحدتها في سنتي 1859-1860، ولكن هذا النظام لم يتصدع، بل إنه على العكس من ذلك استطاع أن يخدم السلام العام في أوروبا مدة طويلة، فلم يعكر صفو السلام في الفترة التالية سوى قيام حرب القرم (1853-1856)، ولقد وقعت هذه الحرب في ميادين بعيدة، فلم تنشغل الشعوب والدول بحروب كبيرة، الأمر الذي جعل ممكنا انتشار الانقلاب الصناعي، وتبعا ذلك، نمو النظام الرأسمالي في إنجلترة أولا، ثم في سائر أوروبا، والحقيقة أن نظام التوازن الدولي الذي أوجدته تسوية فينا لم تتصدع أركانه إلا حين قامت الحرب السبعينية بين ألمانيا وفرنسا، ففقدت فرنسا إقليمي ألزاس ولورين لتستولي عليهما الإمبراطورية الألمانية الجديدة على يد مستشارها الأول بسمارك (1871).
الفصل الثاني
الاتحاد الأوروبي1
أزعج فرار نابليون من إلبا السياسيين المجتمعين في فينا؛ فبادورا - كما تقدم - بالتوقيع على التسوية النهائية «أو القرار النهائي» في 9 يونيو 1815، وفي 18 يونيو انهزم نابليون في واترلو، وواجه السياسيون أمرين: عقد الصلح من جديد مع فرنسا التي آزرت نابليون أثناء حكم «المائة يوم »، ثم تجديد محالفة الدول العظمى على أساس الاتحاد فيما بينها بعمل مشترك للغرض منه، اتقاء أية أخطار قد تهدد السلام العام من جانب فرنسا في المستقبل، ثم المحافظة على التسوية النهائية التي تمت في فينا لعدم تكدير السلم كذلك في أوروبا.
معاهدة باريس الثانية (20 نوفمبر 1815)
ففيما يتعلق بالأمر الأول، عقد الحلفاء معاهدة جديدة مع فرنسا؛ هي معاهدة باريس الثانية في 20 نوفمبر 1815، فقدت فرنسا بمقتضاها كثيرا من المزايا التي كانت نالتها في معاهدة باريس الأولى (30 مايو 1814) بسبب أنها ساعدت نابليون على الحكم مرة ثانية عند عودته من إلبا، فأرجعت فرنسا الآن إلى الحدود التي كانت لها سنة 1790 (أي بدلا من حدود 1792 التي كانت نصت عليها معاهدة باريس الأولى)، ثم طلب منها دفع تعويض قدره سبعمائة مليون من الفرنكات يؤخذ منها جزء لتقوية الحصون التابعة للدول ذات الحدود الملاصقة للحدود الفرنسية، ويوزع بقية المبلغ على حكومات الحلفاء والدول الأخرى التي أصابتها أضرار من ناحية فرنسا، وقد قسم هذا المبلغ الضخم بصورة يتمكن بها الفرنسيون من سداده في خلال خمس سنوات على أقساط متساوية، وبشريطة أن يحتل مائة ألف مقاتل من جيوش الحلفاء حصون فرنسا الشمالية الشرقية، إلى أن يتم تسديد المبلغ بأجمعه.
ومع أن الفرنسيين وقتئذ شعروا بصرامة هذه الشروط وقسوتها، فقد كان في وسع الحلفاء أن يفرضوا على فرنسا شروطا أشد قسوة، ولكنهم لم يفعلوا، بل إنهم رفضوا مثلا إعطاء إقليم «ألزاس» إلى بروسيا، وكان مندوبا بروسيا قد طالبا بهذا الإقليم، وهما هاردنبرج وهمبولدت
Humboldt ، ولقد دلت التجربة بعدئذ على أن احتفاظ فرنسا بالألزاس كان ضروريا لتأمين التوازن السياسي في أوروبا، زد على ذلك أن أحدا لم يكن يتوقع أن ترضى إنجلترة بأن تنال هولندة كل المستعمرات التي كانت في حوزتها سابقا، فتستعيد هولندة بفضل معاهدة أبرمت معها في 13 أغسطس 1814 كل المستعمرات التي كانت لها عند أول يناير 1803 ما عدا رأس الرجاء الصالح، ثم دمارارا
Demarara ، ونهري إسكويبو
Essequibo ، وبربيس
Berbice
في جوايانا بأمريكا الجنوبية، فتترك إنجلترة هولندة تستولي على بتافيا (جاوه)، مما أدهش نابليون نفسه، الذي زاد من دهشته كذلك أن تترك إنجلترة فرنسا تمتلك جزيرة بربون (إلى الشرق من جزيرة مدغشقر).
التحالف الرباعي
2
وأما عن الأمر الثاني، فقد انطوت فكرة الاتحاد الأوروبي على إنشاء تحالف بين الدول التي اشتركت في النضال ضد فرنسا من جهة، ثم السعي من أجل المحافظة على السلام عموما في أوروبا من جهة أخرى، وعلى ذلك فإن فكرة الاتحاد الأوروبي إنما ترتد في أصولها إلى الوقت الذي كانت لا تزال تعقد فيه المحالفات الدولية لمواصلة القتال ضد نابليون، فمن الثابت أن فكرة الاتحاد الأوروبي قد أخذ بها على وجه الخصوص رجال السياسة الإنجليز «بت الأصغر
وكاسلريه» منذ 1805 أثناء النضال ضد نابليون، أضف إلى هذا أن كاسلريه لم يكن يقنع - أثناء انتصارات نابليون المتكررة وبسببها - بمجرد عقد المعاهدات المنفصلة التي عمدت الدول وقتئذ إلى إبرامها متفرقة فيما بينها، مثل معاهدة كاليش (في فبراير 1813) بين روسيا وبروسيا، أو معاهدة «ريد» في أكتوبر من السنة نفسها بين بافاريا والنمسا، أو تلك التي عقدتها بريطانيا مع كل حليف من حلفائها على حدة، وأدرك كاسلريه أن من الضروري عقد معاهدة عامة تسمو على كل هذه الاتفاقات والمعاهدات المنفصلة والمتفرقة.
ولقد تزايد وضوح الحاجة إلى إبرام هذه المعاهدة حينما رفض نابليون شروط الصلح التي كان قد عرضها عليه الحلفاء في «شاتيون
Chatillon » في 7-8 فبراير 1814، وذلك بعد انتصارهم على جيوشه في معركة ليبزج المعروفة منذ أكتوبر من العام السابق، فأسفرت مساعي كاسلريه حينئذ عن إبرام معاهدة «شومنت» في أول مارس سنة 1814، وهي المعاهدة التي عرفنا أنها تتألف من ثلاث معاهدات متشابهة بين بريطانيا وبين كل من النمسا وبروسيا وروسيا على حدة، ولهذه المعاهدة أهمية كبيرة باعتبار أنها احتوت على الأساس الذي قام عليه نظام الاتحاد الأوروبي في الفترة التالية؛ فقد قرر الموقعون على هذه المعاهدات الثلاث مواصلة الحرب ضد نابليون وعدم الدخول في مفاوضات صلح منفرد مع العدو المشترك: فرنسا، ثم تعهد كل منهم بتقديم ستين ألف مقاتل إذا هاجمت فرنسا إحدى الدول الأعضاء الموقعة على المعاهدة ، بعد إبرام الصلح، ثم إن هذه الدول الأربع التي وقع مندوبوها على المعاهدة عمدت إلى الاحتفاظ بحق الاشتراك فيما بينها متحدة.
وبمجرد عقد الصلح مع فرنسا من أجل اتخاذ أفضل الوسائل القمينة بضمان استمرار السلام في أوروبا من جهة، واستمراره بين كل دولة وأخرى من بين الدول المتعاقدة من جهة أخرى، وكان معنى هذا أن النص الذي جاء بالمعاهدة خاصا بتقديم الإمدادات العسكرية عند وقوع العدوان من جانب فرنسا، لا يجب أن يكون متعارضا مع أي نظام أوسع مدى لضمان السلام العام قد تضعه الدول عند عقد مؤتمر الصلح النهائي، أو يكون معطلا له.
ولقد تجددت معاهدة شومنت هذه في جوهرها عندما عقد الحلفاء مع فرنسا معاهدة باريس الأولى في 30 مايو 1814، ثم لم تلبث أن تجددت مرة ثانية عندما بادر الحلفاء إلى عقد معاهدة للتحالف فيما بينهم في فينا في 25 مارس 1815 بمجرد ذيوع نبأ فرار نابليون من إلبا، وقد حققت هاتان المعاهدتان «في شومنت وفينا» الأغراض المتوخاة من عقدهما، فقضي على قوة نابليون، وأبرم الحلفاء مع فرنسا معاهدة باريس الثانية (في 20 نوفمبر 1815).
وكان عندئذ أن خشي كاسلريه ومترنخ أن يترتب على نجاح المحالفة في تحقيق الغرض المباشر منها، وهو هزيمة فرنسا، انفراط عقدها، وذلك في وقت كان الواجب يقتضي رجال السياسة في أوروبا أن يعملوا من أجل المحافظة على السلم واستقراره، وأن يتخذوا كل الاحتياطات التي تمنع فرنسا من استئناف عدوانها إذا شاءت تكدير السلام في أوروبا مرة أخرى.
ولذلك فقد استطاع كاسلريه - على وجه الخصوص - أن يظفر بتجديد «المبدأ» الذي تضمنته معاهدة شومنت السابقة، من حيث المبادرة بتقديم القوات العسكرية إذا وقع عدوان جديد من جانب فرنسا، وعقد اجتماعات دورية لبحث المشكلات التي يتهدد تأزمها السلم في أوروبا؛ ففي اليوم نفسه الذي وقعت فيه الدول: روسيا، بروسيا، النمسا، إنجلترة على معاهدة الصلح مع فرنسا، أي في 30 نوفمبر 1815، أبرمت هذه الدول الأربع فيما بينها معاهدة «تحالف رباعي»، كانت هي الأساس الذي قام عليه نظام الاتحاد الأوروبي في السنوات التالية.
فقد تعهدت الدول الأعضاء في هذه المحالفة الرباعية بتأييد معاهدة باريس الثانية المبرمة مع فرنسا في التاريخ نفسه، ثم إنها أخذت على عاتقها أن تبادر كل منها بتقديم ستين ألف مقاتل لمساعدة أي عضو من أعضاء المحالفة يقع عليه هجوم في المستقبل، وأبرزت المادة السادسة من المعاهدة فكرة الاتحاد الأوروبي كما صورته معاهدات شومنت، وإنما بصورة عملية، فنصت على ما يأتي:
حتى يمكن دعم الروابط التي تجمع في الوقت الحاضر الملوك الأربعة في اتحاد وثيق، يوافق المتعاقدون على تجديد عقد اجتماعاتهم في فترات أو أوقات (دورات) معينة، سواء كانت هذه الاجتماعات تحت إشرافهم شخصيا، أو حضرها وزراؤهم الذين يمثلونهم؛ وذلك لتبادل الرأي (أي المشاورة) فيما يتعلق بمصالحهم المشتركة، ولفحص الوسائل «أو الإجراءات» التي يقر الرأي في كل فترة أو دورة من هذه الدورات على اعتبارها ذات أعظم أثر طيب في تأمين هدوء وسكينة الأمم (الشعوب) ورخائها، وفي تأييد واستقرار السلام في «الدولة أو في» أوروبا.
ولما كان كاسلريه أكبر المسئولين عن إنشاء هذا التحالف الرباعي، (على أساس معاهدتي شومنت في مارس 1814 وفينا في مارس من السنة التالية)، ونص هذا التحالف على عقد اجتماعات دورية لفحص المسائل التي تمس مصالح أعضائه المشتركة، ولتوطيد السلام في أوروبا، ثم ترتب على وجود هذا النص وتطبيقه قيام «الاتحاد الأوروبي» الذي أخذ يعالج المشاكل التي ظهرت في أوروبا في الفترة التالية؛ فقد صار ضروريا معرفة آراء كاسلريه نفسه في هذا الاتحاد، وماذا كان موقفه منه، ثم إنه لا غنى عن هذه المعرفة في آخر الأمر؛ لأن السياسة التي سار عليها كاسلريه إلى وقت وفاته في أغسطس 1822، ثم استرشد بمبادئها الجوهرية جورج كاننج
Canning
الذي خلفه في وزارة الخارجية البريطانية، كانت في النهاية مع العوامل التي حطمت الاتحاد الأوروبي، أي القضاء على ذلك النظام الذي بذل كاسلريه نفسه كل ما يملك من جهد ومهارة سياسية من أجل إنشائه.
وروبرت ستيوارت كاسلريه كان من أقدر الوزراء الإنجليز الذين نالوا احترام رجال السياسة في أوروبا؛ وذلك لما اتصف به من هدوء واتزان وأصالة رأي، وقد قام بدور هام في سياسة بلاده الداخلية مدة ربع قرن من الزمان تقريبا، ثم ظهر على مسرح السياسة الأوروبية في السنوات العشر الأخيرة، ومنذ أن شغل كاسلريه منصب وزير الخارجية (1812) - في وقت كان فيه نابليون صاحب القوة والغلبة الظاهرة، وكان ضروريا لذلك عدم انفراط عقد المحالفة الأوروبية ضد فرنسا - لم يلبث أن أبدى كاسلريه مهارة فائقة في أشد أوقات الحرب حرجا ليحول دون تفكك المحالفة الأوروبية، وعندما سقط نابليون، جاء كاسلريه إلى فينا لحضور مؤتمر الدول المنعقد بها، وكانت المبادئ التي استرشد بها في سياته الخارجية هي التعاون مع الدول للمحافظة على السلام في أوروبا، ثم التزام خطة عدم التدخل إطلاقا في شئون الدول الداخلية.
ولقد تمسك كاسلريه بمبدأ عدم التدخل لاعتقاده الراسخ أن مبعث تكدير السلام دائما إنما هو تدخل الدول الكبيرة في شئون الأخرى الصغيرة، وجعل كاسلريه نصب عينيه المحافظة على مصالح الدول الصغيرة، على أنه في أثناء هذا كله كان شديد الحرص على سلامة المستعمرات البريطانية، ويعمل بجد لتأمين طريق الإمبراطورية البريطانية إلى الهند وبقاء هذا الطريق مفتوحا دائما، وقد اقتضى كاسلريه العمل بهذه المبادئ، أن صار يؤيد فيما بعد القوميات الناشئة ويعترف باستقلال الشعوب وبالحكومات الوطنية «الفعلية أو الواقعية» التي تقيمها.
ومع هذا فإن كاسلريه يعتبر بحق مسئولا إلى حد كبير عن التسوية الأوروبية التي وضعت في فينا، وهي تسوية أغفلت - كما رأينا - المبادئ التي نادى بها الأحرار والوطنيون القوميون في أوروبا، غير أن السبب في انحراف كاسلريه عن هذه المبادئ الحرة والوطنية كان اعتقاده بضرورة تحقيق التوازن الدولي عن طريق تقوية كل من النمسا وبروسيا في وسط أوروبا.
أما الحافز الأكبر لكاسلريه إلى إنشاء التحالف الرباعي ؛ فكان خوفه من فرنسا وتجدد الاعتداء من ناحيتها، فاحتاط للأمر بعقد أواصر المحالفة مع الدول الكبرى من جهة، وتدبير احتلال فرنسا نفسها (وقد استمر هذا الاحتلال حتى سنة 1818) من جهة أخرى، وكان تحقيق هذه الحيطة إذن في إبرام المحالفة الرباعية، على أن تلك في نفس الوقت كانت حقيقة جعلت متعذرا أن يرضى كاسلريه بتاتا بأن يخرج هذا التحالف الرباعي عن الغرض الأساسي الذي أنشئ من أجله، فيتخذ منه السياسيون الرجعيون في أوروبا، وعلى رأسهم مترنخ أداة للتدخل في شئون الدول الداخلية، بدعوى أن إخماد كل ثورة أو انقلاب قد يحدث في داخل هذه الدول ضروري من أجل صيانة السلام العام في أوروبا، ثم إنه كان واضحا للسبب نفسه أن من المتعذر أن يقبل كاسلريه الموافقة على أية محالفات ترمي إلى هذه الغاية.
وفي ضوء هذه الاعتبارات إذن تكون سياسة كاسلريه عند إنشاء التحالف الرباعي قد نجحت أولا: في ضمان تنفيذ الشروط التي فرضها المنتصرون في الحرب على فرنسا، بمقتضى معاهدات الصلح، وثانيا: في أنها بإنشاء نظام الاتحاد الأوروبي قد أتاحت الفرصة لتسوية عدد من المشكلات التي ظهرت فيما بعد، من غير حاجة للالتجاء إلى الحرب كوسيلة ناجعة لفضها.
الحلف المقدس
3 (26 سبتمبر 1815)
وفي الوقت الذي وضع فيه السياسيون هذه القواعد العملية لتنفيذ شروط التسوية الأوروبية التي حصلت في فينا، ولتأييدها، وللمحافظة على السلام العام في أوروبا، كان قيصر روسيا إسكندر الأول، قد أخرج إلى عالم الوجود مشروعا آخر للسلام من ثمرات خياله الخصب، كان قد فكر فيه من مدة طويلة، ثم راح يقلب وجوه الرأي فيه من جديد حينما انتصر الحلفاء على نابليون، وبدءوا يعقدون اجتماعاتهم لوضع تسوية الصلح الأخيرة، وقام مشروع القيصر على فكرة أن يصبح الملوك إخوة، وأن يسترشدوا في معاملاتهم مع بعضهم بعضا بمبادئ المسيحية وتعاليمها.
ومنذ سنة 1804، وقت أن تألبت الدول - في محالفات دفاعية على الأكثر - ضد نابليون كتب القيصر إسكندر إلى الكونت نوفوسيلتزوف
Novossilzoff
مندوبه في إنجلترة في 11 سبتمبر 1804، يشرح الفكرة التي لم تكن ترمي فقط إلى خلاص أوروبا عند القضاء على نابليون، بل ومن أثرها كذلك خلاص الإنسانية نفسها والمحافظة على «حقوقها»، وموجز هذه الفكرة إنشاء اتحاد أوروبي مهمته أن يفصل بالطرق السلمية فيما قد يقع من خلافات بين الدول، على أن هذا المشروع القيصري كان سابقا لأوانه، بسبب انتصارات الإمبراطور الفرنسي المتتابعة، حتى إذا انهزم نابليون أخيرا، وظهر الاهتمام بضرورة المحافظة على السلم في أوروبا، تقدم القيصر إسكندر بمشروعه من جديد، وفي هذه المرة أراد أن يستند الاتحاد الأوروبي الذي يدعو إليه على كل المبادئ والتعاليم التي جاءت بها المسيحية؛ أي إن القيصر أراد أن يتخذ من «الدين» أساسا تقوم عليه العلاقات بين الدول، وكان لمشروع القيصر - بهذا الثوب الديني الذي أضفي عليه، والذي عرف باسم «الحلف المقدس» - آثار عديدة ومنوعة.
فقد كان من المعروف عن القيصر إسكندر الأول أنه رجل تنطوي شخصيته على متناقضات كثيرة، وأن ثمة عاملين متضادين يتنازعانه دائما، هما: التقدم والسير نحو الحرية والأخذ بمبادئ الأحرار، ثم الجمود والتوقف، بل والاستدارة للمضي في طريق الرجعية، ثم إنه كان محبا لنفسه، تستثيره العاطفة، وصاحب أهواء ونزوات نفسية، لا يستقر على حال، ومن المعروف أنه حينما تقدم بمشروع الحلف المقدس كانت تغمره موجة من التقى والورع، ويعيش تحت تأثير أرملة أحد السياسيين الروس، كتبت فيما مضى طائفة من القصص؛ هي البارونة جوليانه فون كرودنر
Krüdner ، كان القيصر قابلها في مدينة «بال» بسويسرة في خريف 1813، في وقت كانت فيه هذه السيدة قد نبذت حياة الترف واللهو التي انغمست فيها سابقا، وصارت تأخذ على عاتقها مهمة اعتقدت أنها موحى بها إليها؛ هي إرشاد الملوك والأمراء إلى الطريق السوي.
ولقد كان لنشأة القيصر الأولى أكبر الأثر في أنه صار متقلب الأطوار لدرجة أن غدت شخصيته «لغزا» غامضا من الألغاز التي عجز العصر الذي عاش فيه عن فك طلاسمها؛ فهو قد قضى طفولته في بلاط الإمبراطورة كاترين الثانية، وهي جدته لأبيه (1762-1796)، وكان بلاط لهو ولعب، أطلق فيه العنان لشهوات الحياة ولذائذها، ثم قضى دور المراهقة تحت إشراف أبيه القيصر بول الأول (1796-1801)، وكان هذا رجل شذوذ ومتناقضات، علم ابنه الشغف بالتفصيلات العسكرية، كما علمه أن يحب «الإنسانية» حبا نظريا فقط، وأن يحتقر الرجال مهما علت أقدارهم، ثم كان معلم القيصر في شبابه، فرديك سيزاردي لاهارب
Harpe ، وهو سياسي سويسري، من الذين اعتنقوا مبادئ اليعاقبة وأيدوا الثورة الفرنسية، لم يلبث أن لقن إسكندر المبادئ والتعاليم التي نادى بها فيلسوف الثورة «جان جاك روسو»، وفي أثناء ذلك كله تلقى القيصر تعليمه العسكري على يد المارشال سوليتكوف
Solitkoff ، والذي حرص كذلك على تدريبه تدريبا صارما حتى برع في معرفة تقاليد الأوتقراطية الروسية، وبعد مقتل أبيه «بول» في سنة 1801 أظهر إسكندر ميولا دينية واضحة، كان لحريق موسكو فيما بعد (1812) أعظم الأثر في دعمها، كما زاده إمعانا في هذه النزعة الدينية وقوعه تحت تأثير البارونة فون كرودنر، وكانت فون كرودنر هي نفسها التي راجعت في باريس وثيقة الحلف المقدس، كما تضمنها الإعلان أو التصريح الذي صدر به في 26 سبتمبر 1815، وذلك قبل أن يقدم القيصر نص هذه الوثيقة إلى حلفائه.
أما وثيقة الحلف المقدس فكانت تتألف من مقدمة وثلاث مواد، فجاء في المقدمة ما معناه أن إمبراطوري روسيا والنمسا، وملك بروسيا صاروا يعتقدون بأنه قد بات ضروريا أن يسترشدوا في علاقاتهم مع بعضهم بعضا بالمبادئ السامية التي نادى بها الدين المسيحي والحقائق العالية التي أتى بها، وأنهم لا يبغون من إعلانهم هذه الوثيقة إلا أن يطلعوا العالم أجمع على القرارات التي اتخذوها لهذا الغرض، فنصت المقدمة إذن على أنه:
ليس لهذه الوثيقة من غرض سوى أن تعلن للعالم أجمع أنه قد صح عزم الموقعين عليها - سواء فيما يتعلق بإدارة شئون بلاد كل منهم، أو فيما يتعلق بشئون علاقاتهم السياسية مع كل حكومة من الحكومات الأخرى - على أن يسترشدوا بمبادئ الديانة المقدسة (المسيحية) وحدها، وهي مبادئ العدالة والمحبة المسيحية والسلام، وتلك مبادئ لا ينبغي أن يكون الأخذ بها مقصورا على العلاقات الشخصية وحسب، بل يجب أن تكون ذات أثر مباشر على ما يصدر من آراء عن الملوك والأمراء ، وأن يسترشد بها هؤلاء في كل خطواتهم بوصف أنها الوسيلة الوحيدة لدعم الأنظمة الإنسانية ومعالجة وجوه النقص بها.
وفي المادة الأولى: «تعهد الملوك الثلاثة المتعاقدون بالبقاء متحدين، وتجمع بينهم أواصر الأخوة الحقيقية والتي لا تنفصم عراها، اهتداء بما جاء به الكتاب المقدس الذي يأمر جميع الناس أن يعتبروا أنفسهم إخوانا، ولما كانوا يعدون أنفسهم أبناء وطن واحد فإنهم يتبادلون في كل الظروف والمناسبات «في كل زمان ومكان» المعاونة والمساعدة والنجدة، وحيث إنهم يعتبرون أنفسهم آباء لرعاياهم ولأجنادهم في أسرة واحدة فهم سوف يسوسونهم بروح الأخوة نفسها التي تحفزهم إلى الذود عن الدين والسلام والعدالة والمحافظة على هؤلاء جميعا.»
وهم المادة الثانية جاء ما نصه:
وعلى ذلك فإن المبدأ الوحيد الذي يسير عليه العمل بين الحكومات أو بين رعاياها، سوف يكون تأدية الخدمات من جانب كل فريق للآخر، وإقامة الدليل بفضل الرغبة الطيبة الثابتة على تبادل المحبة التي يجب أن تملأ قلوبهم ليعتبروا أنفسهم جميعا أعضاء أمة مسيحية واحدة، أما الأمراء الثلاثة المتحالفون فإنهم يعتبرون أنفسهم مجرد وكلاء من قبل الإله ليحكموا فروعا ثلاثة من أسرة واحدة: النمسا وبروسيا وروسيا، معترفين بذلك بأن الأمة المسيحية التي يؤلفون هم ورعاياهم قسما منها، ليس لها غير سيد واحد، هو الإله يسوع المسيح ...
وبمقارنة ما جاء في هذه المادة الثانية في وثيقة «الحلف المقدس»، والتي دعت لاتخاذ الدين أساسا للمحاولات التي يرجى بها حسم المشكلات السياسية، بالمادة السادسة التي أتت في وثيقة التحالف الرباعي، والتي أقامت الاتحاد الأوروبي على أساس عقد مؤتمرات دورية لفض المنازعات التي قد تهدد بتعكير صفو السلام العام في أوروبا، لا يلبث أن يتضح الفارق الكبير بين تفكير القيصر إسكندر، الذي طغى عليه نوع من التصوف المبهم وقتئذ، وبين الطريقة العملية الإيجابية التي اهتدى إليها كاسلريه لمحاولة المحافظة على التسوية الأوروبية.
وفي المادة الثالثة والأخيرة: وجهت الدعوة إلى بقية الدول التي تريد الاعتراف بهذه المبادئ المقدسة حتى تنضم إلى الحلف المقدس.
وقد امتدح الشاعر الألماني جيته
Goethe (1749-1832) الفكرة التي أوحت بالمبادئ السامية التي قام عليها الحلف المقدس، والذي قال «جيته» عنه أنه خير محاولة إطلاقا لإسداء خدمة جليلة لقضية الإنسانية.
ولكن وثيقة الحلف المقدس عند إذاعتها لم تلبث أن أثارت دهشة رجال الدين الكاثوليك، فقال الفيلسوف الديني الفرنسي جوزيف دي ميستر
Maistre (1753-1821): إن قيام محالفة بين ملوك ثلاثة أحدهم كاثوليكي (النمسا)، والثاني بروتستنتي (بروسيا) أي مهرطق، والثالث أرثوذكسي (روسيا) أي منشق، لأكبر دليل على عدم المبالاة بالفوارق الدينية التي تفصل بين هذه المذاهب المختلفة، وإنه كذلك لمظاهرة كبرى لتأييد الهراطقة ضد العقيدة الكاثوليكية الصحيحة.
أما رجال السياسة فكانت دهشتهم عند قراءة هذه الوثيقة لا تقل عن دهشة رجال الدين الكاثوليك؛ من ذلك أن مترنخ راح يصفها بأنها «طبل أجوف»، و«أمان إنسانية مكسوة بحلة دينية»، «وفيض من عواطف التقى والورع التي تجيش في صدر القيصر إسكندر»، ثم إن كاسلريه صار يعتبرها «خليطا من الصوفية والكلام الفارغ»، ووصفها فون جنتز بأنها: «زينات مسرحية» ... وهكذا، ومع ذلك فقد انضمت أكثر الدول إلى الحلف المقدس؛ مراعاة لشعور القيصر إسكندر، وكان من بين الدول التي انضمت إليه فرنسا، وهي التي تلمست دائما كل الطرق للخروج من عزلتها السياسية، والعودة إلى المجتمع الأوروبي، أما إنجلترة فقد امتنعت عن التوقيع على هذه الوثيقة بدعوى أن الدستور يمنع الملك أو الوصي على العرش من فعل ذلك.
ومما يجب ذكره، من ناحية أخرى: أن «الحلف المقدس» قد خلف آثارا عميقة في أذهان سواد الناس مدة جيل بأكمله، عندما ساد الاعتقاد بأن قيام الحكومات الاستبدادية، ثم إخماد كل حركات أو ثورات الشعوب التحريرية، إنما كان من أسباب وجود الحلف المقدس، كما كان من نتائج إنشائه؛ ولذلك فقد ظل أعداء الملكية الراجعة في فرنسا مثلا، يخلطون بين الحلف المقدس، وبين المحالفات الدولية التي عقدت سابقا ضد نابليون؛ فاعتبروا الحلف المقدس أداة موجهة ضد فرنسا وضد المبادئ الحرة في أوروبا، في حين أن الأحرار صاروا يعتبرون الحلف المقدس مسئولا عن انتشار الرجعية في المدة التالية.
ومع ذلك فإن الحلف المقدس لم يكن في ذاته مسئولا، لا عن انتشار الرجعية، ولا عن قيام «نظام الحكم» المبني على الاستبداد وعلى إخماد الحركات القومية والدستورية في أوروبا، بل كان المسئول في ذلك كله التحالف الرباعي وحده فقط، ويعود ذلك لعدة أسباب من أهمها: أن تعهد أعضاء الحلف المقدس بمساعدة بعضهم بعضا في كل الظروف والمناسبات «في كل زمان ومكان» كان تعهدا يتعذر تنفيذه؛ لأن الظروف والمناسبات أو الزمان والمكان لم تكن معينة ومحددة، على عكس ما حدث في معاهدة التحالف الرباعي التي أوضحت هذه الظروف والمناسبات، ثم عينت قدر المساعدة المطلوبة ونوعها، وهي ستون ألف مقاتل يقدمها كل عضو عند وقوع الاعتداء على أحد أعضاء المحالفة، كما نصت على عقد المؤتمرات الدورية، أي إن التحالف الرباعي قد وضع القاعدة التي من شأنها أن تجمع بين الدول في صورة عملية، في اتحاد أوروبي له أغراض معينة ومحددة معروفة.
وزيادة على ذلك فإن مترنخ سرعان ما أدرك ما كان للتحالف الرباعي من قيمة عملية، فاعتمد عليه في نجاح سياسته التي كانت ترمي إلى تأليف جبهة متحدة من الحكومات الأوروبية، غرضها إخماد الحركات والثورات التي قد تهدد النظام القائم والسلم في أوروبا، ومع أن مترنخ كان يرى في الحلف المقدس «طبلا أجوف»، فقد أدرك أيضا إمكان الاعتماد على هذا الحلف المقدس في الجمع بين الدول الموقعة على وثيقته، والتقريب فيما بينها للقيام بعمل مشترك - دائما على أساس التحالف الرباعي - الغرض منه تأييد النظام القائم، ثم تحويل التحالف الرباعي نفسه إلى أداة فعالة للتدخل في شئون الدول الداخلية، إذا اقتضى تأييد النظام القائم هذا التدخل، حتى يمكن إخماد الحركات والثورات الدستورية والقومية في أوروبا.
ولكن لما كانت هذه هي أغراض مترنخ السياسية، وكان هذا هو موقفه من «الاتحاد الأوروبي»، فقد اصطدمت هذه السياسة وهذه الأغراض مع السياسة الإنجليزية التي بدأها كاسلريه، وظل يسير على منوالها جورج كاننج من بعده، وواضح أن هذا الاصطدام كان أول الأسباب التي أدت في النهاية إلى فشل «الاتحاد الأوروبي»، وأما هذه الحقيقة فإنها سوف تستبين عند معالجة المشكلات السياسية التي صادفها رجال السياسة بعدئذ.
وكانت المشاكل الأوروبية التي واجهتها الدول في الفترة التالية مباشرة بعد تسوية الصلح في فينا (1815) أربعا:
أولها:
أن فرنسا التي عقدت الدول التحالف الرباعي، واحتل «الحلفاء» أرضها، ثم فرضوا عليها غرامة مالية كبيرة، إمعانا منهم في الحيطة والحذر منها، استطاعت أن تدفع أقساط التعويضات المطلوبة منها بتمامها، وصارت تريد الخلاص من عزلتها السياسية، وبات لذلك ضروريا أن يفصل السياسيون فيما إذا كان ممكنا أن يؤذن لها بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، أو أن تبقى تحت إشراف الدول، وتلك مسألة لا مناص من عقد مؤتمر لبحثها، استنادا إلى ما جاء في مواد التحالف الرباعي «والمادة السادسة منها خصوصا».
وثانيها:
أن الدول المنتصرة ضمنت ممتلكات وأراضي كل عضو من أعضاء المحالفة الرباعية ضد أية اعتداءات خارجية قد تقع عليها (وخصوصا من جانب فرنسا)، ولكن الدولة المنتصرة لم تضمن بقاء الحكومات الداخلية التي ينشئها أعضاء المحالفة بصورة دائمة ومن غير تغيير، فكان ضروريا إذن معرفة ما إذا كان ذلك يعني أن لهؤلاء الأعضاء أو لغيرهم أن يقيموا إذا شاءوا حكومات دستورية في داخل بلادهم، أو أن من المحتم على الحلفاء التدخل في شئون هذه الدول من أجل تأييد حكومات الملكيات المستبدة المطلقة بها، وتلك كانت مسألة «التدخل
Intervention » التي ما لبثت أن واجهت الدول بسبب الثورات والاضطرابات التي وقعت في شبه الجزيرة الإيطالية.
وثالثها:
أن الحلفاء ضمنوا ممتلكات وأراضي بعضهم بعضا في أوروبا، ولكنهم تركوا جانبا الإمبراطورية العثمانية، فهل كان معنى تقرير مبدأ الضمان في معاهدة التحالف الرباعي أنه مطبق كذلك على الإمبراطورية العثمانية بالرغم من إغفال أمرها، وأن الواجب عليهم أن يضمنوا كذلك ممتلكات هذه الإمبراطورية، أو أن مبدأ الضمان لا ينسحب عليها؟ لقد رفض القيصر إسكندر أن يبحث المؤتمر في فينا «المسألة الشرقية»، ولكن قيام الثورة في اليونان ضد السلطان العثماني لم يلبث أن اضطر الدول أن تواجه هذه المشكلة بصورة جدية.
ورابعها:
أن الحلفاء كذلك لم يتناولوا شيئا من شئون المستعمرات الأوروبية في أمريكا، وقد سبق القول كيف ترك الحلفاء في مؤتمر فينا معالجة مسألة المستعمرات التي لإسبانيا في العالم الجديد، ولكن لم تلبث الحوادث في هذه المستعمرات أن أرغمت الدول على بحث هذه المسألة في أحد المؤتمرات التالية (مؤتمر فيرونا).
مؤتمر إكس لاشابل
Aix-La-Chapelle
وعلى ذلك فقد عقدت الدول أول اجتماعاتها في سبتمبر 1818 في إكس لاشابل من أعمال وستفاليا في ألمانيا للفصل في موضوع فرنسا؛ وذلك لأن فرنسا كانت - كما ذكرنا - قد دفعت أقساط التعويضات المطلوبة منها حتى ذلك التاريخ، وأبدى رئيس وزرائها دوق دي ريشيليو
Richelieu
استعداد حكومته لسداد بقية التعويضات فورا، وطلبت فرنسا أن تسحب الدول جيش الاحتلال من بلادها، وحيئنذ لم تر الدول ما يمنعها من الاستجابة لهذه الرغبة؛ فإن كاسلريه خصوصا كان قد اطمأن إلى فرنسا، وصار لا يرى ما يحول دون عودتها إلى حظيرة الاتحاد الأوروبي، ثم إنه كان يرجو عند انعقاد المؤتمر أن تتاح الفرصة أيضا لتسوية النزاع بين إسبانيا ومستعمراتها الأمريكية، وإن كانت الدول - ومن بينها إنجلترة كذلك - لم تلبث أن وافقت على أن تكون أعمال المؤتمر مقصورة على بحث المسائل الخاصة بفرنسا فقط مباشرة.
ولذلك فقد صار على المؤتمر عند انعقاده في 20 سبتمبر 1818 أن يفصل في أمرين: جلاء قوات الاحتلال عن الأراضي الفرنسية، ثم إدخال فرنسا في نطاق المحالفة القائمة، أي المحالفة الرباعية.
ولقد كان ميسورا الوصول إلى قرار نهائي بصدد جلاء قوات الاحتلال من الأراضي الفرنسية، وذلك بمجرد أن تم الاتفاق في المؤتمر على الطريقة التي تسدد بها فرنسا فورا بقية التعويضات المطلوبة منها، فوافقت كل من بريطانيا والنمسا وبروسيا وروسيا على جلاء جيش الاحتلال، وذلك في معاهدة «إكس لاشابل» في 9 أكتوبر 1818، وعندئذ شرعت الدول تبحث طلب فرنسا الانضمام إلى المحالفة الرباعية.
واختلفت آراء الدول في هذه المسألة؛ فقد اقترح القيصر إسكندر بقاء التحالف الرباعي كما هو موجها ضد فرنسا، على أن يسمح لفرنسا في الوقت نفسه بالانضمام إلى محالفة عامة أخرى، تعلن فيها الدول عزمها على القضاء على الثورات، ومساعدة بعضها بعضا، وعلى الخصوص مساعدة الدول التي تتعرض حكوماتها للتقلقل والاضطراب، على أن هذا كان معناه - إذا قبل المؤتمر اقتراح القيصر - أن تأخذ الدول على عاتقها محاربة الشعوب التي ظلت تقوم بالثورة آنئذ، وفي السنوات التالية لإنشاء الحكومات الدستورية في بلادها؛ ولذلك لقي اقتراح القيصر - وكما كان متوقعا - رفضا قاطعا من جانب كاسلريه الذي امتنع امتناعا تاما عن أي تدخل في شئون الدول الداخلية.
فكان حينئذ أن جعل مترنخ الدول الأربع تعقد اتفاقا سريا فيما بينها يوم أول نوفمبر 1818 تتعهد بموجبه استخدام جيوشها مشتركة ومتحدة ضد فرنسا إذا حدثت بها ثورة ناجحة يترتب عليها تهديد أمن جيرانها وسلامتهم، ولقد وافقت إنجلترة على هذا الإجراء، ولكن في حالة واحدة فقط، هي اعتلاء أحد أفراد أسرة بونابرت عرش فرنسا.
وعلى ذلك فقد تقدمت الدول الأربع في 4 نوفمبر 1818 بمذكرة مشتركة إلى فرنسا تعلن فيها أن معاهدة 9 أكتوبر 1818 التي ينتهي بفضلها احتلال الأراضي الفرنسية إنما هي في نظر هذه الدول آخر ما يتخذ من خطوات تكميلية لتأييد السلام العام، ثم وجهت الدعوة إلى الملك الفرنسي؛ ليعمل من الآن فصاعدا بآرائه وجهوده للاتحاد مع الحلفاء الأربعة لتحقيق ما يعود بالنفع على الإنسانية وعلى فرنسا معا.
ولقد وافق المؤتمر على هذا «الحل الوسط» في 15 نوفمبر 1818، وذلك في وثيقتين: إحداهما؛ تتضمن المبدأ الذي وافقت عليه الدول الأربع في الاتفاق السري بتاريخ أول نوفمبر، فكانت هذه الوثيقة عبارة عن «بروتوكول سري» تجددت بمقتضاه المحالفة الرباعية لمراقبة فرنسا ولحمايتها كذلك من الأخطار الثورية التي تتهددها، وعلى أن يبلغ هذا البروتوكول إلى دوق دي ريشيليو، ويطلع عليه بصفة خاصة، وأما الوثيقة الثانية فقد قامت على المبدأ الذي ووفق عليه في «المذكرة المشتركة» في 4 نوفمبر، فكانت «تصريحا
Declaration » دعيت فرنسا إلى الانضمام إليه، وجاء فيه أن الدول الخمس: بريطانيا، وروسيا، وبروسيا، والنمسا، وفرنسا، تنوي توثيق عرى الاتحاد فيما بينها على أساس المعاهدات والاتفاقات المعقودة للمحافظة على السلام، وذلك كان الأساس الذي تمسكت بريطانيا به دائما، والمبدأ «العملي» الذي قام عليه التحالف الرباعي، والذي كان يجب في نظر بريطانيا أن يقوم عليه الاتحاد الأوروبي.
ولما كانت إنجلترة تعارض فكرة عقد مؤتمرات دورية باعتبار أن هذه ترمز إلى النظام نفسه - التدخل - الذي وقفت هي كل جهودها على معارضته، وكانت القاعدة التي رضيت بها إنجلترة أن تنعقد اجتماعات خاصة، أي «جزئية» لمعالجة ما قد يطرأ من حوادث معينة وبشروط محددة، فقد جاء في ختام «التصريح» توضيحا لهذه الشروط المحددة أنه لا ينبغي عقد «اجتماعات جزئية» لبحث شئون الدول الأخرى، من غير أن تطلب هذه ذلك، وفي حضورها إذا لزم الأمر، وكان معنى ذلك - وبالرغم من هذه الشروط المحددة - أن تقرر في هذا «التصريح» مبدأ التدخل.
وهكذا كان مؤتمر إكس لاشابل نصرا بينا لسياسة مترنخ؛ لأن «النتيجة السعيدة» - على حد قوله - التي وصل إليها المؤتمر كانت دعم أركان المحالفة - التي صارت الآن بانضمام فرنسا إليها، محالفة خماسية
Quintuple Alliance - ضد الثورات في أوروبا، فيكتب:
إن تغييرا ما لن يطرأ إطلاقا على النظام القائم في المستقبل.
وزيادة على ذلك فقد ألبس «الحل الوسط» الذي وافقت عليه الدول في إكس لاشابل روح الحلف المقدس «هيكلا جثمانيا»، فراح مترنخ يبذل حينئذ كل ما في وسعه من جهد وحيلة في السنوات التالية (1818-1823) خصوصا كي يجعل من الحلف المقدس شيئا حقيقيا وأداة فعالة «كحكومة مديرين أوروبية» تفرض النظام البوليسي على بقية الدول وتسيطر على شئونها لإرغامها على البقاء في نطاق نظام سياسي لا يتغير، بإخماد الحركات الدستورية والقومية، وتأييد الحكومة المطلقة المستبدة، وذلك كان جوهر «النظام المترنيخي» نفسه الذي سبق لنا وصفه، وخضعت لسلطانه أوروبا ليس في علاقات الدول الخارجية وحسب، بل وفي شئونها الداخلية كذلك من سنة 1823 خصوصا إلى وقت قيام ثورات فبراير 1848، وفرار مترنخ نفسه كما عرفنا من فينا في مارس من السنة نفسها.
وإلى جانب انتصار مترنخ في مؤتمر إكس لاشابل (باستصداره تصريح 15 نوفمبر 1818) أحرز مترنخ انتصارا آخر، عزز به نظامه، وذلك عندما تمكن من استمالة القيصر إسكندر الأول إلى آرائه، بعد أن كان هذا الأخير قد منح بولندة دستورا منذ 27 نوفمبر 1815، وافتتح في وارسو أول «دياط» أو برلمان لمملكة بولندة الجديدة في 27 مارس 1818، فأراد مترنخ إزالة هذه الأفكار الحرة والخطرة من رأس القيصر، وسهل على مترنخ إدراك غايته؛ لأن القيصر كان وقتئذ متأثرا بكتابات «إسكندر ستوردتزا
Stourdza »، وهو كاتب وسياسي روماني من البغدان (ملدافيا) وضع مذكرة عن الأحوال السائدة في ألمانيا، لفتت انتباه القيصر الذي طبع منها عددا صار يوزعه على الملوك والأمراء والسياسيين المجتمعين في المؤتمر، وقد أكد «ستوردتزا» في هذه المذكرة أن الثورة على وشك الاندلاع في ألمانيا.
ولقد أزعج القيصر كذلك قبيل انعقاد المؤتمر أن الطلبة في وارتبرج
Wartburg
قاموا بمظاهرات في أكتوبر 1817 احتفالا بمرور ثلاثمائة سنة على بداية الإصلاح الديني في ألمانيا، ومرور أربعة أعوام على معركة ليبزج (أكتوبر 1813) أو حرب الأمم ضد نابليون، التي تعتبر مظهر الروح القومية الألمانية، فأحرق الطلبة في هذا الاحتفال كل ما وقع بأيديهم من كتب تتناول موضوع الحكومات الاستبدادية وتشيد بها، أضف إلى هذا أنه حدث بعد مؤتمر إكس لاشابل أن أقدم كارل ساند
Karl Sand
أحد الطلاب الألمان بجامعة يينا
Jena
على اغتيال أحد كبار الصحفيين والكاتب المسرحي الألماني «أوجست فون كوتزبيو
Kotzebue » وذلك في مانهايم
Mannheim
في 23 مارس 1819، وكان كوتزبيو معدودا من جواسيس روسيا في ألمانيا، كما كان إلى جانب إمداده القيصر بالمعلومات عن أحوال ألمانيا السياسية واتجاهات الرأي العام بها، صديقا حميما له، ولكل هذه الأسباب إذن بدأ إسكندر - وهو الرجل العاطفي دائما - يشك من ذلك الحين في «حكمة» تأييده للآراء والمبادئ الحرة، ولقد لقي مترنخ معاونة صادقة من رجل الرجعية الآخر، فردريك فون جنتز، في إقناع القيصر بنبذ هذه الآراء الحرة ظهريا.
ثم عمد مترنخ إلى «استمالة» فردريك وليم الثالث ملك بروسيا إلى سياسته، فأخذ يهدده بانسحاب النمسا من الاتحاد الألماني إذا امتنعت بروسيا عن تأييد سياسته، ثم تكللت مساعي مترنخ بالنجاح، واستطاع أن يبسط «نظامه» على سائر ألمانيا عندما انعقد في كارلسباد، من أعمال بوهيميا في 7 أغسطس 1819، مؤتمر حضره مندوبون عن النمسا وبروسيا وبافاريا، وبادن، ونساو، وورتمبرج، ومكلنبرج، وهيس، وساكس فايمر،
4
لم يلبث أن استصدر طائفة من القرارات الرجعية عرفت باسم «مرسومات كارلسباد»،
5
صارت بدورها قوانين فدرائية، أي مطبقة في أنحاء الاتحاد الألماني عندما أجازها «دياط» هذا الاتحاد في فرانكفورت في 20 سبتمبر 1819، ثم لم تلبث أن تأيدت في مؤتمر عقده في فينا وزراء الولايات والإمارات الألمانية برياسة مترنخ نفسه ، فصدر بها «قرار فينا النهائي»
6
في 15 مايو 1820، فكان بموجب هذه القرارات «البوليسية» أن وضعت الجامعات تحت إشراف الحكومات لمراقبة المواد التي تدرس بها من الناحية السياسية، وأنشئت رقابة على الصحف، وأقيمت لجنة في «ماينز» مهمتها البحث عن المحرضين على الثورة وإرشاد الحكومات المحلية إليهم لتقبض عليهم، وقد عهد إلى هذه اللجنة نفسها بالبحث في حوادث الثورات والاضطرابات الماضية، فقدمت في هذا الموضوع وحده حتى نهاية 1822 أربعة مجلدات ضخمة مشحونة بتقاريرها.
ثم إنه سرعان ما وقع من الحوادث بعد استصدار «مرسومات كارلسباد» ما جعل القيصر إسكندر يعرض عن مستشاريه الأحرار مثل كابوديستريا اليوناني «الكرفوي» ودي لاهارب (السويسري)، ويزداد اقتناعا بحكمة استصدار هذه المرسومات، فلا يكتفي بالانحياز إلى مترنخ في سياسته، بل صار هو الآخر يطلب اتخاذ إجراءات رجعية صارمة إمعانا في الحيطة والحذر.
من هذه الحوادث كان مقتل دوق دي بري
Berry
ابن شارل شقيق ملك فرنسا لويس الثامن عشر، طعنه لوي بيير لوفيل
Luovel
بمدية على باب دار الأوبرا في باريس في مساء 13 فبراير 1820، فقد كان لهذه الجريمة أثر بالغ في نفس القيصر الذي شبه عمل لوفيل بفعلة كارل ساند، وتزعزعت ثقته نهائيا في آراء «كاببوديستريا» الحرة المعتدلة.
وأما الحادث الثاني الهام فكان قيام الثورة العسكرية في إسبانيا بسبب تمرد الجنود في ثكنات قادش، وكان هؤلاء ينتظرون بها منذ 1816 ترحيلهم إلى أمريكا، فأعلنوا عصيانهم في أول يناير 1820، وراحوا يطالبون بدستور 1812 وانتشرت الثورة في البلاد.
وعندئذ تقدم القيصر باقتراح دعوة مؤتمر للانعقاد في باريس للبحث في الموقف عموما، كما أعلن استعداده لإرسال جيش بالنيابة عن حكومات أوروبا، وباسمها لإخماد الثورة في إسبانيا، كما أنه قد اقترح إنشاء لجنة من وزراء الدول المتحالفة تتخذ مقرها في باريس، مهمتها الإشراف على سير الأمور في فرنسا ذاتها، فكان أن مهدت هذه المقترحات لعقد المؤتمر التالي الذي اجتمع في «ترباو» في أكتوبر 1820 في ظروف يمكن إيجازها فيما يلي.
التمهيد لمؤتمر ترباو
Troppau
رفض كاسلريه ومترنخ اقتراح القيصر إنشاء لجنة لمراقبة سير الأمور في فرنسا، بدعوى أن ذلك مخالف لما سبق الاتفاق عليه مع فرنسا في مؤتمر إكس لاشابل، في معاهدة 9 أكتوبر 1818 التي أنهت الاحتلال، وفي «تصريح» المحالفة الخماسية في 15 نوفمبر 1818، ومن شأنه إثارة القلاقل بدلا من العمل على تهدئتها، كما هو الغرض المقصود من إنشاء هذه اللجنة المقترحة، ثم إن كاسلريه عارض دعوة مؤتمر للانعقاد دون بيان الغرض من انعقاده بصورة واضحة جلية، في حين أنه لم يكن يرى في صالح الدول كذلك الانغماس في شئون فرنسا الداخلية، وتلك كانت كلها مبادئ متفقة مع ما سارت عليه دائما السياسة الإنجليزية.
وأما الدوافع التي حفزت مترنخ إلى معارضة دعوة المؤتمر للانعقاد، فكانت تختلف كلية عن الأسباب التي أبداها كاسلريه؛ فلم يكن مترنخ يهتم في قليل أو كثير بما يحدث من اضطرابات خلف جبال البرانس، في حين أن تدخل القيصر لإخماد الثورة في إسبانيا معناه أن جيشا روسيا كبيرا سوف يجتاز الأراضي النمسوية في طريقه إلى إسبانيا، وفي هذا خطر مباشر، عليه أن يدرأه، ولما كان متعذرا على مترنخ أن يرفض الدعوة إلى عقد مؤتمر بالسهولة التي بدت من جانب إنجلترة - صاحبة سياسة عدم التدخل المعروفة في شئون الدول الداخلية - فقد راح ينتحل الأعذار للحيلولة دون عقد المؤتمر، تارة بدعوى أن الغرض من المحالفة إنما هو معالجة أدواء أوروبا الأدبية أو الخلقية قبل كل شيء، في حين أن الثورة في إسبانيا حدث «مادي» وحسب، وتارة أخرى بدعوى أن التدخل بدلا من التهدئة سوف يزيد الأمور ارتباكا والحالة اشتعالا، وتارة ثالثة بدعوى أن أعضاء المؤتمر المزمع عقده سوف يكونون خمسة بدلا من أربعة، ومن المتعذر استمالة إنجلترا أو فرنسا (وهما من أعضاء المحالفة الخماسية) إلى جانب الدول الثلاثة الأخرى (روسيا، النمسا، بروسيا)، أي إلى الجانب الذي يريد التدخل في شئون إسبانيا.
ولقد ظل مترنخ معارضا لعقد المؤتمر حتى شهر يونيو 1820، ولكنه سرعان ما تخلى عن موقفه عندما حدث في شهر يوليو 1820 أن اشتعلت الثورة العسكرية في نابولي واضطر ملكها فردنند الأول إلى قبول دستور 1812 الإسباني (أي استصدار دستور مثله)، فكان لهذا الحادث - الذي هدد بالزوال النظام الحكومي النمسوي في إيطاليا - أعظم الأثر في تشكيل الخطة التي اعتزم مترنخ الآن اتباعها.
ذلك أن هذه الثورة التي نشبت في نابولي، إذا قدر لها النجاح، تكون مصدر خطر كبير على «نظام مترنخ» برمته في إيطاليا، زد على ذلك أن مترنخ لم يلبث أن وجد في هذه الثورة الوسيلة التي تمكنه من تحقيق أغراضه؛ لأن اشتعال الثورة في نابولي، أي: في مكان قريب من ممتلكات الإمبراطورية النمسوية ومناطق نفوذها في إيطاليا، سوف يعطيه الفرصة ليحمل الدول على تحويل انتباهها عن مسألة إسبانيا إلى مسألة أخرى، هي مسألة الثورة في نابولي، في وسعه إذا تناولها بمهارته السياسية المعهودة - وعلى نحو ما كان يرجو - أن يجعل النمسا صاحبة القول في هذه المسألة، وليس روسيا، لو أن مسألة إسبانيا بقيت تستأثر بانتباه الدول.
ثم إن البحث في موضوع الثورة في نابولي سوف يجعل ممكنا إرجاء النظر في مسألة إسبانيا، وبذلك يتسنى تجنب خطر سوق الجيوش الروسية عبر الممتلكات النمسوية في طريقها إلى إسبانيا، أضف إلى هذا أن النمسا ذاتها صاحبة حقوق ظاهرة تمكنها من التدخل في شئون نابولي، وهذه حقوق مستندة إلى معاهدة سابقة كانت النمسا قد عقدتها مع نابولي في 12 يونيو سنة 1815، جاء في مادة سرية بها، أن تتعهد الحكومة النابوليتانية بعدم إدخال أية تغييرات دستورية - أي في طرائق الحكم - غير ما يسمح بإدخاله من تغييرات دستورية في الممتلكات النمسوية في إيطاليا، وكان تسويغه التدخل على أساس هذه المعاهدة حجة قوية، لم تستطع الحكومة الإنجليزية التي قامت سياستها على عدم التدخل في شئون الدول إلا أن تعترف بأن للنمسا حقا في هذا التدخل، بناء على ما ورد في معاهدة 12 يونيو سنة 1815، ما دامت النمسا تعتقد بوجود خطر يتهدد مصالحها، ويهدم نفوذها في إيطاليا بسبب الثورة التي حدثت في نابولي، ولم تتردد فرنسا وبروسيا في الموافقة على هذا الرأي كذلك.
ولكن روسيا ظل موقفها لا يدعو للاطمئنان تماما؛ لأن النابوليتان (أهل نابولي) الأحرار صاروا يدعون أنهم إنما قد استندوا في ثورتهم على معاونة القيصر ومساندته الأدبية لهم، وكان لهذا الادعاء نصيب من الصحة؛ لأن وكلاء القيصر - خصوصا «دي لاهارب» - كانوا يجوبون أرجاء إيطاليا لينشروا المبادئ الحرة بها؛ ولذلك فقد عني مترنخ بضرورة القضاء على ما كان يعتقده الأحرار في إيطاليا من أن في وسعهم الاعتماد على مؤازرة روسيا لهم، فقد خشي أن يكون لروسيا أهداف بعيدة وغامضة، مستترة وراء هذه الميول غير الطبيعية لتشجيع الروح الثورية.
وعلى ذلك فقد انتهز مترنخ فرصة وجود القيصر في وارسو، فاقترح عليه أن يعقد امبراطورا روسيا والنمسا اجتماعا يكون مقصورا عليهما وحدهما؛ لبحث المسائل التي تشغل الأذهان وقتئذ، ولكن القيصر إسكندر رفض أن يتم تفاهم «منفصل» بين الإمبراطورين وحدهما فقط ومن غير أن يشركا معهما بقية الدول التي وقعت على «تصريح» إكس لاشابل بتاريخ 15 نوفمبر 1815، وهو التصريح الذي قال «كابو ديستريا» مستشار القيصر وقتئذ: إنه ألغى عند صدوره التحالف الرباعي، وأوجد بدلا منه «التحالف الخماسي»، بانضمام فرنسا إلى الدول الأربع، ولا يمكن لذلك أن تعترف روسيا بغير «اجتماع مشترك» تحضره كل الدول، ومعنى ذلك أن القيصر لا يرضيه غير انعقاد مؤتمر على غرار ما حدث في إكس لاشابل سنة 1818.
ولقد لقي هذا الرأي أيضا كل تأييد من جانب فرنسا استنادا إلى أن الاضطرابات التي وقعت في إسبانيا وإيطاليا، إنما هي من نوع المسائل التي كان يدور حولها التفكير وقت أن اتخذت الدول قراراتها المعروفة في إكس لاشابل، وكان واضحا أن فرنسا ترغب ملحة - وإن كانت لا تستطيع إظهار هذه الرغبة علانية - في أن تجد نفسها دائما إلى جانب بقية الدول الكبرى في عمل مشترك حاسم داخل نظام الاتحاد الأوروبي.
ذلك إذن كان موقف النمسا وفرنسا، ولكن لماذا دعت روسيا إلى عقد مؤتمر أوروبي؟ وهذا سؤال يحاول المؤرخ الفرنسي إميل بورجوا
Bourgeois
الإجابة عليه بقوله: «إن القيصر كان يرجو أن يثار الخلاف بين الدول إذا اجتمع ممثلوها في مؤتمر عام، فيؤدي هذا الخلاف إلى قيام الحرب العامة، وحينئذ يتسنى لروسيا، وإلى جانبها فرنسا كحليفة لها، هزيمة النمسا والقضاء عليها»، وقد يكون هذا الرأي منطويا على مبالغة كبيرة، وأن غرض القيصر من الدعوة لعقد مؤتمر أوروبي، لا يعدو أن يكون مجرد إنشاء نوع من «البوليس الدولي» تحت إشراف الحلف المقدس لملاحظة مجريات الأمور في أوروبا.
وعلى كل حال فقد ظل مترنخ يرفض فكرة المؤتمر الأوروبي، ويتذرع بمختلف الدعاوى لتجنب عقده، ثم كان من محاولاته لمنع المؤتمر أنه ما لبث حتى تقدم باقتراح فحواه أن يرفض الحلفاء الاعتراف بحكومة نابولي الثورية، وأن يؤيدوا بواسطة وزرائهم في فينا الإجراءات التي تتخذها النمسا لقمع الثورة في نابولي، ومعنى العمل بهذا الاقتراح انتفاء الحاجة إلى دعوة مؤتمر أوروبي.
ولكن كاسلريه لم يلبث أن رفض (في 16 سبتمبر 1820) المساهمة في مشروع قال: إن من شأنه - وبالصورة التي يريدها مترنخ - إنشاء محالفة عدائية ضد نابولي، وإرغام إنجلترة على الاشتراك في الحرب التي سوف تكون نتيجة هذه المحالفة العدائية، ورفضت إنجلترة التدخل عنوة في شئون نابولي الداخلية، كما رفضت أن تشجع غيرها على هذا التدخل، على أن كاسلريه أبدى في الوقت نفسه استعداده للتخلي جانبا والسماح للنمسا بالعمل ما دامت هذه ترى في حوادث نابولي خطرا على مصالحها ونفوذها في إيطاليا - باعتبار أن للنمسا حقا في هذا التدخل مستندا (كما ذكرنا) على المعاهدة مع نابولي المبرمة في 12 يونيو 1815 - وعندئذ يصير «لمؤتمر الوزراء» الذي يقترحه مترنخ فائدة كبرى، من حيث أن هذا المؤتمر في فينا، سوف يتسلم - كما قال كاسلريه - «التقرير» الذي تقدمه النمسا عن أعمالها في «نابولي» من جهة، وسوف يحول، من جهة أخرى، دون وقوع شيء، يتعارض مع النظام الراهن الذي يسود أوروبا في الوقت الحاضر.
وواضح أن الأخذ برأي كاسلريه كان معناه إنشاء «هيئة رقابة» مهمتها الإشراف على أعمال النمسا، وذلك ما كان لا يمكن بحال من الأحوال أن تقبله النمسا، وعندئذ فقط لم يجد مترنخ مناصا من قبول الفكرة التي نادت بها روسيا وأيدتها فرنسا لدعوة مؤتمر للانعقاد على غرار مؤتمر إكس لاشابل، ولو أن مترنخ كان لا يزال يرجو أن يسفر هذا المؤتمر عن اتفاق كلمة الدول على عمل مشترك يعطي النمسا ما تصبو إليه من «تأييد أدبي» على الأقل حينما تمضي في سياستها الإيطالية.
مؤتمر ترباو
Troppau «في سيليزيا»
حضر هذا المؤتمر القيصر إسكندر الأول ووزيراه كابوديستريا ونسلرود، ثم ولي عهد بروسيا ومعه هارندبرج وبرنستورف
Bernstorff ، ثم فرنسوا الأول إمبراطور النمسا ومعه مترنخ وجنتز
Gentz ، ثم حضر عن إنجلترة لورد ستيوارت
Stewart
شقيق كاسلريه، ثم عن فرنسا دي فيروناي
Ferronays
سفيرها في بطرسبرج وصديق القيصر، والماركيز دي كارامان
Caraman
من رجال السياسة في العهد القديم ومن المعجبين بشخص مترنخ.
ومن مبدأ الأمر كان مقضيا بالفشل على رجاء مترنخ في أن يجمع كلمة الدول على عمل مشترك لتأييد سياسة النمسا في إيطاليا، ومبعث هذا الفشل؛ الاختلاف العظيم بين المبادئ والقواعد التي أراد مترنخ السير عليها، وبين تلك التي استرشدت بها السياسة الإنجليزية خصوصا.
فقد أراد مترنخ، كما بسط ذلك في مذكرة له قدمها للمؤتمر أن يجعل مصلحة النمسا من تدخلها في شئون نابولي متفقة في صميمها مع مصلحة أوروبا عموما؛ لأن الدول يهمها - كما قال - المحافظة على المعاهدات، ويهمها أن تتآزر فيما بينها لاتخاذ الإجراءات اللازمة لإخماد الثورة الداخلية التي تهدد كيانها؛ ولذلك فالمؤتمر مهمته أن يحدد المبادئ والقواعد التي يجب أن ينبني عليها التدخل في نابولي.
ومن السهل تحديد هذه المبادئ إذا فرق الحلفاء بين «الثورات المشروعة» التي تأتي من أعلى - وهذه لا تستدعي تدخلا من جانب الدول - والثورات غير المشروعة التي تأتي من أسفل، وواجب الدول في هذه الحالة عدم الاعتراف بأية تغييرات قد تنجم منها، بل واجبها العمل من أجل إزالة هذه التغييرات، كما لو حدثت تماما هذه التغييرات في داخل بلادها ذاتها، فإذا أقرت الدول هذه القواعد تكون في الحقيقة قد أقرت مبدأ التدخل
Intervention
الذي أراد مترنخ أن يتخذ منه أساسا ثابتا يبني عليه تدخله في مسألة نابولي، باعتبار أن الدول الأوروبية الكبرى ذات حق واضح صريح في القضاء على الثورات الداخلية إطلاقا، محافظة على السلام العام في أوروبا، على أن مبدأ «التدخل» هذا، هو ذاته ما كانت إنجلترة تسعى دائما لتجنبه من بداية المؤتمرات إلى نهاية عهدها.
ولذلك فقد تمسك كاسلريه بالفكرة الأصلية التي أوجدت «التحالف» على أساس الارتباط بالمعاهدات القائمة دائما، وقصر مهمة «التحالف» على تأدية الغرض الذي وجد من أجله، والمعروف أن مهمة التحالف هي منع وقوع الاعتداء على عضو من أعضائه والمحافظة على السلام العام، ولا يمكن اتخاذ التحالف الرباعي (20 نوفمبر 1815) وسيلة للتدخل في شئون الدول، زد على هذا أن تصريح إكس لاشابل «أو التحالف الخماسي
Quintuple Alliance » (15 نوفمبر 1818) اشترط أن يمتنع على الدول عقد اجتماعات جزئية لبحث شئون دولة أخرى إلا إذا طلبت ذلك هذه الدولة، ثم جرى البحث - إذا لزم الأمر - في حضور الدولة المختصة، ولا يعني هذا كله أن للدول الكبرى أية حقوق تجعل في قدرتها - قانونا - التدخل في شئون الدول الصغرى الداخلية، وعلى ذلك فقد رفضت إنجلترة مبدأ «التدخل» ثم أيدتها فرنسا في ذلك.
واعتمد مترنخ حينئذ على تعضيد قيصر روسيا - إسكندر الأول - له، الذي أبدى «أسفه العظيم على كل ما قاله وفعله بين 1815، 1818 وأحزنه ما ضاع من وقت سدى»، وأراد الآن أن يتدارس مع مترنخ الوسائل التي يمكن بها تدارك ما فات، واعترف أن مترنخ كان مصيبا تماما في إدراك الحال على حقيقتها، وأظهر لذلك استعداده لأن يلبي كل ما يطلبه مترنخ منه، واستنادا على هذا التأييد إذن استطاع مترنخ أن يغفل معارضة إنجلترة وفرنسا؛ فتعددت اجتماعات ممثلي الدول الثلاث: النمسا، روسيا، بروسيا، وأسفرت هذه الاجتماعات عن عقد «بروتوكول ترباو» الذي وقعه أعضاء «الحلف المقدس»، أي: روسيا، وبروسيا، والنمسا، في 19 نوفمبر 1820، ومع أن إنجلترة رفضت التوقيع على هذا البروتوكول، فقد انضمت إليه فرنسا خشية العزلة السياسية.
ونص بروتوكول ترباو على أن:
الدول التي يحدث تغيير في حكوماتها بسبب قيام ثورة بها، ويترتب على هذا التغيير تهديد للدول الأخرى، تفقد بحكم الضرورة عضويتها في التحالف (الاتحاد) الأوروبي، وتظل خارج التحالف ومستبعدة منه إلى أن يجيء الوقت الذي يعطي الموقف الداخلي في هذه الدول الضمانات اللازمة لتأييد النظام القانوني والاستقرار، أما إذا نجم من هذه التغييرات أخطار مباشرة تهدد الدول الأخرى، فالدول المتحالفة تتعهد فيما بينها بإرجاع الدولة المذنبة إلى حظيرة التحالف «أو الاتحاد الأوروبي» إما بالوسائل السلمية، وإما بقوة السلاح «أي بطريق الحرب» إذا لزم الأمر.
ولم يكتف كاسلريه بمجرد الرفض (16 ديسمبر 1820)، بل نقد البروتوكول نقدا مرا؛ لأن إنجلترة - كما قال - لا يمكنها الموافقة على نظام من شأنه إيجاد نوع من حكومة عامة في أوروبا لها من السلطان ما تستطيع به تحطيم السيادة العليا في داخل الدولة، وكعضو من أعضاء المحالفة لا تستطيع إنجلترة كذلك تحمل مسئولية القيام بأعمال «بوليسية» من قبيل ما يريده أصحاب هذا البروتوكول.
ولقد تأجل مؤتمر ترباو من غير الوصول إلى قرار بشأن المسألة الإيطالية، ولكن على أن يجتمع المؤتمر في شهر يناير من العام التالي (1821) في مدينة ليباخ
Laibach ، وعلى أن يدعى لحضوره فردنند الأول ملك نابولي؛ لأن الدول الثلاث التي رفضت المفاوضة مع حكومة ثورية، أرادت أن يحضر فردنند بنفسه حتى يمكن المفاوضة والاتفاق معه شخصيا.
مؤتمر ليباخ
Laibach
وانعقد المؤتمر التالي في ليباخ (وتقع في حوض الساف أحد فروع نهر الطونة في كرنيولا من أعمال النمسا)، وذلك بين 8 يناير و12 مارس 1821، وقد حضره إمبراطور النمسا وقيصر روسيا ومترنخ، كما حضره فردنند الأول ملك نابولي، وكان هذا قد أقسم أمام شعبه أن يظل أمينا في دفاعه عن الدستور الذي منحه له الشعب عند قيام الثورة (وهي التي طالبت باستصدار دستور من نمط الدستور الذي نالته إسبانيا في عام 1812)، وجاء إلى ليباخ في الظاهر كي يتوسط بين شعبه وبين الدول على أساس بقاء الدستور، ولكنه حضر في الحقيقة ليطلب مساعدة الدول ضد شعبه، فقرر المؤتمر، وبمعنى أصح أعضاء الحلف المقدس الثلاثة: النمسا، روسيا، بروسيا، إلغاء دستور نابولي، ثم عهد ثلاثتهم إلى النمسا بمهمة تنفيذ هذا الإلغاء بالقوة العسكرية، وعلى ذلك فقد ذهب جيش نمسوي بقيادة الجنرال فريمونت
Frémont
إلى نابولي لتحقيق هذا الغرض، فأخمد الثورة الدستورية، وأعاد إلى فردنند سلطته الاستبدادية.
وقبل أن يختتم المؤتمر أعماله جاءه نداء آخر من ملك سردينيا لنجدته ضد رعاياه الثائرين، فأرسلت النمسا جيشها - الذي جمعته في لمبارديا لهذه الغاية دائما - لإخماد الثورة في بيدمنت، فانهزم الثوار في واقعة نوفارا
Novara
في 8 أبريل 1821، واحتل الغزاة تورين العاصمة، وأعيد - بفضل هذه العمليات - «النظام القديم
L’Ancien Régime » إلى سردينيا.
وفي مايو 1821 انفض المؤتمر، ولكن بعد أن أعد منشورا لإرساله إلى الحكومات الأوروبية، يوضح فيه المبادئ التي استرشدت بها الدول الثلاث خصوصا - وهي دول الحلف المقدس - في سياستها، فجاء في هذا المنشور أن الغرض من التحالف الأوروبي إنما هو تأييد المعاهدات القائمة، والمحافظة على السلام العام، وتحقيق سعادة الأمم، وأن التغييرات النافعة والضرورية من الناحيتين التشريعية والإدارية، والتي تحدث في داخل الدول يجب أن تأتي من جانب أولئك الذين أعطاهم «الله» مسئولية الحكم في هذه الدول.
وعلى ذلك فإن المؤتمر لم يقنع بتأييد مبدأ التدخل
Intervention
الذي أسفر عنه مؤتمر ترباو، بل عمل على إرجاع النظام القديم بحذافيره، على أساس الاعتراف من جديد بحق الملوك الإلهي أو المقدس في الحكم، فكانت هذه القرارات التي اتخذت في ليباخ والأعمال التي تمت على يد المؤتمر، من العوامل التي زادت شقة الخلاف اتساعا بين دول «الحلف المقدس» الأصليين: النمسا، روسيا، بروسيا، وبين إنجلترة على وجه الخصوص، ثم أدت في النهاية إلى انهيار نظام الاتحاد الأوروبي، ذلك أن هذه الدول الثلاث قد أحكمت في ترباو وليباخ روابط المحالفة بينها، على أساس التدخل في شئون الدول الداخلية بصورة جعلت من المتعذر على إنجلترة إطلاقا أن تجد قاعدة عامة يصلح اتخاذها أداة للعمل المشترك المفيد بينها وبين هذه الدول.
ولكن متاعب الحلف المقدس كانت لا تزال كثيرة؛ فقد حدث أثناء انعقاد المؤتمر في ليباخ أن جاءت الأنباء عن قيام الثورة في بلاد المورة، أضف إلى هذا أن الثوار في إسبانيا استطاعوا أن ينتزعوا من الملك فردنند السابع دستورا أقيمت بفضله الحكومة الدستورية في مدريد، وهذا بينما كانت الثورة مشتعلة في مستعمرات إسبانيا في أمريكا الجنوبية، فأعلنت «الأرجنتين» استقلالها منذ 9 يوليو 1816، وأنشئت ديكتاتورية مستقلة في براجواي منذ 1817، وأعلنت ديكتاتورية أخرى في فنزويلا، على يد سيمون بوليفار
Bolivar
منذ 1813، واستطاع بوليفار كذلك أن يحرر «كولمبيا» بعد انتصار كبير في واقعة بوياكا
Boyaca
في 17 أغسطس 1819، وبعد ذلك بعامين تحررت «بيرو» في سنة 1821، وفي مايو 1822 أعلنت المكسيك استقلالها، وفي هذا الشهر أيضا أعلن «بدرو
» نفسه إمبراطورا مستقلا في البرازيل، و«بدرو» هو ابن الملك يوحنا السادس البرتغالي الذي عاد «من البرازيل» إلى لشبونة عام 1821.
وبسبب هذه الاضطرابات إذن تقرر قبل انفضاض مؤتمر ليباخ أن ينعقد المؤتمر مرة أخرى في خريف العام التالي (1822) في فيرونا
Verona .
وكان أكبر المتحمسين للمسألة الإسبانية - بما في ذلك مستعمراتها الأمريكية - القيصر إسكندر، ومع أن القيصر كان يشجع - في هذه الآونة بواسطة سفيره بوزو دي بورجو
- الحركة الدستورية في باريس، فقد اتخذ موقفا رجعيا في مدريد، وأبدى استعداده لإرسال جيش روسي إلى إسبانيا لإعادة الحكم المطلق بها، يجتاز هذه المرة في سيره إليها الأراضي الفرنسية.
ولم يكن قيصر روسيا هو وحده المتهم بهذه المسألة؛ فقد استرعت الثورة الدستورية في إسبانيا انتباه رئيس الوزارة الفرنسية الجديد بعد ريشيليو، وهو الكونت دي فيليل
Villèle (22 ديسمبر 1821)، فقد وقعت بعض الاضطرابات بين الضباط الفرنسيين في بلفور
Belfort
وستراسبورج ولاروشيل وغيرها، وأظهرت المدرسة الحربية في سومير
Sumur - في هذه الآونة - ميولا وعواطف واضحة نحو نابليون الثاني الدوق دي رشتاد
Reichstadt
وقضيته؛ ولذلك فقد صار فيليل يخشى من انتقال عدوى الاضطرابات من إسبانيا إلى فرنسا، ولكن فيليل رفض اقتراح القيصر بشأن إرسال جيش روسي عبر الأراضي الفرنسية لإخضاع الثورة في إسبانيا، ولما كان يؤيد مصلحة أسرة بربون الحاكمة بفرعيها في فرنسا وإسبانيا، فقد أسرع بإقامة ما سماه «عازلا صحيا
Cordon Sanitaire » من الجنود الفرنسيين على طول الحدود الإسبانية، لحماية فرنسا الجنوبية من عدوى الحمى الصفراء المنتشرة وقتئذ في إسبانيا، وعندئذ صار من المتوقع حدوث «تدخل عسكري» في إسبانيا، وفي هذه الظروف إذن انتشار الثورات في العالمين الجديد والقديم، والتفكير في التدخل العسكري في هذين العالمين من أجل إخماد الثورة المستمرة بهما، انعقد مؤتمر فيرونا في منتصف أكتوبر 1822.
مؤتمر فيرونا
Verona
7
حضر المؤتمر إمبراطور النمسا، وقيصر روسيا، وملوك بروسيا وسردينيا ونابولي، وغراندوق تسكانيا، ودوقة بارما، ودوق مودنيا، ثم كثيرون من السياسيين، وعلى رأسهم مترنخ، وكان يمثل فرنسا وزير خارجيتها دوق مونتمورنسي
Montmorency
وسفيرها في لندن شاتوبريان
Chateaubirand ، ويمثل إنجلترة دوق ولنجتون (قاهر نابليون) ولورد ستيوارت
Stewart
شقيق كاسلريه الأصغر، ولم يحضر كاسلريه؛ لأنه مات منتحرا منذ 12 أغسطس 1822 قبل انعقاد المؤتمر، ولم يشأ وزير خارجية إنجلترة الجديد جورج كاننج
Canning
الذهاب إلى فيرونا؛ لأنه لا يرتاح لسياسة مترنخ.
وكان على المؤتمر أن يعالج مسألتي إسبانيا وإيطاليا، كما كان منتظرا أن تثير اهتمام المؤتمر مسألة هامة أخرى؛ هي الثورة التي قامت في المورة، وقد استغرقت مسألة إسبانيا معظم نشاط المؤتمر، فتركت مسألة إيطاليا من غير الوصول إلى حل حاسم بشأنها، ولم يجرؤ المؤتمر على بحث المسألة اليونانية؛ لاختلاف الدول في أمرها، حيث كان مترنخ يعتبر اليونانيين ثوارا فحسب شقوا عصا الطاعة على تركيا صاحبة السيادة والسلطة الشرعية في البلاد، في حين أن القيصر إسكندر كان يعتبر اليونانيين إخوانه في الدين الذين إنما يناضلون من أجل الحياة ذاتها.
أما فيما يتعلق بإسبانيا فقد أظهر المندوبون الفرنسيون من اللحظة الأولى ما صح عليه عزم حكومتهم من حيث التدخل، ليس فقط للقضاء على الثورة في إسبانيا، بل ولإخمادها في مستعمراتها الأمريكية كذلك، وأيدت النمسا وروسيا وبروسيا المقترحات الفرنسية، وفي 30 أكتوبر قرر المؤتمر التدخل المسلح في شئون إسبانيا، وفي 19 نوفمبر 1822 بعثت هذه الدول بإنذار إلى مجلس الكورتيز الإسباني وسحبت سفراءها من مدريد، وامتنعت إنجلترة عن مجاراة الدول في هذا العمل؛ فأعلن «ولنجتون» أن الحكومة الإنجليزية لا توافق إطلاقا على أي تدخل في شئون الدول الداخلية ولا تؤيده، وانفض مؤتمر فيرونا في 14 ديسمبر من السنة نفسها.
ولكن في بداية العام التالي (1823) تعين شاتوبريان في وزارة الخارجية الفرنسية، وكان من سياسته التدخل للقضاء على الثورات في إسبانيا وفي مستعمراتها الأمريكية معا، وعلى ذلك لم يلبث أن أعلن ملك فرنسا لويس الثامن عشر الحرب على إسبانيا في 28 يناير 1823، وغزا البلاد جيش فرنسي أسندت قيادته إلى دوق دانجوليم
d’Angouleme (ابن شقيق الملك)، فاحتل الفرنسيون مدريد في 24 مايو، وفي 31 أغسطس سلم الكورتيز - من غير قيد ولا شرط - إلى الملك فردنند السابع (بمقتضى معاهدة تروكاديرو
Trocadero ) وعاد فردنند إلى عاصمة ملكه على أسنة الرماح الفرنسية.
ولم يكن هذا الغزو بتفويض من الدول، بل قامت به فرنسا على مسئوليتها الخاصة، ومع ذلك فقد رضي به مترنخ الذي وجد في انشغال فرنسا بهذا الغزو ما يصرفها عن المسألة اليونانية وتأييد الثوار في المورة، ولم يكن مترنخ كذلك يتوقع أن يترتب على الانتصارات الفرنسية في إسبانيا قيام حرب عامة أوروبية.
ولكن المسألة الإسبانية لم تقف عند هذا الحد، بل مضى شاتوبريان يريد إخماد الثورة في المستعمرات الإسبانية في أمريكا الجنوبية، وكان من المنتظر أن يلقى في رغبته هذه تأييدا من جانب القيصر إسكندر الذي أراد هو الآخر من مدة طويلة عودة السلام إلى هذه البلاد البعيدة، ولكن هذه كانت مشروعات لقيت من جهة أخرى كل معارضة من جانب وزير الخارجية البريطانية «جورج كاننج» الذي أراد أن يظل العالم الجديد يعيش في حرية واستقلال، وأن يفتح أبوابه للتجارة الأوروبية، ولإنجلترة أكبر نصيب في هذه التجارة، وأن يغلق أبوابه دون أي تدخل مسلح من جانب أوروبا.
ولقد كان للموقف الذي اتخذه كاننج في المسألة الإسبانية ومستعمرات إسبانيا الأمريكية أعظم الأثر في انحلال «نظام مترنخ» بالصورة التي أظهرته بها في هذه الآونة فكرة «الاتحاد الأوروبي».
ولقد كانت تواجه جورج كاننج عندما تسلم شئون وزارة الخارجية البريطانية (منذ أغسطس 1822) مسائل ثلاث: ثورة اليونان في المورة، وسوء العلاقات بين روسيا وتركيا، ثم شئون إسبانيا الداخلية، وأخيرا علاقات إسبانيا مع مستعمراتها الثائرة عليها في أمريكا الجنوبية، ثم لم تلبث أن أضيفت مسألة أخرى رابعة، ناشئة عن محاولة تحديد مركز أسرة براجانزا
Braganza (الأسرة الحاكمة) في البرتغال والبرازيل.
ويجدر قبل الحديث عن موقف كاننج من هذه المسألة، أن نلم بشيء عن المبادئ والقواعد العامة التي استرشد بها في سياسته الخارجية وقتئذ، وهي السياسة التي قد يكون أصدق وصف لها ما قاله بعض المؤرخين عند المقارنة بينها وبين سياسة سلفه كاسلريه؛ أن الفرق بين هاتين السياستين لم يتناول المبادئ الجوهرية الأساسية، ولكنه انحصر - أكثر من أي شيء آخر - في مقدار ما تجده بعض الاتجاهات المعينة من تأكيد وبروز أكبر وأوسع، كما أنه كان في نوع الوسائل والطرائق التي تتبع في معالجة بعض المسائل أو إغفال بعضها الآخر.
فالثابت أن كاسلريه وكاننج كانا يريدان استعلاء النفوذ الإنجليزي، ثم إنهما كانا يريدان وقف الاعتداءات الأجنبية، بمعنى تدخل الدول الكبيرة في شئون الدول الصغيرة الداخلية، ولكن مع فارق واحد هو: أن كاسلريه كان مقيدا بماضيه السياسي عندما اضطر إلى عقد المحالفات والمعاهدات مع الدول أثناء النضال ضد نابليون، بينما يجد كاننج أنه حر طليق لا يقيد نشاطه السياسي ارتباطات ما سابقة؛ ولذلك فقد عارض كاننج فيما سماه «سياسة كاسلريه الأوروبية» وطالب من أيام مؤتمر إكس لاشابل باتباع «سياسة إنجليزية»، ولم يوافق بتاتا على مادة التحالف الرباعي السادسة (20 نوفمبر 1815) التي نصت على عقد الاجتماعات «أو المؤتمرات» الدورية، بل كان يعارض في الحقيقة نظام المؤتمرات نفسه الذي ارتبط بفكرة الاتحاد الأوروبي، فهو يريد أن يكون عمل التحالف الرباعي مقصورا على مراقبة فرنسا فقط، ولم يكن يحفل بالحلف المقدس، ويخشى إلى جانب هذا أن يغدو التحالف الرباعي بمثابة أداة لتخويف وإرهاب الدول الصغيرة، بل ولإثارة شكوك وشبهات الشعب البريطاني في أغراض ونوايا الوزراء الإنجليز أنفسهم، واتهامهم بأنهم يعملون لخيانة الحريات البريطانية، نزولا على إرادة الملوك والطغاة المستبدين الأجانب.
ولذلك فإنه عندما اتخذت دول الحلف المقدس قراراتها الرجعية المعروفة في «ترباو» و«ليباخ» أعلن كاننج (20 مارس سنة 1821) سياسة إنجلترة في مسألة نابولي، وموقفها من «الحلف المقدس الجديد»، وموجزها: أن تلتزم إنجلترة جانب العزلة وعدم التدخل في شئون القارة، حتى إذا حدث أمر عظيم الشأن وجب عليها أن تتدخل، وهي مستندة حينئذ على مؤازرة قوة كافية تجعل هذا التدخل مجديا وحاسما.
ثم أعلن سياسة بلاده العامة، فقال: إنها التمسك دائما بمبدأ عدم التدخل في شئون الدول الداخلية الأخرى، وذلك مبدأ لن تحيد عنه إنجلترة إطلاقا، ثم إنها في الوقت نفسه ترفض كل تطرف، سواء حدث في صالح الاستبداد والطغيان - وكاننج ضد الرجعية بكل معانيها - أو كان في جانب الديمقراطية الثورية - وكاننج ضد الروح الثورية كذلك - ففي رأيه أن القوميات النشيطة إنما تستمد حياتها من التاريخ نفسه، وتعتمد في وجودها على الحقائق التاريخية، فلا يجب إذن أن يكبح الرجعيون جماحها تطبيقا لنظريات رجعية معينة، ولا يجب في الوقت نفسه أن يحرك المهيجون الشعوب للثورة تطبيقا لنظريات حرة متطرفة.
ولذلك خشي كاننج في أواخر سنة 1821 أن يكون السياسيون الإنجليز قد أغفلوا العمل بالسياسة التي وضع قواعدها كاسلريه في العام السابق، عندما طلبت منه الوزارة الإنجليزية إعداد «مذكرة
Memorandum » تبسط وجهة النظر الإنجليزية في المسائل التي شغلت الأفكار قبل انعقاد مؤتمر «ترباو»، فأعد كاسلريه في 5 مايو 1820 «الوثيقة الحكومية
State Paper » المشهورة التي تضمنت مبدأ «عدم التدخل
Non-intervention » الذي تمسكت به إنجلترة، فقد جاء في مذكرة كاسلريه هذه: أن التحالف الذي قام بين الدول إنما كان موجها ضد فرنسا، ولم يكن مقصودا منه أن يصبح «إدارة» للتدخل في شئون الدول الداخلية أو للإشراف عليها، أو أن يصبح «اتحادا» لحكم العالم بواسطته، ثم تحدثت المذكرة عن مبدأ «عدم التدخل» فقالت: «إن مبدأ تداخل إحدى الدول بطريق القوة في الشئون الداخلية لدولة أخرى من أجل تنفيذ واجب الطاعة الذي على رعايا هذه الدولة للسلطات الحاكمة بها، إنما هو مسألة على جانب كبير من الدقة من الناحية الأدبية (الخلقية)، والناحية السياسية كذلك، وبريطانيا العظمى إنما تتدخل إذا وقع حادث يخل بالتوازن الإقليمي في أوروبا، وعندئذ يكون تدخلها بصورة مجدية، ولكنها آخر حكومة في أوروبا ينتظر منها أو يكون في قدرتها الاجتراء على التداخل في مسائل ذات طابع نظري أو عام، وغير محددة.»
وهذه القواعد التي ذكرها كاسلريه في مذكرته كانت هي بنفسها التي قامت عليها سياسية جورج كاننج.
وقد ساء كاننج أن يرى كاسلريه يجتمع بالبرنس مترنخ أثناء زيارة ملك إنجلترة جورج الرابع لهانوفر (في ألمانيا) في أكتوبر 1821؛ لأن مترنخ صاحب مبدأ التدخل الذي تقرر في ترباو وليباخ، وبسبب ما ظهر من أن كاسلريه ومترنخ قد صار رأيهما متفقا تقريبا بصدد المسألة الشرقية، فقد كان موقف كاننج في هذه المسألة يختلف عن موقف كاسلريه منها، حيث يرى كاننج أن عرض مسألة اليونان على بساط البحث في مؤتمر يعقد خصيصا لهذه الغاية، إنما هو مضيعة للوقت ولا يساعد على حل المشكلة، فصار يعارض في دعوة مؤتمر للانعقاد «في فيرونا» في حين كان كاسلريه موافقا على انعقاد هذا المؤتمر، وقد أعد كاسلريه قبل وفاته التعليمات التي أعطيت إلى المندوب الإنجليزي في المؤتمر دوق ولنجتون، وكانت هذه تتناول المسألة التركية، ومسألة إسبانيا والمستعمرات الإسبانية في أمريكا الجنوبية، والمسألة الإيطالية، ويبدو من التعليمات التي أعدها كاسلريه أنه كان يعتقد أن المسألة الشرقية (التركية) سوف تكون موضع اهتمام المؤتمر كلية، ولا يقيم المؤتمر وزنا كبيرا لمسألة إسبانيا الأوروبية.
ولكن سرعان ما فقدت المسألة الشرقية كل أهمية لها في مؤتمر فيرونا، واحتلت مسألة إسبانيا الأوروبية مكان الصدارة في مباحثات المؤتمر، ولقد كان كاسلريه يتوقع أن تجيء مصاعب المؤتمر من ناحية روسيا، ولكن سرعان ما تبين كذلك عند انعقاد المؤتمر أن فرنسا كانت هي مصدر المتاعب في فيرونا؛ لأن سياسة فرنسا - وكانت تهدف إلى التدخل في صالح البربون في إسبانيا - خضعت وقتئذ لتأثير النزاعات الحزبية الداخلية.
ولذلك فإنه لما كان محور السياسة الفرنسية «التدخل»، بينما قامت السياسة الإنجليزية على «عدم التدخل» فقد صارت العلاقات الإنجليزية الفرنسية هي المحور الذي دارت حوله أعمال المؤتمر، ولقد كان واضحا من مبدأ الأمر أن «فيليل» إنما يسترشد في خطته نحو إسبانيا بالمصلحة الفرنسية وحدها، وأن فرنسا لن تتقيد في عملها بأية قرارات قد تصدر من المؤتمر مناقضة لهذه المصلحة، وأن الوزير الفرنسي لن يطلب مساعدة ما من إحدى الدول، بل ويتعذر عليه قبول هذه المساعدة إذا عرضت عليه من أجل إخضاع إسبانيا، بل ويجب عليه مقاومتها إذا فرضت هذه المساعدة عليه فرضا، أو جاءت في صورة إرسال جيش يخترق الأراضي الفرنسية في طريقه إلى إسبانيا، فبات واضحا إذن أن كل ما يستطيع المؤتمر فعله هو أن يسدي «مساعدته الأدبية» فحسب لتأييد التدخل الفرنسي في إسبانيا.
ولقد أدرك كاننج أن مضي فيليل في إصراره على التدخل المسلح بمفرده في إسبانيا من شأنه أن يمهد لخروج فرنسا من المحالفة المقدسة الجديدة، ولانفصالها منها، ومع أن سياسة كاننج كانت الحيلولة بكل وسيلة دون حصول «تدخل مشترك» من جانب دول هذه المحالفة مجتمعة، فقد تمسك بالسياسة التي سار عليها دائما، وكتب إلى دوق ولنجتون، مندوبه في المؤتمر (في 27 سبتمبر 1822) أن حكومته مستمسكة بسياسة عدم التدخل «مهما كانت النتائج»، وكان الإصرار على هذه السياسة من جانب إنجلترة السبب الذي أدى إلى فشل المؤتمر في النهاية، وفي 30 نوفمبر 1822 غادر ولنجتون فيرونا.
ولا شك في أن السبب الآخر في فشل المؤتمر كان تصميم فيليل - من ناحية أخرى - على المضي في سياسة «تدخل» ثابتة، ومستقلا عن الدول إذا لزم الأمر، ووجه الخطر في هذه السياسة أن استعداد فرنسا لخوض غمار الحرب من أجل إرجاع البربون إلى عرش إسبانيا بسلطاتهم المطلقة السابقة، إنما كان معناه إحياء سياسة «الميثاق العائلي» القديم بين فرنسا وإسبانيا (بتاريخ 7 نوفمبر 1733).
ومن المحتمل كذلك أن يتبع هذا التدخل محاولات أخرى من أجل إعادة فتح المستعمرات الإسبانية في أمريكا، فقد صرح فيليل في ديسمبر 1822 بأنه: «إذا شاءت الحكومة الإسبانية إرسال أحد أبناء الأسرة المالكة إلى المكسيك، أو إلى بيرو، أو إلى أي مكان في أمريكا الإسبانية، على رأس جيش لمحاولة استئناف العلاقات بين المستعمرات وبين إسبانيا، فإن الحملة التي يجري إعدادها الآن في مواني فرنسا على استعداد لأن تكون تحت أمر الحكومة الإسبانية لنقل عضو البيت المالك مع الجيش المزمع إرساله معه إلى أي مكان يريدون أن يذهبوا إليه»، وذلك ما كان ينطوي على تهديد مباشر لمصالح إنجلترة، التي وجدت حينئذ إذا كان في استطاعة فرنسا إحراز التفوق السياسي في إسبانيا الأوروبية - بفضل ما لديها من قوات مسلحة تستخدمها لهذه الغاية - فمن الواجب على إنجلترة أن تعمل لإحراز التفوق التجاري في أمريكا الإسبانية، ولكن باستخدام الوسائل الدبلوماسية، وكان موقف كاننج في هذه المسألة بالذات - وما تفرع عنها - من العوامل الحاسمة التي قضت على الاتحاد الأوروبي في النهاية.
مسألة أمريكا الإسبانية
وذلك لأن كاننج قد صح عزمه من أول الأمر على أنه إذا أتيح لفرنسا الاستيلاء على إسبانيا، أو الاستئثار بالنفوذ الأعلى بها - وقد بقيت الجيوش الفرنسية التي أعادت فردنند السابع إلى العرش بحكومته المطلقة، معسكرة في إسبانيا حتى سنة 1827 - فالواجب أن يكون استيلاء فرنسا على إسبانيا وحدها، ودون الاستحواذ على أملاكها في «الهند الغربية»، بل اعتقد كاننج أن امتداد النفوذ الفرنسي إلى إسبانيا، وتوطده بها من شأنه أن يؤدي إلى اختلال التوازن الدولي في أوروبا.
ولذلك صار حتما على حكومته أن تبذل كل جهودها لمؤازرة المستعمرات الإسبانية في نصف الكرة الغربي؛ حتى تتحرر هذه من كل نفوذ إسباني وأجنبي بها، فتصبح دولا مستقلة وعاملا حاسما لذلك في إعادة التوازن الدولي في القارة الأوروبية؛ لأن حرمان إسبانيا، أو فرنسا - في حالة امتداد نفوذها إلى إسبانيا - من المستعمرات الأمريكية سوف يحرمهما القوة التي تجعل لهما النفوذ المستعلي في أوروبا، أضف إلى هذا أن إسبانيا يتعذر عليها معالجة مشكلة الاعتداءات التي كانت تقع من جانب المستعمرات على السفن والملاحة الإنجليزية، في حين أن كل ما يهتم به الإنجليز أن تبقى العلاقات التجارية قائمة لا يعطلها شيء بينهم وبين المستعمرات الإسبانية في أمريكا، ثم إن وزير خارجية فرنسا «شاتوبريان» يريد التدخل بين إسبانيا ومستعمراتها الثائرة عليها في كوبا وبرتوريكو، ويريد علاوة على ذلك أن ينصب أمراء فرنسيين من آل بربون في المستعمرات الإسبانية التي حصلت على استقلالها الفعلي، في المكسيك، وبيرو، وبونس إيرس، وهو مشروع كشف القناع عن نوايا فرنسا ومبلغ أطماعها، وبات واجبا على كاننج أن يعمل لتعطيل هذه المشروعات بكل وسيلة.
ولقد تعددت العوامل التي ساعدت على فشل مشروعات «شاتوبريان»، عندما لم تكن الحكومة الفرنسية ذاتها متحمسة لها؛ ولأن الملك فردنند السابع رفض أن يستولي أمراء البربون الفرنسيون على شيء من الأملاك الإسبانية، ولأن الحكومة الإنجليزية - وسياستها كما عرفنا - رفضت أن يحصل تدخل فرنسي في شئون المستعمرات الإسبانية في أمريكا، أضف إلى هذا كله أن الولايات المتحدة الأمريكية عارضت كل تدخل يأتي من جانب أوروبا، وبالأحرى من جانب فرنسا في شئون أمريكا اللاتينية، أي الجنوبية.
أما عدم تحمس الحكومة الفرنسية عموما لمشروعات وزير خارجيتها «شاتوبريان» فقد ظهر عندما استطاع كاننج أن يحصل بعد مفاوضة مع سفير فرنسا في لندن الدوق دي بولينياك
على بيان قاطع في 9 أكتوبر 1823 بأن فرنسا ليست لديها أية نوايا للعمل المسلح ضد المستعمرات الإسبانية.
وكان موقف الولايات المتحدة الأمريكية على قدر كبير من الأهمية؛ لأنه أسفر عن وضع مبدأ عام شامل يمنع العالم القديم - أي الدول الأوروبية - من التدخل في شئون «العالم الجديد» بأجمعه، وليس فيما هو متصل بالمستعمرات الإسبانية وحدها فقط، فقد بعث الرئيس جيمس منرو
Monroe
في 8 مارس 1822 برسالة إلى مجلس الكونجرس الأمريكي يوصي فيها بضرورة الاعتراف بكل مستعمرة إسبانية استطاعت التحرر والخلاص، أمة مستقلة، وكانت الولايات المتحدة قد أخرجت إسبانيا من أمريكا الشمالية، منذ أن ابتاعت لويزيانا من فرنسا (في سنة 1803 وكان نابليون قد أرغم إسبانيا على إرجاعها إلى فرنسا قبل ذلك بثلاث سنوات)، واستولت على فلوريدا نهائيا منذ 1819، وصارت تريد الآن إخراج إسبانيا من أمريكا اللاتينية (الجنوبية)، فاعترفت بأن لأهل المستعمرات الإسبانية الثائرة صفة المحاربين النظاميين في حرب أهلية، ثم إنها فتحت موانيها لسفنهم، فكانت لا تنظر كذلك بعين الارتياح للتطورات الأوروبية التي أفضت إلى تدخل فرنسا في المسألة الإسبانية، وساءتها المشروعات التي أتى بها «شاتوبريان»، والتصريح الذي أدلى به «فيليل». وهكذا التقت الرغبات الأمريكية في هذه الناحية بالرغبات الإنجليزية.
وحينما كان كاننج يتفاوض مع الدوق بولينياك من أجل الحصول على بيان 9 أكتوبر 1823 السالف الذكر؛ كانت تجرى مفاوضة أخرى بينه وبين الوزير الأمريكي في لندن «ريتشارد رش
Rush » غرضها استمالة الحكومة الأمريكية إلى استصدار تصريح مشترك بينها وبين بريطانيا، ضد أي تدخل أوروبي في أمريكا، وذلك في وقت كانت حكومات الحلف المقدس تسعى فيه لدعوة مؤتمر أوروبي جديد لتقرير الوساطة بين إسبانيا ومستعمراتها الأمريكية، ومن المتوقع أن ينعقد هذا المؤتمر بالرغم من تخلي فرنسا عن أية مشروعات من جانبها للتدخل الفعلي «أو المسلح».
وعلى ذلك فقد اقترح كاننج على الوزير الأمريكي، منذ 16 أغسطس سنة 1823 أن تشترك الحكومتان: الأمريكية والإنجليزية في اتخاذ إجراء يمنع فرنسا من التدخل في شئون المستعمرات الإسبانية في أمريكا، فعمد الرئيس «منرو» إلى استشارة الرئيسين السابقين: جفرسون
Jefferson ، وماديسون
Madison
في الأمر، فأوصى كلاهما بقبول مقترحات كاننج، وذلك في رأي جفرسون؛ لأن أوروبا كانت تعمل جادة في هذا الحين لتغدوا مركزا للطغيان والرجعية، الأمر الذي يقتضي الأمريكيين أن يعملوا - وبجد كذلك - ليصبح نصف الكرة الغربي موئلا للحرية، وذلك مسعى - كما قال جفرسون - في مقدور أمة واحدة فقط، أكثر من غيرها، هي الأمة الإنجليزية أن تعطله.
ومع ذلك فقد جاءت هذه الأمة نفسها تعرض على الأمريكيين الإرشاد والمعاونة، والاستعداد للسير معهم في الطريق الموصل لهذه الغاية، ومن صالح الأمريكيين أن يقبلوا مقترحاتها؛ حتى يفصلوا هذه الأمة الإنجليزية من العصبة الرجعية في أوروبا، وحتى يجذبوها بقواتها البحرية الكبيرة إلى صف الحكومات الحرة، وذلك من شأنه أن يفضي في النهاية إلى تحرير قارة بأسرها (هي قارة أوروبا).
ولقد كان لهذه القوات البحرية الإنجليزية الكبيرة وزن كذلك في تشكيل الأسباب التي جعلت الرئيس السابق «ماديسون» يوصي بقبول مقترحات كاننج، ففي رأيه أن الولايات المتحدة تستطيع مواجهة العالم دون خوف أو وجل، في عصر اشتد فيه النضال بين الحرية والطغيان، إذا هي ضمت إلى قواتها الأساطيل البريطانية، ومن واجب الولايات المتحدة تأييد الحرية - على الأقل - في هذا الجزء من العالم.
والواقع أنه حينما كان كاننج يريد منع إسبانيا من أن تسترجع في يدها احتكار التجارة في مستعمراتها الأمريكية القديمة، كانت الولايات المتحدة الأمريكية تعمل من ناحيتها لتحقيق الغرض المزدوج الذي تحدثنا عنه سابقا، وهو منع الدول الأوروبية من فتح بلدان أمريكا اللاتينية (الجنوبية) وإخضاعها لسلطانها، ثم استمالة إنجلترة إلى الارتباط معها في سياسة مشتركة، تصرف إنجلترة نهائيا عن «النظام الأوروبي» وتدفعها للوقوف إلى جانب الحكومات الحرة.
ومع ذلك فقد لقي الاقتراح الإنجليزي كل معارضة من جانب وزير الخارجية الأمريكية وقتئذ «جون كونيزي آدمز
Adams »
8
الذي بنى رفضه العمل المشترك مع إنجلترة على اعتبارات عدة، مبعثها خوفه من أن تؤدي هذه المشاركة إلى دخول الولايات المتحدة ذاتها دائرة «النظام الأوروبي» الذي تسعى لانتزاع بريطانيا منه، ثم خوفه من أن التصريح المنشود ضد أي تدخل أوروبي في أمريكا لا يلبث حتى يتخذ شكلا يدل على أن الدولتين (إنجلترة والولايات المتحدة) ليس غرضهما مجرد الحيلولة وحسب دون استيلاء دولة أوروبية على قسم من أملاك إسبانيا في أمريكا، بل إنهما تتعهدان فوق ذلك بالامتناع هما أيضا عن فعل ذلك، الأمر الذي يغل يد الولايات المتحدة فلا تستطيع في المستقبل الاستيلاء على بعض الأقاليم التي كانت تريدها، مثل تكساس
Texas ، أو كوبا
Cuba ، وكان «آدمز» يرغب على وجه الخصوص في الاستيلاء قريبا على كوبا، فكان في رأيه إذن أن من الضروري أن تبتعد الولايات المتحدة كل البعد عن «النظام الأوروبي»، وأن تحرص على أن يبقى الباب مفتوحا لتضم إليها ما تشاء من الأقاليم في المستقبل، أي إن «آدمز» لم يكن يريد التقيد بتصريح يغل يد الولايات المتحدة عن العمل.
ولقد أخذ الرئيس «منرو» بهذه الاعتبارات التي عززها انتفاء كل خطر مباشر من جهة أوروبا نتيجة للاتفاق الذي حصل بين كاننج وبولينياك في 9 أكتوبر 1823، وكان تحت تأثير هذه الاعتبارات إذن أن أصدر «منرو» تصريحه المشهور الذي تضمنته رسالته إلى مجلس الكنجرس الأمريكي في 2 ديسمبر 1823، وكان هذا التصريح يشمل المبادئ الآتية؛ وأولها: أن الولايات المتحدة ليست لها أية مصلحة، ولا تريد التدخل في شئون أوروبا السياسية، وأنها تريد من الدول الأوروبية وتطلب منها الابتعاد عن التدخل في شئون العالم الجديد السياسية، بل إنها لن تتردد في قتال أية دولة تحاول أن تفرض أو أن تبسط سيطرتها السياسية في أمريكا، وأخيرا أن الولايات المتحدة لا تتدخل في شئون المستعمرات والممتلكات الحالية التي للدول الأوروبية «في أمريكا ».
تلك كانت القواعد التي يتألف منها «مبدأ منرو
Monroe Doctrine » الذي استلفت وقت صدوره أنظار رجال السياسة في أوروبا، فسبب انزعاجا كبيرا للوزير الفرنسي «شاتوبريان»، الذي اعتقد أنه إنما صدر بناء على تأييد من بريطانيا أو لمجرد إرضائها، وكتب ليبزيلترن
Lebzeltern
السفير النمسوي في بطرسبرج إلى البرنس مترنخ يصف الدهشة العظيمة التي أثارتها في العاصمة الروسية، رسالة الرئيس منرو إلى الكنجرس، وأما مترنخ فقد قابل إعلان هذا المبدأ بشن هجوم عنيف على رسالة الرئيس الأمريكي، حتى إنه قال: «ينبغي على الدول أن تتخذ الإجراءات التي تمنع أطفال أوروبا من أن يصبحوا الرجال البالغين في أمريكا.»
ولقد أبلغ الرئيس منرو الوزير الإنجليزي في واشنطون «أدنجتون
Addington »
9
أن السياسة الأمريكية التي أفصح عنها مبدأ منرو، إنما هي متفقة في نظره مع السياسة الإنجليزية، ولقد كان ذلك صحيحا؛ لأن مبدأ منرو قد صدر فعلا بموافقة الحكومة الإنجليزية، بل كان صدوره نتيجة للاقتراح الذي جاء من جانب كاننج لمنع التدخل الأوروبي في شئون أمريكا، أو بالأحرى في شئون المستعمرات الإسبانية في أمريكا.
ومن المحتمل في رأي كثيرين، أن الحكومة الإنجليزية هي التي اقترحت استصدار هذا المبدأ من جانب واحد، كما أنه من المقطوع به لو صممت فرنسا على إرسال جيشها لنجدة القوات الإسبانية في أمريكا لكان الأسطول الإنجليزي قد بادر بمؤازرة الولايات المتحدة في الحرب التي تنشب حينئذ بينها وبين فرنسا؛ لأن بريطانيا وهي صاحبة إمبراطورية مترامية الأطراف كان يعنيها - كما يعني الولايات المتحدة تماما - أن تبقى أمريكا بعيدة عن كل سيطرة أجنبية، وتلك حقيقة شرحها كثيرون في قولهم: إن مبدأ منرو كان يعتمد دائما في بقائه على قوة البحرية البريطانية، بل إن الاعتماد على قوة البحرية البريطانية كأساس عملي لقيام المحالفة الإنجليزية الأمريكية، كما ارتسمت في ذهن كل من جفرسون وماديسون، كان ركن الزاوية في ذلك «النظام الأطلنطي» الذي بدأ التفكير في إقامته في سنة 1823 كإجراء مناهض ومعارض «للنظام الأوروبي»؛ لتحقيق الغرض المزدوج الذي سبق الكلام عنه: منع الدول الأوروبية من الإقدام على فتح البلدان الأمريكية اللاتينية «في أمريكا الجنوبية»، وضمان انضمام إنجلترة إلى جانب الحكومات الحرة وانصرافها عن النظام الأوروبي المعروف برجعيته الشديدة وقتئذ.
وعلى ذلك فمع أن التصريح الذي تضمنته رسالة الرئيس منرو إلى مجلس الكنجرس الأمريكي، كان تصريحا من جانب واحد
Unilateral ، فقد جاء محققا للأغراض التي أرادها كاننج، وبينما انتصرت الرجعية في إسبانيا أمكن أن تنجو أمريكا الجنوبية (اللاتينية) من طغيان الحلف المقدس.
وكانت الحكومة الإنجليزية قبل صدور مبدأ منرو بستة أسابيع فقط (في 17 أكتوبر 1823) قد أوفدت قناصلها إلى المدن الهامة في أمريكا الجنوبية، وأما القوات الإسبانية فقد لحقت بها الهزيمة في آخر المعارك التي خاضت غمارها في بيرو (في ديسمبر 1824)، وفي هذا العام الأخير نفسه اعترفت إنجلترة باستقلال بونس إيرس، وكلومبيا، والمكسيك، وفي 2 فبراير 1825 عقدت إنجلترة معاهدة صداقة وتجارة وملاحة مع الأرجنتين (بونس إيرس) تعرف بمعاهدة ري ودي لابلاتا، واعترفت باستقلال «اتحادها الكونفدرائي»، ثم إنها اعترفت باستقلال بوليفيا وبيرو وشيلي في السنة نفسها، وبذلك تكون قد زالت أو كادت تزول من الوجود كلية الإمبراطورية الإسبانية في أمريكا.
وهكذا تسببت سياسة كاننج في فشل الحلف المقدس، وتبعا لذلك في إخفاق محاولة الدول أن تحكم أوروبا بطريق «المؤتمرات»، ومرد ذلك إلى أن إنجلترة ما كانت تجد في هذه المؤتمرات ما يحقق الأغراض التي أرادتها سياستها، ولم تكن احتجاجات كاننج مجرد عبارات بليغة وحسب، عندما أخذ يتساءل عن ذلك النفوذ الذي قيل إنه كان لإنجلترة في مشاورات التحالف «الأوروبي»، والذي قال كاننج: «إن مترنخ كان يحث الحكومة الإنجليزية على عدم التفريط به»، ثم انبرى كاننج يقول: «لقد رفعنا صوتنا بالاحتجاج في ليباخ، ثم عارضنا معارضة شديدة في فيرونا، ولكن احتجاجاتنا اعتبرت كقصاصة ورق لا قيمة لها، وذهبت معارضتنا أدراج الرياح، فإذا كان لنفوذنا أن يبقى قائما في الخارج فالواجب أن يعتمد هذا النفوذ على مصادر القوة في داخل بلادنا، وتلك تكون بالتعاطف والتفاهم بين الشعب والحكومة، وتتم في الاتحاد بين الشعور السائد والمشورة التي يتفق عليها الرأي العام، ثم في الثقة المتبادلة والتعاون الكامل بين مجلس العموم والتاج البريطاني.»
وأخيرا كان موقف كاننج في المسألة البرتغالية أحد الأسباب الحاسمة التي أدت كذلك إلى إخفاق محاولة الحكم في أوروبا عن طريق المؤتمرات السياسية.
المسألة البرتغالية
ويرجع تاريخ المسألة البرتغالية، فيما يتعلق بسياسة كاننج، إلى سنة 1807 عندما أصدر نابليون الأول قراره المعروف بانتهاء حكم أسرة براجانزا
Braganza ، وهي الأسرة الحاكمة في البرتغال، فقد فرت هذه الأسرة من البرتغال في الوقت المناسب، ونقلت مركز الحكومة إلى البرازيل، وعند سقوط نابليون (1815) كان من المنتظر أن يعود الملك يوحنا السادس إلى لشبونة، ولكنه فضل - كما سبق القول - الإقامة في ريو دي جانيرو، وصارت البرتغال تشغل مركزا ثانويا بالنسبة لمستعمراتها، ثم بقي الحال على ذلك إلى أن امتدت الثورة من إسبانيا إلى البرتغال سنة 1820، فاضطر يوحنا السادس للعودة إلى البرتغال ليوطد سلطانه بها (1821)، أما في البرازيل؛ فقد عمد أهلها في العام التالي إلى نبذ سلطان البرتغالي، والمناداة بأكبر أبناء الملك «دون بدرو
Dom Pedro » إمبراطورا دستوريا عليهم في مايو 1822.
ومع ذلك فإن تدخل فرنسا الناجح وقتئذ في شئون إسبانيا لم يلبث أن أحيا آمال الرجعيين في البرتغال بزعامة الملكة كارلوتا
Carlota
زوجة يوحنا السادس التي رفضت أن تنفصل البرازيل عن البرتغال، واعتمدت على مؤازرة ابنها الأصغر دون مجويل
Miguel
وارث عرش البرتغال، في حمل الملك يوحنا السادس على اعتزال العرش حتى تتمكن من تنفيذ أغراضها، فانتهز الفرصة الوزير الفرنسي في لشبونة «هيد دي نوفيل
Hyde de Neuville » وصار يبذل قصارى جهده ليجعل النفوذ الفرنسي يحتل مكان الصدارة في البرتغال بدلا من نفوذ الإنجليز حلفاء البرتغال من قديم الزمان، وتدخل لإحالة النزاع على الحكومة الفرنسية، ثم عرض على الملك يوحنا استقدام جنود فرنسيين من إسبانيا - وكان لا يزال بها بعض الحاميات الفرنسية - إلى البرتغال لنجدته، فعارض كاننج في هذا التدخل الفرنسي بمجرد أن بلغته أنباؤه، وأخذ يهدد البرتغال بحرمانها من مساعدة بريطانيا لها.
وكان أنصار الدستور في البرتغال قد طلبوا مساعدة بريطانيا العسكرية، ولكن كاننج الذي نادى دائما بمبدأ عدم التدخل لم يكن في وسعه إجابة هذه الرغبة؛ ولذلك فقد اكتفى بإرسال أسطول بريطاني صغير إلى نهر التاجة (التاجوس) وراح يوضح في الوقت نفسه لفرنسا ولسائر الدول، أنه لما كانت إنجلترة قد امتنعت عن التدخل لتأييد فريق معين فقد بات واجبا على فرنسا أن تمتنع هي الأخرى عن التدخل لتأييد الفريق الثاني.
وأفاد وجود الأسطول الإنجليزي في مياه نهلر التاجوس؛ لأن دون مجويل لم يلبث أن قام بانقلاب حكومي في أبريل 1824، فاضطر الملك يوحنا للالتجاء إلى إحدى السفن البريطانية ليستأنف نشاطه منها، ولينجح في استرجاع عرشه، وعندئذ ذهب دون مجويل إلى المنفى (13 مايو 1824) فأعيد النظام، وأبعد المؤيدون للمصلحة الفرنسية، ورأى «فيليل» أن يحد من غلواء وزير خارجيته «شاتوبريان»؛ فبادر باستدعاء «هيد دي نوفيل» من لشبونة في ديسمبر 1824، فلم ترسل فرنسا جيشا إلى لشبونة، وبالتالي لم تذهب أية قوات - وعلى خلاف ما كان يبغي شاتوبريان - إلى البرازيل، وانتصرت سياسة كاننج.
وفي العام التالي (1825) توسط كاننج لتسوية الخلافات القديمة بين البرازيل والبرتغال، فأسفرت مساعيه في مؤتمر عقد لهذه الغاية في لندن، عن إبرام معاهدة في 29 أغسطس 1825، اعترف بموجبها يوحنا السادس باستقلال البرازيل، «وبولده المحبوب» دون بدرو، إمبراطورا عليها.
ولكن ما إن توفي يوحنا السادس في مارس 1826 حتى قام النزاع بين أنصار مجويل الرجعيين، وبين الإمبراطور بدرو، وطلب المجويليون من إسبانيا أن تتدخل في النزاع القائم، وعندئذ اضطر كاننج للتدخل في ديسمبر 1826 حتى يمنع إسبانيا من تلبية هذا الطلب، وكان المبدأ الذي استند إليه كاننج لتبرير تدخله أن إنجلترة وإن كانت لا تريد التدخل لتأييد جماعة دون أخرى في البرتغال، فهي لا يمكنها في الوقت نفسه أن تجيز لغيرها هذا التدخل، وفي البرلمان أعلن كاننج أن قوة بريطانية قد أرسلت إلى البرتغال، فحال هذا الموقف الحاسم دون التدخل الإسباني .
وهكذا تحطمت سياسة التدخل التي أرادها الحلف المقدس، وذلك في الوقت الذي كانت تبدو فيه هذه السياسة كأنها حقيقة واقعة في أوروبا، وكان تحطمها على صخرة المسألتين: الإسبانية الأمريكية، والبرتغالية البرازيلية، وفي 12 ديسمبر 1826 استطاع كاننج أن يقف في البرلمان ليقول في زهو وافتخار: «هل كان من الضروري إذا احتلت فرنسا إسبانيا أن نضرب نحن نطاق الحصار على قادش، حتى نتجنب نتائج هذا الاحتلال؟ كلا، لقد تطلعت إلى طريق آخر، وبحثت عن تعويض لنا في نصف الكرة الثاني، ذلك أني حين صرت أفكر في أمر إسبانيا، وبالصورة التي عرفها بها أجدادنا من قبل، لم يلبث أن تقرر لدي أنه إذا استولت فرنسا على إسبانيا فلتكن إسبانيا وحدها، ودون الهند الغربية! لقد أردت أن يبرز العالم الجديد إلى الوجود؛ حتى يتسنى إعادة توازن القوى إلى نصابه في العالم القديم.»
فشل الاتحاد الأوروبي
كان معنى تحطيم سياسة التدخل، إخفاق فكرة الاتحاد الأوروبي، ومن أول الأمر تجمعت الأسباب التي أدت إلى هذا الفشل، وذلك منذ أراد السياسيون الرجعيون - وعلى رأسهم مترنخ - أن يجعلوا من المحالفة - التي استند إليها الاتحاد الأوروبي، والتي كانت وسيلة فحسب لمراقبة فرنسا - أداة الغرض منها القضاء على كل الثورات والحركات الدستورية والأهلية، والتدخل في شئون الدول الداخلية، ثم إن أعضاء الحلف المقدس لم يجعلوا هذا التدخل مقصورا على الدول الأوروبية، بل أرادوا التدخل في شئون العالم الجديد، الأمر الذي عارضته إنجلترة معارضة شديدة، كما عارضته كذلك الولايات المتحدة الأمريكية.
وعندما تمسكت إنجلترة بمبدأ عدم التدخل في المسألة الإسبانية الأمريكية، وفي المسألة البرتغالية البرازيلية، كانت فكرة الاتحاد الأوروربي مقضيا عليها بالفشل كما أرادته الدول الأوتقراطية، وانقسمت الدول فريقين: فريق الدول الأوتقراطية؛ روسيا، النمسا، بروسيا، وهي أعضاء الحلف المقدس الأصيلة، وفريق الدول المتمسكة بالمبادئ الحرة: وهي الدول الغربية، إنجلترة، وأخيرا فرنسا، ثم الولايات المتحدة الأمريكية التي وقفت إلى جانب إنجلترة في مشكلة المستعمرات الإسبانية في أمريكا، فعطلت مطامع وأغراض الدول الأوتقراطية الرجعية صاحبة مبدأ التدخل في شئون الدول الداخلية.
وفي الفترة التالية زاد الانقسام، واتسعت شقة الخلاف بين الدول عندما تطلبت المسألة الشرقية حلا حاسما لتهدئة اليونان وتحريرها من السيطرة العثمانية، فوضع استقلال اليونان - كما سيأتي ذكره - تحت ضمان بريطانيا وفرنسا وروسيا، بدلا من وضعه تحت ضمان التحالف الأوروبي عامة، أضف إلى هذا أن الدول التي اضطرت إلى العمل المشترك في مسألة استقلال بلجيكا، وتوطيد ملكية أورليان في فرنسا (بعد ثورة يوليو 1830)، لم تلبث أن وجدت نفسها منقسمة بعضها على بعض بسبب الثورات التي انتشرت في أوروبا في هذا العام نفسه، فتعاقدت كل من روسيا، النمسا، بروسيا في اتفاق برلين السري في15 أكتوبر 1833 على أساس تأكيد المبادئ التي تضمنها بروتوكول ترباو المعروف (19 نوفمبر 1820).
ومن ذلك الحين أصبح الحلف المقدس بمثابة اتحاد صريح بين الدول الملكية الثلاث الشرقية للذود عن الأوتقراطية ضد أخطار الثورة، ومع ذلك فقد كان من نتيجة عقد هذا الاتفاق السري في برلين، أن الاتحاد الأوروربي، أي العمل المشترك بين الدول في المسائل التي تعرض لها، ظل عاملا هاما في السياسة الدولية، ويرتكز - كما أرادت السياسة البريطانية دائما - على قاعدتي احترام الارتباطات التي تضمنتها المعاهدات المبرمة بين الدول، وأن للدول التي يخصها الأمر الحق في نظر المسائل التي ينجم من إثارتها تهديد لمصالحها، وفي الفترة التالية حدث أول اختبار لفكرة الاتحاد الأوروبي، في هذا الوضع الجديد، عندما تلبدت في أفق السياسة الدولية غيوم المسألة الشرقية.
الفصل الثالث
المسألة الشرقية
اليونان ومصر
تمهيد
المسألة الشرقية تعبير يقصد به تعريف الإمبراطورية العثمانية في ضوء علاقاتها مع الشعوب التي خضعت لها وتألفت منها الإمبراطورية، ثم في ضوء علاقاتها مع الدول الأوروبية خصوصا، وموقف هذه الدول منها؛ ولذلك فإن تاريخ المسألة الشرقية إنما يمر في دورين هامين: أولهما؛ يستغرق القرنين الخامس عشر والسادس عشر، حين بلغت الدولة العثمانية أوج قوتها، فلم يكن يشغل أوروبا حينئذ غير التفكير في أجدى الوسائل التي يمكن بها تجنب الخطر العثماني ودفعه عنها، وأما ثانيهما: فقد استمر طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وذلك عندما أخذ الضعف يدب في جثمان الدولة وانهزم العثمانيون أمام أسوار فينا (1683)، ثم في واقعة موهاكز بعد أربع سنوات (1687)، وفي القرن الثامن عشر كان الذي اهتمت به الدول هو البحث في الطريقة التي يمكن بها ملء الفراغ الذي نجم من تقلص سلطان الدولة العثمانية بصورة تدريجية من أوروبا، ولقد كان في أواخر هذا الدور أن اتخذت المسألة الشرقية ذلك الشكل الحديث الذي عرفتها به أوروبا خلال القرن التاسع عشر.
وأهم العوامل التي أبرزت المسألة الشرقية ذلك شكلها الحديث، كانت ازدياد ضعف العثمانيين في القسطنطينية، ونهضة شعوب البلقان الصغيرة المسيحية، واطراد نمو الشعور القومي بين هذه الشعوب، ثم الأثر الذي نجم من تفاعل هذين العاملين على سياسة الدول الأوروبية الكبرى.
فقد اشتركت كل من روسيا والنمسا بين سنتي 1788، 1791 في مهاجمة تركيا، وأخذت روسيا لنفسها حق حماية المسيحيين داخل الإمبراطورية العثمانية، وتقدمت في زحفها صوب البحر الأسود، حتى ضمت إليها ميناء آزوف، ولقد حاول وقتئذ الوزير الإنجليزي «ويلم بت الأصغر» إظهار خطر التقدم الروسي على كيان الدولة العثمانية، وما سوف يترتب عليه من آثار في محيط السياسة الدولية، ولكن دون جدوى، ومن ذلك الحين وضعت إنجلترة المبدأ الذي استرشدت به سياستها في المسألة الشرقية عموما مدة التسعين سنة التالية، وهو المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية، ثم لم تلبث أن سلكت النمسا في سنة 1791 طريق الاعتدال مع تركيا، فأعادت إليها كل الفتوحات السابقة تقريبا، وانبنت سياستها على الرغبة في مساعدة الدولة العثمانية وحمايتها.
وكان السبب في سياسة المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية، من جانب النمسا وإنجلترة؛ أن هاتين الدولتين صارتا تدركان منذ 1791 أن تركيا وإن ظلت حقيقة مصدر أخطار على أوروبا، فإن ذلك لم يكن بسبب قوتها كما كان الحال في الأزمنة السابقة، ولكن بسبب ضعفها؛ ولذلك فحينما كانت روسيا في مطلع القرن التاسع عشر لا تزال تهتم بمتابعة الزحف على شواطئ البحر الأسود، وتهدف دائما لامتلاك القسطنطينية، جعلت النمسا من نفسها رقيبا على النشاط الروسي، وهددت بالانقضاض على جناح روسيا إذا أثارت هذه الحرب مع تركيا، وانشغلت بها، أما إنجلترة فقد صممت على حماية التجارة في حوض البحر الأبيض الشرقي (الليفانت)، والدفاع عن القسطنطينية ذاتها ضد كل هجوم يقع عليها.
ومن أواخر القرن الثامن عشر، كان واضحا أن المسألة الشرقية سوف تحمل الدول الكبرى على التدخل عاجلا أو آجلا في شئون الإمبراطورية العثمانية ، التي أخذت تنتشر الاضطرابات في أنحائها بسبب ما ظهر من رغبة قوية في التخلص من الحكم العثماني، والظفر بالاستقلال من جانب الشعوب المسيحية في داخل الإمبراطورية العثمانية، في حين اعتبرت الدولة نشاط رعاياها هؤلاء عصيانا يجب إخماده بكل الطرق، ولو استلزم الأمر اللجوء للمجازر ووسائل الإبادة الأخرى.
وثمة سبب آخر للتدخل؛ هو أن الدولة العثمانية لم تحاول أن تصلح شيئا من أحوال «الذميين» وهم رعاياها المسيحيون، حتى إذا كانت قد اضطرت في بعض الأحايين إلى منح هؤلاء قدرا من «الامتيازات» التي تحفظ لهم أرواحهم وأعراضهم وأموالهم، فإن هذه «الامتيازات» لم تكن لها قيمة من الناحية العملية.
ولذلك، لم تلبث أن ظهرت بوضوح في مطلع القرن التاسع عشر العناصر الجوهرية التي تألفت منها مشكلة «المسألة الشرقية»، وهي: أولا: وجود حكومة أو دولة شرقية في أوروبا تسيء الحكم بين ملايين من الشعوب المسيحية الخاضعة لسلطانها، وذلك في الوقت الذي كان ظاهرا فيه أن الضعف ينتاب هذه الحكومة أو الدولة الشرقية، وأنها تسير تدريجيا في طريق الانحلال، وثانيا: وجود مجموعة من الحكومات أو الدول الأوروبية التي تهتم بمصير هذه الحكومة أو الدولة الشرقية، ثم وجود روسيا من بين هذه الحكومات، وقد انفردت وحدها في رغبة العمل على زيادة هذا الانحلال العثماني سرعة على سرعته، وثالثا: وأخيرا، وجود مجموعة من الشعوب التي نضج شعورها القومي، وصارت تريد التخلص من السيطرة العثمانية.
ولقد كان من هؤلاء الأخيرين الصرب، الذين بدءوا الثورة ضد تركيا قبل غيرهم من الشعوب البلقانية؛ فقد ثار الصرب بقيادة قره جورج، (ومعنى قره
Kara : الأسود) في سنة 1804، واستمر النضال مدة حتى نال قره جورج وعدا بإنشاء حكومة ذاتية في بلاده، وذلك في معاهدة بوخارست التي أبرمت في 28 مايو 1812 بين روسيا وتركيا، ولكن لم تلبث أن لحقت به الهزيمة، واضطر للفرار من البلاد في العام التالي (سنة 1813).
ثم استطاع منافسه وعدوه، ميلوش أوبرينوفيتش
Milos Obrenovic
إشعال الثورة في الصرب مرة أخرى في سنة 1815، وأفلح في إقامة حكومة «واقعية
de Facto »، تكفل استقلالا فعليا لبلاده، ثم تخلص من قره جورج عند عودة هذا الأخير إلى صربيا بقتله (سنة 1817)، واختار الزعماء الصربيون «ميلوش» أميرا وراثيا عليهم، وحصل على اعتراف من تركيا بهذه الإمارة سنة 1820 عندما منحته الحكومة العثمانية لقب «أمير الصرب في باشوية بلغراد»، ثم اعتمد ميلوش على روسيا في تأييد مركزه، وقد ظهر أثر هذا التأييد الذي ناله منها في المعاهدات التي عقدتها روسيا مع تركيا في أكرمان (1826) وإدريانويل (1829) - وسيأتي ذكر هاتين مفصلا - تأكد بفضلهما استقلال الصرب الذاتي، وأعلنت تركيا اعترافها بهذا الاستقلال الذاتي في 5 فبراير 1830.
وفي السنة نفسها جعلت تركيا لقب الإمارة وراثيا في أسرته، ثم صدر خط شريف بعد سنوات ثلاث (1833) رسم حدود الإمارة الصربية الجديدة، والتي بقيت مع تمتعها بالاستقلال الذاتي تدين بالتبعية للسلطان العثماني، حتى تقرر نهائيا استقلالها في سنة 1878 في ظروف سوف يأتي ذكرها.
على أن الذي يعنينا الآن أن ثورة الصرب هذه سواء في سنة 1804، أو في سنة 1815 لم تسترع وقتذاك انتباه الدول الكبرى في أوروبا، بل بقيت تسير الأمور في مجراها العادي، في حين أن الذي لفت أنظار أوروبا كان قضية شعب آخر من شعوب البلقان، هم اليونانيون الذين كانت لهم أطماع تشبه أطماع الصرب، من حيث الرغبة في التحرر من سلطان العثمانيين، فقد تحدث عن هذه «الآمال الوطنية» في مؤتمر فينا، كل من القيصر إسكندر ووزيره كابوديستريا (ومن المعروف أن الأخير من أصل كرفوي).
ولكن في مؤتمر فينا لم تكن الدول متفقة بينها على موقف معين تجاه المسألة اليونانية، فمن ناحية كانت النمسا (ووزيرها مترنخ)، تريد المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية، في حين أن روسيا (والقيصر إسكندر) تقف ضد هذه السياسة، ولقد بقي الحال على ذلك إلى أن حدث في 6 مارس 1821 أن عبر نهر بروث
، أحد اليونانيين الذين كانوا في خدمة روسيا، هو الأمير إسكندر إبسلانتي
Ypsllanty ، ليشعل الثورة ضد تركيا في ولايتها الدانوبية ملدافيا وولاشيا (البغدان والأفلاق)، فأثار بعض النجاح الذي لقيه إبسلانتي في أول الأمر اهتمام الدول، ولم يلبث أن حرك هذا الاهتمام المسألة الشرقية.
استقلال اليونان
اشتعلت الثورة في ياسي
Jassy
ببلاد البغدان (ملدافيا) في مارس 1821 وشجع على قيامها اعتماد الثوار على مساعدة القيصر إسكندر لهم، وكان غرض هؤلاء ليس فقط تحرير المقاطعات الدانوبية (الأفلاق والبغدان)، بل وطرد العثمانيين كذلك من أوروبا كلها، وإحياء إمبراطورية اليونان القديمة في الشرق «أي الدولة البيزنطية»، وأذاع إبسلانتي أنه يتلقى التأييد والعون الكامل من دولة عظمى معينة.
إلا أن القيصر الذي كان قد انحاز إلى مترنخ، ووقع على «بروتوكول ترباو» منذ نوفمبر 1820 لم يكن في وسعه تعضيد الثورة العلنية ضد صاحب السلطة الشرعية في البلاد، وهو السلطان العثماني، ثم إن رغبة الثوار في الاستقلال والتحرر من كل نفوذ أجنبي، وإنشاء الإمبراطورية البيزنطية القديمة مرة أخرى، جعل القيصر يعدل عن مساعدتهم.
ولقد تعددت - إلى جانب ذلك - العوامل التي جعلت هذه الثورة مقضيا عليها بالفشل من البداية، من ذلك قيام الثورة في المقاطعات (الولايات) الدانوبية، أي بعيدة عن أرض المورة (اليونان)، وتوجيه الدعوة للفلاحين ملاك الأرض، أي طبقة البويار
Boyar ، وهم من الفلاحين «الولاشيين»؛ ليقوموا بالثورة، في حين أن هؤلاء إنما كانوا يكرهون اليونانيين - الذين يحكمونهم مباشرة - أكثر من كراهيتهم للأتراك، أضف إلى هذا وجود الفوارق الجنسية بين اليونانيين الذين يشعلون الثورة، وبين الرومانيين والبلغار أهل مقاطعتي الأفلاق والبغدان، ثم إن اليونانيين اعتمدوا على تحريك ثورة كانت في جوهرها «طبقية»، باستثارة البويار ضد الطبقة الحاكمة العثمانية، وفضلا عن ذلك فإن إبسلانتي بدلا من الزحف فورا على بوخارست واحتلالها قبل أن يتحرك الأتراك لمطاردته أضاع الوقت في ياسي، حيث أخذ يسلك مسلك الملك المتوج، فانفض أتباعه من حوله، ثم إنه أقر المجازر التي ذهب ضحيتها ألوف المسلمين في «جالاتز
Galatz » وياسي وغيرهما، فانصرف كثيرون عن قضيته.
وجاءت بوادر الفشل عندما بعث «كابوديستريا» برسالة إلى إبسلانتي يوبخه فيها على إساءة استخدامه اسم القيصر، ويأمره بإلقاء السلاح فورا، وكان في صالح إبسلانتي أن يفعل ما أمر به، ولكنه أعلن أن تنصل القيصر وإنكاره العلني للثورة ليس إلا مناورة غرضها المحافظة على السلام في أوروبا، في حين أن القيصر قد أكد له سرا إسداء روسيا كل معاونة له، ولقد كان هذا ادعاء لا فائدة فيه؛ لأن الاختلافات والنزاعات أخذت تتفاقم بين اليونانيين والفلاحين الولاشيين الذين كانوا انضموا إليهم، ولأن الجيوش العثمانية الزاحفة عليهم لم تلبث أن أوقعت بقوات الثوار اليونايين الرئيسية هزيمة حاسمة في معركة دراجاشان
Dragashan (في 19 يونيو 1821) فأنهت هذه الهزيمة الثورة في الأفلاق (ولاشيا)، وعندئذ فر إبسلانتي عبر حدود ترنسلفانيا إلى النمسا.
ثم أمكن إخماد الثورة بسهولة في البغدان (ملدافيا) عندما تبين أن روسيا لن تبعث بأية نجدات للثوار الفلاحين، فعزلوا الحاكم المحلي الذي كان يؤيد إبسلانتي واضطروه هو أيضا إلى الفرار خارج البلاد، فدخل الأتراك إلى ياسي في 25 يونيو 1821، وانسحب بقايا اليونانيين إلى نهر بروث، حيث وقفوا عند «سكاليني
Skaleni »، يدافعون عن أنفسهم ببسالة، ولكن دون جدوى، وبهذه الهزيمة في «سكاليني» قضي على الثورة الشمالية نهائيا، وتلاشى بانتهائها كل أمل لدى اليونانيين في إحياء الإمبراطورية اليونانية القديمة (الدولة البيزنطية).
أما إبسلانتي فقد اعتقله مترنخ - الذي التزم خطة الحياد التام في المسألة اليونانية، وهو الذي قام النظام الرجعي في أوروبا على يديه - بمجرد عبوره الحدود النمسوية، وسجنه في قلعة موهاكز، فقضى إبسلانتي في الحبس سبع سنوات إلى سنة 1827، ثم توفي في العام التالي (1828) في فينا.
غير أن حركة إبسلانتي سرعان ما جعلت اليونانيين يقومون بالثورة في بلاد المورة وفي الجزر اليونانية هذه المرة، فبدأ اندلاع الثورة في بتراس
في أبريل 1821 دون ترتيب أو تنظيم سابق، وأوقع الثوار بالمسلمين مذبحة كبيرة، ثم امتدت الثورة عبر مضيق كورينت
Corinth
إلى الشمال، فانتشرت في مقدونيا وطراقيا
Thessaly ، ولقد تبين أن الثورة في هذه المرة تختلف عن ثورة إبسلانتي في المقاطعات الدانوبية اختلافا كليا؛ وذلك لأن «جمعية الأخوان
Hetairia Philike » السرية - وهي التي تأسست منذ 1814 في أوديسا لطرد الأتراك من أوروبا وإحياء الإمبراطورية الإغريقية القديمة (الدولة البيزنطية) - لم تكن ترضى عن الحركة التي قام بها إبسلانتي في المقاطعات الدانوبية للأسباب نفسها التي كانت من عوامل فشل هذه الثورة الشمالية، وعمل الأخوان لتحريك الثورة في المورة؛ ليقوم بها شعب متحد في الجنسية هو الشعب اليوناني، ثم تحددت أغراض الثورة فصارت الرغبة في تحرير اليونانيين من سيطرة شعب أجنبي عنهم هم العثمانيون، الذين يختلفون عنهم في الجنس واللغة والدين، ثم الظفر باستقلال اليونان فحسب بدلا من محاولة إحياء الإمبراطورية اليونانية القديمة.
وكان مما شجع الثوار على المضي في ثورتهم عصيان علي باشا والي يانينا
Janina ، ومشغولية الأتراك في الحرب ضد فارس؛ فاحتل الثوار تريبوليتزا
Tripolitza
مقر الحكومة، ومثلوا بالأتراك أفظع تمثيل، وبين سنتي 1821، 1825 كان النجاح حليف الثوار عموما، بسبب تفوقهم البحري، ثم بسبب تدفق المتطوعين من أوروبا للذود عن اليونان، وعن «حضارتها القديمة» كما اعتقدوا، ولو أن الحكومات الأوروبية ذاتها لم تتدخل في المسألة.
وفي هذه الفترة أعد اليونانيون دستورا (1822) أنشأ حكومة في مجلس تشريعي واحد، وكان رئيسها إسكندر مافروكرداتس
Mavrokordats ، ثم تألفت اللجان لمساعدة اليونانيين في جنيف وباريس ولندن، وخضعت سياسة الدول الخارجية لضغط الرأي العام في أوروبا، فصار من الواضح أن إنجلترة وفرنسا سوف تضطران تحت ضغط هذا الرأي في كل منهما إلى التدخل في المسألة اليونانية، حتى ولو بقيت روسيا ممتنعة عن التدخل في هذه المسألة، ثم لم تلبث أن عظمت الضجة في أوروبا عندما استقدم السلطان العثماني محمود الثاني، قوات واليه في مصر، محمد علي، لإخماد الثورة في اليونان، فنزل إبراهيم بن محمد علي بجيشه في المورة في فبراير 1825، وأنزل بالثوار الهزيمة، وصار لزاما على الدول الكبرى أن تهتم بأمر هذه الثورة، فبدأ من ذلك الحين التدخل الأوروبي بصورة جدية، وانفتح على مصراعيه باب المسألة الشرقية.
وكان من أسباب التدخل الأوروبي وفاة القيصر إسكندر، واعتلاء أخيه الأصغر القيصر نيقولا الأول العرش في أول ديسمبر 1825، وكان نيقولا مملوءا بالحمية والنشاط، ولم يكن يقيد نشاطه وجود اتفاقات سابقة بينه وبين الدول، على خلاف ما كان عليه الحال أيام أخيه الإسكندر؛ فاسترشد نيقولا بتقاليد روسيا السياسية القديمة في موقفه من الإمبراطورية العثمانية، وأراد مؤازرة اليونانيين في محنتهم، وساعده على ذلك وجود أسباب كثيرة تدعو للاحتكاك بين روسيا وتركيا، فقد أهملت تركيا تنفيذ المادة الخامسة من مواد معاهدة بوخارست، التي ذكرنا أنها أبرمت بين تركيا وروسيا في 28 مايو 1812، ومن بين ما نصت عليه هذه المادة أن تخلي تركيا البغدان (ملدافيا) من العسكر العثماني؛ ولذلك فقد عظم خوف النمسا وإنجلترة من أن تقوم روسيا بالهجوم الآن ودون إبطاء على تركيا.
ولقد كانت سياسة كل من كاننج ومترنخ متفقة في مبادئها الجوهرية بصدد القضية اليونانية منذ قيام الثورة في اليونان في سنة 1821 إلى وقت نزول إبراهيم باشا في أرض المورة (1825)؛ فقد اعتبر كلاهما هذا النضال مسألة خاصة بالعثمانيين واليونايين وحدهم، وأن واجب الدول العظمى أن تحول دون إقدام دولة من الدول على التدخل واستخدام القوة لفض أو تسوية النضال القائم، واعتقد كاننج إذا تدخلت روسيا منفردة بطريق الحرب لتسوية النزاع العثماني اليوناني، فذلك معناه أن تلتهم روسيا اليونان أولا، ثم تركيا ثانيا.
ولكن النجاح العظيم الذي أحرزه إبراهيم في المورة جعل روسيا تقرر قطعا ضرورة التدخل؛ لتحفظ الشعب اليوناني من الفناء والإبادة، واضطر كاننج بسبب التغيير الذي طرأ على الموقف أن يعيد النظر في سياسته، وكان كاننج يعطف على اليونانيين في نضالهم من أجل الخلاص والحرية، وإن كان في الوقت نفسه من مؤيدي سياسة إنجلترة التقليدية من أيام وليم بت الأصغر، ومن قواعدها المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية، فكانت مهمته إذن محاولة التوفيق بين هذين الاتجاهين، وذلك باستمالة روسيا إلى جانب إنجلترة في العمل لتحرير الشعب اليوناني، ثم منع روسيا في الوقت نفسه من اللجوء للحرب كوسيلة ظاهرة ومواتية لتحقيق هذه الغاية؛ وعلى ذلك فقد أراد كاننج أن يحول دون انفراد روسيا بالعمل في المسألة اليونانية.
واختار كاننج للمفاوضة مع قيصر روسيا دوق ولنجتون «الدوق الحديدي»، صاحب الشهرة العسكرية الواسعة في أوروبا، وخير شخصية «جذابة» للتأثير على حاكم روسيا الأوتقراطي، والمعروف بميوله العسكرية، فوصل ولنجتون إلى بطرسبرج في 26 فبراير 1826، وذلك في وقت كانت تأزمت فيه العلاقات بين روسيا وتركيا، فلم تمض أسابيع على وجوده بالعاصمة الروسية حتى كان قد أتم إبرام «بروتوكول بطرسبرج» في 4 أبريل 1826، وفيه اتفق الفريقان على عرض وساطتهما على تركيا - وكان اليونانيون أنفسهم قد طلبوا من قبل الوساطة بينهم وبين العثمانيين - فإذا قبل الباب العالي وساطة إنجلترة وروسيا، وضعت هاتان الدولتان تسوية للمسألة اليونانية على قاعدة إعطاء اليونان الحكم الذاتي مع بقاء التبعية لتركيا صاحبة السيادة عليها، أما إذا رفضت تركيا الوساطة تظل الدولتان متمسكتين بهذه القاعدة ذاتها كأساس لأية تسوية تحدث على أيديهما للمسألة اليونانية في المستقبل، ثم نصت المادة السادسة على إبلاغ البروتوكول إلى عواصم فرنسا والنمسا وبروسيا، ودعوة هذه الدول الثلاث لضمان المعاهدة التي تسوي العلاقات بين تركيا واليونان، وهو ضمان تعطيه روسيا كذلك.
وفي 7 أكتوبر 1826 سويت الخلافات بين روسيا وتركيا عندما عقد الفريقان معاهدة في أكرمان
Akerman ، تأيدت بفضلها نصوص معاهدة بوخارست (1812)، وتدعمت على وجه الخصوص المزايا التي كانت نالتها في هذه المعاهدة كل من الأفلاق والبغدان والصرب.
أما بروتوكول بطرسبرج فقد اتضح عند تبليغه للدول، أن فرنسا وحدها كانت مستعدة لتأييده؛ ولذلك فقد تحول بروتوكول بطرسبرج إلى معاهدة بين بريطانيا وروسيا وفرنسا، أبرمت في لندن في 6 يوليو 1827، واشتملت - إلى جانب ما جاء بخصوص التسوية في البروتوكول الأصلي - على نص صار للدول بمقتضاه أن تتبادل تعيين القناصل مع بلاد اليونان، لإنشاء الصلات التجارية معها، إذا رفضت تركيا الوساطة، وكذلك أن تعمل بقدر المستطاع «ومن غير أن تشترك مع هذا في القتال الدائر»؛ لوقف الاصطدام بين الفريقين المتحاربين.
ثم نصت المواد الإضافية في هذه المعاهدة، على أنه إذا رفض أحد الفريقين المتحاربين «الهدنة» التي تعرضها الدول مع وساطتها، فالدول المتعاقدة سوف تجد نفسها مرغمة حينئذ على استخدام كل ما تمليه عليها الظروف من وسائل لتحقيق الأغراض المباشرة من الهدنة المنشودة، بأن تبذل قصارى جهدها لمنع وقوع الاصطدام بين الفريقين المتحاربين، وتطبيقا لهذه المعاهدة إذن وافقت الدول الثلاث (إنجلترة وفرنسا وروسيا) على إرسال تعليمات متمشية مع هذه القرارات إلى قواد أساطيلها في «الليفانت»، ولقد كانت معاهدة لندن آخر ما قام به جورج كاننج من نشاط؛ لأنه لم يلبث أن توفي في 8 أغسطس 1827، وكان قد وصل إلى رئاسة الوزارة منذ شهر أبريل من السنة نفسها، فخلفه في رئاسة الوزارة لورد جودريتش
Goderich ، وفي وزارة الخارجية لورد ددلي
Dudley .
وفي اليونان كانت الحوادث تسير بسرعة عظيمة، ولدرجة أنه لم يعد هناك مفر من التدخل إذا رغبت الدول في استنقاذ اليونان؛ وذلك لأن إبراهيم الذي كان قد نزل في مودن
Moden (في طرف المورة الجنوبي الغربي)، وأخضعها في فبراير 1825، سرعان ما استولى على غيرها من المواقع، حتى أخضع ميسولونجي
Missolongi
في 22 أبريل 1826، ثم سقطت في يده أثينا في 5 يونيو 1827، وبسقوط أثينا صارت المورة بأكملها تقريبا تخضع لسلطان العثمانيين.
وكان بعد حادث سقوط أثينا بشهر واحد فقط أن أبرمت الدول الثلاث - إنجلترة وروسيا وفرنسا - معاهدة لندن السالفة الذكر (في 6 يوليو سنة 1827)، وحينئذ حاصرت أساطيل هذه الدول بقيادة هيدن
Heyden
الروسي، ودي ريني
Rigny
الفرنسي، وكودرنجتون
Codrington
الإنجليزي - وكانت له القيادة العامة - خليج نفارينو
Navarino ، وفي 20 أكتوبرة 1827 أمر كودرنجتون أساطيل الحلفاء بالدخول في الخليج، وكان يبغي الاتصال بالقيادة العثمانية لوقف تخريب قرى الثوار حول الخليج، ومع ذلك فقد توقع الفريقان أن تؤدي هذه الحركة إلى نشوب القتال، وبالفعل وقعت في هذا اليوم نفسه معركة نفارينو البحرية التي انتصر فيها الحلفاء، وحطموا الأسطولين المصري والعثماني، فلم تشهد الإمبراطورية العثمانية كارثة بحرية مثل هذه الكارثة منذ واقعة ليبانتو
Lepanto
التي انهزم فيها الأسطول العثماني على يد أساطيل الدول المتحالفة (إسبانيا والبندقية والبابوية) قبل ذلك بقرنين ونصف من الزمان (أكتوبر 1571).
على أن إنجلترة بالرغم من انتصار نفارينو بقيت متمسكة بموقف الحياد، فقد سقطت وزارة جودريتش بمجرد ذيوع أنباء المعركة وتحطيم الأسطول العثماني، وشكل الوزارة الجديدة دوق ولنجتون، واستنكرت إنجلترة عمل كودرنجتون؛ لأنه كان مكلفا فقط بوضع الحصار على الأسطول العثماني من غير الاشتباك معه في معركة يكون من آثارها إضعاف تركيا، وخدمة المصالح الروسية، وإثارة موضوع تقسيم الممتلكات العثمانية، فجاء في خطاب العرش الجديد بالبرلمان الإنجليزي - ومن المقطوع به أن ولنجتون هو الذي صاغ هذا الخطاب:
إنه بالرغم من البسالة التي أظهرتها الأساطيل المتحدة، يأسف «ملك بريطانيا» عظيم الأسف لوقوع هذا الاصطدام مع بحرية حليف قديم (هو السلطان العثماني)، ولكن جلالته لا يزال كبير الرجاء في أن لا يتبع هذا الحادث المشئوم
Untoward Event
قتال آخر، وأن لا يعطل الوصول إلى تسوية ودية للخلافات القائمة بين الباب العالي وبين اليونانيين.
ولقد أفاد ولنجتون من هذا النصر البحري في نفارينو بأن أفلح في الوصول إلى اتفاق مع محمد علي، أبرم بالإسكندرية في 6 أغسطس 1828، انسحب بمقتضاه الجيش المصري من المورة، ولكن قبل أن يوضع هذا الاتفاق موضع التنفيذ، كانت فرنسا قد أرسلت إلى المورة الجنرال مازون
Maison
على رأس جيش كبير، فبلغ «مازون» المورة في بداية سبتمبر، ولم تلبث أن أخذت القوات المصرية العثمانية المورة، وهكذا كانت نفارينو الخطوة الأولى في استقلال اليونان، وأما الخطوة الثانية فقد جاءت نتيجة لقيام الحرب بين روسيا وتركيا.
ذلك أن السلطان محمود الثاني الذي انتهز فرصة قيام الحرب بين روسيا وفارس (سنة 1826) كان قد رفض شروط معاهدة لندن؛ لغضبه من اتحاد الدول وتدخلها المشترك بينه وبين «رعاياه» اليونانيين، ولأنه وجد مشجعا له على المضي في ذلك، فيما كان يلمسه من معارضة مترنخ لسياسة الدول الثلاث إنجلترة وفرنسا وروسيا، ثم لم تلبث نكبة نفارينو أن أثارت ثائرته، فأبطل معاهدة أكرمان، وأعلن الجهاد الديني ضد الدول المتحالفة، خصوصا روسيا التي عزا إلى دسائسها وقوع هذه الكارثة الكبرى.
ولكن القيصر نيقولا الأول منذ أنهى الحرب مع الفرس «في معاهدة توركمانكي
Tourkmanchai » في 22 فبراير 1828، كان على استعداد لخوض غمار الحرب ضد تركيا، وفي بداية الحرب لم يكن التوفيق حليف الروس، ثم تحسنت الأحوال في صالحهم في العام التالي، فدخل قائدهم دبيتش
Diebitsch
أدرنه (أدريانوبل) في 20 أغسطس سنة 1829، وحصل ما كانت تخشاه إنجلترة وفرنسا عندما صارت الدولة العثمانية معرضة بسبب هذه الهزيمة للانهيار، ولو أن ديبتش نفسه كان في حالة من الضعف سوف ترغمه على التقهقر دون شك إذا صمد الأتراك في دفاعهم وأبدوا شيئا من المقاومة الصادقة، على أن ممثل بروسيا في القسطنطينية فون موفلنج
Von Müffling
لم يلبث أن تدخل بين الفريقين فعقدت تركيا مع روسيا معاهدة أدريانوبل
Adrianople
في 14 سبتمبر سنة 1829، وكانت هذه من أقسى المعاهدات التي أرغمت تركيا على قبولها.
ففي معاهدة أدرنه صارت الأفلاق والبغدان (الولايات الدانوبية) إمارتين مستقلتين استقلالا فعليا وإن بقيتا تحت السيادة العثمانية؛ فلكل منهما الحق في اختيار أمير «هوسبدار
Hospodar » يحكم الإمارة مدة حياته، وتدفع الولايتان الجزية لتركيا عند وفاة الأمير الحاكم واختيار الأمير الجديد، ثم تعهدت روسيا بضمان رفاهية أهل هاتين الولايتين، وفيما يتعلق باليونانيين، كفلت المادة العاشرة من المعاهدة تحرير بلادهم، حيث أعلن الباب العالي موافقته الكاملة على معاهدة لندن المبرمة في 6 يوليو سنة 1827 «بين بريطانيا وفرنسا وروسيا» بشأن إعطاء اليونان استقلالا ذاتيا تحت السيادة العثمانية، كما قبلت تركيا «بروتوكولا لاحقا» بين هذه الدول الثلاث (في 22 مارس 1829) لتخطيط حدود اليونان.
وهكذا خسر الأتراك اليونان، ثم إنهم فقدوا إلى جانب ذلك، وبمقتضى المادة الثالثة من المعاهدة نفسها دلتا «مصبات» نهر الطونة «أو الدانوب» التي أعطيت لروسيا.
واطمأن اليونانيون بعد جلاء الجيوش المصرية العثمانية من بلادهم، ثم صاروا لا يخشون جانب العثمانيين بعد أن أوذيت سمعتهم أذى بليغا بسبب معاهدة أدريانوبل، فاستعصى عليهم قبول الحل الذي تضمنته هذه المعاهدة الأخيرة لقضية بلادهم، ورفضوا الاستقلال الذاتي تحت السيادة العثمانية، فلم تلبث أن دارت المباحثات في لندن حول المسألة اليونانية، بين وزير الخارجية البريطانية لورد أبردين
Aberdeen
والسفير الفرنسي مونتمرنسي لافال
Montmorency-Laval
والسفير الروسي البرنس ليفين، فعقدوا مؤتمرا لهذه الغاية تعددت جلساته، وكان رأي إنجلترة في النهاية الذهاب في حل هذه المسألة إلى أبعد ما تضمنته شروط معاهدة لندن، ودفع إنجلترة لاعتناق هذا الرأي اعتبارها أن تركيا لم تعد قادرة على أية مقاومة، وأن وجود «دولة تابعة» بالصورة التي تريدها هذه المعاهدة إنما يفسح المجال - بسبب عجز الأتراك - لتدخل روسيا، على نحو ما فعلت هذه في الأفلاق والبغدان.
وأسفرت المباحثات عن عقد بروتوكول بين الدول الثلاث (إنجلترة وروسيا وفرنسا) في لندن في 3 فبراير 1830 بشأن استقلال اليونان، فنصت المادة الأولى على أن تصبح اليونان دولة مستقلة، وأن تتمتع بكل الحقوق السياسية والإدارية والتجارية المرتبطة بالاستقلال التام ، ثم رسمت المادة الثانية حدود الدولة اليونانية الجديدة، وأدخلت في نطاقها عددا من الجزر في بحر إيجه، ونصت المادة الثالثة على أن حكومة اليونان ملكية وراثية.
وفي 11 فبراير من السنة نفسها عرض العرش الجديد على الأمير ليوبولد من أسرة ساكس كوبرج
Saxe-Coburg
فقبله، ولكنه عاد فرفضه بعد أسابيع قليلة، وأشيع أن كابوديستريا الذي كان يشغل منصب رئيس الحكومة اليونانية منذ سنة 1827 هو الذي جعل الأمير يرفض العرش؛ فاستطاع خصوم كابوديستريا «اليونانيين» اغتياله في 9 أكتوبر سنة 1831 في نوبليا
Nauplia (على ساحل المورة الشرقي)، وعندئذ قامت الحرب الأهلية.
وفي فبراير 1832 عرضت الدول الثلاث العرش على البرنس أوتو
Otto
ثاني أبناء ملك بفاريا فقبله، ثم وقعت الدول الثلاث مع بفاريا معاهدة في لندن في 27 مايو 1832 لتنظيم الوراثة في بفاريا، ثم لرسم حدود اليونان بشكل أضاف إليها مساحة جديدة؛ فأعطيت الجزر التي ذكرها بروتوكول لندن في 3 فبراير 1830، ثم وسعت حدودها حتى صارت تمتد من خليج فولا
Vola
شرقا إلى خليج أرتا
Arta
غربا، ووافقت تركيا على هذه الحدود الجديدة في اتفاق القسطنطينية في 21 يوليو 1832.
وفي 28 يناير 1833 نزل في نوبليا «أوتو» أول ملك لليونان الحديثة، يحاول إنشاء الحكومة الموطدة بها وإعادة الهدوء والسلام إليها، يعاونه في مهمته الشاقة - بين شعب ألف حياة الرعي والنزاعات الداخلية وأعمال القرصنة من أزمنة بعيدة - نخبة من الموظفين البفاريين، والجنود «المرتزقة» من البفاريين كذلك.
مصر وتركيا
كانت ثورة المورة واستقلال اليونان بمثابة المقدمة لعرض المسألة الشرقية بحذافيرها على بساط البحث أمام الدول، حينما لم تجد هذه بدا من التساؤل في السنوات القليلة التالية عما يجب عمله إزاء تركيا، هل يجب المحافظة عليها من التفكك والانحلال؟ أم التعجيل بالقضاء على رجل أوروبا المريض حتى تقتسم الدول ممتلكاته فيما بينها؟ وبمعنى آخر تحديد المبادئ التي يجب أن تسترشد بها الدول في سياستها نحو تركيا.
وقد عمد السياسي والوزير الفرنسي جيزو
Guizot
إلى تفسير المسألة الشرقية في خطاب أدلى به أمام مجلس النواب الفرنسي في 2 يوليو 1839، فقال:
إن السياسة التي يجب اتباعها هي سياسة المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية ، من أجل المحافظة على توازن القوى في أوروبا، فإذا حدث أن اقتطعت أجزاء معينة من هذه الإمبراطورية تحت ضغط الحوادث، فانفصلت إحدى المقاطعات «أو الولايات» من جثمان هذه الإمبراطورية المتداعية، فالسياسة الرشيدة حيئنذ هي السماح لهذه المقاطعة «أو الولاية» بأن تتمتع بالسيادة الكاملة والاستقلال، حتى تغدو عضوا من أعضاء الأسرة الدولية، وتفيد في إنشاء التوازن الأوروبي الجديد الذي ينتظر أن يحل محل التوازن القديم عند زوال العناصر التي كان هذا التوازن يتألف منها.
ولقد كان هذا التفسير في رأي كثيرين أفضل تفسير للمسألة الشرقية، وفي وسع المرء أن يفهم في ضوئه الشيء الكثير عن سياسة إنجلترة - وفرنسا خصوصا - نحو هذه المسألة في المائة سنة التالية.
على أن هذا التفسير الذي جاء به جيزو لم يكن سوى المعنى الأعم الذي عرف به السياسيون الفرنسيون المسألة الشرقية، في حين أنه كان لهذه المسألة في نظرهم معنى آخر، وتفسير أخص في الوقت نفسه؛ فللمسألة الشرقية في اعتبارهم شقان: مسألة القسطنطينية، وهي التي ينطبق عليها تفسير جيزو، ومسألة الإسكندرية، أو مسألة ذلك الجزء من الإمبراطورية العثمانية المعروف باسم مصر؛ وذلك لأن الفرنسيين اعتبروا البحر الأبيض المتوسط وشاطئ أفريقية الشمالية من المسائل المتصلة اتصالا وثيقا بمصالحهم.
وبين سنتي 1830-1840 تحدد معنى المسألة الشرقية بأكملها، بما فيها مسألتي القسطنطينية والإسكندرية بشكل أثر تأثيرا عميقا على علاقات الدول الخمس العظمى الأوروبية فيما بين بعضها بعضا، ثم كان من نتيجة ظهور المسألة الشرقية على مسرح السياسة الدولية بمعناها الكامل، أن وقعت في سنتي 1839-1840 أزمة خطيرة كادت تفضي إلى إشعال حرب أوروبية تقف فيها فرنسا ضد إنجلترة، ولم يمكن تجنب وقوع هذه الحرب إلا بصعوبة كبيرة.
أما أسباب هذه الأزمة؛ فبعضها مرده إلى التبدل الذي طرأ على سياسة كل من روسيا وفرنسا خصوصا، ومرد البعض الآخر إلى توتر العلاقات بين السلطان العثماني وواليه في الباشوية المصرية محمد علي، وكان السبب في تبدل السياسة الفرنسية أن فرنسا اتخذت لنفسها وجهة نظر مزدوجة في موضوع المسألة الشرقية، عندما صارت تميز بين ما سمته بمسألة الإسكندرية، وبين مسألة القسطنطينية، فدعاها العمل من أجل تأييد مصالحها في البحر المتوسط وعلى شواطئ أفريقية الشمالية إلى إرسال حملة إلى الجزائر (في عهد وزارة يولينياك) للاستيلاء عليها، وكانت فرنسا تريد أن يقوم والي مصر محمد علي بإرسال حملة إلى هذه البلاد لتأديب باي الجزائر الذي ساءت علاقته مع فرنسا، فطلب محمد علي مبلغا كبيرا من المال، وأربعة سفن حربية نظير قيامه بهذا العمل.
ثم تدخلت إنجلترة وعارضت بشدة أن ينفذ محمد علي هذا المشروع تحت إشراف فرنسا، وحذرته من النتائج الخطيرة التي يتعرض لها إذا أقدم على ذلك؛ لأن إنجلترة كانت - إلى جانب تمسكها بمبدأ المحافظة على كيان الدولة العثمانية - تقاوم كل سياسة أو خطة من شأنها دعم نفوذ فرنسا في الشرق، وعندئذ أرسلت فرنسا منفردة حملتها إلى الجزائر، وفي يوليو 1830 ضمت إليها هذه البلاد، واقتطعت بعملها هذا إقليما من أقاليم الإمبراطورية العثمانية، ثم إنها لم تكتف بهذا؛ بل أخذت تشجع محمد علي في ثورته ضد السلطان صاحب السيادة الشرعية عليه، على أمل أن يساعد نجاح محمد علي في تأييد المصالح الفرنسية ذاتها في البحر الأبيض المتوسط؛ ولذلك كانت فرنسا في هذا الدور من أدوار المسألة الشرقية (1830-1840) عاملا ظاهرا من عوامل تفكك الإمبراطورية العثمانية، بدلا من روسيا التي كانت عامل التفكك الظاهر أثناء المسألة اليونانية.
أما روسيا فقد أدخلت تغييرا واضحا على أساليبها السياسية بعد عام 1830 عندما اتخذت في المسألة الشرقية موقفا «عكسيا»؛ فأصبحت لا تهدف الآن للاستيلاء على القسطنطينية، والاستيلاء على كل ما يقع في طريقها من ولايات وأقاليم حتى تصل إلى العاصمة العثمانية، بل صارت خلال السنوات العشر التالية تبغي المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية، والسبب في هذا أن روسيا التي اضطرت اضطرارا للاعتراف باستقلال اليونان، سرعان ما أدركت أن «اقتطاع» أحد أقاليم الدولة العثمانية ليس معناه استقلال هذا الإقليم عن تريكا وحسب، بل - وهذا هو المهم - استقلاله عن روسيا أيضا، فقد تخلصت اليونان سريعا من النفوذ الروسي، وساعدتها الدول العظمى على ذلك؛ لأن المصالح الروسية في البلقان لم تكن متفقة دائما مع مصالح هذه الدول، وزيادة على ذلك، فقد أخفقت روسيا في دعم نفوذها في الأفلاق والبغدان، وكره الرومانيون روسيا كراهية شديدة، وفي الصرب جعل أميرها «ميلوش أوبرينوفتش» روسيا بمثابة مخلب القط في منازعاته مع تركيا.
وعلى ذلك فقد جمع القيصر نيقولا الأول منذ 1829 لجنة من رجال الدولة الروسيين لبحث النتائج المتوقعة من انهيار الإمبراطورية العثمانية، ومدى استفادة روسيا من تفكك هذه الإمبراطورية، فجاءت نتيجة بحوثهم - وعلى خلاف ما جرت عليه سياسة روسيا التقليدية القديمة - أن من مصلحة روسيا المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية؛ لأنه إذا انحلت هذه الإمبراطورية خرجت إلى حيز الوجود دول بلقانية صغيرة، ولكنها قوية، يتعذر على روسيا أن تتدخل في شئونها بنجاح، بينما إذا بقيت الإمبراطورية متماسكة استطاعت روسيا - بفضل ما لها في تركيا من حقوق وامتيازات كبيرة كفلتها المعاهدات والاتفاقات القديمة - أن تستخدم هذه الحقوق والامتيازات في زيادة السيطرة الاقتصادية والتوغل السلمي في كيان الإمبراطورية، وعلى ذلك يجب على روسيا إذا أرادت التوسع الإقليمي أن تتجه صوب أرمينيا أو بغداد، وتترك جانبا القسطنطينية.
ووافق القيصر نيقولا الأول على نتائج بحوث هذه اللجنة، بالرغم من عدم ارتياحه لها وتذمره منها، وفي السنوات العشر التالية كان هدفه المحافظة على كيان الدولة العثمانية، ثم أبلغ القيصر نبأ هذا التحول الجديد إلى النمسا، فنال تعضيد مترنخ وتأييده لسياسته، ولكن كبرياءه منعته من إبلاغ هذه الآراء الجديدة إلى إنجلترة، فظل وزيرها بلمرستون
يعتقد أن القيصر لا يزال يطمع في القسطنطينية ويريد الاستيلاء على المضايق (البسفور والدردنيل)، وكانت إنجلترة في هذا الدور أيضا تؤيد المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية كعامل أساسي في المحافظة على التوازن الدولي في أوروبا.
وقد ظهرت هذه الاتجاهات والتيارات السياسية المختلفة عندما تأزمت العلاقات بين السلطان محمود الثاني وبين محمد علي، فمع أن السلطان أعطى محمد علي حكومة كريت مكافأة على مساعداته في حرب اليونان؛ فقد ساء محمد علي ضياع أسطوله في نفارينو وأراد تعويضا كافيا بالحصول على حكومة الشام، بل إنه لم يكن يتردد في إعلان استقلاله إذا أمن شر الدول، وخصوصا إنجلترة، وخشي محمود الثاني في الوقت نفسه من ازدياد بأس وقوة محمد علي بعد أن فتح السودان، ودخلت جيوشه بلاد العرب، فأضمر لواليه كراهية شديدة، وكان من السهل قيام الحرب بينهما، فغزا إبراهيم الشام في نوفمبر 1831، وسقطت في حوزته يافا وغزة وبيت المقدس، ثم عكا ودمشق وحلب (يوليو 1832)، وعبر إبراهيم جبال الطورس وهزم الأتراك في قونية (في 21 ديسمبر 1832)، وباتت القسطنطينية ذاتها مهددة بالخطر، وكان السلطان أمام هذه الهزائم المتوالية قد طلب معونة إنجلترة ونجدتها، ومنذ أغسطس 1832 اقترح على السفير الإنجليزي في القسطنطينية سترافورد كاننج
Strafford Canning
عقد محالفة مع إنجلترة لإخضاع باشا مصر، ولكن بلمرستون رفض مقترحات تركيا، وعندئذ لم يجد السلطان مناصا من الالتجاء إلى روسيا - عدوته القديمة - لنجدته، قائلا: «إن الغريق يمسك بالثعبان إذا لزم الأمر لنجاته»، فطلب في فبراير 1833 نجدة روسيا المسلحة ضد محمد علي، وأجاب القيصر نيقولا هذه الرغبة في التو والساعة.
وفي 20 فبراير 1833 دخل الأسطول الروسي مياه البسفور، وأنزل النجدات الروسية قبالة القسطنطينية، وعندئذ نشطت الدبلوماسية الأوروبية لإرغام محمد علي على قبول تسوية مع الباب العالي، فأصدر السلطان «التوجيهات» الجديدة - وهي قائمة بأسماء الولاة والباشوات الجدد المعينين في حكومة ولايات الإمبراطورية - ومن بينهم محمد علي لتثبيته في حكومة مصر وكل الشام بما فيها دمشق وحلب، ثم جزيرة كريت، وإبراهيم لتثبيته في حكومة الحبشة وحكومة جدة، وفي 3 مايو 1833 أبلغ الباب العالي إبراهيم باشا في كوتاهية إعطاءه «أطنة» وتعيينه محصلا لها، وفي اليوم التالي أعلن الباب العالي عقد السلام رسميا، وظهر كأنما قد انفرجت الأزمة.
ومع ذلك فقد بقيت السفن الروسية والجنود الروس بالقرب من القسطنطينية، وفي 5 مايو وصل إلى القسطنطينية الكونت أرلوف
Orloff
سفيرا فوق العادة لروسيا، وأقلق مسلكه في العاصمة العثمانية بقية سفراء وممثلي الدول، وبمجرد أن أقلعت العمارة الروسية من المياه العثمانية ساورت الدول الشكوك من ناحية روسيا، وكانت الدول محقة في شكوكها؛ لأن أرلوف قبل ذهابه كان قد عقد مع وزير الخارجية العثمانية وقائد الجيوش معاهدة تحالف في سراي هنكاراسكلسي
Unkiar Skelessi
على شاطئ البسفور الآسيوي في 8 يوليو 1833، ولم تبلغ هذه المعاهدة إلى وزارة الخارجية البريطانية إلا بعد مضي أكثر من سبعة شهور على عقدها.
وكانت المعاهدة تتألف من «نص» ظاهر أو علني، و«مادة» منفردة سرية، وكان «النص» - من وجهة نظر الدول - لا يبعث على الاطمئنان كلية عندما تضمن عقد محالفة دفاعية هجومية بين روسيا وتركيا لمدة ثماني سنوات، وأما المادة المنفردة، فكانت أسوأ أثرا لأنه جاء بها: «إن جلالة إمبراطور روسيا، رغبة منه في أن يوفر على الباب العالي العثماني النفقات والمشقات التي قد تحدث له من جراء تقديم المساعدة الجدية (أي لحليفته روسيا في حالة الاعتداء عليها حسب المادة الأولى من المعاهدة)، لن يطلب هذه المساعدة إذا طرأ من الظروف ما يقضي على الباب العالي بتقديمها، ولكن بدلا من هذه المساعدة التي يتحتم عليه تقديمها إذا دعت الضرورة عملا بمبدأ تبادل المنفعة الذي تتضمنه المعاهدة المذكورة يقصر الباب العالي عمله لمصلحة روسيا على إغلاق بوغاز (مضيق) الدردنيل، أي على عدم السماح لأية سفن حربية أجنبية بالدخول في هذا البوغاز بأية حجة من الحجج.»
وفي نظر «فرسينييه
Frycinet » مؤرخ «المسألة المصرية» أن هذه المعاهدة وضعت تركيا تحت حماية روسيا رسميا، كما جعلت منها حارسا على البحر الأسود لصالح روسيا حتى تمنع أعداء هذه من الدخول إلى البحر الأسود، بينما تستطيع روسيا ذاتها الخروج منه حسب مشيئتها، وأما الروس أنفسهم فقد اعتبروا وقت عقد هذه المعاهدة أن حدود دولتهم الجديدة قد صارت عند مضايق الدردنيل ذاتها، وفي الواقع كان واجب تركيا - حسب المعاهدة - إذا دخلت روسيا الحرب مع إحدى الدول، وطلبت من تركيا إغلاق البوغازات، أن تفعل ذلك، فلا يستطيع أعداء روسيا مهاجمتها عن طريق المضايق، في الوقت الذي تستطيع فيه السفن الحربية الروسية الخروج إلى البحر الأبيض المتوسط للهجوم على أعدائها في أي مكان تريده.
ومع أن الحكومة الروسية لم تبلغ الدول معاهدة هنكاراسكلسي إلا في ربيع العام التالي (1834) فقد وقفت أوروبا الغربية على حقيقة المعاهدة عقب إبرامها بأيام قليلة، ثم نشرت إحدى الصحف الإنجليزية «مورننج هيرالد
Morning Herald » في لندن موجز المعاهدة في 21 أغسطس 1833، ونشرت بعد ذلك موجزا للمادة السرية (في 16 أكتوبر 1833)، فأثار الوقوف على حقيقة المعاهدة الشعور العام في لندن وباريس، وفي سبتمبر 1833 أعطى وزير الخارجية التركية الجديد نسخة من المعاهدة ومن المادة المنفردة (السرية) إلى السفير الإنجليزي «لورد بونسبي
»، وعندئذ أرسل بلمرستون إلى بونسبي حتى يبلغ الحكومة العثمانية أن في استطاعتها الحصول على معاونة الأسطول الإنجليزي في البحر المتوسط إذا هي آثرت ذلك على تأييد القوات الروسية لها بمقتضى شروط المعاهدة (مارس 1834).
ووقفت كذلك الحكومة الفرنسية موقفا حاسما، فذكر وزير خارجيتها دوق دي بروجلي
Broglie
إلى سفير حكومته في بطرسبرج (أكتوبر 1833) أن روسيا إنما تريد بعملها هذا أن تعلن في وجه أوروبا بأسرها تصميمها على أن تجعل استئثارها بمطلق النفوذ المنفرد في شئون الإمبراطورية العثمانية مبدأ من مبادئ القانون الدولي، وكان واضحا أن فرنسا وإنجلترة لا يمكن أن تقبلا ذلك.
على أن القيصر نيقولا كان قد حصل على تأييد من جانب النمسا وبروسيا عندما اجتمع القيصر مع وزيره نسلرود بولي عهد بروسيا «فردريك وليم» وبالإمبراطور فرنسيس «فرانسوا» الأول ووزيره مترنخ في منشنجراتز
Münchengratz
في بوهيميا بين 10-20 سبتمبر 1833، فقد تأكد في هذا المؤتمر حق كل «ملك في طلب نجدة ومساعدة الملوك الآخرين»، ثم أضاف المجتمعون أنه لا يجوز لأية دولة أن تتدخل لتعطيل ومنع هذه المساعدة ما دام لا يطلب أحد منها ذلك، حقيقة وعد القيصر البرنس مترنخ الذي «كره المعاهدة» - معاهدة هنكاراسكلسي - بأنه لن يطلب تنفيذ نصوصها إلا بعد أن يقبل وساطة النمسا أولا، ولكن الموقف لم يتغير بالرغم من هذا «التعديل»، وبقيت معاهدة هنكاراسكلسي خطرا يتهدد أوروبا؛ ولذلك اتفقت كلمة إنجلترة وفرنسا على مقاومة روسيا إذا استخدمت هذه الحقوق التي صارت لها بمقتضى المعاهدة (هنكاراسكلسي).
ومع هذا فإن الاتفاق بين الدولتين الغربيتين (فرنسا وإنجلترة)، في هذا الوجه من وجوه المسألة الشرقية - أي في مسألة القسطنطينية - لم يمهد أو أنه كان لا يدعو إلى اتفاقهما في الوجه الآخر للمسألة الشرقية، وهو المسألة المصرية؛ إذ سرعان ما ظهر الخلاف بين هاتين الدولتين عندما تحرجت الأمور مرة أخرى بين السلطان ومحمد علي في عامي 1839-1840.
فقد تحرجت العلاقات بين محمود الثاني ومحمد علي؛ خصوصا منذ نشوب الثورة في سوريا لأسباب منوعة؛ منها تحريض تركيا وروسيا عليها (1834)، ولقد حاول محمد علي - حسما للنزاع - إعلان استقلاله عن تركيا، ثم تكررت محاولاته في ذلك خلال الأعوام التالية (1834، 1836-1837، 1838) ولكن الدول منعته من إعلان الاستقلال، وانحصرت جهود وزير الخارجية البريطانية لورد بلمرستون: أولا: في إضعاف نفوذ محمد علي حتى لا يطغى بقوته على الدولة العثمانية، وثانيا: في منع الروس من أن يضعوا موضع التنفيذ معاهدة هنكاراسكلسي.
ولما كانت السياسة الفرنسية تسير في تيارين متضادين «أو متعاكسين» - تحقيقا للمصالح الفرنسية في مسألة الإسكندرية، وذلك بتأييد محمد علي، ثم تحقيقا لهذه المصالح ذاتها في مسألة القسطنطينية، وذلك بإبطال معاهدة هنكاراسكلسي - فقد أمكن أن يتفق كل من بلمرستون، ورئيس الوزارة الفرنسية المارشال سولت
Soult
على أنه إذا قامت الحرب بين السلطان ومحمد علي، ودخل الأسطول الروسي المياه العثمانية (القسطنطينية) تنفيذا لمعاهدة هنكاراسكلسي فإن إنجلترة وفرنسا تعلنان الحرب على روسيا، وعندئذ وأمام هذا الإصرار من جانب إنجلترة وفرنسا كتب نسلرود إلى سفير حكومته في لندن «بوزو دي برجو
» في 17 يونيو 1839 أنه يريد تجنب أية أزمة يدعو حدوثها إلى تنفيذ المعاهدة، وأكد هذه الرغبة أيضا من جانب روسيا السفير الإنجليزي في بطرسبرج لورد كلانريكارد
Clanricarde
إلى حكومته.
ولكن الأزمة سرعان ما وقعت عندما انهزم الجيش العثماني هزيمة حاسمة على يد إبراهيم في معركة نصيبين
Neseb
غرب نهر الفرات في 21 يونيو 1839، ثم مات محمود الثاني في أول يوليو قبل أن تصله أخبار هذه الكارثة، ثم سلم الأسطول العثماني إلى محمد علي في مياه الإسكندرية في بداية يوليو، وهكذا فقدت تركيا - كما قال جيزو - في ظرف أسابيع ثلاثة فقط: سلطانها، وجيشها، وأسطولها، وأما هذه الكارثة فقد هددت بإلحاق الخلل بالتوازن الدولي في أوروبا لا محالة إذا لم تتحد الدول الأوروبية في عمل مشترك في المسألة الشرقية؛ حتى لا تترك السلطان الشاب الجديد، عبد المجيد، وتابعه المنتصر محمد علي، يعملان وحدهما ومن غير وساطة أحد لفض النزاع القائم بينهما.
وكان في هذه الظروف أن تخلت روسيا عن الامتيازات والحقوق التي كانت لها في معاهدة هنكاراسكلسي، وأن قدمت فرنسا في هذه الآونة الخطيرة اهتمامها بمسألة القسطنطينية للمحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية وحرمان روسيا الاستفادة من هنكاراسكلسي، على اهتمامها بمسألة الإسكندرية وتأييد محمد علي، ثم اجتهدت كي تخرج المسألة المصرية من نزاع بين تركيا ومصر فقط، لتصبح مسألة أوروبية عامة، فلا ينفرد السلطان بوضع أسس الصلح مع محمد علي من غير وساطة أو إشراف الدول، فبعث المارشال سولت إلى سفيره في لندن البارون بوركيني
Bourqueney
في 26 يوليو 1839 بما معناه: «أن سرعة سير الحوادث قد تفوت على الدول الأوروبية فرصة التدخل، فلا تؤخذ بعين الاعتبار مصالح السياسة العامة الرئيسية، وحيث إنه من مصلحة إنجلترة وفرنسا وكذلك النمسا - ولو أنها لا تفصح عن ذلك علنا - أن يكون وجوبا هدف «الاتحاد الأوروبي» أو العمل المشترك الحقيقي «بين الدول» هو قسر روسيا على العمل المشترك مع الدول في شئون الشرق وتعويدها عليه؛ ولذلك فإني أعتقد، أنه يجب على الدول في الوقت الذي توافق فيه موافقة تامة على الميول السلمية التي يبديها الباب العالي، أن تطلب من هذا الأخير عدم التعجل في شيء، وعدم المفاوضة مع الوالي «محمد علي» إلا عن طريق وساطة حلفائه الذين سوف يكون تعاونهم ولا شك وسيلة أفضل من أجل الحصول له على شروط مضمونة وأكثر ملاءمة لمصلحته.»
وكانت فرنسا ترجو أن تمتنع روسيا عن الاشتراك مع الدول في اتخاذ هذه الخطوة وتتحقق عزلتها، ولكن روسيا وجدت من الحكمة التنازل عن معاهدة هنكاراسكلسي ، بينما رحب بلمرستون بهذه الفرصة المواتية للقضاء على المصالح الروسية، وللقضاء على محمد علي الذي اعتبره مسئولا عن إذلال الدولة العثمانية وإضعافها، كما كان من أغراض مترنخ تعطيل المفاوضات المباشرة بين السلطان وبين الوالي الثائر على صاحب السيادة الشرعية عليه، وانحازت بروسيا إلى جانب النمسا؛ ولذلك ، وبناء على ما تقدم جميعه، أصدرت الدول الخمس العظمى (إنجلترة، روسيا، النمسا، بروسيا، فرنسا) في 28 يوليو سنة 1839 مذكرة مشتركة، بعثت بها إلى السلطان حتى لا يبرم صلحا مع محمد علي من غير موافقة الدول، وحتى ينتظر ما قد يسفر عنه اهتمام الدول بالمسألة الشرقية، وهكذا أملت المصلحة المشتركة على الدول ضرورة العمل «المتحد»، وظهر كأنما الاتحاد الأوروبي قد أصبح حقيقة واقعة، وظهر كأنما فرنسا نفسها قد أصبحت المتزعمة للاتحاد الأوروبي.
ولكن فرنسا ارتكبت بعملها هذا خطأ جسيما - ولا شك - عندما فتحت مجال التدخل للدول وعطلت الاتفاق المباشر بين محمد علي والسلطان؛ إذ سرعان ما ظهر الخلاف بين فرنسا وبين إنجلترة وسائر الدول، خصوصا عندما أرادت إنجلترة أن تصبح مصر وحدها فقط لمحمد علي وتجلو جيوشه من سوريا، بينما أرادت فرنسا أن يحتفظ والي مصر بسوريا أيضا، وانحازت روسيا إلى جانب إنجلترة فيما ذهبت هذه إليه؛ حتى لا تبسط فرنسا نفوذها على كل المنطقة الممتدة من مصر إلى جبال طوروس تحت جناح محمد علي، وعلى أمل أن يؤدي الخلاف بين فرنسا وإنجلترة إلى فصم عرى ذلك التحالف الإنجليزي الفرنسي الذي استمر إجمالا طيلة السنوات العشر الماضية (أي منذ 1830) تقريبا.
ومع أن السفير الفرنسي في لندن الجنرال سباستياني
Sebastiani
الذي عاد إلى سفارة لندن في خريف 1839، فقد حذر سولت رئيس الوزارة الفرنسية من عواقب الإصرار على مؤازرة محمد علي، وما يترتب على ذلك من عزلة فرنسا في النهاية، فقد صمم سولت على المضي في تأييد محمد علي، وهو يرجو أن يتعذر على الدول الأربع الأخرى الوصول إلى اتفاق فيما بينها، ولكن بلمرستون - الذي لم يكن يريد عزلة فرنسا - لم يلبث أن أبلغ سباستياني أن إنجلترة وروسيا على وفاق تام فيما بينها، وبادر سباستياني فأبلغ بدوره هذه الحقيقة إلى حكومته، وكان أمام سولت لذلك أحد أمرين: إما أن يتخلى عن تأييده لمحمد علي ويترك جانبا المطالبة بسوريا، وإما أن يرضى بعزلة فرنسا وخروجها من الاتحاد الأوروبي، ولكن سولت كان لا يزال لديه أمل في نجاح محاولة أخيرة؛ فاستدعى سباستياني من لندن وأرسل بدلا منه رجلا اختص بدراسة التاريخ الإنجليزي من زمن طويل، وأظهر في كتاباته تقديرا طيبا للخلق الإنجليزي، ولو أنه لم يزر هذه البلاد في الماضي، وذلك الرجل كان جيزو الذي حاضر في السربون، وشغل منصب وزير المعارف في فرنسا، والذي كان يقول: «لم أزر إنجلترة قط، ولم أشتغل بالسياسة!»
ووصل جيزو إلى دوفر في 27 فبراير 1840، في طريقه إلى مقر سفارته في لندن، وكان يحمل تعليمات فحواها: أن يبذل قصارى جهده ليحفظ التفاهم والاتفاق مع إنجلترة، وليحفظ فرنسا مكانا ضمن مجموعة الدول الخمس في الاتحاد الأوروبي، على أن يصر في الوقت نفسه على ضرورة إعطاء سوريا إلى محمد علي كشرط أساسي لذلك كله، وفي أول مارس خلف تيير
Thiers
في رياسة الوزارة الفرنسية المارشال سولت، وكان تيير متمسكا بضرورة إعطاء سوريا إلى محمد علي، وبدأ جيزو في لندن يشعر بعزلة فرنسا، ومنذ 12 مارس 1840 أنبأ رئيسه «تيير» أن فرنسا إذا استمرت متمسكة بتأييدها لمحمد علي فإنها سوف تجد نفسها مضطرة في النهاية إلى الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، ولكن تيير كان مستعدا - كما كان سولت من قبل - لمواجهة هذا الاحتمال.
ولقد قامر تيير - وكما قامر سولت من قبل - على أمرين؛ أولهما: أن محمد علي سوف يقاوم بنشاط كل تدبير الغرض منه انتزاع الشام من قبضته، وثانيهما: أن وسائل القسر والشدة التي قد تتخذ ضده سوف تذهب جميعها سدى، وكان تيير كما أثبتت الحوادث بعد ذلك مخطئا في تقديره.
فقد حضر نوري أفندي السفير العثماني في باريس إلى لندن في أبريل سنة 1840؛ ليقدم مذكرة إلى وزارة الخارجية البريطانية، وإلى بقية سفراء الدول الخمس يبلغهم فيها استعداد الباب العالي لإعطاء باشوية مصر وراثة إلى محمد علي (أي من غير سوريا)، باعتبار ذلك الشرط الوحيد الذي يقبل السلطان بمقتضاه الصلح مع محمد علي، وفي 12 أبريل عرف جيزو أن إنجلترة وروسيا والنمسا وبروسيا متفقة فيما بينها على نوع الإجابة التي يتضمنها الرد على مذكرة السفير العثماني، وفي اليوم التالي بعث بلمرستون بصورة من هذا الرد إلى جيزو، وسأله إذا كان في استطاعته هو الآخر أن يجيب على مذكرة السفير العثماني بالمعنى نفسه، ولكن تيير رفض الإجابة على المذكرة العثمانية.
وفي الشهرين التاليين شغل جيزو بمسائل أخرى، وفي أواخر مايو حضر إلى لندن سفير عثماني جديد، هو شكيب أفندي، وطلب تيير من جيزو عدم التحدث إلى شكيب أفندي في شيء لاعتقاده - كما قال - أن تسوية المسألة لن تحدث في لندن مع السفير العثماني، وأخطأ تيير في ذلك؛ لأن بلمرستون لم يلبث أن دعا جيزو إلى وزارة الخارجية البريطانية في 17 يوليو 1840، وقرأ عليه «مذكرة» جاء فيها أنه نظرا لامتناع فرنسا عن الانضمام إلى جانب الدول الأربع: بريطانيا، النمسا، روسيا، بروسيا، عقدت هذه الدول فيما بينها معاهدة لوضع تسوية نهائية للنزاع القائم بين السلطان ومحمد علي، هذه المعاهدة كانت اتفاقية لندن المشهورة التي وقعتها الدول الأربع في 15 يوليو 1840، يحدوها إلى ذلك الرغبة في المحافظة على كيان الإمبراطورية العثمانية، وهكذا وجدت فرنسا نفسها بسبب إصرارها على المطالبة بسوريا لمحمد علي بمعزل عن سائر الدول.
وتضمنت اتفاقية لندن، شروط الصلح المزمع إبرامه بين الباب العالي وبين محمد علي، على أساس أن يحتفظ هذا الأخير بباشوية مصر فقط وراثة في أسرته، كما نصت على تعاون الدول الأربع في رد الجيش المصري عن القسطنطينية إذا هدد محمد علي العاصمة العثمانية، وطلب الباب العالي مساعدة الدول، وكان معنى قبول روسيا هذا «البند» أنها تنازلت عن حقها الخاص في الدفاع عن القسطنطينية بمقتضى معاهدة هنكاراسكلسي، وزيادة على ذلك فقد نصت المادة الرابعة على استمرار العمل بالقاعدة القديمة التي اتبعتها الإمبراطورية العثمانية، وهي غلق الدردنيل في وجه جميع السفن الأجنبية الحربية، وما دام الباب العالي نفسه في حالة سلم مع الدول.
وعندما وصلت أخبار هذه الاتفاقية إلى باريس، شعرت فرنسا بأن إهانة بالغة قد لحقت بها، ورأت الحكومة الفرنسية أنه كان يجب دعوتها للتوقيع على اتفاقية لندن قبل إبرامها، ولو أن تيير نفسه لم يلبث أن اعترف بعد ذلك (في أغسطس) أنه كان من المعروف جيدا أن فرنسا لو أنها دعيت للتوقيع على المعاهدة لرفضت أن تفعل ذلك، وفي الواقع كان السبب الذي جعل بلمرستون يسرع متكتما في إجراءات إبرام المعاهدة، أن فرنسا في هذه الآونة كانت بواسطة سفيرها «بونتوا
» في القسطنطينية تقوم بمفاوضة منفصلة من أجل عقد الصلح بين محمد علي والباب العالي على أساس الشروط الفرنسية، وكان سير المفاوضات في القسطنطينية السبب الذي جعل «تيير» يطلب من جيزو التمسك بمسألة سوريا، وتوقع تيير بين لحظة وأخرى أن يسمع من سفيره في القسطنطينية أن المفاوضات قد انتهت بعقد الصلح على أساس إعطاء سوريا إلى محمد علي، وعندئذ يستطيع «تيير» مواجهة بلمرستون بالأمر الواقع.
ولكن بدلا من ذلك، استطاع بلمرستون الذي أدرك حقيقة ما كان يجري أن يواجه الوزير الفرنسي باتفاقية لندن، واشتد غضب تيير، واشتد غضب الأمة الفرنسية التي ظلت من مدة تتوق نفسها إلى الحرب نتيجة لتأثرها «بالأسطورة النابليونية»؛ ولرغبتها في استعادة مجد الفتوح الماضية في عهد إمبراطورية نابليون، ولم يلطف شيئا من حدة هذه الروح العسكرية إرسال الحملات والجيوش إلى بلاد الجزائر، وظهر كأنما الحرب واقعة لا محالة، وكان كل ما يشغل ذهن تيير أثناء هذه الأزمة، إنما هو التفكير في أي الجهتين عليه أن يبدأ بتسديد ضربته المباشرة: ضد إنجلترة، أم ضد بروسيا «للوصول إلى الراين»، وفي أثناء هذا كله كانت الحوادث تسير بكل سرعة في سوريا.
فقد رفض محمد علي شروط اتفاقية لندن، وحرك بونسنبي السفير الإنجليزي في القسطنطينية الثورة في الجبل (لبنان)، وفي 11 سبتمبر 1840 ضرب أمير البحر السير شارلس نابيير
Napier
بيروت بالقنابل من البحر واستولى عليها، وأحرز بعد قليل انتصارا حاسما على القوات المصرية في واقعة برية عند نهر الكلب، وفي 14 سبتمبر أعلن السلطان عزل محمد علي، وكان على فرنسا الآن أن تقرر الحرب أو أن تمتنع عن المحاربة كلية.
وفضلت فرنسا عدم الدخول في حرب ضد مجموعة من الدول أعاد اتحادها إلى الذاكرة محالفة الدول القديمة في شومونت ضد فرنسا سنة 1814، وكان الملك الفرنسي «لويس فيليب» ضد الحرب، ويؤيد رغبته في السلم أصحاب الأملاك والأراضي، وأرباب الصناعة في فرنسا، فأرسل تيير إلى لندن مذكرة في 8 أكتوبر كانت بمثابة «عرض للسلام» تضمنت استعداد فرنسا للنزول عن إصرارها السابق بشأن بقاء سوريا في حوزة محمد علي إذا حصلت إنجلترة وبقية الدول لمحمد علي على وراثة الحكم في مصر.
وكانت المذكرة مكتوبة بلهجة شديدة ومفرغة في قالب إنذار، ومع هذا فقد كان إقلاع فرنسا عن إصرارها السابق هو كل ما تريده الدول؛ لأن إعلان عزل محمد علي لم يكن الغرض منه سوى إرغامه على قبوله التسوية؛ ولذلك فإن نابيير بعد انتصاره في بيروت، وبمجرد أن سقطت في قبضته عكا أيضا في 3 نوفمبر، قصد بأسطوله إلى الإسكندرية، ثم لم يلبث أن عقد في 27 نوفمبر سنة 1840 مع بوغوص بك ممثل محمد علي إنفاقا في الإسكندرية تعهد فيه محمد علي بإخلاء سوريا في نظير احتفاظه بالحكومة الوراثية في مصر ذاتها.
ولما كان هذا متفقا مع ما طلبته فرنسا في مذكرة 8 أكتوبر، فقد أقرت الدول اتفاق نابيير، وفي الشهور الأولى من العام التالي (1841) أسفرت المفاوضات التي اشتركت فيها فرنسا في هذه المرة، بواسطة سفيرها الجديد البارون بوركيني، والذي خلف جيزو عندما تعين هذا الأخير وزيرا للخارجية، في الوزارة التي ألفها سولت، عقب سقوط تيير في 21 أكتوبر سنة 1840 عندما رفض لويس فيليب أن يكون خطاب العرش في لهجة عسكرية عنيفة، نقول: إن هذه المفاوضات أسفرت عن إقناع السلطان بإصدار فرمان في 13 فبراير 1841 يعطي حق الوراثة لمحمد علي ولأسرته من بعده في مصر فقط، ومن غير أن يكون معها سوريا أو كريت، وفي أول يونيو صدر الفرمان الأخير الذي أكد مبدأ الوراثة وإنما على أن تكون هذه للأرشد فالأرشد من أسرة محمد علي، كما أكد الفرمانان الأول والثاني بقاء مصر جزءا من أجزاء الإمبراطورية العثمانية.
ولقد كان من المتيسر بعد ذلك أن تعمل الدول لاستكمال تسوية المسألة الشرقية بصورة تتناول وجهها الآخر، أي ما أسمته فرنسا بمسألة القسطنطينية؛ فانعقد مؤتمر لهذه الغاية في لندن حضرته فرنسا إلى جانب بريطانيا وروسيا والنمسا وبروسيا وتركيا أيضا، فعقدت الدول المجتمعة في 13 يوليو 1841 اتفاقية البوغازات، أو اتفاقية لندن التي تضمنت المبدأ الثابت الذي كان دائما القاعدة التي أخذت بها الإمبراطورية العثمانية في الأزمنة السابقة، والذي كان من مقتضاه منع السفن الحربية الأجنبية من دخول المضايق «الدردنيل والبسفور»، طالما أن الباب العالي في حالة سلم مع الدول.
وهكذا ألغى هذا الاتفاق المركز الممتاز الذي كان لروسيا في علاقاتها مع تركيا، وفي مسألة البوغازات خصوصا، بمقتضى معاهدة هنكاراسكلسي، كما أن هذه الاتفاقية قد حلت محل معاهدة 15 يوليو 1840 (وفاق لندن) بين الدول الأربع، ولو أنها كانت لا تلغي هذا الوفاق، ثم أتاحت الفرصة لفرنسا حتى تخرج من عزلتها وتنضم إلى مجموعة الدول في الاتحاد الأوروبي.
الفصل الرابع
فرنسا (1815-1848)
ثورات 1830، 1848، وفشل نظام الحكم الرجعي في فرنسا
تمهيد
عقد الحلفاء معاهدة شومونت في أول مارس 1814 لمواصلة الكفاح ضد نابليون، وفي 30 مارس من السنة نفسها دخلت جنودهم باريس، وعاد البربون معهم إلى عاصمة ملكهم القديمة، فدخل لويس الثامن عشر إلى باريس في 3 مايو 1814، ثم استتب له الأمر في فرنسا نهائيا بعد حكم المائة يوم وانهزام نابليون في واقعة واترلو (يونيو 1815) وذهابه إلى المنفى.
ومن مبدأ الأمر كان مقضيا بالفشل على ملكية البربون الراجعة لأسباب عدة: بعضها متصل بطبيعة المسائل التي واجهت البربون عند استلامهم أزمة الحكم، ومن كان من واجبهم أن يجدوا لها حلولا موفقة ثم أخفقوا في ذلك، والبعض الآخر متصل بالمبادئ الرجعية - مبادئ العهد القديم - التي أخذ بها البربون، والأساليب التي أرادوا أن يطبقوها في حكومتهم متناسين جميع التغييرات التي حدثت في داخل البلاد من بداية الثورة الفرنسية (1789) إلى وقت عودتهم (1814).
وكانت المشكلة الكبرى التي ورثتها الملكية الراجعة من عهد الثورة ونابليون، محاولة التوفيق بين هدفين مختلفين: إنشاء نوع من الحكومة ترضى عنه البلاد، واتباع سياسة «خارجية» ترضى عنها الدول.
وفي الخمسين سنة التالية قامت محاولات ثلاث لتحقيق هذين الهدفين، أولها: في عهد الملكية الراجعة ذاتها، وقد أخفق البربون في هذه المحاولة؛ لأنهم لم يتمتعوا بالاحترام الكافي، لعودتهم إلى البلاد كما اعتقد كثيرون وقتئذ في ذيل جيش الاحتلال الأجنبي، ولأنهم أساءوا الحكم الداخلي، أي إنهم فشلوا في إقامة نوع الحكومة التي يرضى عنها الفرنسيون، فانتهى الأمر بقيام ثورة يوليو 1830 وضياع ملكهم، وأما المحاولة الثانية: فقد وقعت في عهد ملكية أسرة أورليان التي تولت الحكم بعد ثورة يوليو، وأخفقت لأن لويس فيليب اتبع سياسة خارجية كانت متعارضة تماما مع رغبات الأمة، ومع أن هذه الملكية استندت إلى مؤازرة الطبقة المتوسطة إلا أن هذا أجل فقط سقوطها بعض الوقت، فشبت ثورة فبراير 1848 التي أطاحت بملكية أسرة أورليان، وأعلنت الجمهورية الثانية، وأما المحاولة الأخيرة: فكانت في عهد لويس نابليون الذي استطاع أن يجمع حول العرش قلوب الفرنسيين مدة من الزمن، ولكن هذا النجاح نفسه لم يلبث أن نفر الدول التي أثار لويس نابليون مخاوفها عندما حاول إحياء مجد وانتصارات الإمبراطورية الأولى، فسقطت إمبراطوريته في النهاية بعد هزائم سبتمبر 1870 وصار إعلان الجمهورية الثالثة.
والحقيقة أن تاريخ فرنسا من وقت رجوع البربون (1815) إلى وقت إنشاء الجمهورية الثالثة (1871) إنما يدور حول أمرين هامين، أولهما: رغبة الفرنسيين في تحطيم التسوية - تسوية الصلح في فينا - التي ارتبطت في أذهانهم بانكماش حدود بلادهم، واعتبروها مهينة لشرف الوطن، ثم ارتطام هذه الرغبة بتصميم الدول التي وضعت التسوية على التمسك بها كأساس للنظام الأوروبي؛ لأنها خشيت من حدوث اضطرابات خطيرة إذا هي سمحت بوقوع أية اعتداءات على هذه التسوية، وأما الأمر الثاني: فهو رغبة الطبقة المتوسطة (البورجوازية) التي جنت أعظم فائدة من الانقلابات والتغييرات الاقتصادية والاجتماعية التي حدثت أيام الثورة وعهد نابليون، في أن تظل محتفظة بما في أيديها من مزايا عن طريق إنشاء حكومة دستورية تقف حائلا أولا: دون مطالب المهاجرين
Emigrés
الذين عادوا مع الملكية الراجعة وأرادوا استرداد ما كان لهم من حقوق وامتيازات وثروة وأرادوا عودة «النظام القديم» بحذافيره، وبدعاماته الثلاث: الملكية المطلقة، والكنيسة الممتلكة ذات الأراضي والأملاك الواسعة، ثم أرستقراطية النبلاء الوراثية، وثانيا: دون تسرب المبادئ الاشتراكية إلى طبقات الصناع والعمال وتغلغل هذه المبادئ في كيان المجتمع حتى لا ينجم من ذلك إفساح المجال لعناصر جديدة تشترك مع الطبقة الوسطى (البورجوازية) في الحكم عن طريق التوسع في قواعد الانتخاب وشرائطه، أي إن البورجوازية أرادت التمسك (بالمبادئ الحرة) وحسب.
ولقد كان من تفاعل هذه العوامل جميعها أن قامت ثورات 1830، 1848، كما وقعت الحوادث التي سببت سقوط الإمبراطورية الثانية (1870)، ويتضح ذلك كله من دراسة تاريخ فرنسا بعد سنة 1815. (1) الدستور
كانت مهمة البربون عند عودة لويس الثامن عشر إلى عرش فرنسا التوفيق بين مبدأين متناقضين: الشرعية
Legitimacy
وهو مبدأ العهد القديم، وسيادة الشعب، وهو ثمار الثورة، وتلك كانت مهمة شاقة، ثم إنه كان عليهم إلى جانب هذا، عقد الصلح «للمرة الثانية» مع الحلفاء المنتصرين، وهذه أيضا لم تكن مهمة يسيرة، وقد رفض تاليران رئيس الوزارة إبرام المعاهدة «القاسية» معتمدا في رفضه على إمكان إثارة غضب الشعب، ولكن الملك «الحذر» والذي كره تاليران؛ لأنه من رجال الثورة القدامى ووزير نابليون السابق، لم يشأ إثارة أزمة بينه وبين الحلفاء، فاستقال تاليران واستقالت الوزارة، وألف دوق ريشيليو
Richelieu
الوزارة الجديدة (في 24 سبتمبر 1815)، ووقع ريشيليو على معاهدة باريس الثانية في 20 نوفمبر 1815.
ومع هذا فقد كان السبب الأكبر في استقالة تاليران عجزه عن مقاومة متطرفي المهاجرين، الذين تألف منهم حزب الملكيين المتطرفين
Ultra Royalists
واشتطوا في مطالبهم خارج وداخل مجلس النواب الجديد الذي جرى انتخابه حسب الميثاق أو العهد الدستوري، الذي كان أصدره لويس الثامن عشر كما عرفنا في 4 يونيو 1814، عقب عودته إلى باريس، ولقد حكمت فرنسا وفق أحكام هذا الدستور من حين العمل به إلى وقت قيام الثورة في يوليو 1830، وكانت مآخذ الدستور ونقائصه، ثم ما ترتب على إصداره من انقسام الأمة إلى فريقين كبيرين؛ يتمسك أحدهما بهذا الدستور، ويريد الآخر تعديله أو إلغائه، من أسباب هذه الثورة الرئيسية.
وكان «العهد الدستوري» يتألف من مقدمة وستة وسبعين بندا، ومؤرخا في السنة التاسعة عشرة من حكم الملك، كأنما لم يسمع أحد شيئا عن حدوث ثورة فرنسية أو قيام حكم نابليون، جاء في المقدمة أن كل السلطة ترتكز في شخص الملك، ولو أن الملك - كما فعل أسلافه لويس الحادي عشر وهنري الثاني وشارل التاسع ولويس الرابع عشر - كان على استعداد لأن يعدل طريقة ممارسة هذه السلطة، وذلك بإعادة إنشاء مجلس للأشراف أو النبلاء، والاستعاضة بمجلس للنواب عن المجالس القديمة، كما جاء في المقدمة أن الملك بمحض إرادته، وباستخدام سلطته الملكية يمنح رعاياه بما له من حقوق السلطة هذا «العهد الدستوري» عن نفسه وعن خلفائه وإلى الأبد، فكان معنى هذا القول أن الشعب نفسه لم يسهم بشيء في إعداد هذا الدستور، أو تؤخذ موافقته عليه؛ ولذلك فالدستور دستور يمكن إلغاؤه
Revocable .
ومن مواد الدستور الست والسبعين، ضمنت الإثنتى عشرة مادة الأولى حقوق المواطنين الفرنسيين؛ وهي المساواة أمام القانون، بصرف النظر عن الرتب والألقاب، وذلك كان المبدأ الأساسي الذي أتت به الثورة، وحق الجميع في إشغال الوظائف المدنية والعسكرية، فلا تحتكر طبقة معينة الوظائف في الدولة، كما كان الحال لدرجة كبيرة قبل الثورة، ثم ضمان حرية الفرد باحترام القانون؛ فلا يجوز القبض على إنسان أو أن توقع عليه عقوبة إلا بمقتضى إجراء قانوني، وقد أنهى الأخذ بهذا المبدأ السجن التعسفي، ثم حرية العبادة وإقامة شعائر الدين واعتناق أي المذاهب التي يشاؤها الفرد، ولو أن الكاثوليكية ظلت بمقتضى الدستور دين الدولة الرسمي، ثم حرية الصحافة «ما دامت متفقة مع القوانين التي لا غنى عنها لمنع إساءة استخدام هذه الحرية»، ثم ضمان الملكية مع عدم استثناء الأملاك الأهلية، أي ضمان بقاء الممتلكات التي اغتصبها الأفراد من التاج أو الكنيسة أو النبلاء، أو حصلوا عليها بصورة من الصور في أيدي أصحابها الجدد.
وكان ضمان الملكية إلى جانب ما جاء في مادة أخرى (التاسعة) منعت استقصاء آراء الأفراد ومعتقداتهم السياسية في الأيام التي سبقت عودة «الملكية» خير ما يطمئن أفراد الطبقة البورجوازية على مراكزهم ومصالحهم، وأفراد هذه الطبقة هم الذين ابتاعوا الأملاك الأهلية بعد مصادرة أملاك الكنيسة والنبلاء والتاج في عهد الثورة، ثم أيدوا القوانين والأوامر التي أصدرتها حكومات الثورة، وأما النص على حقوق الفرنسيين المدنية عموما واحترامها، كما جاء في هذا الدستور، فقد دل على أن البربون كانوا مستعدين لقبول ذلك الجزء من تراث الثورة وعهد نابليون الذي من شأنه أن يطمئن الشعب الفرنسي إلى أن الملكية الراجعة لا تريد اجتياح الحريات والحقوق التي أصبحت عزيزة عليه، والسبب في هذا أن البربون أرادوا أن يكسبوا عطف الشعب (الطبقة المتوسطة) في وقت كانت حكومتهم لا تزال في حاجة ظاهرة إلى الاستقرار عند أول قدومهم.
ولكن الدستور في الوقت الذي أعطى فيه الحرية الفردية لجميع المواطنين الفرنسيين، ترك الأمة في مجموعها من غير ضمان لحرياتها؛ لأن ضمان حريات الأمة إنما يكون بدعم المسئولية الوزارية، وذلك بأن يتولى السلطة التنفيذية مجلس وزراء يرتبط بقاؤه بثقة المجلس الذي تنتخبه الأمة، أي البرلمان، وذلك ضمان كان الدستور خلوا منه، فقد جاء في المادة الثالثة عشرة: «إن شخص الملك مقدس ولا يمكن أن يمسه شيء، ووزراءه مسئولون، والملك وحده صاحب السلطة التنفيذية»، ومع ذلك فقد تركت هذه المسئولية الوزارية من غير حل؛ ففي حين كان للملك الحق في تعيين وزرائه، لم يذكر الدستور إذا كان من واجب الملك أن يختار هؤلاء من بين الأكثرية في المجلس حتى تكون حكومته برلمانية أو دستورية، وعلى كل الأحوال فقد صار يفسر كل من لويس الثامن عشر وشارل العاشر من بعده هذه المادة الثالثة عشرة بأنها تخولهما حق دعوة الوزارة وإقالتها حسب مشيئتهما ودون التقيد في ذلك برغبة مجلس النواب.
وبمقتضى هذا الدستور تألفت الهيئة التشريعية من مجلس للأعيان، وآخر للنواب، وصار للملك الحق في منح ألقاب الشرف والنبل وراثة أو لمدى الحياة فقط، وقرر لويس الثامن عشر أن تكون ألقاب النبلاء وراثية، ولم يكن الملك يميل في أول الأمر إلى خلق نبلاء جدد، ولكن تاليران وغيره من المستشارين سرعان ما أقنعوه بأن خلق مثل هؤلاء سوف يوحي إلى الدول الأوروبية بالثقة الكافية في استقرار أنظمة الحكم الفرنسية، ولما كان الدستور «في مادته السابعة والعشرين» يطلق حق «خلق » النبلاء من كل قيد، فقد استخدم هذا الإطلاق في «غمر» مجلس الأعيان بالنبلاء الجدد في المناسبات الهامة، من ذلك خلق ثلاثة وسبعين نبيلا في سنة 1819 في وزارة ديكاز
Decazes ، وستة وسبعين في سنة 1827 في وزارة «فيليل».
وأما مجلس النواب فكان يتألف من نواب ينتخبون لمدة خمس سنوات، وقد جعل حق الانتخاب مقصورا على الذين يدفعون ضرائب مباشرة قدرها ثلاثمائة فرنك سنويا، ولا تقل أعمارهم عن ثلاثين سنة، بينما اشترط في النائب أن يبلغ الأربعين أو يزيد، ويدفع ضريبة مباشرة قدرها ألف فرنك سنويا على الأقل، وهي شروط في صالح طبقة الأثرياء فقط؛ ولذلك فإن مجلس النواب سرعان ما صار أداة حكومية تمثل مصالح الأغنياء، وصار عدد المتمتعين بحق الانتخاب يقلون عن مائة ألف ناخب من مجموع تسعة وعشرين مليون نسمة، هم سكان فرنسا، وأما الذين يصلحون للنيابة فكانوا اثنى عشر ألفا فقط، وكان يتجدد خمس عدد النواب سنويا، وللملك الحق في حل مجلس النواب في أي وقت وإجراء انتخابات عامة جديدة.
ومما تجدر ملاحظته أن الدستور لم يعين الطريقة التي تجري بمقتضاها الانتخابات، وحدد مرسوم ملكي عدد النواب؛ فكان عددهم (402) نائبا في سنة 1815، ثم أنقص هذا العدد بعد حل المجلس في سبتمبر 1816 إلى (262) فقط. (2) الإرهاب الأبيض
وقد تبع عودة الملك إلى باريس (يوليو 1815) بعد حكم المائة يوم، وقوع حوادث دامية كثيرة خصوصا في جنوبي فرنسا حيث قتل كثيرون من رجال الثورة القدامى ومن البونابرتيين «مثل المارشال برون»، واستعرت الأحقاد الدينية من جديد في نيم
Nimes ؛ حيث أوقع الكاثوليك بالبروتستنت مذبحة كبيرة، بدعوى أن هؤلاء الأخيرين عطفوا على نابليون وكان لهم نشاط عظيم إبان حكومة المائة يوم؛ وهكذا انتشر ما يعرف بالإرهاب الأبيض، وزادت خطورته في ليون وأفينيون، وادعى حثالة القوم الولاء لملكية بربون الراجعة، ولم تتردد حكومة الملك الراجع في الانتقام من رجال العهد الماضي، لا سيما أولئك الذين حنثوا في يمين الولاء للملك لويس الثامن عشر وانضموا إلى نابليون أثناء المائة يوم، وكان كثيرون من هؤلاء قد استطاعوا الفرار من فرنسا عقب واقعة «واترلو».
ولما كانت وزارة تاليران التي استمرت في الحكم من يوليو إلى سبتمبر سنة 1815 قد أظهرت بعض الاعتدال في موقفها من هذه الحوادث الانتقامية، فقد أبعدت من الحكم، وتولى الدوق دي ريشيليو رياسة الوزارة، وفي عهده حوكم المارشال «ناي» وأعدم في 7 ديسمبر 1815، وفي اليوم التالي قدم ريشيليو مشروعا لاستصدار العفو عن جميع الذين اشتركوا في الحوادث الماضية، ما عدا أولئك الذين كانت لا تزال تجري فعلا محاكمتهم، فوافق المجلسان وصدر القانون المنشود، وأما الذين صدرت ضدهم أحكام بسبب أعمال ارتكبوها قبل يوليو 1815، أي قبل عودة الملك، فقد بلغوا حوالي تسعة آلاف، ولو أن العقوبة في أكثر الأحيان كانت مجرد الطرد من الخدمة.
وفي وسط هذه الموجة من الإرهاب الأبيض تم انتخاب المجلس الأول (في أغسطس 1815)، فدخل المجلس عدد عظيم من مؤيدي الملكية الراجعة، عرفوا باسم «الملكيين المتطرفين
Ultras »، وبلغوا في حماسهم للملكية الراجعة حدا جعل لويس الثامن عشر يسمي مجلسهم «بالمنقطع النظير»،
1
وينصح هؤلاء المتطرفين بألا يكونوا ملكيين أكثر من الملك.
وتزايد الإرهاب الأبيض - بعد تأليف مجلس النواب على هذه الصورة - شدة على شدته، وعندئذ اضطر الملك إلى حل المجلس في سبتمبر 1816، وفي الانتخابات الجديدة حصلت وزارة ريشيليو على أكثرية من العناصر الملكية المعتدلة، أيدت سياسة التهدئة والتسكين التي اتبعها ريشيليو في الداخل والخارج معا.
وعلى ذلك فقد أمكن أن تتمتع الملكية الراجعة بمجيء هذا المجلس الجديد بعهد هو أفضل العهود - بلا مراء - في تاريخها، استمر حتى سنة 1822، أي إلى الوقت الذي قرر فيه «فيليل» العودة إلى أساليب ومبادئ «العهد القديم»، فأضاع بذلك أعظم فرصة سنحت لضمان نمو واستقرار النظام البرلماني الثابت في فرنسا، وقد مهد «فيليل» بهذا العمل لإشعال ثورة يوليو وسقوط ملكية البربون الراجعة في النهاية. (3) الأحزاب السياسية
ولما كان خمس عدد الأعضاء يتجدد سنويا فقد بدأ جماعة من الأعضاء المستقلين والأحرار يدخلون مجلس النواب بعد سنة 1816، حتى إذا كان عام 1818 أصبح من الميسور ملاحظة وجود اختلاف في الرأي بين أعضاء المجلس، وأمكن التمييز بين أحزاب ثلاثة ظاهرة؛ أولها: حزب اليمين، وهم الملكيون المتطرفون، وشعارهم «الحرب ضد الثورة» «الفرنسية»، وأقدر رجالهم فيليل وشاتوبريان
Chateaubriand ، وصحيفتهم «الجورنال دي ديبا»،
2
وكان تأسيسها أيام الثورة في 29 أغسطس 1789، وكانت «معتدلة»، وثانيها: حزب الوسط، وهؤلاء من الملكيين المعتدلين، ويهدفون للتوفيق بين الملكية والثورة، وأقدر رجالهم ريشيليو وديكاز، وثالثها: حزب اليسار، وهؤلاء من الأحرار الذين قبلوا الملكية ولكنهم أرادوا إنشاء حكومة مسئولة على الطراز الإنجليزي، وأقدر رجالهم بنيامين كونستان
Benjamin Constant ، ولافيت
Laffitte ، وكازمير برييه
Casmir Périer ، والأخيران من المصرفيين، ثم انضم إليهم أيضا البونابرتيون.
وأهم صحف اليسار كانت «الدستور»،
3
وهي «معتدلة» كذلك، أضف إلى هذا أنه كان هناك فريق آخر يقرب من اليساريين، وإن كان منفصلا عنهم، ويعرف باسم «النظريين أو المذهبيين
Doctrinaires » منهم الفيلسوف «رويه كولار
Royer Collard » ثم جيزو
Guizot ، وصحيفتهم «لوكورييه»،
4
وكان من جماعتهم في مجلس الأعيان الدوق بروجلي
Broglie ، وقد وجد في مجلس الأعيان قلائل من الجمهوريين، مثل لفاييت
Lafayette .
وكان أصحاب السطوة والنفوذ عند عودة الملكية الراجعة، الملكيون المتطرفون ألد أعداء الثورة، والذين صمموا ليس فقط على القضاء على كل أثر للآراء الحرة التي جاءت بها الثورة «الفرنسية»، بل أرادوا الرجوع بفرنسا إلى الوراء، وتوجيه نمو البلاد التاريخي ليسير في طريق رجعي، ثم إنهم يمثلون سياسة المهاجرين التقليدية الذين كافحوا الثورة من المنفى بكل شدة، واعتزموا بمجرد عودتهم ظافرين إلى وطنهم أن يستردوا كل امتيازاتهم وكل أسباب السلطة الاستبدادية، وبقوا حوالي العشرين سنة يمنون أنفسهم بالانتقام متى رجعوا إلى الحكم في فرنسا.
وكان برنامج المتطرفين يستند إلى فكرة أساسية هي إحياء النظام القديم، وإنما مع تعديلات تتفق قبل كل شيء مع مصالح طبقة النبلاء والأشراف التي هي طبقتهم، وإن لم تكن هذه التعديلات ملائمة لصالح الملكية نفسها، وقد وجدوا أن خير وسيلة لتحقيق هذه الغاية هي إرجاع الكنيسة الكاثوليكية إلى سابق سطوتها، وعقد محالفة وثيقة بين الكنيسة والدولة، أو بين المذبح والعرش - كما قالوا - واتخاذ هذه المحالفة أساسا يبنون عليه مشروعاتهم، وحتى تتمكن الكنيسة الكاثوليكية من استرجاع سطوتها ومكانتها، أراد المتطرفون أن تستعيد الكنيسة جميع الأملاك التي اغتصبت منها أيام الثورة، وكانت لا تزال في حوذة الدولة.
ثم إنهم أعطوا رجال الدين حق الإشراف على التربية والتعليم؛ فتعين في سنة 1822 أسقف لرياسة الجامعة وأعطي سلطات واسعة، كما سمح لليسوعيين (الجزويت) بالعودة إلى فرنسا وتأسيس معاهدهم الدينية والتعليمية بها، وكان الغرض من هذا كله أن يستطيع حزب الكنيسة إعادة بناء النظام السياسي والاجتماعي في فرنسا تحت ستار العناية بحياة الأمة الروحية والخلقية، فتتاح الفرصة لبذر بذور الرجعية وتهيئة الأفكار لقبول تغيير النظام القائم، ثم كان من وسائلهم لتعزيز جهود الكنيسة في نشر فكرة التسليم والخضوع المطلق أنهم أنشئوا رقابة نشيطة على الصحف والمطبوعات حتى تمنع الحكومة نشر كل ما تراه ضارا بمصالحها ومعطلا لأهدافها، فيتقيد بذلك الرأي العام ويخضع لتوجيه الحكومة.
وكذلك أراد المتطرفون أن يستغلوا سياسة البلاد الخارجية بشكل يجعل ممكنا قبول التغييرات التي اعتزموا إجراءها في حياة مواطنيهم الداخلية؛ وذلك لأنه كان من المتعذر إطلاقا في رأي أكبر كتابهم (شاتوبريان) أن تحتل أسرة بربون مكانا ثابتا في قلوب الشعب الفرنسي؛ إلا إذا انتصر البربون في معارك عسكرية وأكسبهم هذا الانتصار مجدا وفخرا، وهكذا كان يتلخص برنامج «المتطرفين» في إقامة الملكية المستقرة والقائمة على دعائم موطدة، وإنشاء الكنيسة الغنية صاحبة الأملاك الواسعة، ولم يكن الغرض من هذا كله إلا استرداد امتيازاتهم السابقة، فقد صح عزم هؤلاء «المتطرفين» على استرجاع الممتلكات والحقوق التي كانت لطبقة النبلاء القديمة عند نشوب الثورة الفرنسية، أضف إلى هذا أنهم أرادوا الآن الاستئثار بقسط وافر من السلطة السياسية التي ظلوا حتى هذا الوقت محرومين منها، وما كانوا يرضون بديلا عن هذين الأمرين ثمنا لولائهم للملكية وللكنيسة.
وأما المعتدلون - من جماعات الوسط واليسار و«المذهبيين» - فقد دافعوا عن الثورة، وأرادوا استمرارها، ولكن من غير الروح الثورية - كما قالوا - ثم إنهم بنوا الآمال على أن من الممكن أن يتم تحالف بين النظام والحرية، وبين الشرعية والثورة، أي إنهم تمسكوا بكل قوة بتراث الثورة، وما كانوا يرضون بعودة النظام القديم بحال من الأحوال؛ ولذلك فقد تعذر أي اتفاق بينهم وبين «المتطرفين»، أضف إلى هذا أن المعتدلين كانوا ينفرون من الآراء المتطرفة، ويقبلون الملكية التي فرضت عليهم وعلى الفرنسيين قاطبة، بسبب الانتصارات العسكرية التي أحرزتها جيوش الأعداء، ويرون التمسك بالولاء للملك ما دام الملك يحترم من جانبه الشروط التي تبوأ بمقتضاها عرش فرنسا.
ولما كان الحلفاء المنتصرون قد أصروا على أن تكون الملكية الراجعة دستورية كضمان لا معدى عنه لبقاء واستمرار حكومة البربون في فرنسا، فقد تمسك المعتدلون بالدستور الذي أصدره لويس الثامن عشر؛ لأن هذا الدستور قضى نهائيا على تقاليد «النظام القديم» وأحل مكانها تقاليد الثورة والإمبراطورية «النابليونية»، حيث قد أخذ عن الثورة مبادئ التسامح والمساواة أمام القانون وعدم التمييز بين الطبقات في خدمة الدولة، أي فتح أبواب الوظائف أمام الجميع، بينما أخذ من الإمبراطورية أداة الحكومة المركزية.
وكان واضحا أن التوفيق متعذر بين حزبي المتطرفين والمعتدلين، وأن لا مفر من سقوط أحد هذين الحزبين وخروجه من الميدان السياسي في آخر الأمر؛ لأن فرنسا لم تكن تستطيع احتمال الصراع إلى ما لا نهاية من أجل الاستئثار بالسلطة والنفوذ بين هذين الفريقين، وأما نتيجة هذا الصراع فكانت اندحار المتطرفين، ومع ذلك فإن التأثير المباشر على مجرى الحوادث وتسيير دفة الأمور وسط هذه التيارات المتناقضة كان يتوقف على شخص الملك نفسه، وكان من حسن حظ البربون آنئذ أن لويس الثامن عشر لم يكن يجهل «نفسية» الأمة، أو حقيقة مركزه المزعزع حينما قال كاسلريه: «يبدو أن هناك رأيا واحدا فقط، هو أنه إذا انسحب جنود الحلفاء «من فرنسا» لن يبقى جلالة الملك أسبوعا واحدا على عرشه.»
ولم يكن لويس الثامن عشر بالرجل الذي يستمرئ حياة «التجول» السابقة، بل يبغي الاحتفاظ بعرشه؛ ولذلك عمد الملك إلى حل ذلك المجلس «المنقطع النظير» الذي ضم متطرفي الملكيين، وعهد بالوزارة إلى ريشيليو - وهو من المعتدلين - في الظروف التي ذكرناها (في سبتمبر 1816).
ونجحت وزارة ريشيليو في سياستها الخارجية عندما كسب ريشيليو ثقة الحلفاء، وتقرر في مؤتمر إكس لاشابل (1818) - على نحو ما عرفنا - انسحاب جيوش الاحتلال من فرنسا، وكان هذا نصرا دبلوماسيا للوزير، ولكن الانتخابات الجديدة السنوية لم تلبث أن أسفرت عن دخول عناصر جديدة عززت جماعة «الأحرار» في المجلس، فأجبر هؤلاء ريشيليو على الاستقالة في ديسمبر 1818، وعندئذ تولى الوزارة دوق ديكاز، وهو كسلفه من المعتدلين، وكان ديكاز مقربا من الملك وصاحب مهارة برلمانية، واتسمت إدارته بطابع الحكمة.
وقد اعتمد ديكاز على مؤازرة الأحرار في المجلس كما وعد «المذهبيون» بتأييده؛ فألغى في أول مايو 1819 الرقابة على الصحف، وتقررت حرياتها، ولكن مقتل دوق دي بري في 13 فبراير 1820 سرعان ما أثار ضد ديكاز العناصر المتطرفة؛ فحمله المتطرفون - بسبب أساليبه المعتدلة - مسئولية هذا الحادث، ولم تلبث أن سقطت وزارته، وكان سقوط ديكاز مؤذنا ببداية ذلك التغيير الذي أفضى إلى سيطرة الرجعيين والمتطرفين على شئون الحكم في فرنسا بشكل أدى في النهاية إلى انفجار ثورة يوليو 1830.
فقد كان من أثر مقتل دوق دي بري أن اختفت جماعة الوسط من المجلس؛ فأصبح المجلس ينقسم الآن إلى فريقين ظاهرين فقط: اليمين من المتطرفين، واليسار من الدستوريين والأحرار، ووجد المتطرفون أن الوقت غير مناسب ليتولى أنصارهم الوزارة؛ ولذلك فقد عهد إلى ريشيليو بتأليف الوزارة الجديدة، وفي عهد ريشيليو أعيدت الرقابة على الصحف، ثم صدر قانون الانتخاب في يونيو 1820، ضيق حقوق الانتخاب لمصلحة الطبقة الممتلكة الغنية، وذلك بإدخال ما يعرف باسم «التصويت الضعفي
Double Vote »، فقد رفع عدد النواب من 258 إلى 430 على أن ينتخب الناخبون النواب في الأقاليم وعدد هؤلاء (258)، ثم يعود الناخبون أنفسهم ممن يدفعون أكثر الضرائب في أقاليمهم - وهم ربع عدد الناخبين - فينتخبون من جديد العدد الباقي من النواب، أي (172) نائبا، وبذلك يكون هذا الربع من عدد الناخبين قد اشترك مرتين في عملية الانتخاب، أي أدلى بصوته مرتين، وصار لذلك ممثلا تمثيلا ضعيفا في مجلس النواب.
وقد ترتب على هذا النظام إذن أن دخلت بعد حادث مقتل دوق دي بري أكثرية متطرفة إلى مجلس النواب لم تكن ترضى عن «اعتدال» ريشيليو، فلم تلبث أن اضطرته إلى الاستقالة في ديسمبر 1821؛ فألف الوزارة الجديدة زعيم المتطرفين الكونت دي فيليل، الذي استمر في الوزارة سبع سنوات من عام 1821 إلى 1827، واستطاع أن ينفذ برنامج المتطرفين الذي سبق وصفه. (4) وزارة فيليل
كانت سياسة فيليل رجعية بحتة، ولكنه اتبع في تنفيذها أساليب دلت على المهارة والحنكة، وكانت تختلف عن تلك التي سببت إخفاق المتطرفين في سنة 1816؛ ذلك أنه لم يشأ إزعاج البلاد بإظهار تطرفه، بل عمد إلى اتباع سبيل التؤدة والاعتدال الظاهر في تنفيذ سياسته، حتى وصفه جيزو برجل الاعتدال في حزبه، ومع ذلك ففي رأي كثيرين أن فيليل كان مخطئا عندما قرر المضي في سياسة رجعية نصيبها الإخفاق لا محالة، وهو الرجل الذي اشتهر بأساليبه الإدارية الحكيمة وبدربته السياسية، وسواء أخطأ فيليل أو لم يخطئ في تفهم «نفسية» أمته وإدراك ميول الشعب وعواطفه الحقيقية، فالثابت على كل الأحوال أنه كان مصمما على المضي في تجربته الرجعية مهما كانت النتائج.
ولقد اعتمد فيليل في ذلك على قوة الكنيسة، وقوة المصالح المادية، يستخدم التربية الدينية كأداة للدعاية (البروبجندا) السياسية ولاستئصال ذكريات الثورة وبذر بذور المبادئ التي يستند إليها نظامه السياسي، ويستخدم «قوة المصالح المادية» في استمالة الرأي العام وتحويل الشعب من الشئون السياسية إلى الاهتمام بالسعادة المادية، وقد شرع فيليل ينفذ هذا البرنامج خطوة فخطوة وبكل حذر واعتدال وحكمة، وكاد يكون النجاح نصيبه ولا شك لولا طغيان المتطرفين، والانقسام الذي حدث في صفوف حزبه، مما أفسد عليه سياسته في النهاية.
نفذ فيليل إذن سياسته تدريجيا؛ فشدد الرقابة على الصحف (1822)، وفرض ضرائب عالية على الواردات إرضاء لأصحاب المصانع الأغنياء، وأعطى الكنيسة حق الإشراف على التربية والتعليم، ولقد كان ظاهرا عند وصول فيليل إلى الحكم أن لا مفر من اتخاذ إجراءات صارمة ضد «الثورة» وأنصارها بسبب انتشار الجمعيات السرية وكثرة المؤامرات التي تدبر لإثارة العصيان في الجيش؛ فقد ألقي القبض على بعض المتآمرين من العسكر في «لاروشيل»، واتضح أنهم ينتمون إلى جمعية الكاربوناري السرية
Charbonnerie - على غرار جمعية الكاربوناري التي دبرت الثورة في إيطاليا عام 1820 - وحدث هذا في وقت اندلعت فيه الثورة في إسبانيا أيضا ، واضطر فيليل - كما سبقت الإشارة إليه - إلى إنشاء ذلك «الكردون الصحي» على الحدود بين إسبانيا وفرنسا بحجة منع انتقال وباء الكوليرا المنتشر وقتئذ في إسبانيا.
وعندما نجح الغزو الفرنسي في إسبانيا (في مارس سنة 1823) تدعم انتصار أحزاب اليمين في مجلس النواب؛ فرفع فيليل إلى مرتبة النبلاء سبعة وعشرين نبيلا جديدا تعزيزا لمركز الحكومة في مجلس الأعيان، ولإضعاف الأكثرية «الحرة» في هذا المجلس، واستصدر قانونا للانتخاب (1823) جعل مدة مجلس النواب سبع سنوات بدلا من خمس؛ فيتجدد سبع أعضاء المجلس فقط كل سنة بدلا من خمس أعضائه، وفي سنة 1824 عظم نفوذ «المتطرفين» في مجلس النواب حتى أعاد هذا المجلس بتطرفه إلى الأذهان ذكرى مجلس 1815 «المنقطع النظير»؛ ولذلك فقد سمي «بالمجلس الذي عثر عليه ثانية»،
5
وفي 16 سبتمبر 1824 توفي لويس الثامن عشر، وتولى من بعده أخوه الكونت دارتوا باسم الملك شارل العاشر.
وكان الملك الجديد عظيم الاعتقاد بأن للملوك حقا مقدسا في الحكم، ثم إنه كان صاحب ميول شديد نحو الأكليريكية «أي لتأييد الكنيسة»، حتى صار الملكيون يعرفون الآن باسم «حزب القساوسة
»، ولم يكن من المنتظر - وقد ناهز الملك السابعة والستين من عمره - أن يتخلى عن معتقداته أو أن ينحرف عن ميوله؛ ولذلك فقد استطاع فيليل الذي بقي في رياسة الوزارة أن ينفذ برنامج الملكيين المتطرفين بحذافيره، وكان أهم ما حدث تعويض المهاجرين الذين خرجوا إلى المنفى في عهد الثورة وحاربوا في صفوف الأعداء ضد فرنسا بمبلغ جسيم من المال (أربعين مليون جنيه)، وضعفت مقاومة الأحرار في المجلس؛ فكان عددهم لا يزيد على العشرين، ومع ذلك فقد ضم الأحرار إلى صفوفهم طائفة من أكفاء الرجال في فرنسا، ثم انحاز شوتوبريان إلى جانبهم بعد أن أخرج من سفارة لندن بعد اعتلاء شارل العاشر العرش، فصار يمد بالمقالات جريدة اليمين المعتدلة «جورنال دي ديبا»، وكانت هذه الصحيفة قد انتقلت نهائيا إلى صف المعارضة في عهد شارل العاشر، ووضعت خدماتها تحت تصرف جماعة الأحرار.
ولما كانت سياسة التحالف بين «المذبح والعرش» التي جرى عليها فيليل قد أيقظت مخاوف الأمة، وتركزت المعارضة الحرة ضده في مجلس الأعيان، فقد عمد فيليل من أجل التغلب على هذه الصعوبات إلى «خلق» ستة وسبعين نبيلا جديدا في سنة 1827، ثم إنه بادر بحل مجلس النواب وإجراء انتخابات جديدة.
ولكن نتيجة الانتخابات جاءت على خلاف ما كان يرجوه، فاستطاع الأحرار أن يؤلفوا أكثرية معارضة في المجلس الجديد، وعندئذ اضطر فيليل إلى الاستقالة بعد حكومة دامت سبع سنوات كانت سياستها في أثنائها ناجحة إجمالا: تقدم مادي في الداخل، ونجاح في السياسة الخارجية في الحملة الإسبانية، وفي انتصار نفارين.
وبعد شهر من استقالة فيليل اضطر شارل العاشر إلى قبول وزارة «معتدلة»؛ فألف الكونت دي مارتنياك
Martignac
الوزارة الجديدة، وكانت غايته الاعتماد على أحزاب الوسط في الحكم، ولكنه فشل في استمالة الأحرار والمعتدلين، ولم ينل تأييد الملكيين المتطرفين، كما أن الملك وجده «معتدلا» أكثر مما ينبغي، فاتحدت كلمة الأحرار والمتطرفين ضده، وسقطت وزارته في أبريل 1829. (5) وزارة «بولينياك
» والتمهيد للثورة
وكان معنى سقوط مارتينياك إخفاق آخر محاولة في عهد الملكية الراجعة - ملكية البربون الشرعية - من أجل التوفيق بين الملكية وبين الحرية الدستورية، وعندما كلف الملك البرنس جول دي بولينياك بتأليف الوزارة الجديدة، قابل الرأي العام الفرنسي هذا النبأ بغضب شديد؛ لأن بولينياك كان أحد زعماء المهاجرين في عهد الثورة، واشترك في مؤامرة «كادودال» المعروفة لاغتيال نابليون وحكم عليه بالإعدام، واستبدل السجن بالإعدام بناء على وساطة جوزفين، ثم إن بولينياك كان احتج في سنة 1815 ضد الدستور ورفض أن يقسم يمين الولاء له وبقي سنوات طويلة من أقرب المقربين إلى شخص شارل العاشر، ويؤيد أشد القوانين المتطرفة التي اقترحها شارل وأراد استصدارها.
ولم يلبث بولينياك بمجرد وصوله إلى الحكم أن أعلن عزمه على «إعادة تنظيم المجتمع وإعادة ما كان لرجال الدين من نفوذ وشأن في أعمال الدولة، وإنشاء أرستقراطية قوية وإحاطة هذه الأرستقراطية بالامتيازات»، ولكن بولينياك لم يكن - لضعفه وتردده - الرجل الذي في استطاعته حقا تنفيذ هذا البرنامج الرجعي المتطرف، بل إنه صار يعتمد على كسب الانتصارات الخارجية في استمالة الأمة إلى تأييد سياسته؛ فأرسل حملة إلى الجزائر (في يوليو 1830) كانت ناجحة، واعتمد على هذا الانتصار فأجرى انتخابات جديدة، ولكن نتيجة هذه الانتخابات جاءت على عكس ما كانت الحكومة تنتظره، ومع ذلك أصر بولينياك على بقاء الوزارة على حالها، وعلى تعديل قانون الانتخاب وتقييد حرية الصحافة، وهي مسائل اعتقد بولينياك أنها ضرورية حتى يمكن «امتزاج» الأحزاب، وحتى يمتنع الاصطدام بينها، الأمر الذي دل ليس فقط على عناده، بل وعلى قصر نظره؛ لأن الإصرار على المضي في هذه المسائل ذاتها لم يلبث أن أودى بملكية البربون.
ولم تلبث الحكومة أن شعرت بحرج مركزها عندما أتت الانتخابات بأكثرية معارضة لها في مجلس النواب، ولم يشأ مجلس الأعيان تأييد الحكومة في إجراءات من شأنها - كما قال هذا المجلس - «أن تضع الوزارة في موقف المعارضة الصريحة والعلنية ضد مجلس النواب»، وعندئذ لم يجد شارل العاشر ووزيره مخرجا من هذا المأزق إلا بحل المجلس ولما يجتمع بعد، وتعطيل الضمانات التي كفلت للشعب حرياته، بدعوى أن هذه الحريات قد أسيء استخدامها.
ولما كانت المادة الرابعة عشرة من الدستور تجيز للملك استصدار «مراسيم» للمحافظة على سلامة الدولة، فقد نشرت الجريدة الرسمية «المونيتور
Moniteur » في 25 يوليو 1830 «مراسيم سان كلو الأربعة المشهورة»، وكان سان كلو أحد قصور شارل العزيزة لديه، وتعلن حل مجلس النواب، وإدخال تغييرات على قانون الانتخاب (من ذلك إنقاص عدد النواب إلى مائتين وخمسين نائبا)، ودعوة الهيئة التشريعية للاجتماع يوم 28 سبتمبر، ثم تقييد حرية الصحافة، ولم يكن هناك أي شك في عدم قانونية المرسومين الخاصين بإدخال التغييرات على قانون الانتخاب، وتقييد حرية الصحافة، وكان تعليق السفير الإنجليزي في باريس لورد ستيورات دي روثزاي
Rothesay ، أن الحكومة قد استصدرت هذه المراسيم كوسيلة تقيس بها قوتها إزاء قوة خصومها. (6) ثورة يوليو 1830
وبمجرد ذيوع نبأ هذه المراسيم الأربعة نزلت أسعار الأوراق المالية، واحتج عليها كبار العلماء، فأثارت الملكية القديمة ضدها - على حد قول لويس بلان - عداء المال والعلم من البداية، فتوقف المصرفيون في باريس عن إجراء عمليات الخصم، وتعذر على أصحاب الصناعة الحصول على المال أو الاقتراض، وطفقوا يخرجون من مصانعهم العمال في أعداد كثيرة؛ وعلى ذلك فإنه سرعان ما أقيمت المتاريس في شوارع باريس، ووقع الاصطدام بين العمال والجنود، وسفكت الدماء، وعندئذ تسلح أعضاء «الحرس الأهلي» القديم - وكان هذا الحرس قد انحل منذ عام 1818 - فاحتلوا مبنى أوتيل دي فيل، كما استولى الثوار على مكاتب الحكومة ودواوينها وامتنع عن الحكومة المال (28 يوليو)، وكان أكثرية الثوار من الجنود القدامى وأعضاء الكاربوناري، وجماعة الجمهوريين والعمال.
وتولى الجمهوريون تنظيم الثورة، وسيطر البورجوازيون عليها، واتحدت كلمة العمال الذين هدفوا إلى أغراض سياسية وحسب، فلم يطلبوا تغييرات اجتماعية، وكلمة الممولين، أصحاب العمل، فتحالفت - كما يقول لويس بلان - الطبقة الوسطى (البورجوازية) مع الشعب في هذه الثورة، وهي التي استمرت حوادثها طوال ثلاثة أيام بتمامها (27، 28، 29 يوليو سنة 1830)، وقد عرفت هذه باسم «الأيام المجيدة الثلاثة».
6
وفي يوم 28 يوليو اجتمع ثلاثون عضوا من أعضاء المجلس المنحل في منزل المصرفي الغني كازمير برييه
Casimir Péier ، وكان يكره الفوضى و«حكم الغوغاء»، وتقرر تأليف حكومة مؤقتة اتخذت مقرها في مبنى «أوتيل دي فيل»، وعرضت رياسة الحرس الأهلي على لفاييت، رجل الثورة القديم، وقبل لفاييت المنصب، وعرض التاج على «لويس فيليب» دوق أورليان، وعبثا حاول شارل العاشر إصلاح الخطأ الذي ارتكبه، فسحبت الحكومة المراسيم الأربعة في 29 يوليو، ولكن هذا الإجراء جاء متأخرا، كما لم تفلح محاولة أخرى عندما أراد شارل العاشر التنازل لصالح حفيده ابن دوق دي بري
Berry
وهو دوق دي بوردو
Bordeau ، فدخل لويس فيليب إلى باريس، وركب إلى مبنى أوتيل دي فيل مرتديا حلة جنرال ويحمل شارة الثورة المثلثة الألوان، وظهر على الشرفة وإلى جانبه لفاييت، وتعانق الاثنان وسط هتافات الجماهير المحتشدة، وحينئذ لم يجد شارل العاشر مناصا من مغادرة فرنسا؛ فترك سان كلو في 3 أغسطس إلى فرساي، ومنها إلى نورماندي، فوصل إلى شربورج في 4 أغسطس 1830، ومن هناك حملته وحاشيته سفينتان إلى إنجلترة، حيث عاش بها مدة «في أدنبره باسكتلندا» ثم انتقل إلى النمسا (إلى براج ثم إلى جوريتز
Goritz ) وقد توفي بها سنة 1836.
نتائج ثورة يوليو
ولثورة يوليو أهمية كبيرة في تاريخ فرنسا، ولو أنه كان يبدو أن هذه الثورة في ظاهرها لم تحدث تغييرات جوهرية؛ فقد بقيت «الملكية» نظاما للحكم بالرغم من إقصاء البربون عن العرش، بل إن العرش انتقل إلى أسرة أورليان، وهي فرع من أسرة بربون ذاتها، وهذا مع العلم بأن الجمهوريين هم الذين نظموا الثورة وتسلموا زمامها، وهم الذين تألفت منهم الحكومة المؤقتة في «أوتيل دي فيل»، وكانوا يعتبرون الثورة عملا لا يتحدون به فقط ملكية بربون، بل وكل أوروبا التي كانت أرغمتهم على قبول الإهانة الوطنية في عام 1815، ومع ذلك فقد تعذر على الجمهوريين تحقيق مآربهم؛ لأن الظروف التي أفضت إلى زوال حكم البربون وسقوط ملكيتهم، جعلت من المتعذر بل ومن المستحيل إقامة الجمهورية في فرنسا؛ لأن أوروبا في عام 1830 كانت - ولا شك - تفسر إنشاء الجمهورية بأنه عمل عدائي تقصد فرنسا أن تتحداها به، ولا يمكن أن ترضى أوروبا به، وهي لا تزال تذكر حوادث 1789.
ولذلك فقد كان من المتوقع إذا أنشئت الجمهورية أو يعمد «الحلفاء» القدامى إلى اتخاذ خطوات حاسمة لدفع شرور هذا الخطر بكل سرعة، وأمام هذه الاعتبارات كان كل ما استطاع الجمهوريون أن يفعلوه إذن هو الاحتجاج على إعادة النظام الملكي، وفي هذه الظروف تمكن الأحرار في المجلس - الذي كان شارل العاشر أعلن حله، ثم اجتمع الآن من تلقاء نفسه - من إنشاء نظام للحكم في البلاد يتفق مع رغباتهم، وذلك بابتداع حل وسط يضمن استمالة الدول الأوروبية بالإبقاء على نظام الملكية في فرنسا، واستمالة العناصر الديمقراطية التي تتألف منها الطبقة المتوسطة (البورجوازية) بتقديم الضمان الكافي ضد عودة الأرستقراطية إلى الحكم من جهة، وضد انتصار الاشتراكية العمالية من جهة أخرى، أما هذا الحل الوسط فكان عرض التاج الفرنسي على «لويس فيليب» الذي اشترك مع الثورة في معاركها «في فالمي وجيماب ونرويندن» وابن فيليب المساواة الذي أعدمته الثورة في سنة 1793.
وزيادة على ذلك فإن ثورة يوليو لم تفشل فقط في إزالة الملكية، بل أخفقت كذلك في إدخال تغييرات واسعة على الدستور نفسه، ولم تحقق «سيادة الأمة»، فقد اهتم مجلس النواب قبل دعوة لويس فيليب للحكم بإعداد دستور جديد حتى يقسم الملك يمين الولاء له عند تنصيبه، ولم يكن هذا الدستور الجديد في الحقيقة إلا دستور عام 1814 مع تعديلات بسيطة تناولت المواد التي سببت المتاعب في الماضي؛ فعدلت المادة الرابعة عشرة بشكل يجيز للملك استصدار المراسيم الضرورية لتنفيذ القوانين، ويمنعه في الوقت نفسه من وقف القوانين أو تعطيلها، وكذلك لم يعد اقتراح القوانين من حق الملك وحده، بل صار المجلسان (النواب والأعيان) يتمتعان بهذا الحق أيضا، ثم جعلت جلسات مجلس الأعيان علنية مثلها في ذلك مثل جلسات مجلس النواب، وبدلا من النص على الكاثوليكية أصبح الدين الذي تعتنقه أكثرية الفرنسيين هو دين الدولة الرسمي.
ثم نص الدستور على عدم عودة الرقابة على الصحف بتاتا، وبمقتضى المادة السابعة والستين صار علم الدولة ثم شارتها، علم الثورة المثلث الألوان ثم شارة الثورة المعروفة «الكوكارد
Cocarde »، وزيادة على ذلك فقد اختفت من الدستور الجديد، تلك المقدمة التي اشتمل عليها دستور 1814، والتي أيدت نظرية حق الملك المقدس في الحكم، وذكرت أن إعطاء الدستور كان منحة من الملك لشعبه، ثم أنقص سن الناخب إلى خمس وعشرين والنائب إلى ثلاثين، ونص الدستور على أنه لا يمكن أن يتم تغيير في قواعد الانتخاب إلا بقانون؛ وذلك لضمان عدم تعطيلها.
ثم صدر قانون بقواعد الانتخاب الجديد في 1831 ظل معمولا به حتى عام 1848، ألغي بمقتضاه «التصويت الضعفي»، ووسع حق الانتخاب حتى يشمل الذين يدفعون مائتي فرنك ضرائب عقارية بدلا من ثلاثمائة فرنك، وأنقصت الضرائب إلى مائة فرنك فقط في حالة المحامين والأطباء والقضاة والأساتذة ومن إليهم، وأما النواب فصاروا يدفعون خمسمائة فرنك ضرائب بدلا من ألف فرنك، وبذلك ضوعف عدد الناخبين تقريبا، أي صاروا مائتي ألف ناخب، وكان عدد سكان فرنسا حسب تعداد سنة 1831 اثنين وثلاثين مليونا ونصف مليون نسمة، ومن هؤلاء المائتي ألف كان يتألف جزء البلاد القانوني
، أي ذلك الجزء من الأمة الذي كان يتمتع بحق الانتخاب والنيابة .
وظاهر من هذا أن ملكية يوليو كانت تعتمد على طبقة أصحاب الأملاك، أي الطبقة المتوسطة الغنية (أرستقراطية المال)، ولقد ظلت البورجوازية تتمتع بالسلطة وتحتكرها طوال عهد هذه الملكية، وهكذا وجد أولئك الذين اشتركوا في ثورة يوليو، والذين أرادوا على وجه الخصوص توسيع حقوق الانتخاب، وخصوصا العمال الذين حرموا السلطة السياسية أنهم قد خدعوا في آمالهم وأغراضهم، وكان اعتماد ملكية يوليو على الطبقة المتوسطة (البورجوازية) وعلى جماعة اليمين من هذه الطبقة، وهم أصحاب سياسة «الجمود» من عوامل ضعف هذه الملكية التي سميت بملكية يوليو؛ نسبة إلى الثورة التي كانت سببا في وجودها، ثم إن ذلك كان أيضا السبب في إشعال الثورة التي أودت بهذه الملكية (ملكية يوليو) ذاتها في النهاية.
ملكية يوليو: عوامل ضعفها
ولقد تعددت العوامل - إلى جانب الاعتماد على طبقة البورجوازي وعلى أصحاب سياسة «الجمود» - التي سببت ضعف ملكية يوليو وأدت إلى زوالها، وكان من أخطر هذه العوامل تلك التي ارتبطت بنشأتها ونجمت من البحث في طبيعة تكوينها عندما صار يتناقش كثيرون فيما إذا كان لويس فيليب يحكم مستندا إلى حق الملوك المقدس في الحكم، أو إلى رغبة وإرادة الشعب الممثلة في نوابه، وواضح أن ملكية يوليو - وهي وليدة الثورة - ما كانت تستند إطلاقا إلى حق الملوك المقدس في الحكم، بل لعله كان من حسنات ثورة يوليو أنها بنجاحها قد قضت نهائيا على أية ادعاءات من جانب الملوك أن لهم حقوقا مقدسة في الحكم، كما أن هذه الثورة قد أطاحت بمبدأ الشرعية الذي أيده مؤتمر فينا وتمسك به المتطرفون الملكيون، وهو المبدأ الذي كان من نتيجة تمسك البربون به وببرنامج المتطرفين المبني على أساس الشرعية عموما، ليس سقوط ملكية البربون ذاتها فحسب، بل واختفاء برنامج المتطرفين كذلك من حياة الأمة السياسية، بل إن ثورة يوليو من هذه الناحية إنما تعتبر مكملة لثورة 1789 على أساس تأييد مبادئ المساواة، والعلمانية
Secularism ، والحرية والدستور.
ومما يؤيد عدم إمكان ملكية يوليو أن تعتمد على حق الملوك المقدس في الحكم، أن هذه الثورة (ثورة يوليو ) لم تقبل دوق بردو
Bordeau
ابن دوق بري، وحفيد شارل العاشر وارثا للعرش، بل اختارت لاعتلائه لويس فيليب من فرع الأسرة الآخر (أورليان - بربون)، ومع ذلك فقد تساءل كثيرون إذا كان يعني اعتلاء لويس فيليب العرش في هذه الظروف أن السيادة قد صارت متركزة في الشعب، وذلك رأي أخذ به فريق على اعتبار أن شعب فرنسا هو الذي «انتخب» من الوجهة العملية الملك لويس فيليب، وكان في استطاعته وبملء حريته أن ينتخب ملكا آخر غيره، وزيادة على ذلك فإن الشعب الذي انتخبه في إمكانه كذلك أن يعزله أو يبعده من الحكم.
وأما الذين خالفوا هذا الرأي فكانت حجتهم أن التشبث بهذا الكلام معناه أن ملكية يوليو ليست في حقيقة الأمر إلا «جمهورية» في حين أن «الجمهورية» كنظام للحكم قد رفضت تماما، ولو أن أحدا لا ينكر في الوقت نفسه - كما قالوا - أن مركز ملكية يوليو مركز «خاص»؛ لأن أساس النظام الجديد كان عبارة عن عقد أو ميثاق الملك والأمة، وكلاهما يتمتع بقسط من «السيادة»؛ ولذلك فكلا الطرفين ضروري للآخر، ويكملان بعضهما بعضا، ولم تعترف فرنسا اعترافا مطلقا بنظرية سيادة الشعب أو سيادة الملك الكاملة، بل إن امتزاج السيادتين الكامل والذي لا مفر منه هو أساس الدولة، وقد أفصح لويس فيليب نفسه عن نظرية الملكية هذه، عندما قال: «إنه يملك بفضل من الله وبناء على إرادة الأمة»، وهكذا كان الأساس القانوني الذي استندت إليه ملكية يوليو أساسا غير ثابت، ومن أول الأمر موضع مناقشة كبيرة.
وثمة عامل آخر من عوامل الضعف؛ هو أن ملكية يوليو لم تكن لها سيطرة موطدة في داخل البلاد وهيمنة تامة على شئونها، ومرد ذلك إلى أن الذي فصل في سنة 1830 في مصير فرنسا كان مجلس النواب، وهو مجلس سبق أن حله شارل العاشر، ولكنه اجتمع من تلقاء نفسه لتقرير مسألة إعطاء التاج إلى لويس فيليب، فلم يكن اجتماعه إذن قانونيا، أضف إلى هذا أن الذين اشتركوا في بحث هذه المسألة كانوا (252) عضوا فقط من (430)، وأن الذين أعطوا أصواتهم في صالح لويس فيليب كانوا (219)، أي إنه كان مشكوكا في مركز هذه الملكية من الناحية القانونية من البداية، وقد نجم من ذلك أن ملكية يوليو فرغت كل جهودها للعمل على توطيد مركزها، ووجهت معظم نشاطها لبسط سيطرتها على الشعب الفرنسي ودعم وجودها.
وأما محك هذه السيطرة أو ضمان هذا الوجود فكان متوقفا على مقدار احترام الشعب لملكية نشأت في ظروف ثورية وتشكلت لسبب جوهري هو الرغبة في عدم استعداء الدول الأوروبية ضد فرنسا إذا أعلن الجمهورية أولئك الجمهوريون الذين قادوا ثورة يوليو وأشرفوا على تنظيمها؛ ولذلك لم تكن ملكية يوليو ذات أصول بعيدة أو تعتمد على تقاليد عتيقة تفرض احترامها على الشعب، بل كانت تستمد بقاءها من رغبات الطبقة المتوسطة (البورجوازية) الغنية، وتعتمد في حياتها على تعضيد هذه الطبقة لها، وكان إنشاؤها نتيجة لاعتبارات عملية بحتة، في حين أنها محرومة من السمعة المجيدة التي تضفي عليها عظمة الملك وأبهته.
وقد أظهر مترنخ حقيقة هذا الوضع في قوله: «إن لويس فيليب وجد نفسه عند اعتلاء العرش في مركز لا يمكن الاحتفاظ به؛ لأن الأساس الذي قام عليه سلطانه لم يكن سوى نظريات جوفاء وحسب، بينما يفتقر عرشه إلى تأييد ذلك الاستفتاء الذي استندت عليه جميع الحكومات التي تشكلت بين عامي 1792-1801، كما أن عرشه يفتقر كذلك إلى التأييد المستمد من الحق التاريخي، وهو حق استندت عليه ملكية بربون الراجعة، ثم إن عرشه يفتقر أيضا لقوة الشعب التي تستند عليها الجمهورية، والانتصارات العسكرية التي تستند عليها الإمبراطورية، ثم للعبقرية والسلطان اللذين تمتع بهما نابليون، والمبدأ الذي أيد «حقوق» البربون؛ وعلى ذلك فإن استمرار هذه الملكية وبقاءها سوف يعتمد على سير الحوادث وتقلبات الظروف.»
حقيقة بقيت واستمرت ملكية يوليو أكثر مما قدر لإمبراطورية نابليون، أو لملكية البربون الراجعة أن تبقيا، ولكن ذلك كان بقاء محفوفا بالمخاطر وتحدق به الصعوبات من كل جانب، بل وكان لهذا السبب نفسه من العوامل التي مهدت لسقوط هذه الملكية، ومن أشد هذه المخاطر وأقسى الصعوبات التي صادفتها ملكية يوليو، كان وجود الأعداء «الخارجيين» الذين أنكروا عليها حق البقاء نفسه، ثم وجود الانقسام في صفوف أنصار هذا النظام الجديد الذين اختلفت آراؤهم بشأن السياسة التي وجب على ملكية يوليو اتباعها في الداخل والخارج معا.
أما الأعداء «الخارجيون» فهم «الشرعيون» الذين يطالبون بالعرش لدوق دي بردو «هنري الخامس»، ابن دوق بري وحفيد شارل العاشر، والذين اعتبروا لويس فيليب مغتصبا سرق التاج من صاحبه الشرعي، دوق بردو، وتولى زعامة هذه الجماعة أرملة دوق بري، كارولين ابنة فرنسوا الأول ملك نابولي، والتي أدارت المعارضة القوية من منفاها في إنجلترة، واعتمدت في نشاطها على أن الدول سوف تقبل على تأييدها دفاعا عن مبدأ الشرعية الذي تستند عليه حكوماتها، كما أنها اعتمدت على قوة الحزب البربوني في فرنسا ذاتها، وقد اعتدقت دوقة دي بري أن لهذا الحزب قوة يعتد بها في البلاد، ثم إنها كانت متيقنة من مؤازرة رجال الدين والنبلاء، ومن تأييد إقليم فندية الذي اشتهر أهله بولائهم للبربون دائما، ولقد عظم أملها في النجاح لدرجة أنها أعدت - مقدما - دستورا لإعلانه بمجرد عودة ابنها «هنري الخامس» إلى عرش آبائه، وكانت لا تفتأ تتأهب للعودة إلى فرنسا.
وإلى جانب هؤلاء الشرعيين، كان هناك «الجمهوريون» وبعض هؤلاء من الطبقة البورجوازية، والبعض الآخر من العمال، ويطالبون جميعهم بحق الانتخاب العام، وهؤلاء الجمهوريون الذين استطاع لفاييت أيام الحكومة المؤقتة أن يجذبهم لإقامة ملكية يوليو بعد أن أكد لهم أنها سوف تكون «أفضل أنواع الجمهوريات» المعروفة، ثم تبين للجمهوريين بعد ذلك أنهم خدعوا، فكان نشاطهم إلى جانب نشاط الشرعيين مصدر خطر كبير على ملكية يوليو.
ولقد تعرضت هذه الملكية كذلك لنقمة جماعة «الوسط اليساري» الذين يحتقرون الموقف الوسط
Juste Milieu ، ودأبوا على مهاجمة الحكومة ، كما كانت هناك بين العمال عناصر اشتراكية، خصوصا تحت زعامة «برودون» وهو من العمال، وصاحب الكتاب المعروف «ما هي الملكية؟» ثم ليوس بلان الصحفي البورجوازي، وكانت الدعاية الاشتراكية منتشرة بين جمعيات سرية عديدة في فرنسا، أضف إلى هذا ذيوع الأسطورة النابليونية التي روج لها البونابرتيون دائما منذ 1815، وتدفقت المطبوعات التي روجت كذلك لهذه الأسطورة، ومن أهمها مذكرات «لاس كاسيس
Las Cases » المشهورة عن سنت هيلانة، الجزيرة التي نفي بها الإمبراطور نابليون، وقد نشرت هذه المذكرات بين سنتي 1821-1823، ولم تنل وفاة ابن نابليون، دوق دي رشتاد
Reichstadt
في سنة 1832 من قوة هذه الدعاية، بل إن «تيير» ولم يكن بونابرتيا لم يلبث هو الآخر أن ساعد على ترويج الأسطورة النابليونية عندما كتب تاريخه المشهور عن القنصلية والإمبراطورية، وظهر الجزء الأول منه في سنة 1845.
ولقد تعرضت ملكية يوليو لأخطار أخرى كذلك، كان مصدرها هذه المرة وقوع الانقسام في صفوف مؤيدي هذه الملكية أنفسهم؛ فقد انقسم هؤلاء فريقين: فريق أصحاب الحركة والتقدم، وفريق الجمود والمقاومة من المحافظين، وكان على رأس الحركيين والتقدميين لافيت
Lafitte ، وهو من أغنياء المصرفيين في باريس، ثم لفاييت، وكان من رأي هذا الحزب أن ثورة يوليو 1830 لم تنته بمجرد اعتلاء لويس فيليب العرش، بل هي باقية ومستمرة، وطالبوا في برنامجهم الداخلي بإجراء عدة إصلاحات ذات صبغة ديمقراطية، على أن يتم الإصلاح تدريجيا دون سرعة ثورية، وفي الخارج أرادوا مساعدة الشعوب التي قامت بالثورة ضد سوء الحكم في بلجيكا وبولندة وإيطاليا، حتى إذا غدت فرنسا متمتعة بنظم أكثر ديمقراطية في الداخل، وأيدت الحركات الديمقراطية في الخارج تسنى لها حينئذ تحت رعاية الأحرار «من البورجوازية دائما» أن تستعيد ذلك المركز الذي كفلته لها الثورة الكبرى (في سنة 1789).
أما حزب الجمود من جماعة المحافظين فكان زعمائه كازمير برييه، وجيزو، ودوق دي بروجلي، وهذه الجماعة اعتقدت أن ثورة يوليو 1830 قد انتهت، وذلك بمجرد أن قبل لويس فيليب الدستور المعدل (9 أغسطس سنة 1830) واعتلى العرش، وكان في رأيهم أن ثورة يوليو أحلت ملكا يريد المحافظة على النظام البرلماني كما تأسس في سنة 1814 محل ملك آخر كان يريد القضاء على هذا النظام، أي إن ثورة يوليو كانت ثورة شعبية قامت لتمنع حدوث ثورة ملكية، ثم إن هدف هذه الثورة إنما هو المحافظة على الأنظمة الموجودة، وليس المقصود منها توسيع هذه الأنظمة في اتجاه ديمقراطي، وفي رأيهم أخيرا أن الواجب على فرنسا أن تعمل لتستعيد حياتها الطبيعية من غير إبطاء، وأن تقضي على الهياج الثوري حتى تهدأ النفوس ولا يسود القلق دوائر الأعمال.
ومع ذلك فقد كان مصير الملكية متوقفا لدرجة بعيدة على الطريق الذي سوف يسلكه في إدارة شئون الحكم، ولقد فضل لويس فيليب الاعتماد على حزب المحافظين أو الجموديين، ولو أنه لم يستطع في بادئ الأمر أن يقطع كل صلته بحزب الحركة والتقدم؛ ولذلك فقد ظل الملك منذ أن استقام له الأمر يشكل وزارات «تجريبية» من الحزبين، ولكن هذه الوزارات الائتلافية بسبب طبيعة تكوينها نفسه عجزت عن السير على سياسة واضحة متماسكة، مما ترتب عليه استمرار هياج الخواطر في باريس، ومطالبة الجماهير بإعدام وزراء شارل العاشر الذين كانوا نصحوه باتخاذ الإجراءات الأوتقراطية التي سببت الثورة، وهاجم الدهماء في شوارع باريس أنصار «الشرعيين»؛ فنجم عن هذا كله أن ركدت الأعمال، وتعطل الصناع الذين غادر منهم حوالي مائة وخمسين ألفا باريس للبحث عن عمل في جهات أخرى، وتزعزعت الثقة في الحكومة، فنزلت أسعار الأوراق المالية بسرعة، وشعرت الطبقة البورجوازية بعدم الاطمئنان على مصالحها فانحازت إلى جماعة المحافظين الجموديين، وبذلك تمهد الطريق أمام هذا الحزب ليصل إلى السلطة.
وفي 13 مارس 1831 عهد الملك إلى «كازمير برييه» بتأليف الوزارة من حزب الجموديين المحافظين، وهو الحزب الذي ظل يتمتع بالسلطة مغ تغييرات طفيفة، حتى نهاية عهد هذه الملكية.
وزارة كازمير برييه
وكان كازمير برييه رجل حزب الجموديين أو المحافظين الأول، صاحب ثروة طائلة، قاد المقاومة ضد «اليمين» وضد «اليسار» على السواء، وضمن وصوله إلى الوزارة والحكم مصالح الطبقة المتوسطة (البورجوازية) الغنية أفصح عن برنامجه في الحكم غداة تأليفه الوزارة - وهو برنامج عمل به حزب المحافظين في المدة التالية - فأعلن أنه يعتزم المضي في تنفيذ المبادئ التي جاءت بها ثورة يوليو من غير ضعف، ودون حاجة للتطرف، وهي مبادئ - كما قال - تتعارض تماما مع الثورة والعصيان، ومن شأنها في الوقت نفسه مقاومة اعتداءات السلطة التنفيذية، فهو يعتبر انتصار الثورة في يوليو نصرا للقانون ؛ لأن هذه الثورة أقامت حكومة ولم تنشئ عهدا من الفوضى، كما أنها لم تقوض أركان المجتمع، ولكن الذي تأثر بها كان النظام السياسي وحده فقط، أي إن ثورة يوليو قد هدفت - على حد قوله - إلى إنشاء حكومة يجب أن تكون حرة ونظامية في الوقت نفسه؛ ولذلك لا ينبغي أن يصطبغ بالعنف نشاط هذه الحكومة في الداخل أو الخارج على السواء؛ لأن كل دعوة لاستخدام القوة في الداخل، وكل تشجيع للثورات الشعبية في الخارج لا يعدو أن يكون خرقا لمبادئ ثورة يوليو.
ووصف «برييه» القواعد التي تسير عليها سياسة الحكومة الداخلية بأنها استتباب النظام وتنفيذ القوانين واحترام السلطات وعودة الأمن العام إلى نصابه واستقرار الهدوء والسكينة، وقال عن سياستها الخارجية: إن الواجب يقتضي أن تقوم هذه على القواعد نفسها التي ذكرها، ثم إنه وضع مبدأ عدم التدخل بمعناه المزدوج، أي عدم تدخل الحكومة الفرنسية في جانب الشعوب الثائرة على حكوماتها، ثم عدم تدخل الدول الأوروبية فيما يجري من أحداث وراء حدود كل منها، وذلك مبدأ يتعارض - كما هو واضح - مع المبدأ الذي استند «الحلف المقدس» عليه في نشاطه، وجدير بالذكر أن كازمير برييه نفسه لم يلبث أن تدخل في شئون إيطاليا وبلجيكا باسم مبدأ عدم التدخل هذا.
فقد اعتمد كازمير برييه في سياسته الخارجية لتعزيز مركز ملكية يوليو على إنشاء تفاهم وثيق مع بريطانيا كاد يكون محالفة، لعب في دعم أركانها دورا كبيرا تاليران الذي خرج من عزلته في فالنساي
Valençay
عند حدوث ثورة يوليو، وقابل الملك يوم 8 أغسطس غداة موافقة المجلس النيابي على إعطائه التاج، وقد ذكر تاليران أن الحديث في هذه المقابلة تناول وجهات نظر الدول الأوروبية وخصوصا إنجلترة بشأن هذه الثورة، واعتبار أن إنجلترة يجب أن تكون أكثر الدول عطفا على فرنسا، وأوضح ميلا نحوها بسبب الأنظمة السائدة بها، والثورات التي حدثت بها.
وقبل تاليران السفارة في لندن، وظل يشغل منصب السفير هناك حتى شهر أغسطس من 1834، وفي أثناء الأزمة البلجيكية عند ثورة البلجيكيين - متأثرين بثورة يوليو - للانفصال عن هولندة، وأرادت فرنسا التدخل في ظروف سيأتي ذكرها في موضعها، عمل تاليران على بقاء العلاقات الوثيقة مع إنجلترة على أساس التعاون معها في هذه المسألة، وفي ريس تدعمت هذه العلاقات كذلك، ونجح هذا التعاون في منع بروسيا من بسط نفوذها على نهر الشلدت، كما نجح في تطمين أوروبا إلى أن فرنسا لا تريد من تدخلها الاستحواذ على بلجيكا، الأمر الذي أيد مركز وزارة برييه، وملكية لويس فيليب نفسه، ولو أن هذا الأخير لم يلبث أن أثار غضب الشعب الفرنسي لرفضه التاج الذي عرضه البلجيكيون وقتئذ على أحد أبنائه دوق دي نيمور
Nemours
في فبراير 1831.
ولقد بقي هذا التفاهم الودي بين إنجلترة وفرنسا دعامة قوية تعتمد عليها ملكية يوليو، ليس في علاقاتها الخارجية وحسب، بل وفي مركزها الداخلي كذلك، إلى الوقت الذي قضي فيه على هذا التفاهم بسبب اصطدام مصالح الدولتين في عام 1846 في مسألة الزواج الإسباني، على نحو ما سيأتي ذكره.
وكان سبب التدخل في إيطاليا قيام الثورة سنة 1832 ضد سلطان البابوية في إقليم رومانا
Romagna ، مما جعل البابا جريجوري السادس عشر يطلب نجدة النمسا، ويرسل مترنخ جيشا لمساعدته، وعندئذ أرسل «برييه» جيشا فرنسيا لاحتلال أنكونا في الأملاك البابوية في فبراير 1832، وقد بقيت القوات الفرنسية في هذه الجهات كل المدة التي بقيت فيها القوات النمسوية في رومانا، أي إلى سنة 1838، وكان لاحتلال أنكونا أعمق الأثر في أوروبا؛ حيث قد تعزز بفضله مركز ملكية لويس فيليب بين الدول الأوروبية العظمى، ولكن كل هذه الجهود التي بذلها كازمير برييه في الداخل والخارج أضعفت صحته، فلم يستطع مقاومة مرض الكوليرا الذي أصيب به وتوفي في 16 مايو 1832.
ومع أن الملك ألف جملة وزارت بعد ذلك من حزب المحافظين الجموديين، فقد بقيت المبادئ التي وضعها كازمير برييه هي المبادئ التي استرشدت بها هذه الوزارات، وتتلخص فيما يتعلق بالشئون الداخلية في ضرورة المحافظة على دستور 1831، وعدم إدخال أية تغييرات عليه أو إجراء إصلاحات ديمقراطية دستورية، ومعنى ذلك عدم تحقيق رغبات الشعب الفرنسي الذي أراد التمتع بقسط أوفر من الحياة الديمقراطية النيابية، وفي الشئون الخارجية قامت على عدم التدخل، أي عدم إجابة رغبات الشعب الفرنسي كذلك، وهو الذي أراد التدخل في صف الشعوب التي كانت تطالب بالحياة الدستورية أو تريد تحقيق الفكرة القومية.
إلا أن التمسك بهذا البرنامج بشقيه الداخلي والخارجي كان معناه في نظر الشعب الفرنسي أن ملكية يوليو قد أخفقت في تبرير وجودها، وبمجرد أن اعتقد الفرنسيون بانعدام المبرر لوجود هذه الملكية، صار زوال ملكية يوليو مسألة وقت فقط، ومرتهنا بتطور الحوادث، ولم يعد هناك مفر من سقوط هذه الملكية في النهاية. (7) فترة الاضطراب وعدم الاستقرار الحكومي
وفي عهد الوزارات التالية كان أول ما عنيت به الملكية، العمل من أجل الاحتفاظ ببقائها أمام معارضة الشرعيين والجمهوريين الذين تآمروا لقلب ملكية يوليو، وكانت الحكومة استطاعت في عهد وزارة كازمير برييه إخماد حركات الشرعيين والجمهوريين بعد حوادث دامية، عندما قررت دوقة دي بري العودة إلى فرنسا، بالرغم من نصيحة أنصارها الذين حذروها من عدم استكمال الاستعدادات اللازمة للثورة، فنزلت في الأرض الفرنسية في فبراير 1832، وأرادت تحريك الثورة في إقليم فنديه في مايو، ولكنها أخفقت وقضت الحكومة على الثورة، ثم ألقت القبض على دوقة دي بري، ولم تطلق سراحها إلا بعد ضياع هيبتها وزوال أهميتها السياسية.
ولم يلبث الجمهوريون بعد وفاة كازمير برييه أن حركوا الثورة في باريس في يونيو عام 1832، ولكن أحدا من الزعماء لم يشترك في هذه الحركة، وامتنع العمال عن المساهمة فيها، فقضت الحكومة على الثورة بعد قتال استمر طيلة يومين في شوارع باريس، ولقد كان لهذه الثورة بالرغم من فشلها أهمية كبيرة باعتبار أنها أول عصيان جمهوري سافر حدث منذ سنة 1815؛ ولأنها كانت أشد حركات المعارضة التي صادفتها الملكية حتى هذا الوقت.
ولم ييأس الجمهوريون بسبب هذا الفشل؛ فقاوموا الثورة في عدة أماكن، وكانت أعنف هذه الثورات ما حدث في مدينة ليون، وذلك في عهد وزارة المارشال سولت
Soult (وهذه تألفت بعد وفاة كازمير برييه ببضعة أشهر حاول الملك خلالها أن يحكم من غير وزارة)، أما هذه الثورة فقد نشبت في شهر أبريل 1834، واستمرت خمسة أيام، وكان سببها بعض المشاكل المتصلة بالعمل والعمال، ثم سريعا ما اتخذت صبغة سياسية، على أن الحكومة التي قضت على هذه الثورات لم تحاول استمالة العناصر المعادية لها، أو أن تبحث مشاكل العمال التي كانت من أسباب هذه الاضطرابات، بل وجهت كل اهتمامها لمجرد القضاء على الجمهوريين - خصومها السياسيين - قضاء مبرما، وكان من الوسائل التي لجأت إليها الحكومة لتحقيق هذه الغاية فرض رقابة صارمة على الصحف، ولقد ظلت ملكية يوليو - من مبدأ نشأتها، وبالرغم من ضمان حرية الصحافة في دستور 1831 الذي أعلن كذلك إلغاء الرقابة كلية - تضطهد الصحف الجمهورية على اعتبار أنها أعدى أعداء النظام الحكومي الجديد، حتى إنها قدمت لنظر القضاء بين يوليو 1830 وسبتمبر 1834 أكثر من خمسمائة قضية صحفية، كما أنها فرضت غرامات مالية فادحة على رؤساء التحرير، وأودعتهم السجون.
ولقد لقيت جريدة تربيون
Tribune
على وجه الخصوص - وهي جريدة جمهورية متطرفة في عدائها للحكومة - كل عنت وإرهاق، فقدم أصحابها للمحاكمة ما لا يقل عن مائة وإحدى عشر مرة، ودفعوا مائة وسبعة وخمسين ألفا من الفرنكات غرامة مالية، ثم تفاقمت هذه المحاكمات بعد الحركات الثورية الفاشلة في سنة 1834، وقررت الحكومة تقديم بعض الذين قبضت عليهم في الاضطرابات الأخيرة - وعددهم مائة وأربعة وستون متهما - للمحاكمة أمام مجلس الأعيان بدلا من اتباع نظام المحلفين، واستغرقت محاكمتهم وقتا طويلا (من مارس 1835 إلى يناير 1836)، فسجن البعض ونفي البعض الآخر، ولكن لم يلبث أن صدر عفو عام بمناسبة زواج أكبر أبناء الملك، فأخلي سبيلهم.
وكان من أثر هذه المحاكمات والأساليب الصارمة التي اتبعتها الحكومة مع معارضيها أن أمكن إسكات الجمهوريين مدة طويلة، ولو أنه كان من أسباب ضعف الجمهوريين كذلك الانقسام الذي حصل في صفوفهم.
ولقد كان من مظاهر الاضطراب وعدم الاستقرار الحكومي، ما وقع من حوادث الاعتداء على حياة الملك نفسه؛ فقد بلغت هذه ستا بين عامي 1835-1846، كما اكتشفت مؤامرات كثيرة لاغتيال الملك اشترك فيها الجمهوريون.
وكان أفظع هذه المحاولات التي دبرت للاعتداء على حياة الملك ، ما حدث في 28 يوليو 1835 عندما أشعل أحد الكورسيكيين براميل محشوة بالبارود في أحد شوارع باريس وذهب ضحية هذا الحادث عدد كبير من الباريسيين بينما نجا الملك وأبناؤه بأعجوبة.
على أن هذه المحاولات الإجرامية لم تلبث أن أضعفت من شأن الجمهوريين وقيمتهم، كما أن الذعر الذي سببته هذه المحاولة الجهنمية جعل الحكومة تقرر الانتقام من جميع خصومها بكل شدة، ومن غير تفرقة، فاستصدرت في سبتمبر 1835 عدة قوانين لمحاكمة الذين يهددون أمن الدولة أمام محاكم خاصة، ولصدور الأحكام على المتهمين في غيابهم، وكان أهم القوانين التي استصدرت «قانون الصحافة» لحماية الملك والدستور والمبادئ الأساسية التي يقوم عليها المجتمع، وذلك بفرض غرامة مالية كبيرة (من خمسين ألف فرنك) على كل من يدعو إلى العصيان - ولو كانت دعوته فاشلة - أو يقذف في حق الملك، أو ينشر الصور الكاريكاتورية أو يجمع التبرعات لدفع الغرامات الموقعة على الصحف ... وغير ذلك.
ثم فرضت غرامة مالية فادحة على كل فرنسي يحاول الدفاع عن أنواع حكومات غير نوع الحكومة القائمة، أو يعلن تأييده لأسرة مالكة سابقة، أو يناقش حق الملكية القائمة في العرش، ثم أعيدت الرقابة على الرسوم والصور الكاريكاتورية والمسرحيات، ورفعت إلى مائة ألف فرنك قيمة الرسوم التي تدفعها الصحف في نظير التصريح اللازم لصدورها.
هذه القوانين - قوانين سبتمبر 1835 - سرعان ما أغضبت الأحرار والمعتدلين الذين اعتبروا هذه الإجراءات التعسفية، أمرا لا مسوغ له، بعد مرور خمس سنوات كانت الصحافة متمتعة في أثنائها بحرية ظاهرة، ومع أنه كان من الواضح أن حماية الملك والدستور شيء مرغوب فيه، فإن تعدد هذه القوانين الصارمة سوف يؤدي - كما قالوا - إلى زيادة عدد الجرائم بدلا من زوالها.
ومع أن المقصود من هذه القوانين كان الانتقام من «الشرعيين » و«الجمهوريين» على وجه الخصوص وإلحاق الأذنى بهم، فقد كان «الشرعيون» أصحاب ثراء وغنى، واستطاعت صحفهم أن تدفع الغرامات الفادحة التي وقعت عليها، أما صحف الجمهوريين فقد عجزت عن تدبير المال اللازم؛ ولذلك اختفى أكثرها.
وهكذا قاست الصحافة في عهد ملكية يوليو عنتا وإرهاقا يشبهان ما قاسته في عهد الملكية الراجعة، وشعر الفرنسيون أن الحرية الشخصية لم يعد لها وجود في عهد هذه الملكية، فكان استصدار هذه القوانين إذن من عوامل إضعاف ملكية يوليو، ولا يقلل من أهمية هذا الأثر أن الحكومة بفضل هذه القوانين استطاعت أن تشعر بالاطمئنان من ناحية خصومها من جماعتي الشرعيين والجمهوريين، وأنه لم يعد من المعارضين أمامها سوى جماعة البونابرتيين.
ولم يكن لويس فيليب يشعر بأية مخاوف من ناحية البونابرتيين، بل على العكس من ذلك؛ كان لا يرى سببا يمنعه من السير في طريق من المقطوع به أنه طريق محفوف بالمخاطر على عرشه، وذلك عندما طفق يعمل بمحض إرادته على تعزيز «الأسطورة النابليونية» حتى يقيم الدليل في زعمه على أن ملكية يوليو مختلفة عن ملكية البربون السابقة في أنها ملكية وطنية، ولا تسعى لإخماد بقايا العصر النابليوني وإزالة آثاره، بل تعتز بالتراث النابليوني وتعده من المفاخر الوطنية، فأتم لويس فيليب بناء «قوس النصر
Arc de Triomphe » الذي كان بدأه نابليون، وأطلق على بعض الشوارع والجسور أسماء المعارك النابليونية، وزين جدران قصر فرساي بالرسوم التاريخية النابليونية إلى جانب رسوم لويس الرابع عشر، ثم إن حكومته لم تظهر انزعاجا من المحاولات التي كان يقوم بها - من أجل استرداد العرش - لويس نابليون ابن ملك هولندة لويس «شقيق نابليون الأول» وهورتنس ابنة الإمبراطورة جوزفين.
وكان لويس نابليون يطالب بعرش فرنسا منذ وفاة دوق دي رشتاد ابن نابليون، فقد حاول لويس نابليون تحريك الثورة في ستراسبورج في عام 1836، وعندما أخفق قبضت عليه الحكومة، ولكن بدلا من محاكمته، أذنت له بالإبحار إلى الولايات المتحدة الأمريكية، ومع أن لويس نابليون عاد في السنة التالية إلى سويسرة ثم انتقل منها إلى إنجلترة، وظل يعمل دائما لإحياء ذكرى عمه الإمبراطور نابليون، فقد طلب لويس فيليب موافقة الحكومة الإنجليزية على نقل رفات نابليون من سنت هيلانة إلى باريس، حتى يرقد الإمبراطور كما كتب في وصيته على ضفاف السين، وسط الشعب الفرنسي الذي أحبه نابليون حبا عظيما.
وفي ديسمبر 1840 احتفلت الحكومة بنقل رفات الإمبراطور إلى مرقده الأخير تحت قبة الأنفاليد، فأذكى هذا العمل «الأسطورة النابليونية»، وكان قد انتهز لويس نابليون الفرصة فجدد محاولته ونزل في ستين من أنصاره بالقرب من «بولوني» على الشاطئ الفرنسي في 6 أغسطس 1840، ولكنه فشل، فقدم إلى المحاكمة في هذه المرة أمام مجلس الأعيان وحكم عليه بالسجن في قلعة «هام» مدة حياته، وبقي بها ست سنوات إلى أن تمكن من الفرار سنة 1846، ولكن خطر البونابرتيين كان قد زال «مؤقتا» قبل ذلك بمدة طويلة.
وكل هذه - ولا شك - كانت عوامل ضعف تنال من كيان ملكية يوليو، ومع ذلك فقد كان عجز الملك عن تأليف حكومة برلمانية ثابتة - وبالتالي عدم الاستقرار الحكومي - من أكبر أسباب ضعف هذه الملكية وزوالها في النهاية.
فقد بلغ عدد الوزارات التي تشكلت خلال عشر سنوات (1830-1840) عشر وزارات، كان رؤساؤها من المحافظين الجموديين الذين انحصرت مهمتهم في دعم مركز الملكية وتأييد سلطانها والقضاء على أعدائها في الداخل، ثم المحافظة على السلام مع الدول في الخارج، وبمجرد أن انتصر المحافظون والجموديون على أعدائهم من شرعيين وجمهوريين وبونابرتيين، انقسموا فيما بينهم إلى جماعتين كبيرتين: حزب الوسط اليساري بزعامة «تيير»، وحزب الوسط اليميني بزعامة «جيزو»، فكان من مبدأ «تيير» وجماعته أن الملك «يتولى ولا يحكم»، أي إن الملك يجب أن يختار وزراءه دائما من بين حزب الأكثرية في المجلس، ولا يتدخل في شئون الحكم، وأما «جيزو» وجماعته فكان مبدأهم «أن العرش ليس مقعدا خاليا»، أي إن الملك - مع احترامه لرأي الأكثرية في المجلس - ليس ملزما باتباع رأي هذه الأكثرية، وليس مكلفا باختيار وزرائه من بين حزب الأكثرية، ومن الواجب أن يكون لسياسة الملك آثار ظاهرة في توجيه الدولة وإدارة شئونها.
وكان لويس فيليب لا يرضى بأن تكون له رياسة الدولة فحسب، كما أراد «تيير»، بل عمل على أن يكون حاكما حقيقيا، أي إنه أراد أن «يتولى ويحكم»، وأصر على أن يكون له رأي مسموع في السياسة الخارجية خصوصا، وأن يتدخل بواسطة وزرائه في شئون الإدارة والحكم.
وانتهز الملك فرصة القضاء على مقاومة أعدائه من شرعيين وجمهوريين وبونابرتيين، ثم الانقسام الذي حصل في صفوف الجموديين، وأخذ يشكل الوزارات التي تدين بالطاعة له، ولكن هذا العمل سرعان ما أثار المعارضة القوية ضد «سياسة البلاط «أو القصر» وضد وزارات البلاط»، وكثرت الإشارة إلى ما حدث سابقا للملك شارل العاشر، وعندئذ اضطر الملك إلى استدعاء «تيير» لتشكيل الوزارة مرة أخرى، وكان تيير قد شكلها مرة قبل ذلك، ووزارة تيير هذه الأخيرة هي التي حصلت على أيامها أزمة المسألة الشرقية - بسبب النزاع بين محمود الثاني ومحمد علي - واضطر تيير إلى الاستقالة عندما رفض الملك الانسياق إلى الحرب بسبب هذه الأزمة (ديسمبر 1840)، وطلب الملك من جيزو تأليف الوزارة، فشكلها المارشال سولت الذي ظل يشغل منصب رئيس الوزارة حتى نوفمبر 1847، في حين احتفظ جيزو بوزارة الخارجية، ولو أنه كان المسيطر الحقيقي على الوزارة حتى سنة 1848، وبتشكيل هذه الوزارة تسنى لفرنسا في عهد ملكية يوليو أن تتمتع للمرة الأولى بالاستقرار الحكومي. (8) حكومة جيزو: سياسة الجمود وآثارها
وفي هذه السنوات التي سيطر فيها جيزو، زعيم الجموديين (من الوسط اليميني)، تجمعت الأسباب المباشرة التي أدت إلى إشعال الثورة في فبراير (1848) وزوال ملكية يوليو.
فقد رفض جيزو أن يعترف بحقيقة واضحة؛ هي أن فرنسا تريد تغيير أنظمتها السياسية، بل وكانت في حاجة ملحة لهذا التغيير، فبقي متمسكا بالدستور الصادر في سنة 1814 والمعدل في سنة 1830، وكان برنامجه الاحتفاظ بالنظام في الداخل والسلم في الخارج كخير وسيلة لزيادة ثراء فرنسا ورفعة شأنها، أي «المحافظة - كما قال - على السلام في كل مكان وفي كل وقت.»
واقتضى التمسك بالدستور أن يحتفظ جيزو بالشكل البرلماني للحكومة، أي ضرورة الاستناد إلى أكثرية في مجلس النواب تؤيد الحكومة دائما وتوافق على تصرفاتها، واستطاع جيزو أن يحصل دائما على هذه الأكثرية؛ ولذلك فقد شهدت فرنسا في هذه الفترة (1840-1848) نوعا من الحكم يقوم على الجمود الشديد، أي المحافظة على النظم الموجودة وعدم التغيير، ويعتمد على تأييد مجلس النواب، بينما كان معروفا في طول البلاد وعرضها أن هذا المجلس لا يمثل الرأي العام في شيء، ولا يعبر عن عقائد البلاد في مجموعها، وتساءل الفرنسيون عن السبب الذي جعل جيزو يظفر - مع ذلك - بهذه الأكثرية المؤيدة له في مجلس النواب دائما.
ولقد تبين عند البحث أن الرشوة والفساد هما سبب وجود هذه الأكثرية التي أيدت الوزارة دائما في مجلس النواب، وتفسير ذلك أن جزء الأمة القانوني
الذي عرفنا أنه يتألف من الناخبين والنواب، كان جزءا محدودا حيث بلغ عدد الناخبين مائتي ألف فقط، منهم أربعمائة وثلاثون نائبا، وهو عدد يجعل من السهل على الحكومة في دولة ذات نظام مركزي موحد أن تبتاع - إذا شاءت - ضمائر وذمم الناخبين والنواب على السواء، بما يمكن أن تؤديه لهم الحكومة المركزية من خدمات، تفيد منها أقاليمهم - مثل مد خطوط السكة الحديد في عصر انتشار السكة الحديد - أو تعود بالنفع على أشخاصهم وذوي قرباهم ... إلخ.
وساعد على هذا الفساد أن القانون لم يحرم النواب من أن يجمعوا بين النيابة والوظائف الحكومية؛ فكان هناك حوالي المائتي نائب يشغلون وظائف حكومية، وفي سلطة الحكومة ترقيتهم ومكافأتهم، ولا شك في أن نظاما من هذا الطراز كان عرضة للامتهان والسخرية، ويؤثر أصحابه مصالحهم الذاتية على مصالح الوطن، ولم يكن هناك مفر من قيام معارضة شديدة ضده في آخر الأمر.
وعلى ذلك فقد تميز تاريخ هذه السنوات السبع من 1841 إلى 1848 بقيام حركة من أجل المطالبة بالإصلاح النيابي في فرنسا على أساس تخفيض مقدار الضرائب التي يدفعها الصالحون للانتخاب والنيابة، وإفساح المجال لهيئات وطبقات معينة لا يستطيع أفرادها دفع أية ضريبة لممارسة حقوق الانتخاب، ثم منع النواب من شغل الوظائف الحكومية؛ فيكثر بذلك عدد المتمتعين بحقوق الانتخاب والنيابة من جهة بدرجة تجعل من المتعذر على الحكومة رشوتهم، كما يصبح النواب بعيدين من جهة أخرى عن تأثير الحكومة ونفاذها، ولكن جيزو كان يقابل هذه المطالب بالرفض دائما، حتى ضج المطالبون بالإصلاح بالطرق الدستورية، وقال لامارتين
Lamartine : «إن فرنسا قد باتت متململة، وتشعر بالسأم والضجر.»
7
وفي الوقت الذي تمسكت فيه ملكية يوليو بسياسة المقاومة السلبية؛ أي مقاومة الفوضى في الشوارع، مقاومة الشرعيين والجمهوريين، ومقاومة مطالب الأمة لإجراء الإصلاح النيابي في الداخل واتباع سياسة إيجابية في الخارج تحترم مبادئ الحرية، وفي الوقت الذي أغفلت فيه معالجة شئون العمال؛ فلم تهتم بإجابة أو فحص مطالب أخرى جديدة في النواحي الاقتصادية والإصلاح الاجتماعي، كانت عناصر المعارضة تزداد قوة ضد الحكومة، ومن أخطر هذه العناصر جماعة الاشتراكيين الذين بدءوا يظهرون في الميدان، وكانوا أكثر راديكالية من الجمهوريين أنفسهم؛ لأنهم كانوا لا يريدون تغييرا في شكل الحكومة السياسي وحسب، بل ويهدفون كذلك إلى تغيير جارف في شكل المجتمع نفسه، أو بمعنى أدق في طبيعة العلاقات القائمة بين أكثرية الأهلين الذين يكسبون قوتهم بعرق جبينهم، وبين الطبقة الممتلكة من الرأسماليين وأصحاب العمل في فرنسا.
فقد شهد عهد ملكية يوليو دور الانتقال من نظام الصناعات الصغيرة المنزلية إلى نظام المصانع والورش واستخدام الآلات والبخار في الصناعة، وقد قطع هذا الدور شوطا كبيرا، وظهرت نتيجة لهذا الانقلاب الصناعي عدة مشاكل، كان لا بد من استصدار تشريعات جديدة لتسويتها أو حلها من جهة، ولحماية الطبقات العمالية من الأضرار والمساوئ التي اقترنت بحدوث هذا الانقلاب من جهة أخرى، ولكن ملكية يوليو التي هي حكومة البورجوازية والطبقات الغنية والرأسمالية، لم تعر هذه المشاكل أي اهتمام، بل استمر الرأسماليون وأصحاب العمل يستغلون مصانعهم والأيدي العاملة بها أسوأ استغلال، ويجمعون الثروات الطائلة، في حين منعت القوانين الفرنسية هؤلاء العمال من تأليف الاتحادات «والنقابات» التي تدافع عن مصالحهم أو تعمل لتحسين أحوالهم، أضف إلى هذا أن الطبقة العمالية بقيت محرومة من التمثيل النيابي عندما تمسكت الحكومة بالدستور دون تغيير أو تعديل، ورفضت إجراء أي إصلاح نيابي، فكان من أثر هذا كله أن صارت الطبقة العمالية في فرنسا من ألد أعداء النظام القائم بها.
وصار من المنتظر في هذه الظروف أن يتجه المفكرون مثل سان سيمون، ولويس بلان إلى بحث مشاكل العمل والعمال والعلاقة بين العمل ورأس المال، ثم يقومون بالدعوة إلى الاشتراكية، فكان ذلك مبدأ ظهور الحزب الاشتراكي في فرنسا، وهو حزب هدد بظهوره وجود الملكية ذاتها، كما هدد النظام الصناعي والتجاري القائم، فقد هدف الاشتراكيون إلى إنشاء الجمهورية على اعتبار أن الجمهورية أفضل الوسائل التي تجعل العناصر الديمقراطية تتمكن من السيطرة على الحكومة.
وهكذا تعددت عوامل التذمر من حكومة جيزو، وكثرت عناصر المعارضة الشديدة ضدها، ومع أنه تعذر أن تتحد هذه العناصر فيما بينها للقيام بعمل إنشائي مشترك لتباين آرائها واختلاف أغراضها، فقد كان من السهل، ومن المنتظر أن تتفق كلمتها عند التصميم على القيام بعمل من نوع آخر، هو هدم النظام السائد وتقويض عروشه.
ولقد كان لسياسة الحكومة الخارجية أثر كبير في زيادة التذمر من ملكية يوليو، التي ظهرت - بسبب جمودها - شديدة الحرص على المحالفة الودية مع إنجلترة لدرجة التفريط أحيانا في حقوق الكرامة الوطنية، وشديدة الرغبة في استمالة الملكيات المطلقة والرجعية في أوروبا، وبعيدة كل البعد عن مؤازرة الأحرار في أي مكان، وحريصة كل الحرص على خدمة مصالح الأسرة المالكة فقط، ولو أدى هذا إلى التضحية بمصالح الأمة.
فقد عابت المعارضة على حكومة جيزو موقفها من المسألة الشرقية، وعقد اتفاقية البوغازات (يوليو 1841)، كما حملت على سياسة الحكومة في إجازة تفتيش السفن الفرنسية في البحار بدعوى مكافحة تجارة الرقيق؛ لأن الاتفاقات التي عقدتها الحكومة في هذه المسألة مع إنجلترة (منذ 1831-1833) ثم مع النمسا وبروسيا وروسيا (1842)، وهذه ليست دولا بحرية، تعطي الأسطول الإنجليزي - وهو المتفوق من حيث العدد على الأسطول الفرنسي - حقا واسعا في التفتيش، من شأنه الإضرار بالتجارة الفرنسية، ثم احتجت المعارضة احتجاجا شديدا على موقف الحكومة المتخاذل من إنجلترة في مسألة أو حادث بريتشارد
(1844)، وكان بريتشارد قنصلا لإنجلترة لدى بوماري
ملكة جزيرة تاهيتي
Tahiti (في المحيط الهادي إلى الشرق من أستراليا)، طرده الفرنسيون من الجزيرة وضموا تاهيتي إلى أملاكهم، فساءت العلاقات بين إنجلترة وفرنسا، ولكن لويس فيليب لم يشأ الدخول في حرب مع إنجلترة بسبب ما سماه «حماقات تاهيتي»، وأعلن استنكاره لضم الجزيرة، وحصل القنصل الإنجليزي على تعويض كبير.
وكذلك أثار هذا التحالف الودي مع إنجلترة غضب الفرنسيين عندما توترت العلاقات بين فرنسا ومراكش، وقد كان من المنتظر بعد أن احتلت فرنسا بلاد الجزائر أن تبسط نفوذها على مراكش، ولكن إنجلترة لم تلبث أن تدخلت لتحذر فرنسا من مغبة الإقدام على احتلال هذه البلاد، فعدت المعارضة قبول هذا التحذير إهانة لشرف الوطن.
وأخيرا تحطم التحالف الودي بين إنجلترة وفرنسا على صخرة الزواج الإسباني، عندما أراد جيزو أن يتخذ من هذه المسألة وسيلة لتأييد مركز حكومته، فأعلن في أكتوبر 1846 أن حكومته قد صح عزمها على عقد زواج ابن الملك لويس فيليب، دوق دي مونبا نسييه
Montpensier
من لويزا فرناندا
Louisa-Fernanda
ابنة ملك إسبانيا فردنند السابع (المتوفى سنة 1833)، وكانت هذه شقيقة لإيزابلا الثانية ملكة إسبانيا، ثم زواج إيزابلا نفسها من فرنسسكو دي أسيز
Asis
دوق قادش، وفي سنة 1845 كان هذا المشروع قد قطع مرحلة كبيرة، وكان معنى هذا الزواج؛ التمهيد لاعتلاء دوق مونبا نسييه عرش إسبانيا؛ لأنه لم يكن متوقعا أن تنجب الملكة إيزابلا وارثا للعرش الإسباني، ولم ترض إنجلترة عن هذا المشروع، فقضى إصرار جيزو على المضي في مشروع هذا الزواج (1846) على التحالف الودي مع إنجلترة، الأمر الذي أدى إلى عزلة فرنسا السياسية.
وزادت مصاعب جيزو الخارجية عندما أخذ بلمرستون - كي ينتقم من السياسة الفرنسية - يعمل لإقناع مترنخ بأن وجود دوق مونبا نسييه في مدريد من شأنه إعادة ذلك الاتحاد القديم بين إسبانيا وفرنسا الذي كان على أيام لويس الرابع عشر وفيليب الخامس، كما صار «بلمرستون» يعمل لتعكير العلاقات بين النسما وفرنسا حول مسألتي إيطاليا وسويسرة، وحاول بكل الطرق تحطيم حكومة جيزو وحكومة لويس فيليب بتهيئة الوسائل التي تستطيع المعارضة وخصومها أن يحطموها بها.
وكأنما لم يكن ذلك كله كافيا لإرهاق الحكومة وإضعافها، بل حدث أن فقدت الحكومة سمعتها بسبب فضيحة لم تكن هي مسئولة عنها؛ وذلك أن أحد كبار النبلاء دوق شوازيل براسلان
Choiseul-Praslin
قتل زوجه إرضاء لعشيقته، وكانت زوجة ابنة المارشال سباستياني، فلما قدم الدوق للمحاكمة انتحر في سجنه (في أغسطس 1847)، فكان لهذه الفضيحة أثر كبير في إشعال ثورة فبراير من العام التالي، كما كتب سانت بيف
Sainte-Beuve ، يضارع الأثر الذي أحدثه عناد جيزو نفسه ورفضه إجابة مطالب المعارضة أو الوصول إلى اتفاق معها.
وزيادة على ذلك فقد نجم من إمعان الحكومة في اتباع سياسة الحماية الجمركية الصارمة أن اشتدت الأزمة الاقتصادية في البلاد، لا سيما وأن محاصيل سنتي 1845، 1846 كانت رديئة، فقاسى الشعب متاعب كثيرة، ومع أن وزارة السير روبرت بيل
بإنجلترة ألغت قوانين الغلال
Corn Laws
في يونيو 1846 واتخذت قبل ذلك إجراءات لتيسير المعيشة - كإنقاص الضرائب الجمركية على المواشي واللحوم المستوردة، وما إلى ذلك - فإن شيئا من هذا لم يحدث في فرنسا، ثم امتدت الأزمة الاقتصادية إلى سنتي 1847-1848، وفي رأي كثيرين أن هذه الأزمة كانت السبب العميق في تحريك الثورة، ولو أن السبب الظاهر والمباشر كان الاصطدام بين الحكومة والمعارضة في مسألة إصلاح قانون الانتخاب. (9) الثورة (1848)
فقد سبق بيان فساد النظام البرلماني في عهد هذه الملكية التي سميت تارة بملكية الطبقات الممتلكة، وتارة أخرى بملكية دافعي الضرائب للحصول على حق الانتخاب والنيابة،
8
ومع أن المعارضة ظلت تجدد مطالب الإصلاح النيابي كل عام؛ فقد تمسك جيزو برفض هذه المطالب دائما، معلنا أن المعارضة إنما تبغي مجرد إثارة المشاكل السياسية في حين أنها لا تمثل رأي الأمة الحقيقي في شيء، فما لبثت المعارضة حتى وجدت أن من العبث الاعتماد على الطرق البرلمانية المشروعة للوصول إلى الإصلاح المطلوب، ووجدت أنه صار لزاما عليها أن تقيم البرهان القاطع على أن الأمة إنما تشاركها حقيقة الرغبة في الإصلاح.
وعندئذ أعدت المعارضة ما يعرف باسم «مآدب الإصلاح
Reform Banquets »، وهي اجتماعات يحضرها عدد غفير من الناس، يخطب فيهم زعماء المعارضة الذين يطلبون الإصلاح، وتوزع فيها المنشورات، وكان الغرض من هذه الحركة الضغط على الملك ووزيره جيزو، ومما هو جدير بالذكر أن أصحاب هذه المآدب كانوا من أحزاب المعارضة الموالية للملك والتي أرادت فقط أن تجعل الملكية تغير سياستها، ولكن لم تلبث أحزاب المعارضة المعادية للملكية أن أقامت هي الأخرى اجتماعات شبيهة بهذه المآدب، وكثرت هذه «المآدب الإصلاحية» خلال عام 1847، فكانت بمثابة استفتاءات غير رسمية أظهرت بوضوح أن الشعب يريد الإصلاح النيابي حقيقة.
ولكن الملكية بدلا من إجابة هذه المطالب بقيت غير متأثرة بما يجري حولها، بل إن الملك لم يلبث أن حمل في خطاب العرش على ما وصفه بأنه هياج أثارته الشهوات العدائية العمياء، أو أنكر أن للشعب حقا من الناحية القانونية في عقد هذه الاجتماعات، وعندئذ قررت المعارضة عرض قانونية هذه الاجتماعات على القضاء ليفصل في مشروعيتها، وتقرر أن تعقد لهذه الغاية مأدبة كبيرة في باريس يوم 22 فبراير 1848.
وكان من المنتظر أن يحدث بسبب ذلك اصطدام خطير بين الحكومة والشعب، وتوقع الذين راقبوا الحوادث عن كثب قيام الثورة؛ فكتب السفير الإنجليزي في باريس لورد نورمانبي
Normanby
في 7 فبراير 1848 «إن الرأي يكاد يتفق بالإجماع على أن هذه الأحوال لا يمكن أن تستمر طويلا، وإن إصلاح قانون الانتخاب هو مطلب الجميع، حتى إن الناخبين والنواب أنفسهم - أي جزء البلاد القانوني
- قد انقلبوا الآن ضد الحكومة، كما أن الحكومة تخسر الانتخابات الفرعية، ولا تستطيع أن تجمع الحرس الأهلي وهو الأداة التي تعتمد عليها في تأييد سلطانها»، ومنذ 10 فبراير توقع نورمانبي حصول اصطدام خطير بين الحكومة وأخصامها.
وزاد الأمر خطورة عندما رفض الملك أن يستمع لنصح أسرته التي خشيت من وقوع الكارثة إذا ظل الملك مستمسكا بوزيره، فظهر للشعب - وعلى حد قول جيزو - أن الأسرة المالكة نفسها قد صارت منقسمة على بعضها بعضا، وفي هذه الظروف أعلن جيزو فجأة أنه لا يرفض أية اقتراحات غرضها الإصلاح حقيقة، فقوبل هذا التصريح باعتدال كبير من جانب المعارضة، وفي 19 فبراير وصل الفريقان إلى حل بخصوص «المأدبة» المنتظرة على أساس أن تعقد المعارضة الاجتماع في اليوم المحدد له، حتى إذا حضر البوليس انفض المجتمعون في سلام ، وقدمت القضية للمحاكم للفصل فيها، وكان الغرض من هذا الاتفاق تجنب حدث الثورة، ويشبه ذلك ما فعله الملك شارل العاشر عندما سحب المراسيم الأربعة المعروفة في يوليو عام 1830، ولكن في كلا الحالين جاء إجراء الحكومة متأخرا؛ لأن الشعب الباريسي كان قد بدأ الآن يتحرك للثورة فعلا ، وبالأساليب المتبعة - المظاهرات والشغب وإقامة المتاريس في الشوارع - وذلك كله رغم أنوف رجال المعارضة البرلمانية.
وفي 22 فبراير وقعت المشاغبات والمصادمات بين المتظاهرين والبوليس، وحدث نهب وتخريب، وأقيمت المتاريس وزادت الحال خطورة في اليوم التالي؛ حيث رفض الحرس الأهلي - وكان قد أمكن جمع بعض قواته - تفريق الثوار، ثم راح الحرس بدلا من ذلك ينادي بسقوط جيزو، ويهتف بحياة الإصلاح، وعندئذ أعلن جيزو في مجلس النواب استقالته (23 فبراير)، فقابل الشعب سقوط الوزارة بالتهليل والحماس البالغ؛ فارتفعت أسعار الأوراق المالية، وأزيل كثير من المتاريس من الشوارع، وأضيئت بعض أحياء العاصمة، وأقيمت الزينات، واعتقد كثيرون أن الأمور قد هدأت عندما قبل «تيير» و«أوديلون بارو
Odilon Barrot » تشكيل الوزارة الجديدة.
ولكن سرعان ما تبدل الحال فجأة، بسبب أن المتظاهرين أرادوا إضاءة مبنى وزارة الخارجية، فحدث احتكاك مع البوليس، وأطلق البوليس الرصاص على المتظاهرين، فسقط اثنان وخمسون قتيلا، وعندئذ حمل الثوار جثث رفقائهم القتلى وسط المشاعل وطافوا بها في شوارع العاصمة، وأعيدت المتاريس، وبدلا من المناداة بالإصلاح صارت الجماهير تطلب الانتقام وتنادي بحياة الجمهورية.
وفي اليوم التالي (24 فبراير) نصحت الأسرة المالكة لويس فيليب بالتنازل عن العرش، وبعد معارضة شديدة من جانبه، اضطر لويس فيليب إلى التوقيع على وثيقة بالتنازل، وأمر «تيير» الجيش الموجود بالعاصمة أن ينسحب، بدعوى ضرورة إبعاده عن مسرح الثورة، ليبقى محتفظا بنظامه العسكري، فرضخ الجيش وهو كاره، ويقول السفير الإنجليزي نورمانبي: «إن الجيش كان مستعدا للدفاع عن الملكية، ولكنه صدع بما أمر به، ثم لم يلبث أن قبل الحكومة المؤقتة»، وهكذا كان «تيير» على حد قول «نورمانبي»: «مسئولا عن نجاح الثورة.»
كان تنازل لويس فيليب لمصلحة حفيده الكونت دي باري
de Paris ، ولكن سرعان ما تألفت في اليوم نفسه (24 فبراير ) الحكومة المؤقتة - التي ذكرها نورمانبي - واتخذت مبنى أوتيل دي فيل مقرا لها، ولقد كان أعضاؤها عن الجمهوريين: لامارتين، ولدرو رولان
Ledru-Rollin ، ولوي (لويس) بلان
Louis Blanc ، وغيرهم، وأعلن لامارتين الجمهورية في مساء اليوم نفسه، وفي الأيام الثلاثة التالية بقي الموقف شديد الخطورة، وانتشرت الفوضى في باريس، ولكن الحكومة المؤقتة تمكنت من اجتياز الأزمة بسلام، واشترك لامارتين بنفسه مع قوة الحرس الأهلي في إعادة النظام، وفي 28 فبراير استطاع أن يقول: لقد تغلبنا تماما على الفوضويين، وهكذا طويت صفحة ملكية يوليو، ملكية البورجوازية، والطبقة الممتلكة، أو ملكية أصحاب حقوق الانتخاب والنيابة.
9
الخلاصة
لقد تجمعت الأسباب الكثيرة التي أدت إلى زوال هذه الملكية (ملكية يوليو)، وكلها أسباب ترتد في أصولها إلى رغبة هذه الملكية في تعزيز كيانها، وضمان بقائها واستمرارها، وهي التي اعتبرها أصحاب التيجان في أوروبا «ملكية دخلية»، احتلت مكانها بين سائر الملكيات ذات التقاليد العتيقة الموروثة، دون أن يكون لها من هذه التقاليد شيء تستند إليه، ثم هي كذلك التي اعتبرها فريق من الفرنسيين «غير شرعية»، سواء كان هؤلاء من أنصار البربون، أو من الجمهوريين، أو من البونابرتيين.
ولقد كانت هذه الرغبة في البقاء مبعث سياسة الجمود التي اتبعتها ملكية يوليو، في تدبير شئون الحكم الداخلي، وفي توجيه علاقاتها الخارجية، ثم تشبثت بهذا الجمود لدرجة أنها فقدت في النهاية كل مبرر لوجودها في نظر الفرنسيين، فكان زوالها أمرا مفروغا منه؛ فهي قد اصطدمت في الداخل برغبة الإصلاح النيابي، وكانت تلك هي الصخرة التي تحطمت عليها، بينما كان التحالف الودي مع إنجلترة في علاقاتها الخارجية، النكبة التي جرت عليها الكوارث، فسبق أن أوضحنا كيف أن لويس فيليب أراد الاستفادة من هذا التحالف لتعزيز مركز «الملكية» بين الدول الأوروبية ولتنفيذ مشروع الزواج الإسباني، وتلك أغراض اعتبرها الجمهوريون والاشتراكيون - كما اعتبرها الشعب الفرنسي عموما - أغراضا شخصية فحسب، لا هدف لها إلا خدمة مصلحة البيت المالك على حساب مصالح الأمة ذاتها، حتى إن لامارتين عند تأليف الحكومة المؤقتة، قال - يشرح السبب في سقوط حكومة لويس فيليب؛ إنه مشروع الزواج الإسباني: «لقد قلت دائما إن الرغبة في تحقيق هذا الغرض الأناني سوف تكون مبعث هلاك «لويس فيليب»؛ لأن هذا الزواج دفعه لاتباع سياسة كان لا يمكن أن تقبلها البلاد»، وصرح لامارتين بأن الحكومة المؤقتة سوف تعلن في فرصة قريبة ما ينهض دليلا على أن هذه السياسة التي اتبعتها ملكية لويس فيليب في موضوع إسبانيا لم تكن في صالح الوطن، وبالفعل نشرت الحكومة بين شهري مارس وسبتمبر 1848 طائفة من الوثائق السرية التي عثر عليها في قصر التويلري عقب الثورة تؤيد دعواها، وألحقت الأذى البليغ بسمعة لويس فيليب وبملكية يوليو عموما.
وقال المؤرخ ليبسون
Lipson - تعليقا على ثورة 1848: «من الطبيعي أن تستميل هذه الثورة المرء لأن يعقد مقارنة بينها وبين الحركات السابقة ضد لويس السادس عشر، وشارل العاشر، أما الثورة الأولى فيمكن القول إجمالا: بأنها كانت موجهة ضد ملكية استبدادية، بينما كانت الثانية ضد الأرستقراطية ذات الامتيازات، في حين أن الثورة الثالثة كانت ضد حكومة الطبقة المتوسطة»، ويقول آخر: «لقد تأسست المساواة القانونية في سنة 1789، والمساواة الاجتماعية في سنة 1830، والمساواة السياسية في سنة 1848، وتحطم سلطان البورجوازية في حكومة فرنسا بفضل إنشاء حق الانتخاب العام، وقد أصبحت السلطة السياسية الآن من نصيب الشعب، وكانت ملكية يوليو تفخر بأنها تشغل مركزا وسطا بين الرجعية والثورة، بين تطرف الأرستقراطية ومغالاة «إسراف» الديمقراطية، ولكنها وقد اتخذت موضعا غير مستقر في توازنه كان سقوطها من أول الأمر مسألة وقت فقط، حيث تعرضت للهجوم عليها من كل جانب، وتضافرت كل القوى في البلاد لإلحاق الأذى بها.
ولقد كانت الطبقات المتوسطة هي دعامة هذه الملكية، واستندت سلطة هؤلاء على أساس قانوني؛ هو حق الانتخاب، ولكن لم يكن لهم أي سلطان أدبي أو روحي على سائر أفراد المجتمع؛ فهم ليسوا أصحاب حقوق تاريخية لأن يكونوا طبقة حاكمة، وتلك حقوق لو أنها كانت لهم لجعلت ممكنا رضاء الأمة الفرنسية عن ادعاءاتهم، ثم إنهم لما كانوا يمثلون الثروة والغنى والقوة المادية، فقد أثاروا ضدهم عداء أولئك الذين قام في نظرهم النظام الاجتماعي والاقتصادي السائد على الظلم وانتفاء العدالة؛ ولذلك فقد صار في نهاية الشوط تأييد البورجوازية مبعث ضعف بدلا من أن يكون سببا لقوة هذه الملكية.
وأخطأ لويس فيليب خطأ جر الوبال عليه، عندما لم يعمل لتوسيع القاعدة التي قام حكمه عليها، ومما زاد في جسامة الآثار المترتبة على هذا الخطأ أن التأييد الذي لقيه من هذه البورجوازية كان فاترا وغير ثابت، فمع أن مصالح البورجوازية كانت تتطلب استقرار الملكية، فقد خيم الخمول والتراخي وعدم المبالاة على أهل هذه الطبقات المتوسطة، فهم قد راضوا أنفسهم مكرهين على قبول سياسة الحكومة السلمية، ولم يلبث أن بطل اهتمامهم بتلك المناقشات الجوفاء التي يثيرها ممثلوهم تحت قبة البرلمان، وكما دلت الأحوال وقتئذ كان الأمل الوحيد في تغلب لويس فيليب على الصعوبات التي أحاطت بموقفه، هو استطاعته أن يصرف ذهن الشعب الفرنسي إلى التفكير في موضوعات أخرى، وذلك ما فشل فيه لويس فيليب فشلا ذريعا؛ فقد قامت سياسته على قاعدة جوهرية هي المحافظة على السلام في أوروبا، ومع أن هذا الغرض قد تحقق دون التضحية بمصالح الأمة أو دون أن يجلب العار عليها، فإن الوصول إلى هذه النتيجة أخفق في إرضاء مشاعر رعاياه وأحاسيسهم، وكان لويس فيليب مكروها من البلاد؛ لأنه بدد آمالها ولم يحقق لها أطماعها.
لقد كانت فرنسا في حاجة ملحة مرة أخرى لأن تتطهر بنيران الحرب؛ حتى يمكن أن تتذوق نعيم السلام مع الشرف.
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الصراع بين البورجوازية والإقطاع 1789-1848م (المجلد الثالث)
الصراع بين البورجوازية والإقطاع 1789-1848م (المجلد الثالث)
تأليف
محمد فؤاد شكري
الفصل الخامس
هولندة وبلجيكا: الكفاح القومي والدستوري في الأراضي المنخفضة
تمهيد
كان إنشاء مملكة الأراضي المنخفضة التي ضمت بلجيكا وأسقفية لييج إلى هولندة، من صنع مؤتمر فينا كإحدى الدعامات التي قرر السياسيون في هذا المؤتمر أن يقوم عليها التوازن الأوروبي، وذلك بإنشاء دولة حاجزة على حدود فرنسا الشمالية الشرقية، تستطيع المحافظة على استقلالها بمواردها وإمكانياتها الخاصة بها، يكون في قدرتها - لذلك - الصمود في وجه أي اعتداء جديد من جانب فرنسا؛ حتى تأتي جيوش الدول الكبيرة لنجدتها، ولدفع الاعتداء الفرنسي عن أوروبا الشمالية الغربية.
ولكن إنشاء مملكة الأراضي المنخفضة، لم يلبث أن صار مبعث اضطراب في هذه المنطقة ذاتها التي حرصت الدول على تقويتها، وذلك عندما أراد البلجيكيون الانفصال عن هولندة والظفر باستقلالهم، فقاموا بالثورة (1830)، وصارت المسألة الهولندية البلجيكية في عداد المسائل التي شغل بها السياسيون في الفترة التي خضعت فيها أوروبا «لنظام مترنخ» الرجعي، ولقد كان من أجل الوصول إلى حل لهذه المسألة أن وضع «الاتحاد الأوروبي» موضع الاختبار مرة أخرى، وعلى غرار ما حصل في أزمتي اليونان ومصر، ولقد تقدم كيف نالت اليونان استقلالها، وحصلت الباشوية المصرية على الحكم الذاتي الوراثي في نطاق الإمبراطورية العثمانية؛ وبسبب التدخل الأوروبي، بالرغم من أن موضوع الإمبراطورية العثمانية لم يكن في عداد المسائل التي بحثت في مؤتمر فينا، وترتب على نجاح الاتحاد الأوروبي في معالجة المسألتين اليونانية والمصرية العثمانية، نقض إحدى القواعد التي كان قد استرشد بها المؤتمرون في فينا وهي قاعدة «الشيوعية»، وهذا إلى جانب هدم المبدأ الإقليمي الذي انبنت عليه تسوية فينا، وهو بقاء الوضع الراهن على الحالة التي أوجدته بها التسوية الإقليمية، ومع ذلك فقد كان من نتائج الثورات التي حصلت في فرنسا في يوليو 1830 وفي فبراير 1848، والتي انتشرت في أوروبا في هذه الحقبة، نقض قاعدة «الشيوعية»، وهدم مبدأ الوضع الراهن الإقليمي، ولو أن هذا قد حدث في حالات معينة ومحدودة، منها طرد البربون والأورليان من الحكم في فرنسا، ثم فصل بلجيكا من هولندة، وهو تغيير إقليمي طرأ على التسوية الإقليمية التي وضعت في فينا، وينطوي على معارضة صريحة «لنظام مترنخ» من حيث الاعتراف فيما نالته بلجيكا من استقلال، بنجاح المذهب القومي، وفي هذه المرحلة المبكرة من مراحل النضال بين القومية والمذهب الحر، وبين قوات الرجعية في أوروبا.
مملكة الأراضي المنخفضة
أما الأراضي المنخفضة (وتشمل هولندة وبلجيكا) فكانت من أملاك أسرة برغنديا التي آلت بحكم الوراثة في القرن السادس عشر إلى إسبانيا، ثم قام الهولنديون بثورتهم المعروفة على الحكم الإسباني، وظفروا باستقلالهم الذي لم يتم الاعتراف به رسميا إلا بعد سنوات عديدة من الكفاح المتصل، وذلك في صلح وستفاليا (1648)، ولقد بقيت بلجيكا، وهي القسم الجنوبي من الأراضي المنخفضة في حوزة إسبانيا، إلى أن انتقلت ملكيتها إلى النمسا في صلح يوترخت (1714) التي أنهت حروب الوراثة الإسبانية، ولقد عرف هذا القسم الجنوبي من ذلك الحين باسم الأراضي المنخفضة النمسوية
Austrian Netherlands ، ثم بقيت هذه من أملاك النمسا حتى إذا قامت حروب الثورة «الفرنسية» ونابليون، دخلت الأراضي المنخفضة بأكملها (هولندة وبلجيكا) في حوزة فرنسا، سواء بإدماج القسم الجنوبي (بلجيكا)، أو بإنشاء الجمهورية البتافية أو المملكة الهولندية في نطاق الإمبراطورية النابوليونية وتحت سلطات فرنسا.
وكان بعد شهر واحد من هزيمة الإمبراطور نابليون في واقعة ليبزيج، أن قامت الثورة في هولندة ضد الفرنسيين في أمستردام، ولاهاي في نوفمبر 1813، وأعلنت هولندة استقلالها في لاهاي في 21 نوفمبر، وتألفت حكومة مؤقتة باسم أمير أورانج
Orange
الذي عاش في المنفى مدة الثماني عشرة سنة الماضية، والذي جاء إلى البلاد الآن (30 نوفمبر) ليتسلم أزمة الحكم رسميا في أمستردام في اليوم التالي باسم وليم الأول، وبادر من فوره بتشكيل لجنة لوضع القانون الأساسي
Fundamental Law
للدولة الجديدة، وقد دعيت للاجتماع في أمستردام هيئة من الأعيان لبحث هذا القانون بعد إنجازه، فوافقت عليه هذه الهيئة بأكثرية كبيرة يوم 28 مارس 1814.
ويتألف هذا القانون الأساسي من 146 مادة اشتملت على تقرير نظام الحكم الوراثي، وتخويل الملك السلطة التنفيذية، والقسط الأوفر من السلطة التشريعية إلى جانب الإشراف العام على المالية، وإدارة البحرية والجيش، وحق إعلان الحرب، وإبرام الصلح، بينما انتقلت إليه كذلك كل حقوق السيادة التي كانت تمارسها الولايات ومجالس البلديات، فلم تعد تمارس هذه غير شئون الإدارة المحلية وحسب، وتلك التي تمتع بها رئيس الدولة (أو الملك) كانت سلطات واسعة، جعلت الحكم بمقتضى هذا القانون الأساسي حكما أوتوقراطيا، لم تجد فيه شيئا كثيرا الضمانات التي أعطيت بمقتضى هذا القانون لحريات أو حقوق الشعب، فقد أنشئت مجالس تمثيلية أو نيابية
States
للولايات، تنتخب بدورها أعضاء عددهم خمسة وخمسين، لمجلس نيابي أو تمثيلي عام
States General
ومدة نيابتهم ثلاث سنوات.
وكان لهذا المجلس مثلما كان «للملك» حق اقتراح القوانين، وحق الاعتراض عليها، كما كان من حقه أن تعرض عليه الحكومة سنويا أبواب النفقات الاستثنائية ، ومع ذلك فلم تكن هناك مسئولية وزارية، ولم يقرر القانون الأساسي حرية الصحافة، ولم ينص على نظام المحلفين، بالرغم من جعل القضاء مستقلا، وفيما عدا ذلك نص القانون على ضمان المساواة لكل المذاهب (أو العقائد) الدينية.
ووافق الحلفاء على إنشاء هذه الدولة الجديدة التي أوحى إليهم إنشاؤها في الوقت نفسه، أن من الأفضل، لوقف أطماع الفرنسيين من الامتداد إلى هذا الجزء من أوروبا الشمالية الغربية، تأسيس دولة تكون أكبر حجما من هذه الدولة الهولندية، وذلك بضم الأراضي المنخفضة جميعها؛ هولندة وبلجيكا، وتوحيدها في دولة واحدة قوية، وكان كاسلريه أول من عالج هذه الفكرة في اجتماع شومونت (فبراير 1814)، حتى إذا أبرمت معاهدة باريس الأولى في 30 مايو 1814، خرجت هذه الفكرة إلى حيز الوجود عمليا، في صورة المادة السادسة من هذه المعاهدة، التي نصت على أن هولندة الموضوعة تحت حكم أسرة أورانج وسلطانها، سوف تنال «زيادة إقليمية» تضاف إلى أراضيها. وأما الغرض من هذه الزيادة الإقليمية، فقد أوضحه الحلفاء في مادة سرية ألحقت بالمعاهدة، كما تحددت في هذه المادة السرية المنطقة التي سوف تشمل هذه «الزيادة الإقليمية». فجاء بها ما نصه:
إن تأسيس توازن صحيح للقوى في أوروبا، الأمر الذي يتطلب أن يتم إنشاء هولندة وتكوينها بصورة تجعلها في مركز تستطيع به المحافظة على استقلالها بمواردها الخاصة بها، يقتضي أن تضم إلى هولندة وتتحد بها اتحادا أبديا، الأقاليم المحصورة بين البحر «الشمالي»، وحدود فرنسا كما ترسمها المعاهدة الحالية، ونهر الموز.
وبذلك يكون قد تقرر ضم بلجيكا إلى هولندة على أساس أن هذا الضم مجرد «زيادة إقليمية» وحسب، ودون أن يقيم الحلفاء وزنا لأية اعتبارات أخرى متصلة برغبات البلجيكيين أنفسهم، أو متفقة مع مصالحهم، وذلك كان إجراء أقل ما يوصف به أنه يخلو من الحكمة السياسية، ومن المنتظر أن يكون مبعث تذمر من جانب البلجيكيين، لا داعي له.
وكانت الخطوة التالية في إنشاء مملكة الأراضي المنخفضة، أن حضر ممثلو الحلفاء وممثلو أمير أورانج (في مؤتمر لندن) ليضعوا في 20 يونيو 1814 بروتوكول المواد الثماني
الذي عرضه الحلفاء على الأمير، ووافق هذا عليه في 21 يوليو بوصفه الأمير المتمتع بحقوق السيادة العليا، ولم يذع شيء من هذا البروتوكول إلا بعد مضي عام من وضعه.
وأهمية هذا البرتوكول أنه يبين الشروط التي يتحقق بها الاتحاد بين أقاليم الأراضي المنخفضة الشمالية (هولندة) والجنوبية (بلجيكا). فجاء في المادة الأولى؛ أن الاتحاد بين هولندة وبلجيكا سوف يكون كاملا ووثيقا، حتى تتألف من البلدين دولة واحدة، يكون الحكم فيها وفق القانون الأساسي الجاري العمل به الآن في هولندة، على أن يصير تعديل هذا القانون بناء على رغبة البلدين المشتركة، وحسب الظروف التي تنشأ. وقالت المادة الثانية: إنه لن يحدث مع ذلك أي تغيير في مواد القانون الأساسي التي تكفل حماية العقائد الدينية وما لها من حقوق ومزايا حماية متساوية، ثم تلك التي تضمن حق كل المواطنين، مهما كانت عقائدهم الدينية، في الالتحاق بالوظائف العامة، وفي تكريم الدولة لهم. وفي المادة الثالثة تقرر أن يكون للولايات البلجيكية حق التمثيل بطريقة مناسبة في المجلس النيابي
Stales General
الذي سوف يعقد جلساته في أوقات السلام بالتناوب مرة في مدينة هولندية، وأخرى في مدينة بلجيكية وهكذا. وجاء في المادة الرابعة أنه لما كان سكان الأراضي المنخفضة جميعهم يتمتعون بحقوق دستورية متساوية، يتعين أن يكون لهم جميعا حقوق متساوية في التجارة وغير ذلك من الحقوق التي تجيزها لهم ظروفهم، دون أن تثار العقبات والعوائق في طريق أحد ليفيد من ذلك آخرون. وفي المادة الخامسة أعطيت الولايات (المقاطعات) والمدن البلجيكية حق التجارة والملاحة في المستعمرات الهولندية. ثم نصت المادة السادسة على أن الديون التي كانت اقترضتها الولايات الهولندية من جانب، والولايات البلجيكية من جانب آخر، تقوم الخزانة العامة «لمملكة» الأراضي المنخفضة بتحملها وتأديتها ، وذكرت المادة السابعة أن على الخزانة العامة للدولة الجديدة أن تتولى النفقات اللازمة لبناء الحصون في الحدود وصيانتها؛ حيث إن ذلك متعلق بأمن الولايات وسلامة الأمة جميعها، والمحافظة على استقلال الدولة. وفي المادة الثامنة وقع واجب الاتفاق على إنشاء السدود وصيانتها على عاتق الجهات التي يهمها الأمر مباشرة ، ما عدا الحالات التي تحدث منها كارثة استثنائية.
وهذه المواد الثمان كان يصحبها برتوكول بتاريخ 21 يونيو (1814) أوضح فيه الحلفاء غرضهم من اتخاذ هذا الإجراء، فقالوا: إنهم قد أخذوا فيما فعلوه بعين الاعتبار مصالح كل من هولندة وبلجيكا، وذلك حتى يستطيعوا إدماج هذين الإقليمين في بعضهما بعضا إدماجا
Amalgame
على أعظم درجة من الكمال، وأنهم في تقرير مصير بلجيكا إنما استندوا فيما قر رأيهم عليه إلى حق الفتح الذي لهم. ثم طلبوا من أمير أورانج أن يصدق رسميا على هذا الاتحاد (أو الإدماج)، وأن يعين حاكما عاما (حكمدارا) لحكومة البلجيك بصورة مؤقتة، وأن يتخذ في روح متحررة ومسالمة، الخطوات القمينة بإخراج هذا «الاندماج» المنشود إلى حيز الوجود.
وهكذا تقرر مصير بلجيكا - بإدماجها في هولندة - على أساس أن الولايات البلجيكية بلدان افتتحها الحلفاء بعد أن هزمت جيوشهم الفرنسيين وطردتهم منها، وساعد على تصرف الدول الكبرى في مستقبل البلجيكيين تصرف الفاتحين، أن النمسا لم تكن تريد استرجاع أملاك بعيدة، ومعرضة على الدوام للغزو الأجنبي، ومن ناحية فرنسا خصوصا؛ في حين أنها كانت تبغي «تعويضا» في أماكن أخرى سوف يساعدها على الظفر به الموافقة على أي حل تريده الدول، وأن بريطانيا كانت تعمل في وفاق تام مع هولندة وأميرها وليم أورانج، فأرجعت إليها بعض مستعمراتها التي كانت استولت عليها، واستبقت في حوزتها البعض الآخر، وكان البعض الذي استبقته بريطانيا على جانب كبير من الأهمية؛ ومن ذلك مستعمرة رأس الرجاء الصالح، ومستعمرات هولندة في أمريكا الجنوبية في جويانا وغيرها، (معاهدة لندن في 13 أغسطس 1814)، وكان تنازل هولندة عن هذه المستعمرات الثمن الذي نالته بريطانيا مقابل جهودها في مسألة «إدماج» بلجيكا في هولندة.
وبعد موافقته على «المواد الثماني»، تسلم وليم أورانج زمام السلطة على رأس الحكومة المؤقتة في أول أغسطس 1814، وذلك إلى أن يتم في فينا تقرير الوضع النهائي للمملكة الجديدة ورسم حدودها، ولكن صادفت المؤتمر «في فينا» صعوبات كثيرة، ولم يكن المؤتمر قد وصل إلى قرار عندما وصلته الأنباء (في 8 مارس 1815) بفرار نابليون من جزيرة إلبا، فاتخذ أمير أورانج لقب الملك، وأصدر باسم وليم الأول ملك الأراضي المنخفضة ودوق لكسمبورج نداء يدعو فيه رعاياه للاتحاد من أجل الدفاع عن وطنهم المشترك ضد الخطر الذي يتهدده، وقوبلت هذه الخطوة بالترحيب في هولندة وبلجيكا، ولم تتوان الدول في الاعتراف بالأمر الواقع، فاعترفت رسميا بالمملكة الجديدة في 23 مايو 1815، وسنحت الفرصة لأن يقف الهولنديون والبلجيكيون صفا واحدا في الدفاع عن الوطن، عندما غزت جيوش نابليون البلجيك في 15 يونيو، واشتركوا معا وتحت قيادة الأمير أورانج ولي عهد المملكة الجديدة في المعارك التي دارت رحاها في كاتربرا، وواترلوا (17-18 يونيو)، وأصيب ولي العهد بجرح في واترلوا، وأبلى الهولنديون والبلجيكيون بلاء حسنا في الحرب، وتدعم الاتحاد بفضل الدماء التي بذلها المواطنون في الدفاع عن الوطن المشترك.
مصاعب الدولة الجديدة
ومع أن هذه المشاركة في الحرب، جعلت - ولا شك - الطريق ممهدا بعض الشيء أمام وليم الأول لتسوية المشكلات التي سوف تنجم من عملية «الإدماج» بين الجنوب والشمال، فقد كانت الصعوبات التي صادفتها هذه المحاولة على درجة كبيرة من الخطورة، حينما كان أمرا مفروغا منه أن إدماج بلاد عدد أهلها 3400000 نسمة (هي بلجيكا) في بلاد أخرى (هي هولندة) لا يزيد سكانها على 2000000 نسمة، كمجرد «زيادة إقليمية» لها؛ سوف يثير الشك في نفوس البلجيكيين، والغضب من إجراء يعده هؤلاء - وهم يؤلفون مجتمعا أكبر - إجراء تعسفيا، ولم يكن هناك مناص من تذمر البلجيكيين حتى ولو كان يربط بينهم وبين الهولنديين روابط لغوية أو دينية، أو تقاليد سياسية ومصالح مادية مشتركة.
على أن مثل هذه الروابط لا وجود لها بتاتا بين هولندة وبلجيكا، فالأراضي المنخفضة الشمالية؛ أي هولندة كانت تتمتع بالاستقلال الفعلي حوالي قرنين من الزمان، واستطاعت الأمة الهولندية خلالهما أن تسجل نشاطا ملحوظا في ميادين التجارة والتوسع الخارجي (الاستعماري) فيما وراء البحار، وتلعب دورا مرموقا في السياسة الأوروبية، في حين أن الولايات الجنوبية (بلجيكا) طوال هذه المدة لم يكن لها تاريخ خاص بها، فهي تارة من نصيب إسبانيا (معاهدة وستفاليا 1648)، وأخرى من نصيب النمسا (معاهدة يوترخت 1713)؛ ليجعل منها الهابسبرج حاجزا يحمي الولايات المتحدة الشمالية (أي هولندة) ضد أي هجوم فرنسي عليها، ثم تارة ثالثة تكون من نصيب فرنسا ذاتها (أيام الثورة ونابليون)، ومن شأن هذا كله أن يضع البلجيكي في نظر الهولندي في مرتبة أدنى.
أضف إلى هذا أن بلجيكا ذاتها لم يكن أهلها ينتمون إلى أصل واحد أو يتكلمون لغة واحدة؛ بل ينقسم سكان الولايات البلجيكية إلى فلمنك
Flemmish
في ولاية فلندرا
Flanders
والجزء الأكبر من ولاية برابانت
Brabant
ويؤلفون حوالي ثلثي عدد سكان البلجيك، وتختلف لغتهم عن الهولندية اختلافا بسيطا، وينحدرون أساسا من نفس الأصول التي ينحدر منها الزيلنديون
Zeelander
والهولنديون
Hollander
مع امتزاج أكثر بالجنس الكلتي، وأما القسم الآخر من السكان؛ فهم من الوالون
Walloon ، في ولايات هينولت
Hainault
ونامور
Namour
ولييج
Liége ، وهم من الكلت ولغتهم قريبة جدا من الفرنسية، وفي سنة 1815 كان هذا الاختلاف بين الفلمنك والوالون، لدرجة كبيرة مختفيا وراء ستار من الثقافة وآداب السلوك الفرنسية، ولم يكن أهل الطبقات العليا والتجارية يتخاطبون بغير اللغة الفرنسية، وبلغ من كراهية البلجيكيين الفلمنك للسيطرة الهولندية - والهولنديون من أصل فلمنكي - أنهم وجدوا في استخدام اللغة الفرنسية ما يرضي كبرياءهم الوطنية، ويشفي غليلهم من الهولنديين المتسلطين عليهم، ولقد كان من المتيسر بمضي الزمن زوال هذه الكراهية بفضل المنافع التي سوف يجنيها الفلمنكيون البلجيكيون أهل فلندرا وبرابانت من فتح نهر الشلد للملاحة الحرة، وأن يتم الاتحاد بينهم وبين «أقربائهم» عبر الحدود الهولندية، لو أنه لم يكن يفرق بين هؤلاء والهولنديين اختلاف المذهب والعقيدة.
فقد كانت ولايات الأراضي المنخفضة الجنوبية - بلجيكا - بسبب سياسة الكثلكة التي اتبعتها إسبانيا بالحديد والنار أيام فيليب الثاني، ودوق ألفا
Alva
ولايات يدين أهلها بالكاثوليكية، في حين أن الولايات الشمالية - هولندة - بالرغم من وجود أقلية كاثوليكية، قد بقيت من أيام وليم الصامت يدين أهلها - شعبا وحكومة - بالعقيدة الكلفينية.
زد على ذلك أن النبلاء في الولايات الشمالية (هولندة) من مدة طويلة كانوا قد فقدوا كل سلطة سياسية، وأخذ رجال الدين البروتستنت يفقدون كذلك هذه السلطة رويدا رويدا، وذلك على خلاف ما كان عليه الحال في الولايات الجنوبية (بلجيكا)؛ حيث كان لرجال الدين نفوذ عظيم مارسوه في مهارة متزايدة، ثم إنه كان في وسعهم أن يعتمدوا على مؤازرة طبقة قوية من النبلاء الكنسيين لهم.
واعتمد أهل الولايات الشمالية (هولندة) في تنمية اقتصادهم، وجلب الرخاء لبلادهم على نشاطهم فحسب كأمة من التجار والملاحين؛ لأنهم يعيشون في أرض استنقذوا أكثرها من البحر بإقامة السدود الصناعية، ضعيفة التربة فقيرة الإنتاج، تكاد تنعدم منها المنتجات الطبيعية. واعتمد الهولنديون على الواردات من الخارج لإمدادهم بضروريات الحياة. أما البلجيكيون فلم يكن لهم قبل الاتحاد موانئ بحرية، ولكن بلادهم كانت غنية بأرضها الخصبة، وبمواردها المعدنية، وعاشوا في رخاء لاشتغالهم بالزراعة والصناعة، ولقد كان من المنتظر - ولا شك - أن يفيد البلجيكيون من الاتحاد الذي كان من أثر القواعد التي قام عليها فتح نهر الشلد للملاحة، وإحياء ميناء أنتورب (أنفرس) البلجيكي القديم، والذي يقع عند مصب هذا النهر، ثم إعطاء البلجيكيين حق التجارة والملاحة في المستعمرات الهولندية.
القانون الأساسي
على أن هذه الاختلافات لم تلبث أن صارت مبعث صعوبات عديدة، منذ صدور بيان الملك وليم الأول في 16 مارس 1815، والذي يعتبر أن الاتحاد بين الشمال والجنوب قد بدأ يتنفذ من وقت صدوره، ذلك أن الملك سرعان ما ألف لجنة من اثني عشر عضوا هولنديا، ومثل عددهم من البلجيكيين (في 22 أبريل) لإدخال التعديلات التي ذكرت «المواد الثماني» ضرورة إدخالها على «القانون الأساسي» لهولندة الصادر في 28 مارس 1814، والذي صار اعتماده للاتحاد أو الدولة الجديدة، وذلك «بناء على رغبة البلدين المشتركة»، وحرص وليم الأول على أن يكون التمثيل في هذه اللجنة متساويا بين الكاثوليك والبروتستنت، وأن يكون أعضاؤها من الذين حنكتهم التجارب، والذين يمثلون كذلك مختلف الاتجاهات والآراء السياسية.
ومع أن مناقشات حامية دارت حول مسائل كثيرة شائكة أثناء العمل، فقد تناول الأعضاء الموضوعات المطروحة على بساط البحث بروح مسالمة، ورغبة خالصة في الوصول إلى نتيجة مرضية، وأما بحوثهم فقد أسفرت عن وضع نظام للحكم، لم يفرض أية قيود تحد من السلطة الواسعة التي كانت للملك في «القانون الأساسي» لسنة 1814، بل على العكس من ذلك تزايد نفوذ الملك في النظام الجديد. فقد تقرر إنشاء «مجلس طبقات»
States General
أو برلمان، يتألف من مجلسين؛ أحدهما ويسمى الغرفة أو المجلس الأول
First Chamber
من ستين عضوا يعينهم الملك لعضويته مدة حياتهم، والآخر ويسمى الغرفة أو المجلس الثاني
Second Chamber
من مائة وعشرة أعضاء تنتخبهم مجالس
States
الولايات، ومدة عضويتهم ثلاث سنوات، نصفهم بلجيكيون، والنصف الآخر هولنديون، ولم تكن الحكومة (الوزارة) مسئولة أمام هذه الهيئات التمثيلية، ولم يكن في وسع أعضاء «الغرفة الأولى» وهم المعينون؛ إلا أن يخضعوا لمشيئة الملك، واقتصر حق أعضاء «الغرفة الثانية» على رفض مشروعات القوانين المعروضة عليهم، وحرموا من حق تعديلها، ثم إنهم كانوا لا يستطيعون مراقبة مالية الدولة والإشراف عليها إلا حين تعرض عليهم الميزانية، وذلك بحكم هذا القانون الأساسي مرة واحدة كل عشر سنوات، وبفضل هذا النظام إذن تركزت السلطة في يد الملك في النهاية.
ولم يجد أعضاء اللجنة مشقة في الوصول إلى اتفاق بصدد القواعد التي أسفر عنها النظام إلا فيما تعلق منها بمسألتين على درجة كبيرة من الأهمية؛ أولاهما: تساوي عدد الأعضاء الهولنديين والبلجيكيين في الغرفة الثانية من «مجلس الطبقات». وثانيتهما: ما أريد للمذاهب والعقائد الدينية من مساواة كاملة أمام القانون. وحول هاتين المسألتين حصل الاصطدام بين فريقي اللجنة من الهولنديين والبلجيكيين، وكان الاختلاف بينهما اختلافا جوهريا، وكان مؤتمر لندن الذي صدر عنه بروتوكول المواد الثماني قد قرر مبدأ المساواة بين العقائد الدينية أمام القانون؛ فتصدى البلجيكيون (الآن) لمعارضة هذا المبدأ معارضة شديدة، ويلقون في موقفهم تأييد الطبقات المتسلطة من الكاثوليك؛ فلم تقبل اللجنة تقرير هذا المبدأ إلا بعد مشقة وعناء عظيم. على أن مسألة التمثيل المتساوي كانت أكثر مشقة وعناء من مسألة المساواة الدينية، واكتنفتها الصعاب من كل جانب، حتى إنه تعذر ابتداع حل مرضي لها من الناحية العملية؛ ذلك أن البلجيكيين تمسكوا بضرورة التمثيل النسبي، حسب تعداد السكان في الولايات الشمالية (هولندة) والجنوبية (بلجيكا)، فيكون للبلجيكيين - الذين يبلغ عددهم ثلاثة أخماس سكان المملكة بأسرها - الأكثرية في المجلس (أي الغرفة الثانية )، في حين تشبث الهولنديون بمبدأ المساواة العددية في التمثيل، كأقل ما يجب الأخذ به في هذه المسألة، بدعوى أن الولايات الشمالية من الأراضي المنخفضة، ظلت تؤلف مدة قرنين من الزمان دولة مستقلة ذات سيادة، وأن الولايات الجنوبية (بلجيكا) قد صدر قرار الدول الكبرى بإدماجها في كيان هذه الولايات الشمالية، باعتبار أنها «زيادة إقليمية» وأن لهولندة مستعمرات آهلة بالسكان، وذات موارد غنية فيما وراء البحار، وعبثا حاول كل فريق الظفر باستعلاء نفوذه عن طريق الأكثرية العددية في «الغرفة الثانية»، وتعذر الوصول إلى حل لهذه المشكلة إلا بتقرير مبدأ المساواة.
وفي 18 يوليو 1815، أعلن الملك أن اللجنة قد انتهت من عملها، وأن «القانون الأساسي» سوف يعرض على ممثلي الأمة لينال موافقتهم عليه، وأذيع في الوقت نفسه بروتوكول المواد الثماني الذي كان قد بقي في طي الكتمان حتى هذا الوقت منذ صدوره في العام السابق. وفي 8 أغسطس 1815 وافق «مجلس الطبقات» الهولندي بالإجماع على «الدستور» الجديد، ولكن الحال كان على خلاف ذلك في بلجيكا؛ عندما اجتمع الأعيان البلجيكيون في بروكسل في 18 أغسطس، فحضر 1323 فقط من 1603 كانت وجهت لهم الدعوة للحضور، ورفض الحاضرون القانون الأساسي بأكثرية 269 صوتا، الأمر الذي أثار دهشة الملك، مما جعله يشعر بحروجة مركزه، فلجأ إلى وسيلة جريئة لإنقاذ الموقف، تتلخص في اعتبار أن الأفراد الذين وجهت لهم الدعوة وتغيبوا وعددهم (380)، إنما هم موافقون على القانون الأساسي، ثم اعتبار الذين اقترعوا ضد القانون من الحاضرين لمعارضتهم مبدأ المساواة الدينية وعددهم (126)، أنهم قد فقدوا أصواتهم بدعوى أن اقتراعهم جاء مناقضا لقرارات مؤتمر لندن والمواد الثماني، التي صدرت عنه، ويتعين ضم هذه الأصوات التي فقدت إلى جانب تأييد القانون الأساسي، وبذلك أمكن إعلان أن القانون الأساسي قد صار التصديق عليه بأكثرية (263) صوتا (24 أغسطس)، وكان ذلك إجراء تعسفيا، وليس من شأنه استمالة البلجيكيين لتأييد الدستور الجديد، والذي يرجع الفضل في صدوره والتصديق عليه إلى ما سماه هؤلاء «بعلم الحساب الهولندي»،
1
وهكذا جاء هذا الدور الجديد يحمل في طياته - ومن مبدأ الأمر - بذور الانحلال السريع.
حكومة وليم الأول
وفي 26 سبتمبر 1815 وصل الملك وليم الأول بروكسل في احتفال رسمي، وفي اليوم التالي حلف الملك اليمين في حضور «مجلس الطبقات» للمحافظة على الدستور، وبهذه الخطوة تنفذ الاتحاد بين هولندة وبلجيكا، وبدأت مملكة الأراضي المنخفضة حياتها إداريا وقانونا (27 سبتمبر 1815)، وخططت حدود الدولة الجديدة نهائيا بالصورة التي كان قد وافق عليها مؤتمر فينا (منذ 31 مايو من السنة نفسها)، فصارت المملكة الجديدة تشمل جمهورية الولايات المتحدة (الهولندية) القديمة والأراضي المنخفضة النمسوية (بلجيكا) وأسقفية لييج، مع عدد من المقاطعات الصغيرة، وتخلى الملك عن أملاك أسرته (أسرة نساو
Nassau
في ألمانيا)، في نظير تعويضه عنها بإعطائه لكسمورج التي جعلت غراندوقية (في 8 يونيو)، ولقد ضمت إلى المملكة الجديدة كذلك دوقية بويلون
Bouillon
وجهات ماريا نبورج
Marionbourg
وفيليبفيل
، وقد تنازلت فرنسا عن هذه الأقاليم لمملكة الأراضي المنخفضة في معاهدة باريس الثانية في 20 نوفمبر 1815، ثم لم يلبث أن حصل تعديل للحدود الشرقية من ناحية بروسيا الغربية (الراينية) بمقتضى معاهدات تكميلية في 26 يونيو و7 أكتوبر 1816.
وفي الخمس عشرة سنة التالية التي حكم فيها وليم الأول الأراضي المنخفضة، مملكة واحدة متحدة، تتابعت الحوادث التي أظهرت بوضوح أن هذا الاتحاد (أو الاندماج) كان تجربة فاشلة؛ وذلك بسبب الاختلاف العميق بين أهداف كل من الشعبين الهولندي والبلجيكي ومصالحهما المادية، مما جعل الاتحاد مقضيا عليه عاجلا أو آجلا. فانفصل البلجيكيون وخرجوا على الاتحاد عندما قاموا بالثورة في سنة 1830، وأنشئت بلجيكا دولة مستقلة في السنة التالية، واضطر وليم الأول الذي صار ملكا لهولندة فقط عند اعتراف الدول باستقلالها - بلجيكا (في 1831) - إلى الاعتراف هو الآخر باستقلالها بعد ذلك بثماني سنوات (1839)، ثم إنه لم يلبث أن تنازل عن العرش في سنة 1840.
إلا أنه قبل الكلام عن العوامل التي أدت إلى قيام الثورة في سنة 1830 وقضت على الاتحاد (أو الاندماج)، يجب تقرير أن هذه السنوات الخمس عشرة من وقت إنشاء مملكة الأراضي المنخفضة إلى وقت انفصال بلجيكا وتحطيم الاتحاد، كانت سنوات انتعاش ورخاء بالنسبة لبلجيكا في ظل حكومة الملك وليم الأول.
فقد اعتقد الملك أن النفع المادي؛ أي رعاية مصالح البلجيكيين المادية، وكذلك نشر التعليم، كفيلان وحدهما بكسب رضاء هؤلاء واستمالتهم إلى تأييد الاتحاد، ونجاح هذا الاتحاد في النهاية، فأكثر من المنشآت العامة، مثل: إنشاء الطرق الكبيرة، وبناء القنوات لتحسين وسائل النقل، فبنيت في بلجيكا قناة ماستريخت-بواليدوك
Maastricht-Bois le Duc (1822)، وقناة غنت-ترنوتزن
Ggent-Terneuzen (1827)، وعنى بتنمية موارد البلاد الطبيعية، وأمد المصانع بالمال، فانتعشت صناعة «الحديد، والصوف، والقطن»، وأضحت لييج وغنت وفرفيية
Verviers
وغيرها مراكز صناعية نشيطة، وأفادت تجارة البلجيكيين من فتح أسواق المستعمرات الهولندية لهم إلى جانب الأسواق الأجنبية الأخرى التي للهولنديين علاقات بها؛ لتصريف منتجاتهم في هذه الأسواق وجلب حاجاتهم من الخامات منها. وساعد على زيادة هذا النشاط التجاري كما ترتب عليه أن عنيت حكومة الملك وليم الأول بإصلاح المواني البلجيكية مثل: مينائي أنتورب (أنفرس) وأوستند. أما عنايته بالتعليم في بلجيكا فقد تبدت في إعادته إنشاء جامعة لوفان
Louvin (1817)، وكانت هذه قد ألغيت في سنة 1797، ثم إنه أسس جامعة أخرى في غنت سنة 1826، وسار على خطة التوسع من ناحية أخرى في التعليم الابتدائي.
وتلك كانت منافع مادية، لا شك في أنها كانت تستميل الولايات الجنوبية إلى التمسك بالاتحاد وتأييده لو أن الحكومة القائمة بالأمر اتبعت سياسة حكيمة تستهدف المسالمة، وتعمل على كسر حدة الاحتكاكات التي لم يكن هناك مفر من حدوثها في نظام يراد تطبيقه لإدماج شعبين إدماجا كليا بكل وسيلة، وبالرغم من الفوارق العميقة التي كانت تفصل بينهما؛ حتى إذا مضت فترة من الوقت كافية، قلت هذه الاحتكاكات رويدا رويدا إلى أن ينتهي الأمر باعتراف كل فريق منهما بالمزايا الاقتصادية والسياسية التي تعود عليه من هذا الاتحاد أو الاندماج، في نظير تنازله عن بعض الحقوق التي له وتضحيته بها من أجل الصالح العام، ولكن الذي حدث كان على خلاف ذلك؛ لأن الملك وليم الأول اتبع سياسة كان محورها ترجيح مصالح الهولنديين - في نطاق الاتحاد - على كل ما عداها، والمحافظة على هذه المصالح وتأييدها.
وأما المسائل التي أثارت المتاعب، وتجمعت بسببها العوامل التي أدت إلى اشتعال الثورة، فكانت خمسا: عدم المساواة السياسية والإدارية، الخلافات الدينية، اللغة، المالية، والصحافة.
ولقد سبق الحديث عن عدم المساواة السياسية والإدارية، عندما أشرنا إلى احتجاج المندوبين البلجيكيين في اللجنة التي عهد إليها بتعديل القانون الأساسي (الهولندي)، على ما جاء في مادة الدستور التي جعلت عدد النواب البلجيكيين مساويا لزملائهم الهولنديين في «الغرفة الثانية» أو المجلس الثاني في البرلمان، أو «مجلس طبقات» المملكة، بالرغم من أن تعداد البلجيكيين 3400000 نسمة، في حين أن تعداد الهولنديين كان 2000000 نسمة وحسب. فكان الذي حدث بعد إنشاء «الاتحاد» أو المملكة الجديدة ووضع هذا الدستور موضع التنفيذ أن جرى التصويت داخل «البرلمان» في المسائل التي اختلفت بشأنها مصالح الفريقين، من شماليين (هولنديين) وجنوبيين (بلجيكيين) على أساس قومي، وكثيرا ما كان ينضم عدد من الأعضاء البلجيكيين ممن يقومون بأعمال إدارية أو حكومية إلى جانب الهولنديين، لاعتمادهم في البقاء في وظائفهم على إرادة الحكومة، ففاز فريق الهولنديين بالأكثرية في المجلس في معظم الأحايين، وبهذه الطريقة تمكنت الحكومة من فرض ما أرادته من ضرائب كانت مبعث تذمر وسخط شديد بين البلجيكيين؛ من ذلك على وجه الخصوص فرض ضريبتين (في 21 يوليو 1821) بتصديق من «البرلمان» بأكثرية 55 صوتا، منها صوتان بلجيكيان، وذلك ضد 51 صوتا (الأقلية البلجيكية)، ثم مثال آخر، هو ما حدث عند عرض الميزانية السنوية على البرلمان في سنة 1827، فقد صدق عليها المجلس (28 أبريل) بأكثرية تتألف من 49 صوتا هولنديا وأربعة أصوات بلجيكية. أضف إلى هذا أن القانون الأساسي كان قد نص في مادته الثامنة والتسعين على أن يجتمع مجلس الطبقات (البرلمان) بالتناوب في مدينة شمالية وأخرى جنوبية، ولكن هذه المادة لم توضع موضع التنفيذ إطلاقا، فبقيت الوزارات في لاهاي، وبقي في هولندة مقر المصالح والمؤسسات الإدارية والعسكرية الرئيسية.
أما الوزراء الذين بلغ عددهم سبعة في 1816، فكان واحد منهم فقط بلجيكيا، وفي سنة 1830 كان لا يزال هناك ستة وزراء هولنديون من بين سبعة، ومن بين 39 دبلوماسيا كان ثلاثون من الهولنديين، وفي مختلف الإدارات كان عدد الهولنديين في وزارة الداخلية 117، والبلجيكيين 11 فقط، وفي المالية 59 هولنديا وخمسة فقط من البلجيكيين، وفي وزارة الحرب 102 هولندي و3 بلجيكيون، وأما الذين شغلوا الوظائف الكبرى في المؤسسات والأسلحة الخاصة بالجيش فكان أكثرهم من الهولنديين، فمن بين 43 ضابط أركان حرب، كان عدد البلجيكيين ثمانية، ومن بين 43 من كبار ضباط المدفعية، وجد ضابط بلجيكي واحد، ومن بين 23 ضابطا في سلاح المهندسين لم يكن هناك ضابط بلجيكي واحد، ويدخل تحت عدم المساواة السياسية والإدارية، جعل مقر محكمة الاستئناف في لاهاي بمقتضى أمر صدر في 21 يونيو 1830، بالرغم من أن عدد قضايا البلجيكيين المستأنفة كان يفوق كثيرا قضايا الهولنديين بنسبة خمس إلى واحدة، وكان هذا الإجراء من العوامل التي زادت من حدة التوتر والسخط قبيل انفجار الثورة.
ولقد شاهدنا كيف أن «القانون الأساسي» أو الدستور قد قرر في مواده (190-193) المساواة بين مختلف العقائد الدينية أمام القانون، وجعل لكل رعايا الملك مهما اختلفت عقائدهم الحق في شغل مناصب الحكم والإدارة، وذكرنا أن تقرير هذه القواعد كان قد قوبل بالعداء الشديد من جانب الحزب الكاثوليكي المتطرف في بلجيكا، وكان في مقدمة الناقمين على مبدأ المساواة الدينية أمام القانون أسقف غنت (موريس دي بروجلي)
Maurice de Broglie
الذي أعد احتجاجا على لسان رؤساء الأبروشيات للاحتجاج لدى الملك ضد الاعتداءات التي حصلت على حقوق الكنيسة الكاثوليكية في الأراضي المنخفضة الجنوبية (بلجيكا)، وفي 2 أغسطس 1815، أصدر أسقف غنت نفسه تعليمات أو توصيات لأهل أبروشيته (أو أسقفيته) يمنع الأعيان في حدود أسقفيته، والذين دعوا للاجتماع في بروكسل من الاقتراع في صالح قانون أساسي يشمل - كما قال - مواد متعارضة مع حقوق الكنيسة الكاثوليكية التي لا يمكن التخلي عنها، ولم يلبث أن أصدر «حكما عقائديا» بعد أن أعلن الملك في 24 أغسطس اعتماد القانون الأساسي، يعتبر أن حلف اليمين لتأييد الدستور الجديد خيانة يرتكبها صاحبها ضد صالح الدين نفسه، ونال موقف «موريس دي بروجلي» كل تأييد من جانب البابا الذي امتنع عن اعتماد تعيين كونت دي ميان
Méan
مطرانا لمطرانية مالين
Maline (مايو 1817) إلا إذا أقر المعين لهذه المطرانية أن حلف اليمين للدستور، إنما يعني في فهمه للمساواة الدينية المذكورة به أنها مساواة في الحماية التي ينالها الأفراد - الذين تنوعت عقائدهم - في كل ما يتصل بالشئون المدنية فقط، ولقد درج الكاثوليك المعارضون للدستور على حلف اليمين له من الآن فصاعدا فيما صار معروفا - بالمعنى الذي حلف به المسيو دي مالين.
أما أسقف غنت، فقد عزمت الحكومة على محاكمته في بروكسل، ولكنه رفض الحضور إلى بروكسل وطعن في صلاحية المحكمة التي عرضت عليها مسألته، ولجأ إلى فرنسا؛ فأدانته هذه المحكمة بدعوى تحقيره لها وتمرده على أوامرها (9 أكتوبر 1817) وحكمت بنفيه، ثم عمدت الحكومة إلى نشر صورة هذا الحكم بتعليقه في السوق العام في غنت بين مشهرين (والمشهر آلة خشبية يدخل فيها رأس المجرم) لاثنين من اللصوص، وكان هذا التشهير إجراء غير حكيم زاد من تعلق البلجيكيين به، كما لم يفد شيئا، حينما ظل أسقف غنت يدير شئون أسقفيته من باريس بواسطة نائبه، ويطيع «المؤمنون» أوامره ونواهيه في رسائله لأبرشيته، وعندما قدم نائبه للمحاكمة في سنة 1821، برأته المحكمة، وتدخل البابا بيوس السابع بنفوذه، وكان صاحب آراء معتدلة في صالح السلام، لمنع جماعة الكاثوليك المتطرفين من المضي في عنفهم.
ولكن سياسة الملك التعليمية، لم تلبث أن أدت إلى استئناف الاحتكاك في سنة 1825، فقد نجم من توجيه عنايته للتعليم العالي إنشاء جامعة «لوفان»؛ وذلك منذ 1817 - كما عرفنا - فأراد الآن، تحدوه الرغبة نفسها في تقدم التعليم العالي ونهضته - أن يشترط على كل مرشح للكهنوت أن يدرس مدة سنتين بكلية الفلسفة التي أسسها في جامعة لوفان، وذلك قبل التحاقه بالمدرسة أو الكلية الأكليريكية (أو الكهنوتية)، واستصدر بذلك قرارا في 11 يوليو 1825، ثم أردفه بقرار آخر (في 11 أغسطس) حرم فيه تلقي العلم في الجامعات الأجنبية، وعوقب من يفعل ذلك بحرمانه من الالتحاق بالوظائف مدنية كانت أم دينية، وكان الغرض من هذا القرار الأخير: منع الذين يريدون الكهنوتية من تلقي العلم في كليات اليسوعيين (الجزويت) في الخارج.
وعارض «الحزب الكنسي» هذه الإجراءات معارضة شديدة داخل البرلمان، ولكن الحكومة لقيت أنصارا من البلجيكيين «الأحرار» داخل المجلس، فأيدت هذه القرارات أكثرية كبيرة، بينما قدمت الحكومة للمحاكمة عددا من الذين تطرفوا في معارضة الحكومة وإظهار نقمتهم عليها، وأراد الملك تهدئة النفوس الثائرة بمحاولة التفاهم مع الفاتيكان لعقد اتفاق«كونكردات» من نمط الاتفاق الذي أبرم بين البابا وفرنسا (أيام نابليون)، وفي يونيو 1827، أمكن إبرام «الكونكردات» المنشودة، ونصت المادة الثالثة منها على أن يكون عدد الأسقفيات في الأراضي المنخفضة جميعها ثمانية بدلا من الأسقفيات التي كان عددها خمسا فقط في بلجيكا، ووافق البابا على أن يكون للملك الحق في الاعتراض على أي مرشح لملء منصب الأسقفية لا يرضى عنه، ومن ناحية أخرى جعلت الدراسة لمدة سنتين في «كلية الفلسفة» بجامعة لوفان أمرا اختياريا، ولا جدال في أن هذه الاتفاقية - ولا سيما بسبب ما جاء بالمادة الثالثة منها - تعد نصرا ظاهرا للملك، ولكن البابا عند إعلان إبرام الاتفاقية، أغفل الإشارة إلى تخليه للملك عن حق الاعتراض على تعيين المرشحين لمناصب الأسقفية، كما قال فيما يتعلق بدراسة المرشحين للكهنوت: إن تحديدها منوط الأساقفة الذين يخضعون لما يصدر من قرارات في هذا الشأن عن رومة. وحينئذ فقد عمدت الحكومة على الفور إلى إرسال التعليمات السرية لحكام الولايات (المقاطعات) لتأجيل تنفيذ الاتفاقية، وهكذا ذهبت هباء جهود طيبة كان الغرض منها التهدئة وكسر حدة الاحتكاك بين الحكومة والكاثوليك البلجيكيين.
وفيما يتعلق باللغة كان حوالي الثلثين من أهل المقاطعات الجنوبية بالأراضي المنخفضة (أي بلجيكا) يتكلمون - كما عرفنا - لغة تختلف اختلافا يسيرا جدا عن اللغة الهولندية، وكان يريد الملك من أول الأمر تقوية ما أسماه «باللسان الوطني» وتعميم استخدامه، وأيده في هذه الرغبة أكثر سكان الولايات (أو المقاطعات) التي تتكلم الفلمنكية، ولكن الملك وجد عند تأسيس مملكة الأراضي المنخفضة أن الفرنسية كانت لغة التخاطب الرسمية في الولايات البلجيكية مدة السيطرة الفرنسية (أيام الثورة ونابليون)، بل وكانت قبل ذلك بمدة طويلة لغة الحكومة في كل شئونها، حتى إن أكثر أهل الطبقات الثرية في ولايات مثل فلاندرا وبرابانت صارت تجهل لسانها الوطني، وعلى ذلك فقد استصدر وليم الأول قرارا في أكتوبر 1814، يجعل قانونيا استخدام الفرنسية والهولندية، ثم استصدر بعد خمس سنوات (15 سبتمبر 1819) قرارا آخر يجعل معرفة اللغة الهولندية مؤهلا لازما للالتحاق بالوظائف العامة جميعها، وأخيرا صدر قرار في 26 أكتوبر 1822 باعتماد اللغة الهولندية لسان التخاطب الرسمي في الدولة، واعتبارها لغة البلاد الوطنية، وكان معنى ذلك فرض هذه اللغة الهولندية على البلجيكيين فرضا، الأمر الذي جعل هؤلاء ينظرون إلى هذا الإجراء التعسفي كأحد مظاهر السيطرة الهولندية؛ مما أثار تذمر البلجيكيين وغضبهم الشديد منه، ولا سيما الوالون الذين كانت هذه اللغة الوطنية المزعومة بالنسبة لهم لسانا أعجميا. كما عارض هذا القرار المحامون البلجيكيون عموما، وعظم السخط لدرجة أن الحكومة لم تلبث أن اضطرت في سنة 1829 إلى التخفيف من حدة هذه القرارات شيئا، ولكن هذه كانت خطوة جاءت متأخرة، فبقيت مشكلة اللغة من العوامل القوية التي أدت إلى قيام ثورة البلجيكيين ضد هولندة.
وكانت مسألة تسوية الدين العام ذات أثر بالغ في تحريك هذه الثورة لا يقل عن آثار العوامل السابقة، فقد عرفنا كيف أن المادة السادسة من بروتوكول الاتحاد - أو بروتوكول المواد الثماني - جعلت البلجيكيين يتحملون نصف مقدار الدين الذي كانت هولندة مدينة به قبل الاتحاد، وأما هذا الدين الذي استدانته الولايات الشمالية - أي هولندة - فكان يبلغ في سنة 1815 مليارين من الفلورينات (والفلورين عملة هولندية)، بينما بلغ دين الأراضي المنخفضة النمسوية - أي بلجيكا - 32 مليونا فقط، وكانت هولندة قبل الاتحاد تعاني صعوبات مالية قاسية من أيام السيطرة الفرنسية. وفي سنة 1814 بلغ العجز في ميزانية هولندة ستة عشر مليونا من الفلورينات، وفي سنة 1815، ارتفع إلى أربعين مليونا بسبب حملة واترلو. وكان طبيعيا أن يتذمر البلجيكيون من إرغامهم على تحمل أعباء مالية (وديون) لم يكونوا هم مسئولين عنها ولا يد لهم فيها، وكان من المنتظر من ناحية أخرى أن يلقى البلجيكيون في فتح الأسواق الهولندية في المستعمرات الهولندية الغنية فيما وراء البحار ما يعوضهم عن هذه الأعباء المكروهة، ولكن حدث في سنة 1825، أن قامت الثورة في «جاوه»، وكانت ثورة كبيرة كبدت الحكومة نفقات جسيمة، فصارت المستعمرات بابا آخر من أبواب الإنفاق المتزايدة، بدلا من أن تكون مصدر ربح يخفف من أعباء ميزانية الدولة. وأدى استمرار العجز في الميزانية إلى لجوء الحكومة لعقد القروض من ناحية ولزيادة الضرائب من ناحية أخرى، ولما كان القانون الأساسي قد قصر حق «البرلمان» على بحث الميزانية مرة كل عشر سنوات؛ فقد انحصرت كل سلطة في الهيمنة على مالية البلاد في يد الملك وحده، الذي عد لدرجة كبيرة مسئولا عن الحالة السيئة التي وصلت إليها مالية الدولة.
ولقد زاد مركز الملك وليم الأول حرجا وزاد سخط البلجيكيين عليه وعلى الهولنديين بسبب الإجراءات التي اتخذها لمعالجة العجز المزمن في الميزانية. من ذلك أن الحكومة قررت نوعين من الضريبة الجديدة في 1821؛ إحداهما على القمح المطحون
Mouture ، والأخرى على الحيوان المذبوح
Abbatage ، وبمعنى آخر على الخبز واللحم، فبلغت حصيلة الضريبة الأولى 5500000 فلورين، انتزعت معظمها من الطبقات الفقيرة في المجتمع، ووقع عبؤها على البلجيكيين الذين يعتمدون في غذائهم على الخبز. أما الهولنديون فيتألف استهلاكهم من البطاطس والخضروات، ولا يستهلكون من الخبز القدر الذي يستهلكه البلجيكيون، وبلغت حصيلة الضريبة الثانية 2500000 فلورين، ولم يقع عبؤها الثقيل على الفقراء، ولو أن كل الطبقات كرهت هذه الضريبة، والمبدأ الذي قامت عليه. ويتضح مدى سخط الرأي العام في بلجيكا على هاتين الضريبتين من الطريقة التي جرى بها الاقتراع عليهما في «الغرفة الثانية» من «مجلس الطبقات العام» في 21 يوليو 1821، عندما تم التصديق عليهما، فقد بلغت الأكثرية 55 صوتا كان من بينها صوتان بلجيكيان فقط، أما الأقلية - أي المعارضة - فقد بلغت 51 صوتا كانت جميعها بلجيكية. فكان تجاهل استياء البلجيكيين الظاهر للضريبتين عملا بعيدا عن كل حكمة سياسية من جانب الحكومة، ومع ذلك فقد بقيت هذه الضرائب حتى ألغيت أخيرا في سنة 1829، ولكن الاقتراع الذي حدث في يوليو 1821 كان قد ساعد على إحداث هوة عميقة فصلت بين الشمال والجنوب بصورة مستديمة. فقد عمد النواب البلجيكيون من ذلك الحين، وبزعامة خطبائهم وخصوصا دوترنج
Dotrenge
وريفان
Reyphins ، إلى معارضة الحكومة «الهولندية» والتذرع بكل وسيلة لتعطيل أعمالها، وقابل النواب الهولنديون هذه المعارضة بالتكتل من ناحيتهم، والوقوف جبهة متحدة (كحزب وزاري) لتأييد كل أعمال الحكومة، واستطاع الملك باستخدام نفوذه وسلطته الأوتقراطية إنقاذ الحكومة كلما تحرج الموقف، وتعادلت أصوات الفريقين، بأن يجذب عددا ضئيلا من النواب البلجيكيين للاقتراع إلى جانب الحكومة، وواضح أن هذا الانقسام الذي كان يتزايد سنة بعد أخرى، قد جعل من المتعذر أن يحدث أي اندماج بين الشمال والجنوب.
وإلى جانب هذا كله لم تقم أية محاولة لتنفيذ المادة 227 من القانون الأساسي، التي كفلت حرية الصحافة، بل على العكس من ذلك فقد طغت إرادة الملك ورغباته الشخصية في هذه المسألة وغيرها، مثل عدم التعرض للقضاء، على كل الحقوق التي نص عليها الدستور، فهو قد استصدر في 20 أبريل 1815 قرارا صارما، كان الغرض منه درء الأخطار التي تهددت الأراضي المنخفضة بسبب فرار نابليون من منفاه في إلبا وعودته إلى الحكم (حكم المائة يوم) في فرنسا، وبمقتضى هذا القرار فرضت عقوبات شديدة - منها فقد الحقوق المدنية، والسجن من سنة إلى ست سنوات، والتغريم من مائة إلى عشرة آلاف فرنك، والكي والتعذيب - على كل من تثبت إدانته بأنه يذيع أخبارا أو معلومات تؤذي الدولة أو تنشر الاضطراب بها، ويجري توقيع هذه العقوبات على يد محكمة يختار الملك أعضاءها «التسعة»، ودون أن يكون هناك محلفون، وقد يكون هناك ما يدعو لمثل هذا الإجراء أثناء الأزمة، ولكن بانتهاء أخطار الغزو النابليوني، ووضع القانون الأساسي كان يجب تنفيذ الدستور، ومع ذلك فقد حوكم (في سنة 1817) بناء على قرار 20 أبريل 1815، أحد رجال الدين أبيه دي فير
Abbé de Foere
بدعوى أنه نشر عددا من المقالات في صحيفة بلجيكية سبكتاتور بيلج
Spectateur Belge
يؤيد فيها أسقف غنت، فصدر الحكم بحبسه سنتين، وحكم على الطابع بغرامة فادحة، وفي 18 فبراير 1818 صدر قانون بناء على اقتراح الحكومة، نال بفضله قرار 20 أبريل 1815 «المؤقت» تصديق مجلس الطبقات (البرلمان) فأصبح «مستديما»، وبذلك كممت أفواه الصحافة؛ لأن الحكومة صارت تحرص على تنفيذ «القانون» بكل شدة، وغضب الشعب عندما حوكم في سنة 1819، أحد الكتاب فان درستراتن
Van Der Straeten
وغرم ثلاثة آلاف فرنك؛ لأنه نشر كتابا يحوي مطاعن على الحكومة، واكتتب الشعب في دفع هذه الغرامة، ومع أن الحكومة نجحت في إغلاق عدد من الصحف المعارضة، وتوقيع العقوبة على نفر من الناشرين والكتاب، إلا أن المعارضة ضد «الحكومة الهولندية» استمرت عنيفة، وانبرى كثيرون من الكتاب لتوجيه الانتقادات المرة ضدها، ولقيت دائما كتاباتهم بين البلجيكيين رواجا لتعبيرها عن شعور التذمر والسخط المنتشر بينهم.
ولقد كان من أثر النفور المتزايد بين الشمال (هولندة) والجنوب (بلجيكا)، أن اتحد في الجنوب في سنة 1828 البلجيكيون الكاثوليك، والأحرار، وكانا حزبين متنافرين، لم تلبث أن جمعت بينهما المطالبة المشتركة لإزالة المساوئ مصدر الشكوى، والدفاع عن الحريات المدنية والدينية. فمع أن أهل البلجيك كلهم كاثوليك، فقد ظلوا طوال مدة «الاتحاد» مع هولندة منقسمين إلى مجاعتين أو حزبين لا سبيل إلى التوفيق بينهما، هما حزب متطرفي الكاثوليك أو الكنسيين
Clericals
وحزب الأحرار الذين اعتنقوا المبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية، ولقد اتحد الحزبان دائما داخل مجلس الطبقات (البرلمان) في تأييد المصالح البلجيكية ضد السيطرة الهولندية، ولكنهما كانت تفرقهما العداوة المتبادلة وعوامل الحسد، وفي وسع الملك إذا اتبع سياسة حكيمة أن يجذب إليه جماعة الأحرار لتأييده في نضاله ضد تعصب «الكنسيين» وتطرفهم، ولكن وليم الأول آثر أن يمضي في طريقه، ويتخذ ما يشاء من إجراءات تعسفية لتنفيذ «سياسته» دون اكتراث بشعور رعاياه البلجيكيين، سواء من الكنسيين أو من الأحرار، إلى أن تألف في سنة 1828 اتحاد
Union
يجمع بين الفريقين على أساس تنسيق جهود الحزبين في الدفاع عن حرية العبادة (العقيدة) والتعليم والصحافة.
المعارضة في بلجيكا
بدأ يشتد القلق ويقوى التذمر في بلجيكا في أواخر سنة 1828 بدرجة تنبئ بتأزم الأمور، وتعرض «الاتحاد» أي المملكة الناشئة للخطر، واتخذ هذا القلق والتذمر شكل إهاجة الخواطر ضد الحكومة، على أساس المطالبة بالإصلاح وإزالة أسباب الشكوى ، وأرسلت المجالس الإقليمية في هينولت، ولييج، ونامور عرائض تطلب فيها إلغاء ضريبتي القمح المطحون والحيوان المذبوح، ولما لم تلق هذه العرائض قبولا حسنا بدعوى أن مسألة الضرائب ليست مسألة إقليمية، وإنما يخص الأمة بأكملها، استبدلت بهذه العرائض الإقليمية عرائض عامة يشترك في تقديمها أهل البلاد من كل الطبقات؛ من نبلاء وكنسيين وتجار ومحامين وصناع (في المدن) وفلاحين (في الريف)، فتسلمت «الغرفة الثانية» عرائض عديدة كان من بينها عريضة بلغ عدد الموقعين عليها سبعين ألفا.
وأثارت هذه العرائض ثائرة الحكومة، بدلا من استمالتها إلى إلغاء الضرائب المشكو منها أو إزالة أسباب التذمر، وعمد الملك إلى الطواف في البلاد البلجيكية، فزار موكبه الملكي خلال شهري مايو ويونيو 1829 عددا من المدن، ولما كان لا يزال يكن له الشعب احتراما كبيرا فقد قوبل بالترحيب في كل مكان، الأمر الذي جعله ينخدع بهذه المظاهر الشعبية ويعتقد أن بوسعه إخماد المعارضة، فألقى خطابا في لييج أشار فيه إلى ما سماه «بالشكايات المزعومة» التي تضمنتها العرائض، ووصف مسلك المنظمين لهذه العرائض بأنه مسلك مدموغ بالعار والفضيحة، وكان انزلاق الملك في حملته على أصحاب العرائض عملا بعيدا عن الحكمة، ويدل على قصر النظر، وكان لعباراته هذه التي ذكرناها وقع أليم في النفوس. ولقد عبر أهل فلندرا عن مشاعرهم باستعادة ذكرى حادث «الشحاذين» - وهو الوصف الذي أطلقه الإسبان على الثوار في الأراضي المنخفضة ضد حكمهم في سنة 1566 - فهزئوا من هذا الوصف الذي وصف به الملك مسلكهم، وأنشئوا على سبيل السخرية بالحكومة «فريق العار والفضيحة»، وصنعوا له وساما منقوشا عليه شعارهم «خلصاء وأوفياء لدرجة العار والفضيحة».
ولم يقتصر الأمر على تقديم العرائض، بل صحب هذه الحركة معارضة نشيطة من جانب النواب البلجيكيين في «الغرفة الثانية» من جهة، وحملة عنيفة من النقد ومهاجمة أعمال الحكومة في الصحف من جهة ثانية. فقد تقدم أحد النواب البلجيكيين دي بروكير
de Brouckére
باقتراح (في 3 ديسمبر 1829) لإلغاء قرار 20 أبريل 1815، فرفضه النواب الهولنديون بالإجماع وانحاز إليهم سبعة من البلجيكيين. وفي 11 ديسمبر تلقى مجلس الطبقات (البرلمان) رسالة ملكية كان لها دوي غير قليل، إذ وصفت المعارضة ضد الحكومة في بلجيكا بأنها من صنع حفنة من المهيجين السياسيين، وأعلنت عزم الحكومة على استصدار قانون بدلا من قرار 1815، يكبح جماح الصحافة المتطرفة. وفي حين أن هذه الرسالة تضمنت وعدا بالاستجابة لبعض المطالب الخاصة باللغة والتعليم والضرائب، فقد رفضت إقامة وزارة مسئولة ، وتأكد بصورة قاطعة مبدأ الملكية المطلقة، وفي 12 ديسمبر أصدر وزير العدل فان مانين
Van Maanen
منشورا يطلب فيه من جميع الموظفين المدنيين إعلان موافقتهم التامة، خلال أربع وعشرين ساعة على كل المبادئ التي جاءت في الرسالة الملكية، أو يتركوا وظائفهم، ومن هذه اللحظة أصبح «فان مانين» موضع حملة استهجان عظيم من جانب كل الكتاب والناشرين في بلجيكا.
ولم تلبث أن ظهرت آثار موقف الملك، وعلى نحو ما كان متوقعا، عندما عرضت الميزانية على النواب في دورها العشري - وقد عرفنا أنها تعرض بموجب الدستور مرة كل عشر سنوات على الغرفة الثانية - في آخر ديسمبر من السنة نفسها، فتعالت صيحة النواب البلجيكيين بمبدئهم الذي تمسكوا به الآن: «لا مال حتى يسبقه إزالة المظالم.» فرفض قسم الميزانية الخاص بالإيرادات بأكثرية 55 صوتا ضد 52، ولو أن المجلس وافق على قسمها الخاص بالنفقات بأكثرية 61 صوتا ضد 46 صوتا، واضطرت الحكومة لتقديم ميزانية جديدة للإيرادات، ولمدة سنة واحدة بدلا من عشر سنوات، وبعد أن حذفت ضريبة القمح المطحون المكروهة، وعندئذ صودق على هذه الميزانية بالإجماع.
وغضب الملك من موقف المعارضة وفشل الحكومة غير المرتقب، وجعله الغضب يتخذ إجراء غير حكيم؛ هو أنه استصدر مرسوما ملكيا في 8 يناير 1830 يحرم به ستة من النواب الذين اقترعوا مع الأكثرية من وظائفهم ومرتباتهم. وكان الغضب قد بدأ يستبد بالملك لدرجة خطيرة، من جراء الحملات المستمرة العنيفة في الصحف البلجيكية ضد سياسة الحكومة، والتي كان غرض هذه الصحف منها؛ إهاجة الخواطر واستفزاز الشعور العام ضد الحكومة.
ولقد بلغ من عنف هذه الحملة الصحفية، وحدة العبارات التي «نقدت» بها أعمال الحكومة، أن صار متعذرا على الملك وحكومته السكوت عليها أو عدم إعارتها الاهتمام اللازم، وكان أكثر الذين يقودون هذه الحملة الصحفية العنيفة من المحامين الشبان، وفي مقدمة هؤلاء؛ لويس دي بوتر
وكان يحرر في جريدة لوبيلج
Le Belge ، وكان له زميل من المحامين الأحرار، وصاحب شهرة هو جاند بيان
Gendebien
وقد اشترك «دي بوتر» كذلك مع آخرين، منهم فان دي وير
Weyer
في تحرير جريدة كورييه دي باييه با
Courrier Des Pays-Bas ، ثم بارتيل
Barthels ، وكان يحرر في جريدة لوكاثوليك
Le Catholique ، وهذه الصحف تصدر في غنت. أما في لييج فكان لوبو
Lebeau
وروجيه
Rogier
يحرران صحيفةلوبولتيك
Le Politique .
ولعل أكبر هؤلاء أثرا وأعظمهم نشاطا كان «لويس دي بوتر»، فقد نشر في سنة 1829 مقالا في «كورييه دي باييه با» يحمل فيه على «المستوزرين»، ويحط من قدرهم، ويحذر قراءه من أخطارهم، فحوكم وسجن ثمانية عشر شهرا، كما دفع غرامة مالية كبيرة (1000 فلورين) ولكن هذا الحكم القاسي لم يسكته، بل استمر يكتب في سجنه الكراسات الصغيرة والرسالات يملؤها مطاعن على الحكومة، واعتبره مواطنوه «شهيدا»، وقرءوا كل ما دبجه يراعه بنهم وحماس شديدين، وزاد هياج الخواطر بسبب هذا كله حدة على حدته. على أن أشد خطاب وجه للملك أو الحكومة من صنعه كان ذلك الذي نشره «لويس دي بوتر» ردا «على الرسالة الملكية السالفة الذكر في 11 ديسمبر 1829 لمجلس الطبقات». فقد كتب «دي بوتر» مخاطبا الملك:
كلا يا مولاي! أنت لست سيد البلجيكيين كما يريدك الناس أن تعتقد ذلك، وإنما أنت الأول فقط بينهم، وأنت لست سيد الدولة، وإنما أنت تتخذ مكانك على رأسها بوصفك أعلى موظفيها درجة ورتبة.
وفي ذلك تحد صريح للملك ونقض للمبدأ الذي جاء في رسالته الملكية، مبدأ الملكية المطلقة، حينما قال:
ولم يكن من رغبتنا بتاتا ممارسة حقوقنا (في الحكم) بصورة لا حدود لها، بل لقد حرصنا دائما وعن إرادة صادرة منا أنفسنا على أن نحد من سلطة هذه الحقوق (المطلقة) عند ممارستها.
وفي 31 يناير 1830، نشرت سبع عشرة صحيفة معا وفي وقت واحد مشروعا بدأه «دي بوتر» بجمع تبرعات من الأمة البلجيكية لتعويض النواب الستة الذين حرموا من وظائفهم ومرتباتهم لاقتراعهم ضد الميزانية، وعثرت الحكومة على الرسائل المتبادلة بين «دي بوتر» وأحد أصدقائه تيليمان
Thielemans ، حين كان يعمل رئيس تحرير لجريدة «لوبيلج» و«لوكورييه دي باييه-با»، واعتبرت ما جاء في هذه الرسائل طعنا عليها، فقدمت الاثنين إلى المحاكمة، كما قدمت «بارتيل» رئيس تحرير «لوكاثوليك»، وطابع هذه الجريدة دي نيف
Nève
إلى المحاكمة، وحكم على الأربعة بالنفي؛ دي بوتر لمدة ثماني سنوات، وتيليمان وبارتيل لسبع سنوات، ودي نيف لخمس.
ثم أرادت الحكومة أن تكون لها صحيفة تنطق بلسانها، وتذود عن سياستها ضد هذه الحملة الصحفية العنيفة، فأصدرت في بروكسل صحيفة دعتها لوناشونال
National ، وعينت لرياسة تحريرها ليبري باينانو
Libri-Bagnano ، وكان اختيارا جانبه التوفيق؛ لأن «ليبري باينانو» مع مهارته ككاتب ومحدث ومجادل، لكنه كان من أصل إيطالي، وسبق أن حكم عليه بالأشغال الشاقة مرتين في فرنسا لارتكابه جريمة التزوير. أضف إلى هذا أن رئاسة تحريره للصحيفة سرعان ما جعلت من «لوناشونال» أداة لزيادة النار اشتعالا، عندما أخذ يعلن على صفحات «لوناشونال» «أن البلجيكيين يجب أن تكمم أفواههم كما تكمم الكلاب.» واعتبر البلجيكيون أن «ليبري باينانو» إنما يعبر في صحيفته عن رأي وزير العدل «فان مانين»، وثارت ثائرة هؤلاء عندما تبين كذلك أن «ليبري باينانو» قد نال من الحكومة ثمنا لخدماته مبلغ 85000 فلورين، أخذت من أموال عامة مخصصة للصناعة.
الثورة
وهكذا انقضت الشهور الستة الأولى من عام 1830، وشعور الشماليين (هولندة) والجنوبيين (بلجيكا) بأن محاولة إدماج الشعبين في مملكة واحدة قد أخفقت، لا يفتأ يتزايد، وأن أحدا صار لا يريد في الحقيقة أن يتم هذا الاندماج، ومع ذلك فمما يجدر ذكره أن أحدا في هذه المرحلة حتى من أشد المناوئين للهولنديين في بلجيكا لم يكن يفكر إطلاقا في فصم عرا هذا الاتحاد. فشعور الولاء نحو الأسرة المالكة كان لا يزال قويا. فقد قطع البلجيكيون شوطا كبيرا في التقدم الصناعي، وانتعشت تجارتهم تحت رعاية الملك وليم الأول الشخصية، وعظم ولاء الطبقات المشتغلة في التجارة والصناعة، ومن الحرفيين، لآل أورانج في بعض المدن الكبيرة، خصوصا أنتورب (أنفرس) وغنت. ولقد كان الهولنديون يحسدون البلجيكيين على الفوائد والمغانم التي جناها هؤلاء من انتعاش صناعتهم وتجارتهم، وانتشار الرخاء في الولايات الجنوبية، ونقموا على نظام الضرائب التي فرضت لحماية الصناعة، رعاية لصالح البلجيكيين، وهم من الصناع، في حين أن هذه الضرائب الجمركية كانت تعطل نشاط الهولنديين الذين اعتمدوا على تجارة النقل مع مستعمراتهم عبر البحار. ونظر أهل أمستردام وروتردام بعين الحسد للنمو والانتعاش الذي أدركته أنتورب، وعلى ذلك فقد كان متيسرا اجتياز الأزمة، واسترضاء البلجيكيين إلى بقاء الاتحاد، لو أن مطالبهم قوبلت بشيء من التسامح، وأزيلت المظالم التي شكوا منها، فإن البلجيكيين لم يكونوا قطعا يريدون - كما ذكرنا - فصم علاقاتهم مع الهولنديين في هذه المرحلة، بل إن كل الذي أرادوه أن تكون لهم إدارة منفصلة عن إدارة هولندة تحت تاج واحد؛ أي التمتع باستقلال إداري داخلي وحسب، فهم كانوا يعترفون بما أفادته البلاد من التقدم المادي الذي حصل في عهد وليم الأول، كما كانوا يعرفون عنه هو نفسه اهتمامه بتشجيع العلوم والفنون، وإنشاء المكتبات، وكانت أسرة أورانج على وجه العموم موضع محبة وتقدير طبقة البورجوازي الأحرار، الذين وإن كانت لهم مطالب من أجل إزالة المظالم التي اشتكوا منها، فقد كانوا في الوقت نفسه يشعرون بالولاء الصادق للأسرة المالكة.
وعلى كل حال فقد بدأ من جانب وليم الأول في ربيع 1830، ما يدل على أنه قد بدأ يميل للتسامح والاستجابة - على الأقل - لقدر من المطالب التي ينادي البلجيكيون، وذلك عندما أصدر مراسيم ملكية في 27 مايو و4 يونيو (1830) لتعديل القواعد الخاصة بالتعليم العام واستخدام اللغة الهولندية، في صالح البلجيكيين، إلا أنه سرعان ما ضاع أثر هذا الإجراء الذي جاء كذلك متأخرا، عندما أصدر الملك قرارا في 21 يونيو يجعل مركز محكمة الاستئناف العليا في لاهاي. أضف إلى هذا أن استبقاء «فان مانين» في وزارة العدل، و«ليبري باينانو» في رئاسة تحرير «لوناشونال» نهض دليلا على أن الملك لم يكن ينوي حقيقة الاستجابة لضغط الرأي العام في بلجيكا.
ولكن تلك كانت أوقاتا عصيبة، فالثورة لم تلبث أن اندلعت في باريس يوم 28 يوليو 1830، وأطاحت بعرش البربون في فرنسا ، واهتاجت الخواطر في بروكسل، ولكن ثورة ما لم تقم في بروكسل أو في غيرها من المدن البلجيكية، والسبب في هذا أن «الكنسيين» في بلجيكا لم يعطفوا على ثورة باريس التي قامت ضد شارل العاشر، وهو ملك كنسي (أو إكليريكي)، وعلى ذلك لم يترتب على هياج الخواطر في بروكسل قيام أية مظاهرات ثورية بها، بل بقيت العاصمة البلجيكية تحتفل احتفالا يشبه الأعياد بمعرض للصناعات الوطنية، كان مقاما بها وقتئذ، وزار الملك والأمراء المعرض زيارة سريعة، ولم يعكر شيء صفو هذه الزيارة، وكان في النية اختتام هذه الاحتفالات بعرض للألعاب النارية يوم 23 أغسطس، يليه في اليوم التالي (24 أغسطس) إيقاد الزينات احتفاء بعيد ميلاد الملك (التاسع والخمسين).
ومع ذلك فقد كان هناك من الدلائل ما يشير إلى اقتراب العاصفة، فقد وجدت المنشورات مبعثرة في كل مكان تحمل هذه العبارات: «يوم 23 أغسطس عرض الألعاب النارية، يوم 24 أغسطس عيد ميلاد الملك، يوم 25 أغسطس الثورة»، وخطت على الجدران عبارات مليئة بالمطاعن على الهولنديين وعلى «فان مانين» و«ليبري باينانو»، ولم يكن حاكم الولاية (أو المقاطعة) المدني، البارون فان درفوس
Van Der Fosse ، ولا الموظفون المحليون يجهلون أن هناك مهيجين ينشطون بين الأهلين لحضهم على الثورة، ولكن أحدا لم يتخذ أية إجراءات للمحافظة على الهدوء والسلام؛ فالملك بالرغم من التحذيرات العديدة التي بلغته لم يجد ضروريا فعل شيء لتعزيز جانب الحكومة بالبقاء في بروكسل، فبقي (يستريح) في قصره في لو
Loo ، ثم رفض طلب حاكم برابانت (الولاية) العسكري الجنرال بيلاندت
Bylandt ، الذي أراد تعزيز قواته العسكرية، والتي لم تكن تزيد على (1800) من المشاة، و(260) من الفرسان، وست قطع مدفعية.
وبدت السلطات المسئولة بالمدينة ضعيفة عندما قررت في آخر وقت إلغاء الألعاب النارية والزينات بدعوى رداءة الجو، الأمر الذي زاد من هياج الخواطر، لاسيما وأن السماء كانت صافية. ثم دل على ضعف هذه السلطات وترددها أنها - وكانت قد منعت قبلا تمثيلية معينة، لم تلبث أن عادت الآن تأذن بعرضها على مسرح لامونيه
De Lamonnaie
مساء 25 أغسطس 1830، وهو مسرح كان شيده الملك وليم الأول نفسه؛ أما هذه المسرحية فكانت غنائية من نوع الأوبرا، عنوانها: خرساء بورتيشي
La Muette de Portici - وبورتيشي إحدى مدن نابولي - تتناول حوادث الثورة التي قامت في نابولي بزعامة مسانيللو
Masaniello
ضد الحكم الإسباني في سنة 1647.
وفي الموعد المحدد ازدحم المسرح بالنظارة الذين ألهب حماسهم موضوع المسرحية الثوري؛ فتعالت الصيحات بحياة فرنسا وسقوط هولندة، ثم امتد الحماس إلى خارج المسرح، حيث كانت الشوارع مكتظة بالناس الذين احتشدوا بها بمناسبة الاحتفالات، فحصلت مظاهرات صاخبة والتحامات دموية، وكانت بروكسل في هذا الحين مأوى اللاجئين السياسيين من كل مكان في أوروبا، ولم يكن يرحب أحد بالثورة قدر ترحيب هؤلاء بها، وعلى ذلك فقد انقلب الصخب إلى ثورة عارمة، فاقتحم الثوار مكاتب جريدة «لوناشونال» وأحرقوها، وأحرقوا كذلك مسكن «فان مانين»، وهوجمت دور الحاكم الإقليمي ومدير البوليس وعديدين من الموظفين، وكثرت حوادث النهب والتخريب طوال الليل دون أن تفعل السلطات شيئا لوقفها؛ بل أبدى كل من الحاكم العسكري الجنرال «بيلاندت»، وقومندان البوليس الجنرال ووزييه
Wauthiers
تخاذلا، لا سبب ظاهرا له، فقد كان لديهما من القوات والذخيرة ما يكفي لمطاردة الثوار وإخلاء الشوارع منهم، لو أنهما أظهرا شيئا من صدق العزيمة والإرادة القوية، وهكذا انتصرت الثورة في يومها الأول. أما في اليوم الثاني (26 أغسطس) فقد اتخذت الثورة صبغة وطنية قومية، فرفعت راية «برابانت» على مبنى البلدية، ومزق العلم الملكي؛ ولما كان البوليس قد عجز عن إعادة الأمن إلى نصابه، فقد اجتمع المسئولون بالبلدية مع الأعيان والتجار، لاتخاذ الإجراءات الكفيلة بالمحافظة على الأمن العام، فنظموا حرسا أهليا استطاع أن يعيد الأمن والهدوء بعد مصادمات دموية، وفي 28 أغسطس اجتمع مجلس من الأعيان في مبنى البلدية، حيث تقرر تأليف وفد من خمسة - كان من بينهم «جاندبيان»، وفيلكس كونت دي ميرود
Félik de Mérode ، يحمل إلى الملك التماسا يرجونه فيه أن يأخذ بعين الاعتبار أسباب شكاواهم العادلة من المظالم التي أثقلتهم، والتي أدت إلى حدوث الأزمة الراهنة، ويرجونه دعوة مجلس الطبقات (البرلمان) إلى الانعقاد.
وتردد الملك في اختيار الطريق الذي وجب عليه أن يسلكه، وكان يمنعه كبرياؤه من طرد «فان مانين» نزولا على إرادة الثوار، ومن الاستجابة لشيء من مطالب هؤلاء، وبالرغم من أن ولي عهده أمير أورانج، كان لا يفتر يلح عليه بوجوب اتباع طريق المسالمة، فقد كان كل ما وافق عليه الملك أن يأذن لولي عهده بزيارة بروكسل، ولكن دون أن يكون مزودا بالسلطات الكاملة لاتخاذ ما قد يراه من إجراءات ضرورية للتهدئة، بل أن يذهب في بعثة فحص وتحقيق فحسب، واصطحب ولي العهد معه في هذه «الزيارة» شقيقه الأصغر الأمير فردريك، فوصل الاثنان أنتورب في 29 أغسطس، ثم فيلفورد
Vilvorde
يوم 31 أغسطس، وكانت تعسكر بهذه الأخيرة قوات كثيرة، تسلم قيادتها الآن الأمير فردريك. أما ولي العهد فبعد أن استقبل وفدا من بروكسل، وافق على الذهاب إلى العاصمة من غير قوات عسكرية، ولا يصحبه غير مرافقيه الخصوصيين فقط، فدخل بروكسل يوم أول سبتمبر، واخترق شوارعها وسط صفوف متراصة من الحرس الأهلي، وحشود من الأهلين المعادين له، والذين لم يهتف منهم أحد للترحيب به، بل كانت تعلو صيحاتهم من وقت لآخر بالمناداة بسقوط فان مانين وسقوط الهولنديين.
ولم يفلح ولي العهد في «مهمته» بعد أن أمضى أياما ثلاثة (1-3 سبتمبر) في مباحثات مع «الثوار» في بروكسل. لقد كان ولي العهد نفسه شخصية محبوبة في العاصمة البلجيكية، ولم تكن حتى هذا الوقت قد قامت حركة ظاهرة من أجل تغيير الأسرة الحاكمة، ولكن ولي العهد لم يكن في وسعه إلا أن يعد بعرض رغبات البلجيكيين على الملك، ثم إنه أمر القوات العسكرية الملكية بمغادرة المدينة، وقد كان الغرض من هذا الجلاء إظهار روح المسالمة من جانب الحكومة، ولكن البلجيكيين الذين انتقل إلى أيديهم زمام السلطة لأول مرة في بروكسل، نظروا لهذا الإجراء كدليل على ضعف الحكومة التي عجزت عن مقاومة الثورة ضد سلطات الملك.
ومع أن الملك نفسه لم يلبث أن استجاب إلى بعض المطالب التي كانت قد قدمت إليه في التماس الأعيان البلجيكيين من أيام قلائل مضت، فأقال «فان مانين» من الوزارة يوم 3 سبتمبر، ودعا مجلس الطبقات للانعقاد في دورة غير عادية حدد لها يوم 13 سبتمبر، فقد جاءت هذه الخطوة متأخرة؛ وذلك لأن جماعة من المتطرفين من أهل لييج، حوالي أربعمائة ثوري في عدادهم كثيرون من الأقاليم ومن الأجانب، وبزعامة شارل روجيه
Rogier ، كانوا قد دخلوا بروكسل عاقدي العزم على السير في طريق الثورة إلى النهاية. فلما نشر قرار الملك (بدعوة مجلس الطبقات) يوم 7 سبتمبر، مزقته الجماهير ، ووقع الاصطدام بين الحزبين؛ المعتدل والمتطرف، داخل المدينة، واستمر النضال بضعة أيام، عندما ألف المعتدلون «لجنة للأمن العام»، عارضها المتطرفون الثوريون الذين استولوا على مبنى البلدية (أوتيل دي فيل)، وأنهوا حياة هذه اللجنة (20 سبتمبر).
ولم يتخذ الملك أثناء هذه الحوادث المنذرة بكل الخطر، إجراء حاسما لمجابهة الموقف، وكان في رأي كثيرين أن الملك لو أنه أعلن صراحة عزمه الصحيح على إزالة المظالم التي يشكو منها البلجيكيون، ووعد بإصدار العفو الشامل، لكان استطاع اجتياز الأزمة بسلام، ولكن الملك بدلا من ذلك لم يلبث أن أعلن في خطابه عند اجتماع مجلس الطبقات (البرلمان) في لاهاي، تصميمه القوي على المحافظة على الأمن والنظام، وعدم التسليم بشيء تحت ضغط الشغب والعصيان الحزبي، الأمر الذي زاد من غضب الجماهير ونقمتهم على الملك في بروكسل، حتى إنهم أحرقوا علنا في شوارعها كل النسخ التي وصلت إلى أيديهم من خطابه. أما الملك فقد عرض على «البرلمان» مسألتين لبحثهما: هل دلت التجربة على أن هناك ما يدعو لإدخال تعديل على النقابات الأهلية؟ وهل يجب تغيير العلاقات القائمة بين جزأي المملكة حاليا؟ فكان جواب «الغرفة الثانية» - مجلس النواب - على هذين السؤالين بالإيجاب بأكثرية 50 صوتا ضد 44، و55 صوتا ضد 43، وذلك في 29 سبتمبر.
ولكن بينما كان النواب يتباحثون في لاهاي، كانت حوادث ذات أثر حاسم تقع في بروكسل، فقد سيطر الثوريون المتطرفون على العاصمة البلجيكية، وذلك - كما عرفنا - منذ 20 سبتمبر، وقررت الحكومة الهولندية بمجرد أن بلغها ذلك إرسال التعليمات إلى الأمير فردريك في فيلفورد بالزحف مع جيشه على بروكسل «لحماية الأموال» والأرواح بها، وزحف الأمير بجيشه على المدينة، ودخلها يوم 23 سبتمبر؛ ليلقى مقاومة مسلحة عنيفة كبدت جنده خسائر عظيمة، ولقد استمر الكفاح ثلاثة أيام بطولها ودون توقف، حتى إن فردريك لم يلبث أن ارتد عن المدينة وخرج منسحبا منها في ليل 26 سبتمبر، وكانت هذه هزيمة بالغة، خلفت آثارا عميقة في أذهان الثوار الذين بادروا في اليوم التالي (27 سبتمبر) بتأليف حكومة مؤقتة كان من بين أعضائها: جاندبيان، وروجيه، وفان دي وير، وإمانويل دهوجفورست
D’Hoogvorst ، وفيليكس دي ميرود، ثم لم يلبث أن انضم إليهم بعد أيام قلائل، لويس دي بوتر الذي عاد من المنفى ودخل بروكسل وسط مظاهر الحماس الشديد، وانضم «المعتدلون» بعد هذا النصر إلى «المتطرفين» (أو الأحرار) ليؤلفوا جماعة واحدة غرضها الآن طرد جيوش الملك من بلجيكا، وإرغامها على التقهقر إلى هولندة.
ودخل الأمير فردريك بجيشه إلى أنتورب (أنفرس) يوم 2 أكتوبر، ولكن لم يمض أكثر من أسبوعين حتى كانت كل البلدان الأخرى في بلجيكا قد انحازت إلى تأييد قضية الوطن، واضطرت الحاميات بها بعد انضمام الفرق البلجيكية إلى مواطنيهم، إلى الانسحاب منها. وفي يوم 4 أكتوبر أعلنت الحكومة المؤقتة في بروكسل، أن الولايات البلجيكية قد تأسست دولة مستقلة، ثم وجهت الدعوة لانعقاد مؤتمر وطني.
واجتمع المؤتمر الوطني في بروكسل يوم 10 نوفمبر، وكان عدد أعضائه مائتين، انتخبهم المواطنون البلجيكيون الذين فوق سن الخامسة والعشرين. وفي 18 نوفمبر أعلن هذا المؤتمر بالإجماع استقلال بلجيكا، ولقد اختلفت الآراء حول نوع الحكم في الدولة الجديدة، ولكن الأكثرية كانت للملكيين في المؤتمر، فتقرر في 22 نوفمبر أن تكون الملكية هي طراز الدولة البلجيكية، ثم تقرر بعد يومين إقصاء بيت أورانج نساو، ومنعه من اعتلاء عرش بلجيكا (24 نوفمبر)، وهكذا اتسم المؤتمر الوطني بطابع الاعتدال، فلم يرض الديمقراطيون المتطرفون (الجمهوريون وعددهم ثلاثة عشر في المجلس) بزعامة «لويس دي بوتر» عن فشل الآراء الجمهورية، وتأسيس النظام الملكي، فاستقال لويس دي بوتر من الحكومة المؤقتة، وغادر الوطن إلى فرنسا مرة أخرى، وانكب المؤتمر على وضع دستور للبلاد استغرق إعداده بضعة شهور، وعند الفراغ منه صدر «القانون الأساسي» الجديد في 7 فبراير 1831، وبمقتضاه وضعت السلطة التنفيذية في يد ملك وراثي، يحكم بطريق وزراء يصدر عنه تعيينهم، وإنما يكونون مسئولين أمام هيئة تشريعية من مجلسين، ثم كفل الدستور استقلال القضاء وحرية الصحافة والعبادة والتعليم والاجتماع، وحق تقديم العرائض - ولقد كان المؤتمر يرغب في الحقيقة في إقامة ملكية دستورية، وذات أنظمة برلمانية، من نمط تلك المعمول بها في إنجلترة.
استقلال بلجيكا
على أنه في الوقت الذي كان المؤتمر الوطني منشغلا فيه باتخاذ الإجراءات لإعلان استقلال بلجيكا وإنشاء الدولة الجديدة، انتقلت المسألة البلجيكية من مسألة داخلية «محلية» بين الهولنديين والبلجيكيين، إلى بساط البحث الدولي كمسألة «أوروبية» تثير اهتمام الدول، ومن واجب «الاتحاد الأوروبي» أن يعنى بها، والسبب في ذلك أن الاتحاد بين هولندة وبلجيكا كان من الموضوعات التي عالجها السياسيون في مؤتمر فينا، وكان وجود مملكة الأراضي المنخفضة نفسه نتيجة لاتفاق كلمة الدول: النمسا، وبريطانيا، وبروسيا، وروسيا في سنة 1814، على إقامة دولة حاجزة تقف في وجه الأطماع الفرنسية؛ والدول لذلك من حقها النظر في كل ما يطرأ على هذا الترتيب الإقليمي من تغييرات قد تؤدي إلى زوال الغرض الذي كان في الأصل مرجوا منه، وتلك حقيقة لم يفت الملك وليم الأول إدراكها، فهو منذ 5 أكتوبر 1830 كان قد أبلغ الدولة الموقعة على بروتوكول المواد الثماني في لندن، بحقيقة الحال في الولايات البلجيكية، وطلب إلى الدول معاونته بقواتها المسلحة في إعادة النظام والهدوء إليها.
ولكن الموقف في أوروبا في سنة 1830 كان مغايرا لما كان عليه في سنة 1814، فإن وليم الأول كان يريد استرجاع سلطانه المفقود في بلجيكا عن طريق تدخل مسلح من جانب الدول، وأن يستند في حكومة «مملكة الأراضي المنخفضة» بعد إعادة «الاتحاد» بالقهر والقوة، على ما هو بمثابة الانتداب من دول أوروبا، ولكن التدخل الأوروبي لم يحقق شيئا مما كان يريده الملك الهولندي؛ بل إن الاتحاد الأوروبي، بتناوله المسألة البلجيكية، لم يلبث أن اتخذ من القرارات ما كفل في النهاية نجاح الثورة، واعترف لبلجيكا باستقلالها.
فقد شاهدنا عند الكلام عن عهد المؤتمرات في أوروبا كيف أن إنجلترة وفرنسا قد وصلتا إلى تفاهم بشأن العمل المتحد فيما بينهما لتأمين السلام في أوروبا، ولقد كانت فرنسا تبدي عطفا ظاهرا على قضية البلجيكيين، ولكن سرعان ما امتنع لويس فيليب عن التدخل منفردا في المسألة البلجيكية بالرغم من إلحاح البلجيكيين عليه أن يفعل؛ بل إنه طلب من سفيره في لندن (تاليران) أن يعمل بالاتحاد مع الحكومة الإنجليزية في هذه المسألة، وكانت إنجلترة كذلك تعطف على قضية البلجيكيين، ولكن بشريطة أن لا يترتب على هذا العطف إهمال الحيطة والحذر من ناحية التوسع الفرنسي، فكان من رأي الحكومة الإنجليزية «وزارة ولنجتون» أن تحل المسألة البلجيكية على أساس إعطاء بلجيكا «حريات دستورية» ما دام ترتيب ذلك ممكنا (بشكل قانوني ومتفق مع مصالح أوروبا)، وحينئذ تقدمت الدولتان إنجلترة وفرنسا باقتراح باجتماع ممثلي الدول الخمس التي تألف منها الاتحاد الأوروبي منذ انضمام فرنسا إلى النمسا وبروسيا وروسيا وبريطانيا، في مؤتمر ينعقد في لندن لبحث المسألة البلجيكية الهولندية، وكانت روسيا (وقيصرها نيقولا الأول) تريد التدخل المسلح، وخشيت النمسا (ووزيرها مترنخ) - كما خشيت روسيا - شيطان الثورة، ولكن مترنخ والقيصر كانا يشعران كذلك بجسامة الأخطاء المتوقعة من حرب أوروبية عامة قد يتسبب التدخل المسلح في إشعالها، فتنازلت روسيا عن فكرة التدخل المسلح أمام تصميم الدولتين الغربيتين (فرنسا وإنجلترة) على حسم الخلاف بالطرق السلمية، وزيادة على ذلك فإن روسيا والنمسا لم تلبث أن شغلتهما (منذ آخر نوفمبر) الثورة المندلعة في بولندة عن كل رغبة في تدخل مسلح في أي مكان آخر (الأراضي المنخفضة)، وكانت بروسيا مستعدة كذلك لمؤازرة وليم الأول بقوة السلاح، لما كان هناك من وشائج قوية تربط بين الملك الهولندي والبيت المالك في بروسيا، ولكنها لم تستطع فعل شيء أمام تصميم إنجلترة وفرنسا الذي أشرنا إليه.
وعلى ذلك فقد انعقد مؤتمر من ممثلي الدول الخمس التي ذكرناها في لندن يوم 4 نوفمبر، ووافق هؤلاء على اقتراح بعدم التدخل «المسلح» تقدم به تاليران، وقرر المؤتمر بعد توسطه بنجاح بين هولندة وبلجيكا، عقد هدنة بين الطرفين، من شرائطها انسحاب العسكر الهولندي إلى ما وراء الحدود البلجيكية الهولندية، وذلك ريثما يتم البت في مصير العلاقات بين بلجيكا وهولندة.
ولقد كان بعد مضي أقل من أسبوع من صدور قرار بالهدنة أن اجتمع في بروكسل المؤتمر الوطني، الذي ذكرنا أنه أعلن استقلال بلجيكا في 18 نوفمبر، ثم قرر الملكية نظاما للدولة الجديدة في 24 نوفمبر، ولا جدال في أن من الأسباب الرئيسية كذلك للإقلاع عن فكرة «التدخل المسلح» في المسألة البلجيكية نهائيا، كان إعلان النظام الملكي في بلجيكا، الأمر الذي جعل الدول تطمئن إلى أن الآراء الجمهورية قد باء أصحابها بالفشل في هذه الدولة التي يراد الاعتراف بمولدها.
وعلى ذلك؛ فقد قرر مؤتمر لندن في بروتوكول بتاريخ 20 ديسمبر 1830، الموافقة على مبدأ استقلال بلجيكا وانحلال مملكة الأراضي المنخفضة وانتهائها، لاستحالة«الاتحاد» بين بلجيكا وهولندة، ثم طلب إلى الحكومة البلجيكية المؤقتة أن ترسل مندوبيها إلى لندن حتى يمكن تسوية المسألة البلجيكية في نطاق المعاهدات الأوروبية. فكان بروتوكول 20 ديسمبر 1830 بمثابة اعتراف من جانب أوروبا باستقلال بلجيكا، وصار ممكنا القول بأنه قد تأسست نهائيا بفضل هذا البروتوكول مملكة بلجيكا المستقلة.
ولقد تبع هذه الخطوة المبدئية الاتفاق على بروتوكولين آخرين في 20، 27 يناير 1831؛ فاشتمل الأول (بتاريخ 20 يناير) على الشروط التي بمقتضاها يجري فصل بلجيكا من هولندة، فأعيد لهولندة خط الحدود الذي كان لها في سنة 1790، في حين تأسست من بقية الأراضي المنخفضة - فيما عدا غراندوقية لكسمبرج التي أعطيت لبيت نساو الحاكم في هولندة - دولة بلجيكا الحديثة، والتي ضمنت الدول في هذا البروتوكول كذلك حيادها بصورة مستديمة أو أبدية. أما البروتوكول الثاني (بتاريخ 27 يناير) فقد سويت بفضله مشكلة الديون المشتركة بين هولندة وبلجيكا بأن تتحمل بلجيكا ستة عشر جزءا من واحد وثلاثين جزءا منه، وأعلن المؤتمر عدم الاعتراف بأي ملك لبلجيكا إلا إذا وافق على ما جاء في هذين البروتوكولين من شرائط، وكان على العموم مقبولا من الدول.
ولم تكن هذه الشرائط التي اقترنت بتقرير استقلال بلجيكا مما يرضى عنها إطلاقا المؤتمر الوطني في بروكسل، فالبلجيكيون كانوا يريدون أن تشمل دولتهم الجديدة غراندوقية لكسمبورج، وإقليم مايسترخت
Maestricht ، ثم فلندر الهولندية، كما أنهم كانوا قد شرعوا يختارون الملك الذي يريدونه لدولتهم دون التشاور مع أحد في ذلك؛ ولذلك فقد قوبل البروتوكولان بامتعاض وغضب، وفي أول فبراير (1831) احتج المؤتمر الوطني على ضم لكسمبورج إلى هولندة، وفي 3 فبراير وقع اختياره على دوق دي نيمور
Nemours
الابن الثاني للويس فيليب ملك فرنسا، ملكا على البلاد، فأعلن البلجيكيون باتخاذ هذا القرار أنهم يؤثرون توثيق صلاتهم بالأسرة الحاكمة في فرنسا، بالرغم مما كان معروفا عن الدبلوماسية الأوروبية وقتئذ أنها لن تسمح بأن يعتلي عرش بلجيكا أحد أعضاء الأسر الحاكمة في أوروبا وعلى الخصوص في فرنسا، وكان اختيار الدوق دي نيمور بعد مباحثة طويلة، وتقليب مختلف وجوه الرأي في المؤتمر الوطني، ومنذ نوفمبر من العام السابق كان الاختيار منحصرا بين اثنين من المرشحين أحدهما؛ أغسطس دوق ليختنبرج
Augestus de Leuchtenberg ، (وتقع هذه على الحدود بين بفاريا وبوهيميا) وكان ابنا ليوجين بوهارنيه، وهو يمثل التقاليد البونابرتية، وأما الآخر؛ فكان لويس دي نيمور من بيت أورليان، والذي يمثل لذلك المبادئ التي قامت عليها «ملكية يوليو» في فرنسا، ولقد كان هناك إلى جانب هذين مرشحون آخرون تميز من بينهم؛ الأرشيدوق شارل النمساوي، ولكن عند الاقتراع (يوم 4 فبراير 1831)، فاز دوق دي نيمور بسبعة وتسعين صوتا، في حين نال دوق ليختنبرج أربعة وسبعين، والأرشيدوق شارل واحدا وعشرين صوتا فقط.
ولقد كانت هذه نتيجة طيبة ولا شك، يرضى بها لويس فيليب، الذي سره انهزام ممثل التقاليد البونابرتية، ولكنه ما كان ليوافق في الوقت نفسه على قبول التاج لولده، فهو إنما كان يتبع في المسألة البلجيكية سياسة تقوم على العمل المتحد مع إنجلترة، ويؤثر أن يسود السلام أوروبا وبالنسبة لفرنسا خصوصا، ومن أجل استقلال ملكية الأورليان، على كل اعتبار آخر؛ وكان لويس فيليب قد حذر لذلك البلجيكيين من قبل أنه لن يستطيع تعريض تفاهمه مع إنجلترة للخطر، وإثارة المشاكل في أوروبا بالموافقة على ترشيح نيمور لعرش بلجيكا، وعلى ذلك فقد أعلن لويس فيليب رفض التاج البلجيكي، ولم يكن هناك مفر من أن يعقل الملك الفرنسي ذلك، إلا إذا كان قد صح عزمه على تنصيب ولده على عرش بلجيكا، وإنشاء أسرة حاكمة أورليانية في هذه البلاد بالقوة المسلحة. ذلك أن مؤتمر لندن سرعان ما أظهر (في 7 فبراير) أنه لن يستطيع الاعتراف بالدوق دي نيمور ملكا على بلجيكا.
وجاءت فترة بعد الرفض الفرنسي، سادت فيها الاضطرابات بلجيكا عندما شرع أنصار بيت أورانج (الأسرة الحاكمة البولندية) يحيكون المؤامرات في أنتورب (أنفرس) وغنت وغيرهما من المدن، ومع أن البلجيكيين بادروا بتعيين وصي على العرش في 24 فبراير وهو البارون سيرلت دي شوكيه
Surlet de Chokier ؛ لتعزيز السلطة التنفيذية، وأمكن بفضل ذلك إخماد الاضطرابات وإعادة الأمن والنظام إلى نصابهما، فقد كان واضحا؛ لتأمين استقلال بلجيكا وسلامتها أن يبادر البلجيكيون باختيار ملك بكل سرعة، ترضى عنه الدول، وكان مبعث الخطر العاجل على بلجيكا أن الملك الهولندي وليم الأول لا يفتأ يرقب تطور الحوادث بعين ساهرة، ثم إنه عمد لاستمالة الدول (في مؤتمر لندن) إلى الموافقة على الشرائط التي تضمنها بروتوكولا 20 و27 يناير 1831.
وكان آنئذ أن عرض على بساط البحث بصورة جدية في المؤتمر الوطني ترشيح ليوبولد أمير ساكس كوبرج
Saxe Cobeurg ، وكان يؤيد هذا الترشيح وزير الخارجية في الحكومة البلجيكية الجديدة وهو لوبو
Lebeau ، ولو أن سلفه في هذه الوزارة فان دي وير
Van de Weir
كان أول من اقترح ترشيح هذا الأمير الألماني، وكان الأمير ليوبولد الابن الأصغر لدوق ساكس كوبرج، إرنست الأول
Ernest ، الذي كان قد قبل التاج اليوناني ثم عاد فرفضه، وكان ليوبولد بروتستنتي ويعيش في إنجلترة وينال تأييد الحكومة الإنجليزية، ولما كان البلجيكيون يريدون ملكا كاثوليكي، فقد اتفقت الحكومتان الإنجليزية (وبلمر ستون وزير خارجيتها)، والفرنسية (تاليران وزيرها في لندن) على حل لهذه المشكلة، على أن يتزوج ليوبولد من أميرة فرنسية، وتنشئة أبنائهما على العقيدة الكاثوليكية، ومع ذلك فقد كان هناك مرشح آخر، إلى جانب الأمير ليوبولد، هو الأمير أوتو البافاري الذي صار فيما بعد ملكا على اليونان، فأسرع «لوبو» الآن يجس النبض لمعرفة موقف كل من إنجلترة وفرنسا من ترشيح الأمير ليوبولد، واستطاع إبلاغ الوصي على العرش والمؤتمر الوطني أن هاتين الدولتين لن تعارضا في ترشيح أمير ساكس كوبرج، وحينئذ ذهب وفد من أربعة قومسيريين إلى لندن ليوضح الموقف للأمير ليوبولد، وليعرض عليه التاج مشروطا بتصديق المؤتمر الوطني، كما كانت مهمة الوفد في حالة قبول ليوبولد الترشيح لعرش بلجيكا أن يحصل من مؤتمر لندن على تعديلات للبروتوكولين الصادرين في 20 و27 يناير، لا سيما أنه كان قد صدر بروتوكول آخر في 17 أبريل (1831)، يعلن أن البروتوكولين السابقين أساسيان ولا يمكن إبطالهما.
وبعد مباحثات شاقة نجح الوفد في مهمته المزدوجة؛ ففيما يتعلق بمسألة العرش البلجيكي؛ أعلن المؤتمر الوطني اختيار ليوبولد ملكا على بلجيكا بأكثرية 152 صوتا ضد 43، وذلك يوم 4 يونيو 1831، وفيما يتعلق بالمسألة الثانية؛ أسفرت جهود الملك الجديد والقومسيريين الأربعة عن إبرام مقدمات الصلح بين هولندة وبلجيكا فيما يعرف باسم «المواد الثماني عشرة» في 24 يونيو، للاستعاضة بها عن بروتوكولي 20 و27 يناير. وفي المواد الثماني عشرة هذه؛ ظفر البلجيكيون بأهم مطالبهم عندما تقرر أن يعاد البحث في مسألة الحدود المتعلقة بلكسمبورج ومايسترخت؛ لتكون موضع مفاوضات منفصلة، وأن يكون نصيب بلجيكا من الديون، هو مقدار الدين الذي كان عليها فعلا عند حدوث الاتحاد، وعلى أن تتحمل إلى جانب ذلك جزءا من الديون التي جدت بعد سنة 1815. وفي 26 يونيو وقع مندوبو الدول الخمس في لندن؛ إنجلترة، فرنسا، روسيا، بروسيا، النمسا، على «معاهدة المواد الثماني عشرة»، وقد تضمنت هذه المعاهدة إلى جانب ما تقدم، الاعتراف بحياد بلجيكا «المادة التاسعة». وفي 9 يوليو 1831 بعد مناقشات عاصفة، صدق المؤتمر الوطني في بروكسل على هذه المعاهدة بأكثرية 126 صوتا ضد سبعين صوتا، ولم يكن المؤتمر الوطني يريد الموافقة على مبدأ حياد بلجيكا، ولم يقبله إلا مرغما. أما الملك الجديد فقد وصل إلى مملكته يوم 17 يوليو، وقوبل في كل مكان بحماس شديد، وفي 21 يوليو حلف ليوبولد الأول يمين الولاء للدستور في احتفال رسمي في بروكسل (في القصر الملكي) بحضور الوصي على العرش والوزراء وحشود من الشعب، وسط مظاهر الابتهاج لنجاح الحركة الوطنية.
على أن البلجيكيين وسط هذه الابتهاجات، أغفلوا احتمال أن الملك الهولندي قد يرفض التنازل عن الأراضي التي يريدها البلجيكيون في لكسمبورج ومايسترخت، واعتمد هؤلاء على أنهم - وعلى نحو ما أعلن ليوبولد أنه فاعل - سوف يرغمون هولندة إرغاما وبطريق الحرب إذا لزم الأمر، على التخلي عن لكسمبورج ومايسترخت، ولكن وليم الأول الذي كان واضحا أنه لن يرضى بالتسليم بسهولة، كان قد حشد جيشا قويا على الحدود، ومنذ 12 يونيو أبدى استياءه من أن تتراجع الدول بهذه الصورة عن تصريحها الرسمي (في 17 أبريل سنة 1831) بأن بروتوكولي 20 و27 يناير الذين تضمنا قواعد الصلح بين هولندة وبلجيكا لا يمكن نقضهما وإبطالهما، وأعلن أنه يعتبر عدوا لبلاده أي امرئ يقبل التاج البلجيكي على غير الشروط التي كفلها بروتوكولا 20 و27 يناير.
وحذرت الدول (في 25 يوليو) الملك وليم ضد استئناف العمليات العسكرية والحرب مع بلجيكا، ولكن الملك والشعب الهولندي معا كانا لا يزالان يشعران بالمهانة التي لحقت بهما في نظر أوروبا؛ بسبب نجاح الثورة البلجيكية في سهولة في شهري سبتمبر وأكتوبر من العام السابق (1830)، وقرر الملك متحديا في جرأة تحذير الدول له، إقامة الدليل على أن هولندة في وسعها منفردة ودون أية مساعدة خارجية لها، الذود عن حقوقها وعن سلامة أراضيها، واندفع الشعب الهولندي وراء مليكه يريد الاقتصاص من البلجيكيين على ثورتهم، وتلقينهم درسا قاسيا لن ينسوه أبدا.
وعلى ذلك فقد صدر مرسوم ملكي في 29 يوليو بوضع ولي العهد، أمير أورانج على رأس القوات الهولندية - وقد بلغت هذه 36000 مقاتل و72 مدفعا - وفي 2 أغسطس اجتازت هذه القوات الحدود البلجيكية، ولم يكن البلجيكيون مستعدين تماما لمواجهة هذا الزحف، فلحقت بهم الهزيمة، بالرغم من بسالة الملك ليوبولد الذي اشترك في القتال وعرض نفسه للمخاطرات عدة مرات، فارتد البلجيكيون على «لييج»، وصمد ليوبولد عند لوفان
Louvain
في 12 أغسطس، ولكنه أرغم على إخلائها، وانفتح أمام القوات الهولندية الطريق إلى بروكسل العاصمة، وباتت البلاد بأسرها وبعد عشرة أيام فقط من بدء العمليات العسكرية تحت رحمة الملك الهولندي، وصار واضحا أن حياة الدولة الجديدة ذاتها قد أضحت مهددة بالخطر، لو أن تدخلا سريعا لم يأت لنجدتها من جانب الدول.
وكان ليوبولد قد قرر الاستنجاد بفرنسا، ولو أنه بقي ممتنعا عن تقديم الدعوة لها لنجدته، طالما كان لا يزال لديه الأمل في صد الهجوم الهولندي، ولكن بعد هزيمته في «لوفان» لم يتوان لحظة هو ووزراؤه عن طلب هذه المعونة من فرنسا، ووافقت الدول على ذلك. فدخل جيش فرنسي بقيادة المارشال جيرار
Gerard
بلجيكا، واحتل بروكسل، ولكن الهولنديين وقد نالوا بغيتهم - أي هزيمة البلجيكيين وإذلالهم - لم يكونوا إطلاقا يريدون الدخول في حرب مع فرنسا.
وحينئذ أمكن بفضل وساطة الإنجليز إبرام الهدنة، وحصل الاتفاق على أن يخلي أمير أورانج (ولي العهد) الأراضي البلجيكية، فاجتاز الهولنديون الحدود عائدين هذه المرة إلى بلادهم (في 20 أغسطس)، وأسرع الفرنسيون - بدورهم - بالانسحاب بقواتهم من بلجيكا، واجتمع المؤتمر في لندن ثانية للنظر في المسألة.
وعندما شرع المؤتمر يعمل لوضع حل جديد للمشكلة الهولندية البلجيكية، كان واضحا تماما - وعلى حد قول البلجيكيين أنفسهم - «أن المواد الثماني عشرة قد عفت آثارها في لوفان»، وأن بلجيكا يجب أن تدفع ثمن هزيمتها، وبالفعل فإن مؤتمر لندن لم يلبث أن أصدر في 15 أكتوبر 1831 برتوكول أو معاهدة انفصال جديدة (بين هولندة وبلجيكا) من أربع وعشرين مادة، أعطيت بمقتضاها (مايسترخت) لهولندة، بينما حصلت بلجيكا على الجزء الغربي من لكسمبورج، وذلك في نظير أن تنال هولندة بعض أجزاء ليمبورج
Limburg . ثم إن الديون وزعت بطريقة لم تكن في صالح بلجيكا، وعوقت الملاحة في نهر الشلدت، حيث قد طلب من البلجيكيين أن يدفعوا رسوما لهولندة، وتلك كانت شروطا قاسية ولا ريب، ولكن ليوبولد أدرك أنه لا معدى عن قبولها لإنقاذ حياة الدولة الجديدة ذاتها.
وهدد ليوبولد بالاستقالة إذا رفض المؤتمر الوطني قبول معاهدة الانفصال الجديدة، فوافق المؤتمر بالتصديق على المواد الأربع والعشرين في مجلس النواب بأكثرية 59 ضد 38 صوتا، وفي مجلس الشيوخ بأكثرية 35 ضد ثمانية أصوات، وعندئذ تم التوقيع على المعاهدة في لندن يوم 15 نوفمبر 1831، وبذلك اعترفت الدول نهائيا ببلجيكا دولة مستقلة ذات سيادة، وضمنت للدولة الجديدة استقلالها.
وتحدثت مقدمة المعاهدة عن الحوادث التي وقعت في شهر سبتمبر 1830؛ أي الثورة التي أفضت إلى ضرورة تعديل التسوية التي وضعت في سنة 1815 من أجل المحافظة على السلام في أوروبا، ورسمت المادة الأولى الحدود البلجيكية، بالصورة التي جاءت في بروتوكول 15 أكتوبر، فبقيت في حوزة هولندة مقاطعاتها التاريخية القديمة، وقلعة مايسترخت، ثم قسمت بين الدولتين كل من ليمبورج ولكسمبورج، وحصلت هولندة على الجزء الأصغر من لكسمبورج (ثلث مساحتها فقط)، بما في ذلك مدينة لكسمبورج ذاتها، على أن تكون للملك الهولندي السيادة عليها بوصفه غراندوقا لها فقط، وأما مصب نهر الشلدت بضفتيه فقد بقي في حوزة هولندة، كما أن هذا النهر (المادة التاسعة) قد فتح للملاحة الحرة وفق المبادئ التي قررها مؤتمر فينا بشأن الملاحة النهرية، وبمقتضى المادة الثالثة عشرة وزعت الديون العامة القديمة بصورة جعلت نصيب بلجيكا منها ستة عشر جزءا من واحد وثلاثين (وقد أنقص هذا القدر إلى الثلث تقريبا بعد ذلك في سنة 1839)، ونصت المادة الخامسة عشرة على أن يكون ميناء أنتورب (أنفرس) ميناء تجاريا فقط، وامتنع تحصينها. ثم إن المعاهدة اعترفت بحياد بلجيكا الدائم (المادة السابعة)، ومما تجدر ملاحظته أن حكومة بروسيا هي التي أيدت أن تكون بلجيكا دولة محايدة من طراز الحياد السويسري.
ولقد صدقت كل من إنجلترة وفرنسا على هذه المعاهدة في 31 يناير 1832، وصدقت عليها كل من النمسا وبروسيا في 18 أبريل، ثم جاء أخيرا تصديق روسيا عليها في 4 مايو 1832.
إلا أن إبرام الدول لمعاهدة لندن (15 نوفمبر 1831) وتصديقها عليها، لم يكن معناه أن الدول قد وصلت إلى تسوية نهائية مع هولندة، فقد تقدم كيف أن وليم الأول قد رفض (منذ 12 يوليو) وقبل «حرب الأيام العشرة» بروتوكول الثماني عشرة مادة، ولم يكن منتظرا وقد كان النصر حليفه في هذه الحرب الأخيرة أن يبدو أقل تصميما وتعنتا؛ بل إن الأمل كان يحدوه لتوقع الحصول على شروط أفضل من تلك التي تضمنتها معاهدة لندن، فرفض التوقيع على «الأربع والعشرين مادة»، ورفض إخلاء أنتورب (أنفرس) - على مصب الشلدت - وكانت جيوشه لا تزال تحتلها، أو إخلاء أي مكان آخر لا يزال في حوزته فعلا، وإن كانت تدخل - حسب المعاهدة - ضمن الأراضي البلجيكية.
وحينئذ لم تر الدول بدا من إرغام الملك الهولندي على الإذعان قسرا لأحكام معاهدة لندن، وعهدت الدول إلى إنجلترة وفرنسا بمهمة طرد الهولنديين من الأراضي البلجيكية، فضربت الأساطيل الإنجليزية والفرنسية المتحدة نطاق الحصار على الساحل الهولندي، وخصوصا على مصب الشلدت، في حين تقدم جيش فرنسي بقيادة المارشال جيرار ثانية في نوفمبر 1832 ليزحف على أنتورب، وليضع الحصار عليها، ولقد استمر الحصار على أنتورب من 30 نوفمبر إلى 22 ديسمبر، حتى اضطرت الحامية الهولندية بعد دفاع مجيد بقيادة الجنرال شاسيه
Chassè
إلى التسليم، ومن ناحية أخرى استمر الحصار البحري مدة أطول وبدرجة ألحقت الأذى الكبير بتجارة هولندة، حتى إن وليم الأول لم يلبث أن وجد نفسه مرغما على طلب الصلح.
وفي وفاق أبرم في لندن في 21 مايو 1833، لحين عقد المعاهدة النهائية، ثم الاتفاق على عدم تجدد الحرب ضد بلجيكا، وعلى أن يبقى نهر الشلدت ونهر الموز
Meuse
مفتوحين دائما للملاحة الحرة، ولكن الملك الهولندي رفض بتاتا الاعتراف باستقلال بلجيكا على أساس الشروط الواردة في «المواد الأربع والعشرين». فلم تعد أهمية وفاق لندن أنه وثيقة تقر استمرار «الوضع الراهن»؛ أي بقاء ليمبورج دون مايسترخت، ولكسمبورج دون قلعتها في حوزة بلجيكا، وأن تستمر بلجيكا تدفع رسوما لهولندة نظير الملاحة في نهر الشلدت. (ولقد نظمت الملاحة في نهر الموز بمقتضى اتفاق خاص أبرم بعد ذلك في زونهوفن
Zonhoven
من أعمال ليمبورج في 18 نوفمبر 1833).
وخلال خمس سنوات لم تتخذ خطوات ما لتغيير الوضع الراهن، أو لتحويل وفاق لندن (21 مايو 1833) إلى معاهدة نهائية، وحاول الملك الهولندي استمالة الحكومة الإنجليزية «بلمر ستون» لاستئناف المفاوضة ولكن دون طائل (أكتوبر 1836)، وصار بمضي الزمن ينظر أهل لكسمبورج وليمبورج إلى انضمام إقليمهم إلى بلجيكا كأنما قد أصبح أمرا مفروغا منه، وساد الاعتقاد في بروكسل أن الأمر كان كذلك فعلا، ولم يعد يزعج المملكة الجديدة أن معاهدة نهائية لما تبرم بعد مع هولندة.
ولكن الهولنديين - على خلاف الحال في بلجيكا - كان يزعجهم أن يشهدوا بلجيكا وقد أخذ يزداد رخاؤها سنة بعد أخرى، وأن تبقى في حوزتها أقاليم وافقت الدول على إعطائها لهولندة (في ليمبورج ولكسمبورج)، وأن تزداد أعباؤهم المالية، وأن تثقل الضرائب كاهلهم بسبب الجيش الذي اضطروا إلى تهيئته على قدم الاستعداد دائما لمواجهة الطوارئ، وأخيرا فإن الملك نفسه لم يلبث أن رأى عدم جدوى الاستمرار في تعنته للأسباب نفسها التي ذكرناها، ولأنه صار يرى كذلك من الأفضل لصالحه عدم استئناف المفاوضة على الأسس التي قامت عليها في سنة 1833 (والتي تضمنها وفاق لند المبرم في 21 مايو من هذه السنة)، والعودة إلى بروتوكول 15 أكتوبر 1831 بمواده الأربع والعشرين، كأساس للمفاوضة الجديدة، الأمر الذي يكفل إنهاء «الوضع الراهن» الذي كان قرره وفاق لندن، ويجعل ممكنا استخلاص ليمبورج ولكسمبورج من قبضة بلجيكا.
وعلى ذلك أصدر وليم الأول تعليماته في 14 مارس 1838، إلى مبعوثه في لندن ديدل
Dedel
أن يبلغ لورد بلمر ستون أنه قد قرر الموافقة على معاهدة الانفصال (أي بروتوكول 15 أكتوبر 1831)، والالتزام بشرائطه وهي التي أعلنت الدول الخمس أنها نهائية ولا يمكن نقضها، وأنه لذلك متهيئ لتوقيع هذه المعاهدة ذات المواد الأربع والعشرين.
وأثار اتخاذ هذه الخطوة من جانب الملك الهولندي - وعلى نحو ما كان متوقعا - بلبلة في الأفكار كبيرة في بلجيكا، فقد حز في نفوس البلجيكيين أن يطلب إليهم وبعد مضي سبع سنوات التنازل عن أقاليم في حوزتهم لهولندة، كانوا قد أرغموا على وجوب التخلي عنها إرغاما بسبب هزيمتهم في الحرب (في سنة 1831)، وغضب البلجيكيون غضبا شديدا، وراح سياسيوهم يبذلون قصارى جهدهم مع الدول ذات الشأن للوصول إلى شرائط أوفق لمصالحهم، باعتبار أن الملك الهولندي كان رفض التوقيع على معاهدة الانفصال (والمواد الأربع والعشرين) في سنة 1831، وأنه قد اشترك بعد ذلك في المفاوضات التي أجريت في عام 1833 وأسفرت عن «وفاق لندن» في شهر مايو من هذه السنة، وكلاهما أمران يترتب عليهما إلغاء معاهدة الانفصال واعتبارها كأن لم تكن.
وأصر مؤتمر لندن على ضرورة تنفيذ معاهدة الانفصال في القسم الخاص منها بالتسوية الإقليمية، فلم تفد محاولات البلجيكيين في تعديل بنود هذه المعاهدة إلا في موضع واحد فقط؛ هو إنقاص نصيب هؤلاء من الديون التي كان عليهم سدادها بموجب هذه المعاهدة.
وفي 19 أبريل 1839 وقعت هولندة معاهدة مع الدول الخمس «في لندن» إنجلترة وفرنسا وروسيا والنمسا وبروسيا، حلت محل معاهدة لندن القديمة المبرمة في 15نوفمبر 1831، والتي لم تكن هولندة مشتركة في التوقيع عليها؛ فاعترفت هولندة رسميا الآن بانحلال الاتحاد مع بلجيكا (المادة الثالثة)، وفي ملحق لهذه المعاهدة من أربع وعشرين مادة رسمت الحدود بين بلجيكا وهولندة، ووضعت تسوية لمسألة الديون، ونظمت شئون الملاحة في نهري الشلدت والموز، وتقرر حياد بلجيكا الذي وضع بفضل ما جاء في صلب المعاهدة وفي ملحقها تحت ضمان الدول الخمس، وفي اليوم نفسه أبرمت معاهدتان أخريان؛ إحداهما مترتبة على المعاهدة السابقة، وبين بلجيكا وهولندة لتقرير صلات الود والسلام بينهما، والأخرى بين الدول الخمس وحدها لتأكيد ضمان حياد بلجيكا مرة ثانية. ثم إن بلجيكا وهولندة أبرمتا معاهدة لتأكيد صلات الود والصداقة على أسس دائمة، وذلك في لاهاي في 5 نوفمبر 1842.
ولقد بقيت معاهدة 19 أبريل 1839 الوثيقة الدولية التي صار يستند عليها الوضع في بلجيكا في كل السنوات التالية، إلى أن ألغيت بمقتضى المادة الواحدة والثلاثين من معاهدة الصلح في فرساي في 28 يونيو 1919.
الأراضي المنخفضة بعد الانفصال
احتفظت الولايات الهولندية باسم مملكة الأراضي المنخفضة، بالرغم من الانفصال الذي حدث باستقلال بلجيكا، وخروج هذه بصورة عملية من الاتحاد منذ ثورة 1830، ولقد شاهدنا كيف أيد الهولنديون ملكهم وليم الأول بكل ما وسعهم من جهد وحيلة في مقاومته الثورة البلجيكية، ولكن لم يلبث الهولنديون منذ سنة 1832 خصوصا أن بدءوا ينفضون من حوله شيئا فشيئا بسبب عناده، والنفقات الطائلة التي اقتضتها عملياته العسكرية ضد البلجيكيين، وطالب الهولنديون بإنهاء الحكومة الشخصية التي جرت عليهم كل هذه المتاعب، ومع أن الملك لم يلبث أن شعر بصدق الحاجة إلى إدخال تعديلات إدارية وسياسية في نظام الحكم السائد، فقد آثر النزول عن العرش عن الاستجابة لرغبات رعاياه، وترك وليم الأول العرش (1840) لولده وليم الثاني، وغادر البلاد التي أثارها زواجه من بلجيكية كاثوليكية هي الكونتس دولترمونت
D’Oultremont ، وقضى بقية حياته في عزلة في أملاكه الخاصة في سيلزيا، وبعد ثلاث سنوات (1843) توفي في برلين.
ووليم الثاني هو ولي العهد، أمير أورانج الذي شهد الكفاح في مراحله المتعددة ضد البلجيكيين، وأظهر منذ 1815 أنه يدين بمبادئ الأحرار، وحاول أثناء ثورة 1830 كسب ثقة البلجيكيين بفضل سياسة الملاينة التي اتبعها، وكان من واجب الملك الجديد التغلب على المصاعب المالية التي كانت تعانيها البلاد عندما ترك والده العرش ، واستطاع وزيره فان هال
Van Hall
إنقاذ الدولة من الإفلاس بإقناع الأمة بالاكتتاب في قرض أهلي، ساعد على موازنة الميزانية، في حين أن المستعمرات الهولندية في الهند الشرقية لم تلبث أن صارت تدر أرباحا كبيرة على الدولة، كانت عاملا هاما كذلك في موازنة الميزانية.
وشمل تشجيع وليم الثاني غزو المبادئ الحرة الكنيسة، وكان القائمون على هذه الحركة جماعة من رجال الدين الذين أرادوا مقاومة التزمت الصارم الذي عرفت به العقيدة الكلفينية، وبدءوا من سنة 1834 ينفصلون علنا عن الكنيسة الكلفينية (الرسمية)، ولم تفد اضطهادات الحكومة شيئا في وقف هذه الحركة، بل تزايد نجاح «الانفصاليين»، ولم يلبث وليم الثاني أن وافق على الترتيبات التي أجازت لهؤلاء الانفصاليين أن يؤسسوا كنيسة معترفا بها وذات كيان خاص بها.
ولقد كان مرجوا أن يستجيب الملك لرغبة مواطنيه الذين نشدوا التمتع بحرياتهم (حقوقهم) السياسية عن طريق إعادة النظر في الدستور، وعزز هذا الرجاء إقبال الشعب على الاكتتاب في القرض الأهلي لإنقاذ الدولة من الإفلاس، ولكن الملك وليم الأول بالرغم من أنه دأب على المغالاة في إظهار شعور العرفان بالجميل نحو شعبه، فقد كان عاجزا عن اتخاذ قرار حاسم من تلقاء نفسه، وعلى ذلك فقد تقدم في سنة 1844 تسعة أعضاء من «الغرفة الثانية»؛ أي المجلس النيابي، بزعامة ثوربيك
John Rudolf Thorbecke - وكان أستاذا للقانون بجامعة ليدن - باقتراح محدد لمراجعة الدستور وتعديله، ولكن الملك أعلن معارضته للمشروع، فرفضه المجلس، وفي سنة 1845 تقدم آخر،
Nedermeyer Van Rosenthal
باقتراح مشروع للتعديل، في حدود أضيق بكثير مما جاء في المشروع السابق، ولكن هذا الاقتراح كان نصيبه الرفض كذلك. فإن وليم الثاني - وهو زوج آنا باولوننا
Anna Paulonna
الروسية، شقيقة القيصر نيقولا الأول - لم يكن يريد نظاما برلمانيا في بلاده.
وساد التذمر بسبب موقف الملك من مطالب البلاد الدستورية، وتزايد هذا التذمر وسط الطبقات العاملة؛ بسبب انتشار وباء أصاب محصول البطاطس، غذاء الطبقات الفقيرة الرئيسي، وقد ظل هذا المرض يفتك بالمحصول خلال سنوات 1845-1847؛ حتى وجد أهل هذه الطبقات أنهم صاروا محرومين من أهم عنصر غذائهم، في حين ارتفعت أسعار المأكولات؛ فقامت الاضطرابات والمظاهرات الصاخبة والالتحامات في كل مكان، وعمدت الحكومة إلى استخدام القوات العسكرية لإخماد هذه الاضطرابات، ولقد كانت هذه القلاقل مع ذلك مظهرا من مظاهر رد الفعل العام الذي حدث من مدة طويلة ضد مبدأ الأوتقراطية الذي قامت عليه الحكومة، والذي ظل يقوى شيئا فشيئا، ويتزايد خلال كل السنوات السابقة، حتى بلغ ذروته في سنة 1848.
وسنة 1848 هي التي شهدت حدوث ثورة فبراير المعروفة في باريس (24 فبراير)، وإقصاء لويس فيليب عن العرش، ثم سجلت تجاوب أصداء هذه الثورة في كل عاصمة تقريبا من عواصم الدول في أوروبا، وكان آنئذ أن لمس وليم الثاني الخطر الذي يتهدد عرشه لو أنه بقي مصرا على تجاهل رغبات شعبه، وعلى ذلك فقد تألفت في 17 مارس 1848 لجنة من خمسة أعضاء منهم أربعة من الزعماء الأحرار، أحدهم «ثوربيك»، والخامس يمثل الكاثوليك في برابانت الشمالية
Brabant ؛ لتضع برنامجا للإصلاح الدستوري المطلوب، ثم تألفت في 11 مايو وزارة جديدة للاضطلاع بمهمة تعديل الدستور، فوافق مجلسا البرلمان على القانون الأساسي الجديد، الذي أعلن رسميا بعد تصديق الملك عليه في 3 نوفمبر 1848.
وبفضل التعديلات التي أدخلت على الدستور وصدر بها القانون الأساسي الجديد، أنقصت سلطات الملك، بينما زيدت حقوق البرلمان وسلطاته زيادة كبيرة، فلم يعد الملك هو الذي يعين أعضاء «المجلس الأعلى» أو الغرفة الأولى (وعددهم 39 عضوا)، بل صارت المجالس (البرلمانات) المحلية في الولايات هي التي تنتخب هؤلاء ممن يدفعون أعلى قدر من الضرائب المباشرة، وصار أعضاء «المجلس الأدنى» أو الغرفة الثانية ينتخبهم مباشرة المواطنون الناخبون الذين يدفعون ضرائب عقارية اختلفت فئاتها باختلاف المكان أو المقاطعة، وتحدد عدد أعضائه بنسبة واحد لكل خمسة وأربعين ألفا من السكان، وفي حين تركت للملك السلطة التنفيذية، وللبرلمان السلطة التشريعية، صار الملك يتولى سلطاته بواسطة وزرائه الذين تقررت مسئوليتهم أمام البرلمان الذي صار من حقه إلى جانب اقتراح القوانين تعديل مشروعات ما يعرض عليه منها، والموافقة على الميزانية أو رفضها، وهي التي تقرر عرضها عليه سنويا، وقد جعلت جلسات البرلمان علنية، وفيما عدا ذلك نص الدستور على حرية العبادة ، وتوسيع سلطات البرلمان لتشمل شئون المستعمرات، ووضع التعليم الابتدائي تحت رقابة الدولة مع منح الحرية التامة للتعليم الخاص، وضرورة إصلاح الإدارة المحلية في المقاطعات والقرى وتنظيمها على أساس العمل بمبدأ الانتخاب.
ولقد تناول الإصلاح فيما بعد «مجالس الطبقات» أو البرلمانات المحلية، فقسمت هولندة إلى إحدى عشرة مقاطعة لكل منها مجلسها، ولكن بعد أن ألغي مبدأ الطبقات القديم الذي قامت عليه هذه المجالس، فصار الناخبون الذين لهم حق انتخاب أعضاء البرلمان الأعلى هم الذين ينتخبون أعضاء هذه المجالس المحلية التي غدت هيئات تشريعية صحيحة وإن احتفظت باسمها القديم: مجلس الطبقات.
ومنذ 1848، أدخل على الدستور تعديلات طفيفة، كان أهمها ما حدث في سنة 1887 من حيث توسيع حقوق الانتخاب، حتى صارت تشمل كل من يملك عقارا للسكنى، أن يدفعوا أجرا لسكنهم - على غرار ما كان يحدث في إنجلترة - فزاد عدد الناخبين بسبب هذا التعديل من مائة وأربعين ألفا إلى حوالي الثلاثمائة ألف. ثم لم يلبث أن زاد عدد الذين صار لهم حق الانتخاب بفضل تعديل آخر في سنة 1896 - أدخل في عداد هؤلاء فئات جديدة من طراز الأولين، فارتفع العدد إلى حوالي سبعمائة ألف ناخب، أو بنسبة واحد لكل سبعة من السكان (وأما حق الانتخاب العام ومبدأ التمثيل النسبي فقد أخذ بهما الدستور في سنة 1917).
ولقد توفي وليم الثاني فجأة في تيلبورج
Tilburg (من أعمال برابانت الشمالية بهولندة) في 17 مارس 1849، وخلفه ابنه وليم الثالث - من زوجته الروسية - على العرش، وقد بقي هذا في الحكم حتى سنة 1890، فاحتلت العرش ابنته ولهلمينا
Wilhelmina .
بلجيكا بعد الاستقلال
لقد رضخ البلجيكيون للشروط القاسية التي أملتها عليهم الدول في سنة 1839 بشعور مختلط من الحزن والغضب، لإرغامهم - كما عرفنا - على التخلي لهولندة عن أجزاء من لكسمبورج وليمبورج اللتين اعتبروهما أراضي بلجيكية منذ 1831، واللتين شاطر أهلوها هذا الشعور نفسه، وهم الذين صاروا بلجيكيين تماما في عواطفهم ومشاعرهم، ولكن البلجيكيين صاروا الآن ينعمون باستقلالهم، ووجب عليهم أن يصونوا هذا الاستقلال بالتغلب على المصاعب التي تولدت من معاهدة 19 أبريل 1839؛ اضطلاعهم بقسم من ديون هولندة، وتعويق ملاحتهم في نهر الشلدت بسبب القيود التي وضعت عليها.
ولما كان السبب الأكبر في نجاح الثورة البلجيكية، ما حصل من اتحاد وثيق بين جماعتي الكاثوليك والأحرار، فتناسى الفريقان اختلافاتهما في سبيل قضية الوطن، فقد صح عزم الملك ليوبولد الأول على المحافظة على هذا الاتحاد بكل ما وسعه من جهد وحيلة، ونجح ليوبولد فيما أراده. فتألفت وزارة ائتلافية سنة 1834، استمرت في الحكم ست سنوات، وخلفتها وزارة كانت أكثر تجانسا، ولو أنها اتصفت بالاعتدال كذلك (1840)؛ ولكنها عجزت عن الاستمرار طويلا، فتشكلت وزارة ائتلافية أخرى برئاسة نوثومب
Nothomb ، صاحب النشاط الكبير في حوادث 1830-1831.
وكان من أخطر المسائل التي جابهتها وزارة «نوثومب»، والتي اختلف بشأنها الكاثوليك الأحرار اختلافا عظيما، مسألة التعليم الابتدائي العام، ومع ذلك استطاعت الوزارة استصدار قانون في 23 سبتمبر 1842 لتنظيم شئون هذا التعليم بصورة تنال رضى المعتدلين من الفريقين، أدخل التربية الدينية ضمن برنامج التعليم العام، وألزم المجالس الريفية أو مجالس القرى (القومونات) بنفقات مدرسة ابتدائية على الأقل في كل «قومون»، على أن تقوم الدولة والولاية (أو المقاطعة) بنفقات المدارس التي لا يتوفر لدى هذه المجالس الريفية الموارد اللازمة للإنفاق عليها.
وأبدت وزارة «نوثومب» مهارة واعتدالا في ممارسة شئون الحكم، مكناها من البقاء مدة طويلة، إلى أن أجبر «نوثومب» على الاستقالة في يونيو 1845، عندما أتت الانتخابات الجديدة بأكثرية في البرلمان معارضة لحكومته؛ والسبب في ذلك أن البلاد كانت تمر منذ سنة 1843 في أزمة صناعية ومالية خطيرة، وعندما عجزت صناعة النسيج اليدوية في بلجيكا - في فلندرا وبرابانت خصوصا - عن منافسة هذه الصناعة التي استخدمت الآلات في إنتاجها، في إنجلترة؛ فنقصت تجارة الصادر من الكتان البلجيكي إلى النصف في أقل من أربع سنوات، ومن بين حوالي نصف مليون عامل يعتمدون في عيشهم على هذه الصناعة، صار كثيرون متعطلين ويعمد أكثرهم إلى التسول، ويهلك جوعا عديدون منهم. ومثلما حدث في هولندة في سنة 1845، فتك الوباء بمحصول البطاطس، غذاء الطبقات الفقيرة، ثم جاء محصول القمح في سنة 1847 رديئا، وارتفعت أسعار المواد الغذائية ارتفاعا فاحشا؛ فاكتظت الشوارع والقرى بالمتسولين، ولم يمنع وقوع الاضطراب إلا تدخل الحكومة السريع، التي اتخذت من الإجراءات ما كفل تخفيف شدة الأزمة.
فقد ظلت تزدهر في الجنوب والشرق صناعات الفحم والحديد والقطن والأقمشة، فأخذت الحكومة على عاتقها إلحاق المتعطلين في هذه الصناعات، بأن تكفلت الدولة بإنجاز عدد من المشاريع العامة النافعة مثل؛ التوسع في بناء السكة الحديد في فنلندرا وغيرها، وإنشاء قناة تيرنهوت
Turnhout
وتعبيد مئات الأميال من الطرق الجديدة، كما اتخذت الخطوات لاستخدام الآلات في صناعة الكتان لإحياء هذه الصناعة، ثم أنشئت الورش النموذجية والمدارس الفنية الصناعية لتلقين العمال أحدث الأساليب المتبعة في صناعة النسيج خصوصا، وهكذا أمكن اجتياز الأزمة.
إلا أن استقالة وزارة «نوثومب» أوجدت أزمة سياسية لا تقل في خطورتها عن هذه الأزمة الاقتصادية والمالية؛ لأن الملك الذي كان يؤثر دائما الوزارات «المحايدة»، ويريد أن يسود الاعتدال بين الأحرار والكاثوليك (أو الكنسيين) بإقامة الوزارات «الائتلافية» التي ترتكز معالجتها للأمور على حلول وسط، كان يأبى أن تتولى الحكم وزارة من الأحرار؛ فعهد إلى أحد الأحرار المعتدلين (فان دي وير) - وكان موضع احترام الجميع لما أسداه من خدمات للوطن - بتشكيل وزارة ائتلافية (يوليو 1845)، ولكن «فان دي وير» لم يلبث أن استقال في مارس من العام التالي للصعوبات التي أحاطت بوزارته، فلم يجد الملك مناصا حينئذ من دعوة أحد زعماء الأحرار المعروفين، هو شارلس روجيه
Rogier - وكان مثل دي وير من الذين ساهموا في حوادث استقلال بلجيكا بنصيب وافر - لتأليف الوزارة، ورفض «روجيه» تشكيل الوزارة قبل أن ينال من الملك موافقته على حل البرلمان؛ فاستدعى ليوبولد أحد زعماء الكاثوليك ثو دي ميلاند
Theux de Meyland
لتأليف وزارة كاثوليكية متجانسة. الأمر الذي أثار معارضة شديدة ضد الحكومة.
فقد دعا حزب الأحرار لمؤتمر عام ينعقد في بروكسل في 14 يونيو 1846، حضره ثلاثمائة وعشرون مندوبا من جميع أنحاء بلجيكا؛ فأقر المؤتمر برنامجا للإصلاح استطاع بفضله الأحرار أن يدخلوا الانتخابات العامة التي أجريت في السنة التالية (1847) في جبهة متحدة، فظفروا بأكثرية كبيرة من الأحرار، فشكل شارلس روجيه الوزارة في هذه المرة، ولم يتردد ليوبولد بوصفه ملكا دستوريا في تأييد وزارته، فكان تصرفه تصرفا حكيما، جعل ممكنا أن تجتاز البلاد بسلام الأزمة التي نجمت من ثورة 24 فبراير 1848 في باريس، والتي أدت إلى طرد لويس فيليب والد زوجه من العرش، وبينما انتشرت القلاقل والثورات في كل مكان تقريبا في أوروبا، بقيت بلجيكا يسودها الهدوء، وأبدى البلجيكيون رضاهم عن الحريات التي حصلوا عليها والتقدم الذي أحرزته بلادهم، في عهد ملك اختاروه هم أنفسهم، نجح في إدارة شئون الحكم بحكمة واعتدال، وصارت الثقة في مستقبل البلاد لذلك كله تملأ نفوسهم. ولقد حاولت بعض عصابات الثوار الفرنسيين غزو بلجيكا، ولكن البلجيكيين سرعان ما تصدوا لهم؛ ليوقعوا بهم الهزيمة بسهولة عند ريسكونز توت
Risquons-Tout
بالقرب من موسكرون
Mouscron
في 30 مارس 1848.
ولقد استطاعت وزارة روجيه بعد انقضاء أزمة 1848، أن توجه عنايتها لإنجاز ما وعدت به وهو تنفيذ برنامج واسع للإصلاح النيابي والبرلماني، فجعل حق الانتخاب للذين يدفعون ضرائب مباشرة قدرها عشرون فلورين فقط، سواء عند الانتخاب للبرلمان أو لمجالس المقاطعات (الإقليمية) أو مجالس القرى (الريفية)، وكان ذلك في صالح الأحرار - الطبقة البورجوازية - حيث قد ضوعف بسببه عدد الناخبين في المدن، في حين لم يزد عدد الناخبين في الريف بالنسبة نفسها، وظهر أثر هذا التغيير في نتيجة الانتخابات التالية؛ إذ كان عدد الأحرار خمسة وثمانين، في حين بلغ «الكاثوليك» ثلاثة وعشرين فقط. فاستطاعت الوزارة الاعتماد على أكثرية عظيمة في «الغرفة الثانية»، فتسنى لها اتخاذ عدة إجراءات عادت بالنفع على الطبقات العاملة، والمشتغلة في التجارة؛ من ذلك تأسيس بنك أهلي، وبنك للتوفير والضمان، وإنقاص أو إلغاء ضرائب الوارد على الأغذية والمأكولات، وتمويل الدولة لعدة مشروعات عامة لصالح المتعطلين والفقراء، وعنيت الحكومة ثانية بشئون التعليم.
واستمرت وزارة «روجيه» في الحكم إلى سنة 1853، ومن أهم الحوادث التي وقعت في أثنائها وفاة الملكة لويز ماري ابنة لويس فيليب في 11 أكتوبر 1850 في أوستند، بعد أن أضعفها المرض على أثر حوادث الثورة التي أقصت والدها عن العرش، ثم اضطرار الحكومة إلى زيادة الضرائب، مما أفقد الوزارة قسما كبيرا من أنصارها في انتخابات 1852، فاستقال «روجيه» في العام التالي، فألف الوزارة دي بروكير
Brouckére
وكان من المعتدلين، ليستقيل هو الآخر في مارس 1855، حتى تتشكل وزارة من الوسط واليمين، ولكن في سنة 1857 لم يلبث الأحرار أن ظفروا بأكثرية في الانتخابات، فشكل «شارلس روجيه» الوزارة، ولقد بقي روجيه في الحكم مدة طويلة، من سنة 1857 إلى 1870.
أما الملك ليوبولد فقد وافاه أجله في 10 ديسمبر 1865 وهو في سن الخامسة والسبعين بعد حكم استمر أربعا وثلاثين سنة، أظهر خلالها من صفات الحكمة والكياسة في توجيه البلاد، ما ساعد الدولة البلجيكية الحديثة على التغلب على الصعوبات العديدة التي اعترضت طريقها، حتى تدعمت أركانها، ونال الملك بفضل الخدمات الوطنية التي أسداها احترام شعبه له وثقته في شخصه، واحترام أوروبا كذلك.
الفصل السادس
إسبانيا والبورتغال: الصراع بين المبادئ الحرة والرجعية في إيبريا
تمهيد
كان غرض السياسيين الرئيسي في أوروبا بعد سنة 1815، الحيلولة بكل الوسائل دون حدوث «الثورة» التي تهدد بانهيار أنظمة الحكم الرجعية التي أعادوها في البلدان التي كانت تخلصت منها في عهد «الثورة الفرنسية ونابليون»، والتي دعموها في الأوتوقراطيات التي استمر يسود بها «النظام القديم»، وكان خطر الثورة إذا حدثت يشمل تهديد الترتيبات الإقليمية التي رسمها السياسيون على قاعدتي توازن القوى والتعويضات، والتي أخضعت شعوبا بدأ يقوى فيها شعور القومية لسلطان حكومات أجنبية عليها. فكان معنى التدبر لعدم قيام الثورات منع الآراء الحرة الديمقراطية من الاستعلاء مرة أخرى، وهي التي تهدف إلى التحرر الوطني (القومي)، وإثارة الحركات الدستورية ودعمها، ولقد عرفنا كيف أطلق «نظام مترنخ» على عمل التدابير والاحتياطات التي اتخذتها الدول ضد حدوث «الثورة» في أوروبا، وكيف أن هذا «النظام » حاول عن طريق «الاتحاد الأوروبي» الوصول إلى الأغراض التي توخاها أصحابه منه. فعولجت مسائل شتى، كان النجاح نصيب «الاتحاد الأوروبي» تارة، وأخفق «الاتحاد» في علاجها تارة أخرى، لأسباب ذكرت جميعها في مواضعها، ولقد كان السبب الرئيسي في إخفاق «الاتحاد الأوروبي» كأداة لحكم أوروبا، وفرض سيطرة موحدة عليها، غايتها الكبرى منع حدوث «الثورة» - سواء أكانت وطنية قومية أم دستورية - انقسام الدول فريقين بشأن مصير المستعمرات التي لإسبانيا وللبورتغال في أمريكا، وتلك مسألة كبرى، ثم لتحديد شروط «التدخل» في شئون إسبانيا والبورتغال الداخلية.
ومثلما سادت الاضطرابات بقية أوروبا بين عامي 1830 و1840 وتعددت المشكلات التي تحتم على الدول العظمى معالجتها، سواء قبل فشل «الاتحاد الأوروبي» كأداة حكومية وبوليسية، أو بعد فشله عقب مؤتمر فيرونا (1823) - وهي المشكلات التي عرضنا لطائفة منها في الفصول السابقة؛ ولقد تقدم كيف استأثرت المسألتان الإسبانية والبورتغالية باهتمام «الاتحاد الأوروبي». أما المشكلات التي أثارت المتاعب والاضطرابات في شبه جزيرة إيبريا (إسبانيا والبورتغال) ودعت أحداثها لتدخل الدول، فقد لاحظنا أنها في صميمها ترتد إلى أسباب متصلة بالتنازع العائلي (أي بين أعضاء الأسرة المالكة) من أجل اعتلاء العرش، وإن كان لا يخلو من هذا التنازع - وهو عائلي في جوهره - من الاصطباغ لدرجة معينة بصبغة دستورية، ولقد كان من الأيسر كثيرا الوصول إلى تسوية للمشكلة البورتغالية، في حين تطلبت مشكلات إسبانيا جهودا كبيرة لتحقيق هذه الغاية. (1) إسبانيا: نضال الأحرار ضد نظام الحكم المطلق في إسبانيا
وترتد «المشكلة الإسبانية» في أصولها، بالشكل الذي استأثر باهتمام «الاتحاد الأوروبي» إلى الحرب الإيبيرية (1808-1814)، التي خاض غمارها الإسبان كل هذه السنوات الطويلة، لاستنقاذ البلاد من السيطرة النابليونية؛ وحق للإسبان أن ينظروا باعتزاز لهذه الحقبة من تاريخ أوطانهم وأن يفخروا بالنصر الذي أحرزوه عندما كان صراعهم المرير لتحرير الوطن أحد العوامل الحاسمة التي عجلت بانهيار الإمبراطورية النابليونية.
على أن جلاء الجيوش النابليونية من إسبانيا، وعودة ملكها فردنند السابع إلى عرشه، لم ينهيا متاعب الشعب الإسباني، بل إن عهدا جديدا من الصراع الداخلي لم يلبث أن بدأ حول نوع الحكم الذي تجب إقامته في البلاد، وكان نضال الأحرار الإسبان من أجل إنشاء الحكومة الدستورية، لا يقل في أهميته وخطورته عن نضال الأمة السابق لتحرير الوطن من السيطرة الأجنبية، وكانت المشكلة التي واجهت الاتحاد الأوروبي هي الفصل فيما إذا كان يجب أن تسود الرجعية إسبانيا، وذلك في عهد الملكيات الراجعة في أوروبا عموما، وتحت نظام مترنخ، أو أن تنتصر المبادئ الحرة المتولدة من الثورة الفرنسية، والتي جاء بها أصلا إلى إسبانيا الفرنسيون الغزاة في عهد السيطرة النابليونية، ولقد شاهدنا كيف أن «التدخل الأوروبي» عندما تقرر من أجل تأييد سلطان الملكية الراجعة في إسبانيا، لم يغفل النظر في مشكلة متفرعة عن الأزمة الإسبانية في إطارها الأوروبي الخالص، ونعني بذلك مصير المستعمرات الإسبانية في أمريكا، ولقد انتهى الأمر بإخفاق الاتحاد الأوروبي بسبب هذه المشكلة خصوصا من جهة، ثم الاعتراف باستقلال هذه المستعمرات الإسبانية في أمريكا، وبالحكومات «الفعلية» التي قامت بها من جهة أخرى، أما فيما يتعلق بإسبانيا ذاتها، فلقد كان تاريخها «الداخلي» بعد سنة 1815 سجلا للكفاح الذي أثاره «الأحرار» من أجل إنشاء الحكومة الدستورية.
ولقد كان متعذرا أن تتغلغل في كيان الأمة الإسبانية لأول وهلة المبادئ الحرة أو تلك القومية (الوطنية) التي جاءت بها جيوش نابليون إلى إيبريا. فالأمة التي نفر أبناؤها للذود عن حياضهم ضد العدوان «الأجنبي» كانت لا تزال بعد انقضاء هذا الخطر (وفي سنة 1815) تفرقها الانقسامات الداخلية، وتقضي على اتحادها النزعة الإقليمية، بدرجة تجعل متعذرا ظهور «رأي عام» يعبر عن رغبات واتجاهات مشتركة وموحدة، أو اتباع سياسة وطنية ناجحة ذات أغراض محددة.
دستور 1812
ومن المسلم به أن مولد المبادئ الحرة في إسبانيا كان في أثناء «الحرب الإيبيرية»، وقت أن كان الملك الشرعي فردنند السابع مبعدا عن عرش بلاده في المنفى، وكان جوزيف بونابرت الملك الذي فرضه نابليون شقيقه على إسبانيا لا يعترف به سواد الأمة الإسبانية، الأمر الذي أجبر الإسبانيين على أن يقوموا بتنظيم أنفسهم تحت قيادة وإرشاد زعمائهم الذين عرفنا - عند دراسة تاريخ الحرب الإيبرية أيام نابليون الأول - أنهم أسسوا مجلسا مركزيا لقيادة الثورة
Junt Central
كان بمثابة حكومة مؤقتة، ولقد مهد هذا المجلس الثوري لدعوة «الكورتيز» الإسباني للانعقاد في صورة برلمان وطني في أشبيلية
Seville
ليضع دستورا للبلاد. فأصدر الكورتيز في 19 مارس 1812 دستورا نقله عن دستور 1791 الذي أصدرته الثورة الفرنسية، فأخذ عنه أسوأ ما جاء به وما كان يتعذر تنفيذه. فنبذ ظهريا «دستور 1812» كل تقاليد النظام الدستوري الإسباني القديم؛ بحيث لم يعد للكنيسة وللأرستقراطية أي صوت في حكومة بلاد كان يستعلي فيها نفوذ رجال الدين والنبلاء، وانتزع الدستور من الملك كل سلطاته، حتى صار «التاج» لا يعدو مجرد «زخرف» في الدولة لا نفوذ ولا سلطان له، وذلك في بلد اشتهر أهله بولائهم المتطرف، ولدرجة التعصب «للملكية»، وزيادة على ذلك، فقد رفض الدستور إعادة انتخاب أعضاء المجلس النيابي أو المجلس التشريعي الذي أوجده الدستور، ثم منع الوزراء من حضور مناقشات المجلس؛ لأنهم ليسوا أعضاء به، وذلك بالرغم من تقرير مبدأ المسئولية الوزارية، كأنما كانت لا تكفي كل نقاط الضعف السابقة لتأكيد فشل هذا الدستور، ومع ذلك فقد ترتب على الرجعية الشديدة التي تميز بها عهد الملك (العائد) فردنند السابع؛ حصول رد فعل عميق صارت بسببه المناداة «بدستور 1812» والعمل به، المطلب الذي اجتمعت عليه كلمة كل الأحرار ليس في إسبانيا وحدها، بل وفي بلدان أخرى كذلك، وتلك الحقيقة هي ولا شك مبعث الأهمية الوحيدة التي انفرد بها هذا الدستور.
أما عامة الناس فقد كان اهتمامهم بالدستور ضئيلا، وفي رأي كثيرين أنه حتى سنة 1820 من المحتمل أن هؤلاء كانوا لا يدرون شيئا عن هذا الدستور (دستور 1812)، ينهض دليلا على ذلك أن «الشعب» الذي احتشد ليرحب بفردنند السابع عند عودته إلى إسبانيا في أوائل سنة 1814، كان ينادي في كل مكان مر به بحياة «الملك المطلق»، وكان هذا «الحماس» الظاهر للملكية المطلقة، من أهم العوامل التي جعلت فردنند السابع يقدم على إلغاء الدستور.
فقد وافق نابليون في معاهدة فالنساي
Valençay (في 11 ديسمبر 1813) على إرجاع فردنند السابع إلى عرشه، واشترط مجلس الكورتيز - وكان مجتمعا آنئذ في مدريد - أن يحلف الملك يمين الولاء للدستور (2 فبراير 1814)، ولكن نابليون أجاز لفردنند العودة (7 مارس) بالرغم من أن السلطات الإسبانية (مجلس الوصاية ومجلس الدولة) لم تشأ الاعتراف بمعاهدة فالنساي، وبالرغم من اشتراط الكورتيز حلف اليمين باحترام الدستور، وفي 22 مارس عبر فردنند السابع الحدود الإسبانية، وعلى الفور اكتشف فردنند أن ليس ثمة سبب يدعوه للتريث والإمهال، وأن الدستور موضع كراهية شعبه وبغضه الشديد، وأن ليس هنالك وسط هذه العاصفة من الحماس الذي قوبل به ما يجبره على «المساومة» مع الكورتيز والعناصر الحرة المؤيدة للدستور في بلاده.
وعلى ذلك فإن فردنند السابع بمجرد أن شعر بقوة موقفه استنادا على تأييد «موظفي» الدولة وقسم كبير من عسكرها، بادر باستصدار منشور من فالنسيا
Valencia
في 4 مايو 1814، يعلن فيه إلغاء الدستور وقرارات مجلس الكورتيز، وحل هذا المجلس، وفي 11 مايو ألقي القبض في مدريد على كل النواب الأحرار، ولقد قوبلت هذه الإجراءات (دون أي تذمر أو تململ) من جانب الشعب؛ بل إن الجماهير «حيت» هذه الإجراءات بإشعال النار لعمل الزينات، وبالرقص حول ما صارت تلقي به من نسخ الدستور ومطبوعات أو نشرات الأحرار إلى النار لتحرقه.
الملكية الراجعة
فلم يمض شهر واحد على هذه الحوادث، حتى كانت قد أعيدت في إسبانيا كل أدوات وأجهزة الحكم الاستبدادي الفاسد، فأقيمت من جديد محاكم التفتيش؛ بالرغم من احتجاج الدول، واسترجعت الطوائف الدينية القديمة كل ما كان لها من نفوذ وسلطان سابق، كما استعادت أملاكها وثرواتها الضخمة، ووقع الأحرار في كل مكان فريسة للاضطهاد (المنظم)، ولا جدال في أن الذي ساعد على ذلك كله، ما حصل من تراخ خلقي نتيجة للحرب التي خاضها الشعب الإسباني مدة خمس سنوات بتمامها، وما اقترن بهذه الحرب من أعمال التخريب والحرق والنهب والسلب؛ بسبب الغزو ثم الاحتلال الفرنسي، فصارت «المدن» مسرحا لنشاط الجماهير التي قست لدرجة الوحشية في ثوراتها للانتقام من المحتلين، وشهد «الريف» جموع العصابات التي لاحقت العدو، ودأبت على مطاردته - أو دأب الأخير (الفرنسيون) على مطاردتها من مكان إلى آخر - لتنزل العصابات بالعدو في كل المرات تقريبا أفدح الخسائر، وترتب على اختلال الأمن عموما أن انتشر السارقون واللصوص والمربون في الوديان والجبال، جنبا إلى جنب مع المحاربين من رجال العصابات المقاتلة.
على أن طغيان الملكية الراجعة، واضطهاد الأحرار الذين كان يكفي أمر يصدر من الملك ودون أية محاكمة للإلقاء بهم في السجون، أو لطردهم خارج البلاد إلى المنفى، لم يفلح في القضاء على هؤلاء الأحرار؛ بل إن ضباط الجيش على وجه الخصوص الذين من المحتمل أنهم تأثروا باختلاطهم بزملائهم الإنجليز أثناء الحرب الإيبيرية، فصاروا يعتنقون المبادئ الحرة، أصروا على التمسك بهذه المبادئ بالرغم من العقوبات الشديدة التي كان الملك ووزراؤه يوقعونها على كل الذين يظهرون ميولا «حرة»، وسرعان ما أخذوا يؤلفون جمعيات سرية ويتحينون الفرص المناسبة لتنفيذ آرائهم السياسية، وهكذا دخلت السياسة إلى الجيش.
وزاد الموقف الداخلي صعوبة بسبب الثورات المشتعلة وقتئذ (1819) في المستعمرات الإسبانية في أمريكا؛ وهي التي كانت أعلنت انفصالها عن التاج الإسباني عندما انتزع نابليون العرش في مدريد ليضع عليه أخاه جوزيف بونابرت. فقد رفض فردنند السابع الاعتراف بهذا الانفصال، وعقد مع الولايات المتحدة الأمريكية تلك الصفقة المعروفة التي باعها فيها فلوريدا في نظير خمسة ملايين من الجنيهات، أراد تخصيصها للإنفاق على حملة يعدها لاسترجاع الفتوحات الإسبانية القديمة في أمريكا، وبالفعل لم تلبث أن احتشدت قوة من عشرين ألف مقاتل بجوار قادش تأهبا للإبحار إلى أمريكا الجنوبية، ولم تكن هذه «المغامرة» تلقى ترحيبا كبيرا من الشعب؛ بسبب المخاطر المنتظرة، والتعرض الأكيد للإصابة بالحمى، والموت بها، فكان من السهل انتشار روح التمرد والعصيان بين جنود الحملة المزمعة. وفي أول يناير 1820 نادى بالثورة أحد الضباط الذين اشتركوا في الحروب الإيبيرية رفائيل دل رييجو
Riego ، وكان من الأحرار المتحمسين وتبعه جنود فرقته، وجذب إليه كذلك ضباطا آخرين منهم؛ الكولونيل كيروجا
Quiroga ، وفي مدينة كابيزاس دي سان جوان
Cabezas de San Juan ، أعلن رييجو دستور 1812. وفي مساء اليوم نفسه دخل رييجو مدينة أركوس
Arcos
والتي حضر كي ينضم إليه بها جنود أشبيلية الذين كانوا قد أعلنوا تمردهم في نهار هذا اليوم، ولكن «كيروجا» أضاع فرصة ثمينة بتردده وضعفه للزحف على قادش، وعجز رييجو عن تحريك الثورة في أماكن أخرى، ولم ينقذ الموقف غير قيام الثورة في كورونا
Corunna (في 21 فبراير)؛ إذ سرعان ما تبعها اندلاع الثورة في كل جاليسيا
Galicia
وأستورياس
Asturias ، وبرشلونة وبامبلونا
.
ثورة 1820
ومع أن هذه الحوادث أفزعت الملك وبطانته في مدريد، فقد كان مثار الدهشة أن الحكومة في المدة من أول يناير تاريخ بداية العصيان، إلى 21 فبراير تاريخ قيام الثورة في كورونا، بقيت مسلوبة النشاط ولا تبدي حراكا، باستثناء بعض الإجراءات «الضعيفة» التي اتخذت دون أية نتيجة ضد الثوار. فاعتمدت الحكومة في محاولة إخماد العصيان والثورة، على بذل الوعود للأخذ بأسباب الإصلاح مثل؛ استصدار قانون جديد للعقوبات، والتخفيف من صرامة الإجراءات المتبعة مع المعتقلين السياسيين والعقوبات الموقعة عليهم، ولم تفد هذه الوعود الهزيلة شيئا في وقف امتداد الثورة، فدعا الملك مجلس الدولة وممثلي القضاء للتشاور معه فيما يجب فعله ليتسنى للملكية أن تنشئ حكما طيبا (4 مارس)، ثم دعا يوم 6 مارس مجلس الكورتيز للانعقاد، وفي 7 مارس أمر الملك باجتماع هذا المجلس فورا، وأعلن «تمشيا مع إرادة الشعب العامة أنه قرر حلف يمين التأييد لدستور 1812» وهكذا انتصرت ثورة 1820.
ولقد قوبل قرار الملك يوم 7 مارس بالترحيب العظيم من جانب طبقة النبلاء وطبقة البورجوازي (الطبقة المتوسطة) في مدريد وفي كل مكان، وتتألف هاتان الطبقتان من رجال المال ورجال العلم والفكر، والضباط من جميع الرتب؛ أي من الملاك والمصرفيين والأدباء والمحامين والتجار والأطباء والعلماء ومن إليهم، في حين بقيت طبقات الشعب الدنيا بعيدة عن الترحيب بالحركة الدستورية وغير متحمسة لنجاحها لسببين هامين؛ أولهما: الجهل بمعاني الدستور وإدراك أهمية الحياة الدستورية، وثانيهما: تغلغل تقاليد الملكية المطلقة من أزمان بعيدة في كيان المجتمع الإسباني، وتغلغل هذه التقاليد المبنية على الخضوع الكامل لسلطان الملك المطلق في حياة الطبقات الدنيا خصوصا.
وفي 9 مارس حلف فردنند السابع يمين الولاء للدستور، وفي اليوم التالي أصدر منشورا طلب فيه السير قدما «بصراحة» في طريق الدستور، على أن يتولى هو نفسه قيادة السائرين في هذا الطريق، وقابل أهل مدريد هذه الأنباء بالتهليل والمناداة بحياة «الملك الدستوري»، وعاد إلى البلاد «المنفيون والمبعدون» من سنة 1814، ونشطت «النوادي» (أو الجمعيات الوطنية) التي تألفت على غرار النوادي الفرنسية، فنوقشت فيها الآراء السياسية بحماس كبير، وكان الشباب مسئولا عن إنشاء بعض هذه النوادي لهذا الغرض، في حين أن طائفة من الذين أرادوا من المناقشة السياسية تنوير الأذهان، وإرشاد الجماهير أنشئوا البعض الآخر ، وفي كل هذه النوادي كانت الغلبة للمبادئ الحرة الراديكالية. وعقد الوطنيون الأحرار ندواتهم كذلك في المقاهي وفي المحافل الماسونية، وكان أشهر هذه الجمعيات في مدريد (الجمعية الوطنية لأصدقاء الحرية) في مقهى لورنشيني
Lorencini ، ثم جمعية أخرى في مقهى «صليب مالطة» - جران كروتز دي مالطة
Gran Cruz de Malta
وهكذا.
وتألفت حكومة (وزارة) من الأحرار، وفي 9 يوليو اجتمع الكورتيز في غرفة واحدة، وكان يحوي عديدين من الأعضاء الذين حضروا كورتيز عام 1812، ولم يكن النواب جميعهم يحترمون دستور 1812 بدرجة واحدة؛ بل إن منهم من أرادوا إصلاحه أو تغييره تغييرا كليا، وكان الذين أرادوا هذا الإصلاح أو التغيير، المعتدلون الذين لم يعد دستور 1812 في نظرهم يصلح للعمل به، ولا يساير حاجات البلاد الراهنة. ثم لم يلبث أن انقسم المعتدلون إلى فريقي المتطرفين
Exaltados
والذين تمسكوا بالاعتدال
Moderados ، وأما سائر النواب فقد تمسكوا بدستور 1812 «رمزا لقضية الحرية» ولم يشاءوا أن يعبث بقدسيته أحد، ومع ذلك فلم يؤلف فريق من كل هؤلاء أكثرية ساحقة، تفرض آراءها فرضا في نوع الإصلاح المرجو. ثم إنه لم يكن متيسرا أن يتكتل النواب في فريقين أو حزبين ظاهرين لتبادل الرأي بصدد الإصلاحات الدستورية المطلوبة.
ولقد استمر الكورتيز منعقدا حتى 9 نوفمبر 1820، واستصدر قرارات هامة منها؛ إلغاء «الوقف» والطوائف الدينية، وإرسال الأموال لكنيسة في روما، ثم تنظيم الجمعيات الوطنية لمنع حوادث التطرف في أعمالها، وتوقيع العقوبة على القساوسة الذين يتآمرون ضد الحكومة الدستورية، وإلغاء طائفة اليسوعيين (الجزويت)، ومصادرة أملاك الطوائف الملغاة، وإرغام القساوسة جميعا على الخدمة العسكرية، ولقد اتهم كورتيز 1820، ثم مجالس الكورتيز التالية خلال هذه الحقبة بأنها معادية للكنيسة، وهذا اتهام صحيح، ولكن كان هناك ما يفسر هذه الظاهرة وهو أن رجال الدين كان أكثرهم معادين للدستور، ويؤيدون سلطان الملكية المطلقة، ويحاولون التخلص من دفع الضرائب، بل ومن تحمل أية أعباء عليهم أن يؤدوها كسائر المواطنين للدولة، أضف إلى ذلك أن الكنيسة كانت من أزمان بعيدة موئل التقاليد الاستبدادية (أي الحكومة المطلقة)، حتى إن النضال بين الكنيسة وبين «الوطنيين» الذين ظلوا يطالبون من قرن مضى بتضييق سلطان الكنيسة وتحديد - أي إنقاص - عدد الكنسيين (رجال الأكليروس)، صار تقليدا قويا يتوارثه السياسيون.
ومع ذلك فقد أخفق الكورتيز في مهمته؛ فالراديكاليون (الأحرار المتطرفون) ساءهم أن يكون الكورتيز متحذرا في إصلاحاته أكثر من اللازم، و«المعتدلون»، وكذلك أولئك الذين أفزعتهم عموما أخطار الثورة، وهم كانوا أشد خطرا من «المعتدلين»؛ كان في رأيهم أن هذه الإصلاحات، وخصوصا ما تعلق منها بشئون الكنيسة؛ إجراءات عنيفة؛ لذلك فقد بات متعذرا بسبب هذا الانقسام في صفوف الأحرار وخصوصا بين «متطرفين» و«معتدلين» أن يؤلف هؤلاء جبهة متحدة قوية تقدر على مقاومة الرجعية، بل إن الحكومة بالاتفاق مع المعتدلين بادرت - الآن - بتسريح الجيش الذي تمرد سابقا في إقليم أندلوشيا
Andalucia
وهو «جيش التحرير» كما كان يسمى؛ ولذلك لتخوفها منه وتوفيرا لنفقاته، ثم إنها نفت «رييجو»، وغيره من الضباط إلى مقاطعة «أستورياس» في أقصى شبه الجزيرة في الشمال، واتسعت شقة الخلاف بين المعتدلين من الأحرار وبين «المتطرفين» الذين كانوا كذلك من أنصار «رييجو»، وجلب هذا الانقسام على الأحرار مخاطر جسيمة، وهم «الدستوريون» الذين مهما تنوعت آراؤهم حول دستور 1812، فقد كانت تجمعهم الرغبة في أن يكون الحكم دستوريا، وكان ينبغي لذلك أن تكفي هذه الرغبة في الحكم الدستوري لتؤلف بينهم ضد الرجعيين أنصار الحكم المطلق.
وزاد من محنة «الدستوريين» - وهم الأحرار من معتدلين ومتطرفين - أن جماعات أو أحزابا أخرى سريعا ما اشتركت في النزاع القائم حول نوع الحكم المنشود، ومن هؤلاء؛ أولئك الذين ذكرنا أنهم كانوا مبعدين في المنفى بسبب حوادث 1814، ثم عادوا إلى الوطن بعد إعلان الملك عزمه على السير في طريق الحرية والدستور (مارس 1820). فإن هؤلاء المعفى عنهم
Afrancessados
سرعان ما أبدوا جانب الاعتدال بعد عودتهم إلى إسبانيا، لدرجة أنهم صاروا يعارضون «الأحرار» ويقاومونهم، ثم كانت هناك جمعيات الكاربوناري
Carbonari
التي تأسست على غرار جمعيات الكاربوناري الإيطالية، أو أن الإيطاليين الذين لجئوا إلى إسبانيا عقب فشل الثورات التي قامت في إيطاليا وقتئذ في نابولي وبيدمنت هم الذين أسسوها، وكذلك فقد قصد إلى إسبانيا فريق من المغامرين الفرنسيين وأنصار الجمهورية الذين كادوا يحركون الاضطرابات في إسبانيا، زد على هذا أن الأحرار المعتدلين الذين أرادوا «إصلاح» الدستور لم يلبثوا أن ألفوا في آخر سنة 1821 جمعية شبه سرية تحت اسم «أصدقاء الدستور»، وكان غرضهم تقوية الحكومة وتوسيع سلطاتها لمنع البلاد من الوقوع فريسة للفوضى.
وقد تناضلت كل هذه الجماعات والأحزاب مع بعضها بعضا، وكان فردنند السابع وأنصار الحكم المطلق هم وحدهم الذين أفادوا من هذه الانقسامات والخلافات الحزبية، ومن المعروف أن فردنند السابع لم يكن قط قد قبل الدستور مخلصا، أو أنه يرضى إطلاقا عن «الثورة»، وهو الذي دلت حوادث 1814 على عجزه عن إدراك حقائق الموقف، (فألغى الدستور وحل الكورتيز إلخ)، والذي لم يكن منتظرا منه إدراكها في ظروفه الراهنة بعد أن جرد من سلطانه المطلق؛ ولذلك لم يكن عجيبا أن يعمد الملك إلى التآمر على الدستور عقب حلفه اليمين الدستورية مباشرة، وأن يقع الصدام بينه وبين الحكومات (الوزارات) المتعاقبة من الأحرار. ومن بداية سنة 1820 تضافرت القرائن في أماكن مختلفة من بينها مدريد؛ على أن من المنتظر حدوث رد فعل رجعي، فلم يوافق فردنند السابع (في أكتوبر) على قانون إلغاء أديرة الراهبات، وإنقاص أديرة الرهاب إلا تحت الضغط والتهديد بالثورة، والموقف الحاسم الذي وقفته الجمعيات الوطنية، وشجع الملك المؤامرات المناوئة للدستور من ناحية، في حين أخذ يتفاوض مع الأحرار الراديكاليين في الوقت نفسه، وأخطأ الأخيرون في قبولهم هذه المحالفة الخطرة وغير المشرفة، اعتقادا منهم أنها سوف تؤدي إلى إسقاط الحكومة (أي الوزارة)، ثم لم تلبث أن ظهرت بالقرب من إسكوريال
Escorial - المكان الذي كان قد ذهب إليه الملك ليحيك مؤامراته منه (25 أكتوبر 1820) - جماعات مسلحة سمت نفسها «بالمدافعين عن الملك المطلق»، وأخيرا ارتكب الملك مخالفة دستورية عندما عين - لدهشة وزارئه - أحد أنصار الملكية المطلقة العنيفين قائدا لمدريد، ولقد اضطر الملك إلى إلغاء هذا التعيين بعد ذلك عندما رفض القائد الفعلي إخلاء منصبه، وقامت الاضطرابات في العاصمة، وبلغ من سخط الجماهير على الملك بسبب خداعه، ونقمة الأحرار عليه خصوصا أن قابله الشعب المهيج عند دخوله إلى مدريد، التي أرغم على العودة إليها، بتوجيه مختلف الإهانات لشخصه، ولم يسع فردنند السابع إلا إخفاء غضبه، حتى تتاح له الفرصة للانتقام من الحكومة (من الأحرار المعتدلين).
وعلى ذلك فإنه عند افتتاح مجلس الكورتيز في أول مارس 1821، أعلن الملك ولاءه للدستور، ولكنه شكا شكوى مرة من الإهانات التي يتعرض لها شخصه في الشوارع، وفي النوادي، ومن تواني الحكومة في وقفها؛ فاستقالت الوزارة، وحقق الملك مأربه وهو الذي أراد إخراج الوزارة من الحكم بعد أن اكتشفت هذه مؤامراته مع الثوار المسلحين من الأحزاب المناصرة للملكية المطلقة.
تآمر الملك ضد الثورة
ولم تكن هذه العصابات المسلحة هي وحدها مصدر الخطر على الدستوريين؛ فإن فردنند الذي لم يكن يثق في أنصاره في داخل إسبانيا، كان قد طلب من وقت مبكر من الدول الأجنبية مساعدته على إقصاء الأحزاب والتخلص منهم، وقد تقدم فردنند بطلبه الأول إلى الدول في اليوم نفسه الذي ذهب فيه إلى «أسكوريال» لتدبير مؤامراته التي أشرنا إليها؛ أي منذ 25 أكتوبر 1820، فقد بعث إلى الملك الفرنسي «لويس الثامن عشر» برسالة حملها إليه السياسي البورتغالي «سالدانها» يقول فيها: إنه أسير في قبضة أعدائه، وإن إسبانيا على وشك السقوط في هاوية الفوضى، ويرجو من الملك الفرنسي أن يتوسط في استمالة «الدول المتحالفة» إلى مساعدته. ولم يكن منتظرا أن يذهب هذا «الاستنجاد» بالدول سدى، فقد مر بنا كيف أن القيصر إسكندر الأول قد أزعجه منذ شهر مارس (من السنة نفسها) خبر انتشار الثورة في إسبانيا، حتى إنه لم يلبث من تلقاء نفسه وكإجراء صادر منه مباشرة، أن اقترح على الدول «تدخلا مسلحا» في شئون إسبانيا (مارس 1820)، ولكن اقتراح القيصر لقي معارضة كاملة من جانب النمسا وبروسيا وإنجلترة؛ لأن هذه الدول الثلاث - وعلى نحو ما سبق أن ذكرناه في موضعه - كانت تخشى من امتداد النفوذ الفرنسي أو النفوذ الروسي إلى إسبانيا؛ بل إن الملك لويس الثامن عشر نفسه وقف موقف المعارضة من اقتراح التدخل المسلح؛ لأنه كان مشغولا بشئون مملكته. ومن المعروف أن موضوع التدخل في إسبانيا بقي منزويا في الفترة التي سبقت دعوة مؤتمر «ترباو» للانعقاد، والتي ظل أثناءها مترنخ يعارض في عقد مؤتمر (أوروبي)، حتى تبدل الموقف عند نشوب الثورة في نابولي، واتخاذ الثوار النابوليتان دستور 1812 الإسباني دستورا لهم، فكان أن دعي للاجتماع مؤتمر ترباو، الذي تأيد فيه مبدأ «التدخل» في بروتكول ترباو المعروف، وأفضى القيصر لأحد أعضاء الوفد الفرنسي لدى المؤتمر رغبته في أن يرى فرنسا تقوم في إسبانيا بالمهمة التي تقوم بها في النمسا في نابولي (أي إخماد الثورة بها)، ولكن المؤتمر انفض من غير الوصول إلى قرار في المسألة الإسبانية، مما جعل فردنند السابع يطلب مرة أخرى من الملك الفرنسي وساطة الدول وتدخلها المسلح في إسبانيا.
وفي هذه المرة عززت الحوادث التي وقعت في إسبانيا مطلب الملك، فقد غضب الأحرار عموما من الملك الذي تبين غدره. وأما المتطرفون منهم فقد ضاعفوا الآن جهودهم لإقصاء «المعتدلين» من الحكم و(الوزارة)، واستصدر الكورتيز (الذي ظل منعقدا لغاية 10 يونيو 1821) عدة قوانين متعلقة بالشئون الداخلية (إدارة القضاء، الإيرادات، التعليم ... إلخ)، ولم يتبين من المناقشات التي دارت في هذا المجلس أن أحدا كان يدرك ما سوف يترتب من أثر على الموقف في إسبانيا ذاتها نتيجة لفشل الثورة في نابولي وبيدمنت بإيطاليا. وشغل الدستوريون في معالجة المسائل الداخلية مشغولية كبيرة، وذلك في حين أنه كانت تتكاثر باستمرار عصابات أنصار الملكية المطلقة المسلحة، ويرفض كبار رجال الدين تنفيذ القوانين المتعلقة بالمسائل الكنسية، ولم تستطع الحكومة (وهي حكومة أحرار) أن تعنف في التنكيل بخصومها، الأمر الذي جعل متطرفي الأحرار يعتبرون ذلك ضعفا من ناحيتها، يشجع أنصار الملكية المطلقة على التآمر ضد الحكومة وإرهاقها بنشاطهم؛ فوقعت الاضطرابات في عدة مدن، وصار الأحرار يعنفون في اضطهاد كل خصومهم، ويتهمون الملك بالتآمر معهم، وانضم معهم في هذا الشعور الجارف، اللاجئون من الأحرار الأجانب، فحاول فرنسي إشعال الثورة في صالح الجمهورية في برشلونة، وأراد فرنسي آخر الحصول على مساعدة «رفائيل دل رييجو» لشن غزو على فرنسا لغرض تأييد الحركة الجمهورية في هذه البلاد الأخيرة، ومع أن «رييجو» رفض الانزلاق في مشروع هذا الغزو المزعوم، لعدم إثارة مشاكل دولية؛ يدرك رييجو أن بلاده لا قدرة لها على مواجهتها، فقد شكت الحكومة الفرنسية للوزارة الإسبانية من نشاطه، واشتراكه في المؤامرات ضد النظام القائم في فرنسا، ومع أن هذا الاهتمام - كما يبدو - لم يكن صحيحا، فقد أيد فردنند السابع الشكوى، وعزل «رييجو» من قيادته العامة في إقليم أرغونه؛ فقامت مظاهرات «المتطرفين» في أماكن عدة لمناصرة «رييجو»، ومع أن البوليس أخمد الثورة التي قامت في مدريد (17 سبتمبر) دون إراقة دماء، فقد استمر هياج الخواطر، واجتمع الكورتيز اجتماعا استثنائيا (من 24 سبتمبر 1821، إلى 14 فبراير 1822)، وسقطت الوزارة، وتزايدت مظاهر الفوضى (1822) بسبب تفاقم الانقسام في صفوف الأحرار، ونشاط العصابات المسلحة والمؤلفة من أنصار الملكية المطلقة، والذين وإن كانت الحكومة الفرنسية - وزارة فيليل - لا تجرؤ على إمدادهم بالمساعدات الرسمية، فقد نالوا من هذه الحكومة كل تشجيع في صورة المال والسلاح المرسل إليهم من جهة، وضمان استمرار مؤامرتهم في فرنسا في صالح الملكية المطلقة (في إسبانيا) من جهة أخرى.
تدخل الدول (1823)
وفي بداية 1822 طلب فردنند السابع مرة أخرى، وعن طريق فردنند الأول ملك نابولي (وهو عم له) معاونة الدول، ولكن لم يسفر هذا الطلب عن شيء بالرغم من مناصرة القيصر. حتى حدث أن أحرز «المتطرفون» الأكثرية في الانتخابات التي أجريت لمجلس الكورتيز الجديد، نتيجة للقانون الذي منع انتخاب الأعضاء السابقين للمجلس (أو البرلمان) التالي، فأنذر نجاح «المتطرفين» وفوزهم بالأكثرية الكبيرة بالخطر بالنسبة للظروف التي كانت تمر بها البلاد وقتئذ، ولأن رئيس الحكومة كان من «المعتدلين» هو مارتينز دي لاروزا
Martinez de La Rosa ، وبدأت بوادر النضال بين الكورتيز والحكومة عندما اختار الكورتيز رئيسا له (أي للمجلس) رفائيل دل رييجو، وسار هذا النضال البرلماني جنبا إلى جنب مع تحريك الثورة والقيام بالمظاهرات في أماكن عديدة - في أرانجوز
Aranjuez
وفالنسيا، ومدريد - فقام أنصار الملكية المطلقة بالمظاهرات والثورة خلال شهري مايو ويونيو، وثارت فرق الحرس الملكي في مدريد بتشجيع من الملك، والتحموا مع الأهلين (الحرس الأهلي أو القوة العسكرية الأهلية ) الذين تغلبوا عليهم (7 يوليو)؛ فانحلت فرق الحرس الملكي وسقطت الوزارة، وتألفت أخرى من الراديكاليين.
وألح الملك في طلب «تدخل» الدول التي ظل يتصل بها (سرا) لهذا الغرض، وتفاقم الخطر «الدولي» على إسبانيا؛ لأن الحكومة الفرنسية لم تعد تقنع بالمساعدات «غير المباشرة» التي كانت تسديها للملكيين، وللملك الإسباني الذي أمدته بمبلغ كبير من المال عن طريق سفيرها في مدريد لاجارد
La Garde
لتعزيز حركة المقاومة للثورة؛ بل إن «لاجارد» بعد حوادث 7 يوليو، لم يلبث بالاشتراك مع مبعوثي روسيا والنمسا وبروسيا وغير هؤلاء من ممثلي الدول الأخرى، أن بعث بمذكرة إلى الحكومة الإسبانية يتحدث فيها عن الموقف (الفظيع) الذي صار يجد فيه الملك نفسه مع الأسرة المالكة والأخطار التي صارت تتهددهم، ويعلن في صراحة أن العلاقات بين إسبانيا وكل أوروبا، إنما تخضع الآن لنوع «المعاملة التي يلقاها جلالته»، ولقد كان هذا تهديدا لم يلبث أن وضعه مؤتمر فيرونا موضع التنفيذ عند اجتماعه.
وعمدت الوزارة الجديدة «من الراديكاليين» إلى تعيين الأحرار في المناصب الهامة في مدريد العاصمة وفي الأقاليم تعزيزا لقضية الأحرار ولمركز الحكومة، وتعقبت عصابات المسلحين من أنصار الملكية المطلقة، وشنت عليهم حربا عوانا، وكان هؤلاء قد استولوا على مدينة أورجيل
La Seo Urgel
في إقليم قطالونيا وأسسوا بها «مجلس وصاية على إسبانيا مدة بقاء فردنند السابع في الأسر»، فبادر مجلس الوصاية - الآن - في 15 أغسطس بإصدار منشور أو نداء للأمة يطلب فيه تحرير «الملك الأسير» ثم طلب من مترنخ النجدة، وكان مترنخ لا يزال لا يرتاح للتدخل في شئون إسبانيا خوفا من أن يخدم هذا التدخل مصلحة روسيا، وضاعف الأحرار والدستوريون نشاطهم بعد «منشور أورجيل»، ونجحوا في إرغام «مجلس الوصاية» على الفرار إلى فرنسا، ولكن الموقف لم يلبث أن تغير، وفي غير صالح الأحرار والدستوريين عندما اجتمع ممثلو الدول في «فيرونا» ليتخذوا في هذه المرة قرارا حاسما في المسألة الإسبانية.
حقيقة امتنع مترنخ عن تأييد مطلب «مجلس الوصاية» في أورجيل، ولكن المبعوثين الفرنسيين لدى المؤتمر؛ مونتمورنسي
Montmorency
وشاتو بريان، نظرا لهذا المطلب بعين الارتياح، وأخذا يعملان - وعلى خلاف تعليمات رئيس الوزارة الفرنسية فيليل لهما - لإقناع المؤتمر بتقرير التدخل في المسألة الإسبانية، على أن يعهد بهذا التدخل إلى فرنسا، وعلى ذلك فقد سأل «مونتمورنسي» سائر المندوبين في المؤتمر - يوم 20 أكتوبر - عما إذا كانت الدول المتحالفة على استعداد لأن تسحب سفراءها من مدريد إذا فعلت فرنسا ذلك، وعما إذا كان في استطاعة لويس الثامن عشر أن يعتمد على مؤازرة حلفائه إذا نشبت الحرب بين فرنسا وإسبانيا. فكان جواب القيصر إسكندر بالموافقة، وعرض إرسال جيش كبير إما إلى فرنسا للمحافظة على النظام بها أثناء الحرب، وإما إلى إسبانيا، وعارض هذا المشروع كل من المندوب الإنجليزي دوق ولنجتون، ومترنخ، ولو أن هذه المعارضة لم تقض على مشروع التدخل كلية، بل كان واضحا أن فرنسا سوف تكون ولا شك الدولة التي سوف يعهد إليها بالتدخل إذا قرر المؤتمر اتخاذ هذه الخطوة، ولم يفد شيئا امتناع الحكومة الإنجليزية عن الموافقة على سياسة التدخل، أو وقوفها بعيدة عن سياسة الحلف القوي في تقرير المؤتمر التدخل المسلح في إسبانيا (30 أكتوبر)، وتوالي الأحداث التي مر بنا ذكرها عند الكلام عن مؤتمر فيرونا، فعبرت القوات الفرنسية بقيادة الدوق دانجوليم نهر البيدوساو
Bidossoa
واجتازت الحدود الإسبانية في 9 أبريل 1823.
فشل الثورة
ولم يبد من جانب الأحرار الإسبان مقاومة تذكر، ومع أن الملك (المتآمر) ضد الدستور وضد الأحرار دائما كان أثناء هذا الغزو في قبضة هؤلاء؛ فإن أذى ما لم يلحق به، وذلك إلى جانب تخاذل الأحرار في الدفاع عن قضيتهم، إنما ينهض في نظر كثيرين من المؤرخين دليلا على أن «الثورة» ضد سلطان الملكية المطلقة لم تكن تلقى تأييدا كبيرا من الشعب الإسباني، بل إن سلامة الملك بالرغم من استنجاده بالدول الأجنبية وغزو الفرنسيين الأجانب للبلاد، كان معناه أن الملكية لا تزال جذورها قوية، بحيث يستحيل على الشعب الإسباني معاملة مليكه «فردنند السابع» المعاملة التي لقيها لويس السادس عشر في فرنسا، وكان الكورتيز قد قرر الانسحاب من مدريد إلى مكان أقل تعرضا لأخطار الزحف الفرنسي، واستطاع بعد لأي وعناء إرغام فردنند على الانسحاب معه إلى أشبيلية في 20 مارس؛ أي قبل بداية الغزو بثمانية عشر يوما. فسلمت مدريد يوم 19 مايو، وأعلن دوق دانجوليم استعداد الجيش الفرنسي للانسحاب بمجرد أن يصبح الملك طليقا ليحكم رعاياه دون ضغط عليه من أحد. ودخل الفرنسيون مدريد ذاتها في 24 مايو وسط تهليل الجماهير المزدحمة في الشوارع التي علقت بها أكاليل الزهور، وشرع الغزاة يزحفون على أشبيلية، وعندئذ قرر الكورتيز الانتقال إلى قادش، وأرغم الملك على الانتقال معهم (12 يونيو)، وضرب الفرنسيون نطاق الحصار على قادش. وقد تولى عملية الحصار دوق دانجوليم بنفسه، واستمر الحصار مدة طويلة، أخذت تنهار في أثنائها مقاومة الأحرار، ومع أن هؤلاء كانوا يعتمدون على قدرة قواتهم النظامية في صد الغزو الفرنسي، فإن هذه القوات إجمالا لم تبد مقاومة تذكر، فسلم المقاتلون في جالسيا (10 يوليو)، ثم في أندالوشيا (في 4 أغسطس)، وتبع ذلك انهزام رفائيل دل رييجو، ووقوعه في الأسر في منتصف سبتمبر، وصمدت فقط القوات الموجودة في قطالونيا، واسترمادورا
Estremadura ، وبعض الأقاليم الشرقية، وبدلا من أن تنهض البلاد لمقاومة الزحف الفرنسي، أو حتى مجرد إلقاء الصعوبات في طريق العدو، أقبل الأهلون في كل مكان على تسهيل مهمة الجيش الزاحف، وذلك دليل آخر على أن «النظام الدستوري» لم يكن مرغوبا في البلاد، ولا يلقى تأييدا، وأن سواد الشعب على الأقل لم يكونوا يدركون مزايا الحياة الدستورية وقتئذ.
وتجمعت الأسباب التي جعلت الكورتيز ينهي مقاومته، ويقبل التسليم في قادش. فمنذ أن بدأ حصار قادش الذي وقف عليه دوق دانجوليم - وكان في جيشه شارل ألبرت أمير كارينان
Carignan
الذي سوف يتزعم حركة الوحدة في إيطاليا، بلاده، سنة 1848 - أخذت تسود روح التخاذل رويدا رويدا بين الجنود والأهلين على السواء، وتآمر الملك - جريا على عادته - واتصل بدوق دانجوليم يتفاوض معه، وبذل المال لابتياع الضمائر، وطغت المصالح الذاتية، وانتهى الأمر لهذا كله بأن وافق الكورتيز (في 28 سبتمبر) على تسليم قادش وإطلاق سراح الملك، وفك إساره؛ أي تحريره من سلطان الأحرار، ووعد الملك بإصدار عفو عام، وتشكيل وزارة معتدلة، وفي أول أكتوبر انتقل فردنند السابع إلى معسكر دوق دانجوليم، ولم يكن الملك صادقا في وعوده الأخيرة هذه، ولم يكن ينوي إطلاقا أن يصدق وعده.
وبذلك تكون قد أخفقت ثورة 1820-1823 في إسبانيا، واسترجع فردنند السابع بفضل التدخل «الفرنسي» المسلح سلطاته المطلقة، فأوقف بصورة عملية ودون ضجة العمل بدستور 1812، ومع أن الملك أصدر عفوا عاما تحت ضغط الدول، فقد جاء هذا العفو مقيدا بقيود عديدة أفقدته كل قيمة له، وانتهى هذا الدور الثاني من أدوار الحكومة الدستورية في إسبانيا (والدور الأول هو الذي اقترن بصدور دستور 1812، واستمر إلى وقت عودة فردنند السابع إلى إسبانيا وإلغائه هذا الدستور في مايو 1814).
طغيان الرجعية
وحكم فردنند السابع البلاد في المدة التالية حكما مطلقا، اضطهد الأحرار في أثنائه اضطهادا عظيما؛ فإنه سرعان ما استبدل بالعفو الذي وعد به في قادش استصدار قرار (في 4 أكتوبر 1823) بتوقيع عقوبة الإعدام على كل مؤيدي الدستور تقريبا حتى أولئك الذين يبدون مجرد الميل للمذهب الحر، وتسلم معرف (معلم اعتراف) الملك رياسة الوزارة، وتشكلت اللجان العسكرية لمحاكمة المسجونين السياسيين، وتأسست مجالس من نمط محاكم التفتيش التي كان من مظاهر التناقض في خلق الملك أنه لم يشأ إعادة تأسيسها، فأعدم الكثيرون وألقي بعديدين في السجون، وكثرت أعمال التعذيب والعنف، وعانى الأحرار والبناءون الأحرار (الماسونيون) عنتا وإرهاقا وشدة عظيمة، وكان من الذين ذهبوا ضحية هذا الاضطهاد «رفائيل دل رييجو» رمز الدستورية الراديكالية، الذي لقي حتفه مشنوقا، ولم تفلح احتجاجات دوق دانجوليم على هذه الاضطهادات والفظائع؛ لأن حكومة فيليل ذات الميول المعتدلة كانت مغلوبة على أمرها أمام تصميم الدول الرجعية؛ النمسا، روسيا، بروسيا التي أيدت عنف أنصار الملكية المطلقة في إسبانيا، وطلبت اقتلاع المبادئ الدستورية من جذورها، وأوضح مترنخ هذه الرغبة في تعليماته إلى سفيره في باريس (23 مارس 1824)، ووصلت دانجوليم التعليمات الصريحة في ذلك، فكان كل ما استطاع دانجوليم أن يفعله هو مساعدة أعضاء الكورتيز وأعضاء الحكومة على الفرار من قادش.
على أن استمرار طغيان الملك وتوقيع العقوبات الدموية على الأحرار في إسبانيا، لم يلبث أن جعل الحكومة الإنجليزية تبعث باحتجاج شديد إلى حكومة فردنند السابع، ثم حذت الحكومة الفرنسية حذوها كذلك، بل لقد عمد الوزير الفرنسي «شاتو بريان» في 17 مارس 1824، إلى تهديد فردنند بسحب ما بقي من العسكر الفرنسيين في إسبانيا، ثم إن السفير الروسي بوزودي برجو
لم يلبث هو الآخر أن قرر التدخل، ولكن ليسفر تدخله عن عزل معرف الملك من رياسة الوزارة، واستصدار قرار بالعفو العام (أول مايو) كان عديم النفع للقيود الكثيرة والاستثناءات التي اشتمل عليها، ومع ذلك فقد أغضب المتطرفين الملكيين صدوره.
والحقيقة أن الاضطهاد - أو قل الإرهاب - بقي على حاله، ثم زالت كل عقبة معطلة له، باستقالة وزارة فيليل (التي كان شاتو بريان أحد أعضائها) في 6 يونيو 1824؛ ليعيد تشكيلها من جديد بدونه، ثم وفاة لويس الثامن عشر بعد ذلك بشهور قليلة في 16 سبتمبر، فتزايد اضطهاد المتطرفين للأحرار، ووجد الأولون مسوغا لاستمرار الإرهاب في محاولة للثورة قام بها اللاجئون من الأحرار في جبل طارق (في أغسطس)، ومن هذا التاريخ إلى نهاية سنة 1829 لم يعد تاريخ إسبانيا إلا سلسلة من أعمال الإرهاب تتخللها نوبات من تخفيف حدة البطش بالأحرار، تبعا لدرجة تأثر الملك بآراء المتطرفين أو المعتدلين من أنصار الملكية المطلقة، أو تبعا لرغبته في استمالة حزب أو آخر.
وتلك قصة طويلة، لعل أبرز أحداثها اعتماد المتطرفين على أعضاء البيت المالك، خصوصا شقيق الملك دون كارلوس
Don Carlos
وزوجه ماريا فرانسشكا البورتغالية (من أسرة براجانزا وشقيقة دون بدرو)، ثم تحريك المتطرفين للثورة في 1825، ثم في سنة 1828 (في قطالونيا) لتخليص الملك من «الأحرار المستخفين» الذين وقع تحت تأثيرهم، ثم عدم رضاء الملكيين الخلص الذين عرفوا - الآن - باسم الرسوليين
Apostolicos
بالحالة، ورغبتهم في إقصاء فردنند السابع عن العرش لعدم وثوقهم به، ثم تولية أخيه دون كارلوس مكانه. فانقلبت هذه الجماعة من مجرد «مذهبيين» يعنيهم التمسك بمبدأ الملكية من حيث هو، إلى حزب «شخصي» يريد أن يستبدل شخص الملك الحالي مسلكا آخر؛ ولذلك فقد بدءوا يعرفون باسم الكارليين
Carlist
نسبة إلى دون كارلوس، الذين يريدون اعتلاءه العرش، وقد عظم الأمل في إمكان اعتلاء هذا الأخير العرش، عندما توفيت زوجة الملك (الثالثة) في 17 مايو 1829. كان فردنند السابع قد تزوج من قبل ماريا أنطونيا ابنة فردنند الأول ملك نابولي، ثم إيزابلا البورتغالية، (من أسرة براجانزا)، ثم هذه الزوجة الثالثة ماريا أميليا السكسونية منذ 1819، ولم ينجب الملك وارثا للعرش، ثم إن الملك كان معتل الصحة، ولكن فردنند السابع قرر الزواج للمرة الرابعة، واختار زوجا له ماريا كريستينا، وهي أميرة من نابولي، وكانت شقيقة لماريا كارلوتا زوجة شقيق الملك الآخر، دون فرانسشكو، وهي صاحبة نفوذ على فردنند وتتزعم الحزب المناوئ للكارليين، وجاءت إلى مدريد في ديسمبر 1829، وعقد الأحرار عليها آمالا كبيرة في تحطيم حزب «الملكيين الرسوليين» وهم الذين كانوا يعارضون هذا الزواج، وتتزعم نشاطهم زوجة دون كارلوس التي أرادت أن يتزوج الملك أميرة أخرى.
ولقد كان من المنتظر أن يفيد الأحرار من وجود الملكة الجديدة، تستخدم نفوذها بقدر الإمكان وبالدرجة التي قد يرضخ فيها فردنند لهذا النفوذ في صالحهم، ولكن نشوب ثورة يوليو 1830 في باريس التي شمل أثرها أوروبا كلها، لم يلبث أن أدخل عاملا جديدا على الموقف.
فقد انزعج فردنند السابع بسبب الحوادث التي أطاحت بعرش شارل العاشر في فرنسا، ثم تولية لويس فيليب صاحب «المبادئ النظرية الحرة»، فلم يشأ فردنند الاعتراف بملكيته، وكان ذلك - ولا شك - خطأ كبيرا؛ لأن لويس فيليب الذي أراد الانتقام من الإهانة التي لحقت به عمد إلى تشجيع - أو على الأقل عدم تعطيل - المؤامرات التي صار يحيكها اللاجئون في فرنسا من الأحرار الإسبان، والذين جاءوا كذلك إليها من إنجلترة، ولو أن هؤلاء لم يلقوا تأييدا رسميا من جانب الحكومتين الفرنسية والإنجليزية، وبادر فردنند بإصلاح خطئه، فاعترف بلويس فيليب ملكا على الفرنسيين، وعندئذ وقف كل تسامح مع اللاجئين في فرنسا، وكان الفشل نصيب عدد من الحملات العسكرية التي دبرها اللاجئون لغزو إسبانيا خلال 1830-1832، وتلا هذه المحاولات عهد من الإرهاب جعل واضحا أن نفوذ الملكة لم يفد شيئا في منعها أو وقفها، وأشرف على إجراءات القمع الجديدة، كالومارد
Calomarde
وزير العدل الذي بلغ من ضيق الأفق حدا جعله يغلق «الجامعات»، التي اعتبرها موطن المبادئ الحرة المتأثر بها الشباب الإسباني، وتعرض الأحرار والماسونيون لصنوف من الاضطهاد العنيف، حتى إن كثيرا من هؤلاء، ومن «المهرطقين» لقوا حتفهم، ومنع تداول الكتب المشتبه في أنها ذات صبغة حرة، ولو أن هذا المنع لم يحل دون استمرار تداول هذه الكتب التي نشرت المبادئ الحرة، وروجت لها بصورة مكنت من تغلغل الآراء الحرة.
على أن الذي شغل أذهان السياسيين أكثر من أي شيء آخر في هذه الآونة؛ كان توقع إنجاب الملك الذي حملت زوجته ماريا كريستينا وارثا للعرش، وكانت حقيقة حمل الملكة مسألة على جانب كبير من الخطورة؛ لأن المولود إذا كان ذكرا صار من حقه وراثة العرش، وفي ذلك ضمان لاستعلاء نفوذ الحزب أو الجماعة في البلاط التي تتزعمها دونا كارلوتا وشقيقتها الملكة ماريا كريستينا، ويقضي على أمل «الكارليين» نهائيا، أو إذا كان المولود بنتا، قوي حزب الكارليين، لاحتمال أن يضيع حق ابنتها في وراثة العرش نظرا لعدم استقرار نظام وراثة العرش تماما في إسبانيا، والسبب في ذلك أن ملك إسبانيا فيليب الخامس، كان صاحب ادعاءات على عرش فرنسا، بوصفه المتزعم لأسرة بربون إذا قدرت للملك الفرنسي لويس الخامس عشر الوفاة؛ بل إنه كان مصمما - إذا حصل هذا - على المطالبة بعرش فرنسا ولو أدى الأمر إلى تنازله عن عرش إسبانيا. ولما كان يهم الدول ألا يجمع فرد واحد (من أسرة بربون) بين تاجي فرنسا وإسبانيا في شخصه، فقد اضطر فيليب الخامس في سنة 1713 إلى إصدار قانون يحكم ترتيب الوراثة يجعلها من حق الذكر فقط، كان الغرض منه الوصول إلى هذه الغاية، فلما أن تبدل الموقف الدولي الذي كان أوجد هذا القانون، عمد شارل الرابع بالاتفاق مع الكورتيز المنعقد في مدريد إلى إلغائه في سنة 1789 والعودة إلى النظام القديم الذي يجيز للإناث وراثة العرش؛ وعلى ذلك فقد أرادت ماريا كريستينا الاحتياط لكل احتمالات الموقف في المستقبل، واستمالت الملك في 19 مايو 1830 لإذاعة قانون 1789، وتزايد سخط دون كارلوس والكارليين وغضبهم من هذا الإجراء عندما ولد للملك ابنة «ماريا إيزابلا» في 10 أكتوبر 1830، أعلنت على الفور ولية للعهد؛ أي وريثة لعرش إسبانيا، وانحصر النزاع من الآن فصاعدا بين الكارليين وعلى رأسهم دون كارلوس، وبين الملكة وأنصارها حول ضرورة إلغاء قانون 1789، أو استبقائه والعمل به، وانتهز الكارليون فرصة مرض الملك الخطير، ووجود دونا كارلوتا بعيدة في أشبيلية آنئذ، وتهديد الملكة كريستينا بإشعال الحرب الأهلية فجعلوا الملك يلغي قانون 1789 (في 18 سبتمبر 1832)، ليعود ليلغي هذا الإلغاء نفسه، بمجرد أن اجتاز مرحلة الخطر في مرضه، وعادت دونا كارلوتا إلى جانبه. ثم سقطت وزارة كالومارد الذي كان انحاز لخصوم الملكة في هذه الأزمة، وصدر قرار في 6 أكتوبر 1832 يخول ماريا كريستينا إدارة شئون الدولة أثناء مرض الملك، فأعيد قانون 1789، وصار استصداره رسميا للمرة الثانية في 31 ديسمبر 1832، واتجهت سياسة الحكومة اتجاها «حرا» ففتحت الجامعات، وصدر قرار بالعفو (في 15 أكتوبر) استطاع بفضله كثيرون من اللاجئين الذين كانوا غادروا البلاد من 1824، أن يعودوا إلى إسبانيا، وذلك بالرغم من القيود والاستثناءات التي تضمنها القرار نزولا على رغبة الملك.
ولقد التف الأحرار من الآن فصاعدا حول الملكة «ماريا كريستينا» وحول ولية العهد «ماريا إيزابلا» وأخلصوا لهما الولاء، في حين التف أنصار الملكية المطلقة حول دون كارلوس، وشهدت البلاد سلسلة من المؤامرات المضادة، ومحاولات لتحريك الثورة، حتى إن الحكومة رأت أن تبعد دون كارلوس من البلاد في النهاية، فاضطر إلى مغادرة إسبانيا إلى البورتغال في 16 مايو 1833، وفي يونيو اجتمع مجلس الكورتيز وفقا للتقاليد الإسبانية القديمة ليحلف يمين الولاء «لماريا إيزابلا» وليعترف بها وريثة للعرش.
وتوفي الملك فردنند السابع بعد هذه الحوادث بقليل في 29 سبتمبر 1833، فانتهى بوفاته عهد في تاريخ إسبانيا، وصفه المؤرخون بأنه كان مدموغا بالقسوة، جلب العار والشنار على أصحابه الذين أنزلوا بالأحرار صنوف العذاب؛ ليؤسسوا من جديد الحكم الملكي المطلق كما عرفه «النظام القديم»، فاستنجدوا بالجيوش الأجنبية «الفرنسية» التي غزت البلاد، وأتاحت بهذا الغزو نفسه الفرصة لإشاعة الفوضى واختلال الأمن، وتعطيل تقدم البلاد المادي والاقتصادي، وانتشار البؤس بها، وكان الملك فردنند السابع نفسه صورة سقيمة وهزيلة للملك المتردد المخادع، الذي لا مواثيق ولا عهود له، والذي عرف بالتعصب وضيق الأفق، ووقع تحت تأثير النساء في بلاطه، ومن أفراد أسرته، ولو أن ذلك كان دائما بالدرجة التي تتفق مع ميوله وآرائه الرجعية الغاشمة. «الوصاية»، والحرب الكارلية
ولقد كان متوقعا بوفاة هذا الملك الذي اشتط في رجعيته أن يبدأ عهد جديد قد تتبسط فيه المشكلة السياسية في إسبانيا، لو أن الملكة كريستينا - التي تولت الوصاية على العرش بسبب صغر ابنتها التي كانت دون سن البلوغ - اعتنقت بإخلاص المبادئ الحرة، وأيدت قضية الأحرار، فيصبح ممكنا حينئذ أن يعين النزاع بين أنصار الملكية المطلقة وبين الدستوريين هؤلاء الأخيرين على إنشاء وتنظيم حزب معترف به قانونا، ومن نمط الأحزاب التي تدين بالمذهب الحر في بقية أوروبا، ولكن الذي حصل كان على خلاف ذلك.
فالملكة الوصية سرعان ما نكصت على عقبيها بعد انتصاراتها الأولى، فلم تشأ السير في سياسة الإصلاح؛ بل صارت تعتمد في الحكم على وزراء من «المعتدلين» المترددين والمتحذرين، وتطلب النصح من أولئك الذين يتنكرون لبرامج الأحرار، وغاب عن إدراكها أن الموقف لم يعد كما كان عليه في سنة 1814، أو في سنة 1823، وأن الآراء والمبادئ الحرة قد صارت الآن متغلغلة بين الجماهير ذاتها التي دأبت فيما مضى على رفضها؛ ولذلك فبدلا من أن يسود الاستقرار البلاد ولتشهد تجربة الحكم الدستوري وعلى غرار ما حدث في هذه الحقبة في البلدان الأوروبية الأخرى، كان النضال السياسي لا يزال مستعرا في إسبانيا، واستطال لدرجة إلحاق الأذى بها.
واتخذ الصراع شكلا مزدوجا؛ فهو من ناحية في صورة الحروب الأهلية ضد مبادئ «الكارلية»؛ أي مبادئ الحكم المطلق الذي يدين به الكارليون أنصار دون كارلوس، ثم من ناحية ثانية في صورة الجهود التي بذلت لاستمالة الملكة الوصية كريستينا وابنتها إيزابلا وأفراد الحاشية؛ للانحياز بصراحة إلى جانب الأحرار، وتأييد برنامج مبني على مبادئهم، وهي جهود بمجرد أن اصطدمت بالمعارضة العنيفة، تسببت في حصول طائفة من الاضطرابات والثورات؛ وعلاوة على ذلك فقد كان لا يزال هناك من العوامل الكثيرة ما ساعد على وجود الانقسام بين الأحرار أنفسهم، الذين صاروا فريقين؛ عرف أحدهما: بالاعتدال، والآخر: بالتطرف. وهذا إلى جانب ما طرأ من تردد على الأحرار بشأن الأهداف التي يبغون تحقيقها عندما أخذت تنتشر بينهم آراء جديدة أدت بدورها إلى ظهور اتجاهات سياسية لم تكن معروفة قبل ذلك.
فاللاجئون في فرنسا وإنجلترة خلال سنوات 1824-1833، قد صاروا متأثرين إما بآراء «المذهبيين» و«الراديكاليين» في فرنسا، وإما بأنظمة الحكم والعادات والتقاليد السائدة في إنجلترة، وترتب على ذلك أن أخذ يقل الآن ذلك الاحترام القديم الذي استمر يشعر به الأحرار الإسبان لدستور 1812 سنوات طويلة، ومن ناحية ثانية انتشرت المبادئ الحرة بين أنصار الحكم المطلق، ومع ذلك وبالرغم من النقص الذي حدث في صفوفهم، فقد بقي هؤلاء زمنا طويلا أصحاب الأكثرية في جهات مختلفة وبين أهل الريف خصوصا، حيث اعتبرت قضيتهم مرتبطة بتقاليد الاستقلال المحلي والمصالح الإقليمية الموروثة من العصور الوسطى، فكانوا لذلك خصوصا خطرين، تتطلب هزيمتهم إنفاق أموال طائلة وإراقة دماء غزيرة، وهذه الحقائق التي ذكرناها هي التي تفسر ما وقع من حوادث أو حصل من ترتيبات ومناورات واتخذ من تدابير في السنوات التالية.
ويمر عهد الوصاية - وصاية الملكة الوالدة كريستينا في أدوار ثلاثة؛ أولها ومدته من 1834 إلى 1835: كان عهد إصلاحات متخاذلة، كان الغرض منها استمالة الأحرار لتأييد الوصاية ضد الكارليين، ولم تكن صادرة عن رغبة صحيحة لدى الملكة الوالدة في الإصلاح، وثانيها يمتد إلى سنة 1837: وقد اتبعت الحكومة في أثنائه سياسة إصلاح راديكالية، وصدر في أثنائه دستور 1837، وأما الدور الثالث الذي استمر إلى سنة 1840، فقد شهد عودة «الاعتدال» وانتهى بقيام الثورة واعتزال الوصية «الملكة الوالدة كريستينا» الحكم، وفي أثناء ذلك كله كانت تجري في طريقها الحرب الأهلية التي أثارها الكارليون بعد وفاة الملك فردنند السابع بقليل.
ويتميز الدور الأول (1834-1835) باستدعاء «مارتينز دي لاروزا» - الذي ذكرنا أنه من المعتدلين وهم المحافظون - لتشكيل الوزارة وذلك إرضاء للأحرار الذين كان أغضبهم تنكر الملكة الوالدة للمبادئ الحرة عقب وفاة فردنند السابع، وذلك عندما أعلن زيابر موديز
Zea Bermudez
رئيس الوزارة (السابقة) خبر وفاة الملك فردنند، أنه يعتزم أن يبقى مستمرا نظام الحكم القائم، ثم كانت الاستبدادية المستنيرة
Despotismo illustrado
الوصف الذي نعت به برموديز سياسته، فسقطت وزارته في يناير 1834، وكان الوزير الجديد مارتينز دي لاروزا كذلك من الأحرار لتأييد نظام الحكومة البرلمانية، فعمدت الوزارة الجديدة إلى إدخال طائفة من الإصلاحات العاجلة التي منها توسيع أثر العفو العام حتى يشمل اللاجئين، ولقد قبلت هذه الوزارة مقترحات بلمرستون وزير خارجية إنجلترة، فوقعت في 15 أبريل من السنة نفسها على معاهدة ثلاثية بين إسبانيا والبورتغال وإنجلترة، تتكفل إنجلترة بمقتضاها بمساعدة الحكومات في مدريد ولشبونة ضد الثورات المنتشرة وقتئذ، سواء كانت «دستورية» أو مبعثها التنازع العائلي على العرش في إسبانيا والبورتغال، وقد انضمت فرنسا إلى هذه المعاهدة (1822)، وبذلك اكتمل تأسيس ما يعرف باسم «المحالفة الرباعية» وهي محالفة - كما هو واضح - موجهة ضد المطالبين بالعرش في إسبانيا «دون كارلوس»، وفي البورتغال «دون مجويل»، فقويت آمال أنصار الملكة الوالدة، أو الكريستنيين
Cristinos
في إسبانيا، في حين أن هذه المعاهدة أفضت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية مع النمسا وروسيا وبروسيا. ولقد كان بفضل هذه المحالفة أن عاونت الجيوش الإسبانية التي أرسلت إلى البورتغال على هزيمة دون مجويل المطالب بالعرش هناك - وعلى نحو ما سيأتي ذكره في موضعه - أما دون كارلوس الذي عرفنا أنه كان قد اضطر إلى مغادرة البلاد إلى البورتغال في مايو من السنة السابقة (1833)، فإنه قد تمكن من الإفلات إلى لندن على ظهر إحدى السفن البريطانية، بمعاونة الأميرال الإنجليزي الذي كان بأسطوله في مياه البورتغال «نهر التاجوس» لأسباب سيأتي ذكرها عند الكلام عن النزاع الحزبي والعائلي في البورتغال، ولقد تمتع دون كارلوس بقدر كبير من الحرية في لندن، لدرجة أنه استطاع العودة بعد أسابيع قليلة إلى إسبانيا (9 يوليو)؛ ليتزعم أنصاره في الحرب التي قرر الكارليون أن يخوضوا غمارها، يعتمدون في نضالهم على الإمدادات من المال والرجال التي صارت تأتيهم من «الشرعيين» الفرنسيين.
ومع أن وزارة مارتينز دي لاروزا طلبت من حكومتي لندن وباريس المساعدة، فقد رفض بلمرستون التدخل أو إجازة هذا التدخل لفرنسا. ثم إن لويس فيليب بالرغم من ارتباطاته «بالمحالفة الرباعية»، فقد أبدى ميولا ظاهرة نحو تأييد دون كارلوس على أمل إرضاء روسيا والنمسا وبروسيا، فكان كل ما حصل عليه (ماريتنز دي لاروزا) من فرنسا إعارته فرقة جزائرية، ومن إنجلترة السماح له بتأليف فرقة بريطانية، أسدت فيما بعد مساعدات عسكرية هامة، ولعل أكبر ما نجم من آثار من الناحية الإنسانية بسبب وساطة الإنجليز ما صار يعرف باسم اتفاق لورد إليوت
Eliot
نسبة للمبعوث الإنجليزي الذي جعل الأحرار والكارليين يبرمون في 28 أبريل 1835 اتفاقا لتأمين حياة أسرى الحرب، الذين كان حتى هذا الوقت العذاب والموت نصيبهم.
ولقد حدث في هذا الدور ما حال دون تفاقم خطورة الموقف فترة من الوقت على الأقل، وذلك حينما اشترطت الدول الشرقية؛ روسيا، بروسيا، النمسا، لاعترافها بدون كارلوس ملكا على إسبانيا أن يكون للكارليين قواعد عسكرية؛ أي مدن ومراكز محصنة في داخل البلاد. ومع أن الكارليين كانوا يحتلون كل «نافار» والمقاطعات الباسكية (على خليج بسكاي)، إلا أنه لم يكن في حوزتهم مثل هذه القواعد المحصنة، وكان هذا المطلب نفسه هو ما اشترطه المصرفيون الأجانب الذين أراد الكارليون الاستدانة منهم. ثم إن الكارليين أنفسهم والمحيطين بدون كارلوس أرادوا أن تكون لهم قاعدة عسكرية، وعلى ذلك فقد أمر دون كارلوس قائد قواته بالاستيلاء على بلباؤ
Bilbao . فحاصر الكارليون «بلباؤ»، ولكن لم تنقض أيام قليلة على الحصار حتى أصيب قائدهم زومالا كاريجوي
Zumalacarregui
بجرح قاتل في أواخر يونيو، واضطر الكارليون إلى رفع الحصار عن «بلباؤ» في يوليو 1835، وكان يتولى قيادة الأحرار الجنرال إسباراتيرو
Espartero
الذي نال شهرة كبيرة فيما بعد، وكان إرغام الكارليين على رفع الحصار عن بلباؤ أول انتصار هام له، وكان إسباراتيرو جنديا شهد الحرب الإيبيرية أيام السيطرة النابليونية، ثم خدم ضابطا في بيرو (في أمريكا الإسبانية)، ثم تولى الآن قيادة القوات المناصرة للملكة الوصية «كريستينا» ليقودها إلى النصر في الحرب الكارلية في النهاية.
وفي يوليو 1835، استقالت وزارة «مارتينز دي لاروزا» الذي عجز عن تحمل ضغط الراديكاليين والمعتدلين على حكومته، إلى جانب مصاعب الحرب الأهلية (الكارلية)، ولقد امتاز عهد وزارته باستصدار الميثاق والعهد الدستوري المعروف باسم القانون الملكي
Estatuto Real
الذي أذيع في أبريل 1834، والذي كان من نمط العهد أو الميثاق الدستوري الفرنسي الصادر في سنة 1814، وهو «العهد» الذي استندت عليه سياسته. وأهم ما يلاحظ في هذا الميثاق تأكيد أنه منحة من الملك (أو الملكة الإسبانية) للشعب، قد أنكر سيادة الأمة، المبدأ الذي قام عليه دستور 1812. على أن هذا الميثاق اشتمل على إعلان لحقوق الإنسان، كما أنشأ نظاما برلمانيا من مجلسين؛ أحدهما: للشيوخ والآخر: للنواب، وكلاهما يرتهن بقاؤه بإرادة التاج ومشيئته، ولا سلطات لهما سوى حق تقديم العرائض على نحو ما جرى العمل به في مجلس الكورتيز القديم، ولم يرض بطبيعة الحال هذا النظام الدستوري الضيق والمحدود الأحرار الحقيقيين، وسرعان ما حصل الاصطدام بين الوزارة والنواب الراديكاليين في مجلس النواب. ثم إن الوزارة لم تفلح في استرضاء أنصار المتطرفين، عندما كانت إصلاحاتها لا تعدو اتخاذ بعض الإجراءات من نوع ما سبق إنجازه من تشريعات «حرة» خلال 1820-1823؛ لمنع تدخل رجال الدين في شئون السياسة، وضد الطوائف الدينية. وكان الراديكاليون المتطرفون قد أفزعهم أن يبلغ عدد الرهبان في المملكة (حسب إحصاء 1835) واحدا وثلاثين ألفا، وعدد الراهبات اثنين وعشرين ألفا، وأغضبهم أن تؤيد الطوائف الدينية مبادئ «الكارلية» والحكم المطلق. فصح عزم الراديكاليين (الأحرار) المتطرفين على القضاء عليهم، وساعد انتشار وباء الكوليرا في مدريد وقتئذ على ترويج الاتهام ضد الرهبان بأنهم سمموا مياه الشرب، فثارت الاضطرابات في يوليو 1834، وهاجمت الجماهير الأديرة وقتل عدد من الرهبان، وعجزت الحكومة الضعيفة والمترددة عن وقف هذه الحوادث الدامية، وفي الشهور الأولى من سنة 1835 وبعد سقوط وزارة «مارتينز دي لاروزا» استمر قتل الرهبان في المدن، ولم تبطلها إجراءات الوزارة الجديدة، وزارة تورينو (جوزيه ماريا)
Toreno
التي تألفت في يوليو 1835، والتي بادرت بطرد اليسوعيين (الجزويت) وإغلاق الأديرة الصغيرة (التي يقل عدد الرهبان فيها عن اثني عشر راهبا).
على أن الحركة التي بدأت ضد الرهبان سرعان ما انقلبت إلى ثورة ضد الحكومة ذاتها، وهي التي اتصفت بالعجز - وزارة تورينو - ولم يرض المتطرفون الراديكاليون
Exaltoaos
عن «اعتدال» وزارة تورينو مع أنه من التقدميين
، فامتدت الثورة إلى الأقاليم ولم تقدر الحكومة على إخمادها، وكان أثناء هذه الأزمة أن تولى وزارة المالية أحد أولئك الذين كانوا قد تآمروا (بالتعاون مع الماسونيين) على تحريض حامية قادش على العصيان، وتحريك الثورة بها في سنة 1819، وهو منديزا بال
Mendiza bal
الذي كان منفيا في إنجلترة، فوصل إلى مدريد في سبتمبر 1835، وقد صح عزمه على الدفاع عن «النظام الدستوري»، والسير في سياسة أوضح مبادئها في صراحة للملكة وللوزراء معا، وغرضها تهدئة الثورة بتحقيق بعض مطالب الأحزاب الحرة، والعفو والصفح عن العصاة والثوار، وتنظيم بعض فروع الإدارة، وأعلن في برنامجه (14 سبتمبر) عزمه على إعادة الثقة في مالية الحكومة، وإنهاء الحرب بالاعتماد على موارد البلاد وحدها فقط، فنال ثقة البرلمان، واستصدر عددا من القرارات لإصلاح المالية، من أهمها؛ قرار صدر في فبراير 1836 يعرض للبيع أملاك الطوائف الدينية الملغاة، وآخر في مارس يلغي أديرة الرهبان باستثناء عدد قليل منها، ويخفض عدد أديرة الرهبان، ويمكن الحكومة من مصادرة أملاك الأديرة الملغاة.
ولم تلبث أن ظهرت آثار سياسة «منديزا بال» في ناحيتين؛ تطور الحرب الذي أدى إلى تحسن الموقف العسكري في الشمال، بفضل عناية «منديزا بال» بالجيش، وتشجيعه لأنصار الملكة الصغيرة إيزابلا الإيزابليين
Isabelinos ، ثم في دعم الرأي القائل بضرورة العمل من أجل المحافظة على عرش إيزابلا، بين الطبقات الموصوفة بأنها طبقات «محافظة»، وهي التي ابتاعت أملاك الأديرة والكنيسة وبشروط انتفع بها هؤلاء المشترون أكثر مما كانت في صالح الدولة، فصارت بغيتهم رعاية مصالحهم هذه الجديدة وتنميتها بالدفاع عن عرش الملكة «إيزابلا»، والمحافظة عليه ضد أطماع دون كارلوس وادعاءاته، وبذلك يكون «منديزا بال» قد استمال المصالح المادية لتأييد العرش، وصاحبة الحقوق الشرعية عليه.
وأما في الميدان الخارجي، فقد آثر «منديزا بال» أن يكون لبريطانيا نفوذ أكبر في السياسة الإسبانية، فخالف بذلك السياسة التي درج عليها «مارتينز دي لاروزا» و«تورينو» من حيث الرغبة دائما في الاعتماد على النفوذ الفرنسي، بالرغم من عدم نجاحهما في إقناع حكومة لويس فيليب بالتدخل. فنال «منديزا بال» ثقة الحكومة الإنجليزية، وهو الذي إلى جانب أنه تلقى «تربيته السياسية» ببلادها، كان لا ينفك يقيم الدليل من وقت لآخر على تفضيله لنفوذها. فكان من ثمار هذه الخطة الجديدة أن صارت الوزارة البريطانية مستعدة للعمل السياسي مستقلة عن فرنسا، وتبذل قصارى جهدها، ومهما غلا الثمن لمنع تدخل فرنسا وتنفيذ مشروع معزو إلى لويس فيليب لتزويج أحد أبنائه من الملكة إيزابلا، ولقد طرأ انفصام أو انشقاق مؤقت بين الوزير الفرنسي «تيير» والبرنس دي مترنيخ، كادت تحبط بسببه الخطط الإنجليزية - ولو أن هذا الانشقاق كان في صالح إسبانيا - وذلك أن «تيير» أقنع مليكه لويس فيليب بتعديل موقفه من «الكارليين» وتسامحه السابق معهم، وتقوية الفرقة العسكرية الفرنسية (الجزائرية) التي ذكرنا أنه أعارها إلى إسبانيا (في وزارة مارتينز دي لاروزا)، ثم السماح لجيوش الملكة الوالدة والوصية على العرش كريستينا، بالمرور في الأراضي الفرنسية للقيام بحركة التفاف حول قوات الثوار (الكارليين) في الأقاليم الباسكية الشمالية.
ولقد كان في هذه الظروف أن سقطت وزارة «منديزا بال»، واستعلى مرة أخرى نفوذ المعتدلين الأحرار في الحكومة الجديدة ولدى البلاط (15 مايو 1836)، فحل الكورتيز (البرلمان) الذي تألفت الأكثرية به من التقدميين الأحرار
، وأصدرت الوصية على العرش «الملكة الوالدة كريستينا» منشورا عنيف اللهجة ضد «منديزا بال» وأنصاره، وتلصق بهم الاتهامات الكثيرة، الأمر الذي أدى إلى نشوب ثورة جديدة لم تلبث أن شملت كل أجزاء إسبانيا (في شهر أغسطس 1836) - تلك الأجزاء التي لم تكن خاضعة لنفوذ «الكارليين»، وأمام استفحال الثورة وتمرد جنود الحرس الملكي في المكان الذي كانت تقيم به وقتئذ الملكة الوالدة على مسافة ليست بالبعيدة من مدريد، وجدت كريستينا نفسها تحت تهديد العسكر وإطلاق الرصاص على زوجها مانزوس
Munzos
ومن رجال الحرس - الذي اقترنت به بعد ترملها من زوجها السابق فردنند السابع، وجدت نفسها مرغمة على التوقيع في 13 أغسطس على دستور 1812 القديم، واستصدار منشور للعمل «بقانون قادش»؛ أي بهذا الدستور، مع إقناع الكثيرين بأن هذا الدستور لا يمكن إدارته؛ أي تنفيذه، ولقد عزا المعتدلون (وهم المحافظون) هذه الثورات لمؤامرات السفير الإنجليزي لورد كلارندون.
وأفاد الكارليون من الفوضى التي انتشرت في البلاد منذ شهر مايو 1836؛ ليعوضوا خسائرهم في الحرب التي توالت عليهم الهزائم في أثنائها، وليستطيعوا مواصلة القتال على الأقل في الأقاليم الشمالية. كما استمرت رحى الحرب دائرة في فالنسيا وأرغونة وقشتالة وأندالوشيا، ولكن دون الوصول إلى نتيجة حاسمة، واستطاع «إسباراتيرو» أن يرغم الكارليين مرة ثانية على رفع الحصار عن «بلباؤ» التي كانوا عاودوا حصارها، وأحرز عليهم انتصارا باهرا (ديسمبر 1836) لم يجد نفعا في إنهاء الحرب. ولقيت حكومة الملكة الوالدة الوصية وابنتها كل تأييد من جانب الحكومة الإنجليزية التي أقرضتها ما يزيد على نصف مليون جنيه لتغطية نفقات الحرب، في حين اشترك الجنود الإنجليز (الفرقة البريطانية) في القتال الدائر أمام بلباؤ وغيرها. ولقد تلقى دون كارلوس من ناحية أخرى المعونة المالية من الدول الشرقية. وفي سنة 1837 قام «إسباراتيرو» بحملة ناجحة، استولى في أثنائها على أكثر الحصون التي كانت بيد الكارليين.
التقدميون ودستور 1837
كانت الحكومة التي خلفت وزارة «منديزا بال» على أثر الثورة التي ذكرناها، حكومة «تقدمية» تشكلت برئاسة جوزيه ماريا كالاترافا
Calatrava ، الذي تولى فيما مضى زعامة الراديكاليين المتطرفين، والذي صار الآن من التقدميين (المعتدلين)، ويريد إنقاذ الدولة؛ فاتخذ طائفة من الإجراءات الهامة بعضها ضد الكارليين والمناوئين للمبادئ الحرة، فصودرت أملاكهم، والبعض الآخر من أجل مواصلة الحرب بتجنيد الذكور من سن الثامنة عشرة إلى الأربعين، وإرغام الأهلين على الاكتتاب في قرض داخلي قيمته مليونان من الجنيهات، وطائفة ثالثة ذات صبغة اجتماعية بشأن الأملاك العقارية (والأراضي) التي انتقلت ملكيتها إلى النقابات، وتكاثرت في حوزتها، سواء كانت هذه في الأصل أملاكا (أو أراضي) كنسية أو علمانية مدنية، والعمل على إخراجها من أيدي هذه النقابات.
ولما كانت الثورة قد طالبت بدستور 1812، واضطرت الوصية إلى إعلانه، وكان من المتعذر وضع هذا الدستور موضع التنفيذ، فقد دعا «كالاترافا» إلى انعقاد الكورتيز كهيئة تأسيسية لوضع دستور جديد هو الذي صار معروفا باسم دستور 1837، وقد اتفق هذا مع الدستور القديم (1812) في بعض المبادئ التي احتفظ بها مثل الاعتراف بسيادة الأمة، ولكنه اختلف عنه من حيث إنه أنشأ برلمانا من مجلسين؛ أحدهما للنواب والآخر للشيوخ، وكان الغرض من وجود هذا المجلس الأخير أن يكون بمثابة «ضابط» للإشراف على أعمال النواب، وقد تكرر هذا الضمان كذلك في إعطاء التاج حق وقف قرارات السلطة التشريعية وتعطيلها بصورة مطلقة. ثم وضعت بعض القيود لتضييق حقوق الانتخاب، وصار من شروط النيابة في المجلس الشعبي (النواب) دفع ضريبة معينة لم تكن كبيرة القيمة، ومع ذلك فقد كان دستور 1837 يتسم لدرجة ظاهرة بطابع المبادئ الحرة ويبدو فيه التأثر بالآراء «التقدمية»، والدليل على ذلك أن الأعضاء في المجلس الأعلى (مجلس الشيوخ) كانوا بالانتخاب، وأنه كان للكورتيز (بمجلسيه) الحق في الاجتماع من تلقاء نفسه إذا لم يدعه التاج (الملك) للانعقاد قبل أول ديسمبر من كل سنة، وغير ذلك من المبادئ التي استمدها واضعو هذا الدستور من قانون الإصلاح النيابي في إنجلترة لسنة 1832، الأمر الذي يدل على تأثر السياسيين الإسبان بأنظمة الحكم الإنجليزية، وهو تأثر يرجع في أصوله إلى بداية هذا القرن تقريبا؛ وخصوصا عندما لجأ إلى إنجلترة كثيرون من «الأحرار» الذين أرغمتهم الملكية الراجعة في إسبانيا على مغادرة البلاد إلى «المنفى».
ولقي هذا الدستور كل معارضة من جانب المعتدلين (المحافظين)، وكذلك من جانب «المعاندين» الذين أبوا في إصرار الاعتراف به
Doceanistas ، ومع ذلك فقد ظل دستور 1837 زمنا طويلا، الوثيقة أو العهد الذي اتحدت صفوف الأحرار التقدميين في الحرب من أجل المحافظة عليه وتأييده. ثم إنه كان لهذا الدستور أهمية مزدوجة كذلك؛ من حيث إنه أتاح الفرصة لاستمرار المبادئ الدستورية ودعمها، بصورة جعلت متعذرا التنكر لها أو إهمالها بعد ذلك، ثم من حيث إنه قضى على العاطفة التي أحاطت دستور 1812 بهالة من التقديس زمنا طويلا.
وعلى نحو ما كان منتظرا بذل المعتدلون قصارى جهدهم لإيذاء «التقدميين» أصحاب هذا الدستور، ونجحوا في إشاعة روح التمرد في الجيش، حتى إن فريقا من الضباط في الفرق التي تحت قيادة «إسباراتيرو» في مدريد، لم يلبثوا أن تظاهروا ضد الحكومة، فاستقال «كالاترافا»، وتشكلت وزارة جديدة برئاسة «إسباراتيرو» في 18 أغسطس 1837، وكان السبب في وجود جيش إسباراتيرو آنئذ بمدريد، أن جيشين من قوات الكارليين، كانا يزحفان صوب العاصمة. ولقد قامت محاولات من جانب الوصية «كريستينا» للوصول إلى اتفاق مع دون كارلوس على أساس عقد زيجة تجمع فرعي الأسرة المتنازعين على الملك، كانت سببا في وقف دون كارلوس الزحف على مدريد، ثم عندما لم تثمر هذه المفاوضات عن شيء، لم يجد دون كارلوس مناصا من الارتداد إلى المقاطعات الباسكية، يطارده «إسباراتيرو» وغيره من القواد، وكان من أثر هذه الأحداث أن خسر الكارليون قضيتهم من الناحية الأدبية تماما، ومع أن الكارليين استمروا يقومون ببعض عمليات الهجوم المتفرقة في فالنسيا وأرغونة وغيرهما خلال سنة 1838، فقد كان واضحا أن الهزيمة سوف تكون نصيبهم، وفي سنة 1839 تزايدت متاعب الكارليين، ودب الخلاف في صفوفهم، وانقسموا إلى فريقين؛ حزب البلاد من المتعصبين الذين لا يريدون تفاهما أو اتفاقا على «حل وسط» مع الحكومة، وحزب العسكريين الذين وإن أرادوا متابعة القتال كانوا يريدون ضرورة الامتناع عن ارتكاب الفظائع التي نفرت الشعب منهم، ويرغبون في الاتفاق مع خصومهم، وكان يتزعم هؤلاء الجنرال ماروتو
Maroto
الذي لم يلبث أن أبرم اتفاقا مع «إسباراتيرو» في آخر أغسطس 1839 لإنهاء الخلافات والحرب، وعندئذ غادر دون كارلوس - الذي رفض هذا الاتفاق - البلاد إلى فرنسا دون إبداء مقاومة، ولم يلبث أن تبعه إلى فرنسا آخر قواده كابريرا
Cabrera
الذي كان أبقى الحرب دائرة بضعة شهور أخرى في أرغونة وفالنسيا، ثم لحقت به الهزائم وأرغم - الآن - على اجتياز الحدود مع عديدين من أتباعه في 6 يونيو 1840، وبذلك أسدل الستار على الحرب الكارلية (الأهلية) التي استمرت سبع سنوات تقريبا.
انتهاء وصاية كريستينا
وحينما كانت تسير الحوادث لتصفية الحرب الكارلية، كان قد أمكن على غير انتظار الوصول إلى حل يحسم النزاع الدائر في صفوف الأحرار بين المعتدلين والتقدميين وفي صالح هؤلاء الأخيرين، فقد استطاع المعتدلون بفضل سيطرتهم على الموقف أن ينالوا موافقة الكورتيز في سنة 1840 على مشروع يجرد المجالس البلدية من أكثر اختصاصاتها التي كانت تكفل لها استقلالها سياسيا وإداريا، ويخضعها لإشراف الحكومة المركزية، وكان هذا المشروع يلقى معارضة شديدة من جانب التقدميين، فلما أجازته الأكثرية «المعتدلة» في مجلس الكورتيز، صار ضروريا الحصول على تصديق الوصية على العرش ليصبح قانونا، ولكن هذه كانت تريد استمالة «إسباراتيرو» وتدبر انقلابا لإلغاء دستور 1837، وعجزت كريستينا عن استمالة «إسباراتيرو» الذي كان قد زاد تعلق الجماهير به بعد الاتفاق الذي أبرمه لإنهاء الحرب الكارلية، والذي كان قد أعلن تمسكه بدستور 1837 واحترامه له، ثم تبين للملكة الوصية أن أكثرية الشعب نفسه لا تقبل قانون البلديات، ورفض «إسباراتيرو» أن ينفذ مأرب المعتدلين، فنصح للملكة الوصية بعدم التصديق على هذا القانون، ووعدت هذه بأن لا تقبل ذلك، ولكنها لم تلبث أن صدقت على القانون بعد قليل؛ فقامت الثورة في برشلونة (18 يوليو 1840)، وعمدت كريستينا من أجل تهدئة الشعب وتسكينه، وبموافقة «إسباراتيرو» إلى تشكيل وزارة من التقدميين، ولكنها لم تلبث أن استبدلت بها وزارة أخرى من المعتدلين، بمجرد انتقال البلاط إلى فالنسيا، وعندئذ قامت الثورة من جديد في مدريد، ثم امتدت إلى الأقاليم. واضطرت كريستينا إلى تأليف وزارة جديدة أشرف الثوريون على اختيار أعضائها، وتولى «إسباراتيرو» رياستها.
وهكذا لاحقت الإهانات الملكة الوصية، فهي قد فرض عليها فرضا تأليف هذه الوزارة الأخيرة التي اتخذت لها برنامجا «تقدميا»، وهي قد تعرضت كذلك لحملة عنيفة من التشهير؛ بسبب صدور كتيب من المرجح أن صاحبه صحفي يدعى جونزاليس برافو
Gonzalez Bravo
يشهر بزواج الوصية على العرش من أحد رجال الحرس، وكانت كريستينا قد تكتمت زواجها الثاني حتى لا تفقد الوصاية. فبلغ من دقة الموقف وحروجته أن الملكة الوصية لم تجد مخرجا من الأزمة إلا بالتنازل عن الوصاية. وفي 12 أكتوبر 1840 تنازلت كريستينا عن الوصاية، وعزت هذا التنازل في خطاب - عهدت فيه كذلك إلى الكورتيز بتسمية وصي آخر على العرش - إلى خلاف في الرأي بينها وبين الحكومة بشأن عدد من الإصلاحات السياسية المعينة، وخصوصا قانون البلديات.
وبذلك تكون قد انتهت وصاية كريستينا التي بدأ عهدها والآمال الكبيرة معقودة عليها، ثم لم تلبث أن تبددت هذه الآمال بسبب اعتمادها على «المعتدلين» وتقبل النصح منهم من غير تفكير أو روية لثقتها العمياء فيهم، ثم بسبب أنه لم يكن من طبائعها الإخلاص في النية، والابتعاد عن الدس والمؤامرة.
والعهد الذي بدأ الآن، وبعد اعتزال كريستينا الوصاية في أكتوبر 1840، يتميز بأنه عهد «التقدميين» الذي بلغت فيه سياسة هؤلاء ذروتها، وهي تتبع الخطوط الرئيسية التي رسمها أحرار 1820، وأحرار 1836، كما يتميز بأنه العهد الذي تمتع فيه الجنرال إسباراتيرو بشعبية عظيمة، فجاءت حكومته المثل الذي اقتدت به في الأزمنة التالية في إسبانيا كل تلك الحكومات التي من طرازها؛ أي التي صار يتولى إدارتها قواد عسكريون. أضف إلى هذا أنه كان في هذا العهد «التقدمي» أن صارت تبدو بوضوح كل تلك الميول والاتجاهات الجديدة التي كانت قد نبتت، ثم أخذت تتفاعل في الرأي العام من مدة طويلة، إلا أنها لم تكن قوية بالدرجة التي تتشكل بها في صورة مقاومة عنيفة، ونعني بذلك الآراء الجمهورية التي تألف تدريجيا حزب يدين بها، ثم أفضت إلى تحريك ثورة مخيفة في برشلونة في سنة 1842، ولقد كانت هذه الثورة أحد الأخطار التي تعرضت لها حكومة الجنرال «إسباراتيرو»، وفي هذه الثورة اختلطت الأغراض الجمهورية بالمصالح المحلية الإقليمية عندما شعر الصناع بالعنت والإرهاق الشديد بسبب نشاط أحد ضباط الجمارك - من الذين وضع «إسباراتيرو» ثقته فيهم - في تعقب المهربين، والقضاء على التهريب. فلم يمكن القضاء على هذه الثورة إلا بعد حضور «إسباراتيرو» نفسه، وإطلاق المدافع على برشلونة (ديسمبر 1842).
انتهاء سيطرة التقدميين
واستمرت حكومة «إسباراتيرو» من أكتوبر 1840 إلى نهاية يونيو 1843، وكان تاريخها مجرد سجل لكفاح هذه الحكومة «التقدمية» ضد المعتدلين تارة، وضد الوصية السابقة «كريستينا» وأنصارها تارة ثانية، وضد الأحرار عموما الذين لم يرضوا عن حكومة إسباراتيرو، أو حقدوا عليه هو نفسه لاستعلاء نفوذه. أما المعارضة «الكريستينية» فقد تبدت في منشور صدر من مرسيليا في 8 نوفمبر 1840 ينحى باللائمة على الحكومة التقدمية، ويحمل احتجاج كريستينا ضد إرغامها على التنازل عن الوصاية، وكان لهذا المنشور أثر كبير في إثارة المعارضة وتقويتها؛ إذ استند عليه كل أعداء «إسباراتيرو» في الإمعان في خصومتهم له، واتخذت منه الحكومات الأوروبية ذريعة لمناصبة حكومة «إسباراتيرو» العداء. فلم يشذ عن ذلك سوى الحكومة الإنجليزية التي ظلت تؤيده على طول الخط، ولما كان ضروريا تعيين وصي على العرش لعدم بلوغ إيزابلا سن الرشد، فقد سماه الكورتيز وصيا على العرش في (8 مايو 1841)، وأفقده هذا التعيين مناصرة أولئك الذين كانوا يريدون وصاية ثلاثية؛ أي من ثلاثة أوصياء، ثم إن الملكة الوالدة كريستينا لم تلبث أن احتجت على تعيين قيم على ابنتها، بدعوى أن استمرار القوامة على ابنتها حق من حقوقها الشرعية، وكانت كريستينا قد جعلت إقامتها في فرنسا، يحيط بها «المعتدلون»، ومن هناك راحت تشجع المؤامرات، وتضع خطط الانقلابات، مما أدى إلى قيام الاضطرابات في بامبيلونا
(2 أكتوبر) ومدريد (7 أكتوبر) بزعامة بعض القواد الذين حاولوا القبض على الملكة «إيزابلا» لتحريرها - كما قالوا - من الحبس أو الأسر الذي وضعها فيه «الإسباراتيريون»، وبالرغم من إخفاق هاتين المحاولتين، فقد تجددت الاضطرابات في السنة التالية (1843)، وأيد جماعة من الأحرار المتذمرين الحركة الثورية، كما تمرد قسم من الجيش، وقاد الثورة خصوم الوصي على العرش «إسباراتيرو». ثم لم تلبث أن انتشرت الثورة، وانفض معظم الجنود من حول «إسباراتيرو»، وعندئذ اضطر «إسباراتيرو» إلى الهرب، فأبحر إلى إنجلترة في 30 يونيو 1843.
وبمغادرة إسباراتيرو البلاد وزوال حكومته انتهى عهد «الوصاية»، وانتهى بانتهائها كذلك عهد سيطرة التقدميين. فمع أن فريقا من هؤلاء كانوا قد انضموا إلى الثورة - المضادة - ضد حكومة إسباراتيرو التقدمية، وانتظروا أن يجنوا شيئا من ثمار هذه الثورة المضادة ، وعين المعتدلون فعلا أحد هؤلاء التقدميين في وزارتهم الأولى، فإن المعتدلين سرعان ما تخلصوا من التقدميين، وانفردوا بالحكم.
وكان زعيم المعتدلين الجنرال نارفائز
Narvaez
ديكتاتورا بطبعه، يبطش بأعدائه ومخالفيه في الرأي في عنف وقسوة، وعلى ذلك ففي أثناء سيطرة المعتدلين (من 1843 إلى 1845) ما عتمت أن ألغيت كل الإصلاحات التي تمت في عهد التقدميين، ثم ألغي دستور 1837، الذي استعيض عنه بدستور آخر في 23 مايو 1845، كان في صميمه ميثاقا يستند من الناحية النظرية إلى المبادئ التي تربط بين الأمة والعرش، ولو أنه ينفي مبدأ سيادة الأمة؛ إذ قد حذف «المقدمة» التي اعترفت في دستور 1837 بهذا المبدأ، في حين أنه جاء يؤيد سلطان الملكية تأييدا كاملا، وذلك أنه جعل من حق التاج تعيين أعضاء مجلس الشيوخ لمدى الحياة وبالعدد الذي يريده، وجرد مجلس الكورتيز (البرلمان) من حق الاجتماع تلقائيا على نحو ما كان يقره دستور 1837. أضف إلى هذا أن الدستور الجديد منع اتباع نظام المحلفين في محاكمة الصحفيين على ما قد يرتكبونه من مخالفات أو جرائم، إلى غير ذلك من التفاصيل التي صبغت هذا الدستور بصبغة رجعية.
ولقد بلغت الرجعية - رجعية المعتدلين (أو المحافظين) حدا بعيدا باستصدار «قانون التربية والتعليم» لسنة 1845، وهو قانون ألغى استقلال الجامعات القديم، ولو أنه أبقى بعض الشيء على التقاليد القديمة ضد الكهنوتية، وذلك أنه بالرغم من إلغاء كثير من القوانين الصادرة منذ 1836 ضد الكنيسة واستئناف العلاقات مع البابوية، فقد رفض المعتدلون رفضا باتا إعادة الأديرة. وينهض دليلا على انتشار التسامح في إسبانيا وقتئذ أن ضغطا ما لم يحدث لوقف التبشير للبروتستانتية التي كانت قد نشطت أيام حكومة التقدميين، وذلك بالرغم من انتصار المبادئ «المعتدلة».
مسألة الزواج الإسباني
وهكذا شهد هذا العهد الطويل في تاريخ إسبانيا صراعا عنيفا بين الملكية الراجعة وأنصار الحكم المطلق في جانب، وبين الأحرار الذين استندوا في نضالهم على المبادئ التي جاء بها دستور 1812، ثم دستور 1837، والذين انقسموا فيما بينهم إلى شيع وأحزاب؛ راديكالية متطرفة، وتقدمية، ومعتدلة (محافظة)، ثم رجحت كفة هؤلاء الأخيرين فاستصدروا دستورا «محافظا » - أو رجعيا - في سنة 1845 في جانب آخر، ولم يكن هذا الصراع - كما شاهدنا - «دستوريا» محضا، بل اختلط به صراع من نوع آخر مبعثه التنازع على العرش بين أعضاء البيت المالك (وهم من البربون)، ثم تدخلت الدول الأوروبية في أثنائه؛ إما لتأييد الحركات والثورات الرجعية، التي يدين زعماؤها بمبادئ الحكم المطلق، على نحو ما فعلت الدول الشرقية؛ النمسا، وبروسيا، وروسيا، وتارة فرنسا أثناء الحرب الكارلية وقبلها وبعدها، وإما لتأييد الأحرار عموما، الذين يريدون حكما دستوريا على كل الأحوال، سواء كان هؤلاء من التقدميين أو المعتدلين (المحافظين) على نحو ما فعلت إنجلترة ثم فرنسا تارة أخرى.
على أن الذي صار يستلفت النظر في نهاية هذا العهد أن مشكلة التنازع العائلي على وراثة العرش في إسبانيا، لم تلبث أن اتخذت مظهرا جديدا عندما تنازل دون كارلوس عن «حقوقه» أو ادعاءاته على عرش إسبانيا إلى ولده كونت مونتمولان
Montemolin
في 15 مايو 1845، وتحديد مشروع زواج هذا الأخير من الملكة إيزابلا، وهو مشروع الزواج الذي تناولته المفاوضات بين الملكة الوصية كريستينا ودون كارلوس سنة 1837، على نحو ما سبق ذكره. أما دونا إيزابلا، فقد أعلن أنها بلغت سن الرشد (وهي لا تزال في الثالثة عشرة من عمرها) في نوفمبر 1843، بالرغم من مخالفة هذا الإجراء للدستور، ولقد أبرز هذا المشروع مسألة الزواج الإسباني ليس كموضوع عائلي داخلي من شأن الأسرة المالكة الإسبانية الفصل فيه وحدها فقط، بل كمشكلة دولية.
فقد كان زواج الملكة إيزابلا من الموضوعات التي جرى البحث فيها بين حكومتي لندن وباريس من مدة سابقة، وأبدت الملكة الوالدة والوصية على العرش «كريستينا» استعدادها لتزويج ابنتيها دونا إيزابلا (الملكة القاصر) وشقيقتها ماريا لويزا فرنندا
Fernanda
من ولدي الملك الفرنسي لويس فيليب، وهما دوق دومال
D’Aumale
ودوق دي مونتبانسيه
Montpensier ، كثمن للمساعدة التي سوف تسديها فرنسا من أجل إسقاط حكومة إسباراتيرو، وفي الوقت نفسه كانت الحكومة الإنجليزية ترشح ليوبولد أمير ساكس كوبرج (الذي صار ملكا للبلجيك) ويمت بصلة القرابة لملكة بريطانيا وزوجها ألبرت
Albert (أمير ساكس كوبرج) - للزواج من إيزابلا الإسبانية، ولكن الحكومة الإنجليزية سحبت هذا الترشيح في نظير تنازل الفرنسيين عن مشروعهم، ولقد تجدد بالرغم من ذلك المشروع الفرنسي في عهد وزارة جيزو بعد إدخال تعديل عليه من شأنه إرجاء زواج إيزابلا، والإسراع بعقد زواج ولية العهد ماريا لويزا فرنندا من مونتبانسيه، وعارض بلمرستون هذه الزيجة التي تمهد لتولي مونتبانسيه الحكم إلى جانب زوجه الملكة إذا حدث أن توفيت إيزابلا دون أن يكون لها وارث للعرش، وعندئذ زارت الملكة فكتوريا وزوجها البرنس ألبرت، الملك لويس فيليب في فرنسا في غضون سنة 1842، وتم الاتفاق بين الفريقين على أن تمنع الحكومة الإنجليزية من تأييد أي أمير مرشح للعرش الإسباني ليس من فرع أسرة بربون الإسبانية؛ على أن يكون لدوق دي مونتبانسيه الحق - إذا شاء - في الزواج من ماريا لويزا فرنندا بعد أن يتأكد استقرار نظام وراثة العرش عند انتهاء عهد الوصاية، وكانت حكومة لويس فيليب تبذل قصارى جهدها لاستمالة الحكومة الإنجليزية إلى الامتناع من تأييد قضية الأحرار الإسبانيين، وتلك مهمة سهل أمرها بعد تأليف وزارة السير روبرت بيل
(1841-1846) في إنجلترة. ثم جاء زواج دوق دومال من أميرة أخرى في سنة 1844 دليلا على أن الحكومة الفرنسية تعني التمسك بالاتفاق المبرم حديثا.
وبينما كانت تجرى المفاوضات بين الحكومتين الإنجليزية والفرنسية بشأن الزواج الإسباني، كان هذا الزواج قد أصبح مسألة حربية في داخل إسبانيا، ثم إن ترشيح كونت مونتمولان للزواج من إيزابلا لم يلبث أن نال تأييد الحكومتين النمساوية والبروسية، ومنذ أن تنازل دون كارلوس عن حقوقه لولده صار «مونتمولان» زعيم الجماعة «الكارلية» وعرفه الكارليون من الآن فصاعدا باسم «كارلوس السادس». وأما مرشح حزب الأحرار فكان دون إنريك «هنري»
Enrique
دوق إشبيلية والابن الأكبر لكارلوتا شقيقة كريستينا، وترضى الملكة إيزابلا نفسها به زوجا لها، ولو أن فرصة زواجه من الملكة كانت ضئيلة بسبب آرائه الراديكالية. ثم إن هناك مرشحا آخر، أرادته الوصية السابقة «كريستينا» زوجا لابنتها هو الكونت تراباني
Trapani ، وكان أبله يبلغ السادسة عشرة من عمره، تعهد «نارفائز» بالموافقة عليه حتى لا يصطدم مع الملكة الوالدة، ولكن كريستينا في أوائل 1846 صارت تشك في أن نارفائز بالرغم من تظاهره إنما كان يتآمر سرا ضد ترشيح «تراباني»، وكانت كريستينا محقة في شكوكها، وعلى ذلك فقد تآمرت هي الأخرى على إسقاط وزارته (11 فبراير 1846)، بالرغم من الأكثرية التي كانت لها في الكورتيز، وبالرغم من غضب هؤلاء لإسقاط وزارته.
وتعاقبت الوزارات، وتزايدت الانقسامات الداخلية، وتدخلت الحكومة الفرنسية (وزارة جيزو) لتنفيذ مشروع الزواج الفرنسي ؛ أي ما تبقى منه، بزواج ماريا لويزا فرنندا من دوق دي مونتبانسيه، وتدخلت الحكومة الإنجليزية، ووزيرها في مدريد السير هنري بلور
Bulwer
لتأييد «التقدميين» الذين ناصروا دون أنريك دوق أشبيلية، وأخيرا تنازلت الملكة الوالدة عن ترشيحها للكونت تراباني، واتفقت مع لويس فيليب على إنجاز مشروع الزواج الفرنسي بكل سرعة، فيتزوج دون فرنسيسكو دي أسيس
de Asis
شقيق دوق أشبيلية الأصغر من الملكة إيزابلا، على أن يتزوج ولية العهد «ماريا لويزا فرنندا» من دوق مونتبانسيه في الوقت نفسه.
وواضح أن هذا الاتفاق الذي أبرم بين كريستينا والسفير الفرنسي في مدريد كونت دي بريسون
Bresson
أثناء غيبة الوزير الإنجليزي «بلور» المؤقتة، كان خرقا للاتفاق الذي تم بين لويس فيليب والملكة فيكتوريا وزوجها البرنس ألبرت (سنة 1843)، واعتمد جيزو في دفع احتجاجات واعتراضات الحكومة الإنجليزية، على أن الحكومة الإنجليزية إنما وافقت فقط على ألا تتزوج الملكة أو ولية العهد من غير أعضاء أسرة بربون، وكلا المرشحين للزواج منهما من هذه الأسرة، ثم إن الاتفاق السابق نفسه لم يعد ملزما لفرنسا؛ لأن بلمرستون - أي الحكومة الإنجليزية - قد خرقت نفسها هذا الاتفاق - كما قال جيزو - بمؤازرتها لترشيح ليوبولد أمير ساكس كوبرج، وذلك بالرغم من أن بلمرستون ظل مترددا في الحقيقة بين ترشيح هذا الأمير أو ترشيح دوق أشبيلية، وهكذا تم عقد هذه الزيجة المزدوجة في 10 أكتوبر 1846 (يوم بلوغ الملكة إيزابلا سن السادسة عشرة).
ولما كان فرنسيسكو دي أسيس رجلا ضعيف البنية ومن غير المتوقع أن ينجب وارثا للعرش، وذلك ما جعل ترشيحه مقبولا من لويس فيليب وكريستينا، فقد كان من المنتظر أن ترث العرش ماريا لويزا فرنندا، ويمارس مونتبانسيه سلطات الحكم بوصفه زوجها، وبذلك يستعلي نفوذ فرنسا فيما وراء جبال البرانس، ولقد اعتبر هذا الزواج هزيمة دبلوماسية لإنجلترة، وبذلك فقد عمدت الحكومة الإنجليزية إلى الانتقام لهذه الهزيمة بتحريض «المعارضة» في إسبانيا وتقويتها ضد الحكومة.
وشهدت البلاد فترة من الاضطرابات الداخلية التي زاد من حدتها توالي تأليف الوزارات واشتداد النزاعات الحزبية داخل الكورتيز بين المحافظين والراديكاليين، والأحرار المعتدلين، وقيام الثورات - الصغيرة - من وقت لآخر وفي أماكن متفرقة، وتوتر العلاقات بين الملكة وزوجها، والتفاف الرجعيين حول هذا الأخير الذي أراد الاستفادة من العار الذي لحق بزوجته لخيانتها عهود الزوجية، وتدخل الملكة الوالدة «كريستينا» في أثناء ذلك كله لمحاولة تشكيل الوزارات التي ترضى هي عنها، وانتشار التذمر السياسي في البلاد، وانحياز الأحرار إلى جانب إيزابلا، والمحافظين إلى جانب زوجها، وقيام الكارليين بالثورة في قطالونيا.
الموقف سنة 1848
ومنذ سنة 1846 كانت الثورة قد قامت في البورتغال لأسباب سيأتي ذكرها في موضعها، وطلبت الحكومة البورتغالية تدخل الدول لقمعها، فاشتركت إسبانيا «مع إنجلترة» في محاولة إخضاع هذه الثورة، وزحفت الجيوش الإسبانية بالاشتراك مع قوات بريطانية على «أوبرتو» التي كانت مقر مجلس الثورة البورتغالي، وساعد أسطول إنجليزي وقف على حصارها على إخماد الثورة، فسلمت أوبرتو في يونيو 1847، وعندئذ تفرغت الحكومة الإسبانية لإرسال قواتها لمكافحة الثوار «الكارلين» في قطالونيا.
وكان أثناء هذه الحوادث أن قامت ثورة 24 فبراير 1848 في باريس، التي أطاحت بحكومة لويس فيليب، وأقامت الجمهورية (المؤقتة) في فرنسا؛ فشجع هذا النجاح الثوريين في إسبانيا على القيام بالثورة في مدريد (26 مارس)، ولكن هذه لم تكن ثورة خطيرة قضت عليها الحكومة دون عناء، ثم قامت ثورة أخرى في مدريد (7 مايو) قضت عليها الحكومة كذلك، ثم تبعتها ثورة نشبت في أشبيلية (13 مايو)، واتهمت الحكومة الإسبانية الوزير الإنجليزي «سير هنري بلور»، إما بتدبير هذه الثورات، وإما بتشجيع المحرضين عليها، فطرده «نارفائز» الذي كان وقتئذ يتولى رئاسة الوزارة (منذ أكتوبر 1847)، ومع أن وزارة نارفائز كانت تواجهها صعوبات عديدة، فقد استطاعت القضاء على هذه الحركات الثورية التي ذكرناها، وهكذا مرت العاصفة التي أثارتها ثورة 24 فبراير في باريس، والتي هزت عروشا أخرى في أوروبا دون أن يلحق أي أذى بالعرش في إسبانيا.
ولقد تولى نارفائز في السنوات التالية رئاسة الوزارة مرات أربع، من 1847-1851، ثم من 1856-1857، من 1864-1865، ومن 1866-1868، ولقد كان رئيس الوزارة في المرات التي غاب فيها نارفائز عن الحكم عسكريا آخر هو القائد ليبولد أودونل
O’Donnell ، وكلاهما من جماعة المعتدلين (أي المحافظين الأحرار)، ولو أن الأخير كان يميل إلى التقدمية، وكلاهما كان شديد الولاء للعرش والتاج ولأسرة بربون الحاكمة. فكان بفضل الثورة - المتمثلة في الجيش - وبفضل ولاء هذين القائدين لها أن استطاعت إيزابلا البقاء على العرش كل هذه المدة، ولكن وفاة «نارفائز» في مارس 1868 جاءت نذيرا بدنو ساعتها، فقد نشبت الثورة في قادش، وتمرد بها الأسطول (في 9 سبتمبر 1868)، وعجزت إيزابلا عن قمع هذه الثورة، فعبرت الحدود مع زوجها وابنها وعشيقها إلى فرنسا (حيث عاشت بها إلى أن توفيت سنة 1904). غير أن هذه الحوادث كلها إنما هي جزء من تاريخ العهود التالية. ويكفي القول الآن أن كل هذا الصراع الطويل بين الأحرار ومؤيدي الحكم المطلق قد انتهى في سنة 1848، بتغلب المحافظين (المعتدلين) أنصار الملكية الذين وإن وضعوا للملكية نظاما دستوريا (دستور 1845) فقد أبقوا للتاج سلطات فعلية واسعة، وأنشئوا الحكومات العسكرية التي يتولاها القواد العسكريون، وكانوا بذلك مبتدعي هذا الطراز من الحكومات الذي استمرت تشهده إسبانيا من حوالي منتصف القرن التاسع عشر إلى الوقت الحاضر. (2) البورتغال: الكفاح بين «الرجعية» و«الدستورية» في البورتغال
وكان الذي أوجد أصلا «المشكلة البورتغالية» حصول الاعتداء النابليوني عليها عندما أرسل الإمبراطور الفرنسي جيوشه إلى شبه جزيرة إيبريا لإدخالها مرغمة في نظام الحصار القاري، فزحف الفرنسيون بقيادة الجنرال جونو إلى البورتغال (1807)، وفر الوصي على العرش وهو فيما بعد الملك يوحنا السادس مع أسرته والملكة ماريا الأولى والدته، وكانت مصابة بالجنون؛ من لشبونة إلى ريو دي جانيرو عاصمة البرازيل أكبر المستعمرات البورتغالية (29 نوفمبر 1807)، وفي اليوم التالي دخل جونو إلى لشبونة.
عهد الوصاية في البورتغال
وكان يوحنا قبل مغادرته البورتغال قد أقام مجلسا للوصاية، خضع لنفوذ الإنجليز الذين مارسوا بصورة عملية كل سلطات التاج التنفيذية عن طريق هذا المجلس، ومرت البورتغال بتجربة قاسية في عهد هذه الوصاية التي عزا الشعب المتذمر إلى مشورة الدبلوماسي الإنجليزي السير شارلس ستيوارت، و«نفوذ» القائد العام للجيش «المارشال بيرسفور
Beresford » كل المتاعب التي يشكو منها نتيجة لحالة الفقر والبؤس التي تئن البلاد منها عموما، وثقل الضرائب التي أرهقت الأهلين، وكان مجلس الوصاية قد طلب من الإنجليز (في فبراير 1809) إرسال رئيس إنجليزي ليتولى قيادة الجيش العامة في البورتغال، وصار بيرسفورد هو الحاكم الحقيقي للبلاد.
واشتد سخط البورتغاليين لتغيب الملك «يوحنا السادس» في البرازيل، وحز في نفوسهم أن لشبونة لم تعد قصبة المملكة، ومقر بلاط الملك، وأن تكون حكومتهم «وصاية» تتبع قانونا ما يتقرر في مستعمرة من مستعمراتهم، وأن تخضع حكومة هذه «الوصاية» لنفوذ الإنجليز الأجنبي، وذلك وضع لم يتغير بعد انهيار الإمبراطورية النابليونية في أوروبا. الأمر الذي كان يجب أن يجعل ممكنا إقناع الملك يوحنا بالعودة إلى عاصمة ملكه في البورتغال، وكان يوحنا بعد رحيله إلى البرازيل قد اعتلى العرش بعد وفاة والدته الملكة ماري الأولى في ريو دي جانيرو في 16 يناير 1816، فأعلن اعتلاءه عرش البورتغال والبرازيل والغرب
Algarves
في 20 مارس من السنة نفسها باسم الملك يوحنا السادس. وأغضب البورتغاليين رفع البرازيل إلى مرتبة المملكة على هذه الصورة، ولقد صار الملك يوحنا يخشى من ناحية أخرى إذا هو غادر البرازيل، أن يعلن البرازيليون استقلال الدولة الجديدة.
وتضافرت عوامل جديدة على انتشار التذمر والغضب في البورتغال من حكومة «الوصاية» الخاضعة للإنجليز، والسخط عليها. فقد بقي المارشال بيرسفورد بالبلاد بعد سنة 1814، وبنت حكومة الوصاية أو بالأحرى «حكومة» بيرسفورد سياستها على أساس من الاستبدادية الصارمة، وسلك بيرسفورد نفسه وهيئة أركان حربه من الضباط الإنجليز مسلكا يتسم بالعجرفة وعدم الاحترام في علاقاتهم، خصوصا مع العسكريين والضباط البورتغاليين الذين سرعان ما انضم عديدون منهم إلى الجمعيات السرية المتآمرة على النظام القائم، ووجدت هذه المعارضة المتزايدة متنفسا لها في قيام حركة ثورية صغيرة في سنة 1818 بقيادة أحد القواد البورتغاليين «أندرادا»،
1
كان سبق أن خدم تحت قيادة نابليون، ومعروف بميوله الفرنسية، ولكن بيرسفورد قضى على هذه الحركة في صرامة متناهية، أضافت سببا جديدا من أسباب التذمر ضد الحكومة القائمة.
ثورة 1820 وآثارها
غير أن الفرصة لم تلبث أن سنحت لقيام ثورة جديدة كان لها شأن آخر هذه المرة، وذلك على أثر انتشار الثورة العسكرية في إسبانيا في حامية قادش في يناير 1820، وهي الثورة التي عرفنا - عند الكلام عن الاتحاد الأوروبي - أنها امتدت إلى مقاطعات عدة في إسبانيا، وبصورة سيأتي كذلك الكلام عنها مفصلا في موضعه. فقامت الثورة حينئذ في «أوبرتو» يوم 24 أغسطس 1820 يتزعمها جماعة من كبار الضباط في حاميتها، ثم اشتعلت الثورة في لشبونة يوم 29 أغسطس، وكان مارشال بيرسفورد وقتئذ متغيبا عن البلاد؛ لأنه كان قد أبحر إلى البرازيل قبل ذلك، وفي اللحظة التي كانت الثورة قد نجحت فيها في مدريد بإسبانيا، وذلك - ولا شك - كان خطأ كبيرا من ناحيته. فأسقط في يد مجلس الوصاية الذي عجز عن مقاومة الثوار «العسكريين» الذين ما لبثوا أن اتحدوا فيما بينهم، وأقاموا مجلسا عسكريا لقيادة الثورة جونتا
Junta
فأذعن مجلس الوصاية لمطالبهم: وضع دستور من نمط الدستور الإسباني المشهور لسنة 1812، ومن المعروف أنه لدرجة كبيرة صورة من دستور الثورة الفرنسية الصادر في سنة 1791. ثم طرد الضباط الإنجليز وعلى رأسهم لورد بيرسفورد من خدمة الجيش البورتغالي، ودعي مجلس الكورتيز للانعقاد بعد أن ظل معطلا مدة تزيد على قرن من الزمان لوضع الدستور الجديد، أما هذا الدستور عند إنجازه بعد ذلك (1822)، فقد قضى على كل بقايا الإقطاع، كما ألغيت بفضله محكمة التفتيش، وتقررت المساواة لجميع الأفراد أمام القانون، وصار للمواطنين الحق في الالتحاق بالوظائف العمومية دون تمييز، كما أعلنت حرية الصحافة، ثم انحصرت السلطات التشريعية والإدارية (التنفيذية) في مجلس واحد، من أعضاء يختارون بالانتخاب، وأعطي الملك حق الاعتراض المؤقت وحسب على قرارات المجلس.
البرازيل ووصاية دون بدرو
وكان لكل هذه الحوادث وقع عميق الأثر في البرازيل؛ حيث أيد البرازيليون والمهاجرون من البورتغال قضية الدستور في «الوطن الأم »، ولو أن الملك «يوحنا السادس» نفسه ظل متحيرا في أمره، أي الطرق يسلك؛ الاعتراف بالدستور، وذلك ما كان يذهب إليه فريق من أفراد أسرته بزعامة دون بدرو ولي العهد، أم مقاومة الدستور والتمسك بأهداب السلطة المطلقة، وذلك ما كان يريده الرجعيون وعلى رأسهم الملكة كارلوثا جواكينا
Joaguina ، وكانت هذه سيئة السمعة وصاحبة دسائس، ظلت سنوات طويلة تتآمر ضد زوجها، ويؤيدها في أطماعها ابنها الأصغر دون ميجويل. ولقد انتهى هذا الصراع بين الفريقين بانتصار الفريق الأول، فصدر بيان في 18 فبراير 1821 عن عزم الملك إرسال دون بدرو إلى البورتغال ليتفاوض مع الكورتيز هناك، وكذلك ببعض أجزاء الدستور للعمل بها في البرازيل في الوقت نفسه؛ فثارت ثائرة الرجعيين الذين انضم إليهم العسكريون، وأثاروا القلاقل في ريودي جانيرو، ولكن سرعان ما أخمد دون بدرو هذه الاضطرابات بتدخله الشخصي، وقرأ على الملأ قرارا من الملك يتضمن اعترافه بالدستور الذي يضعه مجلس الكورتيز في البورتغال. فكان بفضل هذا الإعلان أن انتقلت البورتغال التي ظلت حتى هذا التاريخ ملكية مطلقة، إلى دولة يسودها النظام الملكي الدستوري.
ومع ذلك فإن الاعتراف (الذي حصل) من جانب يوحنا السادس، وأعلنه دون بدرو بالدستور في البورتغال، وذلك قبل أن يتم الكورتيز وضعه نهائيا وتتضح المبادئ التي يقوم عليها، كان إجراء أقل ما يوصف به أنه لا يصدر من ملك يحترم نفسه إلا إذا وجد أنه واقع تحت ضغط تهديدات قوية، ولقد وجد البرازيليون بعد ذلك أن هذا الدستور عندما أتمه الكورتيز لم يكن يكفل حقوق البرازيليين ومصالحهم، فلم يرتاحوا إليه أبدا.
وكان في هذه الظروف إذن أن اضطر الملك تحت ضغط الرأي العام الشديد في البورتغال والبرازيل على السواء، وإلحاح الحكومة الإنجليزية؛ إلى تقرير العودة إلى لشبونة، فاستصدر مرسوما في 22 أبريل 1821 بتعيين دون بدرو وصيا وقائممقام في البرازيل، ثم غادر البلاد بعد أربعة أيام، وبصحبة حاشية عديدة من النبلاء البورتغاليين وغيرهم، بلغت حوالي ثلاثة آلاف، في حين قويت الإشاعات أنه يحمل معه مبالغ طائلة، وحينئذ اقترن رحيله بقيام المظاهرات الصاخبة التي أمكن تفريقها دون حوادث دامية، وتسلم دون بدرو زمام الحكم في بلد يسود التذمر أهله، ويعاني إفلاسا حقيقيا.
وأخفق مجلس الكورتيز في البورتغال في معالجة الموقف بحكمة؛ بل إنه اتخذ من الخطوات ما مهد لانفصال البرازيل عن البورتغال، وإعلان استقلالها كدولة صاحبة سيادة، إذ لم ينتظر الكورتيز الذي ذكرنا أنه دعي للانعقاد لوضع الدستور، مجيء النواب المنتخبين (بالفتح) في البرازيل؛ لينضموا لإخوانهم في لشبونة، بل إنه كان لا يرضى بأن يكون للبرازيل نواب، وهو الذي يريد عودة النظام الاستعماري السابق بحذافيره إلى هذه المستعمرة البورتغالية القديمة. فاتخذ قرارا في 29 سبتمبر 1821 ألغى به كل ما كان أسسه يوحنا السادس من محاكم وهيئات وما وضعه من أنظمة في البرازيل، وأصدر أمره إلى «الوصي» على العرش هناك ليتخلى عن وظائفه ويعود إلى البورتغال، كما صدرت فيما بعد قرارات أخرى لتقوية الحاميات البورتغالية في ريودي جانيرو وباهيا، ولإرسال حكام للمقاطعات يكونون مسئولين مباشرة أمام السلطات التنفيذية في لشبونة.
انفصال البرازيل واستقلالها
ولقد غمرت البرازيل موجة من الغضب والسخط بسبب هذه الإجراءات كان من آثارها المباشرة أن جماعة أو حزب «الوطنيين» الذي كان يتألف حتى هذا الوقت من أولئك الذين يميلون للأنظمة الجمهورية، تحول الآن إلى حزب قومي، وأن موظفي الدولة الذين فقدوا وظائفهم نتيجة لإلغاء المحاكم قد صاروا - الآن - من أشد أنصار الاستقلال حماسة؛ بل إن «الملكيين» لم يترددوا في إعلان استنكارهم للقرارات التي صدرت عن مجلس كورتيز «ثوري»، كان موضع ازدرائهم لميوله اليعقوبية. ثم سرعان ما قوي الشعور بأن «الوصي» - دون بدرو - لا يجب بحال من الأحوال أن يترك البلاد إلى لشبونة.
ومع أن دون بدرو نفسه كان متحيرا أي الطريقين يسلك: البقاء في البرازيل نزولا عند إرادة البرازيليين الذين في وسعهم - إذا شاءوا - أن يمنعوه من أن يفعل ذلك عنوة، بفضل ما لديهم من حاميات من الجنود النظاميين المدربين في المدن الرئيسية، أم تلبية الأمر الذي صدر إليه من لشبونة والإبحار إلى البورتغال، فلا يكون قد خان عهد وطنه أو ظهر بمظهر الثائر على والده، ومهما كان الأمر، فقد كان هناك قطعا تفاهم سرى بين الابن وأبيه، عندما افترق الاثنان في أبريل 1821 (ليعود يوحنا إلى البورتغال)، بأن للدوق بدرو مطلق الحرية في اختيار خطة العمل التي تلائمه إذا اعترضت الصعوبات طريقه، على أساس أن عليه قبل كل اعتبار أن يؤمن مصالح التاج أو العرش الذي هو وارث له، وأعلن دون بدرو في بادئ الأمر أنه ينوي الإذعان لقرارات الكورتيز، ومغادرة البرازيل.
ولكن سرعان ما صار واضحا أن دون بدرو لن يستطيع ترك البلاد؛ بسبب الظروف العصيبة التي كانت البرازيل تمر بها وقتئذ. ففي اللحظة التي عمت فيها الفوضى، وساد التردد، نهض لزعامة الحركة الاستقلالية في البرازيل رجل عركته التجارب، وعرف بالحكمة وبعد النظر، هو جوزيه بونيفاشيو دي اندراوا
José Bonifacio ، أصله من سان باولو، وغادر البرازيل إلى البورتغال ليشترك في الحروب الإيبرية دفاعا عن البورتغال ضد الجيوش الفرنسية، ولكن ضعف حكومة الوصاية في لشبونة وفسادها جعلاه يعود إلى بلاده (في سنة 1819)؛ ليقوم فيها بالدعوة للاستقلال والانفصال، باعتبار أنه من المتعذر بقاء البرازيل دولة تابعة للبورتغال، وفي سنة 1821 عين ثانيا لحكومة سان باولو المؤقتة - وسان باولو هي مركز الحركات الانفصالية مع ميناس جيراس
Minas Geras
المقاطعة المجاورة لها، من مدة طويلة. فلعب «جوزيه» دورا كبيرا - الآن - في تنظيم حركة احتجاجات قوية غرضها الضغط على دون بدرو، الذي نبذ ظهريا تردده السابق ووعد بالبقاء ليدافع عن مصالح البرازيل، ليس ضد والده، ولكن ضد مجلس الكورتيز، ولقي هذا القرار ترحيبا عظيما من جانب الملكيين والوطنيين على السواء، وفي 15 فبراير 1822، أقلعت الحامية البورتغالية الموجودة في ريودي جانيرو عائدة إلى البورتغال، فاستقام الأمر لجوزيه بونيفاشيو وأخيه «مارتين فرانسسكو» اللذين كان الملك قد أدخلهما في الوزارة.
فصدر قرار في 16 فبراير بجمع مجلس تمثيلي، من مندوبين من مختلف المقاطعات، وفي 13 مايو قبل دون بدرو لقب «حامي البرازيل الدائم والمدافع عنها»، وتلك كانت خطوة أخرى في طريق الانفصال، لم تلبث أن تبعتها أخرى حينما صدر قرار في 3 يونيو بإنشاء «مجلس تشريعي»، ولقد كانت هذه إجراءات سببت وقوع بعض الاضطرابات التي بادرت الحكومة بإخمادها - خصوصا في سان باولو، وميناس، ومن جانب الحاميات البورتغالية الباقية في برنامبكو
وباهيا، ومع أن الحامية البورتغالية في المدينة الأخيرة أمكن الوصول إلى اتفاق معها للعودة إلى البورتغال، فقد بقيت حامية باهيا، التي لم تلبث أن وصلتها النجدات من البورتغال (أغسطس 1822)، الأمر الذي أوجد حالة حرب فعلية بين البرازيل والبورتغال، وصدر قرار في أول أغسطس يعلن اعتبار كل الجنود المقيمين في البرازيل من غير أوامر صادرة من دون بدرو بذلك عصاة ثائرين، وأخيرا تم الانفصال النهائي عندما أعلن دون بدرو في سان باولو استقلال البرازيل في 7 سبتمبر 1822، ثم سرعان ما نودي به إمبراطورا دستوريا على البرازيل في سان باولو يوم 2 أكتوبر 1822.
وكانت الخطوة التالية، تأمين الاعتراف بالإمبراطور بدرو الأول في كل أنحاء البرازيل، وذلك بالقضاء على بقايا المقاومة سواء في «باهيا» التي أرغمت حاميتها البورتغالية على التسليم والإبحار إلى البورتغال (يوليو 1823)، أم في بارا
، أو مارنهام
Maranham ، أو مونتفيدو
Montevido ، التي طردت منها الحامية البورتغالية كذلك. فلم يمض عام 1823 حتى كان قد قضي على كل مقاومة «للنظام» الجديد، وصار استقلال البرازيل تحت حكم الإمبراطور بدرو حقيقة واقعة.
الاضطرابات الداخلية في البورتغال
أما في البورتغال ذاتها، أثناء كل هذه الحوادث، فكان قد طرأ تغيير على الموقف السياسي بها؛ بسبب ما وقع بها من اضطرابات داخلية، صرفت الكورتيز والأمة إلى الاهتمام بشئون البلاد الداخلية، وذلك بعد أن كان الكورتيز قد استصدر قرار 19 سبتمبر 1822 المعروف بأمر دون بدرو بالعودة إلى لشبونة في ظرف شهر واحد فقط وإلا فقد حقه في وراثة عرش المملكة، ويعد جميع المدنيين والعسكريين الذين يعترفون بحكومة البرازيل الواقعية
De facto
في عداد الخونة، ثم بعد أن كان الكورتيز نفسه الذي انتخب تحت نظام دستور 1822، قد أظهر عزمه على إخماد ثورة البرازيل.
وكان مبعث الاضطرابات الداخلية في البورتغال، الانقسام الذي حصل بشأن الدستور عندما تحدد يوم 3 ديسمبر 1822 موعدا يحلف فيه كل موظفي الدولة والشخصيات الرسمية بها يمين الولاء للدستور الجديد، وإلا تعرض من يمتنعون منهم بعقوبة النفي خارج البلاد. فرفضت الملكة «كارلوتا جواكينا» حلف هذه اليمين فحكم عليها بالنفي، وإن أوقف تنفيذ هذا الحكم بسبب سوء صحتها، ثم لم يلبث أن لقي أنصار الحكم الاستبدادي والسلطان المطلق في البورتغال تعزيزا «لقضيتهم»، حينما دخلت الجيوش الفرنسية أرض إسبانيا لتؤيد الملك فردنند السابع ضد حركات الثورة والعصيان بها، ولقد كان ضياع البرازيل - ولا شك - من العوامل التي أثارت المعارضة ضد نظام الحكم اتهمه مناوئوه بأنه السبب في فقد هذه المستعمرة القديمة، وانضم العسكريون إلى المعارضة، وقامت ثورة «رجعية» مبدئية في فبراير 1823 قضت عليها الحكومة، ولكن لم يلبث دون مجويل أن وضع نفسه على رأس حركة كانت في صميمها متفقة مع ميوله وأغراضه، وأصدر منشورا طلب فيه من الشعب أن يعيد للملك «يوحنا السادس» سلطاته التي سلبها الدستور منه، ولم يجد الملك الضعيف والمتردد دائما مخرجا من هذا المأزق إلا في مغادرته لشبونة، وعندئذ اضطر الكورتيز الذي لم يجد سندا له إلى إعلان انفضاضه من تلقاء نفسه.
ولكن يوحنا السادس الذي اعتنق تحت تأثير ولده الأكبر دون بدرو - ولا شك - بعض آراء الأحرار، لم يكن يريد أن يخضع لسيطرة أنصار الاستبدادية، فعين لجنة «جونتا» لوضع دستور جديد مقيدة في نظام برلماني، من طراز الدستور الإنجليزي، وذلك في الوقت نفسه الذي أعلن فيه إلغاء دستور 1822.
ولما كان ذلك إجراء لا يرضى عنه دون مجويل، أو والدته الملكة كارلوتا جواكينا، فقد صح عزمهما على القيام بعمل حازم؛ فاستولى دون مجويل على القصر الملكي، وطرد الوزارة القائمة، ونفى رئيسها بالميللا
، وتسلم زمام الحكم ليحكم باسم والده (30 أبريل 1824)، الذي ما عتم أن أفلح بعد احتجازه في الفرار من محبسه والالتجاء إلى سفينة حربية بريطانية تقف في نهر التاجة (التاجوس)؛ في 9 مايو ليطلب تدخل الدول، فأسفر تدخل سفراء الدول، وخصوصا المبعوث الإنجليزي سير وليام أكورت
A’Court
عن استرجاع الملك لسلطانه وعودة «بالميللا» للوزارة، وإرغام دون مجويل على الانسحاب من البورتغال، (ليقيم في فيينا) تحت رقابة مترنيخ.
ولكن تدخل الدول لتأسيس حكومة برلمانية في البورتغال، لم يلبث أن أسفر عن انتشار الفوضى في بلاد كان ملكها ضعيفا ومترددا، ويعاني آلام المرض، ولم يقدر إلا أن يكون ألعوبة في أيدي الأحزاب المختلفة، وتحت تأثير الإنجليز بادر بالاعتراف باستقلال البرازيل (في 29 أغسطس 1825) وبولده دون بدرو إمبراطورا عليها. ثم لم يلبث يوحنا السادس أن توفي فجأة بعد ذلك بستة شهور.
دستور 1824 في البرازيل
أما كيف اعترفت البورتغال باستقلال البرازيل ؛ فتفصيل ذلك أنه كان قد اجتمع في ريو دي جانيرو مجلس تأسيسي في 3 مايو 1823 لوضع دستور للإمبراطورية «البرازيلية»، فلم يلبث أن تدخل دون بدرو ليحل هذا المجلس، وليدعو «مجلس دولة» من عشرة أشخاص لوضع دستور، يعترف بأن الإمبراطور هو الذي استصدر وثيقته، ويقوم في الوقت نفسه على المبادئ الحرة التي وعد دون بدرو بأن يشملها الدستور المنتظر. فعهد إلى مجلس الدولة (26 نوفمبر) بإعداد مشروع للدستور لم يلبث أن أتمه هذا المجلس في يناير 1824، ثم بدلا من عرضه على مؤتمر وطني كما كان قد سبق الوعد به؛ أرسلت نسخ من المشروع إلى المجالس البلدية، ومختلف المقاطعات لبحثه، ووافقت أكثرية هذه المجالس البلدية عليه، وعندئذ حلف الإمبراطور يمين الولاء له (24 مارس 1824)، وكما وعد دون بدرو، نص الدستور على حرية العبادة وحرية الصحافة والتعبير عن الرأي، والمساواة أمام القانون، والأخذ بالأنظمة التمثيلية (النيابية)، والعمل بمبدأ المسئولية الوزارية واستقلال القضاء، وجعل البرلمان يتألف من مجلسين؛ أحدهما للنواب، والآخر للشيوخ، أعضاؤهما بالانتخاب، وذلك بأن يكون للناخبين في الأقاليم حق انتخاب أعضاء هذين المجلسين، في حين أن الذي ينتخب هؤلاء الناخبين أنفسهم، ناخبون يمارسون حق الانتخاب العام، وينتخب أعضاء مجلس النواب لمدة أربع سنوات، وأما الشيوخ فيعينهم الإمبراطور من بين أسماء انتخب «بالكسر» أصحابها، وتضمها قوائم ثلاث تعرض عليه، ويبقون أعضاء في مجلس الشيوخ مدة حياتهم. فإذا اختلف المجلسان في موضوع من الموضوعات كان لكل منهما الحق في دعوة المجلسين في جمعية عمومية لتدارس المسألة، وأما «مفتاح» العمل في هذا الدستور فقد تضمنه ما أعلن أنه السلطة ذات الأثر الاعتدالي
Moderative Power ، والمقصود بذلك؛ السلطة الموضوعة في يد صاحب السيادة «الإمبراطور»، والتي تعطيه حق الاعتراض على القوانين، وحق تعيين أعضاء مجلس الشيوخ والوزراء، وحل مجلس النواب، ودعوة الجمعية العمومية، وحق العفو ومراجعة وتعديل الأحكام الصادرة، وتعيين الأساقفة والسفراء وغير ذلك من الحقوق، على أن يمارس الإمبراطور سلطاته التنفيذية بناء على نصيحة وزرائه الذين لا بد من توقيعاتهم ليتخذ أي إجراء الصبغة القانونية، والذين كانوا مسئولين أمام نواب الأمة .
وهكذا صدر هذا الدستور (دستور 1824) يبشر - لو أنه أحسن استخدامه - بمستقبل طيب للأمة البرازيلية؛ لتظفر بفضل هذه الأنظمة الحرة بمزايا الحكومة المستقرة الموطدة، ولكن السبب في أن هذا الدستور لم يأت بالنتائج المتوخاة منه، لم يكن وجود أي نقص في المبادئ المقررة به والقواعد التي نصت عليها مواده؛ بل كان مرده إلى عدم اكتمال نضج الشعب البرازيلي نفسه الذي عاش تحت نظام هذا الدستور، وإلى عجز الإداريين الذين قاموا على تنفيذه.
وفي مارس 1824؛ أي في الشهر نفسه الذي حلف فيه الإمبراطور يمين الولاء للدستور، بدأت المفاوضات بين البورتغال والبرازيل، بفضل توسط الإنجليز من أجل الوصول إلى إبرام الصلح بين البلدين؛ فجرت المفاوضات في لندن، وتدخل «كاننج» ليصل الطرفان إلى حل لمسألة تعارضت بشأنها أراؤهما، حيث كان البرازيليون يطلبون الاستقلال، في حين يطلب البورتغاليون الاعتراف بحقوق سيادتهم على البرازيل. ثم حصلت المساعي - وبواسطة الحكومة الإنجليزية دائما ومبعوثيها - في كل من لشبونة وريو دي جانيرو للوصول إلى اتفاق، اتخذ الملك يوحنا السادس بموجبه لقب إمبراطور البرازيل تمشيا مع الناحية الشكلية الرسمية للمسألة، ولكن ليتنازل عن هذا اللقب لابنه دون بدرو، وليعترف باستقلال البرازيل المستعمرة البورتغالية السابقة، في حين يعد دون بدرو، بأن تتحمل حكومة البرازيل سداد دين مقداره مليون وأربعمائة ألف جنيه إنجليزي كانت البورتغال قد اقترضته في سنة 1823 من بريطانيا، وأن تدفع علاوة على ذلك مبلغا آخر (600000 جنيه) للملك يوحنا السادس مقابل سرايه وأملاكه الخاصة الأخرى في البرازيل، وفي 29 أغسطس 1825 وقعت المعاهدة في ريو دي جانيرو، ومع أن هذه المعاهدة لم تذكر شيئا عن وراثة عرش البورتغال، فقد أعلن دون بدرو تنازله عن أية حقوق له في وراثة هذا العرش.
النزاع الدستوري في البورتغال
وهكذا اعترفت البورتغال باستقلال البرازيل، ولكن في 6 مارس 1826 مرض الملك يوحنا السادس، ثم توفي بعد أربعة أيام - وهناك من يشكون في أنه مات مسموما - ومنذ 7 مارس صدر قرار بتعيين ابنته «إيزابلا ماريا» وصية على العرش، وبادرت حكومة الوصاية بالاعتراف فورا بدون بدرو ملكا على البورتغال باسم بدرو الرابع، وكان هذا إجراء شكليا أو رسميا فحسب؛ لأن دون بدرو بمقتضى المعاهدة المبرمة حديثا (في 29 أغسطس 1825) محرر من وراثة عرش البورتغال، ويستحيل كذلك أن يجمع شخص واحد بين تاجي إمبراطورية البرازيل ومملكة البورتغال، نزولا على أحكام هذه المعاهدة نفسها التي تقرر الانفصال بين البلدين نهائيا.
ومع أنه كان منتظرا أن يتنازل دون بدرو عن عرش البورتغال لأخيه دون مجويل، وذلك إجراء لم يكن من المتوقع أن يلقى أية معارضة؛ بسبب ضعف الحزب الثوري آنئذ (1826)، والذي كان أقصى ما يصبو إليه تغيير مجلس الكورتيز البورتغالي - من مجلس طبقات ثلاث - إلى مجلس دستوري أو برلمان، فقد آثر دون بدرو على نصح الإنجليز إشباع رغبته بالظهور بمظهر العاهل الدستوري الذي يمنح شعبه من تلقاء نفسه، وكشيء صادر منه شخصيا، الحقوق الدستورية، فاستصدر ميثاقا
Charter (أو دستورا) كمنحة منه لرعاياه البورتغاليين، ثم استصدر مرسوما في 2 مايو 1826 تنازل فيه عن تاج البورتغال لابنته دونا ماريا داجلوريا
Gloria - وتبلغ سنها سبع سنوات - على أن تحلف يمين الولاء للدستور. ثم تبع ذلك الاعتراف بدون مجويل وصيا على العرش، وكان هذا الاعتراف مشروطا بأن يتزوج دون مجويل من ابنة أخيه التي تصغره بسبعة عشر عاما.
ولم يكن أحد في البورتغال يتوقع مثل هذا التدخل من جانب البرازيل في شئون المملكة الداخلية، ولم يكن مجلس الوصاية في لشبونة يريد قبول الميثاق (أو الدستور) أو يرضى بنشره، ولكن تحت ضغط تهديد سالدانها
Saldanha
أحد القواد من أنصار الأحرار في حامية (أوبرتو) بالزحف على لشبونة، بادر مجلس الوصاية بالاعتراف بالدستور (12 مايو)، ثم حلفت جميع الهيئات في أوبرتو ولشبونة على السواء يمين الولاء لهذا الدستور في 31 مايو. وتألفت وزارة من الأحرار كانت تبغي حضور دون بدرو من البرازيل لتولي الحكم بنفسه، أو بقاء وصاية دونا ماريا داجلوريا على الأقل، لحرمان دون مجويل من الوصاية، ولكن شيئا من هذه الأغراض لم يتحقق؛ لتدخل الدول التي أيدت وصاية دون مجويل، ولقيام حركات العصيان في عدة أماكن تنادي بدون مجويل ملكا على البلاد، واحتشاد المهاجرين البورتغاليين على الحدود الإسبانية على أهبة الاستعداد للهجوم على البورتغال، وذلك بتشجيع سري من الحكومة الإسبانية.
وكانت روسيا والنمسا تميلان لتأييد دون مجويل، ولكن كاننج أمكنه إقناعهما باتباع سياسة التريث التي تسير عليها الدولتان الغربيتان؛ إنجلترة وفرنسا، وتقوم هذه على أساس «عدم التدخل» وترك الشعب البورتغالي يختار وحده الحكومة التي يريدها.
ومع ذلك فقد سادت الفوضى أنحاء البورتغال جميعها في نهاية السنة نفسها (1826) لدرجة أن قررت الحكومة الإنجليزية إرسال جيش تحت قيادة سير وليام كلينتون
Clinton
لإعادة النظام، كما طلبت في الوقت نفسه من الحكومة الإسبانية فض القوات البورتغالية المحتشدة على حدودها، واعتقالها ونزع أسلحتها. وفي مارس 1827 كان البورتغاليون قد قبلوا الدستور (أو الميثاق) الذي فرضته الحراب الإنجليزية عليهم، وواضح أن «حريات» تدخل الأجنبي تدخلا مسلحا لتأييدها لم تكن عزيزة لدى الشعب الذي أرغم إرغاما على قبول هذه الحريات التي «منحها» لهم دون بدرو.
وأثناء هذا كله كان دون مجويل لا يزال يقيم في فينا تحت رقابة مترنخ، وبعد وفاة أبيه سلك مسلكا حكيما، فاعترف بدون بدرو حاكما شرعيا على البورتغال. وفي 4 أكتوبر 1826 حلف يمين الولاء (للدستور)، وفي 29 أكتوبر أعلنت خطبته رسميا لابنة أخيه - وهذه الخطوة الأخيرة اتخذت بناء على نصيحة مترنخ تحت ضغط من إنجلترة - فنفذ دون مجويل كل الشروط التي اشترطها أخوه «دون بدرو» في تنازله عن عرش البورتغال، ولم يعد ثمة شيء يحول دون عودة دون مجويل إلى لشبونة ليتولى «الوصاية» حتى تبلغ «دونا ماريا داجلوريا» سن الرشد، ولا جدال في أن دون مجويل عندما حلف يمين الولاء للدستور كان يعتبر هذا القسم ضرورة سياسية ولا يجب أن تتعطل بسببه حقوقه الشرعية (القانونية)، ومع ذلك فقد اكتفت الحكومات في لندن ولشبونة ومدريد، كما اكتفى دون بدرو نفسه «في البرازيل» بالتأكيدات التي صدرت عن دون مجويل بالتزام الوضع الراهن المتولد من الدستور الذي تعهد بتأييده؛ ليتاح لدون مجويل العودة عن طريق بليموت (بإنجلترة) على ظهر مركب حربي بورتغالي نقله إلى لشبونة، فوصلها في 22 فبراير 1828.
ورحب الشعب البورتغالي بقدوم دون مجويل، وتعالت الهتافات بحياة «الملك المطلق» الذي توقعوا إنقاذ البلاد على يديه، وكانت الملكة الوالدة «كارلوتا جواكينا» لا ترضى أن يكون دون مجويل «وصيا دستوريا»، ولم يشأ هذا الأخير أن يربط نفسه برباط معين في هذه المرحلة، فحلف يمين الولاء للدستور في حضور «البرلمان» في 26 فبراير 1828 بوصفه وصيا على العرش، ولو أن الرأي العام كان يعترف به ملكا على البورتغال، وكان هو نفسه يسلك مسلك الملك. وحل دون مجويل «البرلمان» في 14 مارس دون أن يعترض أحد على حله، وفقد حزب الأحرار الدعامة التي كان يستند عليها، عندما غادرت القوات الإنجليزية البلاد (في 2 أبريل) بناء على استدعاء حكومة دوق ولنجتون في لندن لها، وبذلك لم تعد هناك أية عقبات تحول دون عودة الحكم الرجعي (والملكية المطلقة).
وكان إجراء حاسما في سبيل عودة هذا الحكم الرجعي، عندما دعا الوصي «دون مجويل» مجلس الطبقات القديم (الكورتيز) للانعقاد، فانعقد المجلس يوم 23 يونيو، ونادى بدون مجويل ملكا على البورتغال. وفي 7 يوليو حلف مجويل الأول اليمين القانونية أمام الكورتيز بوصفه ملكا للبلاد، وقوبل هذا الإجراء بحماس عظيم في لشبونة وفي كل أنحاء البلاد، ولم تنفرد بالمعارضة غير «أوبرتو» التي كان قد اجتمع فيها زعماء الدستور (الأحرار) مثل: بالميللا وسالدانها وغيرهما، وشكلوا مجلسا ثوريا جونتا
Junta
لتدبير المقاومة المسلحة ضد النظام الجديد، وانضم إليهم المتطوعون من كوامبرا
Coimbra ، وكذلك من أماكن أخرى الجنود الذين كانوا قد أعلنوا ولاءهم لابنة دون بدرو، دونا ماريا داجلوريا، ولكن المجلس الثوري «جونتا» لم يكن يجرؤ على مجابهة القوات المجويلية، ففر بالميللا وسالدانها ورفقاؤهما إلى لندن (منذ 3 يوليو) في حين تقهقر جيشهم وعدده حوالي خمسة أو ستة آلاف - من غير نظام - إلى جاليكيا
Galicia ، وأبحرت فلولهم (حوالي 2500) إلى بليموث بإنجلترة حيث اعتقلتهم الحكومة الإنجليزية، واعتقد «الأحرار» أن وجود دونا ماريا داجلوريا في لندن باسم الملكة ماريا الثانية، لا يلبث أن يحمل الحكومة الإنجليزية على التدخل، في صالح «المبادئ الحرة»، ولكن وزارة ولنجتون التي استقبلت الملكة ماريا بكل مظاهر الاحترام، أبقت جنود الملكة في المعتقل، ورفضت التدخل فيما أسمته بالنزاعات العائلية حول العرش، وفي الشئون الداخلية «لأمة حرة».
الرجعية في البورتغال
وفي البورتغال طغت موجة من الرجعية الشديدة لتقتلع جذور المبادئ الحرة من البلاد، وشهدت البورتغال عهدا من الإرهاب الحقيقي عندما هلك أو سجن عديدون ممن اتهموا بالاشتراك في الحركات الثورية السابقة، ولا جدال في أن «مجويل الأول» كان مسئولا عن الفظائع التي ارتكبها الرجعيون تحت زعامة الملكة الوالدة «كارلو تاجواكينا» التي صار لها القول الفصل في نظام تسيطر عليه «الكنيسة» وشهوة الانتقام من المبادئ الحرة وأصحابها؛ وذلك لأنه أذعن لإرادة الملكة الوالدة وأنصارها، ومع ذلك وبالرغم من الإرهاب الذي حصل؛ فقد ظل مجويل الأول معبود الشعب البورتغالي حتى آخر أيامه. وزاد مركز المجويليين قوة عندما أسفرت سياسة عدم التدخل الإنجليزية عن اعتراف الإنجليز بالحكومة الفعلية القائمة في البورتغال، وتبع ذلك الاعتراف بهذه الحكومة أيضا من جانب النمسا وفرنسا، ورفضت دعاوى «بالميللا» ورفاقه في لندن أنهم يمثلون بلادهم، في حين صار إبلاغ دون بدرو في البرازيل أن تنازله عن عرش البورتغال قد اعتبر نهائيا، ومن شأنه أن يمنعه من التدخل في شئون هذه البلاد، وأما إذا شاء أن يؤيد ادعاءات ابنته «دونا ماريا داجلوريا» على عرش البورتغال تأييدا عمليا نشيطا فليس من سبيل إلى ذلك إلا إعلان الحرب من جانب البرازيل، ومع أن الإنجليز بذلوا جهودا كبيرة لتسوية الخلاف بين الشقيقين: «دون بدرو» و«دون مجويل» على أساس زواج العم من ابنة أخيه، ودون قبول الدستور (الميثاق)، فقد ذهبت هذه الجهود سدى. ثم لم يلبث أن انتهى دور النزاع الأول على عرش البورتغال بين دون مجويل، والملكة ماريا الثانية «ماريا داجلوريا» عندما عادت هذه الأخيرة إلى البرازيل (في 29 أغسطس 1829).
أما الدور الثاني من هذا النزاع فكان قد بدأ فعلا في جزر آزورا (ومن بينها جزيرة ترسيرا
Terceira ، حيث قام أهل هذه الجزر في ربيع 1828، يعلنون تأييدهم لقضية دون مجويل، على غرار ما فعل أهل الوطن الأم «البورتغال»، ولم يشذ عن ذلك غير حامية صغيرة في أنجرا
Angra
بقيت تؤيد قضية الأحرار وحدها من مايو إلى أغسطس)، ويحيط بها أعداؤها، حتى حدث في 8 سبتمبر 1828، أن نزلت بالجزيرة قوات من المهاجرين، حملتهم إليها فرقاطة برازيلية، فلم يلبث أن تشكل مجلس ثوري مؤقت (جونتا)، اعترف بملكية «ماريا الثانية»، فرفرف علمها على جزيرة «ترسيرا» التي غدت من الآن فصاعدا مركز المقاومة المسلحة ضد المجويليين، وأهملت حكومة لشبونة إخضاع الجزيرة قبل أن تأتيها النجدات والمؤن، سواء من البورتغال أو من البرازيل، وبالرغم من الحصار الذي ضربه الإنجليز على جزر آزورا لمنع وصول الإمدادات من رجال وعتاد إليها؛ وعلى ذلك فقد فشلت حملة بورتغالية في إخضاع «ترسيرا»، واضطر الأسطول البورتغالي إلى الانسحاب من مياهها (في 11 أغسطس 1829)، فكان لهذه الهزيمة في القضاء على مركز مقاومة الأحرار والدستوريين الوحيد وانتزاعه من أيديهم، أبلغ الأثر في تطور الحوادث التالية، فقد انتقل «بالميللا» من لندن إلى «ترسيرا» في 30 مارس 1829 ليؤسس بها وصاية باسم الملكة ماريا الثانية، وصادفت هذه «الحكومة» الحديثة صعوبات كثيرة؛ منها؛ أن الإمبراطور بدرو، مع اعترافه بحكومة ابنته في «ترسيرا» منعته مشاغله العديدة في البرازيل من إسداء أية معاونة فعالة بها، ولو أنه في الوقت نفسه كان يتفاوض - بفضل وساطة الإنجليز كما رأينا - لتسوية الخلاف مع أخيه دون مجويل على أساس زواج الأخير من ابنته. أضف إلى هذا أن الدول التي لم تشأ اتخاذ موقف نهائي من «النزاع العائلي» حول العرش كانت ميولها واضحة نحو الاعتراف بحكومة دون مجويل الواقعية.
آثار ثورات يوليو (1830)
غير أن الحوادث التي حصلت في سنة 1830، سرعان ما أدخلت تغييرا ملحوظا على موقف الدول الغربية. ففي فرنسا؛ أطاحت ثورة يوليو بحكومة شارل العاشر، وملكية البربون، ووضعت على العرش مكانه لويس فيليب من أسرة بربون أورليان، وفي إنجلترة؛ أقصيت وزارة ولنجتون المحافظة التوري
Tory
من الحكم، وشكل الأحرار الويجز
Whigs
وزارة جديدة كان لورد بلمرستون وزير الخارجية بها. زد على ذلك أن الملكة الوالدة «كارلوتا جواكينا» كانت قد توفيت قبل ذلك (في 7 يناير 1830)، وهي القوى المسيطرة على حركة الرجعيين مؤيدي الملكية المطلقة الاستبدادية، ولم يكن في استطاعة ملكية أورليان في فرنسا ولا حزب الويجز الإصلاحي (سنة 1830) أن يؤيد الرجعيين في البورتغال، حينما بلغ الحماس لشخص دون مجويل حد الجنون، فصار يعتبره البورتغاليون ما عدا حفنة ضئيلة من الأحرار والدستوريين؛ «المسيح المنتظر». فوقفت ملكية يوليو (الأورليانية) في فرنسا، ووزارة الويجز في إنجلترة موقف المعارضة من هذه المجويلية المتطرفة في رجعيتها، ثم لم تلبث أن انقلبت هذه المعارضة إلى عداء سافر، فقد أساء البورتغاليون معاملة بعض الرعايا البريطانيين في البحر وعلى الأرض على السواء، ونجم من معاملتهم السيئة كذلك لفرنسيين يقيمان في لشبونة؛ أن قطعت أولا العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ثم تلا ذلك إرسال سفن حربية فرنسية إلى نهر التاجه (التاجوس) في يوليو 1831، ثم لم يلبث أن أرغم وجودها الحكومة البورتغالية على إصلاح ذات البين مع فرنسا بشكل مهين لها، ثم على تسليم أسطولها، ولقيت هذه الإجراءات موافقة بل وتأييدا صامتا من جانب الحكومة الإنجليزية، التي أولت ملكية لويس كل مؤازرتها، ولم تحرك ساكنا للدفاع عن حليفتها القديمة البورتغال.
وكانت الأمور في أثناء هذا كله تسير في البرازيل في طريق أفضى إلى تنازل دون بدرو عن العرش في 7 أبريل 1831؛ والسبب في ذلك؛ أن الإمبراطور كان جائر الطباع مستبدا، مسرفا، يعيش في لهو وعبث، ففر البرازيليون منه؛ لأنه أقحمهم في حرب الأرجنتين أصيبوا فيها بالهزيمة، فتنازل دون بدرو لصالح ابنه، وكان طفلا يبلغ الست سنوات من عمره، فأعلن إمبراطورا على البرازيل باسم «بدرو الثاني» تحت وصاية «جوزيه يونيفا سيودي أندرادا» الذي عاد الآن من المنفى، وأبحر دون بدرو إلى أوروبا (13 أبريل).
وأفادت البرازيل - ولا شك - من ذهاب دون بدرو، فقد تقدمت البلاد من الناحية المادية تقدما ملحوظا بالرغم من بعض الحركات الثورية التي قضت عليها الحكومة بسهولة، ولما لم يعد الشعب يؤيد «جوزيه دي أندرادا»، فإنه لم يلبث أن حل محله للوصاية (1833)، وفي السنة التالية أعيد النظر في دستور 1824 على أساس التوسع في الحكومة الذاتية في المقاطعات والبلديات، فكان العمل بمبدأ الحكومة اللامركزية إجراء حكيما - ولا شك - في بلاد واسعة الأطراف، ويختلف تكوينها الطبيعي من مكان لآخر، وقد يكون بفضل هذا التوسع في الحكومة الذاتية وحده أن تسنت المحافظة على وحدة الدولة البرازيلية. وفي 1835 وقع الاختيار على أحد الأساقفة ليكون وصيا منفردا على العرش، ليخلفه بعد عامين وصي آخر هو دي ليما
Lima
الذي استمرت وصايته من 1837 إلى 1840؛ حتى إذا بلغ «بدرو الثاني» سن الرشد في سنة 1840 تسلم شئون الدولة، وتم تتويجه في 18 يوليو 1841.
النضال بين المجويليين والدستوريين
وأما دون بدرو فقد قصد إلى لندن، مصطحبا معه ابنته الملكة ماريا الثانية، وقد صح عزمه على الدفاع عن قضية ابنته هذه ضد «المغتصب» لعرش البورتغال (وهو دون مجويل)، ولقي ترحيبا هو والملكة ماريا في لندن من وزارة جراي
Grey - بالمرستون، وفي أغسطس 1831 قصد مع ابنته إلى فرنسا حيث وثق أن سيلقى بها ترحيبا كذلك من لويس فيليب الذي بادر بتهيئة قصره لإقامتهما، وجرت الاستعدادات في فرنسا وإنجلترة بواسطة «بالميللا» وغيره لتدبير المال اللازم، ولإعداد أسطول لنقل الحملة المزمعة، فأمكن بمساعدة أحد المصرفيين الإسبان عقد قرض في لندن (في سبتمبر 1831)، وأمكن ابتياع بعض السفن التي أكثر بحارتها من الإنجليز، كما جمعت قوة من المرتزقة، وجرت هذه الاستعدادات تحت سمع الحكومة الفرنسية وبصرها، وهي لم تكن تبالي شيئا في إعلان تعضيدها لدون بدرو، على خلاف الإنجليز الذين حرص وزيرهم «بلمرستون» على الاحتفاظ بموقف الحياد الظاهري بين الفريقين، ونصح «لبالميللا» وأنصار دون بدرو بسرعة الإبحار بسفنهم قبل أن يثير وكلاء دون مجويل صعوبات جديدة، بل إنه تهددهم بالاعتراف رسميا بحكومة دون مجويل إذا وجدت الحكومة الإنجليزية نفسها مضطرة لفعل ذلك بسبب إبطاء أنصار دون بدرو في حركتهم.
وعلى ذلك فقد أبحرت الحملة من جزيرة بل إيل
Belle Ule (الواقعة تجاه ساحل بريتاني الغربي من أعمال فرنسا) في 10 فبراير 1832 وكانت تتألف من فرقاطتين، ومركبين ونقالة واحدة، وأبحر على ظهر إحدى السفن أيضا دون بدرو، ويصحبه زعماء الأحرار الدستوريين، ومنهم بالميللا، وإن لم يصحبه سالدانها
Saldanha ، القائد الذي أرغم بحد حسامه الأمة البورتغالية على قبول الدستور (الميثاق) في سنة 1826، وكان ذلك بأمر من دون بدرو نفسه؛ لأن «سالدانها» لم يعد يثق في الرجل الذي كثيرا ما تعارضت فعاله مع أقواله وتصريحاته، ووصل الأسطول إلى جزر الآزورا (ترسيرا) في نهاية فبراير، وتشكلت حكومة على الفور، لم تستطع تجهيز جيش قوي يمكن الاعتماد عليه في غزو البورتغال بنجاح، ولكن الإمبراطور «دون بدرو» كان يعتقد أن مجرد نزوله بأرض البورتغال كاف لأن يجذب أهلها لنصرة «محرريهم» ويؤلبهم للقيام بثورة جارفة ضد دون مجويل، حتى إن الأسطول عندما أقلع قاصدا إلى «لشبونة» في 27 يونيو، تطلع الجميع لاحتلال عاصمة البورتغال في ظرف أسبوعين فقط كأمر مفروغ منه قطعا.
ولكن زحف قوات «الدستوريين» سرعان ما قوبل بمقاومة عنيفة، فكانت العمليات العسكرية الوحيدة التي تنفذت بسهولة هي الاستيلاء على أوبرتو (9 يوليو)، ثم دخول الأسطول إلى مينائها في اليوم التالي، والسبب في ذلك؛ أن الحامية التي بها قد أخلتها قبل زحف قوات دون بدرو عليها، ولكن خاب أمل الإمبراطور الذي قوبل بجفاء من سكانها، ثم تعددت الالتحامات الدموية بعد ذلك وخصوصا في معركتين كبيرتين في 18 و23 يوليو (1832)، ولم تكن معارك فاصلة، ولو أنها أقنعت الإمبراطور أخيرا بأن البلاد لن تثور ضد دون مجويل ولن تؤيد قضيته، وأحدقت به جيوش المجويليين من كل جانب، فلم يبق أمامه إلا اختيار أحد أمرين؛ إما الفرار بطريق البحر، وإما التحصن في «أوبرتو»، وانتظار تطور الأحداث وهو بها، واختار الإمبراطور التحصن في «أوبرتو»، وضرب المجويليون الحصار عليها، ولكن قائدهم كان لا جدارة ولا كفاءة له، فاستطاع جيش الإمبراطور تحصين مواقعه دون أن يحاول المجويليون منعه من ذلك، حتى إذا تقرر الهجوم على المدينة في 29 سبتمبر، كان نصيب المجويليين الفشل، فردوا على أعقابهم؛ وعندئذ أشرف دون مجويل بنفسه على العمليات العسكرية، وعين قائدا آخر على رأس جيشه ليعاود تضييق الحصار على «أوبرتو»، وفي أكتوبر تسلم من الجانب الآخر الإمبراطور بدرو نفسه زمام عمليات الدفاع عن أوبرتو، وظلت الحرب سجالا، ودون أن يظفر أي فريق بنتيجة حاسمة بالرغم من الخسائر الفادحة التي نزلت بكلا الفريقين على السواء .
ومع أن «بالميللا» أوفد مع آخر في بعثة إلى لندن لطلب وساطة الحكومة الإنجليزية، فقد رفضت هذه أي تدخل من جانب الدول بين الإمبراطور وبين البورتغاليين إلا إذا غادر دون بدرو البورتغال، فصمم دون بدرو على الصمود في موقفه وأجرى عدة تغييرات في حكومته، فاستدعى الزعيم الشعبي «سالدانها» لمعاونته، وتخلى هو عن القيادة لآخر، وتحسن موقف المدافعين (المحاصرين) في أوبرتو (يناير 1833)، ولكن لم تلبث أن انتشرت المجاعة في المدينة، وعندئذ تقرر بعد تردد كبير من ناحية الإمبراطور، وتحت ضغط قائد قواته البحرية الإنجليزي الجديد كابتن نابيير
Napier
الذي خلف في هذا المركز قائدا بحريا سابقا من الإنجليز؛ أن يحاول الأسطول الهجوم على أي مكان في شاطئ البورتغال الجنوبي الغرب
Algarve
للاستيلاء على هذا الشاطئ بدلا من لشبونة. وفي 24 يونيو نزل العسكر في خليج كاسيلاس
Cacellas
دون أن يلقوا أية مقاومة، واحتلوا بعض المواقع، ثم زحفوا على فارو عاصمة الإقليم (الغرب) فتقهقر حاكمها المجويلي، وأقام بها «بالميللا» حكومة مؤقتة، ولكن العداء الذي قوبلت به هذه الحملة في الجنوب كان لا يقل في حدته عن العداء الذي قوبلت به كل عمليات دون بدرو في الشمال، وانتظر الأهلون مجيء القوات من لشبونة لسحق قوات العدو.
وخرج نابيير بأسطوله لمقابلة أسطول البورتغاليين (المجويليين) الذي كان قد غادر نهر التاجوس في طريقه إلى الجنوب، فالتحم الأسطولان في معركة بحرية حاسمة عند رأس سانت فنسنت في 5 يوليو 1833، كان هدف نابيير منها؛ إما الانتصار وإنقاذ البورتغال - كما قال - وإما خسارة القضية كلية، وفي مدى ساعتين تقرر النصر في جانب نابيير، وتحطم أسطول المجويليين تماما، بل لم يعد لهم أسطول بعد هذه الواقعة.
ثم توالت انتصارات قوات دون بدرو في الجنوب بعد أن أثار فيهم الحماس نجاح نابيير، وقرر أحد قوادهم دوق تيرسيرا
Terceira
الزحف على لشبونة ذاتها، وكانت تلك مغامرة جريئة لا يبررها غير نجاحها، ولقد تسنى لدوق تيرسيرا أن ينجح فعلا، فقد استمر في زحفه صوب الشمال (الشرقي) حتى بلغ سيتوبال
Setubal (22 يوليو) ليستولي عليها دون عناء بسبب فرار حاميتها في فزع ورعب إلى لشبونة، إذ قد خيل إليهم بسبب جرأة هذه المجازفة من جانب «تيرسيرا» أن قوات لا حصر لها تطاردهم، وأسرع المجويليون بإرسال جيش كبير لوقف «تيرسيرا»، فالتحم الفريقان عند بيداد
في مكان ضيق محصور بين التلال والنهر «التاجة» مساء 23 يوليو، وحلت الهزيمة بجيش المجويليين الذين فرت فلولهم صوب لشبونة، وقتل قائدهم، وفي صباح اليوم التالي سلمت ألمادا
Almada
على الشاطئ المواجه للعاصمة «لشبونة»، ومع أن موقف «تيرسيرا» كان على جانب كبير من الدقة والخطورة بالرغم من هذه الانتصارات، فقد كفت هذه الانتصارات المفاجئة ذاتها لتحطيم أعصاب الوزراء المجويليين في لشبونة، فقرروا إخلاء لشبونة (في 24 يوليو)، فاستولى عليها «تيرسيرا» دون أن يطلق رصاصة واحدة. وفي صبيحة اليوم التالي دخل نابيير بأسطوله نهر التاجوس (25 يوليو)، وألقى مراسيه أمام لشبونة دون أية مقاومة. وفي 28 يوليو دخل دون بدرو العاصمة، بعد غيبة استطالت ستة وعشرين عاما؛ فقوبل بالترحاب من جماعة الأحرار من سكانها، ومن أولئك الذين نزلت بهم المظالم على أيدي المجويليين، أو سئموا الحرب وأرهقهم نفقاتها الباهظة، فتاقت نفوسهم لحصول أي تغيير، ثم لم تلبث أن سلمت «أوبرتو» بعد انسحاب قوات دون مجويل منها، فرفع عنها الحصار بعد أن استمر أحد عشر شهرا.
وحاول المجويليون محاصرة لشبونة، ولكن لم يكن النجاح حليفهم (أغسطس- أكتوبر)، ومع ذلك فلم يكن المجويليون حتى هذا الوقت قد خسروا كل أمل في كسب قضيتهم؛ لأن البلاد بأسرها في الشمال والجنوب إذا استثنينا أوبرتو ولشبونة - إنما كانت تؤيد دون مجويل، وتعترف به ملكا شرعيا عليها، ولم يفلح في الوقت نفسه دون بدرو - الوصي على عرش ابنته ماريا الثانية والإمبراطور السابق - في إقامة حكومة عادلة طيبة في لشبونة، تجذب الأنصار لتأييد قضيته؛ وذلك لأنه على خلاف ما نصحه به «بالميللا» والوزير الإنجليزي لورد ليم راسل
Russell - الذي عين لدى بلاط الملكة ماريا الثانية بعد سقوط لشبونة - من ضرورة التزام جانب الاعتدال، آثر دون بدرو اتباع سياسة تقوم على الانتقام من خصومه ومصادرة أموالهم وأملاكهم؛ فطرد اليسوعيين (الجزويت) من المملكة، وطلب من السفير البابوي (أو القاصد الرسولي) الانسحاب من لشبونة، واعتبر كل الذين خدموا في عهد النظام المطلق السابق أعداء للدولة.
ولقد بلغ الغرور المستولي على دون بدرو إلى درجة أنه دعا مجلس الكورتيز للانعقاد عندما لم تكن سلطته تتجاوز أسوار كل من أوبرتو ولشبونة فقط، في حين أن الالتحامات بين قواته «من الدستوريين» وبين المجويليين استمرت من وقت لآخر طوال المدة الباقية من عام 1833، والشهور الستة الأولى من العام التالي، فقد شهد هذا العام الأخير (1834) عمليات جد نشيطة، فزحف «سالدانها» صوب الشمال واستولى على لييريا
Leiria
في 14 يناير، ثم أحرز انتصارا آخر على المجويليين عند برنيس
في 30 يناير، ثم أعقبه انتصار آخر كان أكثر أهمية عند الموستر
Almoster
في 28 فبراير، وفي شهر مارس نزل «نابيير» بقواته من الإنجليز عند كامينها
Caminha
في أقصى الشاطئ البورتغالي شمالا واستولى على إقليم مينهو
Minho ، وفي الوقت نفسه كان جيش آخر بقيادة «ترسييرا» يتغلغل بطريق نهر دورو
Douro
في إقليم تراز أوس مونتيس
Traz os Montes
حيث لقيه إسباني انضم إليه في القتال ضد المجويليين، وكان الإسبان قد دخلوا الأراضي البورتغالية بناء على معاهدة «التحالف الرباعي» المعروفة التي أبرمت بين إنجلترة وإسبانيا والبورتغال وفرنسا في 22 أبريل 1834 لتأييد الملكة البورتغالية «ماريا» ضد دون مجويل من ناحية، والملكة الوصية كريستينا في إسبانيا ضد دون كارلوس من ناحية أخرى، وكان دون مجويل بجيشه في أثناء ذلك كله متحصنا في سنتاريم
Santarem
على نهر التاجة في «الشمال»، ولكن لم يلبث أن تطرق الوهن إلى عزيمته، فتقهقر إلى إيفرورا مونت
Evrora-Monte
إلى الجنوب الشرقي من سنتاريم، وفي 24 مايو 1834 وقع على اتفاق للتسليم بشروط كانت سخية، خالف فيها دون بدرو نصائح مستشاريه، فكان نصيب دون مجويل النفي الدائم خارج شبه جزيرة إيبريا، مع إعطائه معاشا سنويا كبيرا. غير أن دون مجويل منعه كبرياؤه أن يعيش على إحسانات أخيه، فغادر البلاد في 30 مايو، ومن جنوه أصدر احتجاجا (في 20 يونيو) ضد إرغامه على التنازل عنوة عن حقوقه في تاج البورتغال، ورفض قبول المعاش الذي خصص له.
واجتمع الكورتيز في 15 أغسطس 1834، وأبدى دون بدرو رغبته في التخلي عن الوصاية بسبب المرض الذي انتابه من جراء نشاطه المتصل والذي أنهك قواه خلال العامين المنصرمين خصوصا، ولكن الكورتيز قرر أن يستمر دون بدرو وصيا حتى تبلغ الملكة ماريا الثانية (ابنته) سن الرشد، وفي 29 أغسطس حلف دون بدرو اليمين نزولا على أحكام الدستور، وكان ذلك آخر عمل قام به، إذ سرعان ما غادر العاصمة إلى كولوز
Queluz
ينشد الراحة في قصر له هناك، ولكن لم تلبث أن اشتدت وطأة المرض عليه، فقضى بعد أسابيع قليلة في 24 سبتمبر 1834، ولم يكن قد بلغ الخامس والثلاثين ربيعا.
انتهاء الحرب الأهلية
ولا جدال في أن تلك الديكتاتورية القصيرة الأمد التي أقامها دون بدرو، كانت ذات آثار باقية عندما أمكن بفضل ما صدر من قرارات أثناءها أن يتخذ أحد وزرائه من ذوي الآراء السياسية الإنشائية، ونعني به موزينهودا سيلفيرا
Mousinho da Silveira
إجراءات إصلاحية عديدة، فصار إلغاء العشور، وأزيلت الحقوق والامتيازات الوراثية، وأغلقت أديرة الرهبان والراهبات، وجعلت أملاكها ملكا للدولة، وفصلت أعمال الإدارة عن القضاء، وقضي على الاحتكارات، وصفوة القول أن كل بقايا الإقطاع في البورتغال اختفت في سنة 1834، واستطاعت الملكة ماريا الثانية أن تبدأ حكما في بلاد أزالت رواسب الإقطاع منها، وصارت جديدة في حياتها وتقاليدها.
ولكن افتقار البلاد لليد القوية لتمسك بزمام الحكم والإدارة في بلاد لا زالت فقيرة ومتأخرة، مرت علاوة على ذلك بأدوار متقلبة كثيرة جعلتها نهبا للقلق وعدم الاستقرار، وفريسة للخلافات الحزبية، ولانتشار التذمر بها، وذلك كله بدرجة عطلت تقدمها لمدة طويلة، وجعلت متعذرا أو مستحيلا إقامة صرح الحكومة الرشيدة والموطدة بها.
ولقد تزوجت الملكة ماريا الثانية من أغسطوس دوق لختنبرج
Leuchtenberg
وهو ابن يوجين بوهارنيه، وشقيق زوجة دون بدرو الثانية (أول ديسمبر 1834)، ولكن أغسطوس لم يلبث أن توفي (في 25 مارس 1835)، فتزوجت الملكة من فردننذ ساكس كوبرج، قريب ليوبولد الأول ملك بلجيكا (9 أبريل 1836)، ووجد الاثنان أن صعوبات كثيرة تواجههما.
ذلك أن عهد الملكة ماريا الثانية شهد نضالا طويلا ومؤامرات كثيرة بين أحزاب رئيسية ثلاثة؛ أولها: حزب «الدستوريين» أو أنصار «الميثاق» الذين يريدون حكومة دستورية بالصورة التي أتى بها ميثاق أو دستور 1826، الذي أصدره دون بدرو. وثانيها: الحزب الديمقراطي (أو السبتمبريون) الذين أرادوا العودة إلى المبادئ المقررة في دستور 1822. وثالثها: الحزب المجويلي الذين يريدون تأسيس الحكم المطلق، واستعلاء النفوذ الكنسي في البلاد.
وكانت الملكة في السابعة عشرة من عمرها فقط، وتكاد تكون غريبة عن البورتغال، في حين كان زوجها فردننذ يبلغ العشرين، وهو الآخر أجنبي أصلا أو جنسا، وتدريبا وتعليما. فكان طبيعيا في هذه الظروف إذن أن تستمع الملكة الشابة والتي لم تصقلها التجارب بعد لنصح حاشية صغيرة أكثر أفرادها من الأجانب، أو أن ترتكب أخطاء معينة أثناء محاولتها المحافظة على سلطة التاج وسط تيارات الحزبية المتضاربة، والمنازعات المستمرة بين زعماء الأحزاب من السياسيين الذين يسعون وراء مصالحهم الذاتية، وهكذا تميزت الحقبة التي تلت حروب الوراثة في البورتغال، بوقوع سلسلة من حركات العصيان والانقلابات الوزارية، والثورات، والثورات المضادة وهكذا؛ من ذلك انقلاب (9-11 سبتمبر 1836) الذي وضع الديمقراطيين أو السبتمبريين على رأس الحكومة، ثم الانقلاب الذي حدث بعد قليل لإقصائهم عن الحكم دون طائل (نوفمبر)، ثم عصيان أو ثورة الدستوريين بقيادة سالدانها وتيرسيرا في سنة 1837 (وقد انتهت هذه الحركة بنفيهما)، ثم تأليف وزارة «معتدلة» في سنة 1839، ونجاح الدستوريين في إحراز أكثرية كبيرة داخل الكورتيز في السنة التالية (1840)؛ مما نهض دليلا على أن استعلاء مبادئ السبتمبريين قد انتهى عهده، ولو أن الثورة المضادة لم تحدث إلا في يناير 1842، وعندئذ صدر قرار في 10 فبراير يعيد العمل بدستور 1826، وتألفت وزارة برئاسة دوق تيرسيرا الاسمية بقيت في دست الأحكام حتى شهر أبريل 1846، وكان كوستا كبرال
Costa Cabral
هو صاحب السلطان الفعلي في هذه الوزارة، والذي حكم حكما ديكتاتوريا ألب ضده المجويليين والسيمتريين والدستوريين المنشقين، فقامت الثورة في مايو 1846، واضطر كوستا كبرال - الذي كان قد نال لقب كونت تومار
Thomar - إلى الاستقالة والذهاب إلى المنفى، وطوال العام التالي (1847) استمرت الثورات تجتاح البلاد، ولم يكن لدى «سالدانها» الذي ألف الوزارة أي أمل في إنقاذ الأسرة المالكة إلا بمعاونة أسطول إنجليزي له في نهر التاجوس، وطلب «سالدانها» تدخل الدول، فزحفت قوات إسبانية وإنجليزية على «أوبرتو» - وكان قد تشكل بها مجلس ثوري (جونتا) من العام السابق (1846) - وحاصر أسطول إنجليزي نهر دورو، وعندئذ سلمت «أوبرتو» الثائرة في 30 يونيو 1847.
وأنهى اتفاق عقد في جراميدو
Gramido
في 24 يوليو 1847، الحرب الأهلية في البورتغال، بعد أن نشرت هذه الحرب البؤس والشقاء في طول البلاد وعرضها، فالصناعة معطلة، والدولة في حالة إفلاس، والحكومة القائمة لا اعتبار لها. لقد شهدت الشهور الأخيرة من سنة 1847 هدوءا في البورتغال، هو هدوء ناجم عن استنفاد القوى.
الموقف في سنة 1848
وعندما قامت ثورة فبراير 1848 التي أطاحت بملكية أورليان (ملكية يوليو) وأدت إلى إعلان الجمهورية في فرنسا، انتعشت آمال الثوريين في البورتغال، ولم يمنع تحالف المجويليين والسبتمبريين لتكدير السلام، وإثارة الاضطراب في البلاد؛ غير تدخل «سالدانها» السريع الحاسم، ولكن سالدانها لم يلبث أن استقال (18 يونيو 1848) ليتولى كبرال «كونت تومار» الوزارة، وهو الذي كادت في عهده تشتعل الحرب الأهلية (أو الثورة) من جديد؛ بسبب الصراع الحزبي العنيف بين جماعته والأحزاب المعارضة، ولقد انتهى التوتر بأن رفع «سالدانها» علم الثورة أخيرا في كنترا
Cintra
في 7 أبريل 1851 لتخليص العرش والدستور (الميثاق) من طغيان حكومة الكونت تومار، واستجابت أوبرتو لنداء الثورة (في 17 أبريل)، وحذت حذوها مدن أخرى، واضطر تومار مرة أخرى إلى الفرار إلى إسبانيا (في 29 أبريل). وعرضت الوزارة على سالدانها في أول مايو، وتطايرت الإشاعات بأن الغرض من عرض رئاسة الحكومة عليه؛ استدراجه للدخول إلى لشبونة متفردا؛ أي من غير جيشه، ثم اغتياله، ولكن «سالدانها» احتاط للأمر، ودخل بجيشه إلى العاصمة في موكب كبير من النصر (في 15 مايو)، وألف وزارة «إحياء وتجديد» طلبت معاونة كل أصحاب الآراء المستقلة لتأييدها في تنفيذ البرنامج الذي وضعته لتطهير الأداة التنفيذية (الحكومة) وإدخال الإصلاحات الضرورية «المعتدلة».
ومع أن «سالدانها» لم يفلح في تكوين حزب قومي (وطني) فإنه أسدى خدمة جليلة لوطنه باستصدار القانون الإضافي
Acto Addicional (1852)، الذي أضاف فقرات كبيرة إلى الدستور (دستور 1826) لإعطائه صبغة ديمقراطية. فكان أهم تغيير (أو إصلاح دستوري) حدث؛ إدخال مبدأ الانتخاب المباشر، ثم تضييق السلطات التي كانت حتى هذا الوقت للأداة التنفيذية المركزية (الحكومة) وإنشاء البلديات (أي المجالس البلدية) التمثيلية، وإلغاء عقوبة الإعدام في الجرائم السياسية.
وهكذا بعد صراع عائلي عنيف على العرش اقترن بنضال الأحزاب التي انقسمت إلى جماعات تؤيد المتنازعين على الحكم من أفراد أسرة براجانزا، ويريد فريق منهم إنشاء الحكومة الرجعية المستندة على مبدأ الملكية المطلقة، والإكليريكية؛ أي التي تعتمد على معاونة الكنسيين، وذلك إلى جانب الطبقات الأرستقراطية الإقطاعية، في حين يريد الفريق الآخر إعلان الدستور وتقييد السلطة التنفيذية في نظام برلماني يحل محل مجلس الكورتيز (أو مجلس الطبقات) القديم، استطاعت البورتغال أن تظفر بدستور في سنة 1822 لم يلبث أن استبدل به آخر في سنة 1826، كان أضيق من السابق ثم أدخلت تعديلات (أو إضافات) عليه في 1852، أعطته صبغة ديمقراطية ظاهرة، ولو أنها في رأي كثيرين كانت محدودة؛ حيث لم يتمتع بحق الانتخاب المباشر بمقتضى «القانون الإضافي» الجديد سوى نصف مليون فقط.
أما الملكة ماريادا جلوريا فقد توفيت في 13 نوفمبر 1853، ليخلفها ولدها بدرو الخامس الذي بقي تحت الوصاية حتى بلغ الرشد في سبتمبر 1855، وشهد عهده هدوءا نسبيا في البلاد لرضاء الأحزاب عموما عن «الإضافات» الدستورية الجديدة منذ 1852، وخلفه منذ ديسمبر 1861 أخوه دون لويس
Luiz
باسم لويس الأول، وفي عهده أضحت الملكية محبوبة من الشعب البورتغالي أكثر من أي عهد مضى، وكان لزواجه من أميرة إيطالية هي ماريا بيا
Maria Pia
ابنة الملك فيكتور عمانويل الثاني (ملك إيطاليا) في أكتوبر 1862 أبلغ الأثر في شعبه؛ حيث رضي الأحرار عن هذا الزواج وهم الذين رحبوا بماريا بيا بوصفها ابنة الملك الإيطالي (الحر)، وحيث رحب بها المحافظون باعتبار أنها ابنة بالمعمودية للبابا بيوس الحادي عشر، ولقد استمر عهد الملك لويس الأول حتى سنة 1889.
الفصل السابع
روسيا (1815-1848): استمرار الأوتقراطية في روسيا وإلغاء الحكومة الذاتية في فنلندة وبولندة
تمهيد
في مفتتح القرن التاسع عشر كانت تختلف روسيا في تكوينها السياسي كل الاختلاف عن الدول الواقعة في أوروبا الوسطى والغربية؛ فكان الفستيولا، النهر الذي يمر في بولندة ويخترق بروسيا الغربية قبل أن يصب في بحر البلطيق، يفصل بين روسيا (في الشرق)، والتي بقيت دولة شبه آسيوية، وبين الدول التي تمتعت (في الغرب) بأقدار متفاوتة من الوحدة السياسية، والتي كان من المنتظر أن تزيد وحدتها السياسية توثقا خلال القرن التاسع عشر، نتيجة لانتصار المذاهب القومية والحرة، وهو الانتصار الذي أسفر عن استعلاء نفوذ الطبقة البورجوازية، وكان في الوقت نفسه نتيجة له، واستئثار هذه الطبقة بالسيطرة في شئون الدولة. ولقد كانت روسيا وقتئذ بعيدة كل البعد عن هذا النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي السائد في غرب أوروبا.
والعوامل التي أوقفت تطور الشعب الروسي، ومنعت سيره الطبيعي في طريق الرقي كانت كثيرة، لعل أهمها: تأثره برواسب «البربرية» المتخلفة من غارات المغول في القرنين الثالث عشر والرابع عشر، ثم العزلة التي تحتم على شعب روسيا أن يعيش فيها؛ بسبب تكوين البلاد الجغرافي، الذي أوجد منحدرين للمياه لتجري أكثر أنهارها إما صوب الشمال نحو المحيط المتجمد الشمالي، وإما صوب الجنوب إلى بحر قزوين والبحر الأسود، فعاشت روسيا بسبب ذلك في عزلة فعلية عن بقية أوروبا قرونا طويلة، ولا تشبه تضاريس روسيا أو مناخها في شيء تضاريس سائر أوروبا أو مناخها. فروسيا في مجموعها متناسبة التركيب جغرافيا؛ إذ تمتد بها السهول من جبال أورال في الشرق إلى جبال الكربات في الغرب. فكان من أثر هذه العوامل الجغرافية ازدياد عزلة روسيا، ثم اتسامها بذلك الطابع الشخصي الذي اقترن بحياتها الانفرادية، والذي كان أهم خصائصه؛ الركود العميق الذي أصاب بالشلل كل نشاط أو محاولة للسير في ركب الحضارة الأوروبية (الغربية)، وهكذا ظل ملايين الروس بمنأى عن نفوذ الدولة الرومانية الغربية، ولم يتأثروا بالنهضة الأوروبية، ولم تمتد إلى بلادهم حركة الإصلاح الديني، وهذه القوى الثلاث كانت ذات أثر بالغ في تطور أوروبا (الوسطى والغربية) الحضاري، ويرى كثيرون أن هؤلاء الروس الذين يعدون بالملايين، والذين عاشوا بمعزل عن المؤثرات التي ذكرناها، هم الذين تألف منهم ذلك الحاجز، أو «خط الحدود» الذي فصل روسيا عن أوروبا.
وكان بطرس الأكبر (1682-1725) أول قيصر بذل جهودا جبارة لإدخال الحضارة الأوروبية (الغربية) إلى بلاده، ولكن هذه المحاولة لم تتجدد في عهد خلفائه؛ بطرس الثاني، ثم بطرس الثالث، ثم كاترين الثانية (1762-1796). حقيقة أفلحت هذه الأخيرة في أن ترفع شأن روسيا في محيط السياسة الأوروبية، ولكنها لم تفعل شيئا لمعالجة المشكلة الكبرى؛ مشكلة إعادة البناء أو التنظيم الداخلي. ثم بقيت الحاجة ملحة للإصلاح الداخلي، وبصورة تعيد بناء المجتمع الروسي؛ سياسيا واقتصاديا واجتماعيا على أسس متفقة مع المبادئ التي نادى بها الأحرار في أوروبا طوال القرن التاسع عشر. فالقيصر بول الأول (1796-1801) ابن كاترين الثانية، والذي كان يكن لوالدته كراهية عظيمة بسبب إرهاقها له في حياتها، كان أوتقراطيا شديد التطرف، ولو أنه حاول كسب محبة الشعب وعطفه عليه، بالسماح لأفراد الشعب مثلا بأن يبعثوا «بعرائضهم» للقيصر؛ ليتولى القيصر نفسه النظر في شكاواهم، والرد عليها، ونشر هذه الردود في صحف العاصمة «بطرسبرج»، ويعترف المؤرخون بأن القيصر بول، كان يبدو صادق الرغبة في إجبار روسيا على التخلي عن حياتها القديمة، والسير في طريق جديد يقود إلى حياة جديدة، ولو أن هؤلاء المؤرخين أنفسهم كانوا يشكون في أن لدى القيصر بول فكرة واضحة عن الغرض الذي يبغي تحقيقه؛ بل إن تصرفات القيصر في إدارة شئون البلاد الداخلية والخارجية معا - وهو الذي أنهى محالفته مع الدولة الغربية ضد نابليون، وتحول ضد إنجلترة والنمسا، ثم أخذ يتأهب لإرسال حملة إلى الهند - نقول: إن هذا التصرف من جانب القيصر بول أفزع رجال البلاط والحاشية الذين عدوه، بالإضافة إلى نوبات الغضب الشديد، والنزعات الشخصية الهوائية «والجنون»، خطرا يتهدد ليس أشخاصهم فحسب، بل والدولة كذلك، فتآمروا على قتله ، وقتلوه في 11 مارس 1801. (1) الأمل في «الإصلاح»
وكان الذين تآمروا على حياة القيصر بول هم النبلاء، أصحاب الأراضي الواسعة، ثم كبار الممولين، الذين احتكروا المؤسسات الصناعية، والتجار الذين اعتمدوا في أرباحهم على التجارة مع إنجلترة خصوصا، وكل هؤلاء من أهل الطبقات العليا، وهذا إلى جانب الوزراء وكبار رجال الدولة، والبلاط والحاشية والعسكريين الذين أصابت في الصميم إجراءات القيصر الأوتقراطية مصالحهم «الإقطاعية»، فاعتبروا وفاته «ضرورة» لا غنى عنها لبقاء النظام القائم. وأما سواد الشعب الروسي الذي لم تؤثر شيئا في أسلوب حياته العادية، إجراءات القيصر الأوتقراطية، بل انتظر نتائج طيبة من ذلك العطف الذي بدا نحوه من جانب القيصر، فقد اختلف نظر سواد الشعب لوفاة القيصر بول عن نظر الطبقات العليا لهذا الحادث اختلافا بينا، فعقد الروس آمالا كبيرة على خليفة بول وابنه الشاب إسكندر الأول (1801-1825)، سواء كان هؤلاء من أهل الطبقات العليا أو من سواد الشعب.
فقد بدأ مع القرن التاسع عشر عهد ارتبط بالتغيير الذي حدث، من حيث اعتلاء عاهل جديد عرش القيصرية، وهو تغيير أوجد في أذهان الناس صورة لذلك «الإصلاح» الذي ساد الشعور بأنه قد بات ضروريا، سواء سار هذا الإصلاح في طريقه الطبيعي، أو اتخذ اتجاها عكسيا، ومعنى الاتجاه العكسي؛ أن يسترد الذين نالت من سلطاتهم إجراءات القيصر بول الأوتقراطية، كل امتيازاتهم القديمة التقليدية. فيرضى هؤلاء حينئذ عن «الإصلاح» في هذا العهد الجديد المنتظر، ومن شأن ذلك استمرار «الأوتقراطية القيصرية» بكل حذافيرها، وهي التي لم يغير شيئا من جوهرها استئثار القيصرية المركزية بشطر أوفى من السلطة الحكومية الاستبدادية، على نحو ما هدف إليه القيصر بول الأول، ولم يكن من المتوقع أن يضعفها كذلك مشاركة النبلاء والعسكريين وحكام الأقاليم وأهل الطبقات العليا عموما في ممارسة السلطة، على نحو ما كان يريد هؤلاء من «الإصلاح» الذي نشدوه.
أما إذا سار الإصلاح المرجو في طريقه الطبيعي، فمعنى ذلك أن المبادئ الحرة سوف تنتشر في روسيا، وأن انتشار هذه المبادئ سوف يفضي، بعد خطوات قد تكون بطيئة أو سريعة، إلى تغيير الأنظمة الأوتقراطية القائمة، بفضل تأسيس الحكومة الدستورية، وإزالة مساوئ الحياة الاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بهذه الأوتقراطية، وشر هذه المساوئ؛ نظام رقيق الأرض
Serfdom
المتغلغل في كيان المجتمع الروسي، ولا جدال في أن الإصلاح المرتقب وقتئذ إذا سلك طريقه الطبيعي في ضوء الآراء الحديثة التي أتت بها الثورة الفرنسية، ونشرتها في أوروبا حروب هذه الثورة والحروب النابليونية، فإنه سوف يؤدي إلى نتائج قريبة أو بعيدة الأثر، لعل أهمها؛ تحرير الفلاحين وهم الذين يتألف منهم رقيق الأرض، وظهور طبقة متوسطة (بورجوازية) ذات كيان واضح في المجتمع، وذلك على أنقاض الطبقة الإقطاعية التي سوف ينجم من زوالها؛ تغيير في نظام الإنتاج ووسائله تتشكل بمقتضاه العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في المجتمع الجديد.
ومع ذلك، فقد واجهت القيصرية في هذا العهد «الجديد» وهو العهد الذي بدأ باعتلاء القيصر إسكندر الأول العرش، مشكلات عاجلة، تتطلب حلولا حاسمة وسريعة، يمكن إيجازها في ضرورة إنشاء جهاز حكومي لإدارة شئون الحكومة المركزية وفي الأقاليم، يفسح مجال العمل للمديرين الأكفاء، ويقضي على عوامل الرشوة والفساد في الأداة الحكومية، ثم ضرورة إعداد ميزانية متوازنة ولا عجز فيها، وتقدير إيرادات الدولة على أسس سليمة بفضل إعادة النظر في موضوع الضرائب من مباشرة وغير مباشرة، والتدقيق في وجوه إنفاق هذه الإيرادات، وتنظيم الجيش والبحرية، ومعالجة الشئون الدينية على أساس الحد من سلطات القساوسة ومجالسهم الدينية في المجتمع الروسي، والبحث في مسائل الثقافة والتعليم ومعالجة مشكلة رقيق الأرض، وتلك - كما هو واضح - مسائل تتصل جميعها بكيان المجتمع نفسه، ولم يكن القياصرة - من خلفاء بطرس الأكبر، وعلى نحو ما ذكرنا - قد حاولوا معالجتها، واتجهت بسببها الأنظار إذن للعاهل الجديد ليفعل ما عجز عنه أسلافه.
وعقد «المتنورون» - وكانوا من أهل الطبقات العليا خصوصا - على القيصر إسكندر الأول الآمال الكبار في أن الإصلاح على المبادئ الحرة (الغربية) سوف يتم على يد هذا الحاكم الشاب، ولكن هؤلاء «المتنورين» والراغبين في «الإصلاح الطبيعي» لم يكونوا أصحاب الغلبة في هذا العهد أو حتى لسنوات طويلة بعد ذلك في العهود التالية، بل وجدت إلى جانب هؤلاء الطبقة الرجعية، التي أصرت على التمسك «بالأوتقراطية» الصارمة التي يكفل بقاؤها استمرار قواعد المجتمع الإقطاعي الذي تمتعوا في نظامه بكل الامتيازات التي صارت لهم من أقدم الأزمنة، وتوقف لذلك، وإلى حد بعيد إذن، نجاح الإصلاح المنشود أو فشله على رغبة القيصر الشاب وإرادته، ومكانه في الصراع الذي نشب بين «الأحرار» و«الرجعيين».
ولقد مر بنا كيف أن القيصر إسكندر في أول عهده كان يميل للمبادئ الحرة، التي لقنه إياها مربيه السويسري «فردريك سيزار لاهارب»، وكان هذا صاحب تأثير كبير على القيصر. فبقي إسكندر لا يستطيع إلى آخر أيامه أن ينبذ عنه تماما هذه المبادئ الحرة، وظل ذهنه «مفتوحا للآراء الحرة، ولو أنه كان يخضع لموجات من التشاؤم»، ولا يجد ما يشجعه على المضي في تعضيد هذه الآراء الحرة، على نحو ما ظهر من مسلكه أثناء الحروب النابليونية، ثم أثناء عهد المؤتمرات الأوروبية في الفترة التالية. فكان القيصر كثير التحول من مبدأ إلى آخر، وكثير التردد بين معسكري الأحرار والرجعيين، فاتسمت سياسة القيصر بطابع التردد، وهو التردد الذي حاول مترنخ أن يجد تفسيرا له فيما عزاه إلى ذلك التقلب الذي لا ينفك يحدث في آراء القيصر منذ أن تبدأ تختمر فكرة غضة في ذهنه، إلى وقت زوال هذه الفكرة لتحل محلها فكرة أخرى. فقال مترنخ: إن فكرة ما قد تشغل ذهن القيصر مدة عامين، قبل أن تخرج إلى عالم الوجود في شكل «نظام» معين، لا يلبث أن يجد القيصر نفسه مشغولا طوال العام الثالث في «تطبيق» هذا النظام وتنفيذه، حتى إذا جاء العام الرابع، أخذت الشكوك تساور القيصر في قيمة النتائج التي يسفر عنها هذا النظام، ثم تقوى هذه الشكوك، حتى إذا جاء العام الخامس شوهد هذا النظام، وقد أخذ يتلاشى لتسود الفوضى مكانه، فلا يكون هناك إذن معدى عن نشوء «فكرة» أخرى جديدة، تتغلب في هذه المراحل ذاتها، وهكذا دواليك. مما جعل مترنخ يصف عقل القيصر بأنه يمر أو يتنقل في دورات، مدة كل واحدة منها خمس سنوات، وواضح أن هذا التبدل الذهني، كان لا يمكن أن تستقر بسببه أية «إصلاحات»، يترتب عليها تعديل أو تغيير جوهري في النظام السياسي القائم؛ أضف إلى هذا أن القيصر إسكندر كان يخضع «لعادة ذهنية» لا يتفق وجودها مع فن السياسة الصحيح؛ أي تدبير شئون الحكم بنجاح في الداخل والخارج معا، ونعني بذلك شعوره بالاحتقار لشعبه، وإن كان لدرجة قليلة.
وينقسم عهد إسكندر إلى قسمين؛ أولهما: من 1801 إلى 1812، وثانيهما: ينتهي عند وفاته سنة 1825. تميزت الفترة الأولى بأن مستشاري القيصر وموضع ثقته كانوا رجالا ممن عرفوا أوروبا الغربية ونالت الحياة الدستورية في إنجلترة تقديرهم، ومن هؤلاء كان الأمير البولندي آدم تزارتورسكي
Adam Czartoryski ، والنبيل الروسي كونت نيقولا نوفوسيلتزوف
Novossilzoff ، وزميله كونت بول ستروجانوف
Stroganoff ، ثم كونت ميخائيل سبرانسكي
Speranski (1772-1839)، وكان سبرانسكي أصلا من غير طبقة النبلاء الذين احتكروا في العادة كل المناصب الكبيرة في الدولة، ولكنه كان صاحب كفاءة إدارية، معجبا بالإصلاحات الفرنسية، عينه القيصر وزيرا للداخلية سنة 1806، بالرغم من اصطدام هذا التعيين بالرأي السائد في دوائر النبلاء، وبقي سبرانسكي مستشارا للقيصر حتى سنة 1812، وكان بفضل هذا الوزير أن أدخلت تحسينات كثيرة على القوانين الروسية، فقد كان سبرانسكي معجبا «بقانون نابليون»، ثم إن الآراء الحرة لم تلبث أن راجت رواجا كبيرا بين الأوساط المثقفة في روسيا بعد معاهدة «تلست» سنة 1807 والتحالف مع فرنسا؛ حتى إن القيصر كلف وزيره بإعداد مشروع كامل للإصلاح، فوضع سبرانسكي في سنة 1809 مشروعا لدستور ينشئ برلمانا دوما
Duma
من مجلسين، ويقرر مسئولية الوزراء أمام الهيئة التشريعية، ولكن هذا الدستور لم يصدر بسبب مقاومة الرجعيين العنيفة أنصار «النظام القديم» في بلاد كان لا يزال تكوينها من كل النواحي إقطاعيا. ثم تآمر ضد سبرانسكي أعداؤه وهم الذين أوذيت مصالحهم بسبب إصلاحاته وتخوفوا من مشروعاته، ولما كان ذهن القيصر قد أتم إحدى «دوراته» التي وصفها مترنخ، فقد عمد القيصر فجأة ودون إنذار سابق إلى عزل سبرانسكي (في 17 مارس 1812)، فنفاه إلى الأورال (في برم
بإقليم قازان
Kazan ، ومن ذلك الحين وقف «إصلاح» الحكومة في روسيا، ولقد عاش سبرانسكي نفسه ليقوم في عهد القيصر نيقولا الأول، بجمع شتات القوانين الروسية في مجموعة قانونية واحدة، وكانت وفاته في سنة 1839.
وفي القسم الثاني من عهد القيصر إسكندر؛ وقعت حملة نابليون على روسيا (1812)، كما اشترك الروس في «حرب الأمم» بعد ذلك لتحرير ألمانيا من السيطرة النابليونية، وتلك أحداث كان لها أثر عميق في حياة الروس وتفكيرهم، ثم إنها ساعدت بقوة على رواج المبادئ الحرة رواجا عظيما بين طبقتي النبلاء والبورجوازية في روسيا؛ إذ اندفع الشباب في حماس شديد للانخراط في الجندية من أجل الاشتراك في الحرب التحريرية، ثم رجع الضباط من باريس بعد الانتصار على نابليون، وهم يحملون إلى أوطانهم الآراء الحرة الغربية لينشروها بها، ومع ذلك فقد أنهت الحروب ذاتها «عهد سبرانسكي»؛ أي عهد الإصلاح الحكومي على الآراء الحرة الغربية، باعتبار أن سبرانسكي كان مشايعا للأساليب والأنظمة الفرنسية، وعلى ذلك ففي حين أدت الحرب إلى رواج المبادئ الحرة في روسيا، فإنها قد أبعدت في الوقت نفسه «الحكومة» ذاتها عن التأثر بها. فمع أن القيصر في السنوات القليلة التي تلت الحروب النابليونية، استمر حتى سنة 1818 يبدي في سياسته الخارجية ميولا ظاهرة نحو تأييد المبادئ الحرة، فقد ظل في داخل بلاده لا يريد إدخال تغيير ما على الأوضاع السائدة عموما، (وإن كان قد أظهر بعض الميول الحرة في معالجة مشكلة رقيق الأرض)، فاستمرت الرجعية على شدتها، وضاع كل أمل في إصلاح شئون البلاد إصلاحا يستند على المبادئ التي ينادي بها الأحرار في أوروبا، عندما تخلى القيصر عن آرائه الحرة كذلك في السنوات الخارجية بعد الحوادث التي وقعت في أوروبا بين سنتي 1817، 1820، خصوصا والتي ذكرناها عند الكلام عن «الاتحاد الأوروبي»، ولعل الاتجاه «الحر» الوحيد في هذه الفترة كان منح غراندوقية فنلندة «حكما ذاتيا» منذ 1809، وإنشاء «مملكة بولندة الدستورية» سنة 1815، ومع ذلك فقد وقعت الاعتداءات على «حقوق» هذه الحكومات الذاتية الدستورية قبل وفاة القيصر إسكندر نفسه، ثم إن شيئا ما لم يتغير في شئون روسيا الداخلية، وبقيت الأوتقراطية القيصرية على حالها، بالرغم من إعطاء بولندة «دستورا »، وفنلندة «حكومة ذاتية».
وروسيا في سنة 1815؛ أي بعد انتهاء الحروب النابليونية، كانت قد بلغت ذروة رقعتها كدولة أوروبية، بفضل ما أظهره أباطرتها من جلد وقدرة على المثابرة أثناء الحروب النابليونية، ثم بفضل ما صار لها من نفوذ أدبي، رفع شأنها كنصير قوي لقضية الحرية بين الأمم الأوروبية، وخرجت روسيا من هذه الحروب التي كفلت لها التمتع بسمعة أدبية عالية، وقد جنت فوائد «مادية» ظاهرة، حيث قد استطاعت أن ترسم بصورة نهائية حدودها الغربية، وأن تتوسع في الوقت نفسه صوب الشرق والجنوب. فالقيصر إسكندر إلى جانب الحرب ضد نابليون، قد خاض في المدة من 1801 إلى 1815 حروبا أخرى عديدة مع كل جيرانه - فيما عدا الصين؛ أي مع السويد وبولندة وبروسيا والنمسا وتركيا، وقبائل فنلندة، ومن بولندة؛ غراندوقية وارسو، ومن بروسيا؛ إقليم بياليستوك، ومن فارس: مقاطعات جورجيا وداغستان وإيميريتا
Imeritia
وجوريا
Goria (وتقع كلها في جهات القوقاز)، ثم من النمسا؛ إقليم تارنبول
Tarnopol ، ومن تركيا؛ بسارابيا، وبذلك اتسعت رقعة روسيا من خمسة عشر مليونا من الكيلومترات المربعة يقطن بها سكان عددهم (33) مليون نسمة في عهد كاترين الثانية (1762-1796)، إلى عشرين مليونا من الكيلومترات المربعة، وسكان يبلغون (45) مليون نسمة في سنة 1815، ولا جدال في أن هذا الاتساع العريض والذي حصل «فجأة» أي في سنوات معدودات فقط، كان لا مناص من أن يضيف أعباء جديدة وخطيرة، تركت آثارها في كل نواحي الحياة الداخلية في روسيا. (2) بين «الإصلاح» والأوتقراطية
وكان من المشاكل التي نجمت من هذا الاتساع «المفاجئ»، ما تضخم ميزانية الدولة، وتزايد عجز الإيرادات عن سد نفقات الإدارة وشئون الحكم الأخرى، وما صحب ذلك من لجوء الدولة إلى فرض الضرائب الثقيلة، وتضخم النقد وانخفاض قيمة العملة الورقية.
ففي أول عهد القيصر إسكندر، بلغت الإيرادات حسب الميزانية المعدة لسنة 1802؛ سبعة وسبعين مليون روبل (وقيمة الروبل وقتئذ ثلاثة شلنات إنجليزية)، والمصروفات تسعة وسبعين مليون روبل، وفي سنة 1810 حسب تقدير سبرانسكي وزير الداخلية، بلغت الإيرادات 127 مليونا، والمصروفات 193 مليون روبل؛ أي إن العجز بلغ 66 مليون روبل، وبلغت ديون الدولة الداخلية 577 مليونا من الروبلات ، والخارجية 100 مليون؛ أي إنها بلغت أجمعها 677 مليون روبل، وكان من أثر الحروب التي خاضتها روسيا ضد نابليون أن ارتفعت الميزانية ارتفاعا عظيما، كما ارتفع العجز كذلك ارتفاعا كبيرا، فقد قدرت الإيرادات في الميزانية لسنة 1814 بنحو ( ) مليون روبل، والمصروفات بنحو (405) مليون روبل، بعجز يزيد على (92) مليونا وذلك قيمة العجز في الظاهر فقط؛ لأن العجز كان يزيد على هذا المبلغ كثيرا؛ والسبب في ذلك أن الإيرادات المنتظرة كانت تشمل «موارد» مصطنعة، وفي العام التالي (1815) أمكن وضع ميزانية «متوازنة» في حدود (316) مليون روبل لكل من الإيرادات والمصروفات.
وكانت أهم أبواب الإيرادات المنتظرة عند وضع هذه الميزانية المتوازنة؛ ضريبة فردة الروس، والأوبروك
Obrok - وهذه الأخيرة عبارة عن مبالغ معينة يدفعها الرقيق الذي لا يريد المالك استخدامهم في أرضه، ويأذن لهم «بإعارة» عملهم للغير في نظير أجر ينال منه المالك نسبة معينة في شكل جعل يدفعه الرقيق لأسيادهم سنويا، ويدفع هذه الضرائب الفلاحون التابعون للتاج (أي للدولة)، وكذلك الفلاحون الذين يملكهم الأفراد (أي الملاك) العاديون، ثم كان من أبواب الإيرادات؛ الضرائب المحصلة من التجار، وفردة الروس المحصلة من طبقة الملاك في المدن، وأعضاء النقابات، والضرائب التي يدفعها ملاك الأرض، ثم تلك المحصلة على الفودكا والمشروبات الروحية الأخرى، وأخيرا الضرائب الجمركية.
أما أهم أبواب المصروفات فكانت؛ نفقات البلاط، والجيش والبحرية، ووزارات المالية والبوليس، وأقل المصروفات كانت على التربية والتعليم؛ حيث بلغت مليوني روبل فقط، وفي آخر عهد القيصر إسكندر قدرت الإيرادات لميزانية 1825 بمبلغ 393 مليونا من الروبلات. كانت قيمة الضريبة المحصلة على المشروبات الروحية، والفودكا فقط (121) مليونا، في حين ارتفعت الضرائب الجمركية إلى (48) مليون روبل، وكان نصيب التربية والتعليم من المصروفات
مليون.
وساءت مالية الدولة؛ بسبب انخفاض قيمة العملة المتداولة، واختفاء المسكوكات من الذهب والفضة، ونقص قيمة العملة النحاسية، ولم تلبث أن اختفت في السنوات التالية العملة الذهبية والفضية اختفاء كاد يكون تاما، وانخفضت قيمة العملة النحاسية، في حين زادت العملة الورقية حتى بلغت في سنة 1815؛ سبعمائة مليون روبل، وفي أواخر سنة 1816؛ ثمانمائة وستة وثلاثين مليونا، وفقد الورق النقدي حوالي ثلاثة أرباع قيمته، مما كان معناه أن الدولة صارت في حالة إفلاس فعلي، وحتى يمكن وقف الهبوط الذي حدث في قيمة الروبل الورق تدخلت الدولة في سنة 1817 لوقف إصدار العملة الورقية، واتخذت الإجراءات لسحب قدر من العملة الورقية من التعامل، فبلغ ما أمكن سحبه منها خلال خمس سنوات: (1817-1822) مائتين وأربعين مليونا. على أنه كان من المتعذر المضي في سحب العملة الورقية؛ بسبب العجز المزمن في الميزانية، والذي ألجأ الدولة إلى عقد القروض، واستصدار السندات اللازمة بقيمة هذه القروض، وكانت هذه بفائدة تزيد على 7٪، يصير استهلاكها بدفع العملة الورقية التي هي صكوك دين بدون فائدة (على الدولة).
وابتلع الجيش، أداة السيطرة الفعالة في يد السلطة الحاكمة، وموضع اهتمام الحكومة الرئيسي حوالي ثلث إيرادات الدولة، وكان عبئا ثقيلا، استنفد قوى الأمة، حينما استطالت الخدمة في الجندية، فبلغت خمسة وعشرين عاما، يخضع المجند خلالها لنظام صارم وبخاصة إذا كان جنديا عاديا، ولا يجد غذاء يكفيه حتى من أردأ أنواع الأطعمة، ويعيش عيشة تعسة في ملبسه ومسكنه، وأما عدد الذين فقدهم الجيش الروسي أثناء الحروب المتصلة بين سنتي 1805، 1815، فقد بلغ (1200000) نسمة. كانت نسبة الذين سقطوا منهم في ساحة الوغى - ولا شك - قليلة بجانب أولئك الذين فتك بهم المرض والمشاق التي صادفوها أثناء الحملات العسكرية، وفي نفس هذه المدة بلغ عدد المجندين الجدد مليونا ونصف مليون نسمة، وذلك خلاف فرسان القوازق الذين بلغوا أعدادا عظيمة، واشتطت الحكومة في تجنيد الصالحين للخدمة بين سن الثامنة عشرة والخامسة والثلاثين، فشمل التجنيد المجرمين والمتشردين، وأما إذا تعذر وجود مجند لائق للخدمة في قرية من القرى، فقد كانت تستبدل به السلطات صبيا في سن الثانية عشرة لتدريبه وتهيئته للخدمة العسكرية، وأقفرت بعض الأقاليم (مثل: أستراخان
Astrakhan
من الشبان أو الرجال تماما، فصار لا يوجد بها غير النساء والأطفال والشيوخ والمصابين بالعاهات؛ لأن شباب الإقليم ورجاله الذين لم يجندوا استطاعوا الهرب إلى فارس (إيران)، قبل أخذهم للجيش، وأبدى أهل الريف في حالات كثيرة مقاومة عنيفة ضد سلطات التجنيد، خصوصا في المقاطعات البلطيقية، كما أن اللائقين للخدمة العسكرية كانوا يشوهون أجسامهم فرارا من التجنيد، فبلغت نسبة الذين فعلوا ذلك في إقليم نوفجورود
Novgorod
مثلا: 15٪، وكان اليهود معفيين من الخدمة العسكرية في نظير جعل كبير يدفعونه، ولكن ابتداء من سنة 1827 صار التجنيد يشملهم، ومع أن عقوبات قاسية كانت توقع على الفارين من الجيش، فقد بلغ عدد الهاربين من صفوف الجيش كل سنة حوالي خمسة آلاف «جندي».
وابتدع القيصر إسكندر الأول نظام «المستعمرات العسكرية» تحت ستار إنساني يدعو في ضرورة أن يعيش الجند في زمن السلم مع عائلاتهم، وأن يزاولوا حرفهم وأشغالهم العادية. في حين كان الغرض الحقيقي من هذا النظام؛ أن يتكفل الفلاحون بحاجات الجند من الأغذية، وبحاجات خيولهم من العلف، فيعيش الجيش على موارد الفلاحين، ولا تتحمل خزانة الدولة نفقات جنودها، ولقد كان القيصر يريد قبل أي شيء آخر من نظام المستعمرات العسكرية، تأسيس «حرس إمبراطوري»، يلتف حول شخصه ويدين بالطاعة التامة للقيصر مباشرة، ويعيش منفصلا عن الشعب وبعيدا عنه، فيعطي الجنود (مع عائلاتهم) في هذه المستعمرات الأرض لزراعتها والحيوانات لاستخدامها في فلاحتها، ويزودون بالمباني لسكناهم إلخ، وأدخل القيصر هذا النظام لأول مرة سنة 1810 في مقاطعة موهيليف
Mohilev
التي أجبر كل الفلاحين بها على إخلائهم والانتقال مسافة طويلة من روسيا البيضاء، حيث توجد بها موهيليف إلى مديرية أخرى مقاطعة نوفوروسيسك
Novorossisk
في الجنوب على الشاطئ الشمالي الشرقي للبحر الأسود، في جهات القوقاز، وفي سنة 1815 أنشأ القيصر مستعمرة أخرى في ناحية فيزوتسك
Visotsk
من إقليم أو مديرية نوفجرود (في الشمال الغربي)، وفي هذه المرة أبقى الفلاحون، ولكن بعد وضعهم تحت سلطان قائد القوات العسكرية المطلق، وأدخل جميع أهل الناحية، من الإناث والذكور في عداد المعمرين العسكريين، واعتبر الأطفال من وقت ولادتهم ملحقين بالخدمة في هذه المستعمرة العسكرية، واعتبرت البنات الصغيرات زوجات في المستقبل للجنود، وحرم الأهلون في المنطقة من بيوتهم وأسراتهم وعاداتهم وحرياتهم وكل حقوقهم، حتى الأولية منها، وتولى أحد مستشاريه والمقربين منه؛ الجنرال أليكسيس أراكشييف
Arakchieff ، تنفيذ هذا البرنامج (الذي لم يكن هو صاحبه أو مقترحه) بكل ما يملك من جهد وحيلة، لإنشاء سلسلة من المستعمرات العسكرية، التي تتألف من «الجنود الفلاحين»، والتي كان المنتظر من وجودها وعند نجاحها، أن تجعل الملكية (أي القيصرية) مستقلة عن طبقة كبار أصحاب الأراضي، ومتحررة من نفوذهم، وأن يتحول بفضلها الجيش الروسي إلى «شعب مسلح»، ولم تكن هذه في ذاتها «فكرة» جديدة، فقد سبق أن عمد إيفان الرابع الفظيع (1533-1584) إلى تأسيس بيروقراطية مؤلفة من طبقة من الموظفين الملتحقين بخدمة القيصر مباشرة، تتكفل الدولة بكل حاجاتهم ونفقاتهم، ثم لم يلبث أن نقل إليهم في أواخر أيامه نصف أملاكه مع تخويلهم حق استغلالها، وفرض ضرائب جديدة عليها، وتشغيل أهلها في أعمال السخرة، وذلك للإنفاق من إيرادها على الجيش والبلاد فحسب.
وقد عرف هذا النظام باسم أوبرشنينا
Oprichnina ، والموظفون في هذا النظام باسم أوبرشنيك
Oprichniks ، وكان غرض القيصر إيفان الرابع من إنشاء هذا النظام حماية سلطانه، وحكومته الأوتقراطية، من طبقة كبار ملاك الأراضي، أو البويار
Boyars ، فأراد القيصر إسكندر الأول الآن، بإنشاء هذه «المستعمرات العسكرية» أن يتحرر النظام القيصري من أي نفوذ لهؤلاء الملاك الذين ما فتئوا يتذمرون من حرمانهم ثمرة «جهودهم»، كلما انتزع التجنيد الإجباري «فلاحيهم» من الأرض التي يملكونها، (وبما عليها من فلاحين كذلك)، واعتقد القيصر إسكندر إذن أن تدعيم الأوتقراطية القيصرية سوف يترتب حتما عن إنشاء «المستعمرات العسكرية»، وأن من شأن هذا النظام عند نجاحه أن ينقل «القيصرية الإقطاعية»، التي تأسست أصلا على قاعدة التمثيل الطبقي (عن النبلاء ورجال الكنيسة والمزارعين أو الفلاحين من غير الأقنان، في المجالس التي كانت تدعوها القيصرية للتشاور من وقت لآخر)؛ ينقلها إلى استبدادية عسكرية بحتة، وهو غرض سوف يتمكن القيصر كذلك من تحقيقه، وعلى نحو ما صح عليه عزمه، بفضل فصله الضباط وجعلهم يعيشون بعيدين ومعزولين عن النبلاء في هذه المستعمرات العسكرية. كما كان من المنتظر عزل الضباط النبلاء في آلايات «حرس سان بطرسبرج» على حدة في الجيش الذي سوف يعاد تنظيمه.
ومع أنه كان من المستحيل نجاح مثل هذا النظام، في آخر الأمر، لسبب جوهري واحد، هو اصطدامه مع رغبات «وإرادة» الجنود، والضباط، وملاك الأراضي، والفلاحين (بطبيعة الحال)، وعلى حد سواء. في حين أخفقت السخرة المستخدمة في فلاحة الأرض في إنتاج المحاصيل الطيبة، ولم يسفر «تدريب الجنود» عن نتائج طيبة كذلك، وكان رؤساء هذه المستعمرات العسكرية يجهلون شئون الزراعة، وكثيرا ما هلك «الجنود الفلاحون» من المجاعة، ومع ذلك، وبالرغم مما هو معروف عن تردد القيصر وعدم ثبوته طويلا على شيء واحد، فقد ظل إسكندر الأول متشبثا بتنفيذ مشروع «المستعمرات العسكرية»، وتحت إشراف الجنرال «أراكشييف» تقدم تنفيذ هذا المشروع بكل سرعة، حتى صارت هذه المستعمرات العسكرية في خلال عشر سنوات فقط منتشرة في جهات عديدة من روسيا، وحتى صارت تضم في سنة 1825 (وهي آخر سني حكم إسكندر الأول) ثلث قوات الجيش الروسي تقريبا. فكانت هذه المستعمرات العسكرية تؤلف «جيوشا» منفصلة، وموزعة في هذه المراكز المختلفة، فبلغت (90) أورطة في مستعمرة نوفجرود، و(249) كتيبة في مستعمرات خاركوف
Kharkoff
وخرسون
Kherson ، إيكاتير ينوسلاف
Ekaterinoslaff ، وكلها في إقليم الأوكرين، ويقع عبء «إعالة» كل هذه القوات على عاتق أربعمائة ألف من الفلاحين، وكان القيصر إسكندر يريد تعميم هذا النظام في كل روسيا، ولكن حالت وفاته دون نزول هذه الكارثة «بالفلاحين» خصوصا، ولما كان القيصر بعد سنة 1815 قد أراد بقاء الجيش في الخدمة العاملة دائما، وأن يكون لروسيا جيش يضاهي في عدده قوات النمسا وبروسيا مجتمعة، فقد بلغ عدد الجيش العامل في روسيا في سنة 1825 حوالي؛ خمسمائة قائد وثمانية عشر ألف ضابط من الرتب الأخرى، وسبعمائة وثلاثين ألف جندي.
وكان في عهد القيصر بول الأول أن أعيد تنظيم البحرية (1797)؛ بسبب شغفه بشئون البحر فاتخذ لقب «أمير البحر العام»، وفي عهده تألف الأسطول الروسي من (12) بارجة قوة كل منها (100) مدفع، و(26) أخرى قوة كل واحدة منها (74) مدفعا، ثم (12) تحمل كل منها (66) مدفعا، وهذا إلى جانب (45) فرقاطة، وكان هذا النشاط وقتذاك موجها ضد إنجلترة الدولة البحرية الكبيرة، والتي نقض القيصر تحالف روسيا معها (ومع بروسيا والنمسا) ضد نابليون، ولكن لم يلبث أن تغير الموقف عند اعتلاء القيصر إسكندر العرش وقل الاهتمام بالبحرية، حينما صار إسكندر من بداية عهده، وخلال أكثر سنوات حكمه يطلب مؤازرة إنجلترة من جهة، ويوجه كل عنايته لتعزيز قواته (جيوشه) البرية، وفي عهد هذا القيصر بدأ في سنة 1817 بناء السفن التجارية في روسيا لأول مرة، وعند وفاته (1825) كانت البحرية الروسية تتألف من أسطول بحر البلطيق، من خمس بوارج، وعشر فرقاطات، وجميعها في حالة سيئة، ثم حوالي (15-20) سفينة أخرى لا تصلح للخدمة، ثم أسطول البحر الأسود، وذلك كان في حالة أفضل نسبيا، ويشمل عشر بوارج وست فرقاطات واثنتي عشرة سفينة صغيرة، وكلها صالحة للخدمة، ثم أسطول بحر قزوين، من خمس سفن صغيرة وسبع نقالات، وأما أسطول الباسيفيكي (في بحر أوخوتسك) في
Okhotsk
في الطرف الشمالي الشرقي من سيبريا، فكان من سبع نقالات فقط.
ولقد حظي الأسطول بعناية القيصر نيقولا الأول (1827-1855)؛ بسبب أن آراء هذا القيصر السياسية كانت تقوده إلى الاصطدام مع تركيا وإنجلترة، ولأن النصر السهل الذي أحرزته أساطيل الدول المتحالفة (روسيا، فرنسا، إنجلترة) على الأسطول العثماني المصري في مياه نقارين (1827) جعله يتحمس لبناء أسطول روسي كبير. فبلغت قوة أسطول بحر البلطيق في سنة 1830؛ ثماني وعشرين بارجة، وسبع عشرة فرقاطة، وأسطول البحر الأسود؛ إحدى عشرة بارجة وثماني فرقاطات، ومع ذلك فقد كانت دراية رجال هذه الأساطيل وكفاءة ملاحيها دون المستوى المطلوب في فنون البحر والملاحة، كما كانت قدرة الأسطول نفسه الحربية موضع شك كبير.
ولقد كانت تهيمن على إدارة شئون الحكم - هيمنة ظاهرية ولا شك - ثلاث هيئات إدارية هي؛ مجلس الدولة، ومجلس الشيوخ، ولجنة الوزراء، وتأسس مجلس الدولة سنة 1801 ليضطلع أصلا بشئون التشريع والقضاء، ولكن لم يلبث أن جعلت وظائفه في سنة 1804 مقصورة على مسائل التشريع. حتى إذا وضع سبرانسكي مشروعه المعروف للإصلاح بتكليف من القيصر (في سنة 1809)، كان من المنتظر أن يكون لهذا المجلس شأن كبير في الإصلاحات الدستورية وتلك المتعلقة بالملكية (أو القيصرية) في الإمبراطورية، ولكن بسقوط سبرانسكي (1812) بقي مجلس الدولة هيئة مختصة بشئون التشريع، ولو أن نشاطه كان على وجه الخصوص نشاطا علميا (أكاديميا)، حيث عنى بجمع القوانين وتنظيمها في مجموعة قانونية واحدة، وذلك عمل استغرق سنوات عديدة، وتكلف نفقات وجهودا طائلة، ثم تبين في آخر الأمر أنه يكاد يكون عديم القيمة. فقد تشكلت لجنة جمع القوانين في سنة 1804 - وكانت هذه هي العاشرة من نوعها منذ سنة 1700 - واستطاعت بعد سنوات عديدة إنجاز ثلاثة أقسام فحسب من مشروع القانون المدني، وهي الخاصة بالأشخاص والأشياء والالتزامات ، ولكن لم يلبث أن توقف هذا العمل عند عرض مشروع هذه القوانين على مجلس الدولة، ثم تعطل العمل نهائيا بعد سنة 1815، وفيما عدا التظاهر بإعداد مجموعة قوانين الدولة هذه، لم يبد من جانب مجلس الدولة في هذا الوقت أي نشاط آخر؛ بل إن هذا المجلس لم يكن له نفوذ ما في توجيه شئون الحكم أو معالجة مشكلات سياسة البلاد الداخلية.
وكانت اختصاصات مجلس الشيوخ الرئيسية إدارية وقضائية معا، وبصورة كان يجب أن تجعل من هذا المجلس «محكمة استئناف عليا» من ناحية، وتخوله الحق كأداة حكومية في الإشراف الرئيسي على الإدارة من ناحية أخرى، ولكن هذا المجلس استمر يفقد تدريجيا ما كان له من سمعة طيبة، وذلك ابتداء من عهد بطرس الأكبر، حتى لم يعد له شأن ما أيام القيصر إسكندر، فأصبح على أيامه خاضعا لرئيسه؛ وزير العدل، الذي كان «عين الإمبراطور»، ولم يعد لمجلس الشيوخ أية أهمية سياسية؛ بل إنه صار عاجزا عن تأدية وظائفه القضائية بصورة مرضية. فكان المجلس يتألف مناصفة من بين القواد العسكريين القدامى الذين تركوا الجيش، ومن بين قدامى الموظفين، الذين تقدمت بهم السن وصاروا لا يصلحون لخدمة الدولة، ولم يكن الشيوخ من الفريقين - إلا في حالات نادرة - حريصين على تأدية واجباتهم، أو يواظبون على الحضور، كما كانوا يجهلون القوانين، ولا خبرة لهم في تصريف الشئون العامة، وكثيرا ما كانت تنظر القضايا في هذا المجلس أمام شيخين، أو أمام شيخ واحد فقط، وأدى جهل الشيوخ بالقانون إلى استئثار موظفي المجلس بالفصل في القضايا، حتى صار هؤلاء هم الذين يقومون بوظائف الشيوخ القضائية؛ فأتيحت الفرصة لانتشار الرشوة، وتراكمت القضايا التي لم يفصل فيها المجلس، من سنة إلى أخرى. ثم إن مجلس الشيوخ لم يقم بتأدية وظيفته الرئيسية، وهي وضع القوانين، فظل يتأجل استصدار القوانين (الأوامر) القيصرية
Ukases
سنوات طويلة، (خمسة عشر عاما في إحدى الحالات)، كما تعطل وضع القوانين التي يستصدرها مجلس الشيوخ موضع التنفيذ بسبب سوء التنظيم الإداري، فبلغ عدد القوانين أو الأوامر القيصرية التي أصدرتها المصالح المختلفة إلى جانب مجلس الشيوخ؛ ما يزيد على خمسة آلاف بين سنتي 1805 و1819، لم يكن حتى سنة 1822 قد تنفذ منها قانون واحد، ولقد نشط مجلس الشيوخ في «التفتيش» على الإدارة في المديريات، وذلك في السنوات التي تلت استتباب السلام (بعد الحروب النابليونية) عندما كان القيصر إسكندر لا يزال متحمسا لإصلاح مساوئ الإدارة، ومع ذلك فقد كان الشيوخ المكلفون بهذه الجولات التفتيشية يجهلون الأوضاع المحلية، ولا يحاولون معرفة أسباب هذه المساوئ الإدارية، فكان تفتيشهم «سطحيا»، ولم يكن يسفر عن نتيجة غير استقالة حاكم المقاطعة وتعيين آخر محله كثيرا ما كان أردأ من سابقه، وذلك في الحالات التي قد «تثمر» فيها هذه الجولات التفتيشية.
وأما لجنة الوزراء، فقد تأسست في سنة 1802، ولم تكن هذه هيئة ذات كيان مستقل وخاص بها؛ بل كانت «معبرا» يقدم الوزراء بالاشتراك فيما بينهم تقاريرهم إلى القيصر بطريقه، ولم تلبث هذه اللجنة أن نالت سلطات أوسع عندما خرج القيصر للاشتراك في حملة سنة 1805 (ضد نابليون)، ثم صار لها في سنة 1808 حق الإشراف البوليسي الكامل على شئون الأمن العام، وعندما خرج القيصر في حملة 1812 أعيد تنظيم لجنة الوزراء، وتعين لها رئيس دائم، كما انضم إليها رؤساء المصالح في مجلس الدولة والحاكم العسكري لبطرسبرج، ومع ذلك فإن لجنة الوزراء هذه لم تلبث أن فقدت أهميتها لدرجة كبيرة بعد انتهاء حروب نابليون (1815)، فصار القيصر يطلب من كل وزير تقديم تقريره عن وزارته، على حدة، وعلى نحو ما كان متبعا في الماضي، ولم يعد القيصر يحضر جلسات اللجنة، وهكذا لم تعد لجنة الوزراء، الهيئة التي تتركز بها السلطة العليا في الدولة ؛ ولقد كان ذلك هو الغرض الأساسي الذي أنشئت من أجله هذه اللجنة، وصار الوزراء يؤثرون عرض مسائلهم وتقاريرهم على القيصر مباشرة، بدلا من تقديمها للجنة؛ ولقد ترتب على ذلك أن أصبحت لجنة الوزراء مجرد أداة من أدوات البيروقراطية القيصرية تتحمل الدولة بسببها نفقات طائلة، ولا تفيد شيئا من وجودها، ومع ذلك فقد بقيت الوزارات التي تأسست منذ 1802، تحتفظ بذلك التنظيم الذي أدخله عليها «سبرانسكي» في سنة 1811. فكان لكل وزارة مجلس وزاري من رؤساء المصالح التابعة لها وكبار موظفي الوزارة، ومهمته التشاور مع الوزير. وبلغ عدد الوزارات ثمانية؛ الخارجية، والداخلية، والحرب، والبحرية، والتعليم، والمالية، والقضاء والبوليس، في حين جعلت مصلحتا الأشغال العامة والمراقبة المالية من درجة هذه الوزارات، وانفردت بمركز خاص كل من إدارة البلاط الإمبراطوري وإدارة الشئون الكنسية. وفي سنة 1820 ضمت وزارة البوليس إلى وزارة الداخلية، وفي سنة 1826؛ تحددت اختصاصات سلطات الوزارات رسميا بالصورة التي بقيت متبعة إلى أوائل القرن التالي، وفي رأي كثيرين، لم يكن يوجد من بين الوزراء الذين شغلوا مناصبهم في عهدي إسكندر الأول ونيقولا الأول، من يمكن وصفه بالذكاء أو قوة الشخصية الحقيقية، وذلك إذا استثنينا «كابوديستريا» الذي تولى وزارة الخارجية حتى سنة 1822.
وفي الأقاليم، كان يرأس «الحكام» أو المديرون الإدارة المحلية في المقاطعات، تعاونهم المجالس والمحاكم، ويشرف مديرو البوليس على أعمال الشرطة في المدن الرئيسية في المديريات، والمأمورون في المراكز، وضباط البوليس الريفيون
Ispravnik
في النقط الريفية، وقد استمر العمل بهذا النظام في عهد إسكندر الأول ابتداء من سنة 1815 إلى نهاية أيامه، وكان إسكندر متأثرا في هذا النظام بفكرته القائلة بضرورة تقسيم إمبراطوريته الواسعة إلى وحدات إدارية ذات استقلال داخلي، وهي نفس الفكرة التي ارتبطت ارتباطا وثيقا بأغراضه من التنظيم «الدستوري» الذي أراده لروسيا ومشروعاته الخاصة بتوسع «مملكته» في بولندة التي أراد أن يضم إليها على الأقل أجزاء من مقاطعات ليتوانيا
Lithuania ، وبعد سنة 1815، كانت هناك اثنتا عشرة «حكمدارية» عسكرية من هذا الطراز. على أنه كان كذلك يوجد إلى جانب هذه الحكمداريات العسكرية الاثنتي عشرة، أقاليم ذات إدارات خاصة بها؛ مثل مملكة بولندة، وغراندوقية فنلندة، ثم مقاطعة بيالستوك
Bialystok
التي ضمت في سنة 1807، ثم أدمجت بعد سنوات عدة (1842) في مقاطعة جردنو
Grodno ، وكذلك الإدارة العسكرية في القوقاز، وإقليم قوزاق نهر دون
Don ، وأخيرا الإدارة العسكرية المنفصلة في كل من بطرسبرج وموسكو.
والرأي متفق على أن الفساد كان مستشريا في كل فروع الإدارة في هذه الإمبراطورية الواسعة؛ فالوظائف العامة تباع وتشترى، ولا يشغلها غير الذين لهم القدرة على دفع أكبر ثمن لها، أو يعتمدون على توصية من صاحب جاه أو نفوذ، وكانت الرشوة ضاربة أطنابها في كل فروع الإدارة ووظائفها، وتعتبر موردا هاما للرزق لطائفة ضخمة من الموظفين الذين يتناولون المرتبات الضئيلة، ولم يطرأ تغيير على فئات المرتبات، التي حددت منذ سنة 1772 بالرغم من ارتفاع نفقات المعيشة وانخفاض قيمة النقود (قوتها الشرائية)، وانعدمت الرقابة كلية، بل كان الحكام (المديرون)، أصحاب السلطان المطلق في مديرياتهم، والذين لم يكونوا مسئولين إلا أمام القيصر نفسه، يرتكبون كل أنواع المخالفات والجرائم. وأسوأ مثال يحتذي به الموظفون تحت إدارتهم، فهم ينهبون الخزانة العامة في مقاطعاتهم، ويبتزون الأموال من الأهلين، ويرغمونهم على تقديم الرشوة لهم، وضج الأهلون، وكثرت شكاياتهم؛ فقامت لجان للتفتيش على أعمال الحكام، في السنوات القليلة التالية لسنة 1815، فأسفر تفتيشها عن عزل بعض الحكام وتقديمهم للمحاكمة، ومع ذلك فقد خلفهم حكام كانوا أسوأ من سابقيهم وخشي الناس من انتقام الرؤساء، فامتنعوا عن الشكوى، وإن كان الحال قد زاد سوءا، ويذكر المؤرخون مثالا على مبلغ ما وصل إليه الفساد، ما يعرف باسم «إيراد الفودكا» أو الدخل المتحصل من إقبال الأهلين على شربها، فقد صار ملتزمو هذا الشراب الأثرياء يرشون الحكام أو المديرين؛ حتى يتعاونوا معهم على ترويج الفودكا، من جهة، واختلاس قسم كبير من الأموال المتحصلة من بيعها، من جهة أخرى. فلم تلبث الحكومة أن احتكرت في سنة 1819 هذا الشراب في المديريات الرئيسية حتى تعوض خسارتها، ومن ذلك الحين أبدت الحكومة نشاطا كبيرا في جعل الأهلين يشربون ويسكرون، فأنشأت المحال العامة، والحانات، وصالات الرقص والموسيقى، والبلياردو في كل مكان، ولم يعدم الحكام أو المديرون الوسيلة التي جعلتهم يستفيدون من هذا النشاط الحكومي، فكان صنائعهم هم الذين يديرون هذه المحال العامة والحانات إلخ، كما صاروا يتفقون سرا مع ملتزمي «الفودكا» السابقين على إدارة هذه المحال، ووقع العبء على كاهل الأهلين، الذين دفعوا عن مشروب الفودكا الذي ارتفع حتى بلغ الضعف، وعندئذ لم تجد الحكومة مناصا من إلغاء احتكار الفودكا (سنة 1827) والعودة إلى نظام الالتزام.
وحذا صغار الموظفين ورجال الإدارة حذو كبارهم، فصاروا ينهبون ويسرقون الناس دون شفقة أو رحمة، ولم يكن هناك أي رجاء في أن ينال متقاض حقه إلا إذا دفع رشوة كبيرة للقضاة، سواء في المحاكم الصغيرة، أو أمام المحكمة العليا، واستولى المسئولون عن «السجون» على الأموال المخصصة للإنفاق على المسجونين بها، فعاش هؤلاء الأخيرون في شقاء، حيث كادت تكون أبنية السجون مهدمة خربة تماما، ويعيش نزلاؤها على إحسانات الناس وصدقاتهم، وأما هذه السجون القذرة والمخربة فكانت تضم إليها الرجال والنساء والأطفال، دون تمييز نوع الجرم الذي ارتكبوه، ودون أن تعزل فريقا عن فريق. وحدث في سنة 1818 أن حضر إلى بطرسبرج اثنان من أتباع مذهب الكويكرية، هما وليم ألن
William Allen ، جريل دي موبيليه
Grelle de Mobillier
لزيارة سجون روسيا، فاستبد بهما الفزع من حالة السجون لدرجة أنهما أبلغا القيصر نفسه نتيجة مشاهدتهما لعله يفعل شيئا لإدخال الإصلاح اللازم، ومع أن إسكندر أبدى اهتماما زائدا بأقوالهما، إلا أن شيئا لم يحدث لتغير نظام السجون في روسيا.
وفي هذا الوقت، كان أكثر من ثلثي سكان روسيا من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية، فبلغ عدد الأهلين الأرثوذكس في سنة 1825 (نهاية عهد إسكندر الأول) حوالي 34 مليونا (عدا الجيش)، أما عدد القساوسة والرهبان فبلغ 115700، عدا الراهبات وعددهن 5300، وبلغ عدد الكنائس 27000 منها 450 كتدرائية، وحوالي 800 معبد صغير. أما الأديرة للرهبان فكانت 377، وللراهبات 99، وبلغ عدد المعاهد العليا الكنسية ثلاثة، والكليات الإكليرية 39، والمدارس الكنسية بمختلف أنواعها 298، وعدد تلاميذها 45000، وبلغت قيمة الأموال التي كانت في يد الكنيسة الأرثوذكسية للإنفاق منها على التعليم: 10500000 روبل، في حين بلغ ما تنفقه الكنيسة سنويا حوالي 900000 روبل، وكانت هناك أربع رسالات تبشيرية في أوسيتيان
Ossetian
في القوقاز، وفي ساموييد
Samoyede
في أركانجل
Archangel ، وفي سيبريا، ثم في بكين في الصين، وكانت الصينية والمنشورية تستخدمان للتعليم في هذه البعثة أو الإرسالية التبشيرية الأخيرة، كما كانت تقوم بدور سياسي كذلك.
وعاشت الغالبية العظمى من هؤلاء القساوسة الأرثوذكس عيشة بؤس وتأخر، من النواحي الخلقية، والذهنية (الثقافية)، والمادية، ولما كان المتزوجون منهم أصحاب أسرات كبيرة ، فقد عاشوا هم وأولادهم في فقر، تخيم عليهم الجهالة، وكانوا في أبرشياتهم موضع ازدراء الناس وتحقيرهم. وكان في سنة 1802 فقط أن صدر أمر قيصري يمنع توقيع العقوبة البدنية على القساوسة، ومنذ 1808 صدر أمر آخر لمنع توقيعها على زوجاتهم، وكان الرهبان على وجه الخصوص، أكثر تنورا من سائر رجال الدين، ثم إنهم كانوا على جانب من القوة، أمكنهم بفضله أن يحموا أموال الأديرة وأملاكها من أن تمتد إليها أيدي السلطات الزمنية، ومع ذلك فقد كان كبار رجال الدين (والكنيسة) الذين نشئوا بين هؤلاء الرهبان، وتولوا الزعامة، من الذين عرفوا بالجشع، والتعصب، والطموح المتطرف.
وكان مجمع الكنيسة
Synod
هو صاحب السلطة الكنسية العليا، ومنذ إنشائه في سنة 1721 بقي هذا المجمع خاضعا - في الظاهر على الأقل - خضوعا كليا للسلطات الزمنية الحكومية، وفي عهدي كاترين الثانية (1762-1796)، وبول الأول (1796-1801) فرضت عليه «الحكومة» رقابة فعالة، ولو أن «المجمع المقدس» كان لا يني يطمح سرا في التحرر من كل سلطان حكومي عليه، والظفر باستقلاله، بل وأن يكون له نفوذ على الحكومة ذاتها، وكان سيرافيم
Seraphim
رئيس أساقفة تفير
Tver (ثم موسكو، وأخيرا بطرسبرج، ورئيسا للسنيود حتى سنة 1843) أبرز من يمثل هذا الاتجاه من رجال «مجمع الكنيسة»، وكان ضيق الأفق، معروفا بشدة التعصب، كما كان «سياسيا» ماهرا، استخدم أداة لتنفيذ أغراضه الأرشمندريتي فوتيوس
، من رجال الدين الذين اشتهروا بالعبادة والورع، وكان صاحب أطماع واسعة، عرف بالمكر والدهاء، ومع ذلك فقد ضم «مجمع الكنيسة» رجلا من طراز آخر، هو فيلاريت
، رئيس أساقفة ياروسلاف
Jaroslaff ، ثم منذ 1821 موسكو)، وكان صاحب ثقافة عالية ويدين بآراء حرة، ويؤمن بضرورة إصلاح الكنيسة، ولكنه في الوقت نفسه لم يكن له نفوذ، ثم لم يلبث «فوتيوس» أن اتهمه بأنه من «الماسونيين»، كما اتهمه «سيرافيم» بأنه خارج على الأرثوذكسية، وصاحب ميول لوثرية.
وأراد إسكندر إصلاح الكنيسة، وإزالة المساوئ التي شكا منها الأهلون، الذين استغلهم القساوسة والرهبان أسوأ استغلال، كما أراد أن يعين لرجال الدين مرتبات ثابتة، وأن تعنى الحكومة برفع مستواهم الروحي والذهني، وبالفعل بدأت الحكومة تدفع المرتبات لهؤلاء منذ سنة 1814، وفي سنة 1812 تأسست بمعاونة القيصر «جميعة للكتاب المقدس» على غرار جمعية «الكتاب المقدس البريطانية»، ونجحت هذه الجمعية في أعمالها، فأخرجت خلال السنوات التسع الأولى من حياتها (129) طبعة للكتاب المقدس، بلغ عدد نسخها (675000)، وحاولت الحكومة إخضاع النظام الإداري الكنسي لرقابتها، فصدر أمر في سنة 1817 لإصلاح هذه الإدارة ووضعها تحت إشراف وزارة التعليم، وهي التي أشرف وزيرها جاليتزين
Galitzin
كذلك مباشرة على «مجمع الكنيسة» بعد أن أعيد تنظيمه، ومما يجدر ذكره أن القيصر إسكندر الذي عرفنا أنه كان متأثرا «بصوفية» مدام دي كرودبز، في ميوله الدينية في هذا الوقت، لم يلبث أن أنشأ صلات مع «روما» وعين سفيرا مقيما لدى الكرسي البابوي، وفي سنة 1818 أبرم اتفاقية دينية (كونكردات) مع البابا «بيوس السابع» تأسست بمقتضاها رياسة أساقفة «كنيسة» وارسو، وصار تنسيق العلاقات بين الكنيستين (الأرثوذكسية والكاثوليكية) في رئاسة أساقفة «موهيليف»، ويبدو أن فكرة اتحاد الكنيستين كانت تجول في ذهن إسكندر - وكانت قد بدأت جديا في عهد القيصر بول - ولو أن إسكندر لم يكن يدرك الصعوبات التي تعترض إخراج هذه الفكرة إلى حيز الوجود، ومع ذلك فإن القيصر لم يلبث أن نبذ ظهريا حتى تلك القرارات «المتواضعة» التي اتخذت لتنظيم شئون الكنيسة الأرثوذكسية.
فقد كان المنتظر أن يلمس «مجمع الكنيسة» في الإجراءات التي سبقت، خطرا يتهدد السلطة الكهنوتية القائمة؛ ولذلك فإنه سرعان ما دخل في نضال عنيف مع الحكومة، وتولى «سيرافيم» قيادة هذا النضال، كما كان أكبر الذين حرضوا عليه، وثابر على استثارة الشعور ضد الإصلاح من سنوات مضت بين أفراد طبقات المجتمع العليا، المعروفين بالرجعية، واستخدم «فوتيوس» للتأثير على القيصر. فما إن تغيرت ميول القيصر الحرة، حتى انتهز «فوتيوس» الفرصة لمقابلة القيصر (سنة 1822)، والتنديد ليس بأنصار الإصلاح فحسب، مثل الوزير «جاليتزين»؛ بل وبالحركة المؤيدة لحرية الرأي، وجمعية الكتاب المقدس، والجمعيات السرية عموما، وبالكاثوليك، واللوثريين، والمتصوفين، ووصف كل هؤلاء بالخيانة والعداء «للعرش والمذبح»، ومع أن القيصر لم يشأ أن يرضخ لادعاءات «فوتيوس»، فقد تغلبت طبيعته المترددة، وكان من المتعذر عليه نسيان أنه إنما اعتلى العرش على جثة والده المقتول، وعلى ذلك، فقد عاود «سيرافيم» الهجوم ضد «جاليتزين» في مقابلة مع القيصر في مايو سنة 1824، متهما الوزير بالعداء ضد الأرثوذكسية ومطالبا بطرده، وعبثا حاول القيصر الدفاع عن «جاليتزين» ليس بوصفه أحد رعاياه فحسب؛ بل بوصفه صديقا له. وأصر «سيرافيم» على موقفه، فأخرج القيصر «جاليتزين» من الوزارة، وعين مكانه وزيرا رجعيا هو شيشكوف
Shishkoff ، وكان القيصر قبل ذلك قد أصدر أمرا في أغسطس 1822 بحل كل الجمعيات السرية والمحافل الماسونية، وفي 24 مايو 1824 صدرت إرادة قيصرية استعاد «مجمع الكنيسة» بفضلها المركز الذي كان يتمتع به قبل سنة 1817، وذلك حتى يتم إنشاء وزارة للشئون الكنسية، (ولو أن هذه الوزارة لم تنشأ إطلاقا). وأما جمعية الكتاب المقدس، فقد اتهمها «سيرافيم» في ديسمبر 1824 بأنها على صلة بالجمعية البريطانية للكتاب المقدس، فأوقف نشاطها، ثم ألغيت في سنة 1826 بعد وفاة إسكندر، وكان في عهد القيصر نيقولا الأول أن استأنفت الكنيسة الأرثوذكسية، على نطاق واسع، إرغام أتباع الكنائس الأخرى على اعتناق الأرثوذكسية؛ أي استئناف ذلك النشاط «التبشيري» الذي كان قد أوقف منذ وفاة كاترين الثانية، ولقد كان لنجاح الرجعية الكنسية خلال السنوات الأخيرة من عهد إسكندر الأول أكبر الأثر على توجيه السياسة الداخلية في روسيا في المستقبل، كما أنه كان لها بطريقة غير مباشرة أسوأ الأثر على مملكة بولندة، وعلى تشكيل العلاقات البولندية الروسية. (3) المجتمع الروسي «الإقطاعي»
وكانت دعامة المجتمع الإقطاعي في روسيا تتألف من الأقنان (رقيق الأرض) في أحد طرفيه، ومن طبقة النبلاء في الطرف الآخر.
ويقوم نظام رقيق الأرض على الأوامر التي أصدرها بطرس الأكبر سنة 1719، ثم القيصرة الياصابات سنتي 1842، 1847 (وهي المتعلقة ببيع الأقنان للخدمة في الجندية)، وسنة 1760 (بشأن نفي الأقنان إلى سيبريا على يد أسيادهم)، ثم القيصرة كاترين الثانية في سنتي 1765، 1767، ولقد زادت حال الفلاحين الروس سوءا؛ بسبب تقسيم بولندة المعروف في سنوات 1772، 1793، 1795، والذي نجم منه توزيع الأرض بما عليها من أقنان. أضف إلى هذا أن كاترين الثانية والقيصر بول الأول، كانا قد درجا على إعطاء المقربين إليهما وكبار الضباط (والموظفين) هبات من الأرض والأقنان، فبلغ عدد الأقنان الذين «وهبوا» بهذه الصورة حوالي خمسة ملايين نسمة، كان القسم الأكبر منهم من الفلاحين التابعين للتاج، ومع أن هؤلاء كانوا في السابق أحسن حالا نسبيا من سائر الفلاحين (والأقنان) فقد تدهورت حالهم الآن. فتبين أن الفلاحين التابعين للتاج في مقاطعة «قازان» في سنة 1818 قد دفعوا في سنة واحدة ضرائب غير قانونية قيمتها 400000 روبل، إلى جانب 200000 روبل دفعت كرشاوى، وذلك ما عدا ما أخذ منهم عينا، كتسخيرهم في العمل ونقل الأثقال ... إلخ دون أجر. وعاش الفلاحون (والأقنان) الذين في حوزة أصحاب الأرض، عيشة بؤس وتعاسة، عندما كان أكثر الملاك قد أدركهم الإفلاس، وأرادوا تغطية مراكزهم ببيع ما لديهم من أقنان وتسخير ما كان متبقيا منهم في العمل دون أجر، ثم السماح للأقنان الذين يزيدون عن الحاجة بالذهاب إلى أي مكان يشاءون العمل به على شرط أن يدفع له هؤلاء مبلغا معينا سنويا، ويسمى هذا النظام الأخير بالأوبروك
Obrok ، وفي بعض الأماكن بلغت قيمة هذا «الأوبروك» - أي المبالغ المدفوعة تبعا لهذا النظام - (135) ألف روبل، وذلك في سنة 1816، وكان الأقنان يباعون حسب مشيئة المالك، فتتوزع أفراد الأسرة الواحدة منهم على عدة مشترين، وهلك سنويا عدد عظيم من الأقنان الذين عملوا في فلاحة الأرض، ثم في المصانع التي تأسست في هذا الحين، نتيجة القسوة والعقوبات الوحشية التي وقعت عليهم، وحبسهم في سجون تحت سطح الأرض، وضربهم بالسياط حتى الموت، وهكذا، ولقد ثبت أن الأقنان الذين في حوزة كبار رجال الحكومة، وأصحاب الشهرة الواسعة من الفلاسفة والمفكرين والسياسيين في الدولة، كانوا يلقون من صنوف التعذيب وسوء المعاملة ما كان يلقاه إخوانهم الآخرون عادة، حتى إن تولستوي
Tolstoi
نفسه كان من زمرة الذين أثبت التفتيش الذي حدث بعد سنة 1815، أن الأقنان الذين في أملاكهم، يعيشون في شظف وبؤس، وفي تعذيب مستمر.
وكان أقسى هؤلاء الملاك الذين ساموا الأقنان العذاب، محظي القيصر، أراكشييف وتضرب بقسوته الأمثال، ذلك بأنه خول عشيقته نستاسيا منكين
Nastasia Minkin
سلطة التصرف المطلق ليس في المستعمرات العسكرية التي تحت إدارته فحسب ، بل وفي كل أملاكه الواسعة كذلك، فحكمت هذه السيدة الأقنان بيد من حديد، وسامت النساء على وجه الخصوص كل صنوف العذاب، وانتقم منها شقيق إحدى هؤلاء النسوة بأن طعنها بخنجر قضى على حياتها. فأطلق القيصر يد محظيه «أراكشييف» في الانتقام لقتل معشوقته، فأعدم القاتل ثم اثنين وعشرين فلاحا من الأبرياء، بدعوى أنهم شركاء للقاتل، وذلك بدون محاكمة وبعد أن عذبهم جميعا تعذيبا شديدا (1825)، ولقد وصف بزتوزيف
Bestuzheff ، وهو أحد الوطنيين الروس الذين اشتركوا في حركة ديسمبر - وسيأتي الكلام عنها في موضعه - الحال التي وصل إليها الأقنان في روسيا في ذلك الحين، فذكر (في سنة 1826) أن الملاك كانوا يرغمون الفلاحات على احتضان الجراء من كلاب الصيد لإرضاعها بألبانهن، وقال: إن الزنوج في المزارع الواسعة في أمريكا كانوا قطعا أكثر سعادة في عيشهم من الأقنان في روسيا.
ولم يكن للإجراءات التي اتخذها القيصر إسكندر الأول، من أجل تحسين أحوال الفلاحين، سوى آثار ضئيلة؛ من ذلك قانون صدر في سنة 1803 يجيز لأصحاب الأملاك تحرير أقنانهم وإعطاءهم الأرض في الوقت نفسه. فقد تبين أن عدد الملاك الذين مارسوا هذا الحق خلال نصف قرن (1805-1855) كانوا حوالي 384 فقط، وعدد الأقنان الذين تحرروا كانوا: (116) ألفا، وكان النبلاء البولنديون هم أول من حاول تنفيذ هذا القانون، بإعطاء الأرض إلى الأقنان، وذلك في سنة 1807 على أثر تسليم مقاطعة بياليستوك لبروسيا، ولكن لم يلبث هذا العمل أن قوبل بالرفض من جانب الحكومة، وفي سنة 1810 أراد «سبرانسكي» وضع قيود على الرق، ولكنه لم يتقدم بمقترحات جدية، ولم يصدر قانون لتنفيذها. ولقد اهتم القيصر إسكندر بعد سنة 1815 بمشكلة رقيق الأرض، وخصوصا بعد إنشاء مملكة بولندة، حيث قد صار عليه معالجة موقف نشأ عن وجود «فلاحين» لا يمتلكون أرضا، ولكنهم محررون من الرق فعلا، وكان الأمر القيصري الذي صدر في يونيو 1816، خاصا بإلغاء الرق في مقاطعة إستونيا
Esthonia ، لا يشمل تقرير مصير الأرض، بل خول الفلاحين والملاك حق الاتفاق فيما بينهم على تعيين صلاتهم القانونية مع بعضهم بعضا، وفي سنة 1817 انتقل أثر هذا الأمر القيصري إلى مقاطعة كورلاند
Courland ، ثم إلى ليفونيا
Livonia
في سنة 1819، ومنذ 1818 صدر أمر إلى الحاكم العام في ليتوانيا ليتبين رأي أصحاب الأراضي بشأن إلغاء رق الأرض، وعمد النبلاء البولنديون بناء على ذلك، في دياط فيلنا
Vilna
في السنة نفسها إلى إعداد خطة لتحرير أقنانهم، وألفوا وفدا لمقابلة القيصر لهذه الغاية، ولكن المسئولين أغفلوا هذه «الخطة»، فلم توضع موضع التنفيذ، ومع ذلك فقد أدت إلى استصدار أمر قيصري في 2 مارس 1818، بشأن «مقاطعة مينسك
Minsk
والمقاطعات الأخرى المأخوذة من بولندة»، والتي نال فيها الفلاحون بفضل هذا الأمر القيصري بعض المزايا، مثل؛ حرية التصرف في محاصيلهم، وبيعها كما يشاءون، وجعل السخرة مقصورة على أيام معينة، وفي الوقت نفسه كلف القيصر، قبل ذهابه لحضور اجتماع الدياط في وارسو في بداية سنة 1818 مستشاره الكونت «أراكشييف» أن يضع مشروعا لتحرير الفلاحين من رق الأرض، وذلك بأن تقوم «الخزانة» تدريجيا بشراء هؤلاء الفلاحين «الأقنان» مع الأرض التي يعيشون عليها، وتشكلت لجنة لهذا الغرض، ولكن صعوبات عديدة حالت دون نجاح هذا المشروع، فلم تلبث أن وقفت اللجنة أعمالها. فكان مشروع تحرير رقيق الأرض أحد المشاريع أو الإصلاحات «الحرة» التي عنى بها القيصر إسكندر في هذه السنوات الأربع (1816-1820) التي تميزت بالأوامر والقوانين «الحرة» التي ما يكاد القيصر يصدرها حتى يتخلى عنها، وهكذا لم تسفر كل هذه الإجراءات عن شيء، وسارت الأمور على منوالها القديم؛ أي إن الفلاحين الروس بقوا يرسفون في أغلال الرق والعبودية خمسين سنة أخرى، وبقوا يعيشون في بؤس وضنك إلى وقت قيام ثورة أكتوبر 1917.
ومن بين سكان المدن، «والطبقة المتوسطة» الذين بلغ عددهم وقتئذ مليونا ونصف المليون كان حوالي المائة ألف من التجار الذين تضمهم النقابات الروسية، وكانت «الأسواق» الكبيرة هي مراكز التجارة الداخلية في روسيا، مثل سوق ماكارييف
Makarieff ، الذي انتقل بعد ذلك إلى نجيني نوفجورود
Nijni-Novgorod ، ومثل أسواق رومني
Romny ، وإربيت
Irbit ، ولقد أمكن تشجيع عدد من الصناعات، على غرار ما حصل في بولندة، وخصوصا صناعة المنسوجات، لسد حاجة الجيش، كما تقدمت بعض الشيء المصنوعات الحديدية، وقامت مصانع للحديد في ديميدوف
Demidoff
وبيرد
Berd ، وأبدى حفنة من الوزراء نشاطا ملحوظا في هذا الميدان، كان منهم: وزير الداخلية «كوزو دفليف
Kozodaveff »، ووزير المالية كانكرين
Kankrin ، ولكن لم يلبث أن أدى تشجيع الصناعة إلى إضاعة الأموال الطائلة دون مقابل؛ بسبب الفساد والرشوة المنتشرين في أعمال الحكومة، عند توزيع المنح المالية لمعاونة المشتغلين في الصناعة، فلم تستفد الصناعة شيئا من هذه المعاونة الحكومية. أضف إلى هذا أن التجارة الخارجية تأثرت بالحروب المستمرة تأثيرا سيئا. فلم تكن تزيد الواردات في سنة 1812 على ما قيمته 22 مليونا من الروبلات الفضية، والصادرات عن 37 مليونا، وبلغت الواردات في سنة 1814 ما قيمته:
مليونا (بما في ذلك أربعة ملايين روبل أنفقت على الأنبذة المستوردة والغالية الثمن)، وكانت قيمة الصادرات 49 مليونا. على أنه لم تلبث أن لوحظت زيادة مطردة في التجارة الخارجية بعد ذلك، فبلغت قيمة الواردات 42 مليونا، والصادرات 74 مليونا من الروبلات (الريالات) الفضية، وكان نصف الصادرات من القمح.
وأما النبلاء بالوراثة، فكانت طبقتهم في نهاية العهد الذي ندرسه في روسيا تتألف من حوالي (140) ألف أسرة، من بين هؤلاء 1500 من الملاك الذين يملك كل منهم أكثر من ألف من الأقنان، ولما كان الإيراد المتحصل سنويا من كل فرد من هؤلاء الأقنان يقدر في المتوسط بمائة روبل، فقد كان هؤلاء الملاك من كبار الأغنياء الذين بلغ دخل الواحد منهم مائة ألف روبل سنويا، وفي حالات كثيرة مليونا من الروبلات أو يزيد، وإلى جانب هؤلاء كان عدد الملاك الذين يملك الواحد منهم خمسمائة قن، أكثر من ألفين، ثم إن الذين يملكون أكثر من مائتي قن كانوا (17) ألفا، وكان يلي هذه الطبقة التي عاش أهلها في ثراء فاحش ، طبقة من النبلاء الفقراء من 120 ألف أسرة، لا يمتلك ثلثهم أكثر من ثماني أقنان الفرد الواحد ويعيشون في حالة فقر. زد على ذلك أن الأثرياء الذين تقدمت الإشارة إليهم، كانت ثرواتهم قد نقصت نقصا ملحوظا بسبب التبذير والإسراف من جهة، وسوء إدارة و«اختلاسات» وكلائهم من جهة أخرى، وفي تقدير بعض الكتاب أن تسعة أعشار الثروة التي كانت للنبلاء في هذا الوقت قد تبددت.
وساد الإبهام العلاقات بين الحكومة والنبلاء، فالأخيرون كانوا يعتمدون على رضاء الحكومة عنهم، وهم يشغلون أكثر مناصبها أهمية، ويستطيعون بفضل ذلك حماية مصالحهم، ولكنهم من ناحية أخرى كانوا يشعرون بوطأة «الإشراف» الذي تفرضه عليهم الحكومة عندما أخضعتهم لسلطانها المستبد، ولم يكونوا يرضون عن خطة الحكومة التي عمدت إلى إدخال عناصر جديدة في طبقتهم، أيام بطرس الأكبر، من فئات معينة من موظفي الدولة، وضباطها في الجيش والبحرية، كما أنهم لم يستسيغوا ذلك النفوذ المستعلي الذي صار للموظفين الألمان في مصالح الحكومة والخدمة العامة، وهم الذين استمر يعلو نفوذهم طوال عهود القياصرة الثلاثة، ثم حنقوا على نظام البيروقراطية المركزية، الذي توطدت أقدامه وزادت أهميته بصورة مطردة، ولقد كان التذمر من هذا كله السبب فيما ظهر من عداء ضد البيت القيصري المالك من جانب الأسر الكبيرة، التي كان بعضها من سلالة روريك
Rurik ؛ أي أعرق في القدم من أسرة رومانوف الحاكمة ذاتها، ومع ذلك فقد أخفت هذه الأسر عداءها للبيت المالك تحت ستار من الولاء الظاهري له، ولم يكن في مقدور هؤلاء النبلاء نسيان ما وقع من التحامات بينهم وبين البيت المالك، حتى في الأزمنة القريبة، وهي التحامات أسفرت عن إرسال عدد من أفرادهم إلى المنفى في سيبريا، أو إلى الشنق. أما أثر هذا العداء فقد كان متجليا في ترحيب هؤلاء النبلاء بكل «ظاهرة» أو حادث موجه ضد النظام القائم.
وساد الإبهام كذلك العلاقات بين النبلاء وسائر طبقات المجتمع، فهم كانوا بلا مراء بفضل وظائفهم الإدارية والمراكز التي شغلوها من أهم العوامل التي سببت شقاء الشعب، ولكنه كان يوجد لدى العناصر المستنيرة من بين هؤلاء النبلاء شعور بمسئوليتهم عن الحالة السيئة التي وصلت إليها بلادهم، وبمسئوليتهم عن الالتزامات التي كانت عليهم نحوها، فاعتبروا أنفسهم ملزمين على العمل من أجل عظمة روسيا ومعالجة الأدواء التي تشكو منها، وشعروا بأن ثمة رباطا متينا يربطهم بأولئك الروس من سواد الناس الذين يعيشون في ضنك وبؤس، ولا جدال أنه كان لاشتراك هؤلاء النبلاء في «حملات» وحروب الغرب، ولاحتكاكهم بأعلام الفكر في الغرب، وبثقافة الغرب عموما، كما كان لاحتلال غراندوقية وارسو العسكري، وهو الاحتلال الذي استمر سنوات عدة، ثم لإقامة النبلاء في فرنسا، أكبر الأثر في خلق هذه الآراء السامية، التي تحدثنا عنها، وفي شعورهم بالمسئوليات العالية الملقاة على عاتقهم، وفي رأي كثيرين أن قول نابليون المأثور: «إن الجيش الذي يرى الخدمة خارج حدود الوطن، إنما هو الدولة بذاتها تقوم برحلة في الخارج.»
1 - إنما ينطبق كل الانطباق على جماعة أو هيئة الضباط في الجيش الروسي، والتي كانت تتألف بأكملها من بين النبلاء وحدهم، فقد عاد هؤلاء إلى الوطن بعد سنة 1815، وقد اتسع أفق تفكيرهم، وصاروا يدينون بآراء ومبادئ أكثر استنارة من تلك التي كانت لديهم قبلا.
ولقد كانت طبقة النبلاء الروس تكاد وحدها تمثل وقتئذ العنصر المثقف في روسيا، ولم تكن روسيا من البلاد التي انتشر فيها التعليم، فلم تتشكل بها وزارة للتربية والتعليم إلا في سنة 1802، بعد أن كان يشرف على التعليم «لجنة للمدارس»، ومنذ 1803 أنشئ في بطرسبرج «ديوان رئيسي للمدارس» ألحق بوزارة التعليم، كان من بين أعضائه عدد من البولنديين الممتازين، مثل «تزارتوريسكي» وبوتوكي
، وبلاتر
، وكان لهذا الديوان نشاط حميد الأثر في المقاطعات التي أخذت من بولندة؛ حيث ازدهرت جامعة «فيلنا» برئاسة «تزارتوريسكي» مديرها، وحيث أنشئت المدارس بمختلف أنواعها ودرجاتها. على أن حركة التربية والتعليم في روسيا ذاتها، لم تكن تلقى غير الصعاب في طريقها. فمع أن الحكومة وضعت برنامجا في سنة 1802 لإنشاء المدارس الأولية في أراضي الحكومة وفي أملاك السلطات الكنسية، وأراضي الأفراد تحت إشراف معاهد العلم الراقية
Gymnasia ، فإن شيئا من هذا البرنامج لم ينفذ، وكذلك لم يسفر استصدار قرار بشأن التعليم الأولي في سنة 1828 عن شيء، وأما المدارس الثانوية، التي لم يكن عددها بأي حال كبيرا، كانت لا تزيد سنوات الدراسة بها على أربع، ولم يكن يزيد عدد المدرسين بكل واحدة منها على ثمانية على الأكثر، وقد زاد عدد سنوات الدراسة بفضل قرار 1728، فصارت سبعا، كما زاد عدد المدرسين بكل مدرسة فصار اثني عشر، ولكن عدد المدارس نفسها بقي على حاله، وكان فيما بعد لسياسة القيصر نيقولا الأول الرجعية أسوأ الأثر على التعليم، وخصوصا على المدارس الثانوية. وفيما يتعلق بالتعليم الجامعي، صدر في سنة 1804 قانون خاص بتنظيم الجامعات كان يقوم على مبادئ حرة نسبيا، بفضل جهود «تزارتيروسكي»، كفل للجامعات إدارة ذاتية، وجعل تعيين المديرين والعمداء بالانتخاب، مع العناية بالبرامج ... إلخ، ولكن الرجعيين في السنوات الأخيرة من حكم القيصر إسكندر عطلوا تماما هذا القانون، عندما صاروا يعتبرون الشباب المثقف والجامعي خطرا على الدولة، فعمدوا إلى التضييق على الجامعات واضطهاد أساتذتها وطلابها، يحذون في ذلك حذو ألمانيا التي ضيقت على الجامعات والتعليم الجامعي بها وقتئذ، ولقد انتهى الأمر بإلغاء قانون 1828، وذلك باستصدار قانون للجامعات جديد «رجعي» على يد القيصر نيقولا الأول في سنة 1835.
وأما الكتب المدرسية، بمختلف أنواعها ومستوياتها، فقد صارت خاضعة لرقابة صارمة، بفضل «التعليمات» الرجعية التي أصدرها وزير المعارف «جاليتزن» في سنة 1818، وزيادة على ذلك فقد تحتم أن يصير لكل ما يلقى من محاضرات في الفلسفة وفقه اللغة والتاريخ، والعلوم الطبيعية والطب والرياضيات، غرض رئيسي، هو خدمة أغراض السياسة والدين، ولم يمض زمن طويل، حتى صار استبعاد كل الأساتذة الذين تشككت الحكومة في آرائهم الدينية والسياسية، وفي ولائهم للدولة، واتخذت وسائل شاذة لإجراء هذا التطهير في الجامعات؛ من ذلك أن مدير جامعة قازان أمر بمصادرة أدوات التشريح، وقام بدفنها في احتفال مهيب في أرض مقدسة أو مباركة، ولقد حدث هذا التضييق والتطهير في وقت كان التعليم فيه بالجامعات الروسية - مع استثناء جامعتي فيلنا ودروبات
Dropat - يقل في مستواه عن التعليم في الجامعات في أوروبا الغربية. فلم يكن بالجامعات الروسية معامل أو عيادات أو مكتبات، وكان في سنة 1814 فقط أن فتحت للأهلين أبواب المكتبة العامة في بطرسبرج، وتألفت أصلا هذه المكتبة بأسرها من مكتبة بولندية مشهورة - مكتبة زالوسكي
Zaluski - نقلها القائد سوفروف
Suvoroff
من وارسو إلى بطرسبرج في سنة 1795 بعد مصادرتها، وكانت مجلداتها «أكثر من مائة وخمسين ألفا» ومخطوطاتها «خمسمائة» باللغتين اللاتينية والبولندية، وأما جامعة بطرسبرج، فقد كان عدد طلابها عند تأسيسها في سنة 1819 أربعة وعشرين، ولم يزيدوا في سنة 1822 على أربعين طالبا وحسب.
وفي هذه الظروف إذن، لم يكن أكثر العناصر ثقافة واستنارة في المجتمع الروسي من الذين تخرجوا في هذه الجامعات أو المعاهد التي تعرضت لكل أسباب التعنت والضغط والإرهاق، والتي كانت موضع التحقير والازدراء؛ بل كان هؤلاء من بين شباب الطبقة الأرستقراطية الذين تعلموا في المؤسسات الخاصة، أو انخرطوا في سلك المدارس الحربية، أو تلقوا العلم في منازلهم على أيدي المؤدبين والمعلمين الخصوصيين، ولقد ظهر من بين هؤلاء عدد من أنصار الآراء الجديدة، الذين عرفوا بالاستقلال في الرأي والرغبة في التقدم والارتقاء، وكانوا يريدون الإصلاح السياسي والاجتماعي، ويمثلون في نشاطهم الذهني أو العملي في ميادين الأدب والخدمة العامة «روسيا الفتاة» أو روسيا الناهضة، من هؤلاء كان جريبويدوف
Griboyedoff
صاحب التمثيليات الهزلية الاجتماعية التي انتقد فيها عيوب معاصريه دون هوادة، ثم «بزتوزيف» الذي سبقت الإشارة إليه، ثم من الشعراء؛ البرنس فيازمسكي
Viazemski ، والبارون ديلفيج
Delvig ، وكوخيليكو
Küchelbecker ، وريلييف
Ryleieff ، وأخيرا نابغة الأدب الروسي؛ بوشكين
، ولقد تأثر كل هؤلاء بالتيارات الفكرية المنبثقة من الأحداث العظيمة التي وقعت في أوروبا في ذلك الحين؛ أحداث الثورة الفرنسية، وإمبراطورية نابليون، والحركات المضادة في فرنسا في السياسة والأدب، في عهد الملكية الراجعة بها، وضجة المطالبين بالتحرر الاجتماعي في ألمانيا، والتي نجمت من النضال الذي خاضت غماره ألمانيا أخيرا ضد السيطرة الفرنسية. أضف إلى هذا تأثر هؤلاء المفكرين والكتاب الروس بكتابات ومنظومات الشاعر اللورد بايرون
Byron ، وأخيرا فإن هذه الحركة في روسيا كانت متأثرة بدرجة كبيرة بالروح الوطنية (القومية) التي ظهرت في بولندة، وبالتطور الذي حصل في الأدب البولندي، فهم قد تأثروا بأغاني وكتابات نيمتزيفتش
Niemczevicz ، وبآراء الجامعة السلافية التي نادى بها ستانزيك
Staszic ، وقبل كل شيء بالحركة الرومانسية لبولندة الفتاة، والتي كان يمثلها أقوى تمثيل مكيفيتش
Mickievicz ، الذي استطاع الاتصال بأكبر ممثلي حركة روسيا الفتاة شأنا أثناء إقامته في أوديسا وموسكو وبطرسبرج (بين سنتي 1825-1829).
أما الشباب الروسي المثقف، والذي كان ينشد التضحية في سبيل العمل من أجل نهضة روسيا والذي كان ينتمي لطبقة النبلاء، فقد وجد في التنظيم السياسي السري، من وقت مبكر، أفضل الوسائل لبلوغ غايته، وكان بسبب تأثرهم بالتنظيمات السرية السياسية في الجيش الألماني، التي احتكوا بها - وكانت هذه موجهة ضد السيطرة النابليونية في ألمانيا - أن ألف الشباب الروسي منذ 1814 جميعة أعضاؤها من الضباط الروس، خصوصا تحت اسم «جمعية المصباح الأخضر»،
2
يتبرع أعضاؤها بعشر دخولهم للإنفاق من الموارد المتحصلة على نشاطها، ولقد أعيد تنظيم هذه الجمعية، كما اتسعت دائرة نشاطها وصارت تدعى «جمعية الخلاص العام»،
3
ويبدو أن هذه المحاولة الأولى لإعادة تنظيمها، تم بموافقة القيصر إسكندر الأول وبعلمه، وهو الذي كان لا يزال في هذا الوقت يدين بالمبادئ الحرة، والذي كان انشغاله بمشروعات تحرير الفلاحين، (ورقيق الأرض)، ودعم أركان مملكة بولندة، ومساعدة اليونانيين على الاستقلال، ينبغي الحصول على تأييد مثل هذه العناصر المتحررة من بين شباب «روسيا الفتاة» ضد قوى الرجعية، ولقد كان لهذا السبب نفسه، أن صار القيصر ينظر بعين التسامح لجمعية الإخوان «هيتريا» اليونانية السرية، وللمنظمات الوطنية البولندية، على أن الجمعيات السرية في روسيا لم تلبث أن صارت تشق طريقها مستقلة عن كل نفوذ، وعلى نحو ما هو منتظر في مثل هذه الحالات، ولم تلبث أن تزايدت كراهيتها وعداوتها للعرش نفسه.
ولقد حدث كنتيجة للإصلاح أو إعادة التنظيم الذي حصل في الجمعية، أن نشأت في سنة 1818 جمعية أخرى باسم «الاتحاد للصالح العام»،
4
بلغ أعضاؤها أكثر من المائتين، ولم يلبث فريق من أعضاء هذه الجمعية أن أظهروا استعدادهم للقيام بحركة انقلاب حكومي، بل وقتل القيصر نفسه، وذلك عندما تطايرت الشائعات عن نوايا القيصر إسكندر بأنه يريد توسيع نطاق مملكة بولندة بضم المقاطعات اللتوانية إليها، وفي سنة 1820 انقسم الأعضاء على أنفسهم فتألفت جمعيتان؛ الأولى «الجمعية الشمالية» ومركزها في بطرسبرج، بزعامة نيكيتا مورافييف
Nikita Muravieff ، ونيقولا ترجنييف
Turgenieff ، ثم ريلييف
Ryleieff ، وذلك بعد سنة 1823، ومبدؤها؛ ملكية دستورية، كما كانت تعارض في فصل «ليتوانيا» من الإمبراطورية (روسيا)، والثانية كانت «الجمعية الجنوبية»، ومقرها تولكزين
Tulezyn ، بزعامة الضابط بول بستيل
، مؤلف مجموعة القوانين الروسية
Russkaya Pravda ، التي كانت عبارة عن برنامج يستند على آراء جمهورية ويحتوي على حقوق ضئيلة للبولنديين، وكان من هذه الجمعية أن انبثقت بعد ذلك جماعة الراديكاليين الروس باسم «السلاف المتحدين»،
5
وكان منها كذلك أن ظهرت فكرة التقارب مع الجماعات السرية في المملكة البولندية، في يناير 1824، ويناير 1825، وبفضل هذه الحركات أمكن أن تتشكل وتقوى تدريجيا الآراء الداعية للجامعة السلافية. فكان «بستيل» يريد إنشاء اتحاد سلافي (فدرائي) يمتد من جبال أورال إلى بحر الأدرياتيك، ومع ذلك فقد كان أكثر هؤلاء «الفدرائيين»، خصوصا في موسكو وبطرسبرج، لا يثقون في البولنديين.
ولكن مما تجدر ملاحظته أن أعضاء هذه الجمعيات التي ذكرناها، وإن كانت تحدوهم الرغبة الصادقة في خدمة الوطن، بإخلاص كامل، ويتصفون بالشجاعة ونكران الذات، ويحبون الوطن العزيز عليهم محبة خالصة، فإنهم كانوا في الوقت نفسه، وكما وصفهم أحد البولنديين الذي كاد أن يكون حليفا لهم - وهو إسكندر كرايفسكي
Kraievski : «جيلا لا آباء ولا أبناء لهم»، يسبقون معاصريهم بحوالي قرن من الزمان، فلا يستندون على تأييد سواد الناس لهم، ولا أمل لذلك في نجاحهم، ولما لم يكن لديهم أية خطة منطقية ومعقولة للعمل، فقد كان من المتوقع أن يستنفدوا جهودهم ونشاطهم في ثورة واحدة (يتيمة) تعتمد على مواتاة الظروف، والحظ الطيب فحسب، وكان مقضيا عليها بالفشل. (4) غراندوقية فنلندة
كانت فنلندة جزءا من السويد، ثم استولت روسيا عليها في سنة 1808، ثم صدر بإدماجها في الإمبراطورية إعلان إمبراطوري في يونيو في السنة نفسها، وفي 27 مارس 1809 صار انضمامها إلى روسيا «دستوريا» بإعلان من القيصر موجه إلى الشعب الفنلندي وإلى الدياط المجتمع في بورجو
Borgo ، وبمقتضى هذا الإعلان الأخير، صار الاعتراف بغراندوقية فنلندة كوحدة سياسية منفصلة، ذات كيان قانوني، ومرتبطة بالإمبراطورية الروسية، ولكن على أن يحتفظ بحقوقها الأساسية وبالدستور الذي كان لها حتى هذا الوقت؛ ليبقى نافذا وكاملا ودون تغيير، ولقد أضيفت مقاطعة فيبورج
Viborg (وكانت قد استولت عليها القيصرة الياصابات من السويد منذ سنة 1741) إلى فنلندة، وذلك في سنة 1811، فبلغت مساحة فنلندة في سنة 1825؛ ثلاثمائة وسبعين ألفا من الكيلومترات المربعة، وصار عدد سكانها؛ مليونا وثلاثمائة ألف نسمة.
وكانت لفنلندة محكمتان للقضاء العالي، لم تلبث أن أضيفت لهما محكمة عليا ثالثة في فيبورج، وكان يقوم بأعباء الإدارة بها «مجلس للحكم» أو الوصاية،
6
صدر أمر قيصري في فبراير 1816 باستبدال «مجلس شيوخ فنلندي» به، وتسلم السلطات العليا «حاكم عام»، ولقد قامت (منذ 1810) إلى جانب ذلك «لجنة دائمة» مقرها بطرسبرج، برياسة البارون أرمفلت
Armfelt ، خاصة بشئون فنلندة، كانت الهيئة التي يتم بواسطتها الاتصال بين مجلس الشيوخ الفنلندي، والقيصر بوصفه «غراندوق» فنلندة في كل ما يتعلق بشئون الإدارة والتشريع، ويعاون وزير للشئون الفنلندية القيصر في القيام بمهام الحكم، ويتلقى هذا الوزير (حسب التعليمات التي صدرت بها أوامر القيصر في نوفمبر 1810)، من العرش مباشرة كل القرارات الخاصة بفنلندة، وهي التي كان يوقعها القيصر، ثم الوزير، على أن يبلغها الحاكم العام بعدئذ إلى مجلس الشيوخ. وتبعا للتعليمات القيصرية الصادرة في أغسطس 1810، كان هذا الوزير كذلك مستقلا عن الحاكم العام، وأما الحاكم العام فقد كان مطلوبا منه (حسب تعليمات فبراير 1812) أن يوجه خطابه إلى مجلس الشيوخ الفنلندي بلغتين هما؛ السويدية والروسية، كما كان من واجبه (حسبما صدر إليه من أوامر سرية في سبتمبر 1810) أن يشرف على نشاط مجلس الشيوخ ويراقب أعماله.
وفي فنلندة بقيت العملة السويدية متداولة، ولو أنه تحتم دفع الضرائب بالعملة الروسية (الروبل)، ثم تأسس مصرف (بنك) لفنلندة أمده القيصر إسكندر الأول بمليون من الروبلات في شكل قرض من غير فوائد، مدته عشرون عاما، وكان بفضل الإدارة الفنلندية الطيبة أن انتشر الرخاء سريعا في البلاد، وبذلت (الحكومة) قصارى جهدها لتحسين طرق المواصلات البرية والبحرية، وتجفيف المستنقعات واستصلاح الأراضي، وتنمية الزراعة والتجارة، وإنشاء المصانع للحديد والصلب، وعنى الفنلنديون بالتربية والتعليم، خصوصا في مراحل التعليم الأولية والثانوية، وأنشئت مدرسة للحربية في فردريكشام
Frederikshamn ، وعني بأمر الجامعة. ونهض دليلا على ازدهار الثقافة في البلاد وقتئذ؛ اشتهار أعلام في القانون والأدب من طراز المحامي كالونيوس
Calonius ، والكاتب الفيلسوف سنيلمان
Snellman ، والشاعر الوطني رونبرج
Runeberg ، الذي تغنى في منظوماته بفروسية الفنلنديين في نضالهم الطويل ضد روسيا. ولا جدال أنه كان لذلك «الوضع الدستوري» الذي كفل لفلندة كيانها (كغراندوقية) ذات نظام حكومي خاص بها واستقلال إداري داخلي، أكبر الأثر في هذا التقدم الذي حدث، ولكن فنلندة كانت مهددة دائما بتدخل الأوتقراطية الروسية في شئونها، وزوال نظام الحكم الذاتي الذي تمتعت به.
لقد حرص القيصر إسكندر في السنوات الأولى من تأسيس غراندوقية فنلندة على توطيد الحقوق التشريعية التي نالتها فنلندة منذ 1809، بل وزيادة هذه الحقوق بإنشاء «اللجنة الفنلندية» التي سبقت الإشارة إليها. ثم إنه عمل على زيادة مساحة الغراندوقية، بأن أعاد إليها مقاطعة فيبورج (فنلندة القديمة)، وصار يبذل قصارى جهده لاستمالة الشعب الفنلندي إلى روسيا، وكان مبعث هذه السياسة، أن القيصر في نضاله المرير ضد نابليون كان يبغي المحالفة مع السويد، ويستبد به القلق على سلامة العاصمة (بطرسبرج) ذاتها، ولكن ما أن انتهى الصراع مع نابليون؛ حتى طرأ تغيير على هذه السياسة، فنبذ القيصر دور الحاكم (الغرندوق) الدستوري ليقوم بدور صاحب السلطان المطلق، ووقع الاعتداء على الدستور. من ذلك أن قانونين من القوانين الرئيسية السويدية المنفذة في فنلندة وقت غزوها، ويؤلفان جزءا من الدستور، كانا معطلين تماما. أما هذان القانونان فأحدهما كان قد صدر منذ 21 أغسطس 1772، والآخر منذ 3 أبريل 1789، وينصان على أن يشغل الوظائف أهل البلاد الذين يتبعون المذهب اللوثري، وإنه من المتعذر على «الملك» اعتماد قانون جديد أو إلغاء قانون قائم دون موافقة «مجلس الطبقات» وعلمه، وأن لمجلس الطبقات الحق في مراقبة استخدام أموال الخزانة لضمان إنفاق هذه الأموال فيما يعود بالنفع على البلاد ولصالحها، ومع ذلك فإن الدياط (مجلس الطبقات) لم يجتمع إطلاقا بعد الفتح. وشغل الوظائف المدنية والعسكرية موظفون من الروس أتباع المذهب الأرثوذوكسي، ولم يكن للدياط (الذي لم يجتمع كما ذكرنا) أي إشراف على المالية، فتولت الحكومة إنفاق الأموال حسب مشيئتها، وزيادة على ذلك، فإن الأوامر المتعلقة بالتشريع (أي ذات الصبغة التشريعية) صارت تصدر دون إشراك «الدياط». من ذلك أن القيصر إسكندر أصدر أمرا في سنة 1823 بضرورة فحص كل الكتب الأجنبية قبل تداولها في فنلندة، ومصادرة الكتب التي تدخل البلاد دون فحص سابق لها، وكان هذا الإجراء مخالفا للقانون السويدي المتعلق بالمطبوعات، والذي كان لا يزال ساريا في فنلندة وقتئذ، والذي منع «الرقابة» على المطبوعات، وفي عهد القيصر نيقولا الأول طلب تنفيذ قوانين 1829 الصارمة الخاصة بالرقابة الروسية في فنلندة وفرضت ضريبة قدرها ٪ من قيمة الكتب المستوردة من السويد.
وفي العامين الأخيرين من حكم القيصر إسكندر، زادت الحال سوءا في فنلندة. حقيقة حصل اعتداء على الدستور في الفترة السابقة، أثناء «حكمدارية» أرمفيلت الذي كان فنلنديا، ثم من بعده شتاينهايل
Steinheil
وكان جرماني الأصل، ولكن لم يحدث «هجوم» متعمد على هذا الدستور، لإبطال أثره كلية أو لإلغائه. غير أنه حدث في أغسطس 1823 أن تعين حاكما عاما (حكمدارا) لفنلندة، رجل اشتهر بمعارضته لنظام الغراندوقية القائم والذي يكفل لها حكما ذاتيا منفصلا عن الإمبراطورية، فبدأ هذا الحاكم الجديد - زاكريفسكي
Zakrevski - نشاطه بأن صار يعمل لإلغاء الأنظمة الفنلندية ولإدماج البلاد في الإمبراطورية الروسية، وكانت وسيلته إلى ذلك، أن صار منذ صيف 1824 يحاول إثارة أهل الريف في أنحاء البلاد ضد الأرستقراطية الفنلندية، وفي مايو 1825 بعث مباشرة إلى مجلس الشيوخ «منشورات» باللغة الروسية فقط، تتضمن مبدأ استخدام الروس أتباع المذهب الأرثوذكسي في مختلف الوظائف الرسمية، كحق طبيعي ومقرر لهم، ومبدأ تخويل الحكام سلطة طرد القضاة المحليين ومأموري الضبط، حسبما يتراءى لهم، وبادر مجلس الشيوخ بإرسال شكواه ضد هذا الحاكم العام إلى القيصر إسكندر، وكان هذا الأخير موجودا وقتئذ في «وارسو» لحضور جلسات «الدياط»، ولكن الشيوخ لم يتلقوا ردا على شكايتهم، وعند وفاة إسكندر في ديسمبر 1825، أرغم «زاكريفسكي» مجلس الشيوخ والسلطات الفنلندية على حلف يمين الولاء للعاهل الجديد، وفق الصيغة المتبعة في أنحاء الإمبراطورية الروسية، ودون أي ذكر للحقوق الدستورية «المنفصلة» التي كانت لغراندوقية فنلندة.
على أن القيصر نيقولا الأول، الذي تسلم مقاليد الحكم في ظروف عصيبة، وكان عليه أن يواجه وقتئذ الموقف ليس في فنلندة وحدها، بل وفي بولندة كذلك، لم يلبث أن اضطر في «بيانه الأول» الذي افتتح به عهده الجديد والذي وجهه إلى الغراندوقية في يناير 1826 - اضطر إلى ذكر الضمانات والحقوق التي أعطيت إلى فنلندة في بيان أو منشور 1809 في عهد سلفه. ولكن سرعان ما نهض الدليل على أن هذه «الضمانات والحقوق» لن تكون موضع الاحترام في عهد هذا القيصر؛ ذلك أن نيقولا استصدر أمرا في هذه السنة نفسها (1826) بتطبيق عقوبة النفي إلى سيبريا في فنلندة، ثم استصدر في أغسطس 1827 أمرا أعلن رسميا صلاحية أتباع المذهب الأرثوذكسي لشغل الوظائف في الغراندوقية، ولم يكن الفنلنديون يستطيعون المقاومة إطلاقا. فجيش فنلندة - أو الحرس الأهلي - كان لا يزيد عدده في سنة 1825 على (3600) رجل فحسب، إلى جانب خمسمائة من طلاب المدرسة الحربية، ولم تكن هذه القوات تجتمع للتدريب غير مرة واحدة سنويا، ولمدة ستة أسابيع فقط، وفي عهد نيقولا الأول، لم يكن عدد هذا الجيش يزيد عن (3000). فلم يكن في وسع هذه القوة الصغيرة الدفاع عن حريات وحقوق البلاد، بل لقد كانت على العكس من ذلك؛ تستخدم في القضاء على حريات وحقوق شعوب أخرى، عندما اشتركت القوات الفنلندية نزولا على إرادة القيصر نيقولا الأول، في الحملة البولندية سنة 1831، وقتال البولنديين. (5) السنوات الأخيرة من عهد إسكندر الأول
في سنة 1815، كان القيصر إسكندر يبلغ من العمر 38 عاما، ولم يكن حتى هذا الوقت قد أنجب من زوجه الياصابات (وأصلها من بادن
Baden ، ولما كان يعيش منفصلا عن زوجه، فقد بعد احتمال أن يولد له وارث للعرش، فكان صاحب الحق في وراثة العرش من بعده؛ أخوه قنسطنطين
Constantine
الذي يصغره بسنتين، وكان هذا الأخير كذلك لا ولد له، ويعيش منفصلا عن زوجه؛ ولذلك فقد صار صاحب الحق في الوراثة بعد هذين الاثنين؛ الأخ الثالث نيقولا، الذي ولد في 6 يوليو 1796، وقد تزوج نيقولا - باقتراح من أخيه القيصر - من أميرة روسية، شارلوت
Charlotte
التي تسمت باسم ألكسندرا فيدوروفنا
Feodorovna ، وذلك في بطرسبرج في يوليو 1817، فاستولدها «إسكندر» في 29 أبريل 1818، وهو الذي صار فيما بعد الإمبراطور إسكندر الثاني (1855-1881).
وكان مولد إسكندر «الثاني» حادثا هاما؛ لتأثيره الفاصل على مسألة وراثة العرش من جهة، ولأن العلاقات قد زادت توثقا بفضله بين روسيا وبروسيا ، في القسم الأكبر من القرن التاسع عشر، ولقد حدث بعد ذلك أن حصل قنسطنطين، بموافقة القيصر، على قرار من مجلس الكنيسة (السنيود) في مارس 1820، بالطلاق من زوجه، صدر قرار قيصري بتأكيده في أبريل، فتزوج «قنسطنطين» في شهر مايو وفي مدينة وارسو، من سيدة بولندية الأميرة لوفيتش
Lovicz ، ولكنه لم ينجب منها ولدا، ومنذ يوليو 1819 كان القيصر قد أخبر نيقولا بعزمه على نقل حقوق الوراثة إليه، ولكن لم تتخذ أية خطوات جدية لفعل ذلك، حتى طلب القيصر (في 26 يناير 1822) من قنسطنطين التنازل رسميا عن حقوقه، وقد فعل قنسطنطين ذلك، ولكن - على ما يبدو - بشريطة أن يبقى هذا التنازل سرا مكتوما باعتبار أنه إجراء أملته الضرورة فقط، بل إن هناك ما يدل على أن الحافز على هذا التنازل كان اقتناع قنسطنطين بأن القيصر إسكندر نفسه يعتزم هو الآخر التنازل عن العرش، وكان إسكندر قد فكر فعلا في السنوات الأخيرة في اتخاذ هذه الخطوة، والواضح أن القيصر إسكندر ما كان يتردد إطلاقا في نشر هذا التنازل الذي حصل من جانب قنسطنطين، لو أنه كان متيقنا من أنه تنازل نهائي، ولا يمكن النكوص عنه، ولأمكنه (أي إسكندر) أن يبلغ نيقولا رسميا انتقال حقوق الوراثة إليه، ولكن الذي حدث أن القيصر دون علم قنسطنطين أعد نسخا من وثيقة التنازل التي اعترف فيها هذا الأخير، أن من أسباب تنازله عن حقوقه: «أنه لا يملك الشجاعة أو الكفاءة، أو القدرة والقوة اللازمة لكل من يضطلع بشئون الحكم.» كما وقع هو نفسه وثيقة في 28 أغسطس 1825 أعلن فيها تنازل قنسطنطين عن حقوقه، وأن صاحب الحق في اعتلاء العرش من بعده هو أخوه نيقولا. ثم أودع أصول هذه الوثائق في كتدرائية أسبنسكي
Uspenski
بموسكو، وصورها لدى مجلس الكنيسة (السنيود)، ومجلس الشيوخ، ومجلس الدولة في بطرسبرج، ولم يكن يعرف أحد محتويات هذه الوثائق سوى ثلاثة هم: «أراكشييف» و«جاليتزن» و«فيلاريت». كما يبدو أن نيقولا نفسه وقف على مضمونها من أحد هؤلاء الثلاثة. في حين لم يكن قنسطنطين - على ما يبدو - يعرف شيئا عنها حتى وفاة إسكندر، ولم يكن يعتبر بالرغم من تنازله، أن الطريق إلى العرش قد صار مغلقا نهائيا أمامه.
أما إسكندر، فإنه عند انتهاء النضال ضد نابليون (سنة 1815)، وتحقيق غايته الكبرى، لم يلبث أن احتضن خلال السنوات الأربع التالية (1815-1819) مشروعات جديدة ضخمة في ميادين النشاط الخارجية والداخلية على السواء، باعتبار أنها قسم من السياسة «الحرة» التي يريد اتباعها، ومن بين هذه المشاريع الكبيرة «الحرة» كان الضغط على الدولة العثمانية وإزعاجها، ومناصرة اليونانيين في حركتهم الوطنية، وتوسيع نطاق مملكة بولندة، بإضافة أقاليم جديدة إليها، ثم إعادة تنظيم روسيا على أسس دستورية وفيدرالية في الوقت نفسه وإصلاح شئونها، وتحرير رقيق الأرض (الأقنان). ولقد كانت هذه الرغبة في الإصلاح وتحرير الأقنان، مبعث تشكيل «لجان التفتيش» التي ذكرنا شيئا من نشاطها وآثارها، ثم إنها كانت مبعث كل تلك الإجراءات التي اتخذت والقرارات التي صدرت بشأن الكنيسة والفلاحين.
على أن الرغبة في الإصلاح لم تلبث أن أفضت في النهاية إلى إصدار القيصر وهو في وارسو في سنة 1818، التعليمات اللازمة لوضع دستور لروسيا، وقد صدرت هذه التعليمات إلى «نوفوسيلتزوف»، الوكيل الأمين للقيصر لدى حكومة بولندة، وقد أعد «نوفوسيلتزوف» مشروع دستور للإمبراطورية، يشبه في قسم منه دستور مملكة بولندة، وبمقتضى هذا الدستور تقسم الإمبراطورية إلى عشرة مقاطعات، وبكل إقليم (دياط) من غرفتين (أو مجلسين) ينتخب أعضاؤه مرة كل ثلاث سنوات، على أن ينشأ «دياط مركزي» للإمبراطورية إما في بطرسبرج وإما في موسكو، يدعى للانعقاد كل خمس سنوات. وقد بحث القيصر هذا المشروع مع واضعه في وارسو في أكتوبر 1819، ولم يكن قنسطنطين يدري شيئا مما يحدث . ثم إن القيصر كلف «نوفوسيلتزوف» أن يعد له مقتبسات من القوانين التي صدرت في عهد جاجيلو
Jagiello (1386-1434) ملك بولندة، في سنة 1413، في هورودلو
Horodlo
بشأن الاتحاد البولندي الليتواني، ثم في عهد الملك إسكندر (1501-1506) في بيوتركوف
سنة 1501، ولقد نهض هذا التكليف إلى جانب أشياء أخرى دليلا على أن القيصر يريد ضم ليتوانيا إلى مملكة بولندة، ومن المعروف أن روسيا كانت قد استولت على ليتوانيا في تقسيم 1793 كما استولت بروسيا على قسم منها في هذا التقسيم نفسه، ومع ذلك فقد أعد «نوفوسيلتزوف» في الوقت نفسه مسودة لبيان يعلن إلى جانب إعطاء الإمبراطورية دستورا، إلغاء مملكة بولندة واعتبارها ضمن المقاطعات التي يتولى الحكم فيها (نائب الملك) - أي تجريدها بذلك من دستورها المنفصل - وأن يطلق على جيشها اسم «الجيش الغربي» بدلا من الجيش البولندي، وهكذا كانت تضارب المشاريع المتناقضة في ذهن القيصر إسكندر الذي اشتهر بعدم الثبات على رأي واحد، ولو أن هذه المشاريع لم يتنفذ منها شيء في النهاية.
وتعتبر الفترة القصيرة (1819-20) أخطر الفترات في حكم إسكندر؛ لأنه كان في شهورها القليلة أن حدث ذلك التغيير الذي جعل القيصر يتخلى عن مشاريعه «الخيالية» وإن كانت قد استندت هذه المشاريع في الأكثر على آراء «حرة» تقدمية، فيعود إلى أساليب الرجعية، ثم إلى ذلك النوع من التفكير في أسباب مسلكه الشخصي ونوازعه النفسية، والذي جعله مترددا، ومتناقضا في إجراءاته ومشاريعه السياسية، وكان سبب التغيير الذي حدث وقوع طائفة من الحوادث، تقدم ذكر بعضها في فصول أخرى سابقة، منها: مصرع كوتزبيو
Kotzebue
في مارس 1819، كما حدث في أغسطس من السنة نفسها أن ثار «المعمرون العسكريون» في شوجييف
Chuguieff (على نهر الدون)، كما اجتمع بالقيصر في تزاريسكو سيلو
Tsarskoie Selo
في آخر أكتوبر 1719، المؤرخ الروسي كارامزين
Karamzin ، وكان عدوا لاستقلال بولندة، وللحكومة الدستورية، ولتحرير الأقنان، فأخذ يحذر القيصر من المضي في الطريق التي اختارها لنفسه، ويطلب إليه العودة إلى اقتفاء أثر القيصرة كاترين الثانية، ثم وقع في فبراير 1820 مصرع الدوق دي بري
Debry
في فرنسا، كما تميزت هذه السنة بقيام الثورات في إسبانيا ونابولي والبورتغال ، وأخيرا وقعت ثورة آلاي الحرس الروسي في بطرسبرج في أكتوبر، وهي الثورة التي وصلت القيصر أنباؤها وهو بمؤتمر «ترباو»، ومع أن هذا العصيان لم يكن بدافع سياسي، ونجم من تذمر الجنود بسبب سوء معاملة رئيسهم لهم، ثم أمكن إخماده بكل سرعة، فقد كان مفاجأة أذهلت القيصر وسببت له الألم؛ حيث قد أثار هذا الحادث في ذهن القيصر ذكريات ذلك الدور التقليدي الذي اضطلع به «الحرس الروسي» دائما كأداة للانقلابات السابقة، عندما خلع الحرس الروسي القيصر بطرس الثالث (1762) من على العرش، ثم قتلوه وقتلوا كذلك القيصر بول الأول (1801).
وكان إسكندر الأول يعلم من مدة طويلة، أن هناك جمعيات سرية في روسيا وبولندة، ولقد ذكرنا أنه كان ينظر إلى هذه الجمعيات في أول الأمر بعين التسامح، وحدث بعد عودته إلى بطرسبرج في سنة 1821 بعد غيبة طويلة في أوروبا أن وصلته أخبار هامة عن نشاط أعضاء هذه الجمعيات السرية، والمتآمرين ضده، أولا؛ في شكل تقرير مسهب أعده رئيس أركان الحرس الروسي الجنرال بنكندوروف
Benckendorff
يحوي أسماء المتآمرين، ومعلومات مفصلة عن نشاطهم، وثانيا؛ في تقرير آخر أعده الجنرال فازيلشيكوف
Vasilchikoff
رئيس المجلس الإمبراطوري، ولكن القيصر لم يشأ اتخاذ إجراء ما، ولو أنه أخذ من هذا الحين يصغي لمشورة الرجعيين باهتمام أكبر، ويستجيب لمطالب «مجلس الكنيسة» السينود
Synod
ويعمل لتغيير نظام الوراثة، بالصورة التي عرفناها، ويفكر هو نفسه في التنازل عن العرش، وزاد عبوس القيصر وصارت تساوره الشكوك الكبيرة، عندما أخذ يشعر بالعزلة، وأنه يعيش بعيدا عن الناس، لا رفيق ولا صديق له في أرض وطنه وفي أوروبا بأسرها، يفزعه شبح أبيه القيصر بول الأول في نومه وتفزعه ذكراه في صحوه، ولم يكن يقدر نسيان أنه ضالع في قتله، وأفزعه كذلك أنه صار الآن موضع تآمر المتآمرين الذين يريدون قتله هو نفسه، وتزايد يقينه سنة بعد أخرى من أنه عاجز عن فعل شيء في الداخل، ومن أن الفشل حليف سياسته في الخارج. ولقد بلغت القيصر في أغسطس 1825 تفاصيل مثيرة عن مؤامرة جديدة تدبر في الجيش ضده، ولكنه تلقى هذه الأخبار في هدوء، ولم يتخذ أية إجراءات للوقاية منها، وغادر بطرسبرج في الشهر التالي (سبتمبر) إلى تاجنروج
Taganrog
على بحر آزوف، ولكن سرعان ما تدهورت صحته فجأة ورفض تناول أي دواء، فقضى نحبه بهذا المكان في أول ديسمبر 1825.
ووصل الخبر إلى «وارسو» في 7 ديسمبر، فبادر دبيبيتش
Diebitsh
رئيس أركان حرب الجيش الجنوبي، بإبلاغ النبأ إلى «قنسطنطين» بوصفه إمبراطورا على الروس، وكان قنسطنطين يتخذ مقامه بها، ولكن هذا الأخير رفض قبول التاج حتى يتم قبلا إعلان أن رسالته التي تنازل فيها عن حقوقه في العرش قد صارت ملغاة، ولا قيمة قانونية لها. بل إن «قنسطنطين» كتب إلى «نيقولا» يبدي رغبته في تنفيذ ما تعهد به في رسالته، ولو أنه لم يوضح هذه الرغبة في عبارات صريحة قاطعة، ومع أن قنسطنطين رفض أن يتسلم مقاليد الحكم، فقد امتنع في الوقت نفسه عن أن يتقبل من السلطات الرسمية والجيش في بولندا وليتوانيا تأدية يمين الولاء له باسم القيصر نيقولا.
ووصل خبر وفاة إسكندر إلى بطرسبرج يوم 9 ديسمبر، ولكن وزير العدل، بوصفه «النائب العام» لمجلس الشيوخ، رفض أن يفض الرسالة التي أودعها القيصر إسكندر بالمجلس، وذكرنا أنها واحدة من عدة صور لوثيقة التنازل الموقعة من «قنسطنطين»، ثم الرسالة أو الوثيقة الأخرى التي كانت بتوقيع إسكندر نفسه في صالح شقيقه نيقولا، وكذلك لم يفض الرسالة المودعة بمجلس الكنيسة (السنيود)، وذلك كله بدعوى «أن الأموات لا إرادة لهم»، وكان حاكم بطرسبرج ميلورادوفيتش
Miloradovich
يقوم في هذا الوقت العصيب بدور رئيسي في المسألة، وقد أعلن أنه مؤيد قطعا لاعتلاء قنسطنطين للعرش؛ بل إن نيقولا نفسه لم يلبث تحت ضغط «ميلورادوفيتش» أن حلف يمين الولاء لأخيه، كما فعل ذلك رجال الحكومة وموظفوها في بطرسبرج والحامية التي كانت بها.
ومع ذلك فقد طالب «جاليتزن» عند اجتماع مجلس الدولة، بضرورة فض الرسائل السالفة الذكر للوقوف على مضمونها، ولا جدال في أن «جاليتزن» كان مدفوعا من نيقولا نفسه للمطالبة بذلك، فقرئت رسالة قنسطنطين كما قرئ إعلان إسكندر، ولكن شيئا لم يترتب عن قراءتها في حينه.
ولقد حذت موسكو حذو بطرسبرج، فلم تفض الرسالة السرية المودعة بكتدرائية «إسبنسكي»، وحلف الجنود ورجال الحكومة يمين الولاء للقيصر قنسطنطين الأول، وفعلت ذلك فنلندة، ثم المقاطعات الغربية بما في ذلك «فيلنا»، ولم يشذ عن ذلك سوى «جرودنو» (في بولندة على نهر النيمن)، وذلك بناء على رغبة قنسطنطين نفسه، فلم يحلف المسئولون أو الجيش بها يمين الولاء له.
وكان قنسطنطين في الوقت نفسه وهو في وارسو، قد بلغه ما حصل في «مجلس الدولة» وقراءة رسالته التي تنازل فيها عن حقوقه في العرش، والأهم من ذلك؛ قراءة وثيقة القيصر إسكندر، الأمر الذي جعل - بعد هذه التعهدات والبيانات - مركزه كقيصر ضعيف من الناحية القانونية، ثم لم يلبث أن وصلته أنباء مزعجة عن اكتشاف مؤامرة جديدة، فقرر على الفور التمسك بتنازله. وفي 20 ديسمبر 1825 بعث بإعلان تنازله من غير قيد أو شرط إلى «نيقولا»، وبعد أربعة أيام (24 ديسمبر) وبمجرد وصول هذا الإعلان إلى بطرسبرج، نودي بنيقولا الأول قيصرا على روسيا، وبذلك انتهت «فترة خلو» بقيت البلاد أثناءها بدون عاهل مدة تزيد على ثلاثة أسابيع. (6) حركة الديسمبريين
7
على أن وفاة القيصر إسكندر كانت مفاجأة للجمعيات السرية، التي لم يبلغ أعضاءها أية أخبار عن مرض القيصر، كما أن انتقال الوراثة إلى نيقولا الأول، جعلهم يشعرون بالحيرة؛ لأنهم لم تكن لديهم معلومات عن التغييرات التي حصلت في نظام الوراثة، ولكن سرعان ما قررت الجمعيات السرية هذه، انتهاز فرصة التقلقل الذي طرأ على الموقف، للقيام بالثورة، بدعوى تأييد حقوق «قنسطنطين» في الوراثة، وذلك لدرجة كبيرة بزعامة «ريلييف» - زعيم الجمعية الشمالية - أو تحت تأثيره، وأراد مدبرو الحركة إرغام مجلس الشيوخ على استصدار إعلان، يدعو فيه للاجتماع مجلسا يضم ممثلين عن البلاد، لبحث موضوع وراثة العرش ولتشكيل حكومة تتسلم مهام الأمور حتى يتم الفصل في مسألة الوراثة؛ هل يكون العرش من نصيب قنسطنطين أو نيقولا؟ على أن يكون من أعضائها؛ سبرانسكي عضو مجلس الدولة، والجنرال مورد فينوف
Mordvinoff
قائد جيش القوقاز، والجنرال يرمولوف
Yermoloff ، كما طلبوا أن يعمل المجلس لتخفيض مدة الخدمة العسكرية للمجندين إلى خمسة عشر عاما، وأن يتخذ الخطوات اللازمة لتحرير رقيق الأرض (الأقنان).
ولقد تضمن برنامج الثورة إلى جانب إزالة الحكومة القائمة، وتشكيل الحكومة المؤقتة التي ذكرناها، إعلان حرية الصحافة، وحرية العبادة، والمساواة أمام القانون (مساواة كل الطبقات)، وإلغاء المحاكم العسكرية واللجان أو الهيئات القضائية الاستثنائية بكل أنواعها، وإعلان حق الأفراد في اختيار المهنة أو الحرفة التي يريدونها دون اعتبار للطبقة الاجتماعية التي ينتمون إليها، ثم الامتناع عن تقدير الضرائب على أساس عدد الذكور في الأسرة، وإلغاء المتأخر من الضرائب التي من هذا النوع ثم إلغاء الاحتكارات، وإلغاء «المستعمرات العسكرية»، والطرق المتبعة في التجنيد، وخفض مدة الخدمة العسكرية - كما ذكرنا - إلى خمس عشرة سنة، ثم تأسيس هيئات إدارية في النقاط الريفية (أو القومونات) وفي النواصي والأقسام
Uzeza ، وفي المراكز (أو الحكومات)
Guberniya
ثم في المديريات، على أن يجرى انتخاب أعضاء هذه الهيئات الإدارية بدقة، وأن يحل هؤلاء محل الموظفين الرسميين الموجودين حاليا والذين عينتهم السلطات المدنية في وظائفهم. وتضمن البرنامج كذلك أن تكون كل الإجراءات القضائية علنية، وأن يتبع نظام المحلفين في القضايا المدنية والجنائية، وأن تستأنف الأحكام لدى مجلس أعلى لكل مديرية، وأخيرا تشكيل حكومة دائمة، يتقرر فيما بعد نظام الانتخاب الذي يجب أن تجرى بمقتضاه الانتخابات اللازمة لتشكيل هذه الحكومة.
ولقد كان المتآمرون يريدون أن يشمل الإعلان أو المنشور الذي اعتزموا إرغام مجلس الشيوخ على إصداره، كل النقاط التي ذكرناها. ثم إنهم اختاروا لدور «الديكتاتور» المؤقت؛ أي على رأس الحكومة التي تتسلم مهام الأمور عند حصول الانقلاب البرنس سرجيوس تروبتسكوي
Trubetskoy ، وينتمي لأسرة عريقة، بل وأعرق في القدم من أسرة رومانوف نفسها، وكان المتآمرون من أعضاء «الجمعية الجنوبية» يريدون اغتيال القيصر أثناء استعراضه الجيش، ثم الزحف بعد ذلك على كييف
Kiev
وموسكو، بعد أن يكونوا قد استحالوا هذا الجيش إليهم، وعندئذ يعلن مجلس الشيوخ قيام الثورة، من عاصمة البلاد القديمة «موسكو». على أن هذه الخطط لم تلبث أن تعطلت بسبب وفاة القيصر إسكندر المفاجئ بعيدا عن بطرسبرج؛ ولذلك فقد وجب على المتآمرين أن ينتهزوا فرصة «الارتباك» الذي صحب حادث تنازل قنسطنطين عن العرش نهائيا في الظروف التي عرفناها؛ ليقوموا بثورتهم دون إبطاء.
وفي ليل (الأحد-الاثنين) 25-26 ديسمبر 1825، انعقد اجتماع في محل إقامة «ريلييف»، تقرر فيه؛ أن تبدأ الثورة في اليوم التالي، وهو اليوم الذي كان محددا ليحلف فيه الجيش (جنود الحرس) يمين الولاء للقيصر نيقولا الأول في بطرسبرج، وعلى ذلك فقد أعلن «آلاي موسكو» العصيان في ثكناته، في صبيحة يوم 26 ديسمبر، ورفض حلف يمين الولاء، ثم خرج الجنود بسلاحهم إلى مكان (ميدان) مجلس الشيوخ، وصاروا يهتفون بحياة قنسطنطين، وهتف بعضهم بحياة الدستور؛ ويؤكد المؤرخون أن عددا من الجنود لم يكن صغيرا، كان يعتقد أن «الدستور» هو اسم زوجة قنسطنطين، وأن الهتاف لهذا الدستور إنما هو هتاف لهذه السيدة! ولم يمض وقت طويل، حتى كان قد انضم إلى الثوار، أحد الآلايات الأخرى، ثم طاقم السفن الحربية الرابضة في مياه بطرسبرج.
غير أن نفوذ المتآمرين على الجند لم يكن كبيرا بالدرجة الكافية، فلم تشترك الآلايات التي اعتمد عليها هؤلاء في إشعال الثورة، وخصوصا جنود المدفعية. أضف إلى هذا أن زعماء الثورة لم يظهروا قدرة على تصريف الأمور، فتركوا العسكر المحتشدين في ميدان مجلس الشيوخ ساعات طويلة (سبع ساعات) في البرد القارس دون طعام، ولم تصدر عن «ديكتاتور» الثورة «تروبتسكوي» أية أوامر، ووقف الأهلون موقفا سلبيا من هذه الحركة.
واستطاع القيصر نيقولا، أن يطوق الثوار في الميدان بقواته، وكان أحد المتآمرين قد حذر في اليوم السابق القيصر، ولم يكن عدد الجنود الثوار يزيد على ثلاثة آلاف، في حين جمع القيصر قوات كبيرة من المشاة والفرسان والمدفعية الذين بقوا على ولائهم له، ورفض الثوار التسليم بل أجابوا بإطلاق النار، على النداءات التي تكرر توجيهها لهم، وقتل في أثناء ذلك «فيلورادوفيتش» الذي عرفنا أنه من أكبر أنصار قنسطنطين، وأخيرا أمر نيقولا بإطلاق المدافع على الثوار، فتفرقوا بعد أن أصيب عديدون من الجنود والأهلين الذين شهدوا الموقعة، ثم قتل كثيرون أثناء هربهم، كما غرق عديدون في نهر نيفا
Neva
الذي تقع عليه العاصمة «بطرسبرج»، وفي مساء اليوم نفسه ألقي القبض على معظم زعماء الثورة وألقي بهم في غياهب السجون، وبذلك قضي على حركة أو ثورة «الديسمبريين».
وكما أظهر المتآمرون من أعضاء «الجمعية الشمالية» - وهي التي قامت بهذه الثورة - الافتقار التام للتنظيم، وحسن الاستعداد، والقدرة على تصريف الأمور، فإن أعضاء «الجمعية الجنوبية» كانوا كذلك من هذا الطراز نفسه. فإن هؤلاء الأخيرين عندما وصلتهم أنباء ثورة «الديسمبريين» في بطرسبرج، لم يلبث أن تزعم أخوة ثلاثة من بين أعضاء «الجمعية الجنوبية» حركة إشعال الثورة في الجنوب (الأوكرين)، فاستطاع الضابط سرجيوس مورافييف أبوستول
Apostol
تحريض أحد الآلايات المشاة فيفاسيلكوف
Vasylkoff
على الثورة في 11 يناير 1826، وجعله يزحف من معسكره بهذه الأخيرة إلى بيالوتسركوف
Bialotserkoff ، جنوبها، ولكن لم يمض أيام قلائل حتى كانت قد حلت الهزيمة بقواته، وجرح «أبوستول» مع شقيق له، بينما انتحر شقيق آخر، وقضي على هذه الحركة كما قضي على سابقتها.
ولقد كان بعد هذه الانتصارات «السريعة» أو «السهلة» إذن ما أن توطد سلطان «نيقولا»، وتم حلف يمين الولاء له دون أية معارضة أو مقاومة، وفي 29 ديسمبر صار تأدية اليمين له في موسكو، بعد أن أخرجت وثائق 1822-1823 المحفوظة بكتدرائية «أوسبنسكي» وقرئت على الملأ.
وبدأ القيصر نيقولا، في التو والساعة، سياسة قمع صارمة، فشكل (في 29 ديسمبر 1825) لجنة لاستقصاء أسباب المؤامرة، وثورة الديسمبريين وأسماء جميع المشتركين فيها، وقام القيصر نفسه بسؤال المتهمين والشهود، وأشرف على «الفحص» الذي استخدمت في إجرائه أقسى وسائل التعذيب الروحية والبدنية. وفي 11 يونيو من العام التالي، وضعت اللجنة تقريرها وقد توخت في هذا التقرير؛ إظهار المتآمرين في صورة القتلة والسفاكين لتشويه سمعتهم، والحط من قيمتهم في اعتبار الناس، ولم يذكر التقرير شيئا عن «برنامج» الديسمبريين، الذين أرادوا - كما عرفنا - تقرير المساواة أمام القانون بين المواطنين وتحرير رقيق الأرض، وإصلاح الجيش والكنيسة، وإلغاء المستعمرات العسكرية والاحتكارات، وضمان العدالة ... إلخ، ولقد شرعت المحكمة العليا تنظر «قضية» هؤلاء الديسمبريين في 15 يونيو، واستمرت مداولاتها حتى 23 يونيو في سرية تامة، ودون إخطار المتهمين بهذه المحاكمة، ودون أن يعطى هؤلاء حق الدفاع عن أنفسهم، وكان عددهم: (121) متهما، منهم؛ (61) أعضاء بالجمعية الشمالية، (37) بالجمعية الجنوبية، (23) أعضاء بجمعية «السلاف المتحدين»، ومن بين هؤلاء جميعا كان سبعة من الأمراء، واثنان من الذين يحملون لقب كونت، وثلاثة بارونات، واثنان من الجنرالات، (23) من الضباط، وقد صدر الحكم بإعدام (36) وبنفي الباقين إلى سيبريا، وتنفذ حكم الإعدام في صبيحة يوم 25 يوليو سنة 1826 في خمسة فقط، هم زعماء الحركة؛ بستيل، ريلييف، سرجيوس مورافييف أبوستول، ميشيل بزتوزيف، وكاشفوفسكي
Kachovski ، وخفف القيصر عقوبة الإعدام على زملائهم، فصدر الأمر بنفيهم إلى سيبريا.
ويبدو أن القيصر، بالرغم من هذه القسوة البالغة التي عامت بها «الديسمبريين» التي كان الغرض منها إدخال الرعب والفزع إلى قلوب الناس، وإرهاب المجتمع، كان يريد تنفيذ بعض الإصلاحات على الأقل التي نادى بها الديسمبريون، ذلك بأنه طلب إعداد «موجز» لهذه الإصلاحات لقراءته، ولم يلبث أن كلف في السنة نفسها (1826) سبرانسكا بعمل مجموعة للقوانين الروسية، وهو العمل الذي تم الفراغ منه في سنة 1839. ثم إن «لجنة سرية» تشكلت في سنة 1826 كذلك؛ لتفحص مسألة الفلاحين ولو أن جهود هذه اللجنة لم تسفر عن شيء، فكان في عهد خلفه القيصر إسكندر الثاني (1855-1881) أن ألغي رقيق الأرض.
على أنه مما لا شك فيه أن نيقولا قد أظهر حماسا أعظم في اتخاذ تدابير القمع السياسي، فهو قد عين في سنة 1826 رئيسا لقوات البوليس، ومديرا للمنظمة البوليسية الجديدة (القسم الثالث) الخاصة بالجاسوسية والقمع السياسي، الرجل الذي كان أول من كشف نشاط الجمعيات السرية الجنرال بنكندورف.
وفي السنوات التالية، تزايد اهتمام نيقولا بشئون السياسة الخارجية، ولقد مر بنا كيف أنه اشتبك في حرب مع فارس (1827-1828)، وهي الحرب التي انتهت بصلح تركومانكي
Turkmanchy
في 10 فبراير 1828، ونالت بفضلها روسيا مقاطعات ناخيشيفان
Nakhichevan Erivan (في جهات قفقاسيا)، كما اشتبك في العام التالي (1828-1829) في حرب مع تركيا، انتهت بمعاهدة أدريانوبل (أدرنة) في 14 سبتمبر 1829، والتي أفضى إبرامها إلى استقلال اليونان، ونالت روسيا بموجبها أملاكا آسيوية بوتي
وأنابا
Anapa
إلخ)، ثم حق الملاحة الحرة في المضايق؛ البسفور والدردنيل، واحتلاله الأفلاق والبغدان، ثم تعويضا ماليا كبيرا، وأخيرا الحرب البولندية (1831) التي أفقدت بولندة استقلالها الذاتي «كمملكة دستورية».
ولكن الروس أنفسهم لم يفيدوا شيئا من هذه الحروب، بل على العكس من ذلك، كانت خسارتهم بسببها كبيرة عندما خيم عليهم الركود من حياتهم الداخلية، وأخذت عوامل الانحلال البطيء تنخر في جسمان الأمة في المستقبل؛ فتعطل نمو البلاد الطبيعي، وصارت مهددة بحدوث الانقلابات الخطيرة ونزول الكوارث بها. (7) مملكة بولندة
تمهيد
لقد شاهدنا عند الكلام عن إمبراطورية نابليون الأول كيف أن البولنديين كانوا يعقدون الآمال العظيمة على نوايا هذا العاهل الفرنسي في استعادة استقلالهم، وحرياتهم المفقودة، بعد أن كانت التقسيمات الثلاث المعروفة في 1772، 1793، 1795، قد محت الدولة البولندية القديمة من الوجود، فأنشأ نابليون غراندوقية وارسو من الأراضي التي كانت أصلا في حوزة بروسيا والنمسا، ولكن نابليون لم يلبث أن لحقت به الهزيمة، واستولت روسيا على غراندوقية وارسو أثناء «حرب التحرير» بين عامي 1813، 1815، وصار في أيدي روسيا وحدها الآن إيجاد حل للمسألة البولندية، وهي المسألة التي ظلت قائمة بالرغم من الأحداث الماضية جميعها؛ بسبب الحيوية التي تميزت بها «الأمة» البولندية، والتي حفظت لهذه الأمة كيانها بالرغم من تمزيق «الأرض» التي عاشت عليها هذه الأمة شر ممزق.
وكانت روسيا تستولي على ثلاثة أرباع أراضي بولندة بمقتضى التقسيمات الثلاثة السابقة، وعلى أكثر من نصف سكانها، ولما كانت إلى جانب ذلك قد استولت على غراندوقية وارسو، فقد صار في حوزتها الآن (1815) حوالي تسعة أعشار الأراضي البولندية؛ ولذلك فقد أراد القيصر إسكندر الأول إنشاء مملكة بولندية تحت سيطرة روسيا ويضم إليها أكبر جزء من الأراضي البولندية التي كانت في حوزته، وانتعشت آمال البولنديين عندما كان القيصر - في الشطر الأول من حكمه - ظاهر الرغبة - كما شاهدنا - في تأييد المبادئ والأفكار الحرة، ويجمع حول شخصه مستشارين أصحاب الخبرة والدراية بشئون أوروبا الغربية، والذين كانوا من المعجبين بنظام الحكم الدستوري في إنجلترة، في حين كان تزارتوريسكي «البرنس آدام جورج»، من أقرب المقربين هو وزوجته إلى القيصر إسكندر، وقد استطاع هذا الزعيم الوطني البولندي مع زوجته أن يبثا في نفس القيصر شعور الاحترام للأمة البولندية، وعول إسكندر على إعادة مملكة بولندة القديمة إلى الوجود ثانية، منفصلة عن الإمبراطورية الروسية، ويجمع بينها وبين روسيا رباط شخصي فحسب، هو الخضوع لشخص القيصر إسكندر بوصفه ملكا لهذه المملكة الجديدة «بولندة».
على أن إعادة مملكة بولندة القديمة كان يتطلب من بروسيا والنمسا أن تتنازلا كلاهما عن الأقاليم التي في حوزتهما من أيام التقسيمات الثلاثة المعروفة؛ ولذلك سرعان ما صارت المسألة البولندية من أخطر المشاكل التي صادفها مؤتمر فيينا، ولم يكن السياسيون في هذا المؤتمر، و«كاسلريه» على وجه الخصوص، يدركون حقيقة أهمية هذه المسألة البولندية من الناحيتين التاريخية والسياسية، كما أنهم عجزوا عن إدراك حقيقة الصالح الأوروبي، فوضعوا التسوية الأوروبية على الأسس القائمة قبل الفتوحات النابليونية، ثم إنهم عارضوا في إحياء بولندة وإنشاء المملكة الكبيرة التي أرادها القيصر، وذلك لخوفهم من روسيا، وعلى ذلك فقد اضطرت هذه الأخيرة إلى الموافقة على أن تأخذ بروسيا حوالي ربع مساحة غراندوقية وارسو، فاسترجعت إقليم بوزن
وبروسيا الغربية بما في ذلك دانزج وتورن (أي بولندة البروسية)، بينما استرجعت النمسا الجزء الذي كانت فقدته في سنة 1809 من غاليسيا الشرقية واستولت عليه روسيا وقتئذ، وهو مقاطعة «تارنبول»، في حين أعلنت «كركاو» مدينة حرة حماية روسيا والنمسا وبروسيا المشتركة، ومن الأراضي المتبقية إذن تألفت مملكة بولندة الجديدة، التي ارتبطت بموجب «الدستور» الذي منحه لها القيصر، وبفضل نظام الحكم الوراثي الذي صار لها، ارتباطا لا انفصام له بالإمبراطورية الروسية.
وكان القيصر إسكندر قد عرض قبل ذلك بخمس سنوات (1810) على نابليون الأول إبرام اتفاق يحول دون توسع غراندوقية وارسو؛ أي ضم أقاليم جديدة إليها، ولكنه جعل من حقه الآن في معاهدات الصلح، وفي «قرار فيينا النهائي»، إضافة أقاليم جديدة إلى مملكة بولندة الناشئة، حسبما يتراءى له، وكان الغرض من التمسك بهذا الحق أن تتاح له الفرصة لضم قسم على الأقل من إقليم «ليتوانيا» إلا محكمة بولندة، كما كان من المنتظر أن يكون لهذا الإجراء أثر في استمالة أهل المملكة الجديدة، على نحو ما جعل ضم فنلندة القديمة إلى غراندوقية فنلندة من قبل (1811)، ولقد ساعد عدم تحقق هذا الأمل فيما بعد على زيادة التذمر، الذي أدى إلى إشعال ثورة نوفمبر 1830، ولقد حصل كذلك الاتفاق في مؤتمر فيينا على أن تنشأ أنظمة نيابية، وحكومات وطنية في الأراضي البولندية التي أعطيت إلى كل من النمسا وروسيا، وإلى جانب ذلك أعطيت الضمانات لحرية الملاحة والتجارة والمواصلات على الحدود، في كل أراضي الجمهورية السابقة ضمن الحدود القائمة في سنة 1772.
وواضح من هذه الترتيبات التي ذكرناها أنه كان هناك نية صحيحة لإيجاد حل جديد للمسألة البولندية، ولكن الخطأ الأساسي؛ خطأ تقسيم الأراضي البولندية والأمة البولندية، ظل باقيا، فأضعف مملكة بولندة الجديدة نقص مساحتها؛ بحيث صارت لا تقوى على الاحتفاظ باستقلالها «الدستوري» في نظام يضمها بصورة من الصور إلى الإمبراطورية الروسية الأوتقراطية الكبيرة. (7-1) دستور 1815
أما إسكندر فقد زار وارسو في نوفمبر 1815، وكانت هذه أول زيارة رسمية قام بها عاهل روسي للعاصمة البولندية، وكانت مهمة القيصر استصدار دستور لبولندة. واختار القيصر من بين مشروعات الدستور التي قدمت إليه واحدا أعده الأمير البولندي «آدام تزار توريسكي»، وأدخل القيصر بنفسه عدة تعديلات كبيرة على مسودة هذا الدستور لتضييق استقلال المملكة، واقترح عددا من هذه التعديلات كذلك والتي أخذ بها القيصر؛ النبيل الروسي المعروف الكونت «نيقولا نوفوسيلتزوف» - وقد ذكرنا أنه كان من المقربين إلى القيصر - وكان هذا النبيل كذلك من أصدقاء البرنس «آدام تزار توريسكي» ثم لم يلبث أن صار من ألد أعداء بولندة والبولنديين قاطبة. وقد اعتمد القيصر إسكندر الأول وثيقة «الدستور» البولندي في 27 نوفمبر 1815.
ويتألف هذا الدستور من سبعة فصول، ومائة وخمس وستين مادة. نصت على أن يكون تاج المملكة من حق الأسرة القيصرية الروسية، وراثة وعلى الدوام، وبدلا من الاعتراف بالكاثوليكية الدين «القومي» في بولندة وحسبما نص عليه دستور غراندوقية وارسو القديم، وضعت الكاثوليكية على قدم المساواة مع سائر العقائد والمذاهب، بفارق واحد هو أن تلقى الكاثوليكية حماية الحكومة الخاصة، وأما الملك فقد أعلن أن شخصه لا يمس، وأنه المسيطر على شئون الحكم، وأنه صاحب الحق في اعتماد أو إلغاء ما يشاء من القرارات التي تصدر عن «الدياط» أو «البرلمان»، كما أن له الحق في دعوة الدياط إلى الاجتماع أو إعلان فضه وحله أو تأجيله، على أن يقوم بتمثيل الملك أو صاحب السيادة في المملكة في هذه الحكومة نائب ملك
Viceroy
يعمل بالاتفاق مع «مجلس الدولة».
أما «الدياط» فيتألف من مجلسين، يدعى للانعقاد كل سنتين مرة في دورة تستمر ثلاثين يوما، ويمثل السلطة التشريعية أحد المجلسين؛ مجلس للشيوخ
Senate
لا يزيد عدده على نصف عدد أعضاء المجلس الآخر وهو مجلس النواب، ويعين الملك أعضاء مجلس الشيوخ لمدى الحياة، ويتألف مجلس النواب من (77) من النبلاء، (51) من النواب، يجرى انتخابهم لمدة ست سنوات، بطريق الانتخاب المباشر، وكان حق الانتخاب مقيدا بقيود من شأنها تخويل هذا الحق فئات معينة، هم أولا؛ ملاك الأرض النبلاء المقيدون بهذا الوصف في المراكز الإقليمية، ولهؤلاء حق التصويت لانتخاب الأعضاء النبلاء الذين سبقت الإشارة إليهم (وعددهم سبعة وسبعون)، وأما النواب الآخرون (وعددهم 51) فكان ناخبوهم - أي الذين لهم حق انتخابهم - هم أولا؛ ملاك الأراضي الذين يدفعون ضرائب، وثانيا؛ الصناع والتجار ممن يملكون عقارا يدفعون عنه ضريبة معينة، وثالثا؛ القساوسة في الإبرشيات، والمدرسون، والفنانون، وأهل المهن الحرة ومن إليهم. ونص الدستور على أن تكون جلسات «الدياط» علنية في كلا مجلسيه، وأن يكون التصويت علنيا كذلك، وأن يكفي لإجازة قرارات الدياط موافقة أكثرية عادية، وأن تقوم بمراجعة أعمال الحكومة لجان ثلاث بالدياط للمراجعة، واحدة مختصة بالقانون المدني والجنائي، وأخرى بالقانون الإداري والدستوري، والثالثة للمالية.
وكانت السلطة التنفيذية من اختصاص «مجلس إداري» يتألف من وزراء المالية والحرب والتعليم والعبادة العامة، والعدل، والشئون الداخلية والبوليس، ويرأس هذا المجلس، كما يرأس مجلس الدولة؛ نائب الملك، وأما توجيه السياسة الخارجية فقد جعل من نصيب وزير الخارجية الروسية في بطرسبرج، وأنشئت في الوقت نفسه إدارة دبلوماسية دائمة في وارسو للاتصال رأسا وبطريق المراسلة بالسفارات الروسية في الخارج، وتعين لمملكة بولندة وزير يقيم إلى جانب «الملك» في بطرسبرج، يكون حلقة الاتصال بين حكومة بولندة والتاج، وصار شعار المملكة نسر أبيض على صدر النسر الروسي الأسود ذي الرأسين (وكان شعار غراندوقية وارسو مجرد النسر الأبيض)، واحتفظ الجيش البولندي (والذي صار عدده حوالي ثلاثين ألف مقاتل) بشعاره الوطني وبملابسه الوطنية. وكان للمواطنين أهل المملكة الجديدة وحدهم حق الالتحاق بالوظائف المدنية والعسكرية، كما جعلت اللغة البولندية اللغة المستخدمة وحدها في شئون الإدارة، والقضاء، والجيش، وضمن الدستور حريات الفرد، والعقائد، والصحافة، ولقد امتنع على اليهود ممارسة أية وظائف مدنية، وحرموا من الالتحاق بالوظائف العامة، ومن الانتخاب.
وهكذا جاء الدستور البولندي لسنة 1815، في بعض نواحيه، أكثر دساتير أوروبا تقدما، وأعظمها اتساما بالطابع الحر، ويرى كثيرون أن المبادئ التي قام عليها نظام الانتخاب وقوانين هذا النظام كانت تفوق كثيرا تلك التي قام عليها نظام الانتخاب في إنجلترة ذاتها، قبل الإصلاح النيابي المشهور، بل إن نظام الانتخاب البولندي، بمقتضى هذا الدستور، كان يفوق في صيغته «الحرة» العهد أو الميثاق
Charte
المعروف الذي نالته فرنسا في سنة 1814، وهو «العهد» الذي اشترط لممارسة حق الانتخاب دفع فئات أعلى من الضرائب (أو امتلاك عقار ذي قيمة أعلى)، وتطلب سنا أعلى لمن يمارسون حق الانتخاب والنيابة. فقد بلغ عدد الناخبين في فرنسا في عهد الملكية الراجعة أقل من عدد الناخبين في بولندة حوالي سنة 1820، في حين أن عدد سكان بولندة - باستثناء اليهود - كان لا يزيد كثيرا عن عشر سكان فرنسا، ولما كان دستور 1815 قد جعل البولندية لغة التخاطب، ومن حق المواطنين البولنديين وحدهم ممارسة الحقوق المدنية العامة؛ فقد ترتب على ذلك إتاحة الفرصة لبقاء «القومية» البولندية.
على أنه من ناحية أخرى، كانت قد أدخلت عمدا على وثيقة الدستور في صيغتها الأخيرة، نصوص وعبارات مبهمة وغامضة، جعلت ممكنا الافتئات على الحقوق التي جاءت في هذا الدستور والاعتداء عليها. من ذلك أنه بدلا من النص صراحة على عدم السجن أو الحبس مدة طويلة دون محاكمة، صيغ هذا المبدأ العام بصورة جعلت السجن أو الحبس الطويل غير القانوني دون محاكمة، من حق الملك ونائبه. من ذلك أيضا أن إعداد «الميزانية الأولى» جعل من حق الملك، دون توضيح ما إذا كان المقصود بذلك ميزانية السنة الأولى فقط - أي التالية لإنشاء المملكة واستصدار الدستور - أم ميزانية السنوات التالية، ولقد ترتب على ذلك أنه لم يقدم لتصديق «الدياط» طوال السنوات الخمس عشرة التي عاشتها «مملكة بولندة» أية ميزانية إطلاقا، ومع أن الدستور نص على انعقاد الدياط كل سنتين مرة، فقد أعطى الدستور للملك حق تأجيل انعقاد هذه المجالس، وعلى ذلك لم يجتمع خلال هذه الخمسة عشر عاما سوى أربع «دياطات» فقط، في حين كان المنتظر اجتماع سبعة. (7-2) الحكومة الجديدة
أضف إلى هذا كله أن «الملك» - إسكندر الأول - لم يكن موفقا في اختيار عدد كبير من الذين شغلوا المناصب الهامة؛ من ذلك اختيار الفراندوق قنسطنطين، قائدا أعلى للجيش البولندي، وهو الذي أثار وجوده الحزازات، وأساء إلى العلاقات بين بولندة وروسيا؛ بسبب صرامة طباعه وميله للطغيان بالرغم من إقامته الطويلة في بولندة، وزواجه من أميرة بولندية، وكان نائب الملك، وهو الجنرال زايونيش
Zayonch
رجلا ضعيف الخلق، خضع خضوعا مهينا للفراندوق قنسطنطين، مع أنه كان معروفا بالشجاعة، كما كان محاربا قديما، وأحد الضباط الذين خدموا تحت قيادة نابليون، وذلك كله في حين استبعد «تزار تورسكي» من الحكومة كلية، وهو الذي كان يرشحه الرأي العام لمنصب نائب الملك، وكان سبب استبعاده غضب القيصر إسكندر عليه. كما أغدقت العطايا على «نيقولا نوفوسيلتزوف»، ونال مقعدا في «المجلس الإداري»، وأعطي سلطات واسعة، وهو الرجل كان بمثابة «الروح الشريرة» في المملكة الجديدة. ولقد تدخل «نوفوسيلتزوف» في كل شئون «الدولة» وصار يبعث بالتقارير السرية أسبوعيا من بطرسبرج إلى القيصر إسكندر الأول، ثم من بعده إلى القيصر نيقولا الأول، وكانت هذه تقارير عليها شعور الحقد والكراهية لكل ما هو بولندي، والعداء لكل شعور بالقومية البولندية، ولكل رغبة في التقدم والحرية، وكان تدخل «نوفوسيلتزوف» ونشاطه مبعث كل المصائب التي حلت بالبلاد في هذه الفترة، ووقعت على رءوس آخر رجالها وأبنائها، حتى أصبح اسم «نوفوسيلتزوف» في نظر البولنديين علما على طغيان البيروقراطية الروسية، وظلمها.
وفي المملكة الجديدة، صار رئيس أساقفة وارسو رئيسا لكنيسة
مملكة بولندة، حيث نال هذا اللقب بفضل الاتفاقية «كونكردات»، التي وقعها إسكندر الأول مع البابا بيوس السابع (في روما في 28 يناير 1818)، والأوامر البابوية (بتاريخ مارس ويونيو من السنة نفسها). على أن الحكومة الروسية بعد وفاة الرئيس فورونيتش
Voronicz
في سنة 1829، رفضت الاعتراف بلقب رياسة الكنيسة لرؤساء الأساقفة بعد ذلك.
وعنى البولنديون بشئون التعليم عناية فائقة، فتأسست في وارسو جامعة في سنة 1816 لم تلبث أن صارت تضم إليها كليات لعلم اللاهوت، والقانون والطب والفلسفة، والعلوم والآداب، ولما كانت مكتبة «زالوسكي» قد نقلت إلى سان بطرسبرج، (منذ 1795) فقد أنشئت مكتبة جديدة. ثم تأسست مدارس عالية لدراسة الفنون العسكرية، وشئون الغابات والفنون التطبيقية في وارسو، ومدرسة للتعدين في كليلسي
Kielce
ومدرسة للحربية في كاليشي
Kalisz ، ومدرسة للمعلمين في لوفيتشي
Lovicz . كما أنشئت مدرسة إكليريكية، وأخرى لرجال الدين اليهود، وأما التعليم الثانوي فقد بلغ عدد مدارسه (26)، وبلغ عدد المدارس الابتدائية والأولية (900) تقريبا، وعنيت الحكومة كذلك بشئون الصناعة، خصوصا صناعة الغزل والنسج والتعدين، وبذلت الجهود لتحسين مدينة وارسو، وتوسيعها، وأقيمت بها المباني الجديدة، وأصلحت الطرق وعبدت أخرى جديدة، ونشطت الملاحة النهرية في أنهار الفيستولا وبيليشيا
، ونيدا
Nida ، وغيرها، ونظمت خدمة البريد، وأعانت الحكومة المسرح القومي، وأنشئت أكاديمية للموسيقى، ولقد صدر في سنة 1817 قرار يجعل سهلا الحصول على ألقاب النبل والشرف، وكان غرض الحكومة من التقريب بين الطبقات في المجتمع، وإزالة الشعور تدريجيا بأن النبلاء يؤلفون طبقة قائمة بذاتها ومنفصلة عن سائر الطبقات في المجتمع البولندي، وعنيت الحكومة بتنظيم مالية البلاد، وكانت بولندة تشكو عجزا في ميزانيتها بسبب الإنفاق على الجيش، وقامت روسيا في العامين الأولين (1815-1817) بسداد هذه النفقات من خزانتها، ولكن لم تلبث أن صارت «مالية» البلاد - أي بولندة - هي التي تتحمل هذه النفقات بعد ذلك، فبلغ العجز في ميزانيتها في سنة 1819 حوالي تسعة عشر مليونا من الفلورينات (والفلورين
Florin
البولندي أو الجلدين
Gulden
كان يساوي وقتذاك حوالي سبعة قروش)، وخشي البولنديون أن يتخذ «نوفوسيلتزوف» من هذا العجز ذريعة لإقناع القيصر إسكندر بضرورة إلغاء دستور الحكم الذاتي بدعوى أن «المملكة» قد عجزت عن سداد نفقات حكومتها الداخلية، وذلك على أمل أن يشمل الدستور الذي كان يعد وقتئذ للإمبراطورية بأسرها، بولندة.
وفي 27 مارس 1818؛ افتتح القيصر إسكندر الأول، في حفل رسمي كبير، مجلس «الدياط» وألقى خطابا بالفرنسية ضمنه وعودا كثيرة. فقال إسكندر: إن البولنديين قد هيأوا له الفرصة ليكشف لبلاده «روسيا» عن الفرص الذي دأب يعمل في سبيله من مدة طويلة، والذي سوف يتحقق بالنسبة لبلاده، بمجرد أن يتم الاستعداد له. ثم امتدح البولنديين الذين أقاموا الدليل على أنهم جديرون بما نالوه من حقوق، وقال: إن جهودهم وحدها هي التي سوف تجعله يقرر ما إذا كان - وحسبما تعهد به - في مقدوره أن يزيد الحقوق والحريات التي منحها لهم، ولقد كان لهذه الأموال صدى كبيرا ليس في بولندة وحدها، أو روسيا فحسب؛ بل وفي كل أوروبا، وفهم الناس من هذه الأقوال أن القيصر يريد منح روسيا نفسها دستورا، وأنه يريد أن يضم ليتوانيا إلى المملكة، وفي رأي كثيرين تعتبر هذه الخطبة - خطبة العرش - التي ألقيت في مارس 1818 نهاية ما وصلت إليه آراء القيصر الحرة وبداية المرحلة التي انحدرت فيها آراؤه في طريق الرجعية.
ولقد كان إذن تحت تأثير هذه الأقوال المشجعة أن اتخذ «الدياط» عدة قرارات، على جانب كبير من الأهمية بشأن تعيين حدود (أو مساحة) الأراضي المملوكة للأفراد وتثبيت هذه الحدود، واستصدار قانون خاص برهن العقارات، وإعداد قانون للجنايات، وأبدى «الدياط» إلى جانب ذلك، حكمة واعتدالا في علاقاته مع «الحكومة» ومع الفراندوق قنسطنطين الذي أرغم وزير الحربية (في سنة 1816) على الاستقالة، واضطره بسبب صراحته العسكرية، كثيرون من الضباط البولنديين إلى الانتحار، وأراد «الدياط» أن يقيم الدليل بفضل نشاطه التشريعي ومسلكه المتسم بالرزانة والاعتدال، على أنه يثق في الحكومة، وقبل كل شيء يثق في وعود القيصر التي تضمنها خطاب العرش، ولقد زاد من «ثقة» البولنديين في وعود القيصر، أن إسكندر عندما أعلن فض الدياط في 27 أبريل 1818، ألقى خطابا شكر فيه أعضاء المجلس على نشاطهم ومسلكهم، ووعد بعودته السريعة إلى وارسو، وتعهد بتمسكه بنواياه التي أعلن عنها سابقا والتي يعرفها أعضاء المجلس، وقال: إنه مصمم على تنفيذها، وبالفعل كانت قد اتخذت في سنة 1817، ثم لم تلبث أن اتخذت في سنة 1819 كذلك إجراءات تدل على الرغبة في تحقيق هذه النوايا، وذلك عندما صدرت الأوامر في هاتين السنتين (1817-1819) تجعل السلطات العسكرية التي يتمتع بها الفراندوق قنسطنطين، بوصفه قائد الجيش البولندي الأعلى، تشمل كذلك خمس مقاطعات من ليتوانيا. (7-3) عودة الرجعية
ومع ذلك فقد أخذت تظهر، بالرغم من كل هذه الوعود، دلائل معينة تشير إلى أن عهدا من الرجعية قد بدأ في الوقت نفسه في بولندة. من ذلك أن نائب الملك أصدر قرارا في مايو 1819 فرض الرقابة على الصحف والمجلات، فلم تلبث هذه أن شملت الكتب في كل أنحاء المملكة (يوليو من العام نفسه)، وكان في ذلك افتئات جسيم على الدستور. وفي ديسمبر 1819؛ وضعت القيود على الحرية الشخصية، بصورة يسرت السبيل لتطبيق الأوتقراطية المتطرفة في كل فروع الحكم والإدارة وإلغاء حريات الأفراد، حسبما عليه إرادة «قنسطنطين» من جهة، ونزوات «نوفوسيلتزوف» من جهة أخرى، ودون حساب لكل الضمانات التي اشتمل عليها الدستور لتأمين حقوق الأفراد وحرياتهم.
وعندما اجتمع مجلس «الدياط» الثاني في خريف 1820، كان القيصر قد تخلى عن «مبادئه الحرة الديمقراطية»؛ بسبب الأحداث التي وقعت في أوروبا آنئذ، بل وفي روسيا كذلك. فجاء خطاب العرش الذي ألقاه (بالدياط) في 13 سبتمبر مليئا بالتحذير من تلك «الروح الخبيثة» التي قال القيصر:
إنها صارت تجتاح أوروبا، ومع ذلك فقد حرص إسكندر على إظهار تمسكه بوعوده السابقة، كما أنه بالرغم من تغلب الرجعية على تفكيره ونشاطه، كان لا يزال يحاول سرا وهو في وارسو إعداد المشروعات الخاصة باتحاد ليتوانيا مع بولندة، وإنشاء دستور لروسيا، ولو أنه لم يكن يعتقد كثيرا أن في الإمكان تنفيذ هذه المشروعات.
ولم يكن مسلك «الدياط» هذه المرة، مما يجلب رضاء القيصر عليه، فرفض الدياط بعض مشروعات القوانين الهامة التي تقدمت بها الحكومة، وكثرت العرائض التي شكا فيها أصحابها من إجراءات الحكومة غير الدستورية، وشن فينسنت نيمويفسكي
Vincent Niemojevski
زعيم المعارضة في المجلس هجوما عنيفا على أعمالها، ولكن الدياط استطاع بالرغم من ذلك أن يسلك على وجه العموم طريقة الاعتدال عند نقده للحكومة، ولم يتعرض لشخص الملك بشيء. وتجاهل القيصر هذا «الاعتدال»، فعمد في خطابه الذي أنهى به أعمال الدياط في هذه الدورة (13 أكتوبر 1820) إلى توجيه اللوم الشديد للمجلس، والإشارة إلى أنه قد يجد نفسه مضطرا إلى إلغاء وعوده السابقة، وحمل القيصر أعضاء الدياط مسئولية «تعطيل تقدم بلادهم».
وخلال السنوات الخمس التالية، لم يدع الدياط للانعقاد مرة واحدة، وعانى البولنديون متاعب كثيرة، عندما شدد «نوفوسيلتزوف» الرقابة على الصحف، وخضع التعليم لتيار الرجعية السياسية بتأثيره وتحت نفوذه، ولقد ساعد على ذلك وجود وزير للتربية والتعليم ولشئون الدين والعبادة هو «ستانسيلاوس بوتوكي»، معروف بآرائه الحرة ووطنيته الكبيرة، لم يلبث أن نفر من الحكومة طائفة القساوسة الكاثوليك عندما أغلق عددا من الأديرة للرهبان (45)، والراهبات (3)، وإحدى عشرة مدرسة إكليريكية. (ولقد تبقى بعد ذلك حوالي مائتي دير وألفي راهب)، وعلى ذلك؛ فقد تقدم الأساقفة وعلى رأسهم «فورونيتش» بعرائضهم إلى القيصر يشكون «بوتوكي» الذي كان موضع بغضهم لأسباب عدة منها؛ أنه كان كذلك رئيس الحفل الأعظم الشرقي للبنائيين الأحرار (للماسونية) في مارسو. ومما تجدر ملاحظته أن كنيسة روما في هذا الحين كانت تقف ضد الجمعيات السرية، وعلى الخصوص جمعيات «الكاربوناري» التي أصدر البابا ضدها قرار الحرمان (في سبتمبر 1821)، واستجاب إسكندر لرغبات الأساقفة فاعتمد قانونا جديدا للتعليم والعبادة (أغسطس 1821)، وطرد «بوتوكي» من منصبه، ولكن تولى وزارة التعليم وشئون الدين، رجل سرعان ما صار أداة في يد «نوفوسيلتزوف» فسادت الرجعية هذه الوزارة. (7-4) الجمعيات السرية
وعمدت الحكومة إلى مطاردة الجمعيات السرية وإلغائها، وكانت بعض هذه الجمعيات قد تأسست قبل إنشاء مملكة بولندة ذاتها، فكان عدد منها موجودا في سنة 1814، وترجع أصول هذه الجمعيات السرية إلى وقت تأسيس الماسونية البولندية معتمدة على الحفل الماسوني الأعظم في برلين، وهي التي أعيد تنظيمها أثناء قيام «غراندوقية وارسو»، فأنشئ محفل بولندي أعظم، مرتبط بالمحفل الأعظم الماسوني بباريس. ولقد امتد نشاط الحركة الماسونية في سنة 1814 إلى المقاطعات الغربية في روسيا بفضل جهود بلاتر «لدويج بلاتر»، ونشأت الصلات بين المحفل البولندي ومحفل بطرسبرج الأعظم.
وشجع القيصر إسكندر وأخوه قنسطنطين (والأخير كان من الماسون البنائين الأحرار) تكوين الجمعيات الوطنية السرية، عندما كان متوقعا في سنة 1814 أن تقوم بسبب المسألة البولندية الحرب بين روسيا من جانب، والنمسا وإنجلترة وفرنسا من جانب آخر، وذلك على أمل استخدام البولنديين الوطنيين في جانب روسيا. وعقد القيصر آماله على إمكان تأسيس «مملكة بولندة» بهذه الوسيلة، فتألفت في هذه الظروف إذن في سنة 1814 جمعية البولنديين الأصليين
Trve Poles . ثم لم تلبث أن تألفت بعد ذلك جمعية سرية للماسونيين الوطنيين أو القوميين
National ، وذلك من بين الماسون البولنديين، وكان مؤسس هذه الجمعية الرئيسي والأستاذ الأعظم: فاليتز لوكاسنسكي
Valez Lukasinsri
أحد الضباط البولنديين، وأيدت هذه الجمعية مبدأ الملكية، وأقامت تمثالا نصفيا للقيصر إسكندر في قاعات محافلها. ثم إنه عندما امتد نشاط الجمعية بعد ذلك إلى غراندوقية «بوزن»، أزيل تمثال الملك البروسي في فردريك وليم الثالث، ووضع مكانه تمثال القيصر إسكندر في كل المحافل الماسونية في بوزن. وفي سنة 1819 وضع «لوكاسنسكي» قانون الجمعية. وفي بداية العام التالي (1820) تحولت الجمعية مرة ثانية من جمعية ماسونية إلى منظمة من طراز «الكاربوناري»، وفصم «لوكاسنسكي» في الوقت نفسه كل علاقة مباشرة مع «بوزن» الإقليم الذي احتفظت به بروسيا، وكان قطع هذه العلاقات بناء على رغبة القيصر إسكندر، ولكن تعذر وقف هذه الحركة، فحدث في أبريل 1821، أن حضر إلى وارسو أحد البنائين الأحرار في «بوزن»، الجنرال أومنسكي
Vminski
وبفضل مساعيه وتحت ضغط الرأي في المحافل المحلية، أمكن تأسيس جمعية سرية جديدة ذات تنظيم قوي، وذلك في مكان بالقرب من وارسو في بيلاني
Bielany
في أول مايو 1821، وكانت هذه الجمعية ذات كيان مستقل عن سائر الجمعيات، وتعمل من أجل تحقيق استقلال بولندة، معتمدة في بلوغ مآربها على سواعد الشعب البولندي نفسه، وتسمت باسم الجمعية الوطنية
، وتمارس السلطة في هذه الجمعية لجنة مركزية برياسة «لوكاسنسكي». ثم وزع أعضاؤها أنفسهم في سبع مقاطعات؛ مملكة بولندة، ليتوانيا، فولهينيا
Volhynia ، بوزن، غاليسيا، كراكاو، ثم المقاطعة السابعة وتتألف من الجيش البولندي. وفي سنة 1822 بلغ عدد أعضاء «الجمعية الوطنية» حوالي خمسة آلاف ولو أن هناك من يرون أنه عدد مبالغ فيه كثيرا.
ولم يمض وقت طويل، حتى فطنت الحكومة لحقيقة نشاط هذه الجمعية، وذلك في أبريل 1822، عن طريق التحذيرات التي جاءتها من البوليس في برلين، ثم بسبب خيانة أحد أعضائها، الضابط كارسكي
Karski ، وكان هذا الأخير قد أوفد إلى باريس للوصول إلى تفاهم مع الجمعيات العسكرية الفرنسية، ومع «لفاييت» خصوصا. فأبلغ «كارسكي» كل ما لديه من معلومات إلى السفير الروسي في باريس بوزو دي بورجو
، وكان من ألد أعداء البولنديين، فألقي القبض على «لوكاسنسكي» ورفاقه، وأودع هؤلاء السجون، ثم قدموا للتحقيق بعد أكثر من عامين، في يوليو 1822، أمام «لجنة تحقيق» خاصة، ثم سيقوا للمحاكمة أمام محكمة عسكرية في يناير 1824، وحكمت هذه عليهم بالأشغال الشاقة (في أغسطس)، وخفض إسكندر الحكم بالنسبة لرئيس المنظمة «لوكاسنسكي» لمدة سبع سنوات فقط، ومع ذلك فقد أودع هذا الأخير، عند قيام ثورة نوفمبر 1830، بإحدى زنزانات قلعة شلوسلبرج
Schlüsselrerg
في روسيا، إلى الشرق من بطرسبرج، حيث بقي بها مدة أربعين عاما تقريبا، إلى وقت وفاته سنة 1868، ولم يذع «لوكاسنسكي» شيئا من أسرار الجمعية حتى مماته.
وكان بفضل صمت «لوكاسنسكي» أن استطاعت «الجمعية الوطنية» متابعة نشاطها سرا، برياسة أحد قادة الحرس البولندي كرتزيتزانوفسكي
Krzyzanovski ، وصار لهذه الجمعية فروع عديدة في فيلنا، وكولاند، وفي المقاطعات الجنوبية الغربية، خصوصا في فولهينيا، ومن هذه الأخيرة وصلت الأخبار عن وجودها إلى «الجمعية الروسية الجنوبية» التي عرفنا من زعمائها؛ «مورفييف أبوستول» و«بزتوزيف»، وقد اقترح هذان في سنة 1823 الوصول إلى تفاهم وتعاون مع «الجمعية الوطنية». فانعقدت المؤتمرات السرية لهذه الغاية في غضون سنتي 1824، 1825 بينهما وبين «كرتزيتزانوفسكي»، وكان الأخير متحذرا في مفاوضاته، حتى إنه لم يشأ إعطاء أية تفصيلات عن الجمعيات البولندية عندما طلب منه الإدلاء بمعلوماته عن هذه الجمعيات على أساس اشتراك الفريقين؛ الروس والبولنديين في مؤامرة واحدة؛ فرفض إفشاء سر هذه الجمعيات بدعوى أنه لم يكن مفوضا بفعل ذلك، ولأنه لا يهتم هو من ناحيته بمعرفة تفاصيل عن الجمعيات الروسية. وعندما سأله «أبوستول» و«بزتوزيف» عن نوع الحكومة التي تريدها «الجمعية الوطنية» البولندية وأشار بوجوب تفضيل الجمهورية، أجاب «كرتزيترانوفسكي»: أن صالح بلاده يقتضي في اعتقاده قيام الحكومة الملكية، وأشعره المندوبان الروسيان أن في عزم المتآمرين الروس إذا دعت الضرورة، القضاء على البيت الروسي المالك، وطلبا من المفاوض البولندي أن يعمل البولنديون من جانبهم كذلك للخلاص من «قنسطنطين»، فكان جواب «كرتزتيزانوفسكي»: «أن البولنديين لم يسبق قط أن تلطخت أيديهم بدماء ملوكهم.» ثم إنه رفض أخيرا أن يوقع على اتفاق مكتوب. (7-5) نهاية عهد
وكان في هذه الظروف الدقيقة، التي بدأت تتجمع فيها النذر، بأن عاصفة هوجاء سوف تهب في سماء المملكة «بولندة»؛ كان في هذه الظروف أن تعين الوزارة المالية؛ البرنس لوبيكي
Lubecki (1821) وكان ذا مقدرة، اتخذ طائفة من الإجراءات التي ترتب عليها زيادة إيرادات الدولة واستطاع التخلص من العجز المزمن في الميزانية، فلم يمض عامان حتى كانت قد استقامت الأمور، وانتعشت اقتصاديات المملكة (وماليتها)، ولكن «لوبيكي» حتى يظفر بهذه النتيجة، لم يتردد في استخدام وسائل كانت تتسم بالعنف والصرامة، ولا يمكن أن يوصف أكثرها بالنزاهة، الأمر الذي نفر منه القلوب، وجعله موضع حملة عنيفة شنتها عليه «المعارضة» في مجلس الدياط، ومع ذلك فالمعترف به أن «لوبيكي» قد أدى خدمات جليلة لوطنه، بفضل نجاح إدارته وسياسته المالية من جهة، ولأنه كان في وسعه بسبب هذا النجاح نفسه أن يقاوم بعناد، طغيان «نوفوسيلتزوف» في «المجلس الإداري»، بل ويقف في وجه القيصر نفسه من أجل الدفاع عن صالح وطنه.
أما آخر زيارات القيصر إسكندر لوارسو، فكانت في ربيع 1825 عندما حضر لافتتاح جلسات الدياط الثالث، وكان عند صدور الدعوة لانعقاد هذا الدياط، أن صدر في 13 فبراير 1825 قانون إضافي، جعل جلسات الدياط سرية باستثناء جلستي الافتتاح والاختتام العامتين، وكان معنى هذا القرار بدرجة كبيرة، إلغاء «الدستور» نفسه، ولقد اتخذت إجراءات أخرى «قمعية» لمنع تكرار ما حدث من معارضة في الدياط الأخير ضد الحكومة، فمنع «نيمويفسكي» زعيم المعارضة السابق من المجيء إلى مارسو، وألغيت الانتخابات في «كاليس»، حيث كان قد أعيد انتخابه نائبا عنها في «الدياط»، وأحيط مقر الدياط - ويشغل قسما من القصر الملكي في وارسو - بالجنود واكتظ المكان بالموظفين الروس وبالجواسيس.
وافتتح القيصر إسكندر جلسات المجلس (في 13 مايو 1825)، فألقى خطابا جافا، تجنب فيه الكلام في المسائل الهامة، فلم يشر إلا عرضا (للقانون الإضافي)، في حين تحدث عن التقدم المادي الذي بلغته البلاد، والتحسن الذي حصل في اقتصادياتها، وتكلم عن واجب أعضاء المجلس أن يضعوا الثقة الكاملة في الحكومة، وأوصى بقبول كل المشروعات التي تتقدم بها هذه إلى المجلس دون أي تحفظ. وعمل الدياط بهذه «الوصايا»، فلم يشأ الشكاية من «القانون الإضافي» أو من أعمال الحكومة أو الاحتجاج عليها، وكان الدياط قد أعد خطابا خاصا موجها للعرش يطلب فيه إلغاء القانون الإضافي. ثم وافق «الدياط» على كل مشروعات الحكومة، دون استثناء ما، وكان من بين هذه المشروعات؛ تنظيم «بنك للأراضي» كان «لوبيكي» صاحب الفضل في تأسيسه، أمدته الحكومة بمعونة مالية ضخمة من أجل تشجيع الزراعة، ومن ذلك أيضا؛ اعتماد قسم من القانون المدني، وقانون آخر خاص بالملكية العقارية لتنظيم العلاقة بين الملاك والمستأجرين، ثم مواد إضافية مكملة للقانون الجنائي. وهكذا أقام الدياط الدليل على أنه تقديرا منه للمسئوليات الجسيمة الملقاة على عاتقه - وحسبما جاء في خطاب إسكندر نفسه الذي اختتم به دورة سنة 1920 - لم يشأ أن يزود القيصر بأية أعذار أو حجج يستند عليها في إلغاء الوعود التي ارتبط هذا الأخير بها، ولقد كان نجاح الدياط في تحقيق هذا الغرض واضحا، لدرجة أن إسكندر نفسه لم يسعه سوى الاعتراف بذلك، فجاء في خطابه الذي اختتم به هذه الدورة (في 13 يونيو 1825)، ما معناه؛ أن أعضاء هذا المجلس قد حققوا رغائب وطنهم، وبرروا في الوقت نفسه الثقة التي وضعها فيهم القيصر، وأن القيصر يريد لذلك برغبة صادقة أن يتمكن من إقناعهم بأنه سوف يكون لعملهم هذا ومسلكهم أعظم الأثر على مستقبل بلادهم.
ولكن هذه «الوعود» الأخيرة لم تتحقق؛ لأن القيصر غادر وارسو في اليوم التالي (14 يونيو). فلم يشهد بولندة مرة ثانية، فقد وافته منيته - كما عرفنا - في تاجنروج في أول ديسمبر 1825. (7-6) بوادر الثورة
ولقد تقدم كيف اقترن اعتلاء القيصر نيقولا الأول عرش روسيا بالقلاقل والاضطرابات التي أثارتها حركة الديسمبريين، والذي لا شك فيه أنه كان لاعتلاء هذا القيصر العرش، وما صحب اعتلاءه من أحداث؛ أثر عظيم في النهاية على مقدمات بولندة. حقيقة بدأ نيقولا حكمه باستصدار بيان (أو منشور) منفصل إلى مملكة بولندة في 25 ديسمبر 1825 يؤكد فيه للبولنديين أن حكومته إنما هي استمرار لحكومة سلفه إسكندر. فتبقى لهؤلاء أنظمتهم الحكومية، وأقسم نيقولا أغلظ الأيمان أنه سيحفظ الدستور ويقوم على تنفيذه بكل ما أوتي من جهد وقدرة، ولكن كان واضحا بالرغم من هذه الأيمان؛ أن الحكم الجديد سوف يأتي حتما بأخطار جديدة.
فقد ساءت العلاقة في التو والساعة بين القيصر نيقولا والفراندوق قنسطنطين، وتزايد شعور الأخير بجسامة المسئوليات الملقاة على عاتقه بعد أن تخلى عن العرش لأخيه الأصغر نيقولا. زد على ذلك أن القيصر الجديد لم يلبث أن نبذ ظهريا مشروع إسكندر لضم المقاطعات الليتوانية الخمس إلى مملكة بولندة، وشرع يعمل تدريجيا لصبغ الإدارة المدنية في هذه المقاطعات الخمس بالصبغة الروسية، ثم تصبغ الفرق العسكرية الليتوانية خصوصا بهذه الصبغة نفسها، مما أثار المناقشات العنيفة بين قنسطنطين القائد الأعلى للجيش البولندي والقيصر نيقولا.
أضف إلى هذا أن قنسطنطين رفض أن يبدأ تحقيقا مع الجمعيات البولندية السرية، بالرغم من أن الديسمبريين كانوا متصلين بها، وذلك لخوفه من أن يسفر هذا التحقيق عن إدانة بعض أقسام الجيش البولندي، وزيادة العلاقات توترا بين بولندة وروسيا، ومع ذلك فقد أصر القيصر على ضرورة إجراء هذا التحقيق، فألقي القبض على عدد عظيم من الناس، كان من بينهم «كرتزيتزانوفسكي»، وشكلت «لجنة التحقيق» لجمع الأدلة، كشفت النقاب عن نشاط «الجمعية الوطنية» وكل ما يتصل بنظامها، ثم قدمت اللجنة تقريرها في 3 يناير 1827، فأدين ثمانية منهم؛ «كرتزيتزانوفسكي» نفسه. ثم تشكلت محكمة من الدياط، عينت من بين أعضائها «لجنة» أخرى للتحقيق، بدأت جلساتها في 10 أبريل 1828، وعلى خلاف ما حدث في محاكمة الديسمبريين الذين حوكموا محاكمة سرية، ودون أن يعطوا حق الدفاع عن أنفسهم، أجريت المحاكمة الآن بطريقة قانونية، ولقي المتهمون التسهيلات اللازمة لتدبير دفاعهم، وصدر الحكم أخيرا في 10 يونيو من السنة نفسها، وكان يقضي بسجن «كرتزيتزانوفسكي» ثلاث سنوات، بينما وقعت على الآخرين عقوبات خفيفة، في حين برئ ثلاثة منهم، وصدرت هذه الأحكام ضد رغبة القيصر نيقولا الذي كان يريد توقيع عقوبة الإعدام عليهم، ويذهب المؤرخون إلى أن هذه الأحكام المخففة إنما تنهض دليلا على أن أكثرية المجتمع الروسي كانت تعطف على أغراض الجمعيات السرية.
ولقد قدم رئيس المحكمة الكونت بطرس بيلينسكي
Bielinski
تقريرا إلى القيصر (في 30 يونيو 1828)، أعده «تزارتوريسكي»، يتضمن حيثيات الأحكام التي صدرت، باعتبار أن المتهمين قد بنوا دفاعهم قبل كل شيء على أساس أن نشاطهم إنما يلقى مبررا له فيما جاء (بقرار فينا النهائي) خاصا بإنشاء مملكة بولندة ومنها دستورا يكفل لها حكومة ذاتية - بالشكل الذي يراه القيصر - على أن يربط هذه المملكة بروسيا دائما، وإن لم تندمج بها. كما يستند هذا النشاط فيما يتعلق بتوسيع حدود المملكة، على وعود القيصر إسكندر الخاصة بضم مقاطعات من ليتوانيا إليها، وهي الوعود التي تأكدت بفضل القوانين التي أدخلت الأنظمة البولندية في الإدارة المدنية والعسكرية في قسم كبير من ليتوانيا، وعندئذ أمر القيصر نيقولا (في 29 أغسطس 1828) المجلس الإداري ومجلس الدولة أن يعيدا النظر في هذه الأحكام؛ لتقرير ما إذا كان لا يبدو من جانب «محكمة الدياط» التي أصدرتها: «أنها تميل لغض الطرف عن النوايا الإجرامية.» وعندئذ تصدى «لوبيكي» للدفاع عن المتهمين، وعن المحكمة، وعن البلاد بأسرها، وكان بفضل نفوذه أن أيد المجلس الإداري ومجلس الدولة جوهر القرار الذي أصدرته المحكمة، واضطر نيقولا في آخر الأمر إلى اعتماد هذه الأحكام التي لم تلبث أن نفذت (26 مارس 1829).
وكان هذا الحادث بمثابة المقدمة التي مهدت لاشتعال ثورة نوفمبر 1830، من حيث إنها قد أظهرت عاريا، ذلك العداء الذي كان مستحكما بين القيصر نيقولا والأمة البولندية.
ولقد كان للحرب التي خاض غمارها القيصر مع الأتراك (1828-1829)، أكبر الأثر في جعل نيقولا الأول يتخلى عن موقفه. فقد كانت الحرب في مراحلها الأولى لا تسير في صالح روسيا، وكان هناك خوف من تدخل النمسا وإنجلترة ضد روسيا، وأراد القيصر استخدام الجيش البولندي، ولكن قنسطنطين عارض بنجاح في ذلك، وأراد القيصر إزالة الأثر السيئ الذي خلفه موقفه في نفوس البولنديين، فأهدى الجيش البولندي بعض قطع المدفعية التي أخذها من الأتراك، بعد سقوط «فارنا»، وذلك لوضعها في ترسانة وارسو، وإحياء لذكرى «لادسلاوس الثالث» جد ملوك بولندة القدماء (من أسرة جاجللون)، الذي سقط منذ أربعمائة سنة مضت (1444) في الحرب ضد الأتراك، في واقعة «فارنا». كما أمر القيصر بإقامة معبد في مارسو على نفقته الخاصة، يحوي رفات «وقلب» البطل البولنديجون سوبيسكي
Sobieski
الذي انتصر على الأتراك، وأنقذ فينا من خطرهم سنة 1683، واعتبر لذلك منقذا للمسيحية. ثم إن القيصر بعث بعد صلح أدريانويل مع الأتراك (1829) بالأعلام التي غنمها منهم في الحرب؛ لتودع بكتدرائية القديس يوحنا في وارسو، ثم لم يلبث أن قرر تنفيذ الدستور، فحضر إلى وارسو للاحتفال بتتويجه بها (17 مايو 1829)، واصطحب معه ابنه: «القيصر إسكندر الثاني فيما بعد»، الذي كان يتقن اللغة البولندية، والذي كان يرتدي لباسا بولنديا عسكريا، وفي 24 مايو توج القيصر نيقولا ملكا على بولندة، وبقي بالعاصمة البولندية أكثر من شهر، يبذل الجهد لاستمالة الموظفين البولنديين والضباط العسكريين خصوصا، ثم وعد قبل مغادرته وارسو بدعوة «الدياط» للاجتماع قريبا.
وبالفعل افتتح نيقولا مجلس «الدياط» الرابع في 28 مايو 1830، وألقى خطابا وديا طويلا، فأشار إلى تنفيذه المادة الخامسة والأربعين من مواد الدستور، وذلك بالاحتفال بتتويجه في وارسو، واعتذر عن تأخره في دعوة «الدياط» للاجتماع بسبب صعوباته الداخلية، ثم ذكر الحرب الأخيرة مع تركيا، فأشاد بقدرة الجيش البولندي وقيمته كقوة يعتد بها في مواجهة أعداء الإمبراطورية (وكان القيصر يقصد النمسا)، ولكن نيقولا لم يذكر شيئا عن «محكمة الدياط»، كما أنه لم يذكر شيئا عن إضافة أقاليم جديدة وتوسيع رقعة المملكة ، فأشعر سامعيه بصمته هذا؛ أنه لم يعد هناك أي أمل في ضم أجزاء من ليتوانيا إلى مملكة بولندة.
ومع أن «الدياط» اعتمد مبالغ كبيرة لإقامة تمثال للقيصر إسكندر الأول بوصفه باعث مملكة بولندة، فقد وجهت اللجان المختلفة في الدياط النقد الشديد لأعمال الحكومة، سواء الإدارية منها أم الدستورية، وتقدمت للحكومة عرائض كثيرة لإلغاء القانون الإضافي، وللعفو عن «لوكاسنسكي»، ولغير ذلك من المطالب ، وكان واضحا أن موقف «الدياط» ونشاطه لم يصادف قبولا لدى القيصر، الذي لم يلبث أن أظهر عدم رضائه وإن كان ذلك بطريقة غير مباشرة، عندما ألقى خطابه الذي اختتم به الدورة (في 28 يونيو 1830)، فشكر مجلس الشيوخ (السناتو) على المهمة التي أبداها، ولكنه تعمد عدم الإشارة إلى جهود مجلس النواب.
وغادر القيصر وارسو في اليوم التالي (29 يونيو 1830)، وهو لا يزال ملكا دستوريا لبولندة، فلم يعد إليها إلا بعد أن تحطم دستورها على يديه وبوصفه قيصر روسيا الأوتقراطية. (7-7) الثورة (نوفمبر 1830)
ولقد كان بعد انكشاف أمر «الجمعية الوطنية» والتحقيقات التي حصلت، والأحكام التي أصدرتها «محكمة الدياط»، أن تشكلت في التو والساعة جمعية سرية جديدة في وارسو؛ لتدبير مؤامرة عسكرية، وكان أعضاء هذه الجمعية من الشبان المملوئين نشاطا وحماسة، والذين لا يحجمون عن اللجوء إلى وسائل العنف والشدة لتنفيذ خططهم. أما هذه الجمعية الجديدة فقد بدأت تتشكل أولا في سنة 1828 (بمدرسة الإشارة) بزعامة معلم هذه المدرسة بيتزفيسوكي
Vysocki . ثم لم يلبث أن التحق بها بعد ذلك عدد من المدنيين ومن الكتاب والأدباء، والطلاب بجامعة وارسو، وكان في عزم أعضاء هذه الجمعية القيام بالثورة أثناء الحرب الروسية التركية (1828-1829)، باعتبار أن مسئولية روسيا بهذه الحرب يهيئ الفرصة لنجاح الثورة، وأراد فريق من المتحمسين إشعال الثورة أثناء تتويج القيصر في وارسو (مايو 1829)، ثم وضعت خطة للمناداة بالثورة أثناء انعقاد الدياط (مايو 1830)، ولكن لم تكن هناك استعدادات كافية لإشعال الثورة، وافتقر المتآمرون للزعماء القادرين على قيادتها والتنظيمات اللازمة للتكفل بأعبائها، ولم يكن «فيسوكي» وصحبه من أصحاب الكلمة المسموعة في البلاد، بالرغم من اتصافهم بالشجاعة.
ومع ذلك، فقد كان يسود البلاد التذمر، ويستبد بالأهلين شعور خفي بالخوف، وكان هذا التذمر وهذا الخوف هما القوة الدافعة للحركة التي انتهت بالانفجار والثورة بعد شهور قليلة. أما التذمر فسببه أنه قد صار واضحا تماما أنه لم يعد هناك أي أمل في تنفيذ الوعود التي أعطاها القيصر إسكندر بشأن ضم ليتوانيا إلى بولندة، وأما الخوف فكان مبعثه تلك الاعتداءات المتكررة على الدستور، وبخاصة عندما صار هذا الدستور مهددا في كيانه ذاته منذ إصدار «القانون الإضافي» وتشكيل «محكمة الدياط».
وكان من العسير على البلاد بالرغم من هذا التذمر والخوف أن تقرر دون إمهال؛ الاشتباك في نضال يائس، يتوقف على نتيجة استمرار حياتها أو فناؤها. فكان يتزايد عدد المتآمرين للثورة بخطى بطيئة، حتى إذا وقعت الثورة المشهورة في باريس بفرنسا في يوليو 1830، قويت روح المتآمرين البولنديين وساعدت هذه الثورة الفرنسية على شحذ هممهم والتصميم على تنفيذ مؤامراتهم، فبلغ عدد الضباط من حامية وارسو وحدها الذين انضموا للحركة في شهر أكتوبر 1830؛ سبعة وسبعين، ولم يمض وقت طويل حتى بلغ عددهم المائتين. ثم إنه كان لثورة يوليو (في باريس) أثر آخر لا يقل في خطورته عن هذا الذي ذكرناه؛ هو أن القيصر نيقولا الأول لم يلبث أن صمم على غزو فرنسا لإخماد الثورة بها، بمجرد أن بلغته أنباؤها، وكان يعول على اشتراك بروسيا معه في الحرب ضد فرنسا، فنجم من الارتباط الذي حصل بين تشجيع المتآمرين على القيام بثورتهم، وقرار القيصر انتهاج سياسة خارجية عدوانية ضد فرنسا، أن تهيأت الأسباب المباشرة لقيام الثورة في بولندة.
فقد أبلغ القيصر (في 8 أغسطس 1830) الفراندوق قنسطنطين عزمه على استخدام الجيش البولندي، والمالية البولندية في الغزو المنتظر، ثم طلب في اليوم نفسه من وزير المالية البرنس «لوبيكي» إعداد الأموال اللازمة لتعبئة الجيش، وللإنفاق على الحملة المزمعة. فأجاب قنسطنطين في 25 أغسطس، يعلن للقيصر معارضته للحرب، ويفصح عن مخاوفه من نتائجها، ولكن «لوبيكي» الذي انزعج كثيرا لمطلب القيصر، والذي لم يكن بوسعه معارضته، اكتفى بتقديم «تقرير» للقيصر في 3 سبتمبر يبين المبالغ التي لديه لسداد النفقات الأولية.
وفي الوقت نفسه: بعث القيصر بالجنرال «ديبتش» إلى الملك فردريك وليم الثالث، (في برلين، 31 أغسطس)، لاستمالته إلى الدخول في الحرب، والموافقة على خطة الحملة التي وضعها قائد الحرب الروسي شرينشيف
Chernysheff ، وكانت بروسيا تبغي بكل الوسائل تجنب الحرب، لا سيما وأن النمسا وإنجلترة كانتا قد اعترفتا بحكومة لويس فيليب في فرنسا، وكذلك فقد جاء جواب فردريك وليم مبهما، واكتفت بروسيا بحشد قسم من جنودها عند نهر الراين.
وبلغت الثوار البولنديين في وارسو أنباء التعليمات السرية التي بعث بها القيصر إلى كل من «قنسطنطين» و«لوبيكي»، وكان معنى قيام الحرب ذهاب الجيش البولندي إلى الميدان بعيدا عن وارسو، فصمموا على القيام بالثورة، ثم اتصلوا في هذا الشأن بأحد زعماء الفرنسيين الأحرار «لفاييت»، وهو كذلك من المنتمين إلى الجمعيات العسكرية بفرنسا، وأحد الذين ساهموا في ثورة يوليو 1830 في باريس، وكان معروفا بآرائه الجمهورية، وتسلم قيادة «الحرس الوطني»، فشجعهم «لفاييت» على المضي في خطتهم، وعلى ذلك، فقد اتجه المتآمرون إلى الجنرال جوزيف شلوبيكي
Chlopicki
لتولي قيادة الثورة، وكان «شلوبيكي» من القواد القديرين في جيش نابليون، ثم اعتزل الحياة العامة على أثر نزاع بينه وبين «قنسطنطين»، ولكن «شلوبيكي» رفض تزعم الثوار، وعندئذ تردد المتآمرون في أمرهم، ثم آثروا تأجيل الثورة التي كان محددا لها يوم 30 أكتوبر إلى ربيع العام التالي، وكان من أسباب التأجيل أنهم لم يكونوا واثقين من تصميم القيصر على المضي في خطته لتنفيذ نواياه بالوسائل العسكرية.
على أن القيصر لم يلبث أن قرر الاستمرار في خطته، عندما جاءت الأخبار معلنة قيام الثورة في بروكسل (في أغسطس 1830)، وانتشارها في بلجيكا، فأوفد القيصر مرة ثانية إلى برلين الجنرال «ديبتش» في أكتوبر، على أن يعود بمجرد انتهائه من مهمته إلى وارسو؛ حتى يتسلم قيادة الجيش المعد (لحملة فرنسا)، وهي التي حدد القيصر لبدايتها يوم 22 ديسمبر، وتقرر أن تتألف مقدمة قواته من «الجيش البولندي» والفرق الليتوانية، وبلغت هذه الأنباء جميعها المتآمرين في وارسو، وجعلتهم يقررون التعجيل بالثورة، فأدى قيامها إلى خطط القيصر ومشروعاته، فأنقذت فرنسا من الغزو الروسي، وأنقذت بروسيا من ورطة كانت لا تجد لها مخرجا منها، ذلك أن المتآمرين سرعان ما قرروا في اجتماع عقدوه في نوفمبر بمنزل أحد الأساتذة المحبوبين المؤرخ جواكيم ليليفيل
Joachim Lelevel
بوارسو، أن تبدأ الثورة يوم 29 نوفمبر 1830.
وفي مساء 29 نوفمبر بدأت الثورة بهجومين؛ أحدهما على القصر الذي يقيم به قنسطنطين، والثاني على ثكنات الفرسان الروس، وفشل الهجومان؛ لأن قنسطنطين استطاع الهرب ، ولأن الذين هاجموا الثكنات الروسية وكانوا بزعامة «فيسوكي» فشلوا أمام جموع الروس الكبيرة، ولم يستطع الثوار تحريك الأهلين على الثورة، وكان في وسع «قنسطنطين» إخماد الثورة بسهولة، في هذه المرحلة؛ بسبب ما ثبت من عدم استعداد الثوار بدرجة كافية، ولأن «الشعب» لم يكن متهيئا للثورة، وكان لدي «قنسطنطين» حوالي سبعة آلاف من الجنود الروس والليتوانيين، مع (28) مدفعا، ولكنه عجز عن اتخاذ قرار حاسم.
واجتمع «المجلس الإداري» في ليل 29-30 نوفمبر، واشترك في مداولات هذا المجلس كل من «تزارتوريسكي» و«لوبيكي»، وكان الأول على علم باستعدادات الثوار. وأوفد المجلس كلا الرجلين إلى الفراندوق قنسطنطين الذي كان معسكرا مع الجنود الروس خارج أبواب المدينة، ولكن قنسطنطين قرر أن يتخذ موقفا سلبيا، وأن يترك تهدئة العاصمة للبولنديين أنفسهم.
وحاول «المجلس الإداري» أول الأمر أن يسلك طريقا دستوريا، فأصدر في 30 نوفمبر نداء (أو خطابا) موجها باسم نيقولا الأول إلى الشعب يطلب التزام الهدوء والسكينة، ثم عهد المجلس الإداري إلى الجنرال «شلوبيكي» بمنصب القائد العام للجيش البولندي، ولكن «شلوبيكي» كان قد اختفى عن الأنظار عند قيام الثورة؛ لأنه لم يشأ تولي زعامتها، وهذا بينما استطاع الثوار الذين لم يكن هناك رقيب على نشاطهم إخضاع وارسو بأسرها لسلطانهم، ومن وارسو انتشرت الثورة بسرعة البرق الخاطف إلى كل أنحاء البلاد.
وتحت ضغط الرأي العام، اضطر المجلس الإداري في اليوم التالي (أول ديسمبر) إلى إقصاء بعض أعضائه ممن كان لا يريدهم الشعب، ثم عمد المجلس إلى تقوية مركزه، بضم أعضاء جدد إليه من النواب المحبوبين في «الدياط». وفي 2 ديسمبر أوفد مرة ثانية لمقابلة الفراندوق قنسطنطين كل من «تزارتوريسكي» و«لوبيكي» ومعهما نائبان من الدياط؛ ليطلب الأولان من قنسطنطين العودة إلى وارسو، وأما النائبان فقد طلبا منه الانسحاب كلية من المملكة، مع العسكر الذين معه، ووافق قنسطنطين على الانسحاب مع جنده، ووعد أن يرجو القيصر نيقولا إصدار عفو عن الثوار، كما يعهد بعدم القيام بأية عمليات عسكرية إلا بعد أن يسبق ذلك إنذار مدته ثمان وأربعون ساعة، ولكن قنسطنطين رفض في الوقت نفسه أن يتوسط لدى القيصر في شأن ضم ليتوانيا إلى بولندة.
وفي اليوم التالي (3 ديسمبر) أصدر قنسطنطين بوصفه القائد الأعلى للجيش البولندي منشورا يجيز لجنده مقابلة مواطنيهم والاتصال بهم، وفي اليوم نفسه غادر «قنسطنطين» معسكره (خارج وارسو)، وفي يوم 12 ديسمبر عبر حدود المملكة.
ويرى كثيرون أن الثوار قد ارتكبوا خطأ جسيما، بتركهم «قنسطنطين» يغادر المملكة؛ حيث إنهم قد فقدوا بذلك «رهينة» ثمينة، كما أنهم خسروا وجود «الجيش» الذي كان الليتوانيون يؤلفون قسما كبيرا منه، وكان ممكنا إقناع هؤلاء الليتوانيين من جنود وضباط بالانضمام إلى الجيش البولندي. أما وقد تسنى لهؤلاء الآن مغادرة البلاد، فقد احتفظت باسم روسيا وصارت مقدمة الجيش الروسي الذي زحف على بولندة فيما بعد تتألف منهم.
وفي 4 ديسمبر تشكلت حكومة مؤقتة لمملكة بولندة، وكانت هذه تتألف من «تزارتوريسكي» و«ليليفيل» وغيرهما، وعددهم جميعا سبعة، وسبق تشكيل هذه الحكومة إخراج «لوبيكي» الذي لم يكن محبوبا، ووضعت السيطرة بأكملها على الجيش في يد «شلوبيكي»، الذي خرج من مخبئه ثم أعلن نفسه ديكتاتورا (يوم 5 ديسمبر)، وذلك إلى أن ينعقد الدياط «غير العادي»، وأوفد الديكتاتور مندوبا يحمل تقريرا إلى القيصر نيقولا في سان بطرسبرج، كما أرسلت الحكومة المنحلة «لوبيكي» مع أحد النواب في بعثة مماثلة (10 ديسمبر)، وكان الغرض من إرسال هاتين البعثتين إلى سان بطرسبرج محاولة الوصول إلى اتفاق ودي مع حكومة القيصر، وعقد البولنديون آمالا كبيرة على نجاح هذه المحاولة، فأوقفوا استعداداتهم العسكرية، في حين انتهز الروس الفرصة للفراغ من استعداداتهم.
ولم يكن «شلوبيكي» بالسياسي المحنك، أو الذي يصلح لقيادة الثورة، وذلك بالرغم من أنه كان جنديا شجاعا، خدم في جيش نابليون، بل إن هذه الخدمة العسكرية ذاتها في جيش العاهل الفرنسي، جعلته يتقن أساليب الحرب النظامية وحدها فقط، أضف إلى هذا أنه كان يبلغ الستين من عمره، ثم إنه إلى جانب هذا كله؛ لم يكن يثق في «الثورة» ونجاحها، بل يعتقد أن من الجنون كل الجنون؛ أن يجازف البولنديون في حرب ضد «دولة» عظمى مثل روسيا، عجز نابليون نفسه عن إخضاعها؛ ولذلك فقد وضع «شلوبيكي» كل آماله في نجاح المفاوضات مع روسيا، ولم يمكنه أن يدرك إطلاقا أن بولندة قد صارت في حالة حرب مع روسيا.
ورفض «شلوبيكي» خطة جريئة، وضعها أحد ضباط أركان الحرب في الجيش البولندي ممن تعاونوا مع «ديبتش» في الحملة التركية (1829) سابقا، وعرض على «شلوبيكي» الزحف فورا على ليتوانيا، بكل قوة الجيش البولندي، لإنزال الهزيمة العاجلة بها، وضم القوات الليتوانية إلى الجيش البولندي، ثم احتلال «فيلنا» وسحق القوات الروسية الزاحفة، جماعة بعد أخرى، ولكن «شلوبيكي» رفض هذه الخطة، كما رفض خطة أخرى كان قوامها الوقوف موقف المقاومة، باتخاذ طريقي الهجوم والدفاع في الوقت نفسه، وفق الأساليب العسكرية النابليونية، وذلك في المثلث الحصين المؤلف من قلاع وارسو براجا
، مودلين
Modlin ، وسيروك
Sierock ، وأخيرا تقرر أن يقف البولنديون موقف الدفاع، وذلك بانتظار العدو خارج أسوار وارسو، والاشتباك معه في معركة فاصلة ليس للانتصار على الروس - لأن ذلك كان يصعب تحقيقه - وإنما لإنقاذ شرف الجيش البولندي العسكري.
وفي 18 ديسمبر 1830 اجتمع «الدياط غير العادي» الذي لم يلبث أن صدق على ديكتاتورية شلوبيكي (20 ديسمبر)، ولكن هذا الأخير سرعان ما استقال وتخلى عن ديكتاتوريته (17 يناير 1831)، وذلك بعد أيام من عودة الوفود من سان بطرسبرج، تعلن فشلها في مهمتها تشتيت عناد القيصر، فاجتمع الدياط في 19 يناير وعين قائدا آخر لرياسة الجيش هو رادزيفيل
Radzivil ، ثم أعلن خلع القيصر نيقولا عن العرش، وإقصاء آل رومانوف وحرمانهم من أية حقوق في السيادة على بولندة (26 يناير 1831)، وكان خلع القيصر خطأ عظيما؛ لأن هذا الحادث جعل الروس يعجلون البدء في عملياتهم العسكرية، كما تزايدت به الصعوبات في طريق أي تدخل من جانب الدول بالطرق الدبلوماسية بين بولندة وروسيا، وأخيرا فإن هذا الإجراء لم يحل مشكلة الدفاع المسلح، التي كان على البولنديين أن يخصصوا كل جهودهم لها؛ بل لقد ترتب على هذا الإجراء أن شغل البولنديون بتشكيل «حكومة وطنية» قومية، جديدة، عبارة عن «هيئة أو إدارة تنفيذية»، كما شغلوا بمراجعة مواد الدستور، فأدخلوا تغييرات على الدستور تتلاءم مع الترتيبات الجديدة، فأنشئوا نوعا من «الملكية الدستورية»، على أن يجرى اختيار «ملك» للدولة الجديدة، فيما بعد.
أما الروس، فكان جيشهم أثناء ذلك قد اخترق الحدود البولندية بقيادة «ديبتش» في 5، 6 فبراير 1831، وزحف الروس مباشرة قاصدين إلى وارسو، ومع أن الاشتباكات الكبيرة الأولى في ستوشيك
Stoczek ، دوبر
Dobre ، في 14 فبراير 1831، كانت في صالح البولنديين، فإن المعركة الأخيرة سرعان ما بدأت في حقول جروشوف
Grochov
بالقرب من وارسو (19 فبراير)، وأفضت الالتحامات الأولى إلى واقعة حامية الوطيس (في 25 فبراير) حول أولسن يانكا
Olszyanka
الذي خسره البولنديون، ثم استرجعوه بأسنة الرماح مرات ثلاثا تحت قيادة «راد زيفيل» الاسمية، وقيادة «شلوبيكي» الذي أشرف فعلا على توجيه العمليات في هذه المعركة. وأمام الجحافل الروسية اضطر البولنديون إلى التقهقر، ولكن بعد أن تكبد الروس (والبولنديون) خسائر فادحة، فلم يكن نصر الروس، «وقائدهم ديبتش» نصرا باهرا، بل على العكس من ذلك، قضت هذه الواقعة على سمعة الجيش الروسي والاعتقاد بتفوقه، وأضعفت أمل «ديبتش» في إمكان الحصول على النصر بسهولة، وقوي لدى البولنديين الشعور بقدرتهم على القتال والمقاومة بسبب البطولة التي أظهروها في المعركة.
ولم يكن في مقدور المسئولين في وارسو أن يدركوا معنى ما حدث في هذه الواقعة في أول الأمر، فغلب عليهم الخوف من تعرض العاصمة نفسها للضياع، وبادر «الدياط» بالموافقة على اقتراح تشكيل «دياط دائم» ينعقد بعدد محدود من الأعضاء في أي مكان خارج وارسو، أو خارج البلاد كلية (19-26 فبراير)، وفي اليوم التالي للمعركة تعين سكريزنسكي
Skrzynecki
قائدا أعلى للجيش، وكان قد أظهر كفاءة نادرة في معارك «جروشوف»، وهذا القائد إلى جانب ذلك كان قد خدم مع جيش نابليون في حملات 1807، 1812، 1813، وصاحب شجاعة فائقة، ولكن «سكريزنسكي» لم يكن ذا موهبة عسكرية، بل كان معروفا بالتردد والكسل والخمول، يؤثر حيل الدبلوماسية على الاشتباك في معارك حربية، ومع ذلك فإنه سرعان ما اتضح أن نتيجة معركة «جروشوف» كانت في صالح البولنديين، عندما وجد «ديبتش» نفسه مضطرا إلى الانسحاب صوب الشاطئ الأيمن لنهر الفستيولا؛ ليتخذ معسكره بها أثناء فصل الشتاء، وأتيحت بذلك الفرصة للمسئولين البولنديين حتى يعيدوا تنظيم جيشهم.
ومع أن البولنديين استطاعوا إحراز بعض الانتصارات بعد ذلك فقد ساء موقفهم، فاضطر أحد قوادهم دفيرنيكي
Dvernicki
أمام القوات الروسية الضخمة إلى الفرار إلى النمسا (27 أبريل 1831)، حيث أرغم جنده على تسليم سلاحهم، وفي شهر مايو أخفقت عمليات عسكرية أخرى، فانهزم «سكريزنسكي» في معركة حامية بالقرب من أوسترولينكا
Ostrolenka (في 26 مايو) على يد «ديبتش»، وكانت هذه الهزيمة بداية النهاية، حيث اضطرت قوات بولندية بقيادة جيلجود
Gielgud
كانت قد دخلت الأراضي الليتوانية، إلى الارتداد والتقهقر عبر الحدود البروسية فنزع منها سلاحها (13-15 يوليو)، واستطاع القائد الروسي الجديد باسكيفتش
الذي حل محل «ديبتش» - منذ 16 يونيو - أن يكمل استعداداته، بالتعاون الفعال مع بروسيا - من أجل الزحف على وارسو، فعبر «باسكفيتش» نهر الفستيولا (16-21 يوليو)، واستطاع بعد حوالي أسبوعين (أول أغسطس) الوصول إلى لوفيتش
Lovicz
مع قواته (من 51 ألفا من المشاة وثلاثمائة مدفع).
وحاول «الدياط» مواجهة الموقف، وكان «الدياط» قد حاول بعد هزيمة «أوسترولينكا» أن يعيد تنظيم الجيش، وأن يصلح الحكومة، ولما كان «سكريزنسكي» قد أضاع الوقت سدى في مؤامرات أو مفاوضات مع فرنسا والنمسا لا جدوى منها، فقد انتهى الأمر بعزله من القيادة وتعيين القائد دمبنسكي
Dembinski
الذي أظهر براعة أثناء الحملة الليتوانية التي سلفت الإشارة إليها. وشهدت «وارسو» موجة من الاضطرابات (15-16 أغسطس)، وشنق الأهلون في شوارعها عددا من الذين اشتبهوا في أمرهم، واتهموهم بالخيانة، وكان غرض «الثوار» القضاء على الحكومة القائمة: حكومة «الأرستقراطية» التي اتهمها الأحرار عن حق، بأنها كانت متخاذلة، خائرة القوى، ثم اتهموها - وفي هذه المرة بدون وجه حق - بأنها قد غدرت بقضية الوطن، وأسفر هذا الهياج والاضطراب عن عزل «تزارتوريسكي» وثلاثة من أعضاء الحكومة (17 أغسطس)، وتسلم الجنرال كروكفيسكي
Krukoviecki
رياسة الحكومة، وكان صاحب أطماع، ومن الذين حرضوا (سرا) على الاضطرابات التي حدثت في شوارع وارسو، وسلم «كروكفيسكي» القيادة إلى مالاشوفوسكي
Malachovski ، وكان الأخير رجلا مسنا ولا كفاءة له، قرر انتظار العدو عند التحصينات المقامة حول وارسو، وذلك بعد أن أضعف جيشه بانتزاع قوات كبيرة منه لإرسالها في عمليات خطرة، ناحية برست
Brest (في 20 أغسطس).
أما الروس ، فكان قائدهم «باسكيفتش» قد أتم استعداداته لمهاجمة وارسو بالقوات التي كانت لديه، وقد بلغت هذه (78) ألفا، في حين وقف على الدفاع عن وارسو، جيش بولندي يتألف من (37) ألف مقاتل فقط و(130) مدفعا، وبدأ الهجوم في صبيحة 6 سبتمبر 1831، فاستولى الروس على ضاحية فولا
Vola
وتجدد الهجوم في اليوم التالي، وفي المساء وصل الروس إلى بوابات فولا، وموكوتوف
Mokotov ، فعزل الدياط في هذا المساء نفسه «كروكفيسكي» من الرياسة، وفي صباح 8 سبتمبر دخل «باسكيفتش» وارسو.
ومع أنه كان لا يزال لدى البولنديين حوالي خمسين ألف مقاتل بقيادة الجنرال ريبنسكي
Rybinski
القائد العام الجديد، فقد كان واضحا أن «الثورة» قد انتهت فعلا. حقيقة حصلت اشتباكات طوال شهر سبتمبر بين البولنديين والروس، كما دارت مفاوضات «باسكيفتش» بدون جدوى، ولكن بقايا الجيش البولندي سرعان ما صارت تتفكك حتى لم يعد لدى «ريبنسكي» سوى عشرين ألفا فقط اضطر أن يهرب بهم إلى بروسيا، وفي بروسيا نزع من هؤلاء سلاحهم. ثم إن قلعة مودلين
Modlin
لم تلبث أن اضطرت إلى التسليم (8 أكتوبر)، وتبعتها قلعة زاموش
Zamosc (21 أكتوبر)، وبذلك أضحت البلاد بأسرها في قبضة القيصر نيقولا؛ لقد انتهى أجل مملكة بولندة «الدستورية». (7-8) خاتمة مملكة بولندة
وكان الثوريون البولنديون قد طلبوا من أول الأمر تدخل الدول الأوروبية في النزاع بينهم وبين القيصرية، باعتبار أن هذه الدول كانت قد ضمنت كيان أو بقاء «المملكة البولندية» في مؤتمر فينا (1815). فأراد الثوريون البولنديون من الدول الآن «التوسط» على الأقل بينهم وبين القيصر، إن لم تستطع هذه الدول التدخل «المسلح»، وأوفد البولنديون بعثات سياسية إلى عواصم الدول في فينا وبرلين ولندن وباريس لهذه الغاية، ولكن دون جدوى . حقيقة قوبلت الوفود البولندية بالعطف ولكنه كان عطفا ظاهريا فحسب، ولم تلق الوفود أي تأييد في العواصم الأوروبية.
فمنذ بداية النضال، اتخذت بروسيا إجراءات صارمة لمنع وصول أية نجدات أو مساعدات للبولنديين من غراندوقية «بوزن». ثم إنها لم تكتف بذلك، بل تخلت عن موقف الحياد تماما عندما صارت تبذل قصارى جهدها لتحول بين الثوريين البولنديين والاتصال مع أوروبا الغربية، وذلك في الوقت الذي أمدت فيه بروسيا من ناحية أخرى العسكر الروس بالذخائر والمؤن، وأذنت لهؤلاء أن يعبروا الأراضي البروسية. بل يبدو محققا كذلك أن بروسيا كانت مصممة على اختراق حدود مملكة بولندة واحتلال كل الأقاليم البولندية الشمالية الغربية، إذا نزلت الهزيمة بالروس، ولقد أعدت بروسيا لهذه الغاية بالفعل قوة كبيرة على حدودها، بل حدث عندما صارت الأمور أولا لصالح البولنديين، طوال شهر أبريل 1831 أن أبدى القيصر نيقولا استعداده «للتنازل» لبروسيا عن القسم الشمالي الغربي من مملكة بولندة.
أما النمسا، فقد لعبت دورا مزدوجا أثناء هذه الأزمة - أزمة الثورة، فصار وزيرها (مترنخ) يعقد المؤتمرات السرية مع المبعوث البولندي، واقتنع البولنديون - خطأ - أن من المنتظر أن يقبل الأرشيدوق شارل شقيق الإمبراطور، فرنسيس الثاني، الترشيح لعرش مملكة بولندة، وفي الوقت نفسه أبلغت النمسا أولا بأول كل نوايا البولنديين وخططهم إلى روسيا. بل أسدى حاكم غاليسيا النمساوي كل معونة للجيش الروسي، وإن لم يكن بالصورة العلنية التي أسدت بها بروسيا معونتها للقوات الروسية من بوزن.
وكان موقف فرنسا كذلك مبهما، وبذل «اللفاييت» في مجلس النواب الفرنسي كل ما وسعه من جهد وحيلة، في جلسات 15، 28 يناير، 18 مارس 1831، لإقناع مواطنيه بضرورة التدخل لمساعدة البولنديين، ولكن دون جدوى. فقد تلقى المبعوث البولندي من الحكومة الفرنسية وبخاصة بعد أن شكل «كازمير برييه» الوزارة (10 مارس) إجابات مبهمة، بل إن الحكومة الفرنسية لم تلبث أن صادرت مراسلاته مع حكومته الثورية في بولندة، وأطلعت عليها القيصر نيقولا، على أمل أن تنال بهذه الوسيلة تأييد روسيا للحكم القائم في فرنسا؛ أي لملكية يوليو (وأسرة أورليان).
وفي إنجلترة، كانت حكومة الويجز
Whigs
الجديدة، برياسة لورد جراي
Charles Grey (1764-1845) مهتمة بالإصلاح النيابي، فلم تشأ الانغماس في مشاكل جديدة بين روسيا وبولندة، فكان كل ما حصل عليه البولنديون من هذه الحكومة تمنيات طيبة، وانتهى الأمر بأن صارح لورد بالمرستون وزير الخارجية الإنجليزي، مبعوث البولنديين، بالرفض التام لمطلب هؤلاء بشأن تدخل إنجلترة أو وساطتها.
ولقد كان بعد فشل الثورة البولندية، أن وجدت كلا الحكومتين؛ الإنجليزية والفرنسية من صالحهما «التدخل» لتهدئة الرأي العام في بلادهما لدى حكومة سان بطرسبرج، وذلك بتقديم نوع من «الاعتراضات» أو الاحتجاجات التي لم تكن جدية، والتي أشارت في صورة مجملة إلى الضمانات التي صدرت في مؤتمر فينا، بشأن المحافظة على استقلال مملكة بولندة، وتلك «اعتراضات» جاءت متأخرة، بعد نجاح الروس في القضاء على الثورة، ولم يكن لها وعلى نحو ما كان متوقعا، أي تأثير على مجرى الحوادث، بل إن «نلسرود» وزير الخارجية الروسية لم يلبث أن أجاب على رسالة من «بلمرستون» إلى السفير الإنجليزي في سان بطرسبرج، بخصوص المحافظة على استقلال المملكة «البولندية» الداخلي أو الذاتي. أجاب بأن ليس لإنجلترة أي حق في التدخل في شئون روسية - بولندة. ثم إنه أوضح نوايا القيصر؛ أن ينبذ ظهريا كل ما جاء في مؤتمر فينا متعلقا ببولندة (3 يناير 1832).
وهكذا تأسست في وارسو منذ سبتمبر 1831 حكومة روسية مؤقتة برياسة يتودور إنجل
Engel ، وفي فبراير من العام التالي (1832) تعين «باسكفيتش» نائبا للملك بسلطات واسعة، وأعطي في الوقت نفسه لقب أمير وارسو. ثم ألغي الدستور، واستعيض به في 14 فبراير 1832 بقانون أساسي، دل مظهره على أن النية منعقدة على المحافظة على نوع من الاستقلال أو الكيان الذاتي لبولندة، وإن كان في حدود ضيقة. فأكد هذا القانون الأساسي حريات الأفراد وحق التملك واحترام اللغة البولندية وحق التشريع، ولكن تلك كانت «وعودا طيبة» الغرض منها؛ استمالة الغرب فقط، فلم ينفذ شيء من النصوص المتعلقة بالاستقلال الذاتي ... إلخ، في حين تم إدماج الجيش البولندي في الجيش الروسي، وألغيت كل الأنظمة الانتخابية، وملئت كل مراكز التعليم العليا ووظائف الحكومة بالروس أنفسهم، وجعلت اللغة الروسية إجبارية في كل فروع الإدارة، ثم أخذ الروس ينتقمون من البولنديين ويضطهدونهم، فأعلنت القوانين العرفية (1833)، ولم يطبق العفو الذي كان أصدره القيصر عن الثوار، فاستثني عديدون منه وصودرت أملاك البولنديين، ثم وزعت هذه الأملاك على الروس وحكمت المحكمة العليا العسكرية بالإعدام شنقا على (249) من المهاجرين، وبالنفي المؤبد على (2590) منهم، وصودرت أملاك كل هؤلاء، ووضعت الحكومة أبناء المدانين والهاربين الموتى، من الذين أسهم آباؤهم في الثورة ، في المدارس الروسية المخصصة لأبناء الجنود، وأغلقت الجامعات في «وارسو» و«فلنا» كما أهملت المدارس والكليات، وفقدت المكتبات العامة ما كان بها من كتب وتراث ثمين، وسلطت المدافع من قلعة وارسو لتهديد المدينة.
وفي أطراف البلاد خارج وارسو ذاتها، سار القمع والإرهاب بالصرامة نفسها، من أجل غرض معين، هو جعل الشعب البولندي يتحول قسرا إلى الروسية. فتشكلت لجان للتحقيق في «كييف» و«فلنا» أمرت بنفي وتشريد آلاف المواطنين إلى سيبريا، وبلغ عدد الأسر التي شردت إلى شواطئ الفولجا، ونهر كوبان
Kuban (والأخير يصب في البحر الأسود عند شاطئه الشمالي الشرقي) - (45) ألفا.
وهكذا استمر العمل من أجل القضاء على كل شعور وطني وقومي يدعو للاستقلال في بولندة طوال ربع قرن من الزمان، هي المدة التي شغل فيها «باسكفيتش» على وجه الخصوص منصب نائب الملك في بولندة. (8) القيصر نيقولا الأول: (روسيا في سنة 1848)
ولقد كان القيصر نيقولا الأول (1825-1855) الذي استطاع القضاء على حركة الديسمبريين، قبل إخماد الثورة البولندية، من الطغاة المعروفين بضيق الأفق، كما أنه معروفا بالجد والنشاط. أخذ على عاتقه منذ البداية إخماد الآراء الناهضة والمبادئ المثالية التي أوحت إلى المتآمرين الأرستقراطيين القيام بحركتهم (الديسمبرية)، والتي مهدت الطريق بعد جهود شاقة بعد ذلك لتزويد طبقات الفلاحين والعمال (الصناع) المناضلة والتي لم يكن قد صار لها كيان بعد، بالقادة والزعماء الذين سوف يتولون قيادة هذا النضال وتوجيهه. فحطمت مؤامرة الديسمبريين وحركتهم ثقة القيصرية في طبقة النبلاء، وجعلت القيصرية تميل إلى الاعتماد أكثر من أي وقت مضى على «البيروقراطية»؛ أي هيئة الموظفين والإداريين في الدولة، فتشكل قسم للبوليس السري برئاسة «بنكندورف»، وكان لنشاط هذا القسم «السري» أكبر الأثر في انتشار الفساد والرشوة في فروع الإدارة (البيروقراطية)؛ بسبب عدم خضوع نشاطه السري لأية رقابة خارجية، وفرضت رقابة صارمة على الكتب والصحف، حنقت الفكر الحر وساعدت على أن تصبح «المحاكم» أكثر الهيئات أو المنظمات فسادا في البلاد بأسرها.
واعتمدت هذه (الملكية البيروقراطية) على نوع من «القومية» الروسية، كان أحد الكتاب الروس من المحافظين خير من نادى به وقتئذ، هو المؤرخ «نيقولا ميخائيلوفتشي كارامزين» الذي ذكرنا أنه كان عدوا لاستقلال بولندة وللبولنديين، وضع رسالة عن «روسيا القديمة والحديثة» عزا فيها التذمر السائد إلى إصلاحات القيصر «إسكندر الأول»، من حيث إن هذه الإصلاحات قد استهدفت إضعاف وتحطيم الحكومية الأوتقراطية. وانعقد الرأي على أن «كارامزين»، إنما يعبر عن الرأي المتحفظ أو الرجعي في الإمبراطورية، وأنه إنما يفصح في كتاباته عن عقيدة أو مبدأ الدولة الرسمي، والآراء الروسية التي نفرت من كل تلك المبادئ والآراء التي جاءت بها الثورة الفرنسية ونادت بها، ولو أن «كارامزين» - والدوائر الرسمية - التي عبر عن آرائها وعقيدتها، لم يرفضوا جميعا «الحضارة» أو المدنية الغربية، ووضع «كارامزين» تاريخا «للدولة الروسية»، ونشر «رسائل لسائح روسي»، وقصة بعنوان «ليزا المسكينة» خلفت جميعها آثارا عميقة في نفوس معاصريه الروس، الذين رسخ شعورهم بذاتيتهم كأمة روسية عريقة، ولقد وضعت هذه الفكرة أو العقيدة الرسمية التي أفصح عنها ونادى بها «كارامزين»، روسيا في مرتبة تعلو على كل بلدان أوروبا، على أساس أن روسيا بقيت أمينة على تقاليدها القديمة، تحفظ الولاء لفضائل العبادة والدين، وتدين بالطاعة للملكية.
وكان حينئذ أن استعادت الكنيسة الأرثوذكية مكانتها لدى الدوائر الحكومية، باعتبار أنها المحافظة على القومية أو الوطنية الروسية «المحافظة»، وعلى «الفكرة أو المبدأ الروسي»، وهو المبدأ الذي أوجز معانيه القيصر نيقولا الأول نفسه في شعار «الأرثوذكية، والأوتقراطية والقومية.»
واحتل في هذه الظروف النفوذ الألماني مكان النفوذ الفرنسي السابق؛ لأن ألمانيا كانت تمثل لدى القيصر فكرة الحكم المطلق أو الاستبدادية والحياة العسكرية، والأنظمة البيروقراطية، ومع ذلك فقد كانت ألمانيا مرتعا في الوقت نفسه للآراء الفلسفية. الأمر الذي ترتب عليه، ونتيجة للاحتكاك الذي حدث أن نشأ في روسيا مذهبان متعارضان، يدعو أحدهما إلى السلافية
Slavophilism ، ويدعو الآخر إلى الغربية
Westernism ، وتركز نشاط هاتين الحركتين في جامعة موسكو.
واجتمع الفريقان أنصار السلافية، وأنصار الغربية، على ضرورة المطالبة بإلغاء رق الأرض، وبحرية الصحافة، وإلغاء الرقابة على المطبوعات، وتعديل أو تقييد الأوتقراطية. على أن أنصار السلافية، وكانوا من طبقة النبلاء أصلا، صاروا يمجدون التراث الروسي الثقافي، وينشدون التحرر من الفردية الأوروبية والتعقلية الأوروبية كذلك، ويدعون إلى العودة إلى الحياة في روسيا قبل عهد القيصر بطرس الأكبر، وهي التي قالوا: إن العدل والصدق والحق كان يسود البلاد وقتئذ.
أما أنصار الغربية، فكانوا على النقيض من ذلك؛ يمجدون القيصر بطرس الأكبر، باعتبار أنه قد انتشل روسيا من بربرية أو همجية العهد المسكوفي الأول إلى الحياة التي صارت ينعم فيها بالحضارة والمدنية، وكان في رأيهم أن الملكية الروسية قد خانت عهد بطرس الأكبر، وقضت على آثاره وأعماله وإصلاحاته، وأن القيصر بطرس كان أول «الحكام المستبدين المتنورين» في أوروبا، وأن روسيا استطاعت أن تتخذ من أوروبا القرن الثامن عشر نموذجا لتبني كيانها على غراره، في هذا القرن نفسه، بفضل الإصلاحات التي بدأها بطرس الأكبر، واستمرت عليها القيصرة كاترين الثانية، وكان «الغربيون» أنفسهم هم الذين طالبوا كذلك بأن تتخذ روسيا من أوروبا القرن التاسع عشر نموذجا تبني كيانها على غراره، كذلك في هذا القرن التاسع عشر نفسه أيضا. مع العلم بأن أوروبا قد خضعت منذ أيام بطرس وكاترين لتأثير حدثين عظيمين؛ الثورة الفرنسية، والانقلاب الصناعي. الأمر الذي جعل متعذرا على الطبقة الحاكمة في روسيا قبول هذا النموذج (الأوروبي) الجديد؛ لتنسج على منواله في بلادها، ومن المتعذر على كل الأحوال، قبول الأساليب الأوروبية الحديثة في الحكم، وفي الحياة عموما، طالما أن قبولها في روسيا معناه أن يسبقه أو أن يمهد له زوال «النظام القديم»، وطالما أن قبول هذه الأساليب الجديدة متعذر في بلاد لا يزال «رق الأرض» يفرض الجهالة على الطبقة العاملة من الفلاحين وغيرهم، ويرغمهم على العيش في تعاسة وشقاء.
الفصل الثامن
إيطاليا: النضال «القومي» للتحرر من السيطرة الأجنبية
تمهيد
استمرت المشكلة الإيطالية تشغل أذهان السياسيين في أوروبا طوال القرن التاسع عشر، وذلك على وجه الخصوص بين سنتي 1830، 1860، حيث استأثرت هذه المشكلة في هذه الحقبة بنشاط الدبلوماسية الأوروبية، ولقد وجدت أوروبا نفسها متدخلة في نضال الطليان من أجل الظفر بوحدتهم الوطنية، وتقويض عروش الحكومات المستبدة، حتى إن «المشكلة» لم تعد خاصة بإيطاليا وحدها فحسب، وحتى إن مقدرات هذا البلد السياسية لم تعد منفصلة عن مقدرات سائر الدول الأوروبية، وفي إيطاليا، كأكثر بلدان أوروبا في هذه السنين، كان من المنتظر أن تتاح الفرصة بفضل النضال للتحرر من السيطرة الأجنبية، وتلك كانت في إيطاليا سيطرة نمسوية، وإنشاء الحكومة الدستورية على أنقاض السلطات الاستبدادية، لأن تتسلم «البورجوازية» مقاليد الحكم في الدولة القومية (الوطنية).
ومن الناحية «المثالية» والفكرية، كان لا يجب أن يكون عسيرا تحقيق هذه الغايات الوطنية والديموقرا طية؛ لأن إيطاليا لم تكن «مصطلحا جغرافيا» - وهو التعبير الذي وصف به «مترنخ» هذه البلاد - إلا من ناحية وجهتي النظر السياسية والتاريخية، وفيما عدا ذلك، فلا جدال في أنه كانت هنالك «قومية إيطالية» محددة المعالم، تضافر على إنشائها أن شبه الجزيرة الإيطالية ذات حدود جغرافية معينة، وأن شبه الجزيرة الإيطالية هذه لم تكن تحوي عناصر (أو أجناس) غريبة أو أجنبية عن الإيطالية، وإن كان هذا لا يعني أن اختلافات نفسية (سيكولوجية) عميقة، وأخرى متصلة بمسلك الأفراد، وطرق معالجتهم شئون الحياة، تميز بين أهل نابولي وصقلية وروما، أو بين أهل الشمال وفي ميلان، وبين أهل فلورنسة أو أهل بيدمنت وهكذا. ولكن تلك اختلافات «إقليمية» محلية، وليست اختلافات عنصرية؛ أي ناجمة عن اختلاف في الجنس والعنصر، فهناك قطعا «جنس» إيطالي، بمعنى أن التقاليد الجغرافية من جانب، والحركات التاريخية والاقتصادية من جانب آخر، قد أوجدت جماعة متجانسة بعد أن انصهرت في أردمة واحدة كل العناصر التي كانت تقطن أصلا شبه الجزيرة الإيطالية. بل إن هنالك دينا واحدا، ولغة واحدة، يسود كلاهما شبه الجزيرة ، والاشتراك في العقيدة واللغة أمر نادر الحصول. ولم تشهد إيطاليا هرطقة، أو خروجا على العقيدة الكاثوليكية، بل بقيت البلاد من أقصاها إلى أقصاها كاثوليكية. كما انعدم من إيطاليا وجود أدب إقليمي ينبئ بأن هناك اختلافات «روحية»، وهكذا فإن أحدا لا يستطيع أن يتشكك في قيام «وحدة إيطالية» من الناحية الذهنية أو الروحية، أضف إلى هذا كله أن أهل البلاد جميعهم كان يربطهم شعور الزهو والافتخار بتراثهم المتخلف من أمجادهم الغابرة، على أيام الإمبراطورية الرومانية في العصور القديمة، والبابوية العتيدة خلال العصور الوسطى، ولقد كانت هذه الأمجاد السابقة الموضوع المفضل لدى دعاة القومية والوحدة الوطنية طوال قرن بأسره - القرن التاسع عشر - يستثيرون به حمية مواطنيهم وليدفعوهم نحو العمل، فلا تجد متخلفا عن الركب، من كل «الدويلات» الإيطالية وشعوبها في الشمال والجنوب على حد سواء.
وهكذا فإنه لا سبيل إلى نكران أن هناك قطعا «قومية إيطالية» وذاتية قومية، ولكن الذي لم يكن له وجود حقا، إنما كانت العزيمة الصادقة، والإرادة القوية، التي تعمل على نقل هذه القومية والذاتية الإيطالية، من عالم الفكر والروح إلى عالم الواقع وميدان السياسة؛ أي إن المشكلة لم تكن البحث عن القومية، أو محاولة خلقها، وابتداعها ابتداعا؛ لأن القومية والذاتية الإيطالية كانت كائنة فعلا، ولكن المشكلة إنما كانت إتاحة الفرصة لهذه القومية والذاتية الإيطالية حتى تبرز إلى عالم الوجود السياسي.
ومن الثابت أنه كان في سنة 1830 فقط أن بدأت تشاهد في إيطاليا حركة تهدف إلى تحقيق الوحدة القومية أو الوطنية، فإنه قبل هذا الوقت كانت الغلبة لقوى التفكك على عوامل الترابط والاندماج في إيطاليا، وذلك بسبب الأحوال الاجتماعية والسياسية السائدة في شبه الجزيرة، فلم تستطع قوى الوحدة التغلب على غريمتها إلا بعد سنة 1830، وتلك حقيقة تستبين من بحث الصعوبات التي اعترضت طريق الوحدة القومية والتي كان مبعثها: «الترتيب» الذي وضع لإيطاليا في مؤتمر فينا، والسلطان الذي صار للنمسا في إيطاليا بموجب هذا «الترتيب» الإقليمي والسياسي، والظروف الاقتصادية والاجتماعية التي عاشت فيها إيطاليا خلال العشرين سنة التالية على وجه الخصوص، للتسوية التي وضعت في فينا للمشكلة الإيطالية.
إيطاليا سنة 1815 و«النظام النمسوي»
لقد قامت «التسوية» التي وضعت في فينا للمشكلة الإيطالية على قاعدة «تجزئة» إيطاليا، ومع ذلك فقد كانت هذه «التجزئة» التي تمت على أيدي المؤتمر «عملية» ساعدت في حد ذاتها على «تبسيط» الوضع في إيطاليا، إذا قيس النظام الذي أوجدته هذه «العملية» بذلك الذي كان يسود شبه الجزيرة قبل حروب الثورة الفرنسية ونابليون.
فبمقتضى التقسيم الذي حصل في فينا؛ قامت سبع دول، تألف بعضها من حجوم جعلت لها قدرا من الأهمية. من ذلك مملكة الصقليتين وعدد سكانها سبعة ملايين ونصف مليون نسمة، ثم مملكة بيدمنت؛ سردينيا، وعدد سكانها أربعة ملايين، ثم مملكة لمبارديا فينيشيا وعدد أهلها أربعة ملايين وربع مليون نسمة، ثم الولايات البابوية من مليونين ونصف، وفيما عدا ذلك، فإن الدوقيات الثلاث - بارما، ومودينا، وتسكاينا - كانت أقل في حجومها كثيرا.
أضف إلى هذا، أنه كانت هناك «أوضاع» مؤقتة أوجدتها تسوية فينا، زادت من تعقيد «النظام» الناشئ من قيام هذه الدول السبع. من ذلك؛ أن الإمبراطورة ماري لويز - زوجة نابليون - أعطيت مدة حياتها دوقيات جواستالا
Guastalla
وبليزانشي
، وبارما، في حين نال البربون أصحاب هذه الدوقيات (الشرعيون) كتعويض لهم، إمارة لوقا، على أن تعود لوقا إلى تسكانيا عند وفاة ماري لويز، ويسترد البربون عرش بارما وأملاكهم الأخرى، وتوفيت ماري لويز في سنة 1847، وكان عندئذ فقط أن عادت إمارة لوقا إلى تسكانيا، وعاد البربون إلى بارما وإلى سائر إماراتهم. ومن ذلك أيضا أن ماريا بياتريش
Maria Beatrice
من أسرة إست
Este
ووالدة فرانسو الرابع حاكم «دوق» مودينا، احتفظت بامتلاك دوقية «ماسا-كراري» الصغيرة بصفة شخصية حتى سنة 1829.
وكذلك فإن التقسيم أو التجزئة السياسية اصطدمت في أحايين كثيرة بالمصالح والاعتبارات الاقتصادية. من ذلك أن إقليم الرومانا في الولايات البابوية كان من الناحية الاقتصادية يتصل بسهل البو أكثر من اتصاله بروما، التي ارتبط بها إقليم الرومانا سياسيا، وكذلك ففي حين كان إقليم أبروزي
Abruzzi
جزءا من نابولي - ويقع هذا الإقليم إلى الشمال الشرقي - وكذلك إمارتا بنيفنتو
Benevento (وتقع وسط نابولي)، وسبوليتو
Spoleto ، فقد جعلت هذه مرتبطة بالولايات البابوية وقسما منها، ولم تضم إلى نابولي، ثم إن جزيرة صقلية استدارت بظهرها من الناحية الاقتصادية لنابولي.
ولقد كان إغفال هذه الاعتبارات الاقتصادية، عند وضع «النظام السياسي» وتحديد الترتيبات الإقليمية في شبه الجزيرة الإيطالية، من أهم العوامل التي عطلت مجهود الوحدة القومية (الوطنية) في أول الأمر، ولو أنها في الوقت نفسه وبمضي الوقت قد ساعدت على نجاح الحركة القومية ذاتها، من حيث إنها كانت من أقوى الأسباب التي ساعدت على تفكك هذا النظام السياسي، وانهيار الترتيب الإقليمي الذي وضعه السياسيون في فينا.
ولقد قام هذا «النظام السياسي»، الذي أرسيت قواعده في مؤتمر فينا على حقيقة واحدة؛ هي إخضاع الحكومات التي أنشئت في إيطاليا لسلطان النمسا، سواء أكانت هذه تحكم أجزاء من إيطاليا حكما مباشرا، كما كان الحال في «لمبارديا فينيشيا»، أم أنه كان لها نفوذ وسلطان غير مباشر على سائر الدول والإمارات الإيطالية. ولا شك في أن العمل بمبدأ إرجاع أصحاب الحقوق الشرعية إلى عروشهم في إيطاليا، قد أيد سلطان النمسا وسيطرتها عندما رجعت الأسرات الحاكمة القديمة - قبل عهد الثورة ونابليون مصممة على استئناف سيرة الحكم، كما كان أيام النظام القديم
Ancien Regime ، فتناسى الحكام الراجعون قوة المبادئ التي نادت بها الثورة الفرنسية ثم تغلغلت في إيطاليا في عهد الإمبراطورية النابليونية، وبحيث صار أهل شبه الجزيرة الإيطالية، والمفكرون والقادة خصوصا، من الطبقة البورجوازية، ومن فريق المتنورين من النبلاء كذلك، لا ينظرون إلى المبادئ التالية كأنها مجرد أوهام؛ المساواة أمام القانون، حرية الضمير والعبادة، حرية القول والرأي، حرية النشر، حق المواطنين في الالتحاق بالوظائف العامة دون تفرقة أو تمييز، وقبل كل شيء حق المواطنين في تأسيس الحكومة الوطنية (القومية)، والتي يساهمون في إدارة شئونها، ولم يكن هناك مناص من أن يرتبط هؤلاء الحكام الراجعون بأوثق الروابط مع النمسا، وأن ينهجوا في الحكم على منوالها، في نظير مؤازرتها لهم، وتعهدها بحماية عروشهم، وحكمت النمسا في إيطاليا حكما رجعيا مستبدا، باعتبار أن هذا النوع من الحكومة ضروري لاستقرار سيطرتها، ولدعم نفوذها في إيطاليا.
ولكن بعد سنة 1815، وبعد عهد الثورة الفرنسية ونابليون، في إيطاليا لم يعد متيسرا إغفال إرادة الشعوب، أو إهانة الشعور القومي، بل إن الاستهانة بمطالب الإيطاليين «وبقوميتهم» سرعان ما حرك الثورات في إيطاليا، فلم تمض ثلاثون سنة على المعاهدات التي أبرمت والتسويات التي حصلت في فينا، حتى كانت قد بدأت في إيطاليا «حركة إصلاح»، كانت متعارضة تماما مع المبادئ التي قامت عليها هذه المعاهدات ذاتها، والتسويات التي تمت في فينا. ولقد كانت هذه «الحركة الإصلاحية» موجهة في صميمها نحو غاية واحدة؛ التحرير من السيطرة النمسوية، وهي الحركة التي أفضت إلى الثورات التي قامت في سنتي 1848، 1849، وكانت هجوما عنيفا على النمسا - الدولة التي كان السياسيون في مؤتمر فينا، قد أرادوا أن يمكنوها من فرض سلطانها فرضا على شبه الجزيرة الإيطالية.
وكان مبعث المعارضة - ثم المقاومة - ضد النمسا، الأساليب التي اتبعتها هذه في الحكم في إيطاليا، عندما اعتقد وزيرها «مترنخ» أنه لا يجب بحال من الأحوال الاستجابة لأي مطلب من مطالب الأحرار؛ لأن من شأن هذه الاستجابة إذا حصلت ولو مرة واحدة، تشجيع هؤلاء على التقدم بمطالب أخرى؛ ولذلك فقد صمم «مترنخ» على أن يسود الحكم المطلق والمستبد إيطاليا، بدعوى أن أية «تنازلات» من جانب النمسا لإرضاء الأحرار سوف تؤدي حتما إلى توحيد إيطاليا في دولة ذات نظام جمهوري، وأن هذه «التنازلات» سوف يترتب عليها كذلك قيام منازعات شديدة بين الجماعات المختلفة التي سوف تتحلل إليها هذه «الدولة»، نتيجة لاختلاف العناصر التي يتألف منها سكانها؛ ولذلك فإن «مترنخ» كان قوي العزم منذ مبدأ الأمر وحتى يتجنب هذا الخطر، على إخماد كل مظاهر الحياة المدنية في إيطاليا بحرمان الطليان من أية حقوق مدنية، وعلى وجه الخصوص؛ القضاء قضاء مبرما على أية رغبة في إقامة حكومات ذاتية.
ولقد كانت الظروف مهيأة للوزير النمسوي لتحقيق غايته، وذلك في الأقاليم التي خضعت مباشرة لحكم النمسا «لمبارديا فينيشيا». في حين أنه أقام على عروش الدويلات الأخرى في مودينا، وتسكانيا، حكاما من النمسويين ، وفي بارما حاكمة «دوقة» نمساوية، ووعد كل هؤلاء كما وعد سائر الحكام في شبه الجزيرة، بإمدادهم بالعون فورا عند أول بادرة لأية حركة ثورية. وتحت ضغط هذا «النظام» - نظام مترنخ - صار الإرهاق الشديد يشوب الحياة في إيطاليا، بل صار من المتعذر في أحايين كثيرة احتمال الحياة نفسها في ظل هذا النظام.
ففي مملكة لمبارديا فينيشيا، صدر الأمر في 17 أبريل 1815 بوضع «نائب للملك » على رأس المملكة، ولكن لتبسيط شئون الحكم والإدارة قسمت المملكة إلى «دولتين» أو حكومتين يفصل بينهما نهر المنشيو
Mincio ، الميلانية (نسبة إلى ميلان) على يمين النهر، والفينيشية (أو البندقية) على يساره. فيحكم كل «دولة» منها حاكم يكون مقر أحدهما في ميلان والآخر في البندقية
Venice ، ويتبعان مباشرة مجلس البلاط الملكي
Reichshofrath
1 - ومن المعروف أن هذا المجلس كان تأسس على يد الإمبراطور مكسمليان الأول سنة 1501 - وعلى ذلك فإن مملكة لمبارديا فينيشيا كانت مملكة واحدة اسما، في حين أنها كانت في الواقع مؤلفة من مقاطعتين أو إقليمين يخضعان مباشرة لعاصمة الإمبراطورية النمسوية فينا.
ولم تجن هذه البلاد فائدة تذكر من ارتباطها بدولة كبيرة كالنمسا؛ بسبب المركزية الصارمة التي جعلت الفصل في شئون الإدارة والحكم من نصيب فينا البعيدة، الأمر الذي أدى إلى تعطيل الأعمال. ثم كان من عوامل اختلال الإدارة؛ جهل النمسويين بشئون الطليان. أضف إلى هذا أن الضرائب التي فرضت على البلاد كانت ثقيلة، مرهقة، حتى إن هذه المملكة التي كانت مساحتها لا تزيد على قسم من ثمانية عشر قسما من مساحة الإمبراطورية النمسوية، ولا يزيد عدد سكانها على واحد على ثمانية من عدد سكان الإمبراطورية، كان مطلوبا منها تأدية ربع قيمة الضرائب جميعها المحصلة من أنحاء هذه الإمبراطورية، وأرغمت لمبارديا على تزويد العاصمة «فينا» بعد سداد النفقات المحلية، كل سنة، بمبلغ أربعة وثلاثين مليونا من الليرات، في حين دفعت «فينيشيا» ثلاثة وعشرين مليونا، وكان الغرض من نظام الضرائب الثقيل؛ القضاء على كل الصناعات في لمبارديا فينيشيا، وعلى كل محاولة لإحياء أية صناعات أهلية بها، وذلك حتى تبقى المملكة سوقا مفتوحا لمنتجات ومصنوعات النمسا، وهكذا حتى في شئون التجارة استمرت لمبارديا فينيشيا تخضع لاستغلال النمسا، وتلقى حاملة البلاد المفتوحة قهرا.
ومع أن النمسا أبدت اهتماما بالتربية والتعليم في لمبارديا فينيشيا، زاد كثيرا على اهتمامها في سائر بلدان إيطاليا، فعممت المدارس الأولية للبنين وافتتحت المدارس الثانوية في المدن الرئيسية في المقاطعات، فقد أفسدت الأهواء والغايات السياسية هذا العمل، فلم يثمر الاهتمام بالتعليم الثمرة المرجوة منه ، وذلك عندما أراد المسئولون النمسويون تنشئة رعايا يدينون بالطاعة ولم تكن لهم حاجة «بمواطنين مستنيرين». فقال شيزار كانتو
Cesare Cantù - صاحب تاريخ إيطاليا، وغيره من التواريخ - إن المدارس تحقيقا لهذه الغاية دأبت على إشاعة العجز والقصور الذهني، وخلق جيل من متوسطي الذكاء بمحاربة كل نبوغ بين الناشئة الطليان، وأكد مازيني
Mazzini
فيما بعد أن شعار المسئولين في المدارس الأولية كان «خضوع الرعايا لصاحب السلطان عليهم، يجب أن يكون كخضوع العبيد لأسيادهم.» وقد يكون في هذا القول شيء من المبالغة، ولكن الثابت أن النمسا بذلت قصارى جهدها للقضاء على كل شعور وطني لدى الأطفال، وعلموا هؤلاء في كتبهم المدرسية أن لمبارديا فينيشيا تؤلف جغرافيا جزءا من النمسا. لقد كان يختار لملء كراسي الأستاذية بالجامعات، الناجحون في المسابقات التي تجرى تحت إشراف فينا، وأما هؤلاء الناجحون فكانوا دائما من الأدعياء والمبتدئين. على أن الجدير بالملاحظة أن كليات الطب والرياضة على وجه الخصوص، بالرغم من الإهمال والمعاملة السيئة، كانت تتميز بوجود بعض الأساتذة من العباقرة «الطليان» حقا.
وخضعت «لمبارديا فينيشيا» لنظام صارم من الرقابة على المطبوعات والمنشورات، فكان مقر محكمة الرقابة الرئيسية في فينا، وهي التي يتبعها في مختلف الأقاليم «مفتشون» مزودون بسلطات محدودة وضيقة. فكانت ترد إلى فينا أصول الكتب التاريخية الكبيرة وغيرها من المخطوطات ليفحصها الرقباء وهم الذين تعسفوا عند تأدية مهمتهم، فلم يتورعوا عن «تصحيح» كتابات ومآثر «دانتي». كما منعت الرقابة نتاج طائفة من أعلام الفكر المعاصرين الطليان من طراز جيطانو فيلا نجييري
Gaetano Filangieri
فمنعوا كتابه عن «علم التشريع»
2
من التداول وشوهوه في أقسام منه، كما صادروا القصائد المفجعة التي ندد بها الشاعر الكونت فكتور ألفييري
Vittorio Alfieri
بالملكية والطغيان على السواء، ولم تكن هناك صحف سياسية ما عدا جريدة «غازيتة» ميلان وجريدة البندقية، وكانت تشرف على إصدارهما الحكومة، وفرض على المملكة «لمبارديا فينيشيا» نظام للبوليس لم تفلت صغيرة ولا كبيرة من حبائله، وكان يتكلف سنويا حوالي خمسة الملايين ليرة، وارتهن مصير الأفراد بما يمكن أن يساور البوليس من سلوك بشأنهم، فلم يكن يتم تعيين أحد أو إسداء خدمة إلا بعد أن يقدم البوليس تقريرا شاملا عنه، فانبث العملاء والجواسيس في كل مكان، وتدخلوا في حياة الأفراد، وقاسى المواطنون هؤلاء من صلف الموظفين وعمال الحكومة وكبريائهم وغطرستهم، وجهلهم وتدخلهم في شئونهم، ولم يكن هؤلاء المواطنون الطليان قد نسوا نوع المعاملة التي لقوها على يد الإدارة الفرنسية، وهي التي اتسمت أعمالها بالسرعة والتسامح، والقدرة على التكيف حسب الظروف والأحوال، حتى لقد اضطر «مترنخ» نفسه إلى تحذير الإمبراطور من مغبة السياسة التي جرت عليها النمسا في لمبارديا فينيشيا، فكتب: «تعلمون يا صاحب الجلالة، أن التباطؤ في تصريف الأمور، وتأجيل الفصل منها، وما يقال عن رغبتنا في جرمنة المقاطعات الإيطالية جرمنة تامة، والطريقة التي يجرى بها تأليف المحاكم، وما يحدث يوميا من تعيين النمسويين لملء وظائف القضاة وغيرها من الوظائف العامة، إنما هي جميعها أسباب لاستفزاز الناس وإثارة غضبهم بصورة مستمرة،؛ حتى إن ذلك ليلغي كل تلك المزايا التي تجنيها هذه البلاد «لمبارديا فينيشيا» من حكومتنا بها، إذا قيست هذه الحكومة بغيرها من حكومات الدول الإيطالية الأخرى.»
ولم يكن الحال في دوقية بارما بهذه الدرجة من السوء، فقد كانت الإرشيدوقة ماري لويز صاحبة الحكم بها، ذات كياسة ورقة ولها ميول طيبة، فكان بفضل حكومتها أن استقامت مالية بارما، وأقيمت بالدوقية المباني الفخمة، وتأسس بها نظام واسع للتربية والتعليم، وقويت العدالة. على أن ماري لويز خضعت خضوعا كليا لإرادة النمسا، إما بسبب أنها نمسوية، تدفعها صلات القربى (وهي ابنة الإمبراطور فرنسيس «فرنسوا» الثاني) إلى ذلك، وإما لأنها تريد رعاية مصالحها الخاصة. أضف إلى هذا أنها كانت متكاسلة، لا قدرة لها على المثابرة على العمل، ومنغمسة في الملذات، ووقعت دائما تحت تأثير مبعوثي النمسا إلى بلاطها، ومع أن أحد هؤلاء الكونت ألبرت فون نايبرج
Neipperg
الذي لم يلبث أن تزوج منها، كان ذا أثر طيب على ماري لويز، فقد خلفه رجل ضيق الفكر، لا هم له إلا الغنى السريع، هو البارون وركلاين
Werklein ، سرعان ما تلاشت تحت نفوذه كل آثار الحكومة الهادئة والطيبة في السنوات الأولى، وهكذا صار أهل بارما يقاسون الأمرين من طغيان البوليس ومؤامراته على حريات الأفراد والجماعات، ومن جشع موظفي الدولة المرتشين، ثم من مساوئ حكم فاسد يقوم على العسف والظلم والجهل والتعصب الديني.
وفي مودينا، ومن مبدأ الأمر كان الناس أكثر تعاسة، عندما كان حاكمهم فرنسيس الرابع طاغية من طراز «سيزار بورجيا» صاحب السمعة السيئة في تاريخ إيطاليا، ولكن دون أن يكون متمتعا بالشجاعة وقوة الإرادة، والشخصية، وهي الصفات التي كانت لهذا السياسي الداهية، فكان فرنسيس صاحب ذكاء بقدر معين، ولكنه كان صاحب أطماع لا حد لها، وكبرياء شامخة، كما كان صاحب قسوة بالغة، سهل عليه بسبب هذا كله أن يعتبر السلطة طغيانا وحكما استبداديا، ومنذ أن اعتلى العرش لم يتنكب عن السير في غير الطريق الذي رسمه لنفسه، فمنح رجال الدين (الأكليروس) والنبلاء امتيازات عديدة، وهما الطبقتان اللتان يعتمد عليهما العرش، وإنما في نظر «الشرعيين»؛ أي أصحاب الحقوق المشروعة في الملك، الذين أعيدت عروشهم إليهم بعد سقوط نابليون، وألقى فرنسيس الرابع كل القوانين والمرسومات التي صدرت بعد سنة 1791، ثم سلك في حكومته طريق السلب والنهب - سلب ونهب رعاياه، فأنفق من هذه الأموال «المنهوبة» قسما كبيرا على الأديرة، ثم إنه عهد بالتعليم إلى اليسوعيين (الجزويت)، وصار يضطهد اليهود، حتى حرم هؤلاء في عهده من حقوق المواطن، وجرد القضاء من كل سلطاته، حتى صار القضاء موضع سخرية كبيرة. ومع أنه قام ببعض المشروعات التي كان يهدف بها إلى إشباع نزواته، مثل حب التظاهر والمباهاة، وذلك بإقامة نظام لبيع الغلال إلى الفقراء بأثمان مخفضة، وعمل الترتيبات للعناية بالصم والبكم والمعتوهين، ثم الانكباب على تشجيع الآداب والعلوم والفنون، فقد كانت هذه كلها مآثر لا تلبث أن تزول قيمتها إذا قيست بالطرائق والوجوه التي كان ينفق فيها فرنسيس الرابع الأموال التي حصلها سنويا من أهل دوقيته، وقد بلغت هذه ثمانية ملايين ليرة، عندما كان القسم الأكبر منها تمتلئ به خزائنه الخاصة، ويجرى الإنفاق مما تبقى منه على البوليس، والجواسيس والسجون؛ ولذلك لم يكن موضع دهشة، أن يكتب من وقت مبكر (1817) القومسيير النمسوي روفيجو
Rovigo
في تقرير بعث به إلى فينا عن الحالة في مودينا، أن بالبلاد موجة من التذمر شديدة، وأن عددا كبيرا من الأهلين يودون رجوع «النظام» السابق؛ أي تحت السيطرة الفرنسية.
وفي تسكانيا قامت حكومة مستبدة ولكن من نوع الحكومات المحبة للخير، وذلك أن الأسرة الحاكمة البائدة، من آل لورين
Lorraine
جريا على تقاليد الحكم الهين في هذا الإقليم، حاولت تعزيز مركزها باتباع سياسة «متساهلة»، تبغي التهدئة والتلطيف بدلا من إهاجة النفوس واستفزاز الشعب، وتعمد إلى وسائل الحيلة والمكر لنيل مآربها بدلا من سلوك طريق الضغط والإرهاب والظلم، وكان غرض الحكومة أن تتحول القوى الذهنية والفكرية من السير في طريق محفوف بالأخطار التي تتهدد الدولة، فتسلك طريقا تفيد منه الدولة، وذلك باستخدام هذه القوى الذهنية والفكرية في مشروعات تعود بالنفع المادي على أهل البلاد، وتساعد على تحسين أحوال معيشتهم، وعلى ذلك، صار العجز الذهني أو القدرة الذهنية المتوسطة طابع الدولة الراجعة. حتى لقد صار يشكو جينو كابوني
Gino Capponi - أحد أعلام الفكر المعاصرين - «من تلك الكآبة العميقة التي خيمت على العقل وحكمت عليه بالبطالة والكبح.» وهكذا قام في تسكانيا نوع من الاستبدادية «الأبوية» كان من المتعذر محاولة هدمها؛ فتدخلت في حياة الأفراد، ومن كل نواحيها طبقة كبيرة من الموظفين، الذين اتصفوا بالجهل، والعجرفة، والذين قضوا أوقاتهم دون عمل، وإن عملوا سببوا المتاعب للناس، ولقد عرف هؤلاء الموظفون باسم السادس عشريين
Sedicini ، كما لو كان استلامهم لمرتباتهم في اليوم السادس عشر من كل شهر هو أهم الوظائف التي يؤدونها شأنا. ولقد كان الجيش على قدر عظيم من العجز وقلة الكفاءة، مثله في ذلك مثل «البيروقراطية» الحاكمة، فالجيش لم يكن قوة يعتد بها لصغر حجمه من جهة، ولانعدام النظام به، أو أي شعور بالاحترام الذاتي، أو أية روح محاربة. حتى إن الجنود كانوا يتنادون فيما بينهم باسم «الفيران»، وأما رئيس الوزراء في تسكانيا وهو الكونت فيكتور فوسومبروني
Fossombroni ، فكان خير من يمثل هذه الحكومة؛ شديد الذكاء، متشككا في قيم الأشياء والحياة، تعمد الكسل والتراخي، حتى صار عاجزا عن الإتيان بأي نشاط ذهني، أو في ميدان العمل؛ فلم يكن له من هدف إلا الحياة الطويلة الناعمة الهينة المرحة.
وفي بيدمنت، بقي الناس على ولائهم للأسرة الحاكمة القديمة، فقوبل آل سافوي عند عودتهم من المنفى بالتهليل والترحيب، وكان انتهاء الحكم الفرنسي من بيدمنت في (20 مايو 1814) وعندئذ شهدت بيدمنت موكب هؤلاء الأمراء القدامى يدخل إلى تورين؛ ليستأنف الحكم بها. فيصف أحد أعلام الفكر الطليان في هذا العهد ماسيمو دازيجليو
Massimo D’azeglio
وكان يبلغ السادسة عشرة وقتئذ، وأحد أفراد الحرس المدني الذي اصطف لتحية الملك الراجع، فيكتور عمانويل الأول؛ يصف عودة هذه الأسرة الحاكمة التي طال انتظار البلاد لها، فيقول: «لقد كنت في الحرس في ميدان كاستللو،
3
وإني لأذكر تماما وبكل وضوح منظر الملك وضباطه وحاشيته، لقد كانت ملابسهم من الطراز القديم، ويكاد يبدو غريبا لدرجة تدعو للسخرية؛ لأنهم كانوا يستخدمون المساحيق، وتتدلى من رءوسهم الضفائر، ويرتدون قبعات يرجع عهدها إلى أيام فردريك الثاني، ولكن في نظري وفي نظر كل الحاضرين، كانوا يبدون في أجمل بزة، وفي خير ما يمكن أن يطلب منهم ارتداؤه حسب الأصول، ولقد قوبل الأمير الطيب بالتهليل الكبير والطويل، الأمر الذي تأكد بفضله، لدى الأمير مقدار المحبة والعطف اللذين يكنهما له رعاياه في تورين والذين تفيض قلوبهم ولاء له.» ومع ذلك فإنه سرعان ما استبدل بهذا الحماس الفياض، شعورا بالتذمر، بمجرد أن استقر بالملك المقام في عاصمة ملكه القديمة، فقد أعلن فيكتور عمانويل أنه يشعر كمن أفاق من نوم استمر طيلة الخمس عشرة سنة السابقة، وبدأ في التو والساعة يعامل رعاياه معاملة رجل أفاق من هذا السبات الطويل، متناسيا كل ما وقع من أحداث وطرأ من تغييرات تحت السيطرة الفرنسية، أثناء السنوات العديدة التي قضاها فيكتور عمانويل مبعدا عن العرش في المنفى، فاستصدر قرارا في 21 مايو 1814، صارت له شهرة في تاريخ «الحكومات الراجعة» والرجعية إطلاقا في السنوات التي تلت سقوط الإمبراطورية النابليونية. أما هذا القرار فقد نص على ضرورة خضوع رعاياه للقوانين الملكية الصادرة في سنة 1770، وتلك القوانين والمراسيم التي استصدرها أسلافه قبل 23 يونيو 1800، ونبذ كل ما عدا ذلك من القرارات والقوانين، فكان معنى ذلك؛ تجاهل كل تلك الإصلاحات التي ظفرت بها البلاد أيام السيطرة الفرنسية، وإعادة تأسيس نظام الحكم في العصور الوسطى القائم على تمتع الطبقات بالامتيازات الواسعة، وحرمان البعض الآخر منها، والتضييق على الناس، وتجريدهم من حرياتهم وحقوقهم.
ولم يلبث أن انقسم الأهلون إلى طوائف «الأتقياء والمطهرين» الذين لم يتعاونوا مع الفرنسيين، ورفضوا ألقاب الشرف، أو أن يشغلوا الوظائف العامة في عهد سيطرتهم، ثم فريق «الملوثين، وغير المطهرين» الذين تعاونوا مع الفرنسيين، وكان «المطهرون» وحدهم هم الذين وقع عليهم الاختيار الآن لملء الوظائف. ولما كان هؤلاء من طراز لا يبعث على الاحترام، فقد امتلأت الوزارة والمحاكم والجيش، ومختلف المصالح بأناس متوسطي الذكاء، أو من الجهال الذين لا خبرة ولا دراية لهم بتصريف الأمور، والذين كان كثيرون منهم تنقصهم الأمانة والاستقامة، وأما «الملوثون أو غير الأتقياء» فإنه وإن لم تتخذ ضدهم إجراءات انتقامية - لأن الانتقام لم يكن من شيمة الملك الطيب - فقد كانوا يعانون قسوة أدبية وذهنية عظيمة، تكاد تقرب على حد قول شيزار بالبو
Cesare Balbo
في شدتها من قسوة الاضطهاد ذاته والتعذيب البدني. على أن أهل بيدمنت بالرغم من أن آمالهم قد تبددت في عهد الملكية الراجعة في بلادهم، قد استمروا على ولائهم لآل سافوي الأسرة الحاكمة القديمة. ولم يمنع هذا الولاء الطبقات المثقفة على وجه الخصوص من إظهار نفورهم واشمئزازهم من «بلاط» بقي نهبا، يتنازع النفوذ بين أرستقراطية «رجعية» متخلفة، وبين أعوان الكنيسة من طبقة رجال الدين الموصوفين بالتعصب وضيق الأفق، ولم يتردد هؤلاء المثقفون في إظهار تبرمهم بهذا النظام، ونفاذ صبرهم من ناحيته، ولقد كان ذلك قمينا باسترعاء انتباه الحكام في بيدمنت، إلا أن رعاياهم قد قطعوا شوطا ملموسا في طريق التقدم؛ بحيث قد صاروا الآن متيقظين تمام التيقظ، ولو أن حكامهم أنفسهم قد أجازوا لأنفسهم أن يناموا في سبات عميق.
ولقد كانت أسوأ الحكومات الراجعة إطلاقا في إيطاليا، حكومة الولايات البابوية، ومملكة نابولي (الصقليتين). أما عن الولايات البابوية فقد اتفق الرأي، حتى بين الذين لم يكونوا معادين للبابوية، على أن حكومتها كانت في أساليبها ونتائجها أشد تعسفا وسوءا من حكومة النمسا ذاتها في لمبارديا فينيشيا. لقد أقامت النمسا حكما استبداديا، صارما وعنيفا لدرجة القسوة البالغة، ولكن هذا الحكم كانت تنظمه طائفة من القوانين الثابتة، ويستند على نظام مالي لم يصعب على الأهلين احتماله في لمبارديا فينيشيا بسبب رخائهم، ولكن الحال كان على خلاف ذلك في الولايات البابوية، حيث أقامت الكنيسة حكومة أشد طغيانا، وأفتك شرا من غيرها عندما كانت تسودها الفوضى، وتغشى الشراهة الضارية أبصارها، فيبتدع نظاما تعسفيا للضرائب ينوء تحت عبئه الأهلون الذين عاش سوادهم الأعظم في عوز وفاقة، وبين عامي 1818 و1848 حسب شهادة أحد المعاصرين آتو فانوتشي
Atto Vannucci
انعدم كل أثر للعدالة في روما، فكان القضاة فاسدين مرتشين، ولم يكن المرء يأمن على حياته أو ماله، تكفي إيماءة من أحد الأساقفة للقبض على الأفراد، وتتجسس ثلاث قوات من البوليس على حياة الناس، في حين يجري العمل بنحو ثمانين قانونا، كانت جميعها متضاربة ومتناقضة وتتسم بالوحشية، وبقيت الإدارة مزيجا من المصالح والمنظمات التي ينقصها التجانس والتنسيق، والتي تسود بها الفوضى، ولقد وصف روما كذلك «ماسيمو دازيجليو» في سجل ذكرياته
4
بأنها خليط من الغش والخداع والانتهازية، ومراعاة الخواطر والجبن. حتى إن «دازيجليو» كما قال: كان يحمر وجهه خجلا أمام أصدقائه الأجانب كلما فكر أنه إيطالي. لقد كانت عودة الحكم البابوي إلى هذه الولايات سببا في تقوية سلطان البابا، وزيادة تمتع رجال الدين بالإعفاءات العديدة وإعادة حبس الأملاك ووقفها على الكنيسة، ثم استئناف أساليب التعذيب الوحشية القديمة. بل لقد بلغت حال الأهلين في هذه الولايات البابوية درجة من السوء، جعلت مبعوث بيدمنت لدى الحكومة في روما، يكتب إلى رئيسه في تورين: إن من المنتظر حدوث أزمة أساسية وحادة إذا استمرت الأمور على ما هي عليه في روما، إن النتيجة الأكثر احتمالا لهذه الأزمة التي من المعقول توقع حدوثها، هي أن المدينة العظيمة سوف تصبح عاصمة كنسية وحسب، فلا تحتفظ بغير صورة أو شبح سلطانها الزمني السابق.
أما في نابولي فقد اعتلى ملكها فردنند الرابع العرش مرة ثانية، وتملأ فمه - على حد قول بعض المؤرخين - الوعود الكاذبة، والأقوال الباطلة التي كان لا ينوي بتاتا الارتباط بها. فهو كان قد أصدر من مسينا في 20 مايو سنة 1815 - بمناسبة عودته إلى العرش، بعد هزيمة «مورا» في «تولينتينو» في 2-3 مايو - أصدر فردنند منشورا وعد فيه بالعفو العام، والإبقاء على الإصلاحات التي حصلت في عهد الملكيين الفرنسيين السابقين؛ جوزيف بونابرت، ويواكيم مورا، واحترام حريات الأفراد وحقوقهم المدنية، وتأييد حق الملكية، واستقلال القضاء، وفتح باب التوظف للجميع، ولكن فردنند الرابع (الأول) الذي لم يكن من شيمته احترام وعوده، كان يتفاوض في الوقت نفسه مع الإمبراطور النمسوي لإبرام معاهدة تحالف، اشتملت على مادة سرية تنص على أنه: لما كانت هذه الارتباطات من أجل السلام الداخلي في إيطاليا، والتي أبرم بسببها الطرفان المتعاقدان هذه المعاهدة، تحتم على كل منهما أن يحفظ دولته ورعاياه من وقوع رد فعل أو حصول مستحدثات سريعة وبدع محفوفة بالمخاطر، قد يترتب عليها قيام اضطرابات جديدة؛ لذلك تم الاتفاق بين الطرفين المتعاقدين على أن ملك الصقليتين عند إرجاع حكومته في مملكته، سوف لا يجيز أي تغيير لا يكون متفقا مع أنظمة الملكية القديمة، ومع المبادئ التي قررها «الإمبراطور النمسوي» لإدارة شئون الحكم في مقاطعاته الإيطالية. وقد أبرمت هذه المعاهدة على نحو ما مر بنا في موضعه في 12 يونيو 1815، وعلى ذلك فقد نفذت في مملكة نابولي المبادئ التي قامت عليها الحكومة في أملاك النمسا، وأما الأداة التي استخدمت في تنفيذ هذه المبادئ فكان الأمير كانوسا
Canosa
أحد وكلاء الملكة كارولين (زوجة الملك فردنند) سابقا، ومن الذين أولوا رعايتهم اللصوص وقطاع الطريق، والعدو اللدود لكل تقدم ولكل الآراء الحرة، ومع ذلك فقد أمكن حتى في هذا الوقت أن يشغل وظائف الدولة الهامة حفنة من الأكفاء المقتدرين، الذين يعزى إليهم الفضل في صدور طائفة من القوانين الجديدة، والتي تدل على مهارة كبيرة في علوم التشريع والقانون، ولكن لم تكن هذه القوانين تفيد شيئا في دولة يوصم موظفوها الموكول إليهم تنفيذ هذه القوانين الحكيمة بالرشوة والفساد، وبصورة أثارت اشمئزاز مبعوثي الدول وممثليها لدى البلاط النابوليتاني، فكان المسئولون عن الأمن يحمون قطاع الطرق واللصوص من طائلة القانون، وكان هؤلاء الأخيرون يبسطون كذلك حمايتهم الشخصية على هؤلاء المسئولين، وتأثر القضاة في أحكامهم بالخوف من ممثلي السلطة التنفيذية من جهة، وبمقدار الرشاوى التي كانوا يأخذونها من المتقاضين، وصفوة القول: أن الانحلال كان يسود الحياة «الحكومية» في مملكة نابولي، وينتشر فيها الفساد بالدرجة التي جعلت بعد جيل من الزمان رجلا مثل جلادستون
Gladstone
الوزير الإنجليزي المشهور، يصف حكومة البربون في نابولي بأنها كانت إنكارا لكل ما هو قدسي.
5
صعوبات الحركة القومية
ولم تكن السيطرة النمسوية وحدها العقبة الكأداء في طريق الحركة القومية والوحدة الوطنية، التي ما كان يمكن أن يظفر بها الإيطاليون إلا إذا قضوا على هذه السيطرة النمسوية، وطردوا النمسا بقضها وقضيضها من إيطاليا. فلم تكن قوى الترابط والتماسك بين «الوحدات السياسية» التي جزئت إليها إيطاليا، ذات أثر كاف لخلق حياة عامة في شبه الجزيرة الإيطالية.
فلم تكن هناك أولا، حياة اقتصادية مشتركة عندما ارتكزت في جوهرها الحياة الاقتصادية في إيطاليا على الزراعة؛ أي على النشاط «الريفي» الذي كان معناه تدعيم الحياة المحلية وتقوية أركانها في الأقاليم المختلفة. فكان لكل جهة سوقها الخاص بها، منعزلا عن الأسواق الأخرى، ويفصل كل إقليم عن الآخر حاجز من الضرائب الجمركية المفروضة لحماية المصالح المحلية، أو التي كان الغرض منها كذلك؛ منع دخول منتجات الأقاليم الأخرى إطلاقا، ولم تكن بإيطاليا «عملة» أو نقد مشترك، أو موازين ومقاييس واحدة معمول بها في كل «الدويلات» والإمارات. وتعطيل نشاط المصارف في كل مكان نتيجة للقيود الثقيلة التي فرضتها القوانين عليها. فانعدم بسبب ذلك كله وجود الصناعات، اللهم إلا إذا استثنيت بعض صناعات نسج الحرير في لمبارديا وبيدمنت، ولم يوجد أي نشاط تجاري كبير خارج جنوه وليقورنة وميلان، ولم يكن لدى إيطاليا ما تصدره إلى الخارج سوى الحرير الخام من الشمال، وزيت الزيتون من جنوه ولوقا ونابولي، والكبريت من صقلية. أما مجموع الصادرات من كل «الدول» والإمارات الإيطالية وقتئذ، فلم تكن تزيد قيمتها عن حوالي 450 مليون ليرة، وأخيرا لم يوجد بإيطاليا بطبيعة الحال أي جهاز حديث للاقتصاد. فلم يكن حينئذ في مقدور هذه الحياة الاقتصادية المحدودة والقاصرة، أن تنشئ علاقات قوية تقوم على مصالح مشتركة بين مختلف الأقاليم، كما أنه لم يكن من طبيعة هذه الحياة الاقتصادية إتاحة الفرصة ليجد المتعلمون والمجتهدون الذين يريدون العمل المثمر منفذا لنشاطهم.
وكما كانت هذه الحياة الاقتصادية من عوامل التفكك والعزلة الإقليمية في إيطاليا، فقد كان للحياة الاجتماعية أثر في هذه الناحية لا يقل عن ذلك شأنا، عندما كان سواد الأهلين في إيطاليا من «الفلاحين»، أو كان حوالي 60٪ على الأقل من الطليان يعملون في الزراعة، ويعيش هؤلاء في تأخر ملحوظ؛ لتضافر عوامل عديدة على النيل من هذه الطبقة وإضعافها. فهناك مرض الملاريا منتشر في بعض السهول الساحلية، وبحيث صارت هذه الجهات إما صحراوية أو قليلة السكان جدا. ثم استمر العمل منذ قرون لإزالة الغابات وهدمها، وقلع الأشجار من الجبال، وتعرضت تربة الأرض لفعل عوامل التعرية، ولم يتبع الطليان نظاما زراعيا مدروسا (أو فنيا)، فكان محصول الحبوب متوسطا أو ضعيفا، وبقيت الأساليب البدائية متبعة في زراعة الكروم وصنع الأنبذة، ولم يعرف المزارعون المحاريث الكبيرة، بل استمروا يستخدمون المحاريث الرومانية القديمة، وصفوة القول أن أقاليم قليلة زراعية فقط كانت على جانب من الثراء (القليل)، وتعرف شيئا عن أساليب الزراعة الحديثة، وذلك في المراعي الجميلة، وحقول الأرز في لمبارديا وفي بيدمنت، وبعض الزراعات الصغيرة في حوض أرنو
Arno (في فلورنسة)، كما كانت زراعة الزيتون وأشجار البرتقال متقدمة في عدد من الجهات، وكان في لمبارديا ومملكة نابولي وفي بيدمنت أن انتشرت الملكيات الصغيرة، وكانت هذه أصحابها من التجار في المدن، أو أنها كانت بقدر من الضآلة يجعلها عاجزة عن إعاشة أصحابها، وأما الفلاحون سواء كانوا ملاكا أو مستأجرين، فقد عاشوا على وجه العموم عيشة مناسبة وإن كانت رتيبة؛ أي تسير على نهج مألوف لا يتغير، ولكن السواد الأعظم - أي من غير هذه الطبقة بذاتها - قد عاشوا في بؤس وضنك، فهم العمال الزراعيون الذين قام أودهم على الإحسانات وصدقات الجمعيات التي عرفت باسم «جمعيات المحبة والإحسان» لإسداء المعونة، والتي كانت جميعات «كنسية»؛ أي مؤلفة من القساوسة ورجال الدين، كما تكفلت «المستشفيات» بهذا الواجب أيضا، ولم تزد نسبة العمال الصناعيين على 15٪ من عدد السكان في إيطاليا، وكانت لا تزال «الصناعة» في إيطاليا عبارة؛ إما حرفية أو مهنية، في المصانع والورش، وإما منزلية، وكانت حياة هؤلاء «الصناع» محتملة بفضل اعتدال المناخ، ولقلة مطالب السكان وحاجاتهم عموما، ولتعودهم على العيش في اعتدال في المأكل والمشرب إلخ، وكان هؤلاء «العمال الصناعيون» من الذين تمتعوا بقسط كبير من الذكاء، ونال أكثرهم قدرا لا بأس به من المعرفة، ولكن انعدم من بينهم أي شعور «طبقي»؛ أي بأنهم يؤلفون طبقة قائمة بذاتها منفصلة في كيانها عن سائر الطبقات في المجتمع، ولقد تعذر كسبهم إلى جانب النشاط السياسي إلا بعد سنة 1830، وذلك على يد جمعية «إيطاليا الفتاة» التي سيأتي الكلام عنها في موضعه.
وفي إيطاليا لم ينشأ بين الطبقات الأخرى أي شعور بأن هناك «واجبا اجتماعيا» نحو سواد الشعب، الذي عرفنا أنه يتألف من الفلاحين بنسبة 60٪ والصناع بنسبة 15٪، فلم تسترع الأحوال التي عاش فيها هؤلاء انتباه أهل الطبقات الأخرى إلى إدراك أن هناك «مشكلة اجتماعية» تتطلب معالجة وحلا. فلم يكن «للمسألة الاجتماعية» مكان في تفكير قادة الرأي الأحرار، الذين قامت مبادئهم على الحرية الكاملة في شئون الاقتصاد ، ولكنهم أداروا ظهورهم لهذه المسألة، فبقي سواد الشعب بعيدا عن مسرح السياسة، ولم يقم بدور سياسي إلا في الحالات التي غلبه البؤس فيها، فاستفزه اليأس إلى الثورة «الوحشية».
وإلى جانب هذه الكتلة الشعبية (الراكدة)، أو التي رضيت بالعيش في الظروف التي ذكرناها دون أن تحرك ساكنا، ضم إليه المجتمع الإيطالي كتلة ضخمة من القساوسة ورجال الدين، بلغ عددهم (150) ألفا، وتمتعوا بنفوذ عظيم على الأهلين، الذين عرفوا بالتمسك بأهداب الدين، واشتهروا بالتعلق بالمعتقدات الباطلة والأوهام، وانتمى القساوسة وصغار رجال الدين إلى طبقات الشعب العادية، ولكن كبارهم والذين تألفت منهم الهيئات الحاكمة والإدارية في الكنيسة، كانوا من بين الطبقات العليا في المجتمع، ويفسر انتماء القساوسة إلى الطبقات الشعبية، لماذا صار كثيرون من هؤلاء من عداد الوطنيين والأحرار في إيطاليا، وهم سوف يساهمون في الحركات الثورية، وعلى وجه الخصوص في لمبارديا وفي صقلية، وكذلك فقد صار لموقف «الكنيسة» من الحركة القومية والوطنية، ولموقف القساوسة ورجال الدين أثر بالغ في تطور هذه الحركة، ومع ذلك فقد تمتع الأكيروس في إيطاليا بكل الامتيازات، ونجم من وجود هذه الطبقة الكنسية كل المساوئ المرتبطة في كلا الحالين «بالنظام القديم»، وكان ضروريا لذلك أن يتجه النشاط السياسي في الولايات البابوية، وأن يتبع الكرسي البابوي سياسة «رجعية» تماما، تهدف إلى دعم الامتيازات التي تتمتع بها «الكنيسة»، وتأييد النفوذ الذي لرجال الدين في إيطاليا، وكان هذا النفوذ على وجه العموم ضد كل الآراء والمبادئ الحرة والقومية، واستمر الحال على ذلك حتى حدث «الانقلاب» الخطير الذي تسبب من اعتلاء عرش البابوية، البابا بيوس التاسع، وهو البابا الذي أدار دفة السياسة الكنسية في طريق الآراء الجديدة، فكان هذا التوجيه من العوامل الحاسمة التي ساعدت ولا شك على تقوية الحركة القومية «والدستورية» الحرة في إيطاليا بعد سنة 1846.
ولم يكن بإيطاليا «أرستقراطية عقارية» تستطيع الهيمنة على سواد الشعب وتوجيهه، فقد وجدت فقط الممتلكات الشاسعة التي تملكها أسرات معينة في كلابريا (بالطرف الغربي من الحذاء الإيطالي) وفي صقلية، ولكن الملاك لم يقيموا في أملاكهم، فلم يكن لهم أي نفوذ على الأهلين بهذه الجهات، ومع ذلك فقد شهدت إيطاليا عددا عظيما من النبلاء موزعين في أنحائها؛ الكونتات خصوصا في الشمال، والأدواق والأمراء في الجنوب، وحتى إن ألقاب النبل هذه فقدت قيمتها كثيرا بسبب الأعداد الضخمة من أولئك الذين تمتعوا بها، ولقد كان في ميلان وحدها تقريبا أن عاشت أرستقراطية على درجة من المقدرة، سرعان ما صار لها نفوذ ملموس في كل أنحاء لمبارديا، كما وجدت في بيدمنت أرستقراطية إقطاعية وعسكرية كان لها كذلك أثر معين في حياتها، ولكن هذه الأرستقراطية البيدمنتية بقيت على «خشونتها»، فلم يتهذب أعضاؤها أو تنتشر المعرفة والتنور بينهم بدرجة كافية، ولقد كان في فلورنسة أن عاشت أكثر الأرستقراطية تهذيبا في إيطاليا. أما هؤلاء الأرستقراطيون عموما فقد عاشوا في المدن عيشة «ضيقة»؛ إذ لم يكونوا أثرياء بالدرجة التي يتطلبها العيش في أسلوب متفق مع مراتبهم النبيلة، فلم تختلف حياتهم عن حياة أهل الطبقة المتوسطة (البورجوازية) العالية. على أن هؤلاء الأرستقراطيين كانوا شديدي التمسك بالامتيازات التي لهم، وذلك لسبب جوهري هو أن كيانهم نفسه - أي قدرتهم على العيش والحياة - كان رهنا ببقاء هذه الامتيازات، وعلى وجه الخصوص؛ ذلك الامتياز الذي أعطاهم الحق في شغل وظائف الحكومة، واستشرى الفساد بينهم، وتطرق الانحلال إلى صفوفهم، خصوصا في روما والبندقية ونابولي. ولم يكن مستغربا لذلك أن يبرز من بين هذه الطبقة الأرستقراطية جماعة من النبلاء الذين امتزجوا مع البورجوازية في حركات التحرير القومي وتأييد المذاهب الحرة. من هؤلاء: سانتا روزا
Santa-Rosa ، وباندييرا
Bandiera ، ودازيجليو، وكافور، وغيرهم كثيرون.
على أن أهم الطبقات إطلاقا التي تألف منها المجتمع الإيطالي، والتي كانت بمثابة «القوى الاحتياطية» التي اعتمدت عليها إيطاليا في تحقيق وحدتها القومية والوطنية وتأييد المبادئ الحرة (الديموقراطية)، كانت الطبقة المتوسطة (البورجوازية).
ولقد كان في عهد السيطرة الفرنسية، أن بلغت هذه الطبقة «البورجوازية» ذروة رفعتها، عندما أمدوا «الحكومة» بالموظفين والضباط والمهندسين، وكان من بينهم الكتاب والمفكرون، ولقد غذت الجامعات من الناحية الذهنية هذه الطبقة، حيث زخرت إيطاليا بالجامعات التي بلغ عددها وقتئذ أربعا وعشرين، يؤمها حوالي الأربعة أو الخمسة عشر ألف طالب. أما أكبر هذه الجامعات، فكانتا اثنتين؛ إحداهما: في بولونا، والثانية: في نابولي، وتليهما في المرتبة الثانية: الجامعات في تورين، وبادوا، وبافيا، وروما ... إلخ وأمسحت الفوارق الطبقية من هذه الجامعات، فجلس شباب النبلاء مع شباب البورجوازية جنبا إلى جنب، وتألف من مجموع الأساتذة والطلاب طائفة من الناس كثيرا ما خضعت لنزوات أهوائها، تهزها الأحداث سريعا، وتعمد إلى العمل والنشاط عند أول بادرة، واستمتع الأساتذة بنفوذ عظيم على طلابهم، وأمد الأساتذة والطلاب جميعا الحركة القومية والوطنية بالعناصر والقوى اللازمة لقيامها ولبقائها. فكانت جامعة بولونا مركز الحركة الثورية في سنة 1831، وكان الأساتذة والطلاب في جامعة بيزا
وجنوه وبافيا أول المتطوعين في ثورات سنة 1848.
ولقد اضطر هؤلاء الطلاب عند تخرجهم إلى الاشتغال بالطب أو بالقضاء؛ ليحصلوا على لقمة العيش في مجتمع لم تتوفر فيه أسباب النشاط الاقتصادي، وجعل الالتحاق بوظائف الحكم والإدارة مقصورا على أهل الطبقة الأرستقراطية، كما كان الجيش مغلقا في وجوههم بسبب قصر الترقيات فيه على أبناء الأرستقراطيين؛ أي النبلاء وحدهم. أما الباب الآخر لكسب العيش، فكان الاشتغال بالأدب، وعلى وجه الخصوص «بالصحافة»، ومع ذلك فقد اعترضت صعوبات كثيرة هذه الصحافة؛ بسبب الاصطدام المستمر مع «الرقابة»، ولقد كانت الرقابة صارمة وقاسية لدرجة تأثرت بها حياة الطباعة والنشر (والحياة الذهنية تبعا لذلك) في إيطاليا، فلم يصدر خلال أربع سنوات بتمامها بين 1831، 1835 سوى (2831) مطبوعا فقط في كل أنحاء البلاد، كانت أكثرها مع ذلك مجرد «طبعات» معادة.
ولقد قاسى أهل هذه الطبقة المتوسطة، التي تألفت داخل جدران الجامعات من ظروف الحياة السياسية السائدة والأحوال الاجتماعية، فكان عناؤهم شديدا من «أنظمة» عملت الحكومات الراجعة على دعمها؛ فشعروا بالمرارة، واحتدم في نفوسهم الغيظ من نوع الحياة التي أوجدتها هذه «الأنظمة»، فكان من المنتظر أن تقوم «الثورة» عند حدوثها على أكتافهم؛ الثورة التي أرادوا منها إزالة هذه الأنظمة التي ضمنت «السيطرة النمسوية» بقاءها، طالما بقي النمسويون أصحاب السلطان ويفرضون حكما استبداديا على الأهلين في كل أنحاء إيطاليا.
وهكذا لم يكن المجتمع الإيطالي يضم إليه العوامل أو القوى التي تجعل منه مجتمعا واحدا ذا أغراض مشتركة موحدة، ولكن هذا المجتمع - كما رأينا - كان يحتوي على عناصر وقوى متفرقة، مستمدة من الأحوال السائدة في مختلف جهات شبه الجزيرة الإيطالية، وهي أحوال الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتشابهة، بالرغم من «ظاهرة المحلية» التي كانت لها، والتي كان ممكنا أن تزود هذا المجتمع، بمجرد أن يكتمل الشعور بوجود هذا التشابه نفسه، بنخبة من المفكرين والزعماء الذين يتولون قيادة «الحركة القومية» الوطنية (والدستورية) وتوجيهها.
على أنه مما يجدر ذكره هنا؛ أن المساهمة في «المجالس البلدية» كان فيما مضى الشكل الوحيد الذي اتخذته المشاركة في الحياة العامة بإيطاليا، حتى إذا خضعت شبه الجزيرة لسيطرة الفرنسيين، ألغى نابليون هذه المجالس. ثم حرصت الحكومات الراجعة بعد نابليون على عدم إحيائها، وإعادة تشكيلها، وعلى ذلك فقد تعذر على كل ذلك «الرأي» الذي بدأ يتكون، وكل ذلك النشاط الذهني الذي أخذ يبحث عن منفذ له، أن يجد الأداة التي تمكنه من فعل ذلك، وكان ضروريا أن يقترن هذا البحث ويسفر في الوقت نفسه عن تحطيم النظام القائم، الأمر الذي تسنى حدوثه عند اشتعال الثورات الوطنية لنصرة المبدأ القومي والمذهب الحر.
ولقد كان من الطبيعي أن تستأثر الاعتبارات المحلية باهتمام الأهلين في مجتمع مثل الذي شهدناه، كان موزعا في «جماعات» منعزلة عن بعضها بعضا، ولم يكن يهتم بما يمكن تسميته بالمسائل العامة، والتي كان من المتعذر تولد الشعور بها؛ أي بأن هناك اعتبارات «عامة» تربطها تيارات عامة.
ومع ذلك فقد وجد الإيطاليون في مختلف الدويلات أو الإمارات القائمة بشبه الجزيرة الإيطالية، أنهم إنما يصطدمون بنظام واحد، نظام الحكومة المستبدة، والتي تفاوتت درجات استبدادها، والمساوئ المتولدة منها، بين مكان وآخر فقط، فلم يوجد لدى هذه الحكومات المستبدة رقابة على الطريقة التي تفرض أو تجبى بها الضرائب، ولم يكن الحكام في هذه الدويلات والإمارات مسئولين أمام أي إنسان عن السلطات التي يمارسونها، ولم يكن للأهلين (أو الشعوب) أي صوت «استشاري» فيما يصدر من قوانين ويوضع من تشريعات. وجرد هؤلاء من أية حقوق تكفل لهم حرية الاجتماع، وتشكيل الجمعيات، حتى تلك العلمية أو الزراعية، ولم تكن هناك إدارة أو حكومة «منظمة» إلا في مملكة لمبارديا فينيشيا، وفي بيدمنت، وكان يوجد بهاتين «مجالس إقليمية»، ولو أن هذه لم تكن ذات نشاط وكانت محرومة من كل سلطة حقيقية، وفي كل هذه الدويلات منع نظام الرقابة الصارم الأهلين من المشاركة في أي نشاط سياسي، وتحتم عند الرغبة في نشر كتاب من الكتب أن يحصل الناشر على تصريح أو إذن بالنشر من الرقابة. وتحتم في بعض جهات إيطاليا أن «يأذن» السلطات الكنسية بالطبع، مهما كان نوع الكتب المراد طبعها، حتى ولو كانت هذه تتناول موضوعات اقتصادية. وكان طبع الكتب ونشرها عملية ذات تكاليف باهظة، ويستغرق الحصول على موافقة «الرقابة» على الطبع والنشر زمنا طويلا، وفي حالات كثيرة كان يتعذر «خروج» كتاب من دويلة أو إمارة إلى أخرى، واجتياز فواصل الحدود المحلية. ولم توجد صحافة بالمعنى الصحيح في إيطاليا، وفي سنة 1833 لم يكن في كل إيطاليا متداولا أكثر من مائة مجلة أو جريدة دورية من مختلف الأنواع، ولعل أخطر المثالب والعيوب في الأنظمة والهيئات «الحكومية» في إيطاليا وقتئذ، كانت تلك المشاهدة في نظام القضاء. فانفردت تسكانيا وحدها من بين كل الدويلات الإيطالية بأنها يمكن اعتبارها دولة «حديثة» من هذه الناحية «القضائية»؛ ففي تسكانيا وحدها، كان هناك قانون جنائي مستند على قواعد مستنيرة، وفيما عدا «تسكانيا»، ثم «لمبارديا فينيشيا» لم يكن يوجد بأية دويلة أخرى محاكم على درجة معقولة من التنظيم والكفاية، وقامت المحاكم الاستثنائية في كل مكان، وفي الولايات البابوية على وجه الخصوص، ثم في بيدمنت لحماية مصالح «الكنيسة». ولم يكن يوجد نظام المحلفين إلا في تسكانيا وفي نابولي، وفي تسكانيا وفي بارما وحدهما؛ كانت جلسات المحاكم والإجراءات القضائية علنية، وأما القوانين المعمول بها في كل هذه الحكومات، وخصوصا في الولايات البابوية وفي دوقية بارما ومملكة بيدمنت، فكانت على درجة كبيرة من الخلط والتشويش والتضارب، وأخيرا انتشرت المحاكم السرية في كل مكان لمراقبة أية يقظة سياسية، واستخدمت في هذه المحاكم السرية وسائل التعذيب البدني والأدبي، وكان من أجل اجتثاث كل عناصر الحياة السياسية المحرمة على الشعب، أن اعتمدت الحكومات على جيش كبير من العسس والشرطة والأعوان، الذين اكتظت بهم إيطاليا في هذا العصر، وانتشرت الجاسوسية في المقاهي والمسارح وما إليها، وفي البيوت، وحتى في أماكن العبادة و«الاعتراف».
الجمعيات السرية والكاربوناري
Carboneria
ولقد كان من المتوقع أن يسفر هذا «النظام» المتسم بالرجعية والاستبداد عن نتيجة واحدة؛ النضال ضد المساوئ والشرور المقترنة به، والتي عانى منها الأهلون عناء شديدا، وكان هذا الكفاح هو المسألة الرئيسية التي شغلت الإيطاليين في عهد هذه الحكومات الرجعية، بعد 1815.
ومما تجدر ملاحظته أنه كان كفاحا «محليا»، فلم يكن هناك كفاح في مجهود عام مشترك، ومن أجل إنقاذ إيطاليا من هذه الكوارث التي حلت بها بسبب «النظام» القائم؛ بل كان الغرض من هذا الكفاح إزاحة المظالم «المحلية» التي ناء تحت أعبائها الأهلون في كل إقليم. مما كان معناه أن الفكرة الحرة - بمعنى إنهاء الطغيان المحلي، مبعث الشرور التي نزلت بالأهلين - كانت المتغلبة على أية فكرة «قومية»، وجاءت هذه الفكرة «الحرة» في ترتيب ظهورها قبل الفكرة الوطنية القومية.
ثم إن هذا الكفاح أو النضال «المحلي» حدث متفرقا؛ أي في كل بلد أو جهة منعزلا عنه في البلدان والأقاليم الأخرى. فالمناضلون في دويلة أو إمارة من الإمارات يعملون بمعزل عن نظرائهم في الدويلات الأخرى، ويقصرون جهودهم على العمل في داخل حدود بلادهم؛ أي إنه كان نضالا مجزءا وموزعا، ولم يكن مستطاعا القيام بهذا النضال إلا بواسطة الجمعيات السرية؛ لأنه كان ممنوعا اللجوء لغير ذلك من وسائل، وتعذر اتصال هذه الجمعيات السرية بعضها ببعض، فكان ذلك من أسباب بقاء النضال «محليا»، ولم يمكن إطلاقا تنسيق جهود هذه الجمعيات، وانعدم وجود هذا التنسيق فعلا.
على أن أعضاء هذه الجمعيات السرية كانوا متشابهين في كل مكان قامت به هذه، فهم دائما من البورجوازيين (أهل الطبقة المتوسطة) الأحرار، ومن المثقفين، ومن الضباط ، كما كان من بينهم كذلك عدد من النبلاء الذين تأثروا بالآراء التي جاءت بها السيطرة الفرنسية السابقة، أضف إلى هذا أنه كان لهذه الجمعيات السرية أهداف وأماني واحدة، ولو أنه انعدم وجود حركة عامة جماعية لتحقيق هذه الأهداف والأماني.
ولما كان الغرض المباشر (وهو ما كان يتمثل في هذه الأهداف والأماني) ينحصر في مكافحة المساوئ والشرور «المحلية»؛ أي تلك التي تمخض عنها نظام «لحكم القائم في كل إقليم على حدة»، فقد ضمت إليها هذه الجمعيات السرية عناصر «محلية»، وصار من المتوقع، وعلى نحو ما حدث فعلا أن يسبق العمل المادي أي تفكير نظري، أو وجود غايات ومثل عليا. فتألف نضال الجمعيات السرية من سلسلة من حركات التمرد والعصيان وحبك خيوط المؤامرات، ومحاولة تحريك الأهلين على الثورة، وكان الغرض من كل هذا «النشاط» تحقيق غايات عاجلة، بإزالة المساوئ موضع الشكوى، فلم يشغل الجمعيات السرية التفكير في ابتداع مبدأ عام، أو بث الدعوة لعقيدة سياسية أو وطنية معينة.
وعمدت الحكومات إلى مقابلة حركات «النضال» المتفرقة هذه على أيدي الجمعيات السرية، بحركات مضادة للمقاومة المتفرقة كذلك؛ أي تأسيس الجمعيات المناهضة، مما جعل الجمعيات السرية - من جانب الأهلين المتآمرين على الحكومات، ثم من جانب هذه الحكومات ذاتها ضد هؤلاء المتآمرين عليها - تنتشر في كل أنحاء إيطاليا، وتزيد «النضال» تعقيدا.
ولا جدال في أن تغلغل روح الحزبية بين الطليان، كان من أهم الأسباب التي ساعدت على انتشار الجمعيات السرية، وسهل استمالتهم إلى هذا النوع من النشاط «السري» بفضل الأثر الذي تركه في نفوسهم وفي حياتهم دائما، الانخراط في المنظمات السرية، ولأنهم وجدوا في العمل السري نفسه إرضاء لغريزتهم الثائرة والمكبوتة، والتي تولدت من الخضوع سنوات طويلة لحكم استبدادي ثقيل، ولقد أخذت تنتشر الجمعيات السرية في إيطاليا، عندما بدأت تنهار السيطرة النابليونية في شبه الجزيرة، وانتهت أمجاد تلك الانتصارات العسكرية التي بهرت الإيطاليين، وبعثت الآمال من جديد في إمكان التحرر من هذه السيطرة الأجنبية، فكان قبل سقوط نابليون حينئذ؛ أن تألفت في بولونا جمعية راهدجي
Raggi ، وفي مانتوا
Mantua
جمعية شينتري
Centrl ، وفي ميلان: الجمعية المناوئة لأوجين بوهارنيه
Anti-Eugeniani ، وفي إيطاليا العليا الجمعية الماسونية
Massoneria ، وفي نابولي جمعية الكاربوناري، وصارت هذه الجمعيات تزاول نشاطها سرا، وكان لكل واحدة من هذه الجمعيات أمانيها وغاياتها الخاصة بها، ولكنها كانت متفقة على شيء واحد هو مقاومة السلطات الحكومية التي أقامها الفرنسيون في شبه الجزيرة. ثم ما لبثت هذه الجمعيات السرية أن تكاثرت بعد تسوية فينا (1815)، عندما قضى «النظام» الذي أوجدته هذه التسوية للحكم في إيطاليا على كل أمل في إمكان تأسيس الحكومات الحرة، وتزايد نشاط الجمعيات السرية، كما صارت أكثر جرأة.
وينعقد الرأي على أن هذه الجمعيات السرية كانت متفقة في مسألة واحدة، هي تحقيق الاستقلال القومي وإنهاء السيطرة الأجنبية، وفيما عدا ذلك لم يكن هناك أي تنسيق - كما ذكرنا - لنشاطها، ولم يكن لدى الجمعيات برامج معينة للمستقبل بعد نيل الاستقلال.
وأما الجمعيات المضادة التي أنشأتها الحكومات لمقاومة هذه الجمعيات السرية فكانت متعددة؛ ففي نابولي قامت جمعية كالديراري
Calderari ، التي أعاد وزير البوليس في نابولي تنظيمها في سنة 1816، أو شودرونييه
Chaudrenniers ؛ أي النحاسين ضد «الكاربوناري»، أو شاربونييه
Charbonniers ؛ أي الغمامين، وفي الولايات البابوية سمي أعضاء الجمعيات الرجعية، الكنسية، بأصحاب الإيمان المقدس
San-Fedistes ،
6
وفي بيدمنت سمي هؤلاء بالفدرائيين
Federati
أو بالأدلفيين
Adelfi ، الذين تألفت منهم جمعيات كاثوليكية مناوئة للجمعيات السرية التي للأحرار، ولقد وجد في إيطاليا الوسطى نوع من التفاهم بين حكومات الدوقيات المختلفة والأمراء، حكام هذه الدوقيات في تلك المنظمات أو الجمعيات التي عرفت باسم كونسيستوريو
Consistorio ، وكان ينتمي إلى هذه الجمعيات عدد عظيم من الناس، مثال ذلك؛ أن عدد المنتسبين لجمعيات «الأدلفي» وغيرها، بلغ في مدينة ليشي
Lecce
في كعب الحذاء الإيطالي (في مملكة نابولي) حوالي أربعين ألفا، أكثرهم من المسلمين.
ومع ذلك فقد كانت أهم هذه الجمعيات وأوسعها انتشارا جمعية الكاربوناري، التي كان مقرها الرئيسي في مملكة نابولي، ويبدو أنها تأسست حوالي عام 1807 في جبال هذه البلاد، وتألفت من المشتغلين بحرق الخشب لإنتاج الفحم في غابات كلابريا، وكان الغرض من تشكيلها طرد الفرنسيين من البلاد، ولقد نظمت «الكاربوناري» في محافل ويلتحق بها الأعضاء بعد تأدية طقوس معينة، فيحلفون اليمين لطاعة أوامر رؤسائهم، وتخضع هذه المحافل لتوجيه «محفل أعلى»، وبلغ عدد أعضاء الكاربوناري في مملكة نابولي حوالي ستين ألفا في سنة 1816، كان من بينهم كثيرون من اللصوص وقطاع الطريق الذين أذوا سمعة الجمعية بارتكابهم مختلف الجرائم، وكثر عدد الكاربوناري كذلك في الولايات البابوية، خصوصا في إقليم «رومانا»، ثم في الإمارات الخاضعة لسلطات النمسا، وخصوصا في لمبارديا، وكان بعد انتهاء السيطرة الفرنسية من إيطاليا أن صار غرض «الكاربوناري» طرد النمسويين من شبه الجزيرة، والعمل من أجل توحيد إيطاليا وتأسيس الحكومة الدستورية بها، ولم يعد الفرنسيون أعداء الكاربوناري، بل صار هؤلاء أصدقاءهم الآن وتحالفوا معهم.
وإلى جانب «الكاربوناري» تزايدت أهمية الجمعيات الماسونية (أي البنائين الأحرار)، ولو أن أغراض كل منهما اختلفت عن الأخرى عندما كان الكاربوناري من المتآمرين والمستعدين دائما لقيادة الثورة المسلحة ضد النظام القائم، في حين استهدفت الماسونية أغراضا إنسانية، ومع ذلك فقد انتمى أعضاء الجمعيتين إلى الطبقة المتوسطة (البورجوازية) التي كانت تدين بالمبادئ الحرة، والتي وقفت موقف المعارضة الشديدة ضد سلطة رجال الدين (والقساوسة)، ثم ضمت الجمعيتان إليها الضباط والعسكريين المتذمرين من الحكومات الراجعة، ويبدو أنه كانت هناك صلات سرية تربط بين هاتين الجمعيتين عن طريق بعض رؤسائهما وزعمائهما الذين انتموا للجمعيتين معا وفي وقت واحد.
أما هؤلاء الإيطاليون الثوريون، أعضاء الجمعيات السرية التي ذكرناها فقد عجزوا عن تنظيم حركة ثورية أصيلة؛ بل كان كل ما فعلوه أنهم حركوا الأهلين للقيام «بثورات مقلدة» وحسب، محتذين في حركتهم حذو الثورات التي حدثت خارج بلادهم، والتي شجعتهم على القيام بحركتهم، وأعدوا لثورتهم برامج مستوحاة كذلك من الخارج - أي من البلاد الأجنبية - فأسفرت جهود هذه الجمعيات السرية «والكاربوناري» عن ثورتين؛ الأولى: في سنة 1820، 1821، وكانوا يقلدون في ذلك الثورة التي قامت في إسبانيا سنة 1820، والثانية: بين سنتي 1830، 1832، وتعتبر هذه «امتدادا» إذا صح هذا القول، أو من «نتائج» ثورة يوليو في فرنسا.
ثورات 1820 و1821
أما ثورة 1820، فقد بدأت في نابولي، حيث غضب الضباط والعسكريون الذين خدموا في جيش «مورا»، والذين عرفوا كذلك باسم الموراتيين
Muratists - من حرمانهم من الترقية في عهد الحكومة الراجعة، وصاروا كذلك يطالبون بالدستور، ومع أن أكثر هؤلاء الضباط كانوا من «الكاربوناري» فإنهم لم يتآمروا على الحكومة، ولم يجرؤ زعماؤهم على المجازفة بتحريك الثورة، فكان على أيدي اثنين من صغار الضباط في سلاح الفرسان هما؛ موريللي
Morelli
وسلفاتي
Salvati ، أن بدأت الثورة في مقر معسكرهم في بلدة نولا
Nola ، يوم 2 يوليو 1820، بالمناداة بحياة الملك والدستور! وغادرا مع فرسانهم (127) نولا إلى أفللينو
Avellino ، يرفعون علم الكاربوناري المثلث الألوان - الأسود والأحمر والأزرق - فانضم إليهم حاكم هذا المكان الأخير، وعدد من الناس، واستأنفوا السير قاصدين إلى العاصمة «نابولي».
ولم تكن أعداد هؤلاء الزاحفين كبيرة، فلم تتألف منهم سوى «مظاهرة» قوامها بعض عناصر الجيش، والجمعيات الثورية، ويسهل القضاء عليها لو أن الحكومة سيرت ضدها قواتها، ولكن الوزراء كانوا ضعافا ومترددين، وأما الملك «فردنند الرابع» - أو الأول
7 - فكان جبانا استبد به الرعب والهلع عندما بلغه النبأ، فانتهز «الثوار» فرصة التردد الذي ظهر من جانب الحكومة، فتشجعوا على المضي في حركتهم، وتزايد عددهم، وأخذوا ينشئون الصلات مع «مراكز» الثورة الأخرى. وفي ليل 4-5 يوليو؛ استطاع الجنرال جوجليلمو بيبي
Guglielmo Pepe ، وكان من الكاربوناري، الفرار من نابولي، بمجرد أن حامت حوله الشبهات، فصار يحرض الأهلين على الثورة، وتزعم الحركة، وأشار الوزراء المرعوبون على الملك بالتسليم والتظاهر بتأييد الثورة، حيث إنهم لا يقدرون على كبح جماحها، وعلى ذلك فقد حضر خمسة من الكاربوناري صبيحة يوم 6 يوليو إلى بلاط الملك، وباسم الشعب الذي قالوا: إنه قد صار مسلحا عن بكرة أبيه، أرغموا الملك على قبول الدستور الإسباني الصادر في سنة 1812؛ وهو الدستور الذي سبق الحديث عنه، عند ذكر نضال الأحرار ضد نظام الحكم المطلق في إسبانيا.
وبمجرد ذيوع الخبر بقبول الدستور، وحصول تغيير في الحكومة ينهي الظلم والاستبداد، اعتقد أهل نابولي أن عهدا جديدا قد بدأ، ولكنه قد فات هؤلاء الذين رحبوا ببداية هذا العهد الجديد، أن هنالك النمسا تقف بالمرصاد للقضاء على هذه الأماني الوطنية، ولم يدخل في حسابهم أن مليكهم سوف يغدر بهم سريعا؛ لأن الخيانة والغدر كانا من شيمة الملك فردنند.
ولقد أضعف النظام «الدستوري» الجديد استقرار الاضطرابات الداخلية وإثارة الخواطر، من ناحية، وإصرار «الكاربوناري» على الاستئثار بكل سلطة، ثم تطرف الأحرار، الذين دل مسلكهم على أنهم لم يكونوا محنكين، وتعوزهم الخبرة، ومع ذلك فقد كان من المستطاع بقاء «الدستور»، ودعم الحكم الدستوري تدريجيا لو أن النمسا لم تتدخل لتقضي سريعا على كل فرصة قد تساعد على ذلك. فقد بدأ «مترنخ» ينشط من وقت مبكر، فأرسل منذ 25 يوليو إلى مختلف الحكومات في ألمانيا منشورا يبلغها أن النمسا لا تستطيع السكوت على ثورة نابولي، وأنها سوف تبعث بجيشها إذا لزم الأمر لإخضاع هذه الثورة، وأراد مترنخ الحصول على موافقة الدول العظمى قبل بدء التدخل. فكان في مؤتمر «ترباو» أن استطاع مترنخ أن يظفر في الظروف التي عرفناها عند الكلام عن «الاتحاد الأوروبي»، ببروتوكول «ترباو» المشهور في 19 نوفمبر 1820، الذي يقرر مبدأ «التدخل» لإخضاع الثورات الداخلية التي تقلب نظام الحكم في دولة من الدول، والتي يخشى من أخطارها على الدول الأخرى، وحضر الملك فردنند المؤتمر الذي انعقد بعدئذ في «ليباخ» فتنكر للدستور، ولشعبه بعد أن كان قد أقسم اليمين المغلظة لصيانة الدستور والمحافظة عليه، ومما كان قد جعل البرلمان في نابولي يوافق على ذهابه إلى المؤتمر، ووافق المؤتمرون في «ليباخ» على أن يذهب جيش من النمسا لإعادة النظام في نابولي (8 يناير-12 مارس 1821)، وعلى ذلك فقد أعلن برلمان نابولي الحرب التي أرادها الجنرال «بيبي» وأرادها الشعب النابوليتاني، الذي اعتقد أن مليكه إنما تخلى عن الدستور وحنث في يمينه، تحت ضغط الدول فقط، وطلب الكاربوناري الحرب كذلك، ولكن هذه الرغبة العامة في الحرب ضد النمسا لم يكن مبعثها تصميما قويا من جانب الشعب، أو التطلع لكسب انتصارات مجيدة؛ بل صدرت عن حماس مستند على التهوين بشأن الجيوش النمسوية التي سوف تصطدم بها القوات النابوليتانية، وتولى «بيبي» قيادة هذه القوات الأخيرة التي لم تلبث أن انهزمت على أيدي النمسا بالقرب من ريتي
Rieti
في 27 مارس 1821، وكانت هذه الهزيمة ضربة قاصمة، قضت على كل مقاومة، فلم يجرؤ سوى ستة وعشرين نائبا من أعضاء البرلمان على الموافقة على احتجاج ضد النمسا، وفي 23 مارس؛ دخلت القوات النمسوية نابولي؛ لتعيد الحكومة المطلقة، ورجع الملك فردنند إلى عاصمة ملكه، وقضي على ثورة نابولي. ومع ذلك فقد بقيت جذوة الوطنية مشتعلة ولم تنطفئ بالرغم من اعتقاد المنتصرين أنهم قد أخمدوها؛ وذلك لأن هؤلاء راحوا في صلابة وعناد يحكمون البلاد حكما تعسفيا، يقوم على الاضطهاد والعنف والقسوة الباطشة.
وعلى أنه في حين كانت تتعاون مؤامرات البربون الغادرة من ناحية وتهور الثوار من ناحية أخرى على فشل هذه الثورات في نابولي، كانت الثورة تقوم في أقصى الشمال الإيطالي في بيدمنت، ولقد كان حتى في هذه الجهات ينتمي كثيرون لجمعية الكاربوناري، خصوصا من الجيش، وهذا إلى جانب الجمعيات السرية الأخرى التي كان أعضاؤها من الطبقات الأحسن حالا في المجتمع البيدمونتي، وأما هذه الجمعيات جميعها، وسواء كانت برامجها متفاوتة في الجرأة، فقد كانت تهدف إلى غرض واحد؛ هو طرد النمسويين من إيطاليا، وتشترك في صيحة واحدة هي المناداة بالدستور. ولقد كان مما شجع الناس على الاعتقاد بأن ملك بيدمونت فيكتور عمانويل سوف ينتهي به الأمر إلى الانضمام إلى الحركة بمجرد إعلانها، أن الملك كان كريم الخلق، طيب النفس، ثم إن القائمين على الحركة كانوا من الأسرات المحترمة، ورجالا معروفين بالقدرة والكفاءة، وفي وسع الملك أن يضع فيهم ثقته. من هؤلاء كان الكونت كارلو دي سان مرزانو
Marzano
ياور الملك، وجياشينتو دي كوللينو
Giacinto di Collegno
قائد المدفعية، والأمير ديللا شيسترنا
Cisterna ، والكولونيل ريجيس
Regis ، والكونت سانتوري دي سانتا روزا
Santorre de Santa Rosa ، وغير هؤلاء كثيرون، من الذين كانوا مقربين في بلاط الملك، أو يشغلون الوظائف الهامة في الحكومة.
وأثارت أنباء الثورة التي وقعت في نابولي الشعور في هذه الدوائر، ولدى كل أولئك الذين تاقت نفوسهم لحصول تغيير في الحكم، وفي 29 يوليو سنة 1820، كتب أحد الذين عاصروا هذه الحوادث، سيلفانا كوستادي بوريجار
Beauregard : «نحن واقفون على حافة هاوية سحيقة؛ فاللافتات التي لا عدد لها ولا حصر لها تطالب بدستور شبيه بدستور الكورتيز الإسباني (أي دستور 1812)، وتتساقط على الملك العرائض من غير توقيع، يطالب فيها أصحابها بالدستور، وإن القلم ليعجز عن وصف حمى هياج الشعور التي انتابت جميع الناس. لقد قلبت الحوادث التي وقعت في نابولي رءوسنا وأصابتنا بالدوار.»
وكانت خطة المتآمرين؛ إشعال الثورة في اللحظة التي يكون فيها الجيش النمسوي مشتبكا مع الثوار في نابولي. إلا أن استعدادات جدية لم تتخذ، بالرغم من أن الحماس كان عظيما للثورة. ثم انعقدت الآمال على ولي العهد شارل ألبرت، برنس (أمير) دي كارينانو
Carignano ، الذي اعتقد المتآمرون أنه زعيمهم، واعتقدوا أن الجيش سوف يتبعه عندما يحين موعد العمل، وأن الملك سوف يتبع الجيش بالضرورة في تأييد الثورة. ولم يستجب شارل ألبرت لدعوة الثوار؛ بل إن شارل ألبرت لم يلبث أن قضى بكل شدة على الثورة «الثانية»، حتى قامت بعد ذلك في سنة 1833، ومع ذلك فقد ضحى شارل ألبرت بعرشه عندما تنازل لابنه «فيكتور عمانويل الثاني»، ورضي بالمنفى بعد اشتباكه في الحرب مع النمسا (1848-1849) وهزيمته في الحرب؛ الأمر الذي أثار جدلا طويلا حول موقفه من قضية القومية في إيطاليا، ولقد لقي مسلكه أثناء ثورة 1821، وعدم استجابته للثوار، مؤيدين كثيرين، تطرف فريق منهم، فوصف هذه «الخطوة» بأنها كانت تدل على شجاعة وجرأة سياسية عظيمة، في حين كانت هذه الخطوة مبعث اتهامات عنيفة من جانب سواد الناس، الذي عبر أحد الشعراء المعاصرون عن شعورهم؛ جيوفاني بيركيت
Berchet
في قصيدة يلعن فيها أمير دي كارينانو «شارل ألبرت» باسم الأمم جميعها.
وكان التناقض يبدو في مسلك شارل ألبرت، ولكنه كان تناقضا في الظاهر فقط. فقد قال متهموه: إنه غدر بأصدقائه في ثورة 1821 بعد أن كان قد وعدهم بتأييد «حركتهم»، وأنه تعقب بالتشريد والنفي والموت، الأحرار الذين قاموا بثورة 1833، ولكن لم يمكن، بعد دراسة وبحث اتصلا سنوات، التأكد من حقيقة الوعود التي بذلت «للثوار»، بل كانت مجرد «رغبة» فسرها الثوريون بأنها نوايا محددة، أو كانت نية مبيتة لتأييد الحركة، تحولت بسبب الظروف القهرية إلى «رغبات » لم تتحقق، على أنه من الثابت أن شارل ألبرت بسبب التريبة التي نالها والصدقات التي عقدها وبسبب ميوله الذهنية، وطرائق التفكير التي اعتادها كان يعطف على الآراء والمبادئ التي نادى بها «سيزار بالبو»، وكونت كارلو دي سان مرزانو، وجياشينو دي كوللينو. ولكن من الثابت كذلك أنه أجابهم عندما اتصلوا به، بأن مسلكه سوف يخضع لما يمليه عليه واجبه وولاؤه لشخص الملك، ولقد كان هذا الواجب نحو شخص الملك، ونحو تقاليد الأسرة المالكة وفهمه للولاء لصالح آل سافوي، هو الذي منعه من المساهمة في حركة 1821، ويرى كثيرون أن الامتناع عن تأييد هذه الحركة كان عملا حكيما من جانبه؛ لأن غرض الإصلاح الذي قامت من أجل تحقيقه لم يلبث أن انقلب إلى محاولة لطرد النمسا، لم يكن قادة الثورة والمشرفون على تحريكها على استعداد للسير فيها. ثم إن اشتراك «شارل ألبرت» في هذه الحركة بأغراضها التي لم تكن لها أصلا، كان معناه؛ انخراطه في زمرة الثوريين، ومن شأن ذلك إنهاء حياته «السياسية» وحرمان البلاد من الزعامة التي أفادت منها كثيرا. وفيما يتعلق بموقفه من حوادث 1833، فلا شك في أنه كان قاسيا كل القسوة في معاملة الثوار، ومعاقبتهم، ولكن لا ينبغي نسيان أن هذه الثورة حدثت في بداية ملكه، وحينما كان الملك «شارل ألبرت» موضع شبهات النمسا، وهي الدولة التي لا شك في أنها لن تتردد في إقصاء أي أمير إيطالي يبدو أنه يميل لمؤازرة الأحرار والآراء الحرة. أضف إلى هذا أن شارل ألبرت كان يعتقد بأن هذه الحركات الثورية سوف تفضي إلى نتيجة واحدة هي إضعاف أسرته «آل سافوي» وتحطيم سمعتها، وإضعاف الجيش البيدمنتي، أو القوة التي اعتقد شارل ألبرت من الواجب إدخارها لتأدية خدمة وطنية كبرى في الوقت المناسب. ويتفق رأي المؤرخين على أن عاطفة عارمة كانت يتأجج لهيبها في صدره هي الكراهية للنمسا، وهو شعور، في الظروف السائدة وقتئذ بإيطاليا لا جدال في أنه كان «وطنيا» وله ما يسوغه، ولقد بقي هذا الشعور بالكراهية للنمسا تفيض به نفسه في كل أدوار حياته، منذ أن كان صبيا يريد أن يمحو العار بطرد النمسويين من إيطاليا، إلى وقت ذهابه إلى المنفى بعد هزيمة نوفارا
Novara
في سنة 1849، عندما أعلن وهو في «نيس» إلى «سانتا روزا»: أن النمسويين سوف يجدونه - من غير شك - في صفوف الجيش المحارب ضدهم، جنديا نشيطا، في أي وقت، وفي أي مكان يمكن فيه إنشاء حكومة تعمل لإنزال جيش في الميدان ضد النمسا. فيقول الأستاذ كارلو سيرجي
Sergé - أحد المؤرخين الطليان: إن هذه الكراهية للنمسا، والاعتقاد بأنها يجب أن تخرج إلى حيز الوجود في صورة أعمال البطولة العسكرية والحروب، حتى تصبح ذات أثر فعال، كان يتألف منهما المبدأ الوحيد الذي آمن به شارل ألبرت طوال حياته، والبرنامج الذي التزم به طوال عمله كملك، وهو إيمان لم يضع نهاية له سوى وفاة صاحبه في المنفى في «أوبرتو» بالبورتغال (في 28 يوليو 1849). وأما البرنامج فقد حالت الهزيمة دون تنفيذه فكان «التراث» الذي خلفه لولده فيكتور عمانويل الثاني، وكان هذا أسعد حظا من أبيه.
أما الثورة التي اشتعلت في بيدمنت، فقد بقي شعارها فترة من الوقت: «يحيا الملك»! فقد رفعت حامية ألسندرا
Alessandria
علم الثورة المثلث الألوان، وهو علم مملكة إيطاليا القديمة، من الأخضر والأبيض والأحمر، وذلك في 10 مارس 1821 قبل أن تصلهم أنباء هزيمة «ريتي» في 7 مارس، وطالب الثوار بالدستور الإسباني وبالحرب ضد النمسا، التي لا يجد الملك طريقا للانفكاك من قبضتها. وامتدت الثورة بكل سرعة فحذت حامية «تورين» حذو حامية «ألسندرا» في 12 مارس، وتردد المسئولون وجبنوا عن اتخاذ إجراءات حاسمة ضد الثورة، فرفض الملك فيكتور عمانويل الأول نصيحة أولئك الذين أشاروا عليه بالنزول على رأس الجند الموالين له للقضاء على الثورة بضربة واحدة فاصلة، ولقد كان الملك لا يريد التخلي عن وعوده للنمسا، وهي الدولة التي أبلغه «سان مرزانو» مندوبه لدى مؤتمر «ليباخ» وعند عودته من هذا المؤتمر، بأنها مصممة على التمسك بالحكومة الاستبدادية في إيطاليا، ثم إنه كان لا يريد في الوقت نفسه أن يتحمل مسئولية سفك دماء رعاياه في حرب أهلية؛ ولذلك فقد قر رأي الملك على التنازل عن العرش لأخيه شارل فيلكس
Félix
كارلو فيليتشي
Carlo Felice .
ولكن «كارلو فيليتشي» كان وقتئذ متغيبا في «مودينا»، فعهد بالوصاية إلى شارل ألبرت، أمير كارنيانو، الذي وجد نفسه مضطرا تحت ضغط الثوار الذين كانوا يطالبون «بالدستور» إلى الاستجابة لمطلبهم، وقد كتب كارلو فيليتشي يفسر مسلكه: أنه أبلغ الثوار؛ أن ليس في مقدروه إدخال أي تغيير على قوانين الدولة الأساسية، والتي يجب أن تنتظر صدور القرارات والمراسيم من الملك الجديد، وأن أي شيء يجريه هو سوف يكون ملغى ولا وجود له، ولكنه سوف يجيز لهم إعلان الدستور الإسباني، معلقا بموافقة مليكهم، وذلك تفاديا لحصول مذبحة ووقوع الاضطرابات التي كانت تتهدد البلاد.
وهكذا صدر الدستور، وطربت تورين لإعلانه طربا عظيما، ولكن لم تمض أيام خمسة وحسب، حتى كان قد جاء من مودينا قرار أصدره «كارلو فيليتشي» يلغي إجراءات اتخذت من غير موافقته، ويأمر شارل ألبرت بمغادرة تورين فورا. فكان أمام الأخير أن يختار بين أمرين؛ إما أن يتخلى عن الثوار، وإما أن ينحاز إليهم، فيعلن الثورة على الملك، وعلى رئيس الأسرة «آل سافوي». فاختار التخلي عن الثوار وإطاعة أمر الملك.
وأشاع ذهاب شارل ألبرت الفوضى في صفوف الثوار، بالرغم من الجهود الخارقة التي صار يبذلها أنصار هذه الثورة، خصوصا «سانتوري دي سانتا روزا»، الذي كان يشغل منصب وزير الحربية، وازداد نشاط الرجعيين أنصار الحكم المطلق، ولقوا كل تشجيع من جانب الملك «كارلو فيليتشي»، الذي طلب من «سانتا روزا» الاستقالة، وطلب من القيصر إسكندر العون والمساعدة، وحشد هذا الأخير مائة ألف، في حين كان الجيش النمسوي قد بلغ الحدود، وأعلن «سانتا روزا» أن الملك أسير النمسويين، وحاول أن يسير بجيش يؤلف الطلاب قسما منه لمهاجمة لمبارديا، فلم يلبث أن وقع الاصطدام بين فريق من البيدمنتيين بقيادة الجنرال دي لاتور
La tour
تؤازرهم القوات النمسوية التي عبرت نهر التشينو
Ticino ، وبين فريق البيدمنتيين الثوار بقيادة الكولونيل ريجيز
Regis ، وذلك في واقعة نوفارا في 8 أبريل 1821، فانهزم «الثوار» وتلاشى الأمل في الظفر بالحرية.
وكان بعد هزيمة «نوفارا» أن قصد أكثر زعماء الثورة وقادتها إلى «جنوه»، يريدون الذهاب منها بحرا إلى إسبانيا؛ طلبا للنجاة بأنفسهم، وحيث كانت لا تزال الثورة ناجحة هناك، وكان في «جنوه» أن شهد «جويزبي مازيني» وهو لا يزال شابا يافعا (في السادسة عشرة من عمره)، هؤلاء المحاربين الذين يبدو عليهم الفقر، وتعلو وجوههم مسحة من الحزن والكآبة، بل ويتقدم أحد هؤلاء من والدة البطل المكافح فيما بعد يمد إليها يده، ويطلب إحسانا باسم «أولئك الذين شردوا ونفوا من إيطاليا.» وشهد «مازيني» والدته والدموع تسيل من عينيها تضع في يد هذا السائل عطيتها. فيكتب «مازيني»: أنه كان في ذلك اليوم أن مثلت في ذهنه، بصورة مبهمة، لأول مرة، ليس فكرة الوطن والحرية، ولكن فكرة أن «من الممكن، وكذلك من الواجب؛ النضال والكفاح من أجل أن يظفر المرء بالحرية لبلده.»
وخلال سنتي 1820، 1821، لم تقم حركات ثورية في بقية إيطاليا، ولو أن «مؤامرات» كثيرة كانت تحاك خيوطها، الأمر الذي أزعج الحكومات المختلفة، وخصوصا في لمبارديا فينيشيا، حيث كشف البوليس عن عدد كبير منها، لا شك أنه قد غالى كثيرا في وصف خطورتها، حتى تأتي إجراءات القمع أكثر شدة وصرامة، وكان من بين الذين قبض عليهم البوليس، طائفة من الأعلام، ومن أهم هؤلاء؛ الكونت فردريجو كونفالونييري
Frederigo Confalonieri .
وكان «كونفالونييري» زعيما للأحرار في لمبارديا، ويتراسل مع أنصار الحركة والعمل في بيدمنت، ولكن لم يوجد دليل يثبت مدى نشاطه في تنظيم صفوف الأحرار في لمبارديا، أو ربطهم بالعمل وفق برنامج معين؛ بل الثابت أن مبعث إدانة «كونفالونييري» كانت الرغبة في العثور على «متهمين» بأية وسيلة، وليس نتيجة الاستناد على اتهامات صحيحة. ولم يقبض على «كونفالونييري» إلا في 13 ديسمبر 1821 بعد إخماد ثورة بيدمنت، وعودة الهدوء القائم على الإرهاب إلى نصابه في كل مكان. ولما كان «كونفالونييري» لا يشعر بأنه قد ارتكب إثما في حق النمسا، فقد بقي ينظر بعدم المبالاة إلى سحب الشك والشبهات تتجمع حوله، حتى إنه لم يستمع لتحذيرات نفر من المسئولين أصدقائه الذين أرادوا إنقاذه وأشاروا عليه بالفرار إلى سويسرة . فقدم إلى المحاكمة بتهمة الخيانة، وطلب «مترنخ» من المشرفين على هذه المحاكمة في ميلان، أن يصدروا حكما لا يجعل ممكنا في وسع هذا الكونت زعيم الأحرار، أن يظهر مرة أخرى على مسرح الحوادث، في صورة من صار ضحية لطغيان السلطة الاستبدادية، وعلى ذلك فقد تفنن قضاة «كونفالونييري» ومتهمون في تلفيق التهم وابتكار البراهين والأدلة المزيفة للصق هذه التهم به، وانتهى الأمر وكما كان متوقعا ، بإصدار حكم الإعدام عليه، وتوسطت أسرة «كونفالونييري» تطلب الرحمة من الإمبراطور النمسوي نفسه في «فينا»، فكان بعد لأي وعناء أن استبدل السجن المؤبد بالإعدام، وصدر الأمر بإرسال الكونت إلى سبيلبرج
Spielberg
في مورافيا
Moravia
ليسجن بقلعتها. وعبثا حاول «مترنخ» أثناء رحلة الكونت إلى محبسه أن ينتزع منه معلومات تكشف عن حقيقة العلاقات بين المتآمرين في لمبارديا وبين شارل ألبرت. وكان من الذين سجنوا مع «كونفالونييري» جماعة من الذين أدينوا بنفس التهمة وهم كثيرون.
8
على أن تدابير القمع التي اتخذتها الحكومات بعد ثورات 1820-1821، لم تفلح مع صرامتها، خصوصا في لمبارديا، في إطفاء جذوة الثورة فقد بقيت هذه متقدة تحت سطع الهدوء الذي ظهر كأنما صار يسود كل إيطاليا، ومن وقت لآخر، بقيت الثورة تطل برأسها، وسببت هذه «الحركات» إزعاجا كبيرا للبوليس، الذي اشتدت أساليبه في مطاردة الثوار، قسوة قسوتها على وكان في 1828 أن قامت ثورة في شيلنتو
Cilento
بمقاطعة ساليرنو
Salerno
بمملكة نابولي، نتيجة للظلم الذي أرهق به الأهلين فرانسوا الأول - الذي خلف الملك فرنند أو فرانتي على العرش. فأرسل الملك أحد قواده ديل كاريتو
Del Carretto
لإخماد الثورة، وارتكب الأخير الفظائع أثناء تأدية هذه المهمة، فصار ينقل رءوس القتلى في أقفاص من الحديد، تتبعه في جولته من قرية إلى أخرى.
ومع ذلك فإن هذه «الحركات» جميعها لم يكن لها من أثر سوى استثارة رد الفعل الغريزي ضد الظلم الذي حل بالناس أو الضنك الذي أخذ بتلابيبهم. وكان واضحا في كل هذه الحركات التي ذكرناها أن العنصر العسكري، كان هو الذي قامت أهم هذه الثورات في 1820، 1821 على أكتافه، ولم يكن «الثوار» يتمتعون بأية تربية سياسية، وانعدم لذلك وجود أي برنامج لديهم، وسهل عليهم لذلك أن «يستعيروا» دستور 1812 الإسباني؛ ليصبح شعارهم المطالبة به، ثم إن أعضاء البرلمان سواء في نابولي أو تورين، والذين كان عليهم مواجهة الموقف ومحاولة معالجته كانوا من طراز متوسطي القدرة على التفكير الناضج والعمل المثمر وتعوزهم الكفاءة ونشاط الذهن.
ولا جدال في أن هذه الثورات في سنتي 1820، 1821 لم تكن تستهدف أغراضا وطنية أو قومية ؛ لأن مبعثها لم يكن العمل على طرد النمسا من إيطاليا، أو تحقيق الوحدة الوطنية، كما افتقرت كل هذه الثورات إلى التنظيم والتنسيق، فكان من السهل إخمادها. فكفت واقعة «ريتي» في 7 مارس لتصفية الثورة في نابولي، وواقعة «نوفارا» في 8 أبريل 1821 لتصفية الثورة في بيدمنت، وفي كلا الحالين كان للتدخل النمسوي أقوى الأثر في تصفية هذه الثورات.
ولقد كانت تدابير القمع التي أوجبت هذه الثورات على الحكومات اتخاذها على درجة شديدة من العنف والقسوة، فعمدت هذه الحكومات إلى «تطهير» الجيش ودواوين الحكومة من العناصر المشتبه في ولائها للنظام الرجعي القائم، ومن جهة ثانية استطاع أكثر قادة الثورة سواء في نابولي أو في بيدمنت الهرب إلى الخارج ليتألف منهم الرعيل الأول من المهاجرين الطليان في سويسرة وفي إنجلترة، وبعد حين في فرنسا كذلك.
ولكن مما يجدر ذكره أن هذه الحركات لم تستثر سواد الشعب «للعمل»، فبقي الأهلون يقفون موقفا سلبيا، بكل معنى السلبية، من ثورات 1820، 1821.
ثورات 1830، 1831
ولقد كانت الثورات التالية التي قامت في إيطاليا في غضون 1830، 1831 إحدى نتائج الثورة التي قامت في فرنسا في يوليو 1830 - إذا صح هذا القول - وحلقة لاحقة من حلقات هذه الثورة.
فقد حدث بعد فشل الثورات الأولى (1820-1821)، أن صارت الحكومات تتعقب الجمعيات الثورية، وثقلت وطأة الرقابة البوليسية عن ذي قبل، وقوي سلطان النمسا في إيطاليا أكثر من أي وقت مضى، فجنودها يحتلون نابولي وأنكونا، ولسنوات طويلة مقبلة، وكذلك قلعة فراره
Ferrara ، ووقع على كاهل النمسا عبء إخماد الثورات في إيطالية، وصارت النمسا بفضل هذا المركز القوي تطمع كذلك في امتلاك تسكانيا ورومانا، وانبث عملاؤها وجواسيسها في كل أنحاء إيطاليا.
وكان لهذه السيطرة النمسوية من الناحية القانونية أثر طيب، من حيث إنها جعلت شعور البغض والكراهية ضد النمسا يسود كل إيطاليا، وهو الشعور الذي كانت قد ظلت تشعر به إيطاليا الشمالية وحدها. فأثارت أطماع النمسا الآن وقوتها مخاوف الأمراء في أجزاء إيطاليا الأخرى، وهم الذين صاروا الآن يتحدون سلطانها، فاستطاعت بيدمنت والولايات البابوية أن تلحقا الفشل بكل الآراء والمشروعات النمسوية التي أرادت إنشاء علاقات مشتركة، أو اتحادات فدرائية بينها وبين الدويلات الإيطالية، فرفضت بيدمنت والولايات البابوية مجرد الدخول في اتحاد للبريد مع النمسا. بل إنه كان لهذه السطوة التي تمتعت بها النمسا رد فعل كذلك من نوع آخر، ظهر في أطماع بعض الدويلات الإيطالية مثل دوقية مودينا التي أراد أميرها «فرنسوا الرابع» توسيع أملاكه على حساب «لمبارديا فينيشيا» التي تملكها النمسا، وعلى حساب الولايات البابوية، وقد شجعت هذه الرغبة التوسعية الأحرار في مودينا على بلوغ مآربهم، إذا هم أيدوا أطماع الملك، وكان زعيم الأحرار شيرو مينوتي
Ciro Menotti
وهو من التجار - ولا يثق في الثورات ذات الأهداف «الجمهورية» - قد استطاع إقناع الدوق فرنسوا الرابع بأن الثورة الفرنسية، ثورة يوليو 1830، سوف تجدد عهد الاضطرابات في إيطاليا، وأن الدوق سوف يعثر في هذه الاضطرابات على الفرصة التي تمكنه من توسيع حدود إمارته، وبالفعل أنشأ الدوق صلات قوية مع زعيم الأحرار في مودينا، بالرغم من عداء هؤلاء الأحرار لحكومته.
أما هذه الحركات الثورية فقد انتقلت من الجنوب (نابولي) أو من «بيدمنت» - مسرح الحوادث في سنتي 1820، 1821 - إلى إقليم الرومانا القسم الشمالي من الولايات البابوية، والسبب في ذلك أن البابا بيوس السابع ووزيره كونزالفي
Consalvi ، كانا يتبعان سياسة هدوء وسلام في هذه الأصقاع، لم تلبث أن حلت محلها لوفاة البابا (1823) ثم وزيره (1824) سياسة قائمة على الرجعية والحكم الاستبدادي الشديد على أيدي البابا التالي؛ «ليو الثاني عشر 1824-1829» ووزيره الكاردينال ريفارولا
Rivarola
في 1825 خصوصا. فقد تعقب البابا ووزيره الكاردينال (الكاربوناري)، وألقيا بالكثيرين في السجون، وحكما على عديدين بالنفي والتشريد، والاعتقال والحجر السياسي
، فلا يغادرون مدنهم، ولا يخرجون من بيوتهم بعد غروب الشمس، ويبلغون البوليس عن وجودهم كل أسبوعين، ويتقدمون «للاعتراف» كل شهر. كما طلب من كل فرد التبليغ عن أعضاء الجمعيات السرية، فإذا قصر أحد الناس في ذلك كان الليمان عقوبته.
وعلى ذلك فإنه سرعان ما صارت «رومانا»، و«بارما»، و«مودينا» مراكز للحركة الثورية الجديدة، وفي هذه المرة اتخذت الحركة طابعا مختلفا عن طابعها السابق في 1820-1821، فقد صارت تضم إليها عناصر من الطبقة المتوسطة (البورجوازية) أكثر من العناصر العسكرية؛ أي صارت تضم إليها البورجوازيين الأحرار الذين ناصبوا حكومة القساوسة وأصحاب الامتيازات، أو الطبقات الممتازة العداء، وثمة فارق آخر هو أن الثورة في هذه المرة كانت تعتمد على عامل «خارجي» هو قيام ثورة يوليو المعروفة في باريس، وإعلان حكومة باريس تمسكها بمبدأ «عدم التدخل»، فقد أعلن الماريشال سباستياني
Sebastiani
وزير خارجية لويس فيليب: لقد قام الحلف المقدس على مبدأ التدخل الذي قضى على استقلال كل الدول الصغيرة، ولكن المبدأ المضاد لهذا المبدأ - أي عدم التدخل - والذي أقرته الحكومة الفرنسية، وتعد بأنها سوف تعمل لتأييده. يكفل أن يتمتع العالم قاطبة بالحرية والاستقلال، واعتقد الأحرار اللاجئون في باريس أنهم سوف يلقون كل تعضيد من حكومة لويس فيليب. وكان المسئول عن ذيوع هذا الاعتقاد الجنرال «جوجليلمو بيبي» السابق الذكر، الذي استطاع أن ينال من الجنرال «لفاييت» وعدا بإمداد الثوار بالمال والأسلحة، ومن فرنسا بذل اللاجئون الطليان - في باريس خصوصا - قصارى جهدهم لتحريك الثورة في وطنهم، وفي باريس تألفت «لجنة لتحرير إيطاليا»، أعدت النشرات والكتيبات لتوزيعها في أنحاء إيطاليا، وبذلت المحافل الماسونية جهودها كذلك لتأييد هذه «الدعاية»، وأراد المهاجرون الطليان في باريس تحريك الثورة في الولايات البابوية، منتهزين فرصة وفاة البابا بيوس الثامن (1830) وخلو الكرسي البابوي فترة من الوقت ممن يشغله، وكان بعض هؤلاء اللاجئين يريدون تنصيب جيروم بونابرت، أو ولدا لاوجين بوهارنيه ملكا على روما - ولقد كان لويس نابليون مشتركا في هذه المؤامرة، ولكنهم جميعا كانوا يريدون إنهاء حكومة القساوسة «ألسان فيدبست» أصحاب الإيمان المقدس، وهكذا تهيأت الأسباب لقيام حركة ثورية.
وكان السبب المباشر في اشتعال الثورة حادث خيانة دوق فرنسوا الرابع في مودينا، وتنكره للأحرار، بعد أن تبين له أنه لن يلقى تأييدا في مشروعاته التوسعية من ناحية الملك الفرنسي لويس فيليب، ولما كان يخشى من انكشاف مضالعته مع الثوار أمام النمسا، وصار يريد إقامة الدليل القاطع لحكومة فينا على ولائه لها، فقد نكص على عقبيه تماما ودبر مكيدة لزعماء الأحرار، فألقى القبض على هؤلاء وهم مجتمعون بمنزل «مينوتي» في 3 فبراير 1830، وكان من بين المقبوض عليهم «مينوتي» نفسه، وبعث «فرنسوا» في طلب الجلاد لإعدامهم بعد أن اتهمهم بالتآمر على خلعه من العرش، ولم يمنع فرنسوا من إعدام «مينوتي» في التو والساعة سوى ذيوع النبأ وقت وصول الجلاد إلى مودينا، عن قيام الثورة في «بولونا»، مما جعل الدوق الذي استبد به الخوف والهلع مما قد يخبئه له المستقبل إذا نجحت الثورة، يلجأ إلى «مانتوا» للتحصن بقلعتها، ويجر معه إليها «مينوتي» وهو مصفد بالأغلال؛ لينفذ فيه حكم الإعدام بعد أيام قليلة.
وهذه الخيانة استثارت جمعيات «الكاربوناري» على القيام بالثورة في مودينا وفي بولونا في 4، 5 فبراير، ولم تلبث أن امتدت الثورة من هذين المكانين، فصارت في بحر أسابيع ثلاثة فقط تشمل كل وسط إيطاليا، ووصلت الثورة إلى أمبريا
Umbria
في قلب الولايات البابوية.
وفي 9 فبراير 1831 تألفت حكومة مؤقتة في بولونا أعلنت سقوط الحكومة البابوية، ودعت للاجتماع «مؤتمرا وطنيا» وانعقد هذا المؤتمر يوم 25 فبراير، وسمى نفسه: «مجلس نواب المقاطعات أو الأقاليم الحرة في إيطاليا»، وسمى الدولة التي شرع في تأسيسها «المقاطعات أو الأقاليم المتحدة». على أن الحركة بقيت «محلية» وحسب، وذلك بالرغم من العبارات التي وصف بها الثوريون المؤتمر «الوطني» الذي دعوا إليه، أو الدولة «الإيطالية» التي أرادوا تأسيسها من المقاطعات أو الأقاليم «المتحدة». ثم تألفت حكومة مؤقتة كذلك في كل من «مودينا» و«بارما» فاستأثر بالسلطة في كل من منهما «ديكتاتور» يعاونه ثلاثة قناصل.
وسيرت النمسا جيوشها على بارما وعلى مودينا، وأوقعت الهزيمة بالأحرار والحكومة المؤقتة في كل منهما في 25 فبراير، 6 مارس على التوالي، وسرعان ما نهض الدليل القاطع على أن هذه كانت حركات محلية وليست وطنية أو «متحدة»، أو «إيطالية»، عندما أراد جيش الأحرار من بارما ومودينا بعد الهزيمة الالتجاء إلى «رومانا»؛ ليعيد تنظيم قواته، فعمدت الحكومة المؤقتة في رومانا إلى تجريده من السلاح بموجب القاعدة المعمول بها وقتئذ بالنسبة للقوات المتحاربة «الأجنبية» التي لا تأتي لاجئة إلى أي مكان غير موطنها، وأعلنت الحكومة في رومانا قرارها: «بأنه لا يجب لأحد منا التدخل في المنازعات التي تحصل بين جيراننا.» ودل هذا الموقف على مقدار ما كان ينقص الأحرار «الثوريين» من تضامن واتحاد، بالرغم من أن هذه الحركات الثورية لم تكن تفصلها مسافات بعيدة عن بعضها بعضا.
بل توفرت الأدلة على ضعف هذه الحكومة المؤقتة في «رومانا»، عندما جعل الخوف من «الارتباكات» هؤلاء الثوريين يبادرون بكل سرعة إلى وقف حركة حاول بها جيش صغير من الأحرار بقيادة الجنرال سيركو جناني
Sercognani
مهاجمة روما - وكان يعمل بهذا الجيش ابنا لويس بونابرت «وهما شارل ولويس نابليون» - في 19 فبراير 1831، وبمجرد أن زحف النمسويون الحدود يوم 21 مارس، وتجنبوا الاشتباك مع جيش الثوار عند ريميني
Rimini ، وكان هؤلاء بقيادة الجنرال تزوكي
Zucchi . فعمدت الحكومة إلى الهرب إلى «أنكونا»، وهناك سلمت يوم 27 مارس مقابل وعد بالعفو العام. أما «سيركو جنالي» وجماعته، فقد قصدوا إلى سبوليتو
Sboleto ، وهناك استمع «سيركو جناني» لنصيحة رئيس الأساقفة ماستائي
Mastai (وهو البابا بيوس التاسع فيما بعد)، وسرح قواته.
وهكذا أرجع النمسويون حكومة البابا في الولايات البابوية، وقصر الأحرار مطالبهم على إنشاء «حرس مدني»، وإدخال بعض الإصلاحات التي كانت «مدنية» متعلقة بالحقوق المدنية أكثر منها «سياسية». من ذلك؛ رفض هيئة المحامين العمل بقانون جديد من صنع حكومة البابا، ثم إنهم حتى يتسنى لهم مقاومة القوانين الجديدة طلبوا اجتماع البرلمان، ولكن البرلمان لم يكن يحوي إلا أعضاء عن قسم فقط من الولايات البابوية. بل إن الأهلين، والأحرار أنفسهم، لم يلبثوا أن رحبوا بالقوات البابوية التي حضرت من روما لاحتلال «رومانا»، فاستولت في طريقها إلى هذه الأخيرة على فورلي
وشيسينا
Cesena ، ورحب أهل البلاد بالجيوش النمسوية التي جاءت لاحتلال هذه الأماكن «كمنقذين» لهم.
وأسفرت الثورة التي قامت في إيطاليا الوسطى (1830-1831) عن نتيجة هامة من حيث إنها جعلت من الثورة الإيطالية مسألة سياسية؛ بمعنى أن الدول عمدت إلى التدخل كخطوة مقابلة للتدخل النمسوي ضد الثورة، ولما كان فيما ظهر من تصميم من جانب فرنسا - لم يثمر شيئا بسبب خوف لويس فيليب من الحرب - لتأييد مبدأ عدم التدخل. فاجتمعت الدول في مؤتمر، ورأى مندوبوها تقديم مذكرة
Memorandum
إلى البابا جريجوري السادس عشر، الذي خلف بيوس الثامن، يوصون باتخاذ بعض الإصلاحات «الوقائية»؛ أي التي تحول في نظرهم دون قيام ثورات في المستقبل، ولكن بالرغم من رغبة البابا في الإصلاح عارض الكراولة التنازل عن سلطتهم.
على أن الجديد في ثورة 1830-1831 هذه، والذي يميزها من الثورات السابقة، وذلك عدا «الشعارات» والعبارات التي أتت بها والتي لم تكن ذات أهمية كبيرة، كانت العناصر التي تألفت منها هذه الحركة، فقد كان هناك إلى جانب المشتغلين بالقانون، فئات من التجار، الأمر الذي يدل على زيادة انتشار المبادئ الحرة، وتغلغلها في أوساط جديدة في المجتمع، وزيادة على ذلك فإن هذه الثورة في سنتي 1830، 1831 كانت على ما يبدو متحررة من المصالح الذاتية والأغراض أو الأطماع الشخصية، أكثر من الثورة السابقة في سنتي 1820، 1821. فلم تكن العناصر العسكرية الدعامة التي قامت عليها الحركة، ولم يكن تحقيق النفع الشخصي الغرض الذي أرادت تحقيقه، ومع ذلك فالذي يجب ذكره أن هذه الثورات في 1830، 1831 - ومثلها في ذلك مثل الثورات السابقة في 1820، 1821 لم يفكر أصحابها إطلاقا في التوجه بالدعوى إلى صفوف الشعب للاشتراك في الحركة، بل على العكس من ذلك أزعجت هذه الثورات أهل القرى والمدن الصغيرة الذين شعروا بالخزي والعار من حركة أعلنت سقوط السلطة البابوية، ودلت هذه الحقيقة ذاتها على أنهم كانوا معادين للثورة - وبالرغم من النداءات المتكررة التي صدرت عن القائمين بالثورة، فقد ظلت بقية إيطاليا دون حراك، فلم يسهم أحد في الثورة المشتعلة في إقليم «رومانا».
وتعددت أسباب فشل هذه الثورات، ثم الثورات السابقة في 1820، 1821، ولعل أهم هذه الأسباب، وكما شاهدنا، أنها كانت حركات «محلية» بحتة في تنظيمها، فلم يكن يتعدى نشاط المتآمرين، أو تتجاوز الأغراض التي أرادوا تحقيقها حدود مقاطعتهم، ولم يكن سواد الشعب الإيطالي يدرك أن جهودا يبذلها أهل الشمال في بيدمنت، قد يفيد منها المناضلون في إقليم «كلابريا» في الجنوب، أو أن أسباب التذمر والسخط واحدة في كل أنحاء إيطاليا، أو أن الأهلين في الشمال يجب أن يتحدوا مع الأهلين في الجنوب، وهكذا فكان الذين فطنوا إلى ذلك حفنة من الأفراد فقط، ولقد أشرنا سابقا إلى أن التنسيق كان منعدما بين كل الثورات التي حدثت. ففي سنة 1821 قامت الثورة في نابولي وفي بيدمنت (على خطوط متوازية)، إذا صح هذا التعبير؛ أي جنبا إلى جنب، ومع ذلك لم تتوحد جهود الفريقين، وإذا كان أهل بيدمنت أبدوا اهتماما بالثورة في نابولي، والنضال بين نابولي والنمسا، فهم قد فعلوا ذلك على أمل أن ينتهزوا الفرصة حتى يفيدوا من الضعف الذي قد يلحق خصومهم «النمسويين» بسبب هذا النضال في الجنوب، وكتب الجنرال «بيبي» في مذكراته، وهو الذي أدرك قيمة قيام الثورتين معا في الشمال والجنوب وفي وقت واحد؛ لو أن البيدمونتيين قد قاموا بثورتهم يوم أول مارس، بدلا من عاشره، أو لو أنهم أبلغوني خططهم، لكانت الأمور سارت في إيطاليا في طريق يفضي إلى نتائج أسعد كثيرا مما يسود الاعتقاد به.
ومع ذلك فإن فشل الثورات التي حدثت في سنوات 1820، 1821، ثم 1830، 1831 لم يكن معناه القضاء على الحركة الثورية وانتهاؤها، بل بقيت هذه الحركة ولم يقض عليها، والسبب في ذلك؛ أنها أحد جوانب مظاهر الخلق أو المزاج الإيطالي المعروف بميله إلى النشاط السري والمؤامرة، والتمرد، والعصيان، ولو أنه من المتعذر خلق حركة قومية أو وطنية من الحركات المنبعثة من هذه الميول وحسب.
النشاط الذهني: الرومانسية «أو الحركة الابتداعية التصورية»
9
ولقد كانت الحركة «الرومانسية» أو الرومانتيكية التي بدأت في هذا الحين، من أهم العوامل إلى جانب الحركات الثورية التي ذكرناها في تشكيل الحوادث، وأعمق أثرا، بفضل نتائجها الثقافية والذهنية في مستقبل شبه الجزيرة الإيطالية، لقد سبق أن ذكرنا كيف أن الصعوبات والعقبات كانت تعترض الشباب الذي تخرج في الجامعات الإيطالية، وذلك بسبب النظام السياسي والاجتماعي السائد، والذي جعل هؤلاء الشباب المثقفين لا يجدون منفذا لنشاطهم ولحيويتهم المتدفقة، أضف إلى هذا أن الضغط السياسي، كان شديدا بدرجة أثقلت كاهل جميع الناس، حتى أولئك الذين لم يكونوا من طراز «العمليين»، ولم يكونوا يميلون للثورة أو على استعداد للانخراط في جماعة الثوريين، ولقد انصرف هؤلاء الناس من شباب الجامعات، ومن غير «الثوريين» إلى الحياة الذهنية، يبحثون فيها عن منفذ أو متنفس لنشاطهم، ثم ساعد على ذلك، فشل الثورات السالفة الذكر، فكان هذا الفشل من الحجج التي استند عليها الاتجاه نحو النشاط الذهني، فكان حينئذ أن أخذ الشعور باليقظة القومية، يتجه اتجاها «روحيا»؛ أي يحاول التعبير عن وجوده في ميدان الأدب، والحياة الذهنية، أكثر من الاتجاه نحو ميدان العمل، وكانت «الرومانسية» - الحركة الابتداعية التصورية - في الأدب أعمق هذه الحركات الذهنية أثرا في هذا العصر في شبه الجزيرة الإيطالية، وقامت المدرسة الرومانسية - على أثر سقوط مملكة إيطالية وانتهاء السيطرة الفرنسية - كحركة احتجاج ضد الأنظمة القديمة، وطغيان التقاليد، وكرمز للتعاطف بين «الأدب» وروح المجتمع العصري، وبهذا المعنى، عظم النضال بين هذه «الرومانسية» وبين المدرسة «الكلاسيكية»، التي بلغت أوجها ضد السيطرة النمسوية في إيطاليا، فانحاز الأحرار إلى «الرومانسية»، في حين كان الرجعيون أنصار «الكلاسيكيين». ولقد اعتبر الرومانسيون الأدب السلاح المشرع في وجه الطغيان، والوسيلة التي يمكن بها إذاعة المبادئ الوطنية.
وبدأت الحركة الرومانسية في إيطاليا في سنة 1816، عندما أصدر الشاعر «جيوفاني بيركيت» 1783-1851 منشوره عن المبادئ الرومانسية التي صار يدعو لها، والتف حول «برشيت» طائفة من الكتاب، كان منهم الشاعر جبراييلي روسيتي
Gabriele Rossetti ، الذي وصف في قصائده ثورة نابولي في سنة 1820. كما التف حول «برشيت» عدد من نبلاء «ميلان» المثقفين والأدباء، ولقد دافع هؤلاء الكتاب عن «أدبهم» الرومانسي الجديد، ضد المدرسة الكلاسيكية، وصاروا يحملون على أنصار هذه المدرسة الأخيرة، حملة من النقد اللاذع، وذلك على وجه الخصوص في مجلة الموفق أو المصالح
Il Conciliatore ، وهي المجلة التي ظهرت في سنة 1818 واستطاعت خلال هذه السنة والسنة التالية (1819) أن تصدر (118) عددا، بالرغم من الرقابة الصارمة، وشكوك البوليس وعدائه الشديد.
ولقد نشب نضال عنيف بين هذه المجلة، ومجلة الكلاسيكيين والرجعيين، والتي كانت تلقى التأييد من النمسا، ونعني بذلك مجلة «المكتبة الإيطالية
Biblioteca Iitaliana ، وكان مطلب هؤلاء الرومانسيين نظم مقطوعات من الشعر، تنبض بالحياة، وتتفق مع روح الشعب وعقائده وآماله، في الوقت الذي تكون فيه كذلك أكثر سهولة وسلاسة من الشعر الكلاسيكي، ومن ميلان، امتدت الحركة الرومانسية حتى شملت أقاليم إيطاليا الأخرى، ومع ذلك فقد كانت الرومانسية في إيطاليا أقل تطرفا وأقل من نظيراتها في بقية أوروبا؛ وذلك لأن إيطاليا احتفظت، وكما كان متوقعا، بالأصول الكلاسيكية.
ومن وجهة النظر، المتعلقة بيقظة الروح الإيطالية القومية، تتميز هذه الحركة الرومانسية، بأنها تعمد إلى التنقيب عن الموضوعات التي تثير انتباه واهتمام أناس من غير المشتغلين بالأدب والمثقفين، الأمر الذي جعل هذه الحركة تحتك بأماني سواد الشعب، وبمشاعر الجماهير وأحاسيسهم ومعتقداتهم، وبما في ذلك فئة المتعصبين لآرائهم ومعتقداتهم، ولقد جعل هذا الاحتكاك «الرومانسيين» يستمدون من الذكريات التاريخية وتقاليد الماضي وأمجاد الطليان الغابرة، مادة وافرة لكتابتهم، وكان هذا الماضي الذي أراد الرومانسيون إحياءه في كتابتهم؛ عهد النهضة الأدبية والفنية في إيطاليا، الذي تميز بالنضال من أجل الحرية، والذي ازدهرت فيه الجمهوريات الإيطالية، وكان المؤرخ الإيطالي سيموندي
Simond
قد فرغ من كتابة تاريخها.
10
وثمة ميزة أخرى لهذه الحركة، هي أن أصحاب المدرسة الرومانسية الجديدة قد طوعوا العاطفة، والروعة الأدبية والفنية لخدمة التربية الوطنية، فتخلوا عن الفكرة الكلاسيكية بشأن الثقافة الأدبية الخالصة والمفرغة في قوالبها المحددة، بل إنهم تخلوا كذلك أو إنهم لم يقروا نظرية «الفن من أجل الفن»، التي نادت بها مدارس الأدب والفن الأوروبية الأخرى المعاصرة، فلم يكن الأدب في نظر أكثر هؤلاء الكتاب الرومانسيين إلا وسيلة لتأكيد وتدعيم الآراء الحرة السياسية، ولقد كان المحررون الرئيسيون في مجلة «إيلكو نشيلياتوري» من الذين اشتركوا في حوادث 1821 السياسية، ومن هؤلاء: «كونفالو نييري» الذي عرفنا أنه ترأس الحركة في ميلان، في حين كان سيلفيوبيلليكو
Silviopellico
رئيس تحرير المجلة، من الذين قبض عليهم كذلك، وسجن مع «كونفالونييري» في قلعة «سبيلبرج»، ولقد تحدث سيلفيوبيلليكو عن محبسه عندما نشر بعد خروجه من السجن (1830) كتابا بعنوان «محابسي»،
11
نال شهرة واسعة في أوروبا، كان أول ظهوره في سنة 1832، وقد قص فيه صاحبه قصة حبسه، وكان لهذا الكتاب رد فعل أدبي وروحي عميق في إيطاليا، وذلك بسبب البساطة التي عرض بها «بيلليكو» شكاواه، والروح «الدينية» التي تخللت صفحات الكتاب، روح التسليم والاعتماد على رحمة الله في تخفيف البلوى التي نزلت بساحة صاحبه، ولو أن الكتاب كان يعرض إلى جانب ذلك المطالب الوطنية ويسوق الدعاوى لتأييدها، على طريقة الثوريين القدامى، ثم كان «جيوفاني برشيت» أحد الذين تعرضوا للاضطهاد، حتى إنه اضطر للهرب والالتجاء إلى إنجلترة التي عاش بها حتى سنة 1829، والتي أخذ ينظم وهو بها ابتداء من سنة 1824 القصائد الوطنية المليئة بالحيوية والحماس، ثم إن «جبرائيلي روسيتي» لم يلبث أن اضطر هو الآخر إلى الفرار، كما اضطر آخرون من الكتاب الرومانسيين إلى الهرب، ولو أنهم لم يكونوا «ثوريين»، مثل كارلو بورتا
، أو توماسو جروسي
Tommaso Grossi . وهكذا صار الامتزاج تاما، بين الرومانسية والمبادئ الحرة، وبين الرومانسية والوطنية الإيطالية.
وكان في تسكانيا أن ازدهر مركز هام لهذه الحركة الأدبية والمؤيدة للمبادئ الحرة، فتأسست في فلورنسة على يد أحد الأدباء؛ بيترو فيوسو
Vieusseu
شبه دائرة أدبية، أو ندوة يجتمع فيها الكتاب من كل أنحاء إيطاليا، وتقرأ فيها كتابات المؤلفين. وكان «فيوسو» من أصل سويسري، وكان يشتغل بالتجارة في أونيليا
Oneglia (على الساحل البيدمنتي) قبل أن يستقر به المقام في فلورنسة، وقد أسس «فيوسو» في سنة 1820 بالاشتراك مع نبيل من الأحرار، هو الماركيز «جينو كابوني» سبقت الإشارة إليه، وقد سميت هذه المجلة أنتولوجيا
Antologia
المنتخبات من الشعر والنثر، وقد أمدها بالمقالات كبار الكتاب مثل؛ كارلو ترويا
Troya ، و«توماسو جروسي»، والكونت جياكومو ليوباردي
Leopardi ، ثم جوزيبي «يوسف» مازيني وغيرهم، ولقد كان برنامج هذه المجلة، وكما جاء في تصريحات هؤلاء الكتاب أنفسهم؛ تقديم أو وصف إيطاليا ، وبيان ما هي في حاجة إليه في الميدان الخلقي، وفي الآداب، ومعاونة إيطاليا لتصبح قادرة على التعرف إلى ذاتها، ولبناء مثل أعلى يتوجه إليه الطليان بأنظارهم، لا يكون محليا متعلقا بالبلديات، ولكن وطنيا (قوميا). ولم تنتشر هذه المجلة «أنتولوجيا» انتشارا واسعا، فلم يزد عدد المشتركين فيها على خمسمائة وثلاثين وحسب، ولكن نفوذها وتأثيرها كان عظيما، فقد تألفت حول هذه المجلة أو بواسطتها «مدرسة» تخصصت في دراسة دانتي
Dante ، الشاعر الوطني - الإيطالي - العظيم، كما نشأت من جهة أخرى «مدرسة» تاريخية؛ أي من المؤرخين الذين كان من أعلامهم؛ «كارلو ترديا» في نابولي، و«سيزار بالبو» في تورين، و«جينو كابوني» في فلورنسة.
تلك إذن كانت ملامح الحركة الرومانسية، فهي تمثل - كما شاهدنا - ثورة ذهنية في إيطاليا، ويقظة الروح الإيطالي، الذي يجب أن نذكر دائما، أنه قد ارتبط دائما ومن أول الأمر بالمبدأ الحر، والفكرة الوطنية، ولم يكن الكاتبان البارزان، من أعلام هذه المدرسة الرومانسية من المشتغلين بالسياسة، ومع ذلك فقد كان لهما أثر هام في بناء «الروح الإيطالية»، وأما هذان الكاتبان فكانا: أليساند ومانزوني
Manzoni ، و«جياكومو ليوباردي».
وينتمي «مانزوني» الذي عاش بين 1785، 1873 إلى أسرة نبيلة من ميلان، ولو أنه تخلى عن لقب الكونتية الذي يحمله، وبدأ «مانزوني» حياته الأدبية والفكرية كأحد تلاميذ المدرسة الكلاسيكية، وذلك في اتجاهاته الذهنية، وفي الموضوعات التي عالجها، كما استمد آراءه الفلسفية في الوقت نفسه من «الفلسفة» السائدة في القرن الثامن عشر، ولكن «مانزوني» لم يلبث أن استرجع إيمانه وعقيدته الدينية المسيحية عند زواجه. ومنذ سنة 1812 بدأ نتاجه الجدي في الأدب، حينما نشر سلسلة من «التسابيح المقدسة»
12
استمرت حتى سنة 1822، وأيد «مانزوني» المنشور الذي أذاعه «بيركيت» عن الميادين الرومانسية في الأدب، كما أيد في الوقت نفسه المبادئ الحرة، وفي مارس 1821 نظم «مانزوني» لتحية الثورة التي حصلت في بيدمنت قصيدة بعنوان (مارس 1821) لم ينشرها صاحبها مع ذلك إلا في سنة 1848، كما كتب بعد شهور قصيدة أخرى بمناسبة وفاة نابليون، الذي قضي في منفاه، في سانت هلانه يوم 5 مايو 1821. والتفت «مانزوني » إلى الأدب المسرحي، فكتب تمثيليتين من النوع التراجيدي، استمد حوادثهما من وقائع التاريخ الإيطالي؛ الأولى بعنوان «الكونت دي كارمانولا»
13
في سنة 1820، والأخرى بعنوان أديلكي
Adelchi ، وذلك في سنة 1822. وقد عنى «مانزوني» بسرد حوادث هاتين المسرحيتين التاريخيتين في مقطوعات من الشعر المنغم، أكثر من عنايته بأمر الحبكة المسرحية، أما في «كونت دي كارمانولا» فقد أظهر المؤلف عواقب النزاعات الداخلية السيئة، وكيف أن الأجانب فقط هم الذين يفيدون منها، وصار يحذر النظارة من مغبة الخلافات والحروب الأهلية، ويوجه اللوم والتأنيب العنيف لكل من يثير هذه المنازعات أو يشترك بها، ويلح في ضرورة التكتل في وجه العدو الأجنبي. وكان الشعر الذي صاغ به «مانزوني» هذه المعاني، يفيض بالحماسة التي ملأت صدور صاحبه، حتى إن بعض هذه المقطوعات سرعان ما صارت «أغنيات» وأناشيد وطنية، يرددها الطليان ويتغنون بها، ولقد تضمنت المسرحية الأخرى «أديلكي» إشارات للموقف السائد وقتئذ في إيطاليا كانت بدرجة من الوضوح، جعلت «الرقباء» يحذفون منها عبارات (أو مقطوعات من الشعر) كثيرة، ولم يسع أحد هؤلاء إلا أن يكتب في هامش إحدى الصفحات: ماذا يظن بنا السيد مانزوني! هل يعتقد أننا لا نفهم المعاني التي يريدها؟
على أن «مانزوني» لم يلبث أن ترك جانبا الأدب المسرحي؛ لينشر بعد سنة 1825 القصة التي خلدت اسمه، وكانت عن الذين عقدوا خطوبة الزواج، وكانت «رواية» تاريخية ورمزية في الوقت نفسه، وقد نشرت هذه في سنة 1827،
14
ولكن ذلك كان نتاجه في ميدان القصص؛ لأنه سرعان ما انكب بعد ذلك على دراسات نقد الأدب، والفلسفة، واللغويات، وكان واضحا في كل كتابات «مانزوني» وتفكيره أنه «مسيحي» قبل أي اعتبار آخر.
فالعاطفة الدينية في اعتباره هي منبع القوة والشجاعة، والدين هو المحبة بين البشر، ثم هو الذي يقدم المثل الأعلى للمساواة والعدالة، ومبعث الأصل والرجاء لدى الذين وقع عليهم الظلم، ولقد اعتقد «مانزوني» أن الأدب يجب أن يخدم أغراضا نافعة، وأن يساعد على إحياء إيطاليا خلقيا (روحيا) واجتماعيا. وفي رأي «مانزوني» أن من الواجب إعادة تربية الأمة خلقيا وروحيا قبل المطالبة بالحرية السياسية لها، فصار ينصح بالتريث والاعتدال، وطول الأناة، ولكن دون التخلي عن الأماني والمطالب المراد تحقيقها. ولما كان «مانزوني» بطبعه متفائلا فقد آمن بانتصار مثله الأعلى عن الخير والعدالة، وذلك في وقت قريب.
وهكذا لم يكن «مانزوني» بحال من الأحوال «ثوريا»، بل كان على العكس من ذلك «مربيا» يريد تربية الأمة، خلقيا وروحيا واجتماعيا، ولقد كان له أعظم النفوذ وأعمقه في بناء إيطاليا من هذه الناحية الخلقية والروحية، وفي صنع الشعور القومي، وهو نفوذ من نوع النفوذ الذي كان «لسيلفيوبيلليكو»؛ أي إنه كان نفوذا تربويا وخلقيا، وليس سياسيا بصورة مباشرة.
أما «جياكومو ليوباردي»، فقد عاش بين 1798، 1837، أي إن حياته كانت قصيرة، والحديث عن نشاطه وحياته يجب أن يكون أكثر سهولة من الحديث عن حياة ونشاط «مانزوني». ففي تاريخ الأدب، يعتبر «ليوباردي» من عداد المدرسة الكلاسيكية، في حين كان في حياته وشخصه يمثل الرومانسية بسبب الحياة المليئة بالآلام التي كان يعيشها، ولأنه كان «متشائما»، ومن وجهة النظر القومية، يسهل كذلك تحديد موقف «ليوباردي»، من حيث إنه كان متأثرا ولا شك بالروح الوطنية (القومية)، فحز في نفسه حزا عميقا أن يرى إيطاليا وقد نزلت بها المذلة والمهانة، وأنها قد صارت تسير في طريق التدهور منذ سنة 1815، ولكنه في الوقت نفسه كان يحمل حملة شديدة على حركة الأحرار، وينقد هؤلاء نقدا عنيفا. وينتمي «ليوباردي» إلى عام الفكر الجديد والدراسات الجديدة، بفضل نتاجه الأدبي واللغوي الأول، ولقد كان في سنة 1818 أن نشر «ليوباردي» أغنيتيه الوطنيتين عن «إيطاليا» وعن «التعصب المزمع إقامته في فلورنسة لدانتي»، ثم لم يلبث أن نشر في سنة 1820 قصيدة لتحية أحد أمناء المكتبات أنجيلو مائي
Mai - كان قد وفق في الكشف عن بعض المخطوطات القديمة «الكلاسيكية»، وهذا النتاج كان القدر الذي ساهم به «ليوباردي» في الأدب الوطني، فهو يعرض على إيطاليا المهانة والذليلة حالا، صورا من عظماء الرجال في الزمن الغابر، والذين طلب من أبناء البلاد أن يترسموا خطواتهم، ويعرض دروسا من البطولة والشجاعة، تضافرت على كتابتها أقلام كبار المؤلفين أو عظماء الرجال في الماضي، ويريد أن يتلقنها الإيطاليون في عصره، وعقد «ليوباردي» آمالا واسعة على الشباب فهو يوجه حديثه لهم دائما، وهو يعتمد عليهم في إمداد الوطن بأجيال من الفتوة المتينة والوثيقة التي كانت إيطاليا في حاجة لها، يقابل ذلك أن «ليوباردي» في أخريات أيامه، عمد إلى تناول جماعة الأحرار الإيطالية بالنقد، فهو ينقد شدة ثقتهم في أنفسهم، والتي لا مبرر لها في نظره، ويعيب عليهم عدم كفايتهم وعجزهم، ولا يرى خيرا في برامج الإصلاحات الحرة، وتهكم بأشخاص الأحرار والوطنيين القوميين، وأظهرهم في صور تبعث على الزراية بهم، فسرد في آخر قصائده المعروفة (1837)؛ قصة النضال بين الجرذان والضفادع، وهي القصة التي نسبت خطأ لهومر
Homer
صاحب «الإلياذة» المشهورة؛ فكان الجرذان في قصيدته هم أهل نابولي، والضفادع هم القساوسة، والسراطين - جمع سرطان - هم النمسويين.
ذلك إذا كان القدر الذي ساهم به كل من «أليساندرو مانزوني» و«جياكومو ليوباردي» في الحركة القومية (الوطنية)، وحركة التحرير الإيطالية، وهو قدر في حد ذاته كان ضئيلا، ولكنه كان على جانب كبير من الأهمية، إذا قيس بالأثر الذي خلفه كجزء من التراث الأدبي والروحي (والخلقي) الذي صار لإيطاليا.
هذا، ولقد كان بعد سنة 1830 أن زاد تشكيل وبروز الطابع أو الظاهرة السياسية التي بدأت بقيام الحركة الرومانسية، حتى إنه ليصح القول بأن الأدب الإيطالي بعد هذا التاريخ يكاد يكون صورة لحركة المبادئ الحرة، يكاد يكون بأكمله مكرسا لشئون السياسة؛ (أي أدبا سياسيا)، ويضع الفن تحت حكم الاعتبارات السياسية، بل لقد بدأ الكتاب يزجون بأنفسهم في ميدان العمل والنشاط الإيجابي، وصار كثيرون منهم «ضحايا» لقضية الحرية - قضية المبادئ الحرة - مثلهم في ذلك مثل «سيلفيوبيلليكو» الذي مر بنا ذكره، من الذين اشتركوا في حوادث 1821، واتخذت هذه الحركة، صورة الانكباب على التراث الأدبي القديم، وخصوصا على آثار «دانتي»، فبلغ عدد المرات التي أعيد فيها نشر «الكوميديا الإلهية» المشهورة أكثر من مائتين، وذلك فيما بين سنتي 1830، 1870 فحسب، كما ظهرت دراسات عديدة عن هذا الشاعر، لعل من أهمها كانت الدراسة التي نشرها في سنة 1830 عن «حياة دانتي» الكاتب الإيطالي إريفابيني
Arrivabene
ثم تلك التي نشرها «سيزار بالبو» في سنة 1839.
وفي الوقت نفسه بدأ الإيطاليون يهتمون بالأقاصيص والأساطير، ومجموع العادات والتقاليد المورثة، والمعتقدات وما إليها، مما يعرف باسم الفلكور
Folklore . كما أخذوا يهتمون بدراسة اللغة، فنشر نيقولو توماسيو
Niccolo Tommaseo
في سنة 1830 «معجما للمترادفات»، وكان «توماسيو» إيطاليا ولد في دلماشيا، ثم استقر به المقام في فلورنسة، ثم اهتم «توماسيو» بالأدب، فنشر في سنة 1837 رواية تاريخية بعنوان «دوق أثينا»، ثم نشر في سنة 1841 مجموعة (أو ديوانا) من الأغاني الشعبية جمعها من تسكانيا وكورسيكا، والأقاليم الأليرية (دلماشيا وساحل الأدرياتيك الشرقي)، ثم شرع في إعداد «معجم للغة الإيطالية» لم ينته منه ولم ينشره إلا في سنة 1855.
وإلى جانب الدراسات اللغوية والفولكور عنيت المدرسة الرومانسية بالدراسات التاريخية، فتأسست في تورين في سنة 1833 جمعية للتاريخ الوطني؛ أي لدراسة تاريخ البلاد، وفي سنة 1842 تأسست في فلورنسة جمعية «المحفوظات التاريخية الإيطالية» والتي كان أهم المساهمين في نشاطها المؤرخ «جينو كابوني» صاحب تاريخ «جمهورية فلورنسة»، وكان من بين المؤرخين الآخرين؛ «كارلو ترويا» - وقد سبقت الإشارة إليه - وهو من نابولي، نشر في سنة 1839 تاريخا لإيطاليا في العصور الوسطى، ثم نذكر من هؤلاء؛ ميسكيلي آماري
Michele Amari
الذي نشر في سنة 1842 تاريخا لمذابح صقلية أو سيشليا التي وقعت في سنة 1282، وذهب ضحيتها الفرنسيون بهذه الجزيرة، خصوصا في باليرمو
على أيدي السيشليان، ثم إنه نشر بعد ثلاث سنوات (1845) تاريخا للمسلمين في صقلية، ولقد سبقت الإشارة إلى «سيزار كانتو» وهو المؤرخ الذي نشر في سنة 1832 «تاريخ لمبارديا في القرن السابع عشر»، ثم أخذ ينشر ابتداء من سنة 1845 «تاريخا للعالم»، ولقد استرعت دراسة القانون القديم انتباه العلماء والمثقفين، فنشر كاتانيو
Cataneo
في سنة 1844 بحوثه في «القانون المدني والطبيعي في لمبارديا»، وكانت هذه دراسة على جانب عظيم من الأهمية.
وكان إلى جانب هذه الكوكبة من العلماء والمؤرخين والأدباء والكتاب إلخ؛ أن نمت واتسعت حركة النشر وإصدار المطبوعات الدورية، حقيقة تعطلت مجلة «أنتولوجيا» في سنة 1833، ولكن مجلات أخرى لم تلبث أن ظهرت إلى الوجود، وكان عددها كبيرا ، منها واحدة باسم «المرشد في التربية»، ظلت تظهر من 1835-1845، وأخرى باسم «إيطاليا»، وهكذا.
ولقد كان طبيعيا أن يتجه هذا الأدب الهادف إلى التربية والتهذيب نحو السياسة، ولكن هذا الاتجاه نفسه يمكن ملاحظته كذلك، في الأدب الروائي، ومع أن الفكرة أو الموضوعات التي تعرضها الروايات أو القصص في هذا العصر، لم تكن مستوحاة من الأحداث أو التطورات السياسية مباشرة، فمن الثابت أنه كان لهذا النوع من الأدب، أثر بالغ من الناحية السياسية ذاتها، في نفوس المعاصرين، وعلى الخصوص قصص (أو روايات) - فرنسيسكو جويراتزي
Guerrazzi (1804-1873) وهو من ليفورنة، كان عنيفا في كتاباته، ملتهب العواطف والمشاعر، بدأ حياته الأدبية في سن العشرين، وفي سنة 1836 ظهرت قصته المشهورة عن «حصار فلورنسة»،
15
وهو الحصار الذي انتهى في سنة 1530 بخضوع فلورنسة بعد دفاع عنيد لآل مديشي، الذين كان انتزعها منهم الفرنسيون أثناء «الحروب الإيطالية» المعروفة في القرن السادس عشر، فاستردها ألسندرودي مديشي
Medici ، وقد ألهبت هذه القصة (الرواية) شعور الشباب الإيطالي، وكانت أسمى تصانيف «جويراتزي» إطلاقا، كتب صاحبها إلى «مازيني» يقول: إنه إنما كتب هذا الكتاب (أو القصة)؛ لأنه كان يعجز عن امتشاق الحسام في معركة فعلية، ولقد راحت إحدى الصحف السرية التي يصدرها الأحرار وقتئذ باسم الرائد أو المبشر
توصي بقراءة هذه القصة «كل الإيطاليين الذين تعمر قلوبهم بالولاء لبلادهم، والذين يريدون الوقوف على مدى الخزي والعار، ودرجة الطغيان الكريه والبغيض، اللذين حلا بالبلاد سنوات طويلة بسبب سفه الأجانب الجنوني، أو ما كانت تنفثه في صدورهم الأطماع الخبيثة.» ولقد استمرت هذه الصحيفة تقول: إن هذا الكتاب (أو القصة) قد جعل الرعب والهلع يستبد برجال البوليس، الذين شبهتهم الصحيفة بذلك الابن أرغوس
Argus
الذي كان لأحد آلهة اليونان في أساطيرهم القديمة، له مائة عين ولا ينام إلا باثنين منها فقط، فصار البوليس المرعوب يفتش الدور والأبنية تفتيشا دقيقا؛ ليصادر ما قد يعثر عليه من نسخ من هذا الكتاب لإتلافها، ولم تكن «حصار فلورنسة» القصة الوحيدة من هذا النوع التي كتبها «جويراتزي»، بل كانت له قصص (روايات) أخرى تاريخية من هذا الطراز نفسه.
ولقد صار الشعراء كذلك يرقون في قصائدهم بالعاطفة الوطنية أو السياسية إلى القمة، ومن هؤلاء: ترنتزيو مامياني
Terenzio Mamiani
كونت، ديللا روفيري
Rovere ، وكان من رجال السياسة في الولايات البابوية، وقد أخذ ينشر ابتداء من سنة 1829 طائفة من الترانيم والتسابيح والقصائد، ثم كان من هؤلاء الشعراء كذلك: جيوفاني نيكوليني
Niccolini
أحد الأساتذة من فلورنسة، ومؤلف عدد من «الدرامات» المنظومة شعرا مثل: «أنطونيو فوسكاريني»
16 (في سنة 1827)، التي نقد فيها الحكومات المطلقة، ثم «لودوفيكو سفورزا»
17
التي رسم فيها صورة لملكية تقوم على المبادئ الحرة، قال «نيكوليتي»: إنها ضرورية لإحياء إيطاليا وبعثها من جديد (1837)، وفي إحدى دراماته: «جيوناني دي بروشيدا»
18
هاجم مساوئ الحكم النمسوي والمظالم التي يوقعها النمسويون بالشعب، وأما أهم مسرحياته - المنظومة شعرا - فكانت «أرنالدو دا بريزبا»
19 (في سنة 1847)، والتي أبان فيها: كيف أن البابا والإمبراطور كانا متحدين في الماضي والحاضر في إذلال إيطاليا، وتصفيدها بأغلال العبودية، وإلى جانب «مامياني» و«نيكوليتي» يحتل نفس المكانة: جوبرتي جويستي
Giusti
صاحب القصائد التهكمية اللاذعة ضد الحكومة، والتي لم يكن يجرؤ أحد على طبعها، والتي صار يتداولها الناس سرا، وكانت قصائده تفيض بالكراهية ضد النمسويين، ثم ضد الديماجوجيين؛ أي الزعماء الذين يعتمدون في زعامتهم على تحريك عواطف الطبقات الدنيا الجامحة. وأخيرا، فقد أخذ كاتب وشاعر آخر هو: أنجيلو بروفيريو
Brofferio
ينشر ابتداء من سنة 1831 أغنيات باللهجة البيدمنتية، كلها كذلك مليئة بالتهكم اللاذع ضد الحكومات القائمة.
وهكذا أصبح الأدب في إيطاليا، أدبا سياسيا، ومما يجب ذكره؛ أن أكثر هؤلاء الكتاب والمؤلفين والشعراء الذين ذكرناهم، سوف يكونون من بين المشتركين في حركات ثورة 1848؛ وعلى ذلك ففي وسعنا القول: أنه بين 1815-1848، وعلى الخصوص ابتداء من سنة 1830، قد أخذ يحدث اندماج كامل بين الحياة الذهنية في إيطاليا، والأماني القومية الوطنية، ولقد كان الدور الرئيسي الذي قام به «الأدب» الذي استعرضنا خصائصه في هذا العصر، هو تربية الشعب الإيطالي، وتشكيل روح إيطالية وطنية عامة بصورة مطردة، لا يلبث أن يشتعل لهيبها، فيشمل إيطاليا بأسرها.
على أنه قبل الانتقال إلى دور العمل والنشاط الثوري في سنة 1848، كانت هذه «الحركة الأدبية» قد أفضت إلى نتيجة هامة معينة، هي تطهير وتنقية الحركة الثورية، والارتفاع بها إلى مثل وأهداف أسمى من مجرد محاولات «محلية» إلى جهد أوسع ينشد غايات «وطنية»، أو قومية أوسع مدى وأعمق أثرا في نتائجها، ولقد بدأت الحركة الثورية تتخذ منذ 1830 شكلا مختلفا عما كان لها سابقا، وذلك تحت زعامة وإرشاد «مازيني»، وبفضل تأسيس جمعية «إيطاليا الفتاة» على يد «مازيني» نفسه.
مازيني وجمعية إيطاليا الفتاة
20
ولقد كان من أسباب تحول الحركة الثورية، من المحلية إلى الإقليمية إلى الوطنية الإيطالية؛ أي التي تشمل كل إيطاليا، ذلك الهوان الذي شعر به الطليان من جراء إخفاق جمعيات «الكاربوناري»، وكان طبيعيا أن يجعلهم الفشل الذي أصاب «الكاربوناري» والهوان الذي شعر به الإيطاليون، يتحولون إلى الحياة الذهنية والفكرية؛ ليجدوا في هذا الحقل النظري منفذا لنشاطهم، ولقد كان للتأثير التربوي الذي أحدثته الحركة الرومانسية في الأدب نفس النتيجة، من حيث إنه أضفى أهمية جوهرية على العامل أو العنصر الروحي والخلقي، وتحت هذين التأثيرين إذن الشعور بأنهم كانوا مخدوعين بجدوى العمل المادي؛ (أي الثوري)، ثم الخضوع لنفوذ التوجيه التربوي الذي كان للحركة الرومانسية، نقول: إنه كان تحت هذين التأثيرين إذن أن صار الأحرار الإيطاليون يدركون ضرورة العمل من أجل تطهير الحركة الثورية، وإعطائها معنى روحيا يسمو بها عن مستواها النفعي والإقليمي المحدود، وأما الحركة الثورية في ثوبها هذا الجديد، فقد تجسمت في شخص يوسف «جوزيبي» مازيني.
ويوسف مازيني كان من أسرة بورجوازية، ولد في جنوه في 22 يونيو 1805، لأب نال بعض الشهرة كطبيب وكأستاذ للتشريح بجامعة جنوه، ويدين بالمبادئ الديموقراطية طول حياته، ولأم عظيمة النشاط ومتدينة، ويعزى لانحدار مازيني من هذا الأصل الجنوي، تلك الكراهية التي شعر بها ضد ملكيته بيدمنت التي حطمت أو منعت في 1815 إعادة استقلال جنوه، وضمت هذه الأخيرة إلى أملاكها. وتلقى مازيني تعليمه أولا في أحضان أسرته، ثم التحق بجامعة جنوه فحصل منها على إجازة الدكتوراه في القانون، وهكذا نشأ مازيني وأتم تربيته في بيئة علم وثقافة، وتسود بها المبادئ المثالية. ولقد بدأ حياته الأدبية (سنة 1828)؛ أي وهو في سن الثالثة والعشرين بكتابة سلسلة من المقالات التي نشرتها صحيفة تجارية كانت تصدر في جنوه (دليل جنوه)،
21
كان محررها قد وافق على نشر إعلانات أو تعليقات بسيطة على بعض الكتب المطبوعة حديثا، لم تلبث أن استحالت تدريجيا إلى مقالات كاملة في الأدب، وقد نفذ «مازيني» في مقالاته هذه الحركة الرومانسية وجهة نظر العمل السياسي؛ أي إنه أعاب عليها الاقتصار على التفكير النظري وحسب، ولكن لم تنته سنة 1828 حتى كان البوليس قد عطل هذه الصحيفة، فوجد «مازيني» منفذا آخر لنشاطه في صحيفة «دليل ليفورنة»
22
التي أسسها «فرنسسكو جويراتزي» في ليجهورن
Leghorn «في تسكانيا» من طراز الصحيفة السابقة. وطلب «جويراتزي» من «مازيني» أن يمد صحيفته بالمقالات، وفي مقالاته الجديدة حمل «مازيني» مرة أخرى على الحركة الرومانسية، ومع أن الرقابة لم تكن في تسكانيا صارمة بالدرجة التي كانت بها مثيلاتها في الحكومات الأخرى، فقد استرعت جرأة الصحيفة المتزايدة، وعلى الخصوص العنف الشديد الذي اتسمت به إحدى مقالات «مازيني» الأخيرة، انتباه الرقابة التي بادرت بتعطيل الصحيفة. وعندما حدثت ثورة يوليو 1830 المعروفة في باريس، وقامت الاضطرابات والثورات في إيطاليا الوسطى، حامت الشبهات حول «مازيني» بسبب انضمامه إلى جمعية الكاربوناري - وذلك منذ الوقت الذي بدأ يكتب فيه مقالاته «بدليل جنوه» - فقبض عليه البوليس وألقى به في السجن في سافونا
Savona
بتهمة التحريض على إحدى حركات العصيان والثورة، فبقي بالسجن ستة شهور، ومنع من الإقامة بجنوه، ووضع تحت المراقبة، ففر إلى كورسيكا (فبراير 1831) ومنها إلى مرسيليا.
وكان أثناء سجنه في «سافونا» بإقليم جنوه، أن استطاع «مازيني» تحديد العناصر التي تألفت منها عقيدته السياسية.
ولما كان «مازيني» قد وصل إلى مرسيليا في اللحظة تقريبا التي اعتلى فيها شارل ألبرت عرش بيدمنت في 27 أبريل 1831، فقد بادر «مازيني» بإرسال كتاب باسم «الإيطاليين»، يذكر فيه الملك الجديد أنه وهو ولي للعهد، كأمير «كارنيان» كان مقتنعا بفكرة تحرير إيطاليا، ويهيب به أن يصغي لصوت إيطاليا الذي لا ينتظر غير كلمة واحدة، كما قال مازيني: «حتى يصبح صوتك أنت.» ثم استطرد يقول: «هلم ضع نفسك على رأس الأمة، واكتب على رايتك: الاتحاد والحرية والاستقلال! هلم وأنقذ إيطاليا من البرابرة!» ولكن مازيني لم يظفر بجواب على رسالته إلى شارل ألبرت، بل كان من أثر هذه الرسالة أن صدر الأمر بإلقاء القبض عليه، إذا هو حاول العودة إلى إيطاليا، فكان في ذلك انفصام كل علاقة بين ملكية بيدمنت ومازيني.
وأقام مازيني في مرسيليا، وأسس بها جمعية وصحيفة باسم «إيطاليا الفتاة» في سنة 1832، واشترط «مازيني» أن يلتحق بجمعيته الشباب والرجال دون الأربعين فقط، وتألف أعضاؤها من رجال القانون والأطباء، والأساتذة من أهل الطبقة المتوسطة (البورجوازية) بصفة عامة، والذين كان من بينهم: جوزيني جاريبالدي
Garibaldi
أحد ضباط البحرية التجارية، وأما أهم الذين تعاونوا مع مازيني في هذه الجمعية، فكان الأشقاء رافيني
Ruffini «جاكوبو» و«أجوستينو» و«جيوفاني»،
23
ثم ميليجاري
Melegari ، ثم ميشيل بوناروتي
Buonarotti ، وهذا الأخير كان من الذين انضموا «بابيف» وحركته الاشتراكية في عهد حكومة الإدارة في فرنسا، كما كان أحد الذين حرضوا على الاضطرابات التي أثارها الحزب الجمهوري في باريس (يونيو 1832)، وكانت إيطاليا الفتاة جمعية سرية ترمي إلى العمل الثوري، وتهدف في الوقت نفسه إلى «تربية» الشعب، وتلقينه المبادئ الحرة والوطنية (القومية)، وعلى ذلك فإنه لم تمض سنة واحدة على تأسيسها حتى كانت قد بدأت حياتها (1833)، بالنزول إلى ميدان العمل وتدبير المؤامرات في إيطاليا استعدادا للثورة، وفي العام التالي وسع «مازيني» نطاق جمعيته كما وسع برنامجها، وأسس في «برن» بسويسرة في 19 أبريل 1834: «أوروبا الفتاة»،
24
وكان «مازيني» قد تآمر على إشعال الثورة في بيدمنت، ولكن هذه المؤامرة أخفقت، وكان «جاكوبو رافيني» من بين الذين قبضت عليهم حكومة شارل ألبرت، وخيرته هذه بين الإعدام أو إفشاء سر المتآمرين والكشف عن أشخاصهم، فآثر «رافيني» الانتحار، ولما كانت الحكومة الفرنسية قد أمرت بنفيه وعطلت صحيفته في مرسيليا، فقد اضطر «مازيني» أخيرا إلى الذهاب إلى سويسرة، فبلغ جنيف في شهر يوليو 1833، وحاول تجهيز حملة من البولنديين والألمان والفرنسيين، الذين كانوا يعيشون في المنفى خارج أوطانهم ، بالإضافة إلى المنفيين في سويسرة، وكان غرضه الزحف على بيدمنت، ولكن هذه الحملة فشلت لأسباب كثيرة، بعد أن تجمع أفرادها (القليلون) عند الحدود بالقرب من «سان جوليان»، فتفرقت يوم 4 فبراير 1834، ولم تكن تطلق رصاصة واحدة، وفي بداية سنة 1837 وصل مازيني إلى لندن وبصحبته الأخوان: أجوستينو وجيوفاني رافيني، ومن لندن انكب «مازيني» على توجيه الحركة الإيطالية، ثم أسس بها في سنة 1842 مجلة جديدة بعنوان الرسولية أو الحوارية الشعبية
L’Apostolato Populare .
وكان «مازيني» أثناء هذا كله موضوعا تحت رقابة شديدة من جانب البوليسين الإنجليزي والفرنسي، يحصيان عليه كل حركاته وسكناته.
ولا جدال في أنه كان لمازيني تأثير عظيم على المحيطين به، والذين يقرءون كتاباته لمظهره الجذاب من ناحية، ولتعصبه لآرائه وتمسكه بالمثل العليا من ناحية أخرى، فهو لا أطماع ذاتية له، ويعيش عيشة جد وتقشف. ويعترف المتصلون به أنه يتمتع بشخصية ساحرة، وهو صاحب بلاغة وطلاقة، ويكتب بأسلوب باهر ومفعم بالحماسة، ويجعل كل كتاباته ونشراته وكراساته ورسائله مع الذين يكاتبونه من مختلف البلدان، تنبض بالحياة، ظفر بمحبة الأحرار الطليان - وذلك أمر طبيعي، ولكنه ظفر كذلك بمحبة الجمهوريين أو الأحرار الفرنسيين، وأعجب به عدد من النساء اللواتي اتصلن به مثل؛ الكاتبة الفرنسية جورج صاند
George sand ، والكونتيسداجول
D’agoult ، والبرنسيس بلجيو جوسو
Belgiojoso
وهكذا، ولقد كان بفضل هذا كله أن صار «مازيني» شخصية رومانسية تحيط بها هالة من البطولة؛ ولهذا السبب نفسه وطوال السنوات التي بقي فيها على مسرح السياسة، استمر «مازيني» صاحب نشاط عظيم الأثر، فهو قد صار زعيما للحركة الثورية في إيطاليا، ولكنه قد صار كذلك مشجعا للحركة الثورية الدولية وراعيا لها، وهو الذي راد الحركة الثورية، التي بقيت حتى هذا الوقت متخبطة في أغراضها، وعاجزة عن تعيين أهدافها؛ راد هذه الحركة الثورية ليس ببرنامج كامل فحسب، بل وبعقيدة سياسية ووطنية ينبع منها نشاطها.
فقد شاهدنا كيف نقد «مازيني» الحركة الرومانسية، وعاب «مازيني» على الرومانسية إنها كانت مدرسة تؤيد النزعة الفردية، ولا رسالة سياسية ووطنية قومية لها. وعلى خلاف ما كان يأخذ به «مانزوني» أحد أعلام هذه المدرسة ؛ اعتقد «مازيني» أن إصلاح الفرد لا يأتي إلا كنتيجة من النتائج المترتبة على إجراء الإصلاحات السياسية؛ ولذلك فالواجب أن يكون العمل السياسي هو موضوع الأدب، «فالرومانسية - كما يقول - ينبغي أن يكون غرضها تزويد إيطاليا بأدب قومي (أهلي) أصيل؛ لتدافع ببلاغة عن الآراء التي تعتمد عليها الحركة القومية والمطالب التي هي ضرورية لها.»
ولقد نقد «مازيني» كذلك جمعيات «الكاربوناري» والمبادئ والتعاليم المستندة عليها، فعاب على «الكاربونارية»
25
افتقارها إلى العقيدة الثابتة، والقوى الروحية (الأدبية)، وقبل كل شيء أنه لم تكن لها أهداف اجتماعية، فلم تعد برنامجا للإصلاحات اللازمة في التشريع (القانون) وفي التربية والتعليم، وصمم «مازيني» على استبعاد أعضاء «الكاربوناري» من جمعياته، وأخذ يوجه لهم النصح والإرشاد حتى «يضعوا الشباب على رأس الثورة!» ويطلب منهم: «أن يشعروا الشباب بأن دورا نبيلا في انتظارهم ليقوموا به، وأن يشعلوا في صدورهم نار الحماس، بإطرائهم وتأكيد ثقتهم في قدرتهم وقوتهم، ثم عليهم أن يطلقوهم بعد ذلك على النمسويين.» وكان واضحا أن تحرير الشعب ذهنيا وتربيته اجتماعيا وخلقيا، أمران لا غنى عنهما لإمكان تحرير إيطاليا وبعثها، وذلك نفسه ما لم يكن يدخل في تفكير «الكاربوناري» وحسابهم.
ومع ذلك فقد اتفق مازيني مع «الكاربوناريين» في ضرورة العمل بطريق الجماهير؛ أي الاعتماد على سواد الشعب في القيام بالحركات الثورية؛ لأن الحركة الثورية التي لا تقوم على أكتاف الشعب سوف تتعرض للفشل دائما، فلا يعود الشعب حينئذ ينظر إلى الحركات الثورية إلا بعين الزراية، وكعمل مبعثه الغرور والطيش أو الغواية؛ ولذلك فقد وجب أن يجذب الشعب إلى الثورة الأمر الذي لا يحصل إلا إذا صار لهذا الشعب «مثل أعلى» يسترشد به ويريد تحقيقه؛ وعلى ذلك فقد طلب مازيني من الكاربوناريين أن «يذكروا للشعب أنهم يريدون تحريره من طغيان الأمراء الحاكمين، ودفع الإهانات التي تأتيه من الموظفين، والظلم الذي يقع عليه من الأغنياء وأصحاب الامتيازات، وعليهم عندما تبدأ الجماهير تتحرك نحو الثورة، وعندئذ فقط أن يتجهوا إلى لمبارديا، يدعون لإشعال الحرب ضد النمسويين.» وواضح أن «مازيني» كان يستنكر كل تلك الثورات المرتجلة التي أثارها الكاربوناريون دون الاستناد إلى برامج معينة، والتي كانت حركات محلية، ومع ذلك فقد عمد «مازيني» إلى تحريك عدد من الثورات المشابهة لهذه الثورات المحلية (والكاربونارية) ذاتها.
ولقد كانت ثورة الشعب الإسباني ضد نابليون ونجاحه في طرد الغزاة الأجانب، هي المثل الظاهر أمام عينيه دائما، ووصل «مازيني» من دراسته لهذه الثورة إلى نتائج محددة، أهمها أن المتطوعين الذين تعمر قلوبهم بالإيمان أعلى مرتبة، وأعظم مقدرة في الحرب من الجيوش النظامية، وأن الجنود النظاميين إنما يكون نصيبهم دائما الهزيمة أمام الحركات الشعبية، ولكن حتى تتسنى استثارة الجماهير أو الكتل الشعبية، كان ضروريا أن يزود هؤلاء بمثل أعلى هو «الوطن» تعمل الكتل الشعبية حينئذ لإنقاذه من السلطان الأجنبي. ولقد كان «مازيني» أول من زود الحركة الثورية الإيطالية ببرنامج وطني أو قومي، عندما كانت الحركة الثورية قبل هذا الوقت قبل كل شيء حركة محلية ومبعثها المبادئ الحرة وحسب، فصارت الآن بفضل مازيني حركة قومية، وفكرة القومية عند مازيني نقية صافية، تسمو عن العناصر الروحية المجردة، فهو يقول عن الأمة: إنها تعني مجموع المواطنين الذين يتكلمون لغة واحدة ويمارسون مشتركين وعلى قدم المساواة؛ الحقوق السياسية والمدنية؛ وذلك من أجل تحقيق غرض مشترك هو تنبيه وإيقاظ القوى الاجتماعية واستكمالها بصورة مطردة. ثم هو يعرف كذلك القومية بأنها: «الفكر المشترك، والمبدأ المشترك، والهدف المشترك.» فالأمة هي «اجتماع كل الناس الذين تربطهم اللغة والاعتبارات الجغرافية المعينة، والدور الذي عهد به التاريخ إليهم ليقوموا به، فيعرف هؤلاء أن لهم مبدأ واحدا، ويسيرون بحكم قانون موحد نحو تحقيق غرض واحد ومعين، وتتألف الحياة القومية «الأهلية» من ذلك النشاط المتسق، الناجم من استخدام كل القوى الفردية التي يحتويها المجتمع أو اجتماع هؤلاء الناس؛ لتحقيق هذا الغرض الفرد.» وواضح أن هذه العبارات التي عرف بها «مازيني» القومية، إنما كانت تفسر معنى وفكرة يقظة الشعور القومي، وبداية ظهور المبدأ القومي، والأسباب والعوامل التي وراء هذه اليقظة والبداية.
ولقد ارتفع «مازيني» بهذه المعاني أو المدركات التي أتى بها لمدلول القومية ، إلى أقصى درجات المثالية عندما قال: «إن الوطن قبل كل شيء إنما هو شعور المرء بأن هناك وطنا، فليست الأرض التي تمشي عليها، وليست الحدود التي تقيمها الطبيعة بين أرضك وأرض الآخرين، واللغة العذبة التي تتجاوب أصداؤها فيها، إلا الشكل الظاهر للوطن، أما إذا لم تكن روح الوطن تقطن في محراب حياتك المقدس الذي اسمه الضمير، فإن هذا الشكل الظاهر يشبه حينئذ جنة جامدة لا نفس فيها ولا حياة لها، وتكونون أنتم قبرا لا اسم له، كتلة أو جمهرة من الأفراد، ولكن ليس شعبا، فالوطن هو الإيمان به، فإذا كان كل واحد منهم له هذا الإيمان، ويصبح مستعدا لإراقة دمه في سبيل الوطن، فعندئذ فقط أنتم تملكون وطنا وليس قبل ذلك بتاتا!» ولا جدال في أن هذه المعاني التي أتى بها مازيني للوطن وللقومية، كانت تسمو كثيرا على كل تلك المعاني والمدركات المحدودة والإقليمية، وذات الطابع النفعي التي اقترنت بفكرة العمل الثوري، والتي أتت بها «الكاربونارية».
بل إن «مازيني» قد ارتقى بفكرة القومية، بدرجة تجاوز بها المعنى القومي أو الأهلي؛ ليسمو بها إلى المعنى «الإنساني»، فقال: «إن القومية شيء آخر كذلك، فالقومية هي نصيب الشعب المعطى له من فعل الله؛ ليساهم به في كد الإنسانية واجتهادها، هي رسالة الشعب والواجب الذي عليه تأديته على الأرض، حتى يمكن أن تتحقق فكرة الله على هذه الأرض، ثم هي العمل أو الفعل الذي يعطي الشعب حق ذكره في عالم الإنسانية، وهي التعميد الذي يعطي الشعب طابعه الخلقي وعلامته، ويقدر له المكان الذي ينزل به بين الشعوب التي هي إخوته.» فلا يقف الجهد أو الفعل القومي إذن عند حدود أمة واحدة فقط، أو أنه يستنفد قوته بمجرد خروج أمة واحدة إلى عالم الوجود، فالواجب الملقى على عاتق الجهد أو الفعل القومي، إنما هو واجب أكثر اتساعا وضخامة، وذلك عندما عرف «مازيني» الإنسانية بأنها اتحاد أو اجتماع الأوطان وارتباطها ببعضها بعضا، وأنها تحالف الأمم من أجل تأدية رسالتها على الأرض.
وفي ضوء هذه المعاني إذن للوطن والقومية والإنسانية، يصبح سهلا إدراك الغاية من تأسيس «جمعية إيطاليا الفتاة»، والفكرة المنبثق إنشاؤها منها، ومدى ارتباط «إيطاليا الفتاة» بهذه الفكرة ذاتها، فكرة القومية؛ بل إن محبة مازيني للبولالنديين - الذي عرفنا أنهم قاموا بثورتهم الأهلية ضد روسيا سنة 1831 - ورغبته في حدوث الاتفاق والتفاهم و«الصلح» بين هؤلاء البولنديين والديمقراطيين الروس، إنما يفسرها نفس هذا «الواجب» الذي يشعر «القوميون» أنهم مقيدون به نحو الإنسانية قاطبة، ونحو هذه الإنسانية اعتبر «مازيني» أن لكل شعب من الشعوب رسالة خاصة به عليه تأديتها، أما رسالة الشعب الإيطالي، رسالة إيطاليا، فقد عظمها مازيني وفخمها تفخيما، على غرار ما فعل «جويزبي الفييري» من قبل، أو ما كان يفعله الرومانسيون الآن الذين يعظمون روما القياصرة وروما البابوات - القياصرة والبابوات الذين فرضوا سلطانهم على العالم، والذين وحدوا هذا العالم وبسطوا عليه ألوية السلام - وعقد مازيني آمالا كثيرة على «إيطاليا الثالثة» إيطاليا في العهد الجديد، الذي يعيد ذكرى إيطاليا في عهدي المجد والفخار السابقين، إيطاليا الثالثة التي سوف تقوم بنفس الدور، وتضطلع بنفس المهمة، ولم يعترف «مازيني» بأمة أو دولة أخرى إلى جانب إيطاليا في استطاعتها أن تقوم بدور المرشد للحضارة والمدنية، وبما في ذلك فرنسا التي يعترف لها الأوروبيون في مجموعهم بالقدرة على القيام بهذا الدور.
وهكذا يستبين أن مازيني كان صاحب عقيدة مؤسسة على فلسفة سامية لفكرة القومية وللمبدأ القومي، فقد كان في إدراكه لمعنى القومية يرقى بها إلى أسمى مظاهرها وأشكالها، وبالنسبة لإيطاليا كانت الفكرة القومية عند وضعها موضع التنفيذ، هي انقطاع كل صلة بعمل الثوريين الإيطاليين في الماضي، فاختلف الأثر الذي حدث في نفسه نتيجة لرد الفعل الذي كان لهذه الحركات الثورية الأولى، عن الأثر الذي خلفته هذه في نفس «سيسموندي» المؤرخ الإيطالي مثلا، الذي كتب في نوفمبر 1830:
أنه ينحاز إلى صفوف الملكية إذا حصل - وذلك أمر محتمل الوقوع جدا - أن ملكا من بيدمنت أو من نابولي أمد الإيطاليين بهذا الثمن، بنواة جيش، وبمخازن للأسلحة والذخائر.» ثم استمر يقول: «إنه يريد الاستقلال ومتمسك به ؛ ولذلك فهو يريد القوة ويعتمد عليها أكثر من رغبته في الحرية والتمسك بها.
ولقد وافق مازيني على أن الأمراء والملوك في وسعهم نجدة القضية الوطنية أو القومية، بفضل القوة الفعلية التي يأتون بها لخدمة هذه القضية، ولكن هذه الفائدة لا يلبث أن تزول قيمتها أمام طائفة كبيرة من المحاذير، وبسبب كل تلك الغيرة التي يشعر بها الملوك نحو بعضهم بعضا، حتى إنه لا يحسن كثيرا رفض هذه النجدة، ثم إن مازيني حمل حملة عنيفة في تصنيف صغير نشره في سنة 1833 على الفكرة الفدرائية «اتحاد إيطاليا اتحادا فدرائيا»؛ لأن هذا النوع من الاتحاد إنما هو تأييد لنظام البلديات (أو حكومة المجالس البلدية) المحلية الإقليمية، وليس مبعثه سوى الأهواء الوضيعة التي سوف تنهش أرض شبه الجزيرة كما تنهش الديدان الجيف. ولم يكن في وسع مازيني أن يظن خيرا في الأمراء أو الملوك الإيطاليين، أو يرجو منهم نفعا كقوة تعيد الحياة إلى إيطاليا وتبعثها بعثا جديدا، فليس هناك سوى وسيلة واحدة في رأيه لخلق الأمة والارتقاء بإيطاليا إلى ذلك السمو الروحي المتفق مع رسالتها، تلك هي الوحدة، والوحدة وحدها فقط، وبطبيعة الحال على شريطة أن تقترن هذه الوحدة بالحرية التي هي في الوقت نفسه شرطا لهذه الوحدة، ثم تصبح كذلك نتيجة لها، ومعنى اقتران الوحدة بالحرية؛ أن تتخذ بالضرورة شكل هذه الوحدة السامية النظام الجمهوري، فالمثل الأعلى الذي يدين به مازيني إذن هو أن تتوحد إيطاليا، وأن تسود بها المبادئ الجمهورية، وأن يجري الحكم فيها لصالح الشعب نفسه.
ولقد افترق مازيني عن المسيحية، ثم عن الكنيسة التي اعتبرها العقبة الكأداء في طريق الوحدة الأهلية، ولكن هذا لا يعني أن مازيني لم يكن مع ذلك مؤمنا بوجود الله، فهو قد جعل شعار عقيدته: «الله والشعب والإنسانية»، وكانت عقيدته السياسية درسا في الأدب والتهذيب في الوقت نفسه، فيقول: «إن الحياة رسالة، والفضيلة هي التضحية، والتضحية وحدها هي القدسية والطهارة.» ولقد كان بطريق التعظيم «لدين» القومية والتعظيم للحرية، أن صار لمازيني نفوذ عظيم، يفوق كثيرا أي نفوذ قد يتمتع به زعيم حزب من الأحزاب، أو هيئة مسلحة معينة، أو رئيس إحدى الجمعيات السرية، فجمعيات «إيطاليا الفتاة» كانت تقدس مازيني تقديسا فهي تؤمن به، وتخضع خضوعا مطلقا لتوجيهه وإرشاده، ثم إن مازيني بسبب هذا المظهر «الديني» الذي كان لقيادته وتوجيهاته، لم يكن يقبل المناقشة في أية آراء يبديها، أو أية أحكام يصدرها، بل كان يثق ثقة مطلقة في صدق آرائه وأحكامه ، وأنه على صواب، ويسير في طريق الحق دائما، الأمر الذي جعله نتيجة لهذا كله يرتكب أخطاء كثيرة، ويكلف الإيطاليين تضحيات لا فائدة منها ولا طائل تحتها، ولكن من الواجب الاعتراف أيضا بأن هذه «المثالية» هي مبعث عظمة مازيني، والسبب الذي جعله يختلف عن كل الثوريين الذين ظهروا على مسرح النضال الأول.
الثورات «المازينية»
ولقد كان من المنتظر أن بتجنب «مازيني» السير في الطريق الذي سارت فيه «الكاربونارية»من قبل، وهو الذي نقدها وعاب عليها «عملها الثوري» للأسباب التي عرفناها، ولكن مازيني لم يلبث أن سلك نفس الطريق، فهو ذو طبع حاد، وصاحب نشاط مفرط مع اشتياق عظيم للعمل، وهو «مثالي» لا يقيم وزنا للتضحية مهما عظمت في سبيل مثله العليا، بل يرى التضحية ضرورية، وسببا للزهو والافتخار، فكان ذلك منشأ تلك المحاولات الثورية التي قام بها «مازيني» وأعوانه أعضاء «إيطاليا الفتاة» في السنوات التالية، وهي المحاولات التي كانت تنتهي بالفشل بعد أن تتكبد خسائر في الأرواح فادحة، ولم يفد شيئا أن العقيدة التي أتى بها مازيني كانت مطهرة من الشوائب التي التصقت بالكاربونارية، فقد عمد مازيني إلى اتخاذ نفس الأساليب، بل وصار يسوغ ذلك بقوله: إن الظروف وحدها قد فرضت هذه فرضا، وهي الظروف الناشئة من طبيعة تكوين هذه الجمعيات السرية (جمعيات إيطاليا الفتاة) ومن المؤامرة.
فلم يمض عام واحد من تشكيل «إيطاليا الفتاة» حتى شرعت هذه الجمعية في سنة 1833 تهيئ لتحريك الثورة في مودينا، وفي مملكة سردينيا «بيدمنت»، ولكن سرعان ما اكتشفت المؤامرة، وألقي القبض على عديدين، ونفذ حكم الإعدام في طائفة منهم في جنوه وفي ألسندريا. وقد سبق أن رأينا كيف آثر «جاكومو رافيني» الانتحار على الموت شنقا، أو إفشاء سر الجماعة، وقد صدر الحكم بإعدام مازيني لرفضه الحضور أمام المحكمة، وكان «مازيني» قد فر إلى سويسرة، وفي سويسرة أسس مازيني - كما عرفنا - «أورو بالفتاة»، وصار يجهز في الوقت نفسه (1834) حملة ضد بيدمنت، هي التي كنا أشرنا إليها عند ذكر سيرته. وكان «مازيني» يهيئ حملة مزدوجة بقيادة أحد المغامرين الجنرال رامورينو
Ramorino ، كان مولده في سافوي، وخدم في جيش نابليون، وشغل أحد مناصب القيادة في الثورة البولندية سنة 1831، وكان غرض هذه الحملة الوصول إلى شامبري
Chambery (في سافوي)، على أن يخرج قسم من قواتها من سويسرة، بينما يخرج القسم الآخر من جرينوبل
Grenoble (في فرنسا بالقرب من حدود سافوي)، وفي الوقت نفسه تشتعل الثورة في جنوه وفي غيرها من المدن «في بيدمنت»، وتنفذت هذه الحركة في فبراير 1834 ولكنها فشلت، واستطاع غاريبا لدى الذي كان يقود الحركة في جنوه، الفرار في الوقت المناسب إلى أمريكا الجنوبية، ونجح مازيني في العودة سالما إلى سويسرة، ثم في الذهاب منها بعد ذلك إلى إنجلترة (1836).
وفي الوقت الذي حصلت فيه هذه المحاولة ضد بيدمنت، وكانت تحاك في مملكة نابولي خيوط مؤامرة عسكرية، لم تلبث أن ظهرت آثارها في نولا
Nola
وفي غيرها من الجهات، ولكن قضي على هذه الحركة كما قضي على الحركة الشمالية، ووضع نتيجة لذلك كل الثوريين تحت الرقابة الصارمة، وضاعف الجواسيس نشاطهم، وتشددت المحاكم في العقوبات التي أصدرتها على الثوريين المقبوض عليهم، ثم كان بعد ثلاث سنوات من هذه الحوادث أن قامت حركة ثانية (1837)، حينما انتهز مازيني وأنصاره فرصة انتشار وباء الكوليرا في صقلية، والهلع الذي استبد بالأهلين الذين اتهموا الحكومة بتسميم الآبار لإفناء الشعب وإبادته، مما جعل الاضطرابات تسود الجزيرة، كما انتهز «مازيني» فرصة حصول المجاعة في إقليم أبروتزي
Abruzzi
الشمالية الشرقية في نابولي لتحريك الاضطرابات في المملكة، ولكن سرعان ما صارت «اللجان العسكرية» تتعقب الثوريين وتطاردهم، وتقبض على المشبوهين، واتخذ الملك فردنند الثاني (1830-1859) من هذه الاضطرابات ذريعة لإلغاء ما كان متبقيا من حقوق وحريات لأهل صقلية، وبحثت الحكومة عن الصلات التي ربطت هذه الحركات «بإيطاليا الفتاة»، فبدأت من ثم محاكمة كبيرة لم تنته إلا في سنة 1841، وذلك عقب قيام محاولة على أيدي الأحرار في أكويلا
Aquila «بإقليم أبروتزي» أثبتت الصلة بين الجمعيات المازينية وبين هذه الثورات الجنوبية.
وحوالي سنة 1843 قامت محاولة ثالثة، وكان الغرض تهيئة اشتعال الثورة في وقت واحد في كل من مملكة نابولي، وفي رومانا (بالولايات البابوية)، وفي تسكانيا. ولكن الذي حدث أن المتآمرين على الثورة في كل واحدة من هذه الجهات، كانوا ينتظرون أن تبدأ الحركة على أيدي إخوانهم في الجهة الأخرى؛ حتى إن ثورة ما لم تشتعل في أي واحدة منها، بل انكشف ستر المؤامرة، وقبضت الحكومة على المشبوهين، خصوصا في رافينا
Ravenna ، وفي بولونا - بالولايات البابوية - واستطاع بعض المشبوهين الهرب؛ للقيام بحرب العصابات في جبال «الأبناين» بقيادة الآخرين موراتوري
Muratori ، اللذين اضطرا بعد فترة من الوقت إلى الفرار إلى تسكانيا ملتجئين بها.
أما هذه المحاولات الفاشلة، فقد أثارت شيئا من خيبة الأمل، حتى إن «مازيني» لم يلبث أن اعترف أن هذه الحركات العسكرية المنعزلة عن بعضها بعضا، والتي يراد بها محاربة الحكومات القائمة، إنما هي جهود عديمة الفائدة، وأن من الواجب الانتظار؛ حتى يتم امتزاج أكبر بين مختلف الجماعات في كل الأقاليم الإيطالية، لمحاولة القيام حينئذ بحركة واسعة وعظيمة، على أن ترويض النفس على الصبر كان مهمة شاقة على الشباب من أعضاء «إيطاليا الفتاة» الذين ملأتهم حماسا دعاية مازيني نفسه، وجعلتهم تواقين للعمل الثوري، خصوصا الأخوان أيتليو
Attilio
وإميليو
Emilio
باندييرا
Bandiera ، وهما نبيلان من البندقية، ويعملان ضابطين بالبحرية النمسوية، (التي يقوم بالخدمة فيها الطليان وأهل دلماشيا خصوصا)، وتأثرا بالتعاليم المازينية تأثرا عظيما، وكان مازيني يريد الاعتماد عليهما في تحريك الثورة في إيطاليا الوسطى، ولكن سرعان ما وقف البوليس في نابولي على أمرهما، كما فتحت الحكومة الإنجليزية الرسائل المتبادلة بينهما وبين مازيني الذي كان يقيم بإنجلترة. ثم اطلعت حكومة نابولي على المؤامرة، فدست نابولي عليهما الجواسيس الذين هيئوا لهما إمكان تزعم ثورة وهمية في كلابريا، واعتقد الشقيقان أن بوسعهما قيادة حرب العصابات في جنوب شبه الجزيرة بسهولة أكثر، مما لو دارت هذه الحرب في الشمال. وفي مايو 1844 ترك الشقيقان الخدمة، فهربا من الأسطول حين وقوفه عند جزيرة «كرفو»، فنزلا مع أتباعهما وكانوا عددا صغيرا في كلابريا في 16 يوليو؛ ليجدوا كمينا في انتظارهم، فكان مصير زعيمي الحملة «باندييرا» مع سبعة آخرين الإعدام رميا بالرصاص، وسقطوا وهم يهتفون: «لتحيا إيطاليا»!
لقد أثار مقتل أيتليو وإميليو باندييرا موجة من الألم في كل إيطاليا، الألم وهياج الشعور الذي يفسرهما أن الشقيقين كانا حديثي السن، ومن أسرة عريقة بالبندقية، كما أنهما أبديا شجاعة خلقية كبيرة، ولقد دل هذا الحادث على مدى التغلغل الذي بدأ يصير للحركة القومية (الوطنية) في الجنوب.
على أن فشل حركة الشقيقين «باندييرا» كانت بمثابة ضربة قاتلة أصابت جمعية «إيطاليا الفتاة»، لقد نصحهما «مازيني» بعدم القيام بهذه الحركة كعمل بعيد كل البعد عن عين الحكمة والصواب، ولكن مسئولية فشل «الثورة» في كلابريا سرعان ما ألقيت على كاهل «مازيني» و«إيطاليا الفتاة»، ومع ذلك فقد حدثت حركة صغيرة أخرى في إقليم «رومانا» في السنة التالية (1845)، بدأت في ريميني
Rimini
وكان نصيبها الفشل كذلك.
أما ما أسفرت عنه الدعاية (البروباجندا) المازينية وهذه المحاولات «للعمل» وتحريك الثورة، فهو أن بعض الأقاليم بشبه الجزيرة الإيطالية صار عدم الاستقرار يسود به عشية الثورة الكبرى «ثورة 1848»، وخصوصا الولايات البابوية التي أضافت فوضى الإدارة بها سببا آخر لزيادة عدم الأمن والاضطراب، والتي تكاثرت بها خلايا الجمعيات السرية، والتي شهدت إلى جانب هذا كله - وكما كان الحال في مملكة نابولي - عصابات اللصوص المسلحين يقطعون الطرق الرئيسية.
ولكن كل هذه القلقلة وهذا الهياج والاضطراب لم يسفرا عن نتيجة، فقد فشلت هذه الحركات الثورية جميعها، وكانت بمثابة قوى بددها أصحابها سدى، فلم يجن النشاط الثوري من كل «المؤامرات» المازينية سوى فائدة واحدة، هي ازدياد قائمة «المستشهدين» من الأحرار الطليان، ولقد كان تفضل الذكريات التي بقيت حية عن هؤلاء المستشهدين، أن قوي الإيمان بالوطن ، وذلك أثر «روحي»، وأما من الناحية العملية و«المادية» المباشرة، فلم يكن لهذه المؤامرات والحركات المازينية أي أثر.
ومنذ 1840 طرأ «تعديل» على الأفكار وأسلوب العمل في إيطاليا، وجرى هذا «التعديل» بمحاذاة الحركة الثورية المازينية، ثم اتخذ الشكل الذي صارت تعرف به الحركة القومية بعد ذلك، وهو «البعث» أو «الإحياء».
حركة البعث أو الإحياء
Risorgimento
بدأ هذا «التعديل» الهام الذي حدث في إيطاليا منذ سنة 1840 كما ذكرنا، وكان تغييرا طرأ على الذهن وعالم الفكر، وعلى الفعل أو عالم الواقع، من حيث إن الحوادث التي شاهدناها قد أدت إلى استنكار «المبادئ» أو المثل التي أتت بها الكاربونارية ورفضها، هذا من ناحية، ثم حصل من ناحية أخرى أن صارت مخترقة الحدود التي كانت تفصل فصلا تاما في الماضي بين كل «دولة» وأخرى في شبه الجزيرة الإيطالية، مما نجم منه جميعه، أن أصبح مستطاعا تشكيل حركات لم تعد منعزلة عن بعضها بعضا، كما كان الحال حتى هذا الوقت، بل صار ممكنا أن تقوم حياة قومية وطنية (أو أهلية)، وأن يبحث المفكرون والعاملون في شرائط هذه الحياة الوطنية القومية، وهذه الحركة الجديدة (الأهلية) صار يطلق عليها اسم الإحياء أو البعث
Risorgimento ، وقع أن «البعث» كان اسما لصحيفة تأسست فقط في سنة 1847، فقد صار يستخدم هذا «المصطلح» في معناه العام لوصف هذه الحركة.
والذي يجب ملاحظته أولا؛ أن شرائط الحياة الاجتماعية في إيطاليا، وإن كانت قد تبدلت، فإن هذا التبدل لم يكن كاملا ولم يحدث في كل أنحاء إيطاليا، أو بدرجة واحدة، بل كان في مجموعه يدل على أن إيطاليا التي كانت متأخرة ومتخلفة حتى هذا الوقت، قد بدأت تسير في طريق الجدة والحداثة؛ أي شرعت تأخذ بأساليب جديدة في كل نواحي حياتها.
فمن ناحية التقدم المادي، تأثرت حياتها الزراعية بوجه الخصوص، وهي التي استمرت أساس الحياة الإيطالية، وأفادت إيطاليا الشمالية من نظام إداري كان يفضل غيره كثيرا في الأقاليم الأخرى، وذلك تحت السيطرة الفرنسية أولا، ثم السيطرة النمسوية أخيرا في لمبارديا وبيدمنت - وكان كافور
Cavour
أحد هؤلاء النبلاء الذين اشتهروا في بيدمنت بحسن إدارة أملاكهم واستغلال أراضيهم؛ ثم أسس النبلاء في تسكانيا جمعية زراعية، ولقد عنى النبلاء بإذاعة التعليم الفني الزراعي، وجمعوا المجالس الزراعية من الملاك، ومستأجري الأرض أو الملتزمين بها، وافتتحوا المدارس الزراعية، وأنشئوا نوعا من البنوك الريفية لتنمية رءوس الأموال المستخدمة في الزراعة، وفي كل مكان تشكلت الجمعيات الزراعية لنشر الأساليب الجديدة المتبعة في الزراعة، ثم نمت وتقدمت الزراعات الرئيسية ؛ زراعة الأرز والذرة، وبدأت تربية المواشي بطرق يمكن القول بأنها كانت علمية بعض الشيء لإنتاج اللبن وصنع الجبن، ونمت صناعة تكرير السكر إلى جانب صناعة النسيج، خصوصا لنسج الحرير والأقطان. وفي تسكانيا بدأ العمل لتجفيف المستنقعات واستصلاح أرضها للزراعة؛ أي في المناطق المغمورة بالماء والموبوءة بالملاريا على طول ساحل البحر، ولقد بدأت قبل ذلك تنمو بعض المدن ويتزايد حجمها، فصار عدد سكان ميلان، يتجاوز من مدة طويلة مائة ألف نسمة، وسبقها الآن في هذا المغمار كل من جنوه وتورين. وفي الجنوب؛ شهدت مدينتا نابولي عهدا من البذخ والفخامة، على أن الذي يجب ذكره كذلك؛ أن هذا النمو والتقدم المادي وجد في إيطاليا الشمالية سببا معطلا له، وذلك في صورة المصنوعات الألمانية التي أقيم نظام الضرائب الجمركية في النمسا وفي لمبارديا فينيشيا لتشجيعها وترويجها. أما في الجنوب، فقد كان ظاهرا أن حياة البذخ والفخامة التي عاشتها مدينة نابولي، إنما كانت على حساب الريف الذي أثقل كاهله بسبب الضرائب الثقيلة التي حصلها الملاك من الفلاحين المشتغلين في أراضيهم.
وإلى جانب الزراعة نمت وتطورت أساليب الحياة المادية، عندما أنزلت إلى البحر في نابولي في سنة 1818 أول مركب تسير بالبخار، وعندما تأسست في نابولي كذلك أول شركة للملاحة في سنة 1823، لم تكن مع ذلك ذات أهمية فريدة في إيطاليا، حيث قد تأسست في جنوه شركة بوباطينو
Bubattino
للملاحة، وقد أدركت هذه الشركة شهرة كبيرة، ولقد مدت خطوط السكك الحديدية في إيطاليا، فنالت الشركات امتياز مد هذه الخطوط منذ 1836 في نابولي، وفي سنة 1837 في لمبارديا، وفي سنة 1838 في تسكانيا، وبدأت هذه الشركات نشاطها دون إمهال، فافتتح أول خط للسكة الحديد بين نابولي وبورتيشي
سنة 1839، ثم افتتح الخط الثاني بين ميلان ومونتزا
Monza
في العام التالي (1840)، وكان هذان الخطان يصل أحدهما بين العاصمة ومقر الملك الصيفي في نابولي، والثاني يربط بين العاصمة ومقر الحاكم الصيفي في لمبارديا فينيشيا، ومع ذلك فقد بدأ مد خط للسكة الحديد بين ميلان والبندقية في سنة 1840؛ ولهذا الخط - كما هو ظاهر - أهمية اقتصادية محققة، وفي سنة 1842 افتتح القسم الأول من هذا الخط بين بادوا
، وميستر
Mestre (الواقعة غربي مدينة البندقية)، في حين صار تشغيل الخط بين ليقورنه (ليجهورن) وبيزا (في تسكانيا) في سنة 1844، وبدأ العمل في شبكة الخطوط الحديدية في بيدمنت في سنة 1845.
ولقد بقيت «الولايات البابوية دولة متخلفة، لم تتذوق طعم هذه الحياة الجديدة، ولو أنها كانت لا تزال في الوقت نفسه نهبا للفوضى الناجمة من اختلال الإدارة وسوء الحكم من جهة، وانتشار السلب والنهب على أيدي عصابات قطاع الطرق من جهة أخرى.
أما التقدم الذي شهدناه، فلم يكن مقصورا على نواحي الحياة المادية «والعملية» فحسب، بل شمل كذلك ميدان الفكر، عندما دار البحث حول الأسس التي قام عليها هذا التقدم المادي، وفي الآراء التي انبعث منها، مما جعل متيسرا تطور التفكير في مبادئ الاقتصاد السياسي وقواعده، وإفساح المجال لقبول آراء ريشارد كوبدن
Cobden
الاقتصادي الإنجليزي (1804-1865) الذي نادى بحرية التجارة، وناقش أهل الفكر والرأي هذه المبادئ الاقتصادية الجديدة، وتحدثوا عن وجوب خفض الضرائب الجمركية بين الإمارات والدويلات الإيطالية، ولقد بدأت تظهر معالم الحركة العلمية عدا ذلك، في المناقشات التي اشترك فيها العلماء من البلاد المختلفة وفي عقد المؤتمرات العلمية التي قام على تنظيمها كل من «شارل بونابرت» أحد أبناء «لوسيان» - شقيق الإمبراطور نابليون - ثم السير جون باورنج
Bowring
أحد الأحرار الإنجليز المعروفين، وكان وقتئذ مقيما بإيطاليا، وكانت هذه أول الأمر مؤتمرات من العلماء الطبيعيين، فلم تلبث حتى صارت تبحث كل العلوم، فاجتمع المؤتمر الأول بمدينة «بيزا» سنة 1839، ثم انعقد المؤتمر الثاني في تورين سنة 1840، وصارت هذه المؤتمرات تعقد بعد ذلك سنويا في فلورنسة (1841)، وبادوا (1842)، ولوقا (1843)، وميلان (1844)، ونابولي (1845)، وجنوه (1846)، والبندقية (1847)؛ أي إن هذه المؤتمرات انعقدت في أماكن متفرقة في إيطاليا في طول البلاد وعرضها، باستثناء ولايتين أو إمارتين فقط، الولايات البابوية ودوقية مودينا، ولقد منع حكام هاتين «الدولتين» رعاياهما من حضور هذه المؤتمرات العلمية، ومع أن هذه المؤتمرات كانت أصلا ومن حيث المبدأ علمية وفنية، فقد كان ظاهرا أن من المتيسر، وعلى نحو ما حصل، أن تتجاوز المسائل موضع البحث والمناقشة، النطاق الفني والعلمي المعين لها في البرامج المعدة لأعمال هذه المؤتمرات، وأن تتناول المناقشة مسائل ذات صبغة عامة؛ أي تثير اهتماما عاما، فلا تختص بعنايتها مسائل وموضوعات «محلية»، أو مما قد يثير اهتماما إقليميا وحسب؛ وذلك لأنه يستميل فرض نطاق معين على العلم يجعله محصورا في دائرة إقليمية أو محلية ضيقة، وكذلك من المتعذر مناقشة مبادئ الاقتصاد السياسي في نطاق إمارة أو دويلة معينة، بل إن البحث في هذه المؤتمرات لا بد أن يتناول الموضوعات التي تهم إيطاليا في مجموعها كله. أضف إلى هذا أنه صار يتقابل في هذه المؤتمرات العلمية أناس من مختلف الأقاليم والإمارات (والحكومات) الإيطالية، بشكل جعل ممكنا أن ينمو نوع من الفكر المشترك أو الروح العامة، مثال ذلك أن البحث في موضوع تنظيم السكك الحديدية أو الدور الذي سوف تقوم به هذه الخطوط الحديدية للمواصلات السريعة، تناولت المناقشة في هذه المؤتمرات ليس مشاكل النقل وحسب، ولكن ما يمكن أن تؤديه هذه السكك الحديدية من خدمات كذلك، كأحد العوامل المساعدة على ربط مختلف الأقاليم بعضها ببعض، وكعنصر لذلك من عناصر الوحدة والاتحاد بين الناس والإمارات (الحكومات) المتعددة في إيطاليا، فيدور التفكير حول إنشاء خطوط للمواصلات الحديدية تستهدف الصالح العام أو المشترك لكل إيطاليا، فتبحث هذه المؤتمرات العلمية إنشاء خط للسكة الحديد يمتد على طول الساحل، مبتدئا من جنوه؛ ليمر بليفورنه (ليجهورن) وسيفيتا فيكيا
Civita-Vecchia
حتى يصل إلى نابولي، ومعنى ذلك - على حد تعبير دازيجليو - تزويد الحذاء الإيطالي بالرباط اللازم له، وهكذا أخذت تتحدد في إيطاليا معالم اقتصاد أهلي (أو قومي)؛ ليحل محل ذلك الاقتصاد «الانعزالي» الذي توزع بين الدويلات والإمارات المتعددة في نشاطه وأهدافه الإقليمية والمحلية في الماضي.
والذي يجب ذكره أن هذا التقدم الذي حصل في الميدان العلمي والفني، كان من أثره زيادة تأييد مركز الطبقة المتوسطة (البورجوازية)، ودعمه من الناحيتين الاجتماعية والسياسية، وذلك على وجه الخصوص في إيطاليا الشمالية؛ أي في لمبارديا، وبيدمنت، وتسكانيا.
ولقد كانت نتيجة هذا التقدم الفني والعلمي ، ثم ابتداء اقتصاد سياسي ذي أهداف وغايات قومية ووطنية أهلية عامة - كما كان من نتائج الشعور بخيبة الأمل الذي أوجده انهزام «الكاربونارية» وفشلها - ثم إخفاق «المازينية» في «الحقل المادي» - أي الحركة الثورية المباشرة - نقول: كان من أثر هذا كله أن اتسع أفق التفكير السياسي، واتسعت القواعد التي قامت عليها المثل العليا السياسية بالصورة التي سوف نعرضها في هذه الدراسة، ذلك أن أساليب جديدة قد تقررت الآن، مغايرة لأساليب الكاربونارية والثورات المحلية، وأن صارت الفكرة القومية تسمو على الفكرة الثورية، وجذبت الحركة السياسية اهتمام أناس آخرين غير الديمقراطيين، فصارت الفكرة السياسية تضم المجتمع بأسره، بمعنى أنه لم يعد يعتنق فكرة العمل السياسي حفنة من العسكريين المتذمرين، أو من البورجوازيين - أهل الطبقة المتوسطة - الذين حرموا من المناصب، كما لم تعد الفكرة القومية مشدودة إلى برامج الأحرار وحسب ومرتبطة بها.
واتخذت الآراء «القومية» الجديدة وسائل عدة للإفصاح عن وجودها، وعرف الداعون لها باسم المعتدلين
Moderati .
وكان المهاجرون الطليان هم الذين بدءوا الدعوة لهذه الآراء الجديدة، عندما نشر في باريس في سنة 1836 «نيقولو توماسيو»، وقد سبق الكلام عنه، كراسة صغيرة بعنوان: «آمال إيطاليا الجديدة»:
26
عبارة عن نداء موجه للقساوسة - رجال الدين - وللأمراء؛ ليتعاونوا في العمل من أجل إحياء إيطاليا، وكان في هذه الكراسة أن ظهرت للمرة الأولى فكرة أن يتولى زعامة حركة البعث والإحياء هذه «بابا» مصلح، فيغدو هذا البابا المصلح المحور الذي تدور حوله حركة البعث، ثم كان من هؤلاء مهاجر آخر - مر بنا ذكره - هو «مامياني»، وكان من المشتغلين بالقانون والفلسفة، نشر في باريس منذ 1835-1836 كتابا في الفلسفة عن «تجديد الفلسفة الإيطالية القديمة». كما نشر ابتداء من سنة 1842 «تاريخا للأدب»، كان دراسة للشعراء الإيطاليين في العصور الوسطى، أما ما يهمنا من أمر «مامياني» الآن، فهو أنه نشر في سنة 1841 في باريس كراسة بعنوان؛ «رأينا عن الشئون الإيطالية»، وفي هذه الكراسة تكلم صاحبها قبل كل شيء عن استقلال إيطاليا كحقيقة ثابتة، سواء حدث ذلك عاجلا أو آجلا بأن تخوض إيطاليا غمار الحرب بزعامة أحد أمرائها الطليان، ولكن «مامياني» كان يرى ضروريا توفر شرائط معينة للظفر بهذا الاستقلال، أهمها أن تشغل الارتباكات والأزمات السياسية النمسا، بصورة تمنعها من الدفاع جديا عن مملكتها في لمبارديا فينيشيا، كما يجب أن يتربى الشعب تربية سياسية كان لا يزال مفتقرا إليها، كما أن انضمام الطبقات العليا إلى صفوف المطالبين بالاستقلال ضروري. وزيادة على ذلك أعد «مامياني» برنامجا واسعا للإصلاح الاجتماعي، يعيد للشعب كرامته وطمأنينته، وحتى يعيش في أمن وسلام، وهو برنامج يميل للاشتراكية المخففة؛ لرفع مستوى الشعب قليلا، ولضمان تعاونه مع العاملين من أجل الإصلاح والاستقلال معا، وسوف يشترك «مامياني» في ثورات 1848، ولكن كراستي «توماسيو» و«مامياني» لم يتلقيا الذيوع والانتشار الواسع، وتنحصر أهميتها في أنهما ينهضان دليلا على ذلك التغيير الذي طرأ على الفكر، وتلك حقيقة لها خطرها في المجتمع الذي سبق أن ذكرنا أنه عالم كاثوليكي، تتغير به الآراء وتتشكل تحت تأثير الكاثولكية الديمقراطية التي تربط نفسها بشخص الفيلسوف الإيطالي روزميني
A. A. Rosmini (1797-1855)، ولقد كان المؤرخ «سيزار كانتو» - وسبقت الإشارة إليه - من بين هؤلاء الكاثوليك الديموقراطيين، كما كان منهم: روماجنوسي
G. D. Romagnosi ، أحد أساتذة جامعة بادوا، ولا جدال أن عوامل معينة ساعدت على حصول هذا التغيير في الآراء التي انتشرت وقتئذ في العالم الكاثوليكي في إيطاليا، وأهم هذه العوامل؛ الأثر الذي كان لكتابات «مانزوني» و«سيلفيوبيلليكو»، ثم استرجاع البابوية سمعتها الغابرة بفضل التواريخ التي نشرها «كارلو برويا» و«جينو كابوني»، أو بفضل برنامج الإصلاح الذي أعده للكنيسة «رفائيل لامبروسكيني» (1788-1774)
Lambruschini Raffaello ، وبذلك تهيأ الرأي العام بسبب هذه الحركات، أو التيارات الفكرية التي كانت سباقة في ظهورها؛ لقبول البرنامج الذي أتى به «جيوبرتي»، والتحمس للآراء التي احتواها كتابه عن المكانة الرفيعة التي يتمتع بها الطليان خلقيا وحضاريا بين شعوب العالم.
جيوبرتي
Gioberti
27
أما «جيوبرتي» - الذي عاش من (1801-1852) - فكان من رجال الدين البيدمنتيين من تورين، ملتحقا بخدمة البلاط كاهنا، لم يلبث أن اتهم بالاتصال بجمعية إيطاليا الفتاة، فألقي القبض عليه، ونفي من تورين في سنة 1833، فأقام لاجئا في باريس في مبدأ الأمر ثم انتقل إلى بروكسل . وكان جيوبرتي يشتغل أصلا بالفلسفة، ويعمل لوضع نظام ميتافيزيقي (مختص بالتفكير فيما وراء المادة)، ومع ذلك فقد كان «جيوبرتي» صاحب فلسفة كاثوليكية واسعة، وصفها ذات يوم «لمازيني» بقوله: إن كاثوليكيته «مطاطة» بدرجة تجعلها تتسع لإدخال كل العالم في حظيرتها، وكانت هذه النشأة الفلسفية هي مبعث الآراء التي آمن بها جيوبرتي؛ أي اعتقاده بقوة الفكرة والرأي، وبأن المحبة يجب أن تسود علاقات الناس، كما أن هذه التنشئة الفلسفية هي سبب استنكاره للعمل الثوري، ومع ذلك فلم يكن «جيوبرتي» ثابتا على رأي واحد، فهو متقلب النشاط ويطرق ميادين من العمل والرأي متعددة ومختلفة عن بعضها بعضا، فهو بعد اشتراكه في حركات «إيطاليا الفتاة» الثورية، ثم انكبابه بعد ذلك على دراسة الفلسفة، لا يلبث أن يعتنق الفكرة القومية، فينشر في سنة 1843 مؤلفه الذي نال شهرة مثيرة، وهو الكتاب الذي نشره في بروكسل بالعنوان الذي سبقت الإشارة إليه: «تصدر أو زعامة الإيطاليين الخلقية والمدنية».
28
ولم تكن فلسفة «جيوبرتي» إلا سلسلة من الأقيسة والبراهين للتدليل على صحة آرائه السياسية، عندما ارتكزت عقيدته على أساس واحد واستغرق نشاطه الذهني التفكير في موضوع جوهري، هو «وطنيته» الصادقة التي يغذيها كبرياؤه الإيطالي، في حين كان لا يستطيع إغفال أنه في الوقت نفسه من القساوسة، وأنه «محافظ» في مذهبه، وتلك جميعها اعتبارات يستبين منها الاتجاه الذي تحتم أن تسير منه آراؤه، وتتشكل بفضلها عقيدته ومبادئه، فمحبة الوطن، محبة إيطاليا، والعمل من أجل رفعة شأنها القاعدة الأساسية لكل تفكيره ونشاطه، ومع أنه حاول أن يستمد من «التاريخ» الأدلة والبراهين على عظمة إيطاليا، وتبوئها مكان الصدارة بين الأمم في الماضي والحاضر، فقد كان واضحا أن محبته لإيطاليا ورغبته في تمجيدها، كانا المعين الذي استخلص منه كل الأدلة «المنطقية» التي راح يسوقها في أثر بعضها بعضا لتشكيل صورة - كانت خيالية أكثر منها تاريخية - لبلاده إيطاليا، التي أراد لها الزعامة على كل الأمم، ولقد أثبت «جيوبرتي» نفسه نوع الفلسفة التي يسوغ بها هذه المحاولة عندما قال: «إن من المتعذر على أمة أن تحتل المكان اللائق بها بين أمم العالم، إلا إذا اعتقدت أنها أهل لملء هذا المكان.» ولقد كان طبيعيا أن يدور البحث حينئذ حول تلك «الرسالة» التي كان على إيطاليا تأديتها في الماضي والحاضر، والتي يحق لها أن تفخر بها، فأقام «جيوبرتي» الحجة في كتابه - وبوسائله - على أن الرومان هم الذين نشروا مبادئ العدالة في العالم، وأقاموا صرح القانون، وأن «المسيحية» قد لقنت العالم دروس السلام والمحبة؛ أي إن إيطاليا في عهدين من عهود التاريخ هي التي وضعت أسس الحضارة في العالم، فهي صاحبة الفضل على البشر، ثم راح «جيوبرتي» يبين لماذا كانت أوروبا مركز العالم، ولماذا كانت إيطاليا مركز أوروبا، ففسر «الحقيقة» الأخيرة بقوله: إن إيطاليا هي مهد «الرجال ذوي القوى الحيوية الكبيرة» - أو الدينامية - فالطليان في رأيه هم سلالة شعوب ما قبل التاريخ الذين قطنوا باليونان، وجزر الأرخبيل، وسواحل آسيا الصغرى وإيطاليا، وهم - أي هذه الشعوب - الذين ينحدرون مباشرة من صلب «يافث» الابن الثالث لنوح - عليه السلام - وكانت هذه الأرومة العريقة هي منشأ الصدارة والزعامة التي صارت لإيطاليا، والتي تتمثل فيما ظهر من «شخصيات» عظيمة، كان لنشاطها أثر بارز في مقدرات العالم، ويسوق «جيوبرتي» الدليل على صحة قوله، فيذكر: «ميرابو» رجل الثورة الفرنسية المعروف، ثم «نابليون بونابرت»، باعتبار أنهما من أصل إيطالي، وهما من رجال العمل، ثم يذكر في ميدان الفكر والفلسفة: القديس أنسليم
Anselme (1023-1109) رئيس أساقفة كانتربري، وتوما الأكويني
Aguinas (1226-1274)، باعتبار أنهما كذلك من أصل إيطالي، ثم القديس بونافنتور
Bonaventure (1221-1274) وكان مولده في تسكانيا، ثم يذكر في ميدان العلوم: «أرشميدس» و«جاليليو» وهكذا، وذلك كله إلى جانب أعلام الشعراء والفنانين والكتاب الذين ظهروا في عصر النهضة الأدبية والفنية في إيطاليا.
ويرى «جيوبرتي» أنه يجب أن توحي بالتفاؤل، وتبعث على الرجاء هذه العظمة التي كانت لإيطاليا في الماضي، وهذه الصدارة أو الزعامة التي كانت تتمتع بها، ولكن حتى يتسنى لإيطاليا أن تسترجع في هذا العالم الحديث مكان الصدارة الذي كان لها، يجب أن يتحد الإيطاليون، ولكن ليس بطريق القوة، بل يكون اتحادا سلميا ، ويجب أن يظفر الإيطاليون بالاستقلال، وأما هذا الاتحاد فيكون مؤسسا على التقاليد الإيطالية، كما يقول «جيوبرتي» هي الاتحاد بين إيطاليا الزمنية أو العلمانية وبين البابوية؛ لأن الإيطالي لن يكون إيطاليا صحيحا إلا إذا كان كاثوليكيا، ولصنع هذا الاتحاد؛ يتحتم على كل الطبقات في المجتمع خدمة «الدولة»، وهو يدعوها لتأدية هذه الخدمة، فالنبلاء عليهم أن يسوغوا ألقاب الشرف والنبل التي لهم، بإظهار ضروب البسالة والتنازل عن امتيازاتهم، واحترام من هم أدنى مرتبة منهم، والقساوسة ورجال الدين عليهم أن يسوغوا المكانة التي بلغوها، بأن يعلموا أنفسهم، وأن يتحرروا من «مشاغل الدنيا»، وأن يكونوا متسامحين. بل ويدعو «جيوبرتي» جماعة اليسوعيين للاشتراك في هذا الجهد القومي، صنع الاتحاد، اتحاد إيطاليا، وأما الأمراء الحاكمون، فالواجب عليهم؛ القيام بالإصلاح في كل النواحي، وأن يمنحوا رعاياهم المجالس الانتخابية، وأن يمنحوا الصحافة الحرية، وأن يلغوا القيود المفروضة على الطباعة، ومن بين هؤلاء الأمراء الحاكمين وجه «جيوبرتي» دعوة خاصة لملك بيدمنت.
وهكذا إذا اتحد الإيطاليون، وإذا تعاونت كل الطبقات، يصبح متيسرا إنشاء إيطاليا المتحدة، والتي تتخذ حينئذ شكل اتحاد كونفدرائي من عدد من «الدول» تحت سلطان البابا وتوجيهه، فلم يكن «جيوبرتي» يعتقد بإنشاء إيطاليا «موحدة» - فهو لا يدين بمبدأ «الوحدة» الإيطالية، هذا من ناحية، ثم إنه أراد من ناحية أخرى أن يكون البابا على رأس هذا الاتحاد الكونفدرائي؛ لأن «الكنيسة» كما قال، هي التي تولت دائما - وعلى نحو ما جرت به التقاليد - توجيه إيطاليا وقيادتها. وفي رأي «جيوبرتي» أن هذا النوع من الاتحاد الكونفدرائي يلائم العبقرية الإيطالية، ويتيح الفرصة لهذه العبقرية حتى تكشف عن نفسها وتتحقق، وهي عبقرية تلائمها الملكية، والأرستقراطية، والفدرائية معا وفي وقت واحد، وذلك الاتحاد الكونفدرائي بزعامة البابا هو الذي يمكن إيطاليا عند حدوثه من العثور مرة أخرى على ذلك الدور الذي اضطلعت به في الماضي، والذي ينتظرها في الحاضر، ونعني بذلك تزعم الإنسانية لقيادتها وإرشادها، حتى تبعث إيطاليا العالم من جديد، وعلى غرار ما فعلت في الزمن الغابر.
تلك كانت الآراء التي عرضها «جيوبرتي» في كتابه عن الزعامة أو الصدارة الإيطالية، ومما هو جدير بالملاحظة، أن «جيوبرتي» مع رغبته في حصول تغيير بعيد الأثر في إيطاليا، فقد كان في تفكيره أو في آرائه السياسية والاجتماعية «محافظا» لدرجة كبيرة، وذلك عندما كان يبذل قصارى جهده للتمسك بكل قوة بما هو قائم فعلا، فهو لا يفكر في «وحدة» إيطالية، ولكنه يبغى «اتحادا» بين الإيطاليين، وهو اتحاد يعترض وجوده أو إنشاؤه إجراء إصلاح خلقي أو أدبي (روحي)، ورضاء الجميع عنه، وتعاونهم بنية طيبة لتحقيق هذا الاتحاد وإنجاحه، ولم يشأ «جيوبرتي» أن يتناول معول الهدم لتحطيم شيء من البناء (أو النظام) القائم.
ولقد كان هناك تقارب بين النظريات التي أتى بها «جيوبرتي»، وتلك التي قال بها «مازيني»، وذلك من ناحية التفاؤل بالخير، والأمل والرجاء الذي أحيته في النفوس، والشجاعة التي بعثها في الصدور؛ من أجل العمل على رفعته شأن إيطاليا، والاستناد إلى ذكريات المجد التالد، والتنبؤ بالمستقبل العظيم الذي ينتظر إيطاليا، ثم إنها تقترب كذلك من «نظريات» مازيني من ناحية الاتفاق على أن لإيطاليا «رسالة» تؤديها، وأن هناك استقلالا يجب عليها أن تظفر به، وفيما عدا ذلك، اختلف «جيوبرتي» عن «مازيني» في عدة مسائل: أولها: «كنسيته»، وهي التي جعلت النظام الذي جاء به «جيوبرتي» يستند على الكنيسة، في حين كان «مازيني» ضد «الكنيسة».
وثانيها: أن «جيوبرتي» استنكر الثورة ورفضها كإجراء يتخذ لبناء النظام الاتحادي الذي أراده، في حين أن «مازيني» جعل الثورة العنصر الجوهري في برنامج عمله.
وثالثها: أن «جيوبرتي» هدف لإنشاء اتحاد كونفدرائي بين الإيطاليين، ولم يستهدف قيام وحدة إيطالية، فرفض تبعا لذلك «الجمهورية » التي أراد «مازيني» تأسيسها، الجمهورية التي تقصي عنها الأمراء الحاكمين، والحكومات والدول القائمة فعلا في إيطاليا؛ أي الجمهورية التي لم يكن يتسنى إنشاؤها إلا على أشلاء هؤلاء الأمراء والحكومات الموجودة فعلا، والتي تمسك «جيوبرتي» قدر استطاعته ببقائها.
ونحن إذا تمعنا الآراء والنظريات التي أتى بها «جيوبرتي» لوجدنا عددا من المسائل يتفق فيها رأيه، مع الآراء والنظريات التي نادى بها الفيلسوف الألماني «فيشته» - من حيث ابتداع فكرة «الوطن الأم» والدور الحضاري الذي قامت به الأمة - في الوطن الأم - في الماضي، والذي ينتظر منها تأديته في المستقبل، وهو الدور الذي أسنده «فيشته» إلى ألمانيا، على نحو ما أسنده «جيوبرتي» إلى إيطاليا. ولقد اتفق «جيوبرتي» و«فيشته» في شعور الكراهية ضد فرنسا والفرنسيين، وإن اختلفت أسباب هذه الكراهية لدى «جيوبرتي»؛ لأن «فيشته» كان يكتب في الوقت الذي خضعت فيه ألمانيا وبروسيا لسيطرة الفرنسيين، وكان «يدوس عليهما نابليون بحذائه.» فقد كان الفرنسيون في نظر «جيوبرتي» لا يصلحون إلا لأحد الأمرين؛ إما للعمل على نشر الفوضى الفلسفية، وإما لإقامة صرح الاستبدادية. وقد حمل «جيوبرتي» حملة عنيفة على السياسة الفرنسية في إيطاليا بين سنتي 1796 و1814، ونقد نقدا لاذعا النتائج التي أسفرت عنها هذه السياسة.
أما الأثر الذي أحدثه نشاط «جيوبرتي» فكان عظيما، فنال كتابه شهرة واسعة، واستأثر فور صدوره باهتمام الإيطاليين، سمحت الرقابة في تسكانيا وبيدمنت بدخوله إلى البلاد، وقد ذكرنا أن كتاب «الرياسة أو الصدارة» كان قد نشر في بروكسل - كما أجازت تداوله بين رعاياها الولايات البابوية بسبب ميوله واتجاهاته الكنسية، وعلى ذلك فإنه سرعان ما نفدت طبعة الكتاب الأولى - من 1400نسخة؛ حيث قد أقبل على قراءته «المحافظون»، كما اطمأن إليه المتخوفون بطبعهم من كل غير مألوف، والذين يجتنبون العمل المتسم بالقوة والعنف؛ لأن «جيوبرتي» لم يكن يدعو في كتابه إلى «العمل» المباشر، وعلاوة على ذلك فقد كان من المتيسر أن يجد كل فريق من القراء ما يناسب طاقته وقدرته على العمل، ويتلائم مع المكان المعين له في المجتمع، وذلك في «الدعوة» التي وجهها «جيوبرتي » لكل الطبقات الإيطالية من أجل توحيد جهودها لإنشاء أو صنع إيطاليا (المتحدة)؛ فرحب القساوسة ورجال الدين بكتاب «الصدارة»؛ بسبب الدور الذي هيأه «جيوبرتي» لهم، واعتنق الآباء الفرنشسكان والدومينكان خصوصا الآراء ذات الانعطافات الشعبية، في حين هاجم اليسوعيون هذه الآراء، وبرز إلى عالم الوجود بفضل هذا كله حزب جديد هم جماعة نيو جلف أو الجلف الجديد
Neo-Guelfs ، والمعروف أن الجلفيين في العصور الوسطى كانوا أنصار البابا ضد الإمبراطور ، الذي سمي أنصاره بالغبللين
Ghibellins - وكان النيوجلفيون السلالة المباشرة للرومانسيين من مدرسة «مانزوني»، وهم العاطفيون الذين يعظمون تراث الماضي وذكرياته، ويقدسون الكاثوليكية، ويجلون البابوية باعتبار أن الكاثوليكية ذاتها متجسدة بها مكانا رفيعا.
على أن الآراء والنظريات التي أذاعها «جيوبرتي» استثارت كذلك طائفة من النقاد ضدها؛ النقاد من أعداء النمسا، الذين وجدوا أن «جيوبرتي» أغفل الكلام عنها في كتابه، ثم النقاد من أعداء حكومة البابوات الزمنية (أو العلمانية)، فلقد اصطدمت نظريات «جيوبرتي» مع الوقائع عندما كانت الولايات البابوية - وعلى نحو ما عرفنا - مسرحا لأشد أنواع الفوضى الحكومية في إيطاليا، وعلى وجه الخصوص في إقليم رومانا، (من الأملاك البابوية)، وكان من الحقائق التي يتعذر إخفاؤها أو تجاهلها؛ أن الفساد منتشر في حكومة البابا الرومانية بدرجة خطيرة، وتلا في الترتيب من ناحية الفساد هذه حكومة نابولي وحدها فقط، واعترض على «جيوبرتي» ناشر آخر - سبقت الإشارة إليه - هو: «جيوفاني نيكوليني» فقال: إنه كان يجدر «بجيوبرتي» بدلا من انتظار إحياء إيطاليا وإنعاشها على يد البابا، أن يبدأ قبل كل شيء بتخليص إيطاليا من نفوذ البابوية.
سيزار بالبو
ولقد كان أكبر هؤلاء النقاد إطلاقا الذين حملوا على الآراء والنظريات التي احتواها كتاب «جيوبرتي»، الكاتب الإيطالي، والذي سبقت الإشارة إليه كثيرا، «سيزار بالبو» الذي عاش من سنة 1789 إلى سنة 1853، وكان «بالبو» ابنا لأحد وزراء فيكتور عمانويل ملك بيدمنت، خدم بعض الوقت ضابطا في الجيش، وانتهى به الأمر بعد حياة متقلبة إلى الانكباب على دراسة التاريخ، فبدأ ينشر في سنة 1830 «تاريخا لإيطاليا تحت سلطان البرابرة»، وكان «بالبو» أكثر كلمة من «جيوبرتي»، فمع أنه كان من المعجبين بهذا الأخير، إلا أنه لم يعقد الأمل على البابوية مثلما فعل «جيوبرتي» وجماعة «النيو جلف»، بل عقد «بالبو» كل آماله على تورين وملكية بيدمنت، والتف البيدمنتيون أنصار بيت سافوي حول «البيان» الذي تضمنه كتابه عن «أماني إيطاليا وآمالها».
29
أما هذا الكتاب فقد صدر في باريس في سنة 1843 بعد شهور قليلة من صدور كتاب «الصدارة أو الزعامة» لجيوبرتي، وقد أهدى «بالبو» كتابه له، وفي «أماني إيطاليا وآمالها» «بالبو» بما ظهر في كتابات «جيوبرتي» من كراهية شديدة لكل ما هو أجنبي، ثم تهكم من مطالبه التي تغالى فيها كثيرا، كدعوته لاسترداد كورسيكا من فرنسا، فتساءل «بالبو» ساخرا؛ إذا كان الطليان لا يريدون كذلك استرداد وتحرير فيومي
Fiume ، أو راجوزا
Ragusa (على شاطئ الإدرياتيك المقابل)، أو جزيرة مالطة أو غيرها من الأماكن التي فقدتها إيطاليا؟ وعلاوة على ذلك خالف «بالبو» صاحبه في الرأي القائل بأن إيطاليا كانت صاحبة الصدارة والزعامة في الماضي، أو في الحاضر، وقبل كل شيء أخذ على «جيوبرتي» أنه لم يعين الشرط الأساسي، والذي يجب أن يمهد لانتقال إيطاليا من الحال التي هي عليها لتحتل المكان المرموق لها، ويقصد «بالبو» بذلك؛ الاستقلال. فيقول: «وبدون استقلال الوطن لن يكون لكل الأشياء الطيبة الأخرى أي نفع أو قيمة، بل تكون في حكم العدم والفناء.» ومعنى الاستقلال المنشود هو طرد النمسويين من إيطاليا.
على أن «بالبو» كان يرى أن الإيطاليين عاجزون في الوقت الحاضر، وفي هذه اللحظة بذاتها عن طرد النمسويين؛ لأنه كانت تعوزهم القوة اللازمة لفعل ذلك، سواء كان الأمراء الحاكمون، أو كان الشعب الإيطالي؛ هو مصدر هذه القوة، في حين تعذر في الوقت نفسه الاعتماد على مساعدة تأتي من الخارج من أي دولة أجنبية، على نحو ما ثبت لديه من موقف الملك الفرنسي «لويس فيليب» وحكومته من ثورات 1830، 1831.
وفي هذه الظروف إذن تقدم «بالبو» برأي جديد عندما قال: إن من الواجب انتظار سنوح الفرصة بوقوع حادث خارجي لزحزحة النمسويين وطردهم من إيطاليا، وسوف تسنح هذه الفرصة قريبا؛ بسبب انحلال الإمبراطورية العثمانية وتوقع انهيارها، وخسارة أملاكها، وانشغال النمسا بموضوع تصفية هذه الإمبراطورية، لرغبتها أن تنال أملاك العثمانيين في البلقان نصيبا لها من «التركة» العثمانية، وعندئذ قد يتسنى إقناع النمسويين بالتنازل عن لمبارديا فينيشيا.
على أن بالبو كان يتفق مع جيوبرتي، من حيث إن الاتحاد الكونفدرائي هو الشكل الذي يجب أن يتخذه اتحاد إيطاليا، ومن حيث إن الإصلاح الروحي أو الخلقي ضروري بين الطليان، ثم إنه كان كذلك متفائلا في إمكان إنعاش الروح الإيطالي، والارتقاء بأخلاق الإيطاليين، وفي رأيه: أن أمة من عشرين مليون نسمة، إنما هي أمة لا يقدر على قهرها أحد، إذا هي كانت متحدة وكان أهلها على خلق عظيم. ووصل بالبو إلى نفس النتيجة التي وصل إليها «جيوبرتي»، وهي؛ «أن كل فرد عليه أن يؤدي واجبه المسند إليه في عمله، والله تعالى سوف يتولى عندئذ أمر كل ما يكون متبقيا بعد ذلك.»
ولكن بالبو على خلاف ما فعل جيوبرتي، لم يضع البابا على رأس الاتحاد المنشود، بل خرج بحل جديد للمشكلة، هو التطلع إلى البيت المالك في بيدمنت لقيادة الحركة وزعامة الاتحاد، على أساس طرد النمسويين من إيطاليا، ومع ذلك فقد كان هذا التطلع إلى الملكية في بيدمنت، بمثابة «البداية» أو الإشارة للحل الذي ارتآه «بالبو»، والذي سوف يتطور فيما بعد بطريقة أخرى.
بل إن «جيوبرتي» نفسه لم يلبث بعد قليل أن أدخل عددا «من التحفظات» على نظرياته، فأصدر في سنة (1845-1846) مؤلفا جديدا بعنوان: «المقدمة»
30
لكتاب «الرياسة أو الصدارة» السابق، تجنب فيه اليسوعيين الذي كان وجه إليهم الدعوة في كتابه الأول، كما أسقط من دعوته ملوك البربون في نابولي، بل إن «جيوبرتي» لم يلبث بعد مضي بعض الوقت أن تخلى كذلك عن مبدأ تحويل البابا سلطات «زمنية» «علمانية».
ملكية بيدمنت ودور شارل ألبرت
وهذا التوجيه الفكري الجديد نحو الملكية البيدمنتية، والذي بدأه بالبو سرعان ما وجد تربة خصبة في إيطاليا الشمالية، حتى إنه لم تلبث أن تشكلت «عقيدة» جديدة سوف يكون لها أثرها البالغ في المستقبل حول الزعامة التي سوف تقوم بها الملكية البيدمنتية؛ لتحرير إيطاليا، وبناء وحدتها القومية.
والملك البيدمنتي وقتئذ هو شارل ألبرت، أمير كارنيان المعروف، والذي اعتلى العرش في شهر أبريل 1831، والذي تحدثنا عن مواقفه من الحركات الثورية في السنوات العشرين والثلاثين السابقة، والذي كان وهو لا يزال أميرا يعتنق مبادئ الأحرار، فلم يلبث أن تنكر لها عند اعتلائه العرش، وربط نفسه بسياسة القمع العنيفة التي اتبعتها النمسا لإخماد الحركات الثورية في إيطاليا، فتعقب بالقسوة البالغة على وجه الخصوص جماعات «إيطاليا الفتاة» في سنة 1833، وتخلى من ذلك الحين عن المبادئ الحرة التي كان يدين بها، فصار يتملكه الرعب والهلع من ذكر «الدستور»، واشتهر بالتردد حتى عرف «بالملك المذبذب»، والذي يدور مع الأهواء كدوارة الريح،
31
ومع ذلك فقد كان يشعر بتأنيب الضمير؛ بسبب أعمال القسوة التي ارتكبها بسبب سياسة القمع والتشريد التي اتبعها، وتحركت في نفسه الرغبة في نيل محبة الشعب، وكانت تساوره هو نفسه بعض المخاوف عندما قيل: إنه «معرض إما لطعنة خنجر يسددها له الكاربوناريون، وإما الموت بقطعة من الحلوى «الشيكولاتة» المحشوة بالسم يقدمها له اليسوعيون.» فهو متشكك دائما في نوايا المحيطين به، ولا يريد الوقوع تحت تأثير نفوذ معين، وهو جد حريص على سلطاته ويغار عليها غيرة عظيمة، ويحول دون الاعتداء عليها من جانب أحد، الأمر الذي جعله يقاوم نفوذ اليسوعيين ونفوذ الكنسيين، وذلك نفسه من الأسباب التي أوحت إليه آراء «الجاليكانية» أي الاستقلالية عن كنيسة روما، والتي جعلته عندما تهيأت الفرصة يدخل في نضال مع رئيس أساقفة تورين، الذي أراد إخضاع مدارس المعلمين لنفوذ الكنسيين. وأخيرا فإن شارل ألبرت كان نحيلا ضعيفا لا يتمتع بصحة طيبة، وتلك كلها أسباب صار يتعذر على شارل ألبرت معها أن ينهج سياسة صريحة لا لبس فيها ولا إبهام، والثابت أن شارل ألبرت قد عمد إلى التخلص تدريجيا من الأحرار في حاشيته؛ حيث إنه لم يعد يحتفظ منهم في مراكز الحكم سوى رجل واحد هو الكونت دللا مرجريتا
Della Margherita ، وكان «يمينيا»؛ أي من المحافظين، ومع ذلك فقد عين في إحدى الوزارات إلى جانبه أحد «أنصاف الأحرار»: المركيز عمانويل دي فيلامارينا
Villamarina
الذي عرف بكراهيته للكنسيين وإن لم يكن معدودا من الأحرار.
ولا يعتبر شارل ألبرت ملكا دستوريا، بل ويتعذر اعتباره كذلك - باستثناء بعض اللحظات القصيرة - من الأحرار، ولكن بالرغم من تردده و«الإبهام» الذي يحيط عموما بسياسته، فإن هذه السياسة كانت ترتكز على دعامتين، مستمدتين من واقع أنه أمير (حاكم) إيطالي، ومن شأنهما جلب محبة الشعب ؛ أولاهما: إصلاحاته، وثانيتهما: موقفه المعادي للنمسا. حقيقة حرص شارل ألبرت كل الحرص على سلطاته، ولكن في رأيه يجب أن تكون الملكية ذات ضمير، وأن تعمل لإسعاد رعاياها، وأن تعتمد في تأدية مهمتها على أرستقراطية متنورة ومتقدمة، وحقيقة لم يكن لديه في سياسته برنامج لإصلاحات معينة صح العزم على إجرائها، ولكنه آمن بضرورة إقامة حكومة نظامية وعادلة، فنشرت اللجان القانونية التي شكلها «مجموعات القوانين» المعروفة باسم «الألبرتية»
Codes Albertiens (1837-1847)، وهي التي تأسس عليها فيما بعد القانون الإيطالي، وكانت هذه من أعظم القوانين تقدما واستنارة، إذا استثنى التشريع الخاص بالزواج الذي ترك الزيجات الكاثولكية خاضعة لقوانين الكنيسة، وإذا استثنى كذلك عدم التعرض لامتيازات الكنسيين، ولقد ألغت السنن الإقطاعية في سردينيا، وهي البلاد الوحيدة في إيطاليا التي ظل القانون يؤيد هذه السنن الإقطاعية بها، وشجع شارل ألبرت عمل الخير لخدمة الإنسانية، فأنشأ صناديق للتوفير، وملاجئ للعجزة، ومستشفيات للولادة ... ثم شجع الحياة الثقافية في بلاده بمنح الإعانات المالية للهيئات العلمية، وإصلاح التعليم الأولي أو الابتدائي، وتشجيع جامعة تورين على الأخذ بالأساليب الحديثة في البحث والدراسة، وكان وزير معارفه - سيزار الفييري - معدودا من الأحرار بدرجة كافية، ثم إنه اهتم بالمسائل الاقتصادية، فمنح المساعدات المالية للنهوض بالصناعة، وألغى النقابات، وبدأ يمد السكك الحديدية، وفي سنة 1833؛ قام مشروع بمد خط من جنوه إلى بحيرة «ماجيوري» لقي معارضة من جانب الممولين النمسويين في لمبارديا فينيشيا، الذين أرادوا إنشاء خط آخر يجري بين ليفورنة «ليجهورن» وتريستا، فلا يجعل تجارة البحر المتوسط تصل إلى جنوه وبيدمنت، بل تتحول إلى النمسا، ثم إن هذا الخط «ليفورنة - تريستا » سوف يجعل ممكنا بانتهائه عند تريستا؛ الاتصال بخط أوروبي آخر، يربط بين هذه الأخيرة وأوستند
Ostend
عبر ممر برنر
Brenner .
ولقد أظهرت هذه الإصلاحات بيدمنت بمظهر الدولة «الحديثة» لدرجة معينة، كما أضفت على سياسة الملك مظهر السياسة «الحرة»، ولقد أجاز شارل ألبرت للشاعر وصاحب الأغاني من الأحرار أنجيلو بروفيرو
(1802-1866)، أن يستأثر بتوجيه صحيفة «ساعي بريد تورين»،
32
بصورة أكثر جرأة نحو المبادئ الحرة، وأجازت الرقابة في بيدمنت تداول كتاب «جيوبرتي» عن «الرياسة أو الزعامة» المعروف، وأجاز شارل ألبرت عقد المؤتمر العلمي الثاني في تورين سنة 1840. وفي سنة 1842 أسس جمعية زراعية قومية أو أهلية، حيث اشترك بها البيدمنتيون مع الذين حضروا من لمبارديا فينيشيا في مناقشة الموضوعات المطروحة للبحث، مما ينهض جميعه دليلا على أنه كان هناك بدرجة ملموسة تقدم في طريق الحياة العصرية أو «الحديثة»، وعدول عن القديم في بيدمنت.
وأصاب شارل ألبرت في ميدان آخر، قدرا أوفى من المحبة الشعبية، وذلك في علاقاته مع النمسا، فلم تكن يوما صلاته طيبة مع هذه الدولة، ولم تلبث أن ساءت ثم زادت توترا، وحدث أول اصطدام بين هاتين الدولتين حول مسألة السكة الحديد في سنة 1833، التي أرادت بيدمنت مدها من جنوه إلى بحيرة «ماجيوري»، وحمل شارل ألبرت للوزير النمسوي (مترنخ) كراهية كبيرة، واتهمه بأن حاول منعه من إعلاء العرش وأحاطه بالعملاء والجواسيس، ولقد حاول وزيره «دللامرجريتا» أن يثنيه عن هذا العداء في سنة 1835، ولكن دون طائل. وفي سنة 1839 كان الملك يتحدث عن «حمل البندقية على كتفه للخوض في حرب ثانية ضد النمسا»، ثم وضع اصطدام «اقتصادي» بين بيدمنت ومملكة لمبارديا فينيشيا في سنة 1843، حول مسألة بيع الملح للمقاطعة «الكانتون» السويسرية تشينو
Ticino ، وكانت هذه تتزود بحاجتها من الملح من لمبارديا، وكان قد أبرم اتفاق بين لمبارديا وبيدمنت، تخلت بموجبه هذه الأخيرة عن المعاملة مع «تشينو»، ولكن حدث في سنة 1843؛ أن اتجه أهل «تشينو» إلى بيدمنت يطلبون حاجتهم منها، عندما لم يأتهم الملح من لمبارديا، ووافقت بيدمنت على بيع الملح لهم، ولكن الدولة في بيدمنت كانت تحتكر الملح؛ ولذلك فقد اتهمت النمسا بيدمنت بأنها خرقت الاتفاق السابق بين الدولتين. وإلى جانب هذا الحادث وقعت «اشتباكات» بين حراس ودوريات الحدود بين بيدمنت ولمبارديا خلال سنة 1843 كذلك، فصار الملك يهدد بأن تتولى بيدمنت الدفاع عن «تشينو» والنضال إلى جانبها ضد النمسا، وإرسال صرخة الحرب المدوية من أجل استقلال لمبارديا. وفي أكتوبر 1844؛ أبرمت النمسا مع تسكانيا وبارما معاهدة «فلورنسة» للتجارة، ومن غير السماح لبيدمنت بالانضمام إليها . وفي سنة 1846؛ احتج الملك على الضرائب الجمركية العالية التي فرضتها النمسا على الأنبذة المستوردة من بيدمنت (أبريل)، وعندما أخذ عليه أنه بسياسته سوف يجعل بيدمنت تفقد أسواق النمسا، كان جوابه: «أن بيدمنت إذا خسرت النمسا فهي سوف تكسب إيطاليا، وفي وسع إيطاليا حينئذ أن تعمل بنفسها.» وعندما يذهب «دازيجليو» إلى رومانا، في ظروف سيأتي ذكرها، وعد الملك بإعطاء إيطاليا - عندما يحين الوقت المناسب - السلاح الذي لديه والمال الذي في خزائنه، ومع ذلك وبالرغم من كل ما حدث، فلا يجب المغالاة في تقدير قيمة هذه التصريحات والوعود المتتابعة؛ لأن شارل ألبرت ظل أمينا على مبدأ الملكية - بالمعنى الذي ذكرناه - ولم يمنعه عداؤه للنمسا من عقد قران ولي عهده دوق سافوي (فيكتور عمانويل الثاني فيما بعد) من أميرة نمسوية، إلا أن تصريحات الملك والتي كانت تتميز نغمتها بالإخلاص، ثم احتكاكاته المتكررة بالنمسا، جعلته يمثل في نظر الإيطاليين المعارضة والعداء ضد النمسا، وأكسبته لذلك قدرا معينا من عطف الشعب ومحبته.
ولقد شجع هذا الوضع المزدوج في إيطاليا وفي بيدمنت على تأليف حزب بيدمنتي إيطالي، قوامه طبقة النبلاء في بيدمنت، حيث كان النبلاء على رأس الحكومة بها: النبلاء الذين يفخرون بأمجاد تاريخ بلادهم الماضية، وتقاليدهم العريقة المتمثلة في كراهيتهم وعدائهم للنمسا، وهم الذين يضطلعون بالعبء الأكبر من شئون الإدارة والحكم في بيدمنت، فكان اضطلاعهم بهذه الأعباء مبعث رغبتهم في إنشاء الحكومة الطيبة دائما، وبغضهم للأساليب المستحدثة و«للبدع» في الحكومة واحتقارهم «للنظريات». وكان بعض هؤلاء النبلاء متأثرين لدرجة معينة بالآراء الحرة؛ نتيجة اختلاطهم «بالأجانب» ومعرفتهم لهم أثناء أسفارهم في فرنسا وإنجلترة، (ويمثل الكونت كافور هذه الفئة خير تمثيل)، وهم يريدون أنظمة للحكم أكثر اتفاقا مع ميول الشعب؛ أي أكثر مجلبة لرضائه، ولكنهم لم يكونوا ولن يصبحوا إطلاقا «ديمقراطيين»، ولقد كان هؤلاء النبلاء البيدمنتيون كذلك أعداء للسلطة البابوية، ولا تشدهم إلى الكنيسة روابط قوية، واستهدفوا دائما عظمة بيدمنت، واتساع رقعتها، ورفعة شأنها، ولكن على حساب لمبارديا، ولو أنهم كانوا يخشون في الوقت نفسه من الدخول في نضال مسلح لتحقيق هذه الرغبة؛ لاعتقادهم أن الحرب إذا وقعت لن تكون من قوات متكافئة، وهؤلاء النبلاء البيدمنتيون كذلك صاروا يميلون لأن تتحد إيطاليا اتحادا «كونفدرائيا»، يتيح الفرصة لتنظيم «دفاع مشترك» عن كل البلاد، ولإنشاء اتحاد جمركي بها، ولكنهم كانوا كذلك يخشون في الوقت نفسه من أن تنتزع «ميلان» أو روما من «تورين» الدور الرئيسي الذي يريدونه لها في هذا الاتحاد.
وهكذا كان تفكير هؤلاء النبلاء البيدمنتيون، يتميز لدرجة معينة «بالصبغة» القومية (أو الأهلية) الإيطالية، بل إن بعض هؤلاء النبلاء وإن كان عددهم ضئيلا، قد ارتقى تفكيرهم إلى مستوى المناداة بالوحدة الإيطالية، من طراز يقرب قليلا من الفكرة التي أتى بها «جيوبرتي»، ولو أنهم اتجهوا بفكرتهم اتجاها آخر، خالفوا فيه صاحب كتاب «الرياسة أو الزعامة» الإيطالية، من حيث إنهم أرادوا بيدمنت وليس البابوية أن تقود الحركة القومية، وأن تتزعم الاتحاد الإيطالي، فكانوا «علمانيين» في اتجاهاتهم الفكرية والسياسية، وليسوا «كنسيين»، وكان «ماسيمو دازيجليو» أهم هؤلاء النبلاء الذين نادوا بزعامة بيدمنت.
دازيجليو
Massimo D’azeglio
وكان دازيجليو (1798-1866) صهرا «لمانزوني»، وصديقا «لسيزار بالبو»، وذا ولع بالفنون، فهو مصور يرسم اللوحات، وهو روائي يكتب القصص، ونشر بعض الروايات في سنة 1833، ثم في سنة 1841 أحدثت شيئا من الدوي، ثم إنه كان في حياته إيطاليا أكثر منه بيدمنتيا، فعاش في روما، وفي فلورنسة، بقدر الوقت الذي عاشه في تورين، ثم لم يلبث أن انغمس في السياسة، فدبج يراعه العدد الوفير من الكراسات والمقالات، وظهر في كتاباته أنه يعطف على الآراء الجديدة، والتي تدعو إلى التقدم والارتقاء، ولكنه كان في ذاته فاتر الهمة ، لا يفكر في أن يصبح في حياته أو نشاطه قدوة للآخرين.
وفي خريف سنة 1845؛ اضطلع دازيجليو «بمهمة» في إقليم «رومانا» من الأملاك البابوية، لا يزال مصدرها مجهولا، أو غير متفق عليه؛ هل كان «دازيجليو» هو الذي ابتكر هذه «المهمة» لنفسه، أو أن الدعوة جاءته من «رومانا»؟ من أهل هذا الإقليم أو من الوكلاء البيدمنتيين الذين ينشطون هناك للدعوة لزعامة بيدمنت؛ لأن المهمة التي أخذها «دازيجليو» على عاتقه كانت ترويج الدعوة لبيدمنت، وإذاعة الآراء التي اعتنقها «النبلاء» البيدمنتيون، الذين أرادوا «اتحادا» إيطاليا تتزعمه بيدمنت وآل سافوي - البيت الحاكم بها - ولقد كان أهل «رومانا» يخشون أن يقضي البابا «جريجوري السادس عشر» نحبه في أي وقت، وأن يتبع هذه الوفاة ثورة تحركها «إيطاليا الفتاة» واحتلال نمسوي لإخماد الثورة.
وقصد «دازيجليو» إلى رومانا حينئذ يبشر بزعامة بيدمنت واتحاد إيطاليا، ويدعو أهل رومانا لأن يضعوا ثقتهم في شارل ألبرت وفي زعامته، واستطاع «دازيجليو» أن يكسب أنصارا كثيرين، بالرغم من الذكريات السيئة عن شارل ألبرت التي كانت لا تزال عالقة في أذهان «الرومانيين»، وبالرغم من أن شباب الأحرار في رومانا كانوا يؤثرون الاعتماد على جهودهم «الجمهورية»، ولكن «دازيجليو» فشل في إخماد النزعة لإشعال الثورات المحلية، وعلى ذلك فإنه لم يكد يغادر «رومانا»، حتى قام «الكاربوناري» بحركة إرهابية عنيفة في «ريميني»؛ وذلك للانتقام من الاضطهاد، والقمع الشديد الذي عمدت إليه الحكومة البابوية عقب ثورة الشقيقين «موراتوري»، ولقد سبق أن ذكرنا كيف اضطر الثوار في «ريميني» بعد ذلك إلى الفرار عبر الحدود إلى «تسكانيا» لاجئين بها.
أما هؤلاء الثوار في «ريميني» فكانوا قد أصدروا منها نداء موجها إلى «الأمراء والشعوب في أوروبا»، صاغ عبارته المؤرخ الإيطالي فاريني
Farini ،
33
حمل الثوار فيه على الحكومة البابوية، وطالبوا بالإصلاح، وكان الإصلاح الذي طالبوا به ضئيل القيمة، ومن طراز الإصلاحات الوقائية التي كانت قدمت للبابا في سنة 1831، وقد سبقت الإشارة إليها في موضعه.
وهيأت هذه الثورة في «ريميني» الفرصة لدازيجليو؛ حتى ينشر سرا في فلورنسة في سنة 1845 كتيبا عن «الحوادث الأخيرة في رومانا »،
34
تناول فيه بالشرح والتعليق أسباب وطبيعة الثورة الفاشلة، وحمل فيه حملة عنيفة على حكومة البابوية وعلى سياستها، بصورة تحطم آمال كل أولئك الذين خيل إليهم أن البابوية في وسعها النهوض بإيطاليا وبعثها وإحيائها، ولو أن «دازيجليو» أكد احترامه العميق لرأس الكنيسة الكاثوليكية؛ لأنه يخشى من حدوث انقسام يقضي على الرابطة الوحيدة التي كانت لا تزال من الناحية الشكلية «والرسمية» تجمع بين الإيطاليين في نوع من الاتحاد المرموق، فأوضح وجوه الاختلاف بين المبادئ السليمة والحكيمة التي يجب أن يقوم عليها صرح الحكومة البابوية، والتي ادعت هذه تمسكها بها، وبين الطريقة أو الأساليب الفعلية التي يجرى بها تنفيذ هذه المبادئ، وفي رأيه أن البابا كان لا يجهل أن البلاد تخضع لنوع من الاضطهاد والاستبداد الحكومي يطمس معالم الفكر، ويقضي على العدالة، ويذيع الفوضى في الإدارة الحكومية والاضطراب في شئون الاقتصاد والمال، ولا يمكن أن يجهل البابا وجود الاحتكارات الحكومية التي تخنق التجارة، ولا وجود العسكر من السويسريين المرتزقة الذين تعتمد عليهم حكومة البابوية في تأييد سلطتها الاستبدادية، ولا وجود القتلة وسفاكي الدماء من جمعيات «أصحاب الإيمان المقدس».
San-Fedistes
الذين سبقت الإشارة إليهم، أنصار الكنيسة الرجعيين، ولا يمكن أن يجهل البابا أن هناك مقاومة عنيفة لكل ما هو جديد أو يشتم منه أنه جديد، ولكل نشاط في ميدان التربية والتعليم، ومقاومة ضد السكة الحديدية، وضد المصارف، وضد الجمعيات الزراعية، وضد المؤتمرات العلمية، ولقد أصر «دازيجليو» لهذا كله على اعتبار البابوية المسئولة عن هذه الحال السيئة في «أملاكها»، وأصر على ضرورة أن تتخلى البابوية عن «قيادة السفينة التي ما عادت تسير في الطريق الذي يرسمه لها سكانها»، بل يقتضي الواجب البابوية إنهاء السلطات الاستبدادية التي لرجال الإدارة في أملاكها، ويتحتم عليها أن تؤمن رعاياها على استقرار «العدالة المدنية» على الأقل، على نحو ما تفعله النمسا ذاتها مع رعاياها، وقال «دازيجليو»: إن من المتعذر استناد الحكومة البابوية على الضغط والبطش؛ لأن السلطة اليوم إنما تستند على الرأي العام، وعلى إرادة وموافقة المحكومين وحسب، وواجب على البابا لذلك أن يرضخ لهذه «السلطة» الأخيرة، ولا يصطدم بها.
ولقد توجه «دازيجليو» بعد ذلك بطائفة من النصائح إلى الأحرار فامتدح شجاعتهم، وهم الذين حركوا الثورات الإقليمية المحلية، واستعدادهم للتضحية، ولكنه عاب عليهم إثارة هذه الاضطرابات «الضئيلة القيمة»، والتي ليست بحال من الأحوال هي الطريق الصحيح إلى الاستقلال، والأحرار في رأي «دازيجليو» لا يزالون أقلية في الأمة، وفي رأيه لا يصح لهذه الأقلية أن تعمم الأمة في معارك، أو ثورات لا تعرف نتائجها، شبهها «دازيجليو» بلعب الحظ عندما يرمي أحد الأفراد قطعة نقود في الهواء ليقبضها باليد بعد سقوطها، ثم يتقدم فرد آخر لمعرفة وجهها، فإن جاء تخمينه صحيحا؛ كسب الرهان، فيعرض الأحرار بهذه الطريقة مستقبل الأمة للخطر، وينحدرون بالبلاد إلى هوة المنازعات الداخلية أو الحروب الأهلية المحطمة لكيانها، أضف إلى هذا أن هذه الثورات المحلية إذا استمرت سوف تنقل النضال أو الجهاد القومي ذي الأهداف والغايات الكبرى، إلى فورات أو انتفاضات محلية ذات آثار محدودة، فتستنفد هذه الثورات الإقليمية «الصغيرة» جهود الأمة، وتصرفها عن الجهاد الأعظم، وتشتت جهود أبنائها سدى، ونصح «دازيجليو» بأن الوقت لم يحن بعد للثورة المسلحة التي يجب أن يشترك فيها الإيطاليون جميعهم، طالما أن النمسا كانت مهيأة دائما لسحق هذه الثورة بقوة السلاح، بل يجب على إيطاليا أن تتذرع بالصبر، قبل الدعوة للمقاومة المسلحة والثورة، وأن تبذل التضحيات، وذلك برفض كل إذلال «روحي» يراد فرضه عليها. ولما كان التذرع بالصبر عملا شاقا على الشعوب الواقعة تحت نير الظلم والطغيان، فالطريق الآخر غير طريق الثورة والاصطدام المسلح إنما هو الاحتجاج - احتجاج الرأي العام الشديد بقوة، وبصورة دائمة، والجدير بالملاحظة هنا أن «دازيجليو» كان مؤمنا بقوة الرأي العام، وبقدرته على انتزاع الشيء الكثير - لصالح المحكومين - من الحكومات المستبدة الغاشمة، ثم نصح «دازيجليو» الأحرار، وطلب منهم أن يولوا وجوههم شطر بيدمنت باعتبار أن بيدمنت هي القوة الوحيدة التي في استطاعتها «صنع» إيطاليا.
ولقد أدرك هذا الكتيب نجاحا عظيما، وسرعان ما أفضى ذيوعه إلى إنشاء حزب جديد، هو حزب الأليبرتيين
Albertiste
أنصار بيدمنت وأنصار ملكها شارل ألبرت، وانضم كثيرون من شباب الجمهوريين إلى هذا الحزب الجديد، وهؤلاء الجمهوريون هم الذين صدموا في آمالهم بسبب إخفاق الثورات المحلية السابقة، وانضم إلى «الألبرتيين» كذلك كل أولئك الذين لم يؤمنوا بقدرة البابوية على إحياء إيطاليا وبعثها، ثم أولئك الذين انصرفوا عن «إيطاليا الفتاة»، بل لقد تزايدت أهمية هذا الحزب الجديد سريعا، حتى إن «مازيني» لم يلبث أن رأى ضروريا التفاوض مع أعضائه، وحاول الاتفاق مع «الألبرتيين» على أساس أن يتخلى «مازيني» عن الدعوة للجمهورية، في نظير أن يتخلى «الألبرتيون» بدورهم عن فكرة الاتحادية الكونفدرائية، وأن يؤيدوا «الوحدة» الأهلية الإيطالية.
وفي بيدمنت كان للحزب تنظيم قوي على رأسه «دازيجليو»، كما كان من أعضائه؛ «مامياني» و«كافور»، وإن بقي «سيزار بالبو» بعيدا عنه، وتضافرت أقلام رؤساء الحزب للكتابة في «المجلة الجديدة»،
35
التي نقلوا إليها طائفة من المقالات من الصحف والمجلات الفرنسية مثل «جورنال دي ديبا»، ومجلة العالمين المشهورة،
36
كما نقلوا إليها المقالات من الصحف والمجلات الإنجليزية، وهم الذين أسسوا في سنة 1847 الصحيفة الجديدة البعث
Ilrisorgimento ، ولقد وجهوا الدعوة صريحة إلى شارل ألبرت، وطلبوا منه أن يتزعم الحركة القومية، فكتب كافور: «لقد دقت الساعة؛ لتتسلم ملكية سافوي زمام الزعامة»، فكان على يد هذه المدرسة البيدمنتية إن أمكن أن يتشكل مستقبل إيطاليا، ولكن بعد سنوات كثيرة، وبعد الثورة التي قامت في سنة 1848.
وعشية هذه الثورة (1848)، لنا أن نتساءل إذن بعد كل الأحداث (والوقائع) التي مرت، والتيارات الذهنية المقترنة بحركتي «الرومانسية أو الرومانتيكية والبعث والإحياء»، وظهور جماعة «المعتدلين» أصحاب المذاهب السياسية، التي نادى بها رجال من طراز جيوبرتي، أو «دازيجيليو» و«بالبو»، ثم حركة «الإصلاح» في بيدمنت خصوصا - نقول: يحق لنا أن نتساءل ماذا كان الموقف في إيطاليا عشية ثورة 1848.
من الناحية السياسية؛ لم يطرأ تغيير على هذا الموقف؛ فهناك مجموعة من الدول والإمارات إلخ، منفصلة عن بعضها بعضا، والنمسا لا تزال صاحبة الحول والطول في إيطاليا، والحكومات المستبدة تنشر طغيانها في كل أنحاء البلاد، ولكن على العكس من ذلك من الناحية الخلقية الأدبية والروحية، كان قد طرأ تغيير شامل على الموقف، فالمثقفون جميعهم من الآن فصاعدا قد صاروا يعتنقون الفكرة القائلة بضرورة إزالة الحدود التي تفصل بين الدويلات المتعددة؛ ليتسنى إنشاء دولة إيطالية واحدة ووطن إيطالي واحد، ولقد اختلفت رغبات الإيطالية بشأن «الشكل» الذي يجب أن تتخذه هذه الدولة الواحدة، الوحدة والجمهورية؛ شعار الثوريين الذين حركوا الثورات المحلية الأولى، والذين بدأ نشاطهم، كما شاهدنا سنة 1830، ويمثل هؤلاء «المازينيون»، واستمر نشاطهم في سلسلة من الثورات الصغيرة والفاشلة بعد ذلك، ثم كان هناك «المعتدلون» منذ 1840 وهم الذين لم يربطوا الفكرة الإيطالية، وإنشاء الوطن القومي الإيطالي بالفكرة الثورية، وصاروا يشكلون بفضل ذلك عنصرا «محافظا» في تاريخ الحركة القومية، ومع ذلك فقد تنوعت الحلول التي ارتآها هؤلاء «المعتدلون» للمشكلة الإيطالية، فهناك أنصار البابوية مثل؛ «جيوبرتي» و«الجلفيين الجدد»، ثم هناك خصوم الحكومة البابوية الذين أرادوا تجريدها من كل سلطة، مثل: جياكومو دوارندو
Giacomo Durando (1807-1894)، صاحب «القومية الإيطالية»،
37
ثم لويجي توريللي
Luigi Torelli
صاحب «أفكار عن إيطاليا»،
38
ثم هناك الذين أرادوا الاستقلال قبل كل شيء، ولم يكونوا يهتمون بالحقوق الدستورية مثل: «بالبو»، ويقابل هؤلاء من الطرف الآخر أولئك الذين يضعون الحقوق الدستورية، والحريات في مرتبة أعلى من الاستقلال «من النمسا». وأخيرا كان هناك الذين يؤيدون «توسع» بيدمنت، ويريدون لها الزعامة حتى تصنع لإيطاليا كيانا سياسيا واحدا، وهؤلاء هم الذين سوف تتزايد أعدادهم تباعا.
وهكذا كانت الحركة القومية عشية أحداث ثورة 1848، مزيجا من الأهداف والتيارات المختلفة والمتضاربة، ولكن الذي لا شك فيه أن الشعور القومي أو الروح القومي قد صار متيقظا، ويعم كل إيطاليا ويتغلغل في كل الأوساط والطبقات.
ولكن هذا الشعور أو الروح القومي لم يكن هناك مناص من «تجسده» في شكل الدولة القومية والوحدة الأهلية، وبجانب «الثوريين» الذين فقدوا اعتبارهم بسبب الفشل الذي أصابهم كل مرة حاولوا فيها الثورة، كان أكثر الإيطاليين يعتقدون أن العمل لتحقيق هذه الوحدة الأهلية قد بات قريبا، ولما كانت قد تبددت آمالهم في الحصول على أية معاونة من الخارج؛ بسبب تخلي فرنسا عنهم، فقد صاروا يعتمدون على أنفسهم هم وحدهم في تحقيق آمالهم، وصار شعارهم مقالة شارل ألبرت نفسه: «ستعمل إيطاليا وحدها».
39
البابوية «المصلحة» بيوس التاسع
ولقد كان ذلك هو الموقف في إيطاليا، عندما حدث في (أول يونيو 1846) أن توفي البابا جريجوري السادس عشر، ووقع اختيار مجلس الكرادلة
Conclave ؛ على الكاردينال جيوفا في ماريا ماستا في فيريني
40
ليعتلي كرسي البابوية باسم البابا بيوس التاسع (14 يونيو)، وكان «ماستائي» البابا الجديد ينحدر من أسرة نبيلة ريفية من سينيجاليا
Sinigalgia
من الأملاك البابوية، ولد سنة 1792 وبدت عليه عوارض داء الصرع؛ مما أجبره على مغادرة الكلية التي كان يتعلم بها في فوليترا
Volterra
بتسكانيا، كما أن نوبات الصرع هذه استمرت تنتابه تارة في شكل هياج عصبي، وأخرى في صورة اندفاع متهور، هي التي تفسر كثيرا من الأحداث التي وقعت خلال بابويته. ولقد عاد «ماستائي» إلى سينجاليا في سنة 1809، وبقي بها حتى عودة البابا بيوس السابع إلى روما (سنة 1814)، عند انتهاء عهد السيطرة الفرنسية في إيطاليا. وفي هذه الفترة (1809-1814) قيل عن «ماستائي»: إنه كان متصلا بالبنائين الأحرار «الماسون»، وبالكاربوناري. ولو أنه لا يوجد أي إثبات على أنه كان متصلا فعلا بجماعة الثوريين، أو أنه انحرف في شيء عن تقاليد أسرته التي كانت تقاليد «كنسية» بحتة.
وقصد «ماستائي» إلى روما في سنة 1814، يبغي الظفر بمركز في وظائف الحكومة البابوية، ولما لم تسعفه صحته الضعيفة في الالتحاق «بالحرس البابوي»، ما حصل على وظيفة صغيرة بإحدى ملاجئ الأيتام (1816)، ثم لم يلبث أن انخرط في سلك الكهنوت، وعهد إليه بمهمة دينية وسياسية معا في سنة 1817 إلى «شيلي» بأمريكا الجنوبية، فلم يعد منها إلا سنة 1825، فعينه البابا ليتو الثاني عشر رئيسا لمستشفى القديس ميخائيل، ثم رقاه بعد عامين رئيسا لأسقفية «سبوليتو».
وفي هذا المكان الأخير، ومع أول احتكاك بين «ماستائي» والثوريين الطليان في سنة 1831، وذلك عندما اضطر الجنرال «سيركو جناني» بعد إخفاقه في محاولة مهاجمة روما إلى الانسحاب إلى «سبوليتو»، وتسريح قواته بناء على نصيحة «ماستائي» في الظروف التي سبق أن عرفناها.
وفي سنة 1832 نقل «ماستائي» إلى مطرانية إيمولا
Imola ، وفي 1840 رقي كاردينال وبقي يحتفظ بمطرانيته، وشهد وهو في «إيمولا» سلسلة من المؤامرات، والثورات، وإجراءات القمع، والتدخل النمسوي، وإلقاء القبض على الناس وحبسهم، والحكم بالنفي والتشريد على طائفة منهم، وإعدام طائفة أخرى، فأغضبته هذه «التجربة» وأزعجته، وصار يحتج عليها لدى الحكومة البابوية الرئيسية، فعدته هذه من طراز أبيه جريجوار
Grégoire
صاحب الشهرة المعروفة في تاريخ الثورة الفرنسية،
41
وقد أغضب عمل البلاط البابوي «ماستائي »، وكان «ماستائي» في هذا الوقت على صلات ودية وثيقة بأحد شباب الأحرار المثقفين: الكونت جويزيبي باسوليني
، وتربطه روابط الصداقة كذلك بزوجه أنطوانيتا باسي
Bassi ، وكانا يقطنان بالقرب من «إيمولا»، وقد تأثر بابا المستقبل بهذه الصداقة تأثرا عميقا، سواء من حيث انجذابه إلى أسلوب المعيشة الهادئة، والرجعية في هذا الوسط، ومن حيث اطمئنانه إلى ولاء «باسوليني» وزوجه وصدق نواياها، حتى صار يثق بها ثقة كبيرة، ولقد تناقش ثلاثتهم كثيرا في إمكان التوفيق بين «الدين» و«التقدم»، بين العقيدة الكاثوليكية والمبادئ الحرة، التوفيق بينهما من الناحيتين المنطقية والعملية، كما بحثوا التباين والاختلاف العظيم بين الأماني الإيطالية، وما يجب إنجازه من وسائل لتحقيقها، وبين الطرائق والأساليب التي تتبعها البابوية والحكومة النمسوية في الحكم، والتي يتعذر معها تحقيق هذه الأماني، ولقد ساعدت هذه المناقشات على أن يعتنق «ماستائي» بصورة من الصور الآراء التي نادى بها «المعتدلون» المصلحون، وأن يقف بوقف المعارضة من أنصار الرجعية والحكومة المستبدة من جهة، وأنصار الحركات الثورية المازينية من جهة أخرى.
ومن المحتمل أن «ماستائي» ما كان يعير هذه الموضوعات ذاتها انتباها خاصا، أو أنه كان يعني تتبع الطريق الذي سلكته الآراء الداعية للمسالمة بين العقيدة الكاثوليكية والمبادئ الحرة، وهي التي صارت جزءا من برنامج الحركة الرومانتيكية الحرة في سنة 1830، والتي جعل تحددها الآن شباب القساوسة، ورجال الدين ينجذبون دون شعور منهم إلى مقاومة الرجعيين الذين يريدون طمس الفكر، وإلى مقاومة اليسوعيين، ومع ذلك فالثابت أن «ماستائي» كان في قرارة نفسه يعطف على هذه الحركة، التي اتسع نطاقها بفضل «أدب الإصلاح»، مما دبجه يراع المصلحين المعتدلين، فصارت تشمل كل المشكلات السياسية في إيطاليا، ولقد شاهدنا كيف أن هؤلاء المعتدلين مثل: «جيوبرتي» و«بالبو»، وكتاب الإصلاح الآخرين قد بنوا كل خططهم لتحرير إيطاليا، وإنقاذها من وهدتها على فكرة «المسالمة» هذه؛ ولذلك فقد سهل على «باسوليني» وزوجته أن يستثيرا اهتمام «ماستائي» بالمشكلات السياسية، وأن يجعلاه في آخر الأمر يأسف أشد الأسف لسوء الأحوال السائدة، ويتطلع إلى مستقبل أفضل، اعتقد «ماستائي» أن قليلا من الرفق والتسامح، وشيئا من الروح المسيحية الصحيحة، كلاهما قمين بفعل ذلك، وكان بفضل أصدقائه «آل باسوليني» أن تسنى «لمستائي» قراءة كتاب «جيوبرتي» عن رياسة أو زعامة إيطاليا، وكتاب «بالبو» عن آمال إيطاليا، ثم مؤلف «دازيجليو» عن حوادث رومانا وثورتها الأخيرة، وهكذا نتيجة لهذه الدراسة التي تناولت آراء المصلحين المعتدلين من ناحية، ولمشاهداته من ناحية أخرى، وهي التي وقفته عن فظائع وسائل القمع والإرهاب الرجعي، صار من الممكن بناء تلك «الشخصية» التي احتلت مكان الصدارة في تاريخ الحركة القومية الإيطالية، باسم البابا بيوس التاسع، الثلاث السنوات التالية قبل حوادث 1848.
وكان عند ذهاب «ماستائي» لحضور مجمع الكرادلة عقب وفاة جريجوري السادس عشر في سنة 1846، أن أفصح الكونت «باسوليني» عما كان يجول بخاطره، من حيث استطاعة «ماستائي» إذا صار انتخابه لكرسي البابوية، أن يضع موضع التنفيذ تلك الآراء والمبادئ التي بحثها في «إيمولا»، ومع ذلك فقد كان واضحا أن الأحوال في أوروبا في اللحظة التي حصل فيها انتخاب «ماستائي» للبابوية (يونيو 1846)، لم تكن ملائمة لتطبيق مبادئ الإصلاح الحر؛ بسبب تلك الموجة من الرجعية التي كانت تجتاح أوروبا وقتئذ، والتي لا معدى عن إثارتها الصعوبات في طريق البابا إذا شاء الظهور بمظهر المحب للإصلاح، وتنفيذ نواياه الطيبة.
فقد كان في هذه الآونة، أن انفصمت عرا «التحالف الودي» بين إنجلترة وفرنسا؛ بسبب الزواج الإسباني، ووجد لويس فيليب الملك الفرنسي نفسه مرغما على الارتماء في أحضان النمسا،
42
وكانت سياسة النمسا في كل مكان مؤسسة على الرجعية، ومقاومة الآراء والمبادئ الحرة.
وبدأ «بيوس التاسع» في هذه الظروف بأبويته، كمن لا يدري ما الطرق التي يجب اتباعها للبدء في تنفيذ برامج إصلاحاته، ولكنه لم يلبث أن لقي كل معاونة من جانب اثنين من رجال الدين: جراتزيوس
Graziosi ، وكان «كنسيا» مثقفا متنورا، ثم كوربولي بوسي
Corpoli Bussi - وهو سكرتير - البابا.
وكان صاحب ميول يمكن اعتباره بفضلها اليوم في عداد «الكاثوليك الاشتراكيين».
ولقد انضم إلى هذين الكونت بلليجرينو روسي
مستشار البابا، والذي اشتهر بفلسفته «الحرة»، وكراهيته لليسوعيين، وكان هؤلاء الثلاثة هم المسئولين عن أول إجراء سياسي عظيم الأهمية، صدر عن البابا الجديد؛ إعلان العفو العام في 16 يوليو 1846، وشمل هذا العفو كل المذنبين سياسيا والمشبوهين، ولقد كان ذلك إجراء جعل من الناحية السياسية البابا بيوس التاسع، باعث النهضة السياسية في إيطاليا.
وكان لإعلان العفو العام أعمق الأثر، ليس في روما وحدها أو في سائر الأملاك البابوية وحسب، أو حتى في إيطاليا بأجمعها، بل لقد تعدى أثره حدود إيطاليا حتى تشعر به أوروبا، بل العالم بأسره، والحقيقة أن صدور «العفو العام» على يد أحد البابويات، كان بمثابة عود الثقاب الذي ألقي على كومة من المواد القابلة للاحتراق، ولم يكن يدور في خلد بيوس التاسع أن الأمر سوف يكون على هذه الدرجة من الخطورة عندما استجاب لعاطفته ولنصح مستشاريه، فسواد الناس في كل أنحاء إيطاليا وأوروبا يتوقون لتغيير يحدث، ومنذ سنة 1815 كانت تتزايد الرغبة تدريجيا في إجراء الإصلاحات الاجتماعية والسياسية، وهو شعور «تفاقم» منذ سنة 1830 وصار لا يمكن دفعه، وفي إيطاليا حيث كانت الحاجة أشد لهذا التغيير ولهذه الإصلاحات، كانت النمسا القوة التي اعتمد عليها الرجعيون في محاربتهم لأماني الأحرار، وإخماد حركتهم، وكان لذلك طبيعيا أن يعتبر موجها ضد النمسا كل إجراء «مستحدث» يصدر لتأييد المبادئ الحرة، وكان أدعى لاستثارة حفيظة النمسا، صدور «العفو العام» على يد بيوس التاسع؛ لأن هذا الإجراء لم يكن إجراء «صغيرا» أو ضئيل القيمة، بل إنه كان في جوهره إجراء أعاد الكرامة للوطنية الإيطالية، وذلك بالرغم من كل تلك «التحفظات» التي أحيط بها، وكان صدوره على يد البابا - رئيس الكنيسة وزعيم العالم الكاثوليكي الروحي - بمثابة الاعتراف بأن الأعمال التي كانت تعد إجرامية إن هي إلا فضائل، يجب تكريم أصحابها، وذلك في وقت اشتد فيه النضال في طول أوروبا وعرضها بين الرجعيين والأحرار.
على أن الذي يجب ذكره كحقيقة تفسر تطور التاريخ الإيطالي في السنوات التالية، أن بيوس التاسع على خلاف الوزير النمسوي «مترنخ»، لم يكن يتوقع، أو أنه كان يدور في ذهنه إطلاقا؛ أن «إعلان العفو العام» هذا معناه الحرب مع النمسا، ومؤداه استقلال إيطاليا، والحقيقة أن «إعلان العفو العام» كان إجراء «مبهما» يحتمل تأسيس ترتيبين اثنين عليه؛ إما الرغبة في «المسالمة» والتوفيق بين «العقيدة الكاثوليكية» والمبادئ الحرة، وإما الانحياز الصريح إلى جانب الأحرار ضد الرجعيين، ولقد تكفل منطق الحوادث وحده بعد ذلك بإظهار هذا «الإبهام» وفضحه، ثم بإزالته، وكان بهذا المعنى إذن أن حرك الثورة وبدأها في إيطاليا «إعلان العفو العام» هذا الذي أصدره البابا بيوس التاسع.
ولقد كانت الإصلاحات التي تمت على يد البابا بعد «إعلان العفو» بطيئة وقليلة وغير كافية، وفي كثير من الحالات متضاربة وغير مترابطة، بل إن العمل على «علمانية» الحكومة؛ أي تحريرها من النفوذ الكنسي استمر أملا أو حلما تهفو له الأفئدة، بالرغم من الحاجة الملحة إليه، ومع ذلك فقد بقي البابا يتمتع بمحبة شعبية، عندما صار الجميع - ما عدا اليهود - يتمتعون بقسط من الحريات الفردية. وقدر «بلليجرنو روس» قيمة الإصلاحات التي تمت على يد البابا، عندما كتب يصف حكومة البابوية بأنها «ليست مثالية»، وأنها لا تعدو أن تكون «مجرد فكرة»؛ أي ليست حكومة بالمعنى الصحيح، والحقيقة أن البابا ما كان يفعل شيئا إلا تحت ضغط المظاهرات الشعبية، وتكرر ذلك حتى صار معروفا عنه ذلك للجماهير، وللزعماء الشعبيين، خصوصا أنجيلو برونتي
Brunetti ، الملقب بشيشيروكيو
Ciceruacchio
تدليل شيشرون
Cicero ، والذي كان يبدو صديقا للبابا، وصارت المظاهرات «نظاما» ثابتا في روما، وعلى ذلك كانت الحكومة منزلقة في منحدر قد يقودها إلى كارثة محققة عند أول بادرة اختلاف بين رئيس هذه الحكومة، وبين الشعب الخاضع لها، ومع ذلك فقد صار الرجعيون ينددون بالبابا ويصفونه «بالماسونية » والكاربونارية، بل لقد صاروا يطعنون في شرعية أو قانونية انتخابه للبابوية، مما يدل على مقدار الكراهية لشخصه التي صار يشعر بها هؤلاء، وبلغ مخاوفهم منه، ولقد عبر عن هذه المشاعر «مترنخ» نفسه، عندما قال في حديث له مع الماركيز سولي
Sauli ، ممثل مملكة بيدمنت لدى بلاط فينا: «لقد كنا مستعدين لوقوع أي شيء، ما عدا اعتلاء بابا من الأحرار كرسي البابوية، أما وقد صار لنا الآن بابا من الأحرار، فلن يدري إنسان ماذا يقع بعد ذلك.»
وحوالي نهاية العام نفسه (1846)، لم تلبث أن بدأت تشير الدلائل إلى صدق نبوءة «مترنخ»، كما بدأ ينكشف المعنى الذي كان «لإعلان العفو العام»، ويزول عنه الإبهام الذي لابسه، وذلك عندما أخذ أثره يمتد إلى خارج حدود الولايات البابوية، فاحتفلت جنوه بذكرى مرور مائة عام على طرد النمسويين منها (1746)، وفي ميلان أقيم الحداد العام حزنا على وفاة «فردريجو كونفالو نييري» - أحد شهداء قلعة «سبيلبرج»
43 - الذي توفي في قرية عند سفح «سان جوتارد» أثناء عودته إلى إيطاليا؛ ليشهد بزوغ فجر العهد الجديد، «على كنيسة القديس بطرس في روما»، بل إن المؤتمر العلمي الذي انعقد في جنوه في هذه السنة (1846)، سرعان ما اتخذ نشاطه مظهرا سياسيا لدرجة أن سمي «مؤتمرا وطنيا»، وكان عن هذا «المؤتمر» أن صدر الاقتراح بالاحتفال بمرور الذكرى المئوية لطرد النمسويين من جنوه، وقد وجهت الدعوة لكل «إيطاليا» حتى تشترك في هذا الاحتفال، فأوقدت النيران في الأكوام المنثورة على طول جبال «الإبنين»، فكان معنى هذا كله تأكيد تلك الحقيقة التي كانت روما لا تزال تحاول إغماض عينيها عنها، وهي وجود العلاقة المباشرة بين الإصلاحات «الحرة»، والرغبة الملحة في الاستقلال القومي، ولم يخطئ الوزير البيدمنتي «ديللا مرجيتا» عندما كتب من روما - وكان قد ذهب يستطلع الأحوال بها - إلى شارل ألبرت؛ ليست الثورة في حاجة لأن تصنع، فإنما هي قد تم صنعها فعلا!
وفي الدويلات الإيطالية الأخرى، مثل؛ تسكانيا ولوقا ومودينا وبارما، ظهر التأثر بموقف البابوية «المصلحة» في ذلك الحماس الشعبي الذي أخذ يتزايد حماسا لمجرد الإصلاح وحسب، وحرك هذا الحماس المشاعر خصوصا في نابولي وصقلية، وقامت المظاهرات الوطنية في بيدمنت في كل مناسبة، وخصوصا عند انعقاد «المؤتمر الزراعي» في مورتارا
Mortara ، وهي هيئة علمية خدمت نفس الأغراض فيما يتعلق بمملكة بيدمنت، التي خدمتها «المؤتمرات العلمية» بالنسبة لإيطاليا.
وتوقع شارل ألبرت أن تعمد النمسا إلى وضع كل أنواع الصعوبات في طريق البابا المصلح لعرقلة نشاطه، وتوقع أن يؤدي ذلك إلى نشوب الحرب، وتطلع شارل ألبرت إلى خوض غمار هذه الحرب المنتظرة إلى جانب «البابا» وللدفاع عنه، حيث إن الاشتباك في حرب مع النمسا دفاعا عن رئيس الكنيسة الكاثوليكية، كان يتفق مع مبادئ الملك البيدمنتي، واتجاهاته السياسية والدينية، ثم إن شارل ألبرت استمر في الوقت نفسه ينفذ برامج الإصلاح في مملكته، ولم يلبث أن نحى وزيره «المحافظ» أو اليميني «ديللا مرجريتا»، وخفف من وطأته على المنفيين السياسيين، فبدأ هؤلاء يعودون إلى الوطن، وخفف شيئا من صرامته مع الصحافة، ثم إنه عين وزيرا للتربية والتعليم، الماركيز سيزار الغييري دي سوستيجنو
Di Sostegno
من المعروفين بميولهم المتحررة، والذي قيل عنه إنه كان على صلات سرية بالأحرار في لمبارديا.
ولم يكن غريبا أن يوجد «أحرار» بمملكة لمبارديا فينيشيا، الواقعة تحت الضغط والاستبداد النمسوي، فقد صار منتهيا ذلك العهد الذي تميز برضى الأهلين النسبي أو على الأقل تسليمهم بما شاءته الأقدار لهم، ومن المحتمل أن سكان الريف كانوا قليلي المبالاة بما يجري حولهم، ولكن الثابت أن الطبقة المتوسطة (البورجوازية) في المدن، كانت تضمر عداء شديدا للنمسا، وصار النبلاء ورجال الدين، وهم الطبقات الممتازة يترسمون خطى هؤلاء البورجوازيين تدريجيا، فانقسم حزب الأحرار إلى فريقين: «المازينيين»، وأنصار شارل ألبرت، والذين كانوا أعداء للنمسا ولا غاية لهم إلا طرد النمسا وحسب، ولقد تبدى الشعور الشعبي بوضوح في ميلان عند الاحتفال بجنازة «كونفالو نييري»، ثم في فينيشيا عندما حصل الاحتجاج الشديد ضد مشروع الحكومة؛ لمد السكة الحديد بين ميلان والبندقية، ولقد كان من بين الذين وقعوا على احتجاج شديد اللهجة، قدم للحكومة بهذه المناسبة كل من؛ دانييل مانين
Daniele Manin ، وبيترو باليوكابا
، وفالنتينو باسيني
، وثلاثتهم سوف يصبحون من قادة الثورة المقبلة، ولقيت كتب «جيوبرتي» ومؤلفات سائر «المصلحين» رواجا عظيما، وسبب تداولها المتزايد متاعب كثيرة للسلطات في لمبارديا فينيشيا، ومبعث هذه المتاعب؛ أن المسألة في هذه «المملكة» لم تكن مسألة إصلاح وحسب، بل كانت كذلك مسألة قومية؛ رغبة أهل هذه المملكة الإيطاليين في التحرر من سيطرة النمسويين وإنهاء حكومتهم، فلم يحمل رواج هذه المؤلفات إذن غير معنى واحد فقط؛ إثبات القومية وطرد النمسا، كما أن كل مظاهرة في صالح البابا ليو التاسع، أو لتأييد النظام الذي اقترن باسمه كان معناه زيادة الخرق اتساعا مع النمسا. ولقد استمرت هذه الحركات دون انقطاع إلى الوقت الذي عقد فيه تاسع المؤتمرات العلمية، وآخرها في مدينة البندقية في سنة 1847، والذي كان من نتيجة الخطب النارية التي ألقيت به، أن قبضت السلطات على اثنين من خطبائه؛ «دانييل مانين» و«نيقولو توماسيو».
وصارت في روما الإصلاحات، سيرا بطيئا - كما سبق أن ذكرنا - ثم إنها لم تكن كافية، فلم تلبث أن عزي السبب في ذلك إلى ما كان لليسوعيين وللحزب الرجعي من نفوذ «سري»، استخدموه لعرقلة الإصلاح وإبطاله؛ ولذلك فقد علت الهتافات لأول مرة في 10 مارس 1847؛ للمناداة بحياة البابا ليو التاسع «وحده!» وعلى نحو ما جرت به العادة، ترتب على هذه «المظاهرة»، أن وافق البابا في 21 أبريل على تشكيل «مجلس استشاري».
44
ومن المعروف أن «جيوبرتي» في كتابه «الرياسة أو الزعامة» يميل لإنشاء المجالس الشورية؛ للحد من غلواء الحكومات الأوتقراطية، ولكن «جيوبرتي» أراد في الوقت نفسه أن تكون هذه المجالس الشورية الخطوة الأولى نحو إقامة الحكومة الدستورية، أما البابا فقد شاء أن يكون إنشاء المجلس الاستشاري أقصى ما يستطيع الذهاب إليه في إصلاحاته، وعلى ذلك فقد استمرت تشتد موجة التذمر، والسخط يوما بعد يوم، وصار من المتعذر وقفها.
نهاية عهد «الإصلاحات» وبوادر الثورة
ومن الأخطاء التي ارتكبتها حكومة البابوية، أنها وافقت على تشكيل «حرس مدني» في 30 يونيو 1847، تحت تأثير «المعتدلين» بزعامة «دازيجليو»، وبمشورة «روسي» مستشار البابا الذي أراد كسب «المعتدلين »، وذلك بالرغم من احتجاج الوزير كردينال جيتزي
Cizzi ، الذي كان معتبرا زعيم الكنسيين الأحرار، والذي كان أحد المرشحين (المحبوبين من الشعب) لكرسي البابوية.
ولما كان قد قرب موعد الذكرى الأولى «لإعلان العفو العام»، فقد استعد الأهلون لإحيائها بحماس عظيم، حتى حدث فجأة أن تطايرت الشائعات عن وجود اتفاق سري بين النمسا، والكرادلة المعارضين واليسوعيين، وبعض سفاكي الدماء من رجال الشرطة القدامي أيام البابا السابق جريجوري السادس عشر ؛ لإثارة الاضطرابات في إيطاليا الوسطى، وذلك حتى تتذرع النمسا بهذه الاضطرابات؛ للتدخل والقضاء بضربة قاصمة على «نظام الإصلاح» الذي اعتبرته «ثورة» جامحة.
وبمجرد أن بلغت الشائعات الزعيم الشعبي «شيشيروكيو» - أنجليو برونتي - بادر بوقف استعدادات الاحتفال، وألقى القبض على كبار رجال «المعارضة»، وبقدر استطاعته زود «الحرس المدني» بالأسلحة، وأصر على طرد حاكم روما، وإنشاء هيئة قضائية للتحقيق، وكتب «جيوبرتي» في كراسة عن هذا الموضوع: «وإذا ازدهت روما القديمة بخطيبها شيشيرون، فإنه ليحق لروما الحديثة أن تفخر هي الأخرى بخطيبها شيشيروكيو!» ومع أن كثيرين يعتقدون أن «شيشيروكيو» استطاع إنقاذ روما من هذه المؤامرة، فإن المؤرخين الكنسيين ينفون هذا الزعم نفيا قاطعا، وفي رأي فريق من هؤلاء أن «المؤامرة» لم يكن لها وجود إلا في أخيلة الجماهير، ويعزو فريق آخر السبب إلى مجرد الرغبة في مهاجمة «الرجعيين» وهكذا، ومع ذلك فهناك حقيقتان تدعمان وجود المؤامرة؛ الأولى: قيام حركات رجعية في وقت واحد في عدد من المدن الإيطالية لا تقل عن عشرة، والثانية: احتلال قسم من «فرارة» فجأة بقوات نمسوية يوم 17 يوليو 1847. ولقد سبق هذا الاحتلال أن تقدمت النمسا على لسان وزيرها «مترنخ» بغرض تدخلها المسلح. وقد أبلغ «مترنخ» هذا العرض إلى السفير البابوي في فينا، ثم أبلغه ثانية الوزير النمسوي لدى روما؛ الكونت لوتزو
Lutzow
إلى الكردينال «جيتزي»، فلما رفضت روما هذه العروض عمد «مترنخ» إلى تحريك الفتن والاضطرابات في إيطاليا الوسطى؛ كي يجد بسببها ذريعة للتدخل المسلح، وإذا قامت الاضطرابات، صار من المنتظر إما أن يطلب البابا نفسه «تدخل» النمسا، ومن المحتمل أن يقضي التدخل عندئذ إلى القضاء نهائيا على الحركة برمتها، بدعوى ضرورة إعادة النظام إلى الأملاك البابوية وإيطاليا، وإما أن يتعذر استمالة البابا لدعوة النمسويين للتدخل، وعندئذ يكفي غزو واحتلال «فرارة»؛ لاستثارة الشعور في إيطاليا، ولجعل وقوع الحرب في النهاية أمرا لا مفر منه؛ ولذلك يرى كثيرون أن هناك ما يدعو للاعتقاد بوجود هذه المؤامرة الرومانية «العظيمة»، ولو أنها لم تكن تتعدى مرحلة التشكيل الأولى.
وأيا ما كان الأمر، فقد نجح «مترنخ» نجاحا تاما في إدراك غايته الثانية، من حيث إن احتلاله المفاجئ «لفرارة» في 17 يوليو 1847 قد أجبر إيطاليا ولما تستكمل استعدادتها على «بدء العمل»، أما احتلال «فرارة»، إلى جانب الثورة التي حدثت في «بلرمو» في صقلية بعد ذلك (في 12 يناير 1848)، وهي الثورة التي اختتم بها «عهد الإصلاحات» في إيطاليا، وافتتح بها «عهد الدساتير»؛ أي استصدار الدساتير في الدويلات والإمارات المختلفة؛ فإنهما يحددان بداية الثورة التي اشتعلت سنة 1848 في إيطاليا.
ويؤكد المؤرخون من الأحرار والجمهوريين أن البابا بيوس التاسع كان على اتفاق خفي مع «مترنخ» في هذه الآونة، وذلك «تأكيد» تعوزه الأدلة، بل إن هناك ما يدعو إلى الجزم بأن العكس كان صحيحا، فالثابت أن بيوس التاسع احتج لدى فينا على احتلال فرارة، وهي من الأملاك البابوية (على الحدود بين فينيشيا ورومانا)، واضطر «مترنخ» إلى التسليم بحق البابا في هذا الاحتجاج، ولو كان هناك اتفاق سري بين الرجلين، لما تردد «مترنخ» لحظة واحدة في إذاعته لتبرير الاحتلال، بل إن «مترنخ» لم يلبث أن كرر مظاهراته العسكرية ضد «فرارة» يوم 17 أغسطس 1847، وعاد بيوس التاسع فكرر هو الآخر احتجاجاته مرة ثانية، ومع أن النمسا احتفظت بحقها في بحث المسألة من الناحية القانونية، فقد اضطرت إلى إخلاء المدينة وبقيت تحتل قلعة فرارة وحسب، (وفق نصوص معاهدات سنة 1815)، ثم إن «مترنخ» بدلا من أن يعقد تفاهما أو تحالفا سريا مع البابا وقتئذ راح يصفه في رسائله الخاصة، بأنه من الماسونيين (البنائين الأحرار) ومن الكاربوناريين، والرجل الذي لا يدري غير السماء كيف أمكن انتخابه لكرسي البابوية؟!
لقد وضع «مترنخ» خططه لمواجهة الثورة والحرب في إيطاليا، وأينعت هذه الخطط ثمارها، وتهيأ «مترنخ» للتدخل وهو مطمئن إلى تفوقه العسكري، وإلى أن الموقف السياسي في أوروبا سوف يطلق يده في إيطاليا، فقد سبق أن أشرنا إلى انقطاع العلاقات بين فرنسا وإنجلترة، وانضمام الأولى إلى النمسا؛ خوفا من العزلة وعجزها لذلك عن المضي في تشجيع حركة الإصلاح في إيطاليا حتى لا تغضب حليفتها الجديدة، ومع أن إنجلترة شجعت الإصلاح، حيث قد اضطرها قطع الصلات مع فرنسا إلى القيام بدور «الدفاع عن الحرية»، الذي كانت فرنسا قد ورثته عن الثورة الفرنسية، وصارت لذلك تشجع البابا وسائر الحكام الطليان على المضي في طريق الإصلاح، وتتفاوض مع الحكومة البابوية، وأوفدت إليها أحد رجالها؛ لورد مينتو
Minto
لهذه الغاية، فقد أوضح «مينتو» للبابا أن إنجلترة لن تحرك إصبعا لمساعدة البابا أو غيره من الحكام والأمراء، إذا تدهورت «الإصلاحات» إلى حركة ثورية ضد النمسا، أما عن بروسيا والروسيا، فقد كانتا وعلى نحو ما هو منتظر منهما إلى جانب النمسا، وسرهما كثيرا أن تريا الاستعدادات تجري في النمسا؛ لإخماد الثورة التي يوشك بركانها على الانفجار في إيطاليا، وهكذا أطلقت يدا مترنخ وصار في صالحه العمل بكل سرعة وعدم تفويت الفرصة، فكان ذلك منشأ «المؤامرة الرومانية»، واحتلال فرارة المفاجئ.
ولا جدال في أن هذين الحدثين؛ المؤامرة واحتلال فرارة، قد زادا من محبة الشعب للبابا بيوس التاسع، ولا جدال كذلك في أنهما قد زادا من كراهية هذا الشعب وعدائه للنمسا، فوجه «مازيني» في 8 سبتمبر 1847 إلى البابا دعوة فريدة من نوعها، تعيد للأذهان رسالته إلى شارل ألبرت في سنة 1831، فطلب من البابا الآن أن يتولى صنع وحدة إيطاليا، وأن يتولى كذلك إصلاح الكنيسة. وفي فلورنسة؛ ظهرت الرغبة في إنشاء «حرس مدني»، وقوبلت بالرفض من جانب حكومتها تحت ضغط من النمسا، فقامت الاضطرابات في ليقورنة (ليجهورن) - اشترك فيها الكاتب الروائي «جويراتزي» - وأرغمت الحكومة على إجابة هذا الطلب، ثم لم يلبث الأحرار في ليقورنة أن راحوا يطالبون بالدستور، وتشكلت في هذا الوقت أول وزارة من الأحرار في تسكانيا برياسة الماركيز كوزيمو ريدولفي
Cosimo Ridolfi ، وفي بيدمنت نشطت الرغبة في العمل الإيجابي داخل «المؤتمر الزراعي»، وقرأ سكرتير الملك الخاص في اجتماع حصل في بلدة كاسال
Casale
من أعمال مونتفرات
Montferrat
رسالة من الملك بشأن احتلال «فرارة» كانت بمثابة النداء للحرب، ولقيت الرسالة بهذا المعنى كل ترحيب في حماس وطني شديد في «تورين» و«جنوه»، وفي كل مكان في بيدمنت، ووجد الملك شارل ألبرت - «الملك المذبذب» والذي يدور مع الأهواء «كدوارة الريح» - نفسه في إحدى دوامات التردد الملازم له، فهو مصمم ولا شك على الحرب، ولكنه يدرك أن دعوة مجلس نيابي (دستوري) يجب أن يسبق هذه الحرب، وأن يمهد لدخولها، وخشي أن تؤدي هذه الخطوة «الدستورية» إلى ذيوع الفوضى، وانتشار الاضطرابات في المملكة، وعلى ذلك فقد صار يجنح للسلام في اللحظة التي تهيأت فيها جميع الأسباب لنشوب الحرب مع النمسا، ولكن كان قد سبق السيف العزل، ولم يعد هناك من الآن فصاعدا أي مجال للتراجع، أما السبب في ذلك فقد كان السخط، وشعور الناس الذين سيطروا على نفوس الناس في لمبارديا فينيشيا من جراء سياسة القمع، والبطش المتطرفة التي اتبعتها النمسا في هذه المملكة. ولقد كانت هذه سياسة في رأي كثير من المؤرخين، أرغمت النمسا عليها إرغاما، حيث وجد النمسويون أنفسهم منساقين انسياقا إلى اتباعها، مثلما وجدت الدويلات والإمارات الإيطالية أنها منساقة انسياقا كذلك إلى الزج بأنفسها في «دوامة» الإصلاحات على المبادئ الحرة، مع ما يترتب حتما على هذه الإصلاحات من نتائج خطيرة، هي الثورة والحرب.
ذلك بأن الحركة - حركة الإصلاح - التي كان بدأها البابا سرعان ما صارت أصداؤها تتجاوب في كل أنحاء إيطاليا، ثم أفضت إلى نتائج ذات أهمية بالغة في عدد من الحالات المعينة، وخصوصا في «مملكة الصقليتين» - أو نابولي - حيث كانت «الثورات الماضية» وثورات 1820 بنوع خاص، قد خلفت آثارها في صورة سلسلة غير منقطعة من المؤامرات والثورات، وتعود أهل «الصقليتين» على حياة المؤامرة والتمرد والعصيان هذه، ولا شك أن سوء الحكم والإدارة البالغ في مملكة نابولي، كان السبب المباشر والرئيسي لها، ولقد حدث في شهر يوليو 1847 أن نشر أحد شباب المحامين لويجي ستمبريني
Settembrini
ما أسماه «احتجاج شعب الصقليتين»
45
وكان اتهاما فضح صاحبه فظائع حكم «آل بربون» في نابولي وصقلية، كما دل على أن أهل «الصقليتين» مصممون على العمل كقسم من الحركة العامة في إيطاليا وفي نطاقها، وفي «احتجاجه» دعا «ستمبريني» إلى «حمل السلاح» كالعلاج الوحيد لإنهاء الفوضى وسوء الحكم من البلاد. وعبثا حاولت الحكومة وقف خطر الثورة الداهم بتخفيف الضرائب، وبذل الوعود إلخ؛ لأن «الاحتجاج» الذي نشره «ستمبريني» إنما كان يعبر عن شعور عام بالسخط والتذمر والغضب، بل إن دعوته للثورة لم تلبث أن وجدت صدى في جهات عدة، فقامت الثورة في أغسطس 1847 في «مسينا» بصقلية، وفي «ريجيو» بإقليم كلابريا ثم في نابول، ولكن قضي على هذه الثورات سريعا، ونظمت بدلا منها «المظاهرات» الصاخبة المستمرة من نمط المظاهرات التي أرغمت في روما البابا بيوس، وفي فلورنسة حاكمها ليوبولد الثاني، على قبول الإصلاح والتي كان من المتوقع كذلك أن تخيف فردنند الثاني ملك نابولي وترغمه هو الآخر على الإصلاح.
وبدا كأنما الخوف قد صار يملك على الملك لبه فعلا، وبخاصة عندما انهالت عليه الاحتجاجات التي نشرتها الصحف ضده في تسكانيا وروما، ثم بعث إليه أحرار بيدمنت وروما «عريضة» يطالبونه فيها بأن يحذو حذو الحكام الإيطاليين الآخرين، والذين أخذوا بمبادئ الإصلاح، وقد وقع على هذه «العريضة» كوكبة من الزعماء الأحرار؛ كاميلو دي كافور، وسيلفيوبيلليكو، وكارلو الفييري دي سوستجنو، وميشيل أنجلو قاطاني دي سيرمونيتا
Caetani Di Sermoneta ، ومع ذلك فقد أسفرت هذه العريضة عن شيء واحد فقط؛ طرد أسوأ وزراء الملك، وتعيين نفر من ذوي السمعة الحسنة في مكانهم.
ولقد اختار الصقليون هذا الوقت للانفصال كلية عن الثوريين في نابولي، وقرروا الاستقلال بحركتهم، ومن الغريب أنهم بدءوا «ثورتهم» بإعلان أنهم قد حددوا يوم 12 يناير 1848 لقيام هذه الثورة.
وإزاء هذه الاضطرابات المتزايدة والانحدار السريع في طريق الثورة، كان لا مناص من أن يحدد البابا موقفه من هذه الأحداث في وضوح، ولقد فعل بيوس التاسع ذلك عندما صار يحتج بكل شدة ضد الحرب التي لا يريدها بحال من الأحوال ضد النمسا، ويؤكد أن إنشاء «المجلس الاستشاري» هو أقصى ما يمكن أن تبلغه إصلاحاته الداخلية، ولكن احتجاجاته وتأكيداته ذهبت سدى؛ لذيوع الاعتقاد أن البابا سوف يرضخ دائما لمنطق الإقناع، مهما تنوعت وسائله، ولضغط الظروف والحوادث، ولقد افتتح فعلا «المجلس الاستشاري» قبل نهاية العام (1847)، ونال هذا المجلس من ضروب الدعاية والإعلان شيئا كثيرا؛ لإقناع الناس بأنه «الحكومة» الفعلية، وبأنه «برلمان» حقيقي، وتأسيس «مجلس البلدية» في روما على قاعدة انتخابية واسعة، وانبرى هذا المجلس يطالب «بالدستور» وقامت المظاهرات، وأعدت برامج الإصلاح، والتي كان من بين المطالب التي نادت بها؛ طرد اليسوعيين الذين تزايد السخط عليهم، وتحير البابا أي الطرق يسلكها؛ الاستجابة لمطالب الشعب، أو الاستماع لنصح الرجعيين، وتحذيرهم له من الأخطار التي قد تتهدد العقيدة والدين؛ نتيجة المضي في «الإصلاحات» التي يريدها الشعب والأحرار.
وكان عندئذ أن تمكنت النمسا يومي 2، 3 يناير 1848 من إخماد الاضطرابات التي كانت حصلت في ميلان وغيرها من المدن في لمبارديا، وذلك بأن أوقفت مذبحة فظيعة بالمواطنين العزل من السلاح، الحدث الذي أثار موجة من الغضب عارمة اجتاحت كل أنحاء إيطاليا، ولقد سجل «دازيجليو» هذا الشعور المليء بالألم والحزن والغضب في كتيبه عن «النضال والكفاح في لمبارديا»،
46
أما في روما فقد أقيم «مأتم» لضحايا البطش النمسوي زاد النار المشتعلة في النفوس ضد النمسا تأججا وضراما.
ثورة 1848
وتعين الثورة التي حدد لقيامها في «بليرمو» بصقلية يوم 12 يناير 1848 نهاية عهد «الإصلاحات»، كما أنها تعين - كما ذكرنا - بداية عهد الثورة في إيطاليا، وفي بليرمو بدأت الثورة فعلا يوم 12 يناير، ولم يأت يوم 27 يناير حتى كانت قد نجحت نجاحا كاملا، وهزم الثوار القوات المرسلة من نابولي، وتحررت الجزيرة بأجمعها ما عدا قلعة مسينا، وقبل الملك المفاوضة مع الثوار الذين أعلنوا «دستور سنة 1812»
47
وشكلوا حكومة مؤقتة، وشرع البرلمان في 18 أبريل يبحث قرارا بخلع أسرة بربون من الحكم في صقلية.
وكانت «العروض» التي قدمها الملك إلى شعبه في صقلية؛ أي منحهم دستورا، كان قد اضطر قبل ذلك «لتقديمها» إلى شعبه في نابولي، تحت ضغط حوادث الثورة ذاتها في صقلية، والمظاهرات المستمرة في نابولي، فأصدر قرارا في 29 يناير 1848 بالقواعد التي يقوم عليها «الدستور»، فكان فردنند الثاني أول حاكم في إيطاليا تنازل عن حقوق دستورية لشعبه.
ويبدو أن ملك نابولي أراد بهذه الخطوة أن يدفع دفعا «حركة الإصلاح»، التي لم يكن يستهدف الملوك والأمراء منها سوى مجرد الإصلاح المادي والاجتماعي وحسب ، كما أراد أن يعاقب البابا بيوس التاسع على «الارتباك» الذي سببه بمشروعاته الإصلاحية، فسوف يجد البابا نفسه مضطرا لأن يحذو الآن حذو ملك نابولي، فيمنح هو الآخر شعبه «دستورا». وسوف يجد الحكام الإيطاليون الآخرون أنهم مرغمون أيضا على فعل ذلك، حتى أولئك الذين يستندون على مظاهرة النمسا لهم. ولقد أسفرت التجربة الدستورية في نابولي عن نتيجة عجيبة، عندما أدى منح الحقوق الدستورية الواسعة الأهلين الذين عاشوا أجيالا طويلة في ظل الضغط والاستبداد الحكومي، أدى إلى دفع البلاد فجأة ودون سابق إنذار إلى هوة سحيقة من الفوضى، عجزت عن انتشال البلاد منها وزارات الأحرار الثلاث التي تشكلت في أثر بعضها بعضا، خلال المائة يوم التي تلت استعداد هذا الدستور في نابولي.
وصح ما توقعه ملك نابولي، من حيث إن منحه الدستور لشعبه سوف يضغط على أيدي غراندوق تسكانيا «ليوبولد الثاني»، والبابا بيوس التاسع، ولكن في بيدمنت؛ وصل شارل ألبرت بعد تردد طويل إلى قرار مستقل، فهو قد أدرك أن الحرب لا محالة واقعة مع النمسا، واعتقد أنه لن ينج منها إلا إذا استمال إليه الأحرار في بيدمنت، وكان هؤلاء بمبادئهم الحرة قوة يعتد بها، فأذاع بيانا بتاريخ 8 فبراير 1848، يعلن فيه قواعد الدستور
Statuto
الذي أراده لشعبه، ثم شكل وزارة جديدة برياسة «سيزار بالبو»، ولم ينشر البيان رسميا إلا يوم 5 مارس. وفي 17 فبراير، أذيع دستور
Statuto
كذلك في تسكانيا، وحاول البابا التهرب من إعلان الدستور في أملاكه، فوجه خطابا بابويا لأتباعه في 10 فبراير، يطلب فيه من الله أن «يبارك إيطاليا»، ثم خطب في اليوم التالي الجماهير من شرفة قصر الكويرينال في روما
Quirinal ، ومع أنه في كل مرة، قد أوضح تماما أنه لن يمنح شعبه دستورا، ولن يطرد اليسوعيين، ولن يدخل في حرب مع النمسا، فقد تناسى الناس كل ما ذكره البابا ما عدا «مباركة إيطاليا»، وصار يتنازع البابا الحذر من خطورة الأحداث التي تكاد تعصف بالبلاد وقتئذ، هذا من ناحية، ثم من ناحية أخرى؛ التأثر بالحماس الشعبي الذي كان له فعل السحر في نفسه . وأخيرا لم يلبث أن وافق في 10 مارس على تشكيل وزارة كل أعضائها تقريبا من العلمانيين، كان منهم: ماركو مينجيتي
Minchetti ، أحد متطرفي المعتدلين من إقليم رومانا، والكونت «جوزيبي باسوليني» صديق البابا الذي عرفنا الكثير عنه، ثم جوزيبي جاليتي
Galletti
من رجال السياسة، وفي 14 مارس أصدر البابا «الدستور».
غير أن الذين وضعوا هذا الدستور كونوا لجنة من الكنسيين، قاموا بهذا العمل تحت ستار من الكتمان والسرية، فلم تعلم شيئا عنه الوزارة التي كان واجبها تنفيذ هذا الدستور، الذي كان عبارة عن مجموعة متضاربة ومختلطة من السلطات التنفيذية والتشريعية، وتلقي بعضها بعضا، لم يسع مستشار البابا «بلليجر ينوروسي» عندما وقعت عيناه على هذا الدستور إلا أن يصارح بيوس التاسع برأيه فيه، فوصفه بأنه تقرير «للحرب بين صاحب السلطات وبين الشعب في أشكال قانونية»، وكان نقدا صريحا وجديرا بصاحبه ذلك الذي أظهر خطر هذا الدستور وعجزه، ولكن أحدا وسط الحماس العظيم الذي رحب به الشعب صدور الدستور، لم يلق بالا لذلك.
ولقد كان في أثناء ذلك كله أن ذاع نبأ الثورة التي طوحت بعرش لويس فيليب في فرنسا (24 فبراير 1848)، فقوبل هذا النبأ بفرح وحماس عظيمين في إيطاليا، وفي وسط هذا الحماس العظيم كذلك الذي رحب به الإيطاليون بهذه الأخبار، لم ينتبه أحد للحقيقة التي كان يجب تمعنها، وهي أن الدساتير الإيطالية الأربعة بما في ذلك الدستور الذي أصدره البابا، كانت جميعها بدرجات قد تكبر أو تقل صورا دقيقة للدستور الفرنسي الصادر في سنة 1830، والذي قامت عليه «ملكية بوكيو» في فرنسا، وهي الملكية التي تقوضت عروشها الآن، ولم يستطع «دستورها » الصمود في وجه «الثورة»، ولم يكن للناحية الاشتراكية في ثورة فبراير 1848 في فرنسا، ما يقابلها في الثورة التي قامت في إيطاليا، أو أن نظيرتها في الثورة الإيطالية كانت ضئيلة، ولكن الذي لا شك فيه أن الناحية السياسية لثورة باريس، كان أثرها عظيما في تقوية آمال الإيطاليين الراديكاليين المتطرفين، وتشجعيهم على المضي في نشاطهم، والحقيقة أن الثورة الباريسية كانت ذات أثر مباشر، أقرب في كل من ألمانيا والنمسا، فلم تمض أيام معدودات حتى قامت يوم 13 مارس 1848 في «فينا» نفسها (المدينة الأمينة)، التي اشتهرت بولائها دائما للإمبراطورية ولآل هابسبرج! وهكذا صارت تترى في أثر بعضها بعضا على ميلان والبندقية؛ أنباء الثورة في صقلية، وأنباء إعلان الدستور في أربع دويلات إيطاليا، وأنباء الثورة «الجمهورية» في باريس، وأخيرا في يوم 17 مارس أنباء الثورة في فينا وسقوط «مترنخ»، وفراره من النمسا.
أما نبأ سقوط مترنخ وفراره، فقد كان الشرارة التي أوقدت العاصفة، فقد تهيأ الإيطاليون من مدة طويلة لإشعال هذه العاصفة واستقبالها، فما لبثوا حتى هبوا الآن هبة واحدة، مدفوعين بشعور وطني متحد، أدهش ليس النمسا وحدها وحسب، بل وكذلك الثوريين الذي رسخ في نفوسهم إيمانهم بالثورة. وأمام هذا الخطر المفاجئ عجزت الحكومة في لمبارديا فينيشيا عن فعل شيء، فقامت الثورة في ميلان في 18 مارس، وفي مساء 22 منه؛ اضطر الماريشال فون رادتزكي
Radetzky (1766-1858) قائد القوات النمسوية، الذي يبلغ الثمانين من عمره، وخير ممثل للصرامة المتوحشة التي تطغى على الروح العسكرية في الجنس النمسوي وقتئذ، اضطر إلى مغادرة المدينة، وذلك بعد قتال عنيف استمر طيلة خمسة أيام في الشوارع التي أقيمت فيها المتاريس؛ لمقاومة حوالي 18-20 ألفا من العسكر النمسوي الذين أصمهم دق النواقيس، وأعياهم التعب والجوع، وأفقدهم الثقة في نفوسهم؛ صمود خصومهم وعنادهم، فاستولى اليأس على قلوبهم. وأثناء هذه الأيام الخمسة المجيدة
Cinque Giorante ، لم يكن الجيش النمسوي يواجه مجرد جمهور من الجماهير، بل إن «أمة» بأسرها قد انبرت لنزاله، فكل طبقات المجتمع كانت هناك تقاتل النمسويين، وقد اتحدت قلوبهم على تحقيق غرض واحد؛ إما تحرير الوطن، وإما الموت فداء له. ولقد كان هذا العزم الثابت هو الذي كفل لهم النجاح في هذه المعركة، ولقد خشي النمسويون أن تمتد الثورة إلى الريف، فتنتشر في أرجاء المملكة، ثم إنهم خشوا أن تعمد بيدمنت إلى معاونة الثوار في ميلان، ولما كانوا لا يعلمون عن يقين تطور الأحداث في فينا، فقد آثر «رادتزكي» الانسحاب إلى قاعدته الاستراتيجية، والمعروفة باسم المسطح ذي الأضلاع الأربعة
Quadrilateral ، وتلك منطقة تقع بين الجبل والبحر، فيحدها من جانب نهر الأديج، وقلعتاه في فيرونا
Verona ، وليجنانو
Legnano ، ويحدها من الجانب الآخر نهر المنشيو
Mincio (أحد فروع ألبو)، وقلعتاه مانتوا
Mantua ، وبسكييرا
، وعزم «رادتزكي» على التحصن في «المربع».
وفي 22 مارس ثارت البندقية، وكانت قد وصلتها منذ 17 مارس أنباء ثورة فينا، فتأخرت الثورة بالبندقية حوالي خمسة أيام، ومع ذلك فقد انتهز الأهلون فرصة الفزع الذي أصاب الحكومة، والشغل الذي أدرك السلطات العسكرية والمدنية عند ذيوع أخبار الثورة في العاصمة النمسوية «فينا»، فهاجم الأهلون السجون؛ ليفكوا أسار «دانييل مانين» و«نيكولو توماسيو»، وقد نصحهم هذان «بالاعتدال والحكمة»، ولكن اشتدت فورة الشعور العام في اليوم التالي (18 مارس)، ورغبت «الحكومة» في مجاراة الأهلين؛ بسبب الأحداث الأخيرة في فينا، فأجازت إنشاء نوع من «الحرس المدني» للمحافظة على النظام، وانخرط المتطوعون بأعداد عظيمة في سلك هذا الحرس المدني في يومي 20، 21 مارس، وكانت قد وصلت الأخبار الكاملة منذ 19 مارس عن إذعان حكومة فينا وتسلمها لمطالب الثوار، وقوبلت هذه الأنباء بالمظاهرات في البندقية، ومحاولة إعادة النظام على أساس الاستجابة لمطالب الثوار المشابهة لمطالب زملائهم في فينا، فاعتقدت خطأ السلطات العسكرية والمدنية أن من الممكن استرضاء البنادقة، والوصول إلى حل سلمي معهم، على أن «الصلح والتسوية السلمية»، كانا بعيدين كل البعد عن تفكير «مانين» والثوار في البندقية، الذين كان غرضهم الاستحواذ على ترسانة أو مخزن الأسلحة والبارود، وإعلان الجمهورية: جمهورية القديس مرقس
Saint-Mark ، وبالفعل استولى «مانين» على رأس الثوار و«الحرس المدني» على «الترسانة» يوم 22 مارس، واضطر حاكم البندقية وقائد القوات النمسوية بها إلى المفاوضة مع زعيم الثورة، وأخليت المدينة والقلاع المجاورة من النمسويين ، ومرة أخرى أعلن تأسيس «جمهورية سان مارك» أو القديس مرقس.
ومع أن مبعوثي الحكومة المؤقتة في ميلان، وهي التي تأسست - كما عرفنا - أثناء «الأيام الخمسة المجيدة»، كانوا ألحوا على شارل ألبرت بالتدخل في لمبارديا فورا ودون أي إمهال، فقد كان في يوم 22 مارس فقط أن قرر شارل ألبرت - وبناء على نصح وزرائه له - التدخل والحرب مع النمسا، فعبرت طلائع جيشه (خمسة آلاف مقاتل) نهر «تيشينو» يوم 25 مارس متجهة صوب ميلان، ولكن الملك لم يصل بافيا
إلا يوم 29 مارس؛ أي بعد انقضاء ستة أيام من تاريخ انسحاب «رادتزكي» من ميلان، الأمر الذي جعل ممكنا أن يعيد القائد النمسوي تنظيم جيشه، وبلغت قوات شارل ألبرت (23 ألفا)، فلم يكن يفسر بطء حركته سوى نقص استعدادته لدرجة ما، والتأخير الذي صحب عملياته، ثم قبل كل شيء «تردد» الملك نفسه، وعجزه عن اتخاذ قرارات سريعة حاسمة، وذلك بالإضافة إلى مفاجأة الأحداث المتتابعة له، وواضح أنه كان يواجه النمسا بمفرده، في حين أن النمسا بالرغم من عجزها الداخلي، لم تكن بحال من الأحوال منفردة أو «معزولة» في أوروبا.
فقد أشارت إنجلترة وفرنسا على شارل ألبرت بتجنب التدخل في شئون لمبارديا فينيشيا، والتزام موقف الحياد، ولكن عدم التدخل أو التزام الحياد كانا كلاهما أمرا عسيرا من المتعذر قبوله، في وقت «تحركت» فيه بيدمنت بأجمعها، فكان يتدفق المتطوعون من كل حدب وصوب، يقصدون خط القتال زرافات ووحدانا، ونشر وقتئذ «كاميلو دي كافور» في صحيفته البعث
Risor Gimento
مقاله المشهور الذي افتتحه بقوله: «لقد دقت ساعة القدر لملكية سردينيا «بيدمنت»، فطريق واحد فقط ذلك الذي بقي مفتوحا أمامها، هو طريق الحرب فورا.» ومما لا شك فيه أن تردد شارل ألبرت والأيام التي انقضت منذ قيام الثورة في ميلان، قبل أن يقرر الحرب، ثم التأخير الذي لازم تحركات قواته، كل ذلك من الناحيتين العسكرية والسياسية كان خطأ جسيما.
فقد ترتب على امتناع شارل ألبرت عن التدخل؛ حتى يتأكد لديه انتصار الثورة في ميلان، وانقضاء «خمسة الأيام» المجيدة، أن ساور الشك الثوار في قيمة الاعتماد على معونة خارجية مسلحة، فلم يعودوا يفرقون بين ما كان عليهم من واجبات أو لهم من حقوق إزاء ملكية بيدمنت، أو ما كان على هذه من واجبات ولها من حقوق إزاءهم، ثم إنهم لم يعودوا يعتقدون أن مجيء بيدمنت لنصرتهم أمر ضروري، بعد أن ثبت لديهم بفضل هذه «الأيام الخمسة» المظفرة أن بوسعهم الاعتماد على أنفسهم وحدهم فقط، ولقد كان هذا الاعتقاد الأخير توهما باطلا، ثم إن الاختلاف القائم بين الأحزاب في ميلان، من معتدلة وراديكالية متطرفة لم يلبث أن زادت حدته، أما الطبقات العليا الفنية والمثقفة فكانت لا تزال متشبثة بالاتحاد مع بيدمنت، في حين أن الطبقات الأخرى وهي أكثر عددا وجعجعة، فكانت تريد الجمهورية، وتعادل الفريقان في قوتهما، وجلس ممثلون لهما أعضاء في الحكومة المؤقتة، فاتفق الفريقان على حل وسط، هو أن يترك تقرير شكل الحكومة الجديدة إلى ما بعد الانتهاء من النضال ضد النمسا، وذلك كان قرارا خاطئا، وحلا لا جدوى منه؛ لأن تأجيل الفصل في شكل الحكومة بعد انتهاء النضال كان معناه الإبقاء على الوضع الراهن، مع كل أسباب الضعف التي تعجزه عن مجابهة الموقف، أضف إلى هذا أن النضال سوف يؤدي عند انتهائه إلى إحدى نتيجتين؛ إما عودة لمبارديا إلى النمسا، إذا انتصرت هذه الأخيرة في الحرب، وإما انتصار الملكية بزعامة شارل ألبرت، إذا انهزمت النمسا. وكانت بيدمنت هي الدولة الرئيسية في إيطاليا العليا - أو الشمالية - على أن المسألة سرعان ما زادت تعقدا عندما أعلن تأسيس «جمهورية سان مارك» في البندقية، فأضاف إعلانها عاملا جديدا للتفرقة والانقسام حتى تعددت الأحزاب وتنوعت، فهناك في ميلان؛ الجمهوريون المازينيون، وفي البندقية كان «مانين» و«نيقولا توماسيو» من الجمهوريين الفدرائيين، وعمل كلا الفريقين لتنفيذ برامجهما في حين كان الملك شارل ألبرت المجازف بكل ما لديه في سبيل إيطاليا، هو وحده الذي يملك القوة التي في وسعها القتال ضد النمسا، وكان كثيرا جدا أن يطلب إليه عدم التفكير في مصالح أسرته مهما قويت رغبته في النضال من أجل استقلال الوطن الإيطالي، وأن يخوض غمار الحرب مع النمسا لمجرد تأسيس جمهورية في ميلان، وأخرى في البندقية.
ولا شك في أن هذه الانقسامات جعلت الموقف قبل بداية الحرب يبدو قاتما، ومع أن بارما ومودينا، لم تلبثا أن اتحدتا مع بيدمنت في التو والساعة ودون أية مقاومة تقريبا، فإن هذا الاتحاد لم يكن كافيا لتعويض بيدمنت عن الضعف الذي يتهددها؛ بسبب الانقسامات والاتجاهات التي ذكرناها في ميلان والبندقية.
وعندما بدأت الحرب، عظم في تسكانيا حماس الشعب الذي أراد أن يخوض غمارها، ووجد غراندوقها ليوبولد الثاني من المتعذر عليه تجنبها، فاضطر إلى إعلان الحرب يوم 5 أبريل 1847، وأرسل إلى لمبارديا جيشا من ثلاثة آلاف جندي من النظاميين، ومثلهم من المتطوعين عبروا نهر البو إلى لمبارديا يوم 17 أبريل.
وفي روما كان الموقف فريدا، من حيث إن الشعب والحكومة يريدان الحرب ضد النمسا، في حين يقاوم «البابا» هذه الرغبة، وبالرغم من هذه المعارضة، غادر الجنود المتطوعون روما بين 23، 30 مارس في أعداد عظيمة، صار ينضم إليهم آخرون في طريقهم عبر الولايات البابوية، صوب نهر البو، ولم تكن الحرب قد أعلنت رسميا، مع أن العمليات كانت قد بدأت فعلا، وبقي السفير النمسوي في روما، ولم يغادر مكانه بها، وأمر البابا الجيش بعدم اجتياز الحدود، وصدر خطاب بابوي في 30 مارس 1848، ظهر منه أن البابا لا يزال يرجو الوصول إلى حل سلمي للمسألة على أساس إنشاء تحالف أو اتحاد من الدول الإيطالية،
48
وكان أخشى ما يخشاه أن تؤدي الحرب مع النمسا إلى حدوث انقسام في ألمانيا ضد الكنيسة الكاثوليكية، وذلك ما كان لا يفتأ يهدد بحدوثه السياسيون، والكرادلة واليسوعيون ويخيفون البابا منه، فأراد بيوس التاسع أن ينفض عن كاهله مسئولية الحرب، ولكن قائد قواته الجنرال جيوفاني دوراندوا
Giovanni Durando ، لم يلبث أن أكره البابا على قبول الحرب، عندما أصدر منشورا في 5 أبريل 1848، دبجه يراع «دازيجليو»، أعلن فيه حربا صليبية ضد العدو الأجنبي «النمسا»، واستشاط البابا غضبا، ولا شك في أن وزراءه كانوا متهيئين لاستنكار فعلة «دوراندو»، ولكنهم لم يكن يسعهم تحت ضغط الحماس الشعبي والرغبة في الحرب مع النمسا، إلا أن يطلبوا من «دوراندو» أن يضع نفسه بقواته تحت تصرف ملك بيدمنت - شارل ألبرت - أما المتطوعون فكانوا قد بدءوا فعلا يجتازون الحدود من تلقاء أنفسهم ودون انتظار لأية أوامر، وفي 25 أبريل عبر «دوراندو» أخيرا نهر البو، فوقف بقواته بين أوستيجليا
Ostiglia
وجوفرنولو
Governolo ، «وكلاهما على نهر البو»، وتشكل بموقفه هذا، مع القوات التسكانية، ميمنة الجيش الواقف على حصار «مانتوا »، ولم يطل بالجنرال «دوراندو» المقام بهذا المكان.
فإن النمسا بالرغم من الثورة الداخلية بها، بقيت مصرة في عناد على إخماد الثورة في أملاكها الإيطالية، فأرسلت جيشا بقيادة نوجنت
Nugent ؛ لإمداد «رادتزكي» الذي كان محجوزا بقواته داخل ذلك «المربع»، الذي كانت «مانتوا» إحدى قلاعه، وعندئذ استنجد «مانين» البيدمنتيين، فأمر شارل ألبرت (30 أبريل) القوات البابوية أن تحول دون اتصال جيش «نوجيت» بقوات «رادتزكي»، ولكن «نوجيت» كان قد استطاع الدخول إلى فينيشيا، والدخول إلى «أودين»
Udine - القريبة من الحدود الشرقية - وذلك منذ 22 أبريل، ومع أن مقاطعات «فينيشيا» صارت عندئذ، وبسبب زحف هذه الامتدادات النمسوية داخل بلادهم، تؤيد الاتحاد مع بيدمنت، فقد اقترح «مانين» بالرغم من استنجاده بجيش بيدمنت، والاحتفاظ بمسألة تعيين شكل الحكومة، إلى ما بعد انتهاء الحرب، مثله في ذلك مثل الجمهوريين المازينيين في ميلان، وأضاف هذا الاقتراح سببا جديدا للتفرقة والانقسام في فينيشيا، وذلك مع العلم بأن هذا الاقتراح ذاته - كحل وسط - كان قد سبق رفضه في لمبارديا «ميلان» - ومع العلم بأنه كان متعارضا مع الرغبة العامة في دوقيات پارما ولوقا ومودينا التي أرادت الاتحاد مع بيدمنت، ومتعارضا كذلك مع مطلب الأهلين في تسكانيا والولايات البابوية، ثم إنه كان يتعارض أخيرا مع الميول الغريزية نحو الملكية في نابولي، والتي جعلت النابوليتان يتعاركون مع أهل صقلية «السشليان» بسبب هذه المسألة «الانفصالية» ذاتها.
ولقد كانت النتيجة الواضحة لهذه الخلافات، أن فقدت الجماعة المؤيدة للاستقلال القومي قدرا كبيرا من القوة، التي كانت هي بلا شك في مسيس الحاجة إليها وقتئذ.
وفي نابولي تفاقمت الفوضى الضاربة أطنابها بها، والتي تشكلت خلالها ثلاث وزارات من الأحرار، كانت آخرها برياسة الكونت كارلو ترويا
Carlo troya ، وكان «ترويا» يؤيد الاشتراك والتعاون في حرب الاستقلال، ومنذ 29 مارس 1848 كان قد ذهب حوالي المائتين متطوعا إلى خط القتال؛ أشرفت على جمعهم وتهيأتهم إحدى الأميرات؛ كرستينا بيلجيويوزو
Belgioioso
من سيدات ميلان. وفي أبريل؛ أرسل أسطول إلى بحر الإدرياتيك، أطلق عليه السيشليان (أهل صقلية) مدافعهم، الأمر الذي عده كثير من المؤرخين مدعاة خزي وعار لهؤلاء، ولو أن عدد السيشليان الذين اشتركوا كمتطوعين في حرب التحرير، كان لا يزيد على مائة مقاتل فحسب، أما النابوليتان الذين تهيئوا أصلا للقتال في شمال إيطاليا، فقد بلغوا (40) ألفا، لم تلبث أن نقصت أعدادهم حتى صاروا لا يزيدون على (14) ألف مقاتل بقيادة السائر القديم الجنرال «جوجليلمو بيبي»، وفي رأي كثيرين؛ أن هؤلاء بأعدادهم القليلة هذه تعمدوا كذلك التباطؤ بدرجة أن طلائع صفوفهم لم تصل إلى «بولونا» إلا يوم 14 مايو.
ولكن في هذه الأنباء؛ كان شارل ألبرت قد زحف يقصد إلى «المربع» الذي احتمى فيه «رادتزكي»، فمر ببلدتي «بافيا» وكريمونا
Cremona ، وتجنب المرور بميلان التي يشأ دخولها إلا مظفرا؛ أي بعد انتصاره في الحرب، وأبدى النمسويون مقاومة ضعيفة على نهر المنشيو، فاتخذ موقعه على شاطئ النهر الأيسر، حتى إذا حلت به الهزيمة استطاع تغطية لمبارديا، وحتى يكون متصلا بالقوات النابولتانية والبابوية، والذي كان عليها الزحف صوب نهر البو الأسفل، فوقف إذن بين قلعتي «مانتوا» «بسكييرا». وفي 20 أبريل وبعد مناوشات بسيطة شن «رادتزكي» هجوما على مرتفعات باسترنجو
(30 أبريل) ليعيد خط موصلاته مع «بسكييرا»، فحاقت به الهزيمة، ولكن لم يتعقبه أحد أثناء انسحابه، وفي 6 مايو زحف من جانبه شارل ألبرت جنوب «فيرونا»؛ على أمل أن يثور أهل فيرونا بمجرد مشاهدتهم الجنود البيدمنيين، فوصل إلى سانتالوشيا
Santalucia
على مرأى من فيرونا، ولكنه صد عن هذه الأخيرة، ولم تثر فيرونا، وأخذ يركز اهتمامه على محاصرة «بسكييرا».
ولم يكن متطوعو لمبارديا أسعد حالا من البيدمنتيين في عملياتهم، فقد كانوا قليلي العدد، وينقصهم النظام، وتعوزهم القيادة الماهرة، وفي مبدأ الأمر كلفوا بالعمل على نهر المنشيو، على مسيرة البيدمنتيين، ثم ما لبثوا حتى بعث بهم إلى التيرول؛ ليمولوا دون وصول الإمدادات من النمسا إلى «رادتزكي» في فيرونا، ثم لم يلبثوا أن استقدموا من هناك إلى برشيا
Brescia
لإعادة تنظيمهم من جهة، وللخوف من أن يستثير وجودهم في التيرول (الاتحاد الألماني) إلى التدخل، أما لماذا كان تعاون لمبارديا ضئيل القيمة؛ فسببه الرئيسي أن الاعتقاد كان يسود ميلان بأن الحرب قد اختتمت فعلا بانتصارات «الأيام الخمسة » المجيدة، وثمة سبب آخر هو الشلل الذي انتاب المسئولين عن جهود الحرب عندما لم يكن معروفا بصورة قاطعة الشكل الذي سوف يكون للحكومة في النهاية، وكان الذين عطلوا الوصول إلى قرار في هذه المسألة هم «المازينيون» و«الجمهوريون» خصوصا، ولقد قررت الحكومة المؤقتة في ميلان؛ إزالة هذه العقبة الكأداء من طريق الجهد القومي بأي ثمن، فجمعت مجلسا للشعب، عرضت عليه (في 12 مايو) مشروع قرار بالاتحاد مع بيدمنت، وافق عليه هذا المجلس في النهاية في شهر يونيو.
ثم إن البندقية ما لبثت حتى حذت حذو لمبارديا، ولكن بعد صعوبة كبيرة وإضاعة وقت ثمين؛ بسبب الخطأ الذي ارتكبه «مانين»، فلم تقدم البندقية المعونة الكافية لكسب الحرب، باعتبار أن القوات البابوية بقيادة «دوراندو» بالاشتراك مع القوات النابوليتانية، كافية وحدها لهذه المهمة، وذلك في وقت لم تكن قوات نابولي قد اجتازت بعد نهر البو، وفي حين كان «نوجيت» يزحف صوب نهر تاجليامنتو
Tagliamento ، واستطاع بعد مقاومة ضئيلة من جانب الأهلين ومتطوعي البنادقة، احتلال بللونو
Belluno
يوم 5 مايو، ثم إن «نوجيت» أوقع الهزيمة بقوات البابوية وقائدهم «دوراندو» في واقعةكورنودا
Cornuda
يوم 9 مايو، ولم يلبث تورن
Thurn ، وهو القائد الذي خلف «توجنت» أن تمكن من الاتصال بجيش «رادتزكي» عند سان بونيفازيو
San Bonifazio
بالقرب من «فيرونا» في 22 مايو.
واعتمد «رادتزكي» على تباطؤ قوات نابولي، وعدم تحركهم لعبور البو، والاتصال بالقوات البابوية بقيادة «دوراندو» وبجيش بيدمنت، فقرر اختراق ميمنة البيدمنتيين المؤلفة من قوات تسكانيا، ثم عبور نهر المنشيو؛ للالتفاف حول البيدمنتيين، ومهاجمتهم من الخلف، ولكن «رادتزكي» سرعان ما صادف مقاومة شديدة من جانب التسكانيين، فتعطل زحفه مدة كانت كافية لأن تمكن البيدمنتيون من العبور إلى الشاطئ الأيمن لنهر المنشيو، والانتصار على النمسويين في واقعة جوتو
Goito
في 30 مايو، وكان في هذا اليوم نفسه أيضا، أن جاءت الأنباء عن سقوط «بسكييرا»، فكان (30 مايو) أمجد أيام الحرب القومية.
ولكن «رادتزكي» أفاد من انهزاماته أكثر مما أفاد شارل ألبرت من انتصاراته، ففي حين توقف الأخير، تابع «رادتزكي» عملياته بكل نشاط وهمة، فاستولى على فيشنزا
Vicenza
في 10 يونيو، وفي 14 يونيو؛ سقطت تريفيزو
Treviso ، وتبعتها «بادوا» في 15 منه، ثم روفيجو
Rovigo
بعد قليل، وبقيت مدينة البندقية وحدها ممتنعة على النمسويين في كل فينيشيا.
ولقد تشتتت قوات متطوعي البابوية بعد واقعة «كورنودا»؛ وذلك بسبب هزيمتهم من جهة، ولأن الفوضى كانت تسود صفوفهم؛ لسوء تنظيمهم ولافتقارهم إلى الروح العسكرية وللاختلافات الناشبة بين قوادهم ورؤسائهم، وثمة سبب أكبر أهمية لتفرقهم؛ هو أن البابا بيوس التاسع أذاع منذ 29 أبريل 1848 «منشورا بابويا»،
49
ضمنه جوابه على سؤال تقدمت به «وزارته» إليه بشأن آرائه عن الحرب، فندد البابا بالحرب، وأعلن استنكاره لها رسميا، وأعلن أنه قد صار متخليا من الآن فصاعدا عن كل عمل من أجل إيطاليا، فكان لهذا «المنشور» أثر مشئوم ليس في روما وحدها أو في إيطاليا، بل وفي أوروبا عامة، وبدرجة لم يكن البابا نفسه يريدها، وذاع بين صفوف المتطوعين والجنود النظاميين في الجيش البابوي؛ أن استنكار البابا للحرب قد حرمهم من حقوق الحرب العادية، وأجاز للنمسا معاملتهم معاملة اللصوص وقطاع الطرق الذين يجب إبادتهم، ففقدوا كل شجاعتهم واختل نظام قواتهم، ومع أن انتصارا مؤقتا حصل في «فيشنزا»، ثم انضمام قواتهم إلى جيش شارل ألبرت؛ بسبب إصدار الوزارة الرومانية قد ساعد على إنعاش روح هؤلاء المعنوية، فقد منع تسليم «فيشنزا» أخيرا - كما رأينا - في 10 يونيو، أكثر هؤلاء المتطوعين والجنود في الجيش البابوي من الاشتراك في الحرب بعد ذلك، في حين قصد الباقون إلى مدينة البندقية لاجئين بها، وكانت البندقية المكان الوحيد في كل فينيشيا الذي لم يسترجع النمسويين سلطاتهم به.
وفي نابولي شهد يوم 15 مايو وهو يوم اجتماع «البرلمان»، بداية الحياة الدستورية في نابولي ونهايتها معا، بل ونهاية مساهمتها في «حرب الاستقلال»، ذلك أن الملك كان قد اعترض على اقتراح باجتماع البرلمان دون أن يحلف الأعضاء أي يمين للولاء للملكية، وأن يتخذ «الحرس الأهلي» ثكناته في قلاع نابولي، فقامت المظاهرات وأقيمت المتاريس في الشوارع، واصطدمت بالثوار «الآليات السويسرية» التي عهد إليها بحفظ النظام، فحصل بين الفريقين اشتباك أدى إلى حدوث مذبحة مروعة، فقرر الملك «فردنند الثاني » تأجيل البرلمان، ثم أمر بحله. وفي 22 مايو؛ صدر الأمر إلى «الجنرال بيبي» - وكان في بولونا - بالعودة مع جنده إلى نابولي، وطلب من الأميرال دي كوسا
Cosa - وكان قد وصل بقواته البحرية ليقف بجوار أسطول سردينيا أمام تريستا - بمغادرة الإدرياتيك، ولكن «بيبي» وآخرين رفضوا تلبية هذه الأوامر، واجتازوا - بدلا من العودة - نهر البو، ودخلوا إلى مدينة البندقية يوم 13 يونيو، ولم يلغ الملك الدستور مباشرة، ولكنه عطله ولم ينفذه، مما جعله في الواقع ملغى.
وسرعان ما تولدت «أسطورة» حول حادث 15 مايو، فحواها أن الملك وبطانته كانا المسئولين عن الحوادث التي وقعت في هذا اليوم، من حيث إنهما دبرا «إغراق الدستور حديث الولادة في حمام من الدم»، وتهيئة الظروف لانتحال المعاذير من أجل استدعاء القوات المحاربة من خطوط القتال، والتي كانت تشترك في الحرب ضد رغبات الملك وبطانته، ومع ذلك ففي رأي كثيرون أن المسئول عن هذه الحوادث كانوا؛ الملك، والشعب، والأحرار، وأنصار الحكم المطلق، والجمعيات السرية، والجنود النظاميين، والحرس الأهلي، والبلاط، والنواب، وخصوصا هؤلاء الأخيرين الذين هيئوا للملك الفرصة لتحقيق مآربه؛ بسبب هذرهم وشقشقة لسانهم، وسوء ظنونهم غير المعقولة، ومناقشاتهم الجوفاء الفارغة، والعنف الذي اتسم به مسلكهم، وذلك كله إلى جانب العجز عن قمع الثورة في صقلية الذي يكفي وحده سببا لتمكين الملك من تنفيذ غرضه.
ولقد وجد شارل ألبرت أنه صار يواجه النمسا وحده ومنفردا، على أثر مروق البابا بيوس التاسع، وخسارة «فيشنزا»، وتقهقر النابوليتان وهزيمة التسكانيين، وكان معنى ذلك أن «الاتحاد» أو الفدرائية قد صارت فكرة يستميل تحقيقها بأية صورة من الصور، ولم يكن للثورة التي قامت في فينا، والتي شجعت قيام الثورة في كل مكان من ميلان والبندقية، أي تأثير على النتيجة النهائية، ولم تبعث المفاوضات التي دارت أثناء الحرب على الأقل في إمكان الوصول إلى أية نتيجة طيبة، فقد اقترحت النمسا ووزير خارجيتها وزنبرج
Wessenberg
في 13 يونيو على الحكومة المؤقتة في ميلان ابتياع لمبارديا منفصلة عن فينيشيا، ولكن هذا العرض لم يقبل؛ لأن الاتحاد مع بيدمنت كان قد أعلن وقتئذ رسميا، ثم كررت النمسا المحاولة لحسم المشكلة على أساس إنشاء مملكة تتألف من لمبارديا فينيشيا، ودوقيات بارما ولوقا ومودينا متحدة مع النمسا برباط التاج الشخصي وحده فقط، ووسطت النمسا إنجلترة في المسألة، وقبل الإنجليز الوساطة، ولكن لم يسفر هذا المشروع عن شيء؛ لأن البحث فيه لم يبدأ في فينا إلا في الوقت الذي كان «رادتزكي» يعد العدة لهجومه الثاني على شارل ألبرت، وتغلبت في فينا جماعة العسكريين الذين أرادوا الحرب، والذين صمموا على إزالة العقبة التي بدا أنها تقف في طريقهم، وذلك بإجبار الإمبراطور «الطيب» فردنند على التنازل عن العرش (2 ديسمبر 1848)، لصالح الإمبراطور فرنسوا جوزيف، الذي تلقى دروسه السياسية والعسكرية الأولى في تجربة الحملة الإيطالية، ثم تدخلت فرنسا - وإن كان تدخلا فاترا - في هذه المباحثات، وغرضها الحيلولة دون تشكيل ملكية قوية في إيطاليا العليا (الشمالية)، وأن تنال تعويضا إذا حصل ذلك باستيلائها على نيس وسافوي، من الدولة الجديدة.
تصفية الثورة
ومن المحتمل أنه لم يكن لكل هذه المفاوضات ومحاولات الوصول إلى تسوية سلمية، سوى غرض واحد، هو كسب الوقت حتى يتم استعداد «رادتزكي» ووصول الإمدادات الكافية إليه.
وأيا ما كان الأمر، فقد قرر شارل ألبرت مهاجمة «مانتوا»؛ ليجبر الماريشال رادتزكي على إخلاء «فيرونا»، فبدأ الملك زحفه يوم 13 يوليو واستولى على «جوفر نولو» يوم 18 يوليو، ولكن «رادتزكي» الذي بلغت قواته ثمانين ألفا (22 يوليو) شن هجوما عنيفا على البيدمنتيين، الذين نزلت بهم الهزيمة البالغة عند كاستوتزا
Custozza
يوم 25 يوليو، وأرغموا على عبور المنشيو في طريق تقهقرهم، وعندما حاول شارل ألبرت تغطية ميلان بدلا من القهقرى بطريق البو ، نزلت به الهزيمة ثانية أمام ميلان يوم 4 أغسطس، وثار الشعب عند دخوله المدينة، وأفلت من حصارهم بكل صعوبة في اليوم التالي، فأخلى البيدمنتيون ميلان، وعبروا نهر «تشينو» ثانية، فدخلها «رادتزكي» واستعادها النمسويون. وفي 9 أغسطس عقدت الهدنة عند فيجيفانو
Vigevano ، وهي المشهورة باسم هدنة سالاسكو
Salasco
نسبة إلى الجنرال البيدمنتي «سالاسكو»، الذي كلفه شارل ألبرت بتوقيعها، وكانت شروط هذه الهدنة قاسية، حيث إنها أرجعت الحال إلى ما كانت عليه قبل الحرب، باستثناء مدينة البندقية التي كانت لا تزال تقاوم، وكان بعد هذه الكارثة أن انسحب شارل ألبرت إلى بيدمنت، وصار واضحا أن الموقف قد تغير في إيطاليا بأجمعها.
ولقد زحف النمسويون بعد ذلك مباشرة على الدوقيات، في حين دخل قسم من قواتهم الولايات البابوية زاحفا على «بولونا»، وكانت الوزارة العلمانية - وزارة مينجيتي - قد استقالت منذ 4 مايو؛ نتيجة «للمنشور البابوي» الذي ذكرنا أنه صدر في 29 أبريل، وتألفت وزارة برياسة «مامياني» لم تمكث في الحكم لضعفها سوى شهور معدودة (4 مايو-6 أغسطس)، فخلفتها وزارة برياسة الكونت إدواردو فابري
Fabbri ، وكان مسنا ضعيفا، تزايد انحلال الدولة في عهده، حتى خلفه في الحكم في 16 سبتمبر 1848 الكونت «بلليجرينو روسي»، صاحب السمعة الطيبة والشهرة الكبيرة، والذي سوف يدفع حياته المجيدة ثمنا لآخر محاولة يائسة من أجل المحافظة على الاتحاد بين البابا بيوس التاسع وشعبه، وبين البابوية الكاثوليكية وبين إيطاليا الحرة المستقلة.
وبذل «روسي» قصارى جهده للقضاء على الفوضى السائدة، وبعث الحياة من جديد في هيكل «الإدارة» المتهالكة، وجابه بصراحة عداء «الكنسيين» ومهيجي الجماهير الديماجوجيين، وتعرض لكراهيتهم علنا ولم يأبه لها، بل كشف عن مشروعاته وتمسك بها، ولم يشأ أن يفلت شيء من رقابته، ووعد بالإصلاح الشامل، وذلك كله دون أن يهدد الحريات الفردية، أو يكمم أفواه الصحافة، بل لم يحجم عن الاشتراك في المناقشات التي كانت تثيرها للحملة عليه وعلى مشروعاته الإصلاحية، وبمجرد تعيينه للوزارة، أعلن «روسي» دعوة البرلمان للانعقاد، وحدد لذلك يوم 15 نوفمبر.
وفي حقل السياسة الخارجية، يمكن القول بإيجاز: إن موقف «روسي» من مسألة الاتحاد الفدرائي الإيطالي، هو الذي يعين اتجاه سياسته الخارجية، ولقد عرفنا كيف أن البابا بيوس التاسع كان لا ينقطع عن تأييد هذا الاتحاد الفدرائي، وكان يلي البابا تحمسا لهذا الاتحاد الفدرائي؛ غراندوق تسكانيا ليوبولد الثاني، الذي رأى في هذا الاتحاد الوسيلة التي توفق بين واجباته كأمير نمسوي وكحاكم إيطالي، وهو حفيد الإمبراطور ليوبولد الثاني الذي كان غراندوقا لتسكانيا (1745-1790)، ثم إمبراطورا للإمبراطورية الرومانية (الجرمانية) المقدسة مدة عامين (1790-1792) فقط، ولقد أيدت نابولي الاتجاه الفدرائي كذلك؛ لأنها توقعت أن يساعد على إخضاع صقلية من جهة، ويكون قوة موازنة لأطماع ملكية بيدمنت، أما بيدمنت فقد عارضت الفدرائية، وبسبب هذه الاختلافات بشأن الفدرائية، وما كان يتوقعه كل فريق منها. لم تكن الفدرائية مشروعا عمليا، ولما كان «الاتحاد» أو الوحدة من جهة أخرى، هي الفكرة التي يحتكرها الجمهوريون، فإن الاتحاد كحل عملي لم يكن قد استكمل نضجه بعد.
وعندما انكب «روسي» على معالجة هذه المسألة، الاتحاد الفدرائي، كانت الحرب على وشك أن تضع أوزارها، ومنذ 15 أغسطس 1848 كانت الحكومة في بيدمنت قد أوفدت إلى روما الفيلسوف أنطونيو روزميني
Rosmini ، الذي اشتهر بمعارضته لآراء «جيوبرتي» الفلسفية، الذي كان بنفوذ هذا الأخير أن بعثت به الوزارة؛ لبحث موضوع «الفدرائية» أو الاتحاد الفدرائي
Federazione
في روما، واستهدف مشروع «روزميني» تنظيما فدرائيا كاملا لإيطاليا، ولكن سرعان ما تألفت وزارة جديدة في بيدمنت برياسة «الفييري دي سوستجنو»، وذلك عقب هدنة سالاسكو، فلم يقر هذا الأخير مشروع «روزميني»، واكتفى بطلب المساعدة في الحرب المعتقد أنها سوف تستأنف سريعا، ولم يلق اقتراح أو توقع استئناف الحرب قبولا من «روسي»، الذي عارض في حرب سوف يترتب عليها أن يتأسس اتحاد بدون نابولي أقوى الدول الإيطالية وقتئذ من الناحية العسكرية، ولأن من المستحيل تلقي أية مساعدات من الولايات البابوية، وتقدم «روسي» بمشروع مقابل عن تحالف أو اتحاد بين الأمراء، ليس ضروريا أن يكون مناقضا لمشروع «روزميني»، ولكن هذا المشروع الذي اقترحه «روسي» جاء متأخرا؛ لأن أي تنظيم فدرائي كان متعذرا طالما أن مشروع مملكة إيطاليا العليا أو الشمالية، الذي استأثر بتفكير شارل ألبرت قد باء بالفشل، فقد استمرت «مملكة إيطاليا العليا» أسبوعين فقط، منذ أن تمت عملية الاتحاد التي ربطت الدوقيات بارما ومودينا ولوقا، ثم لمبارديا، ومدينة البندقية بمملكة بيدمنت، وذلك يوم 27 يوليو 1848 إلى الوقت الذي انتهى فيه الحكم «الشبه بيدمنتي» من مدينة البندقية، عقب هدنة «سالاسكو» بيومين وحسب، وذلك عندما أرغم الشعب المتهيج المندوبين أو القومسييرين البيدمنتيين على مغادرة البندقية. وكان هؤلاء تسلموا الحكم فقط منذ 6 أغسطس، فاستدعى الشعب من عزلته؛ «دانييل مانين»، ونصبه دكتاتورا على البندقية (في 11 أغسطس 1848)، وباختفاء مملكة «إيطاليا العليا» إذن، اختفت كل فكرة عن إنشاء اتحاد فدرائي في إيطاليا.
ومن الآن فصاعدا صارت السيطرة من نصيب فكرة توحيد إيطاليا ديمقراطيا، فتشكلت منذ 18 أغسطس 1848 وزارة برياسة «جينو كابوني» في تسكانيا، وقامت الثورة في ليقورنة (ليجهورن) فأعلنت الحكومة هناك تأسيس جمعية تأسيسية
Assemblea Constituente
لكل إيطاليا، وفي 27 أكتوبر تألفت وزارة جديدة «ديمقراطية» برياسة «جويراتزي» وجويزني مونتانللي
Montanelli .
وفي روما قاوم «روسي» تيار الديماجوجية الذي اكتسح تسكانيا، ومع ذلك فقد كان «روسي» يعتمد على جهده هو وحده في مقاومة «الحزب الديمقراطي»، الذي كان يتهيأ لانتهاز فرصة افتتاح البرلمان ليضرب ضربته القاصمة، فأخطأ «روسي» وزن الموقف حق وزنه، وعلى ذلك فإنه لم يلبث أن لقي حتفه على سلم البرلمان الذي ذهب لافتتاحه يوم 15 نوفمبر 1848. وقامت المظاهرات في اليوم التالي؛ لإرغام البابا على تشكيل وزارة من الديمقراطيين، فتألفت الوزارة الجديدة وكان من بين أعضائها أحد الذين حرضوا على اغتيال «روسي»، فهرب البابا إلى جيتا
Gaeta
ملتجئا بها (25 نوفمبر)، وأنشأ لجنة للوصاية لم تستطع فعل شيء أو حتى الاجتماع، وذلك في حين أقام الآخرون «لجنة عليا حكومية»، قررت إجراء الانتخابات على قاعدة الاقتراح العام، لانتخاب «مجلس أو جمعية تأسيسية»، واجتمع هذا المجلس بالفعل في 5 فبراير 1949 وأعلن الجمهورية في 9 منه.
ولم تسر الأمور بهذه السهولة في «تسكانيا»؛ بسبب موقف «جويراتزي»، وكان هذا الأخير مع «مونتانللي» يرحبان بالتعاون مع أمير تسكانيا، الذي لم يبد منه في أول الأمر أنه معارض لأي إجراء قد يتخذاه، بما في ذلك دعوة جمعية تأسيسية ، ولكن الغراندوق ليوبولد لم يلبث أن انسحب إلى سنا
Siena
في 20 يناير 1849، ثم إلى «بورتو سان ستفانو» في 7 فبراير، فحضر «مازيني» في اليوم التالي إلى فلورنسة ليجد الظروف غير مناسبة، فقد تألفت «ثلاثية حكومية» من جويراتزي، ومونتانللي، وماتزوني
Mazzoni ، وأعلنت الدعوة «لجمعية تأسيسية» في تسكانيا، وفي 21 فبراير حذا «ليوبولد» حذو البابا، فقصد إلى «جيتا» لاجئا بها، ولم تعلن الجمهورية في فلورنسة، ولكن «جويراتزي» كان يجمع في يديه كل أسباب السلطة، وأخيرا تعين ديكتاتورا في 28 مارس 1849.
وفي نابولي وجد ملكها فردنند الثاني في الاضطرابات السائدة بالعاصمة، وفي رفض ثوار صقلية المفاوضة، والثورات التي اجتاحت البلاد بعد 15 مايو 1848، الأسباب التي في وسعه التذرع بها لتسويغ إجراءاته الرجعية، فحل البرلمان أخيرا في 13 مارس 1849، ومع أنه كان من المنتظر أن تنجح الثورات التي قامت في نابولي لو أن السيشليان تقدموا لمساعدتها، فقد امتنع هؤلاء عن فعل ذلك، الأمر الذي عاد بالوبال على الثوار أنفسهم في صقلية كذلك. وكان هؤلاء قد اعتمدوا على حماية الأسطول الإنجليزي لهم، فأهملوا تسليح أنفسهم، واكتفوا بأن أدخلوا تعديلات على دستورهم (دستور 1812)، وذلك يوم 10 يوليو 1849 بشكل قضى تقريبا على كل سلطات للملك بفضل القيود التي فرضت عليها، والتحفظات العديدة التي أبديت، ثم إنهم عرضوا تاج بلادهم على دوق جنوه الابن الثاني لشارل ألبرت، فرفض هذا الأخير عروضهم.
وكان الملك البربوني بعد أن انهزمت بيدمنت، وقبلت هدنة «سالاسكو» منذ 9 أغسطس 1848، قد قرر التدخل في صقلية، فأرسل في أواخر أغسطس 1848، جيشا بقيادة كارلو
Carlo
فيلا نجبيري ضد الثوار بها؛ فسقطت «مسينا» بعد أن ارتكب الغزاة فظائع تقشعر من هولها الأبدان، حتى إن قائدي الأساطيل الإنجليزية والفرنسية الرابضة في مياه صقلية بادرا بالتدخل لاقتراح حلول سلمية للمشكلة، فاضطر الملك البربوني إلى قبول الهدنة في 11 سبتمبر 1848، ولكن هذه الوساطة شجعت الثوار على الاستمرار في المقاومة، فرفض البرلمان السيشلياني مشروعا للتسوية في 24 مارس 1849، يعرف باسم «إنذار جيتا»، وعندئذ أعلن انقضاء الهدنة، فسقطت تاورمينا
Taromina
في يد «فيلا نجييري» في أبريل، ثمقطانيا
Catania
يوم 7 منه، وسلمت المدن الأخرى دون قتال. وفي يوم 15 مايو دخل «فيلا نجييري» بليرمو، وبذلك تكون قد انتهت الثورة في صقلية، وهي الثورة التي عرقلت جهود «حرب الاستقلال»، وأوذيت بسببها قضية القومية الإيطالية أذى بليغا.
وفي بيدمنت كانت تبذل الجهود الكبيرة حتى تسترد البلاد قوتها بعد الكوارث التي نزلت بها، فقبلت وزارة «سوستجنو» التي عرفنا أنها تشكلت عقب هدنة سالاسكو ومنذ 19 أغسطس 1848، وساطة إنجلترة وفرنسا للوصول إلى تسوية مع النمسا. وكانت هاتان الدولتان قد اقترحتا استئناف المفاوضة على أساس المقترحات التي كانت قد تقدمت بها قبل ذلك - في الظروف التي مرت بنا - لإنشاء مملكة من لمبارديا فينيشيا، والدوقيات الثلاث متحدة مع النمسا تحت التاج النمسوي، وتلك مقترحات لم يكن منتظرا أن تقبلها النمسا الآن؛ بسبب انتصار جيوشها، ولأنها استرجعت لمبارديا، ولم يبق صامدا أمامها غير مدينة البندقية، فاقترحت النمسا أساسا جديدا للمفاوضة هو منح لمبارديا فينيشيا أنظمة تقوم على المبادئ الحرة، ومن طراز الأنظمة التي نالتها الإمبراطورية النمسوية بعد «ثورة 17 مارس 1848 في فينا.» ثم رفضت النمسا الاشتراك في أي مؤتمر لبحث التسوية المنشودة، وأخيرا فإنه بمجرد أن جاء إلى وزارة الخارجية البرنس شوارزنبرج
Schwarzenberg
وكان أشد صلابة من سلفه «وزنبرج»، أعلنت النمسا أنها مستندة في موقفها من المسألة برمتها، على الحقوق التي لها بموجب معاهدات 1815.
وفي رأي كثيرين أن دور الوساطة الذي قامت به فرنسا، لم يكن مشرفا لها، على خلاف الدور الذي قامت به إنجلترة، وإن لم يسفر عن نتيجة، فقد عمد الوزير الإنجليزي «بلمر ستون» في رسالة مسهبة بتاريخ 11 سبتمبر 1848 إلى حكومة فينا، إلى إحصاء الأخطاء والمساوئ التي ارتكبتها النمسا في سياستها الإيطالية، وتنبأ بأن «بونابرتيا» سوف - ولا شك - يعتلي عرش فرنسا كإحدى النتائج المتوقعة من تحرير إيطاليا، وإنهاء السيطرة النمسوية بها، بفضل المساعدة الفرنسية.
ولقد ترتب على فشل الوساطة الإنجليزية الفرنسية؛ ازدياد العداء للوزارة في بيدمنت والمعارضة ضدها، بالرغم من جهودها لإعادة تنظيم الجيش وتقويته، ورأت «المعارضة» في بيدمنت الفرصة سانحة لنبذ هدنة سالاسكو ظهريا واستئناف الحرب، عندما تجددت الثورة في فينا في 6 أكتوبر 1848، والتي شجعت بدورها على ازدياد خطورة الثورة الناشبة وقتئذ - ومنذ شهور - في هنغاريا (المجر)، وعندئذ راح «جيوبرتي» متزعم الحزب الديمقراطي، يتهم وزارة «سوستجنو» بأنها تخفي مشروعا للصلح مع النمسا بأي ثمن، وشكل «جيوبرتي» وزارة جديدة عرفت باسم «الوزارة الديمقراطية» (2 ديسمبر 1848). وسرعان ما اكتشفت هذه الوزارة الجديدة أن من خطر الرأي والجنون الدخول في حرب مع النمسا في هذه الآونة، فأخذت من ثم تعمل لإحياء فكرة تأليف اتحاد فدرائي من الدول الإيطالية، واقترحت أن تتدخل بيدمنت من أجل إرجاع كل من البابا وغراندوق تسكانيا إلى عرشه وكلاهما - كما نذكر - كانا ملتجئين في «جيتا»؛ الأول: منذ 25 نوفمبر 1848، والثاني: منذ 21 فبراير 1849، ولكن لم يعد الوقت ملائما لمثل هذه المشروعات، ويخشى أن تطغى موجة الرجعية التي أخذت تسود شبه الجزيرة على بيدمنت ذاتها؛ ولذلك فقد تخلى عن «جيوبرتي» زملاؤه واضطر إلى الاستقالة، على أنه لما كانت قد فشلت الوساطة الإنجليزية الفرنسية، فقد صار واضحا أن الحرب وحدها هي السبيل الوحيد لحسم مشكلة العلاقات مع النمسا وتقرير مستقبل بيدمنت ذاتها، وسائر الدويلات والإمارات الإيطالية.
وفي 12 مارس 1849 أعلن حينئذ انتهاء الهدنة، وتسلم أحد القواد البولنديين كراتزا نوسكي
Chrzanowsky ، قيادة الجيش البيدمنتي في الميدان، ولكن سرعان ما حلت بهؤلاء الهزيمة في واقعة «نوفارا» يوم 23 مارس 1849، وكان انتصار «رادتزكي» في هذه الواقعة انتصارا حاسما، قضى على الجيش الوحيد في كل شبه الجزيرة الإيطالية الذي كان في وسعه إطلاقا الصمود أمام النمسا، وبذلك صارت الحرب منتهية بالنسبة لبيدمنت.
وتنازل شارل ألبرت عن العرش لولده «فيكتور عمانويل الثاني»، يحاول بهذا التنازل إزالة العقبة المتمثلة في شخصه، والتي قد تعترض إبرام الصلح، ثم غادر البلاد إلى المنفى «الاختياري» فيأبورتو
Oporto
بالبورتغال، حيث وافته بها منيته بعد قليل في 28 يوليو 1849. وفي 6 أغسطس من السنة نفسها؛ عقد فيكتور عمانويل الصلح مع النمسا، بأن دفع تعويضا لها قدره 75 مليونا من الفرنكات في نظير احتفاظ بيدمنت بكل أراضيها، وذلك في معاهدة ميلان.
وهكذا بدأت تحل الكارثة بكل مكان لإنهاء هذا العهد «الثوري» في تاريخ الحركة القومية الاستقلالية في إيطاليا ، فطلب البابا والكرادلة تدخل الدول الكاثوليكية (6 فبراير 1849)، في حين قصد مازيني والثوريون إلى روما، وكذلك غاريبالدي. وأسس هؤلاء جمهورية برياسة مازيني الفعلية، ولكن فرنسا التي خشيت من استرجاع النمسا لمكانتها السابقة، وسيطرتها الكاملة في إيطاليا بعد انتصارها في واقعة نوفارا، لم تلبث أن قررت التدخل لنجدة إيطاليا، كما كان يعنيها كسب عطف الكاثوليك في فرنسا، والمحافظة على بيدمنت المهددة بالخطر من جانب النمسا، إذا تدخلت هذه لإرجاع البابا إلى عرشه، واسترداد نفوذها في كل أنحاء إيطاليا، فدخلت القوات الفرنسية بقيادة أودينو
Oudino
ابن أحد مريشالات نابليون القدامى، إلى روما وسقطت الجمهورية بعد دفاع مجيد على أيدي مازيني وغاريبالدي (30 يونيو 1849)، وهرب هذان إلى الجبال (جبال الأبنين).
وفي اليوم الذي سقطت فيه روما، كان النمسويون قد بدءوا غزوهم لتسكانيا، وفي 25 مايو دخلوا فلورنسة، ثم أتى دور «بريشيا» المدينة الوحيدة في لمبارديا التي هبت لنصرة بيدمنت عند استئنافها الحرب في مارس (1849)، فدخلها النمسويون الآن بعد أن قضوا على كل مقاومة بها، ثم جاء دور مدينة البندقية التي قررت المقاومة بقيادة «دانييل مانين» حتى النهاية، فاستولى النمسويون في 26 مايو على قلعة مالجيرا
Malghera . ومنذ 30 يوليو تعرضت المدينة للضرب بالمدافع دون انقطاع، ثم انتشرت المجاعة والكوليرا (الطاعون)، وفي 21 أغسطس بدأ «مانين» يتفاوض في شروط التسليم مع النمسا، وفي 24 أغسطس سلمت البندقية، ثم ذهب «مانين» إلى المنفى (27 أغسطس).
وبسقوط البندقية انتهت الحرب والثورة من كل إيطاليا، فقد أعيد البابا إلى عاصمته بالولايات البابوية، واستعاد الملك فردنند سلطانه الكامل في نابولي وصقلية، واسترجع الأمراء عروشهم في الدوقيات الإيطالية واحتلت فرنسا روما، وصارت النمسا صاحبة السيطرة في إيطاليا الشمالية، وانتصرت في كل مكان قوى الرجعية.
وأما فشل هذه الحرب الاستقلالية «القومية» الأولى، المتمثلة في ثورات 1848-1849، فيمكن إيجاز أسبابها في أن الإيطاليين لم يكن لديهم القوة الكافية لطرد النمسويين من إيطاليا، دون مساعدة تأتيهم من دولة أجنبية، وكانت بيدمنت وحدها صاحبة القوة العسكرية الصالحة للقتال، ومع ذلك فقد بلغ جيشها ستين ألفا، كان ثلثاهم من القوات الاحتياطية، أضف إلى هذا أن الإيطاليين لم يكونوا على اتفاق بشأن الدولة التي يريدون تأسيسها على أنقاض السيطرة النمسوية، فهناك أشياع الحكم المطلق وهناك الأحرار، وهؤلاء كانوا منقسمين إلى أحزاب وفرق، فمنهم الملكيون الدستوريون، الذين التفوا حول ملكية بيدمنت، ومنهم أنصار الدولة الاتحادية الفدرائية، ثم الجمهوريون المازينيون وهكذا، وكان الملكيون الدستوريون يتخذون معاقلهم في الشمال، في حين صار الوسط مركز الجمهوريين، وبقي أشياع الحكومة المطلقة في الجنوب خصوصا.
على أنه فيما يتعلق بمسألة الوحدة القومية، أسفرت هذه الثورات والحروب في سنتي 1848، 1849 عن نتيجتين هامتين؛ أولاهما: أن البابا بيوس التاسع عندما تخلى عن مؤازرة الثورة والحرب ضد النمسا قد مضى نهائيا على فكرة «جيوبرتي»، التي تدعو لزعامة البابوية، فتحولت عنها الأنظار للبحث عن زعامة غيرها لحركة الاستقلال والوحدة القومية.
وثانيتهما: أن بيدمنت صارت معقد الآمال من الآن فصاعدا؛ لتولي زعامة وتوجيه النضال القومي؛ لأن بيدمنت هي التي اضطلعت وحدها بعبء الحرب والمقاومة ضد النمسا دون سائر الدويلات والإمارات الإيطالية، ثم إنها لم تصبح بعد الهزيمة التي نزلت بها مرتعا للمبادئ الرجعية، مما مهد لها الطريق أكثر من ذي قبل؛ لتولي زعامة النضال في آخر الأمر من أجل تأسيس الوحدة الإيطالية، وإنشاء الحكومة الدستورية، وإتاحة الفرصة لانتصار الأحرار من العناصر المثقفة الأرستقراطية ومن البورجوازية.
الفصل التاسع
ألمانيا بين (1815-1848): النضال بين الثورة والرجعية في بروسيا والنمسا (1) تمهيد: ألمانيا بعد 1815
شهدت السنوات بعد 1815 تصفية الجماعة الوطنية في ألمانيا، والتي عرفنا أنها كانت قد نشأت منذ 1813؛ لمقاومة السيطرة الفرنسية «النابليونية»، وخوض غمار الحرب لتحرير ألمانيا، وهناك أسباب عدة لتصفية هذه الجماعة الوطنية؛ لعل أهمها الشعور بخيبة الأمل عندما صدم الوطنيون في معاهدات الصلح، التي أنهت الصراع في أوروبا ضد نابليون، فأضفت معاهدة باريس (30 مايو 1814) الجماعة أو الحزب الوطني في ألمانيا؛ لأنها «بتساهلها» في نظرهم قد جعلت فرنسا تخرج من الحرب، بشروط أفضل كثيرا مما كان ينبغي أن يكون نصيبها الحق. وندد هؤلاء الوطنيون الألمان بأنانية الدول العظمى، خصوصا روسيا المتعجرفة، والتي ادعت لنفسها زعامة العالم وإرشاده، والتي تدخلت في شئون ألمانيا الداخلية، ونددوا كذلك بإنجلترة، التي أساءت استخدام ما تمتعت به من ضروب التفوق في الحقل الاقتصادي؛ لإلحاق الأذى لألمانيا ووقف نهضتها، وفسر الوطنيون الألمان كل الذي وقع بأن بلادهم كانت ضعيفة لدرجة إغراء الغير بها، فلو أن ألمانيا كانت «دولة» موحدة بدلا من كل تلك الإمارات والدويلات المتفرقة، لسارت الأحداث في طريق آخر، وقضت خيبة الأمل هذه على «المواطنية العالمية»، التي كنا تحدثنا عنها في فصول «أوروبا والإمبراطورية»، وساد الاعتقاد الآن بين هؤلاء الوطنيين الألمان بأنهم كانوا مخدوعين بمثل «الإنسانية»، تلك «المثل» العليا التي اختفت أمام مخاوف الألمان على الحقوق التي لألمانيا، والتي يجب في نظرهم الآن ضمانها والمحافظة عليها قبل أي اعتبار آخر، أما الوسيلة إلى ذلك، فهي بمنع أي تدخل «أجنبي» في شئون بلادهم الداخلية.
وثمة خيبة أمل كبيرة أخرى، هي أن الوطنيين الألمان لم يظفروا بإعادة «الإمبراطورية الألمانية»، لقد كان حلمهم الكبير أن تتأسس وحدة بألمانيا مرة ثانية، باعتبار أن هذه الوحدة كانت موجودة في القرن العاشر الميلادي في عهد الإمبراطور أوتو الأول، وعقد الوطنيون الألمان آمالا كبيرة على إنشاء هذه الوحدة بعد الحروب النابليونية، فكتب «آرندت»: «الوحدة في أقوى صورها وأعظم درجات نشاطها، ذلك ما تريده ألمانيا، وذلك ما هو ضروري لأمنها الخارجي، ولرخائها الداخلي، ويا لسوء طالع السياسيين في المؤتمر (مؤتمر فينا) إذا هم لم يفهموا ذلك.» ونشرت إحدى المجلات -
Nemesis
أو آلهة الانتقام - مقالا جاء فيه: «يجب علينا قبل كل شيء المطالبة بأن يكون لنا إمبراطور ... فلنحصل فقط على إمبراطور، وما نحصل عليه بعد ذلك فهو زيادة وفضل، وحينئذ تستعيد ألمانيا مكانتها وهي المرتبة الأولى بين أمم العالم، وحينئذ تتمتع ألمانيا بالحرية المطلقة.» وفي بداية سنة 1815 نشر جوريز
Goerres
1
محاورة بعنوان «إمبراطورية وإمبراطور» اشترك فيها «نمسوي وسكسوني» و«بروس وكاثوليكي ... إلخ»، يعرض فيها كل واحد منهم نظرية جماعته وعقيدة حزبه، وقد اتفقت كلمة هؤلاء على ضرورة إنهاء الوضع السائد بألمانيا؛ وذلك لأن «الأوضاع القديمة لا يمكن أن تبقى إلى الأبد، بل يجب أن تبرز إلى عالم الوجود أشكال وصور جديدة، فتقوم دول ألمانية كبيرة وقوية، ولا غضاضة في شيء إذا صحب هذا الحادث بعض الظلم، فسوف يمحو الزمن أثره، فحينئذ سوف تنبت النباتات وتنمو.» واستطاع «جوريز» أن يدرك أنه إذا تعذر إعادة تنظيم ألمانيا بالطرق السياسية، فلن يكون بعيدا اليوم الذي سوف يتم فيه هذا التنظيم بطرق الحرب والقوة، فهو يقول: «إن ما يتنبأ به القدماء في قولهم: إن الغلبة والزعامة من نصيب القوة، لا يزال غير متحقق، ولكن عند تحقيق هذه النبوءة سيكون خلاصنا، فزعامة أو غلبة القوة هي التي سوف تحسم المسائل بضربة سيف، وهي التي سوف تعمل بالدم والحديد، وهي التي سوف تمحو كل شيء لتجعل ألمانيا مسطحا أملس، تستطيع أخيرا أن تسجل عليه الثورة آثارها، ومع أنه لا يزال هناك متسع من الوقت فإن أحدا لا يريد تأسيس دستور صحيح، فلا معدى إذن عن القوة لتحقيق ما عجز الناس عن فعله بمحض إرادتهم.»
على أن الذي حصل في تسويات الصلح في فينا، لم يكن ما أراده هؤلاء الوطنيون الألمان، فتعذر تأسيس الإمبراطورية الألمانية من جديد، عندما لم تشأ النمسا أن يكون تاج الإمبراطورية الألماني من نصيبها. ورفضت بروسيا أن تقوم سلطة أعلى تدين لها المملكة «البروسية» بالطاعة، ووجد المؤتمر لذلك أنه بدلا من إعادة تأسيس الوحدة أو الإمبراطورية الألمانية، قد أخرج إلى عالم الوجود ذلك «الاتحاد الألماني» - الكونفدرائي - الذي عرفنا أنه لم يكن حتى دولة اتحادية فدرائية، بل أنشأ نوعا من «الدولة المتوازنة»؛ أي التي تقوم في الاعتبار الأول على توزيع القوى بين وحدات سياسية متعددة بها، بصورة تحفظ التوازن بين هذه القوى المجزأة جميعها؛ وذلك لضمان أن يسود السلم ألمانيا، فلا تكون مصدر أخطار على جيرانها في أوروبا. ولقد ساد السلم حقيقة ألمانيا، فلم تكن في السنوات التالية حتى منتصف هذا القرن «التاسع عشر» مصدر أخطار على جيرانها، ولكن السبب الرئيسي في ذلك كان الجمود الذي أصاب ألمانيا، وعدم الحركة الذي أفقدها نشاطها عقب تسويات الصلح في فينا.
وإزاء هذا الفشل في إعادة الوحدة، أو الإمبراطورية الألمانية لم يحرك سواد الشعب الألماني ساكنا، ذلك بأن المحلية أو الإقليمية كانت لا تزال متسلطة على أفكار الناس عموما، ولا تزال الشعوب متعلقة بحكامها وأمرائها القدامى في شتى الدويلات والإمارات التي تألفت منها ألمانيا، فيروي المؤرخون للتدليل على مبلغ هذه المحبة، قصة حاكم هس كاسل الذي فر من البلاد وقت الخطر حاملا معه كل ثروته، حتى إذا انقضى الخطر ، وحلت الهزيمة «بنابليون» رجع إلى بلاده، فقال أحد الفلاحين: «حقا، إنه حمار كبير، ولكنه الرجل الذي نريده بالرغم من كل ذلك!» وزيادة على ذلك فقد شغل الألمان بمحاولة التغلب على الصعوبات المادية التي صارت تعترض حياتهم الآن، بعد أن أنهكت الحروب الطويلة البلاد، ولم تلبث أن أغرقت الأمطار الزراعات في سنة 1816، فلم يكد يكون هناك أي محصول، وانتشرت المجاعة في شتاء وربيع العام التالي (1817)، وصار الشحاذون يطوفون البلاد في جماعات، في حين قضي على الصناعة عندما تدفقت المصنوعات الإنجليزية على ألمانيا، وعجزت هذه الأخيرة عن تصدير سلعها إلى الخارج؛ بسبب الضرائب الجمركية المانعة التي أقامتها كل من فرنسا من ناحية، وروسيا من ناحية أخرى على حدودهما، واستغرق الاهتمام لذلك بشئون الحياة المادية كل نشاط الطبقة البورجوازية، وطبقة الفلاحين على حد سواء، فلم يعد أحد يفكر في شيء أسمى من مطالب الحياة الضرورية والمباشرة.
وتبددت آمال الوطنيين الألمان عندما لم يظفروا بالحرية الداخلية التي أرادوها، والتي بذل المسئولون مثل: «ستين» و«فردريك وليم» الوعود بتحقيقها في النداءات العديدة التي وجهها هؤلاء للشعب أثناء النضال ضد نابليون والسيطرة الفرنسية، ولقد كان أقرب هذه الوعود ما صدر عن فردريك وليم الثالث عشية استئناف الحرب في سنة 1815، فقد أصدر الملك البروسي نداء لشعبه في 22 مايو 1815، يعد فيه بمنح الدستور ويقول: «إن تمثيلا أهليا سوف يجري تنظيمه، وإن نشاط الجمعية الأهلية (أو الوطنية) سوف يمتد ليشمل كل ما يتعلق بالتشريع «واستصدار القوانين»، بما في ذلك الضرائب.» ومع ذلك فقد ساور الشك وقتئذ بعض الوطنيين الألمان في قيمة هذه الوعود ، فقد كان «فيشته» الذي توفي في سنة 1814، يخشى أن يتخلى الملك البروسي عن وعوده، فقال: «إذا أصدر أمير أخضعه نابليون لسلطانه نداء لشعبه، فمعنى ذلك أن هذا الأمير إنما يريد من شعبه أن يقوم بالثورة، حتى يصبح الناس عبيدا له، بدلا من أن يكونوا عبيدا لحاكم أجنبي، وتلك حماقة كبيرة، وليست وعود الأمراء إلا وسيلة يلجأ إليها هؤلاء عندما يتيقنون من فشل كل الوسائل الأخرى وعدم جدواها، ولا يجب أن يراق الدم الألماني من أجل تأسيس امتيازات ينعم بها هؤلاء الأمراء على حساب شعوبهم.»
ولقد ساور هذا الشك نفسه «جوريز» الذي نشر في «كوبلتر»، ابتداء من سنة 1814 جريدته المعروفة: عطارد الراين
Rheinische Merkur ، والتي ظهر آخر أعدادها بتاريخ 10 يناير 1816، فقد كتب في جريدته هذه:
إن المرء لا يجب عليه الاعتقاد أن بوسعه الاعتماد في الخلاص على المعاهدات، وعلى الكلمات أو الوعود الطيبة، لقد ضحى الشعب بخير ما لديه وهو يريد تعويضا عن هذه التضحية.
وبحث السياسيون في مؤتمر فينا المشكلة الألمانية، وصادفوا أول ما صادفوا مشروعا يقوم على قاعدة دستورية؛ «وذلك عندما نص هذا المشروع على وجوب أن تغدو المجالس الحكومية في كل بلاد الاتحاد الكونفدرائي مجالس دستورية.» وهو مشروع لم يلبث أن اقترح أحد المندوبين «عن لكسمبرج» إدخال تعديل عليه، جاء فيه: «أن أعضاء الاتحاد الكونفدرائي «الألماني»، يوافقون على استصدار دساتير تمثيلية - أي تكفل قيام أنظمة نيابية - في كل الحكومات الألمانية، وإنشاء مجالس (دياطات) بها لضمان هذه الدساتير، على أن يكون مكفولا حق هذه الدياطات في إبداء الرأي والمشورة في كل ما يتعلق بالتشريعات والقوانين، وفي الموافقة على الضرائب، وفي رفع شكاياتهم إلى الحكام.» ولكن لم تلبث أن أسفرت المناقشة عن تضييق هذا المعنى شيئا فشيئا، حتى انتهى الأمر بوضع المادة الثالثة عشرة (من قانون الاتحاد الألماني الكونفدرائي)
2
بالصيغة المبهمة التالية: «سوف تكون هناك مجالس حكومية في كل بلاد الاتحاد الكونفدرائي.» وواضح أن «المجالس الحكومية» عبارة مبهمة، وهي ليست «مجالس دستورية»، وقد يكون معناها؛ إعادة تأسيس مجالس الطبقات الإقليمية، من طراز المجالس التي وجدت سنة 1807، والتي كانت محرومة من كل سلطة، ثم إن عبارة «سوف تكون هناك مجالس حكومية» لا تعني الإلزام، على خلاف ما لو كانت هذه العبارة بالصيغة التالية: يجب أن يكون هناك ... إلخ، فكان طبيعيا أن يتندر الوطنيون الألمان بهذه المادة فيقولون: إنها نبوءة تعد بإنشاء المجالس وحسب، ولا يقصد منها تقرير حقيقة واقعة، ثم إن الحكومات بمجرد أن صارت تصادفها المتاعب، لم تلبث أن تنكرت لوعودها، وكان فقط في ألمانيا الجنوبية، أن عمدت الحكومات إلى تنفيذ وعودها؛ لأنها لم تكن مطمئنة إلى قوتها، وصارت تعتقد بضرورة الاعتماد على تأييد الشعب لها.
وعلى ذلك فقد منح مكسمليان الأول ملك بفاريا شعبه دستورا في 26 مايو 1818، ثم حذا حذوه غراندوق بادن في شهر أغسطس، ثم إن غليوم الأول ملك ورتمبرج منح شعبه دستورا في ديسمبر من السنة نفسها، بعد مفاوضات طويلة مع مندوبي الشعب، وكان غليوم يريد أن يجمع حول ورتمبرج جماعة الوطنيين الألمان، ويلقى في هذه الرغبة تأييدا من جانب القيصر إسكندر شقيق زوجته، وكان القيصر الروسي لا يزال متأثرا بالآراء الحرة، ولقد نسج على منوال غليوم الأول كل من غراندوق دارمستاد
Darmstadt ، وغراندوق «نساو» وفي هانوفر - وملكها جورج الثالث ملك إنجلترة - تحول الدياط القديم إلى مجلس من غرفتين، على أن الجدير بالملاحظة في كل هذه الدول أو الإمارات التي استصدرت الدساتير لشعوبها، كان للمجالس صوت استشاري فقط وفي أضيق الحدود، ولم يكن لها مناقشة القوانين أو اقتراحها، بل كان القلق يستبد «بالحكام» في هذه الإمارات والممالك إذا أرادت المجالس بحث أعمال الحكومة، ويجأرون بالشكوى من نشاط هذه المجالس «التمثيلية» للبرنس مترنخ، ممثل الرجعية في أوروبا في ذلك الحين.
أما في الدويلات والحكومات الأخرى - أي في غير تلك التي صدرت بها الدساتير - فقد أعيد بها، دون تحوير أو تعديل «النظام القديم»، فأقيمت بها المجالس (أو الدياطات) القديمة، التي لم يكن لها أي سلطات أو نفوذ.
وفي بروسيا وهي التي بذل ملكها الوعود بالحريات لشعبها، وفي عبارات أكثر دقة وصراحة، حدث رد الفعل بصورة أسرع وأكثر مباشرة مما حصل في غيرها من الإمارات والحكومات الألمانية؛ وذلك لأن الملك فردريك وليم قد أحاط نفسه بمستشارين من طراز «شمالز»
3
Schmalz
وويتجنستاين
Wittgenstein
4
من الرجعيين، وكان «شمالز» نسيبا «لشارنهورست»، ويشغل مركزا قضائيا كبيرا في برلين، كما كان أستاذا للقانون بجامعتها، وعينه الملك أول مدير لهذه الجامعة، وقد أصدر «شمالز» في سنة 1815 كراسة يقيم فيها الحجة على أن الشعور الثوري السائد في ألمانيا ، إنما مرده إلى نشاط جماعات سرية، تألفت على غرار حلف الفضيلة
Tugenbund
القديم المناوئ للسيطرة الفرنسية، وأثار هذا «الادعاء» سخط الكثيرين واحتجاجاتهم، وكان «نيبور» و«شلير ماجر» من بين الذين احتجوا على ادعاءات «شمالز» واتهاماته، أما «ويتجنستاين»، فكان موضع ثقة ملك بروسيا فردريك وليم الثالث وزوجه الملكة، ومنذ 1806 كان له تأثير ظاهر على مجرى الحوادث في بروسيا، ثم إنه تعين كبيرا للأمناء عند عودة الملك إلى برلين في سنة 1810، وعمل بنشاط لتقليد «هاردنبرج» منصب المستشارية وكسب ثقته، حتى إذا تعين رئيسا للبوليس سنة 1812، أخذ يتعقب أنصار «حلف الفضيلة» الذين يسيئون للعلاقات بين فرنسا وبروسيا. ولقد بقي «ويتجنستاين» يشغل منصب وزير البوليس حتى بعد انتهاء المحالفة الفرنسية البروسية، وفي هذه الفترة التي نحن بصدد دراستها تعاون «ويتجنستان» تعاونا وثيقا مع «مترنخ»، أما «هاردنبرج» فقد اضطر حتى يحتفظ بمكانته إلى مسايرة «الرجعيين»، وعلى ذلك فقد كان الطرد من الخدمة والانزواء على الأقل، ثم السجن أو المنفى لفريق منهم، نصيب الوطنيين الذين كان لهم الفضل في إحياء بروسيا، ومنعت الحكومة طبع محاضرات «فيشته» وتداولها، وعطلت السلطات صحيفة «جويرز» المعروفة؛ عطارد الراين (يناير 1816)، ولقد اضطر «جويرز» إلى الفرار إلى سويسرة، عندما أصدر في سنة 1819 كراسة بعنوان «ألمانيا والثورة»، وأما «أرندت» و«ستين» ومن كانوا من طرازهما، فقد اضطروا جميعا إلى الانزواء أو الصمت، بل لقد فقد «همبولدت» نفسه كل نفوذ. وفي (29 مايو 1816) صدر قرار هدم الإصلاح الاجتماعي الذي حدث سنة 1811.
وهكذا فقد اختفت في ألمانيا في شهور معدودة فقط الجماعة الوطنية بأسرها، حيث قد تشتت أفرادها أو لزموا الصمت ، وأمكن بذلك تصفية «حركة 1813» بعد سنتين أو ثلاث سنوات فحسب تصفية تامة، واستطاع «مترنخ» أن يقطع ألمانيا في طريقه إلى مؤتمر «إكس لاشابل» في سنة 1818 في موكب من النصر، عندما استقبله الملوك والأمراء في كل مكان، بمظاهر الخضوع والطاعة. (2) الجامعات الألمانية و«البورشنشافت»
ومع ذلك فقد أمكن أن تعيش الحركة القومية بين شباب الجامعات، فلقد كان من بين الطلاب أن جاءت العناصر الوطنية الأولى التي حملت السلاح في سنة 1813، وبين شباب الجامعات هؤلاء أمكن الاحتفاظ بروح النضال القديمة، ووجد شباب الجامعات في بعض الأحايين زعماء يقودونهم، مثل: جاهن
Jahn
5
الذي نشر التربية البدنية، وأنشأ في ألمانيا جمعيات الرياضة، وكان «جاهن» قد تلقى فنون الرياضة في الدانمرك، ثم لم يلبث أن صاغ لطلابه والملتفين حوله شعارا: «أن يكونوا نشيطين متيقظين وأحرارا، مستبشرين وسعداء، وأتقياء متورعين.»
6
وكره جاهن فرنسا، وكل ما هو فرنسي أو يمت بصلة لفرنسا كراهية شديدة، فهو حتى لا يستخدم كلمات تشبه في نطقها كلمات فرنسية، قد استعاض عن كلمة
Universtat
أي جامعة الألمانية، بتسمية الجامعة «بدار رياضة العقل»،
7
وكان «جاهن» صاحب آراء طريفة، فهو يشير بإقامة شريط من الصحراء، التي تقطنها الوحوش المفترسة بين فرنسا وألمانيا؛ وذلك لمنع الحروب بين البلدين، ولمنع غزو الفرنسيين لألمانيا، وأما هؤلاء الشبان الذين التفوا حول «جاهن»، والذين ظلوا متأثرين بروح النضال التي ظهرت في سنة 1813، فإنهم قد أخذوا يدللون على وجودهم بارتداء لباس خاص - سمي «بالزي الألماني» - يتألف من سترة طويلة «ردنجوت» ضيقة عند الوسط تعلوها بنيقة (ياقة) كبيرة، وينتعلون أحذية الفرسان الطويلة، ويتركون شعورهم مسترسلة وراء ظهورهم، في حين تغطي رءوسهم قلنسوة مزينة بريش من مختلف الألوان، وكان هؤلاء الشباب من أتباع «جاهن» سيئي التربية، شديدي الصخب، يشربون «الجعة» دون انقطاع، وذلك نخب «الروح المسيحية العسكرية» المتمثلة في جمعياتهم، وقد أسس هؤلاء في الجامعات الألمانية «جمعيات ألمانية»، بمجرد انتهاء الحرب التي أنهت السيطرة الفرنسية في ألمانيا، ولم يكن لدى هؤلاء فكرات أو نظريات سياسية معينة، بل إن كل ما أرادوه كان لا يعدو تأمين عظمة ألمانيا، وذلك بتحررها من كل نفوذ أجنبي، وإعطائها فرصة الانطلاق الكامل على حد قولهم: «نحو الحياة الشعبية»، وبمعنى آخر: كان تفكيرهم ثم غرضهم الذي يسعون لتحقيقه، لا يزيدان على مجرد «تفسير» من درجة أدنى لبعض الآراء التي نادى بها «هردر».
على أن نوعا من عمليات «التطهير»، لم يلبث أن حدث في هذا الوسط الشديد الغليان تحت نفوذ المؤرخ هاينريش لودن
Luden
أحد أساتذة جامعة «يينا »، وكانت جامعة «يينا» وقتئذ أكبر الجامعات انتصارا للمبادئ الحرة؛ لوجودها في غراندوقية ساكس فايمر، التي كان «جيته» وزيرا بها، ولقد تألفت في هذه الجامعة بفضل «لودن» جمعية من الطلاب؛ لانتزاع زملائهم من نقاباتهم القديمة المسماة بالفرق
Korps ، والتي يرجع تاريخها إلى العصور الوسطى، ثم لجمع هؤلاء الطلاب في اتحاد فدرائي يسمى بور شنشافت
Burchenschaft ؛ أي اتحاد الرفقاء
8
تسوده روح أسمى وأكثر وطنية وقومية، واتخذ هؤلاء راية لهم أعلام المتطوعين في حملة 1813، وكانت من ألوان ثلاثة؛ الأحمر والأسود والذهبي، وكان أعضاء «البور شنشافت» من أكثر الطلاب ميلا للعنف وللصخب، كما اتصف فريق منهم بالرزانة، وبالولاء الشديد، بل ووجد من بينهم أتقياء كثيرون، وقد نظموا أنفسهم في فروع في كل الجهات في أنحاء ألمانيا.
والبورشنشافت هم الذين أقاموا احتفال 18 أكتوبر 1817 في قصر «ورتبرج»؛ لإحياء ذكرى مرور مائة عام على احتجاج مارتن لوثر على صكوك الغفران الذي علقه على باب كنيسة «وتنبرج»؛ وكذلك للاحتفال بذكرى موقعة «ليبزج»، أو معركة الأمم التي انهزم فيها نابليون قبل ذلك بأربع سنوات (18 أكتوبر 1813).
ولقد كان عند نهاية الاحتفال مساء هذا اليوم، أن أشعل الطلاب النار في كومات من الكتب من مؤلفات الكتاب الرجعيين، مثل؛ البرخت فون هالر
Haller
الذي نشر في سنة 1816 كتابا عن عود أو رد العلوم السياسية إلى أصلها، كان عبارة عن نقص لنظرية جان جاك روسو عن العقد الاجتماعي، فرفض «هالر» الحقوق الطبيعية، والعقد الاجتماعي وسيادة الشعب، باعتبار أنها جميعها مناقضة لحقائق التاريخ، ثم لقيت نفس المصير كتابات فردريك أنسيلون
Ancillon ، وكان أحد أساتذة التاريخ في برلين، التحق بالبلاط منذ وقت مبكر ، وصار مدرسا لأفراد الأسرة المالكة، ومنذ 1810 صار مدرسا لولي عهد بروسيا، «لسوء حظ بروسيا وألمانيا معا»، ثم ضمه «هاردنبرج» إلى الحكومة سنة 1814، ولم يلبث أن عرف بميوله الرجعية و«الإقطاعية»، ومن الذين حرقت كتاباتهم كذلك، كان فون كامبتز
Kamptz
مدير البوليس في بروسيا، وأعدى أعداء الأحرار والقوميين، ورجال العلم والمعرفة، ثم «شمالر» - وقد سبق الكلام عنه - ثم كارل ليبريخت إيمرمان
Immermann ، الذي اشتهر فيما بعد كمؤلف ناجح، والذي كان قد دافع بحماس عن قضية أحد الطلاب الذي أساءت جمعية الطلبة في هال
Halle
معاملته، وكانت هذه جمعية تيوتونيا
Teutonia ، وقد حلت السلطات هذه الجمعية في العام السابق (1817)، ثم أخيرا: أوجست فون كوتزبيو
Kotezebue ، وقد عرفنا كيف كان يراسل القيصر إسكندر الأول من فايمر، ويعمل جاسوسا له في ألمانيا.
وإلى جانب هذه الكتب من نتاج الرجعيين الذين ذكرناهم، التهمت الحرائق في ذلك اليوم عصا أحد الأونباشية، وهي ترمز للجندية القديمة، ثم قلنسوة من الشعر الاصطناعي يضعها السادة على رءوسهم في «النظام القديم»، وترمز لهذا العهد البائد، ثم مشدا مما تصنعه النساء حول خصورهن كرمز للتخنث الذي يريدون القضاء عليه.
ومنذ شهر مايو 1818 اجتمع مندوبو أربع عشرة جامعة ألمانية لإنشاء اتحاد فدرائي «للبورشنشافت» لكل ألمانيا، وتزايد عدد هؤلاء المندوبين في الشهور التالية، وبين 10 و18 أكتوبر أمكن انعقاد اجتماع عام في «يينا» لما صار يعرف باسم الاتحاد العام الألماني للبورشنشافت.
9
ولقد تميزت جامعة جيسين
Giessen
الصغيرة على وجه الخصوص في هس كاسل، بروح العنف التي كانت سائدة بها، والتي كان مبعثها تأثر الطلاب بنشاط كارل فولن
Follon ، أحد إخوة ثلاثة بذلوا قصارى جهدهم لنقل جمعيات الطلاب في الجامعات الألمانية إلى منظمات قومية. وجمع «كارل فولن» حوله الطلاب الذين صاروا هم وأتباع «فولن» عموما يسمون «بالمتصلبين» الذين لا يقبلون اتفاقا أو تفاهما، وهم من الشبان المتطرفين والمتعصبين لمبادئهم، والذين استثارتهم بلاغة «فولن» وشعروا بالكراهية الشديدة للشاعر والروائي «كوتزبيو» صديق القيصر، والذي كان يبعث إليه بتقرير كل شهر عن التيارات الذهنية والحوادث في ألمانيا، ولقد نشرت مجلة الانتقام
Nemesis
أحد هذه التقارير، وكان قد عثر به الطلاب، وأقام «كوتزبيو» دعوى على «فولن»، الأمر الذي أثار حفيظة الطلاب وسخطهم، لدرجة أن أحد هؤلاء «كارل ساند»، وكان ذا نزعة صوفية مع شيء من ضيق الذهن والفكر، لم يلبث أن أخذ على عاتقه - كما اعتقد - تحرير ألمانيا بالخلاص من كوتزبيو، فأقدم على قتله في 23 مارس 1819، ومع أن كارل ساند حاول الانتحار، إلا أنه قبض عليه ثم أعدم في 20 مايو 1820.
ولقد أثار مقتل «كوتزبيو » عاصفة عاتية من الشعور الجامح لدى فريقي «الثوريين» و«المحافظين» على السواء، وبخاصة عندما وقع اعتداء آخر يوم أول يوليو 1819 على إيبيل
Ibell
أحد وزراء «نساو»، وذلك على يد صيدلي يدعى لوننج
Loening ، اعتقد أن الوزير من الرجعيين، وقد نجا «إيبيل»، أما «لوننج» فقد انتحر؛ وعلى ذلك فقد اقترحت ساكس فايمر وبروسيا أن يتخذ الدياط المنعقد في فرانكفورت الإجراءات الكفيلة بوقف هذه الحركات في الجامعات. وقابل ملك بروسيا فردريك وليم الثالث البرنس مترنخ في توبلتز
Toeplitz
في غضون شهر يوليو، ثم اجتمع في «كارلسباد» برياسة مترنخ ممثلو تسع حكومات، في مؤتمر تقدم ذكره عند الكلام عن «الاتحاد الأوروبي»، إنها كانت بروسيا، النمسا، بفاريا، بادن، نساو، رتمبرج، مكاسنبرج، وهس، وساكس فايمر، فاتخذوا طائفة من القرارات الرجعية التي عرفنا أنها سميت «بمرسومات كارلسباد»، أجازها دياط الاتحاد الألماني في فرانكفورت في 20 سبتمبر 1819.
أما هذه القرارات فقد اختص قسم منها بتفسير المادة الثالثة عشرة المشهورة من دستور الاتحاد الكونفدرائي، وهي المادة التي وعدت بقيام «المجالس الحكومية» في أنحاء الاتحاد الفدرائي، فقد فسرت هذه المادة الآن في صالح الملوك والأمراء، وتضييق احتمال استصدار الدساتير في الدويلات المختلفة، وإلى جانب ذلك نص قسم آخر على ضرورة استخدام القوة لتنفيذ قرارات الدياط في الحكومات الألمانية، وبجوار هذه القرارات «العامة»، كانت هناك أخرى أكثر تحديدا لفرض إخماد حركات المعارضة والمقاومة في الجامعات، فألغيت جمعيات أو اتحادات الطلبة، وحلت جمعيات «البورشنشافت»، وأنشئت في كل جامعة «لجنة» لم تكن مهمتها مقصورة وحسب على مراقبة نشاط الأساتذة ومحاضراتهم، بل كان من حق «اللجنة» إبطال محاضرات الأساتذة، وإبعاد هؤلاء عند الضرورة من الكليات التي يعملون بها، وخضع الطلاب لنفس الرقابة. وزيادة على ذلك فقد أنشئت الرقابة على الصحف لمدة خمس سنوات، وأقيمت لجنة تحقيق في «ماينز»؛ للبحث عن أصول الحركات الثورية ومبلغ نشاطها.
ولقد سبقت الإشارة إلى هذه القرارات في الفصل المنعقد عن «الاتحاد الأوروبي»، وكنا قد ذكرنا أن مؤتمرا لم يلبث أن انعقد في بداية العام التالي مترنخ أيضا، وحضره في فينا مندوبو كل الحكومات الألمانية، أيد هذه القرارات واستصدر بها «قرار مؤتمر فينا النهائي» في 15 مايو 1820، وفي هذا «القرار النهائي» الذي أذيع يوم 8 يونيو، تأكد سلطان الأمراء - أي حقوق سيادتهم القانونية - ولكنهم منعوا في الوقت نفسه من أن يمنحوا شعوبهم حريات أوسع (أو مفرطة في الزيادة)، ثم ضيقت اختصاصات أو سلطات المجالس الدستورية، ومنع نشر محاضر جلساتها.
أما «لجنة التحقيق» في ماينز فقد قامت بمهمتها بكل دقة، وكذلك طبقت الإجراءات المتخذة ضد الطلاب بكل صرامة، فألغي القبض في بروسيا مثلا على عدد كبير من الطلاب، ووقعت عليهم عقوبة السجن مددا تتراوح بين اثنتي عشرة وخمس عشرة سنة، وأودع «جاهن» السجن، ونزع من «آرندت» كرسي الأستاذية بجامعة بون، وأجبر «جوريز» الذي كان قد عاد من سويسرة على الذهاب إلى «ستراسبورج» والعيش بها، واضطر عديدون من جماعة الحزب الوطني الذين بقوا على قيد الحياة إلى مغادرة ألمانيا للعيش في الخارج، وأذعن الباقون لسلطان الرجعية، وهكذا كان الخمود نصيب هذه الحركة الوطنية القومية في الجامعات، فلم يختلف مصيرها عن مصير غيرها.
وواضح إذن أنه كان ممكنا تحطيم الحركة الوطنية (القومية) في ألمانيا بكل سرعة، ونهض الدليل بفضل الحوادث التي وقعت في ألمانيا بعد سنة 1815، على أنه من الواجب قبل إعادة تشكيل ألمانيا على أساس «قومي» أن تتقرر الحريات السياسية، كما نهض الدليل على أنه من المتعذر قيام «حركة قومية» في ألمانيا، من غير أن يسبق ذلك الظفر بالحريات السياسية؛ أي إن العمل من أجل تقرير المبدأ الحر سوف يتقدم من الآن فصاعدا على الحركة القومية، أو أن الفكرة «الحرة » والفكرة «القومية»، سوف تختلطان ببعضهما بعضا. (3) نضال الحكومات ضد المبادئ الحرة «نظام مترنخ»
تكشف دراسة الآراء الحرة والقومية في ألمانيا عن مشكلات أكثر تعقيدا مما صادفناه في إيطاليا، ولو أنه قد يبدو للوهلة الأولى أن ألمانيا تتمتع بمركز أفضل كثيرا مما كان لإيطاليا، من حيث إن «دولة» ألمانية كانت قائمة فعلا في ألمانيا، في شكل «الاتجاه الكونفدرائي» الذي صدر به القرار النهائي لمؤتمر الصلح في فينا في سنة 1815، وهذه المشكلات أكثر تعقيدا كذلك، ولو أن المطالب الألمانية كانت تشبه تلك الإيطالية من حيث إنها في صورتها النهائية، إنما ترتكز على المبادئ الحرة والقومية؛ والسبب في هذا التعقيد أن «النظريات» التي تفسر هذه المطالب كانت أقل سهولة من شبيهاتها في إيطاليا. ومن المسلم به أن الألمان قد عرفوا وقبلوا النظريات الفرنسية المتعلقة بالقومية، بل وتأثروا بها، مثلهم في ذلك مثل الطليان أنفسهم. ومن المسلم به أن الألمان بعد سنة 1815، ومثلهم في ذلك أيضا مثل الطليان، قد تأثروا بالحوادث التي وقعت في فرنسا، وأنهم قد استرشدوا بها في نشاطهم، ولكن في ألمانيا وقبل هذه الحوادث، كانت هناك اتجاهات مثالية معينة بشأن القومية، يكشفها تفكير قادة الرأي الألمان من طراز «هردر» و«فيشته» خصوصا، و«هردر» و«فيشته» هما اللذان أسسا نظريتهما في القومية - كما شهدنا - على فكرة «الجنس» أو العنصرية، أو بقول آخر على اشتراك الأصول، وتوارث الخصائص الجسمية والذهنية «والخلقية»، وهي الخصائص التي تبرز في «اللغة» حتما. ولقد كان بتطبيق هذه النظرية على ألمانيا أن تولدت الفكرة المتعجرفة التي تزعم في نظر أصحابها تفوق الجنس الجرماني على سائر أجناس البشر، أو أنه أعظم هذه الأجناس نقاوة، وتلك فكرة كان من المتعذر إقامة الحجة على صحتها من الناحية التاريخية، فلم تلبث أن تبدلت إلى أخرى مفادها؛ أن لألمانيا «رسالة» هي إرشاد البشر وقيادته وتوجيهه إلى حياة أفضل في هذا العصر الحديث.
وإلى جانب هذه النظرية، سرعان ما نشأت في الفترة التي ندرسها نظرية أخرى عن «الحقوق التاريخية»، نادت بها مدرسة المثقفين الذين تأثروا بكتابات «هردر» وآرائه. وكان من أعلام هذه المدرسة أولا؛ المؤرخ هنريك فون سيبل
Sybel ، ثم من بعد سنة 1848 المؤرخ والسياسي هنريك ترايتشكه
Treitschke ، وإلى جانب هذا كله كانت هناك فلسفة ولهلم هيجل
Hegel
الخاصة، وقد تضافرت كل هذه العناصر على تزويد نظرية الوطنية أو القومية في ألمانيا بتلك الإرادة «القاهرة» والرغبة في بسط السلطان، حتى لقد صارت «القومية الألمانية» إرادة تسلطية، تبغي دائما الانطلاق إلى ما وراء حدود ألمانيا الصحيحة، وزيادة على ذلك فإن هذه النظريات التي نادى بها «هردر» و«سيبل» و«ترايتشكه» و«هيجل»، وأضرابهم قد ساعدت على أن تجعل من الفرد مجرد «أداة» تتلاشى في كيان المجتمع، وأداة في يد الدولة، التي هي في حد ذاتها «كائن عنصري» وقوة منظمة تتولى تنظيم هذا المجتمع.
تلك إذن كانت الأسباب التي جعلت المسألة الألمانية أكثر تعقيدا من المسألة الإيطالية، وتلك أسباب يضاف إليها كذلك تأثير التطورات التاريخية، والأحوال السياسية السائدة في ألمانيا، من ذلك أن العظمة والسلطان اللذين كانا لألمانيا إنما مبعثهما فكرة الإمبراطورية المجردة، ولا تستندان على أسس إقليمية محددة، كما هو الحال في فرنسا وإيطاليا، ولقد شاهدنا إلى جانب ذلك كيف أن التطور السياسي في ألمانيا قد فصل بين الحياة السياسية، والحركة الذهنية أو الفكرية بها، خصوصا أثناء القرن الثامن عشر وفي بداية القرن التاسع عشر. ثم إنه كان يوجد بألمانيا عنصر أو عامل لم يكن له نظير في إيطاليا، ونعني بذلك دولة بروسيا، وزيادة على ذلك فإن حركة التحرير في ألمانيا كانت حركة وطنية موجهة ضد فرنسا، فلم يكن إذن ممكنا؛ بسبب هذه الحقائق التاريخية والسياسية أن ينشأ في ألمانيا ذلك الاتحاد في الجوهر بين الفكرة «الحرة» - الظفر بالحريات، والفكرة القومية أو الأهلية - إنهاء السلطان الأجنبي، أو اتباع سياسة تهدف لتحقيق مطالب وطنية (وقومية)، وهو الاتحاد الذي شاهدناه في إيطاليا، والذي كان يتمثل كذلك في «نظام» فرنسا، ولقد نجم من ذلك كله أن صار محتملا في ألمانيا ظهور آراء أو فكرات عن الوحدة أو الاتحاد مرتبطة بآراء أو فكرات «محافظة» في السياسة، وليس فقط بالمثل العليا «الثورية».
والنتيجة أن الفكرة القومية الألمانية قد صارت يتنازعها تيارات عديدة مختلفة، بل ومتناقضة في أحايين كثيرة، منشؤها لدرجة معينة ما طرأ من تبدل كثير على علاقتها بالآراء الفرنسية، وكذلك موقف «القومية» الألمانية من فرنسا عموما، ثم إن عناصر معينة في حياة ألمانيا لم يكن لها من ناحية المبدأ أية صلة بالفكرة القومية كالمسائل الاقتصادية، بل لقد ناضلت ضد الفكرة القومية ذاتها، وعلى نحو ما فعلت السياسة البروسية لم تلبث مع ذلك، وفي نهاية الشوط؛ أن وجدت أنها قد صارت متفقة مع الفكرة القومية، ثم اتضح أن هذه «العناصر» أو العوامل قد أسدت كذلك خدمة جليلة لفكرة القومية، وعلى ذلك فقد تعددت التيارات الذهنية والنظريات في ألمانيا، واختلفت هذه التيارات (والنظريات) عن بعضها بعضا، وكادت تكون أكثرها متناقضة، وذلك بصورة أكبر مما شهدناه في إيطاليا.
وفي ألمانيا - وكما حدث في كل مكان تقريبا وقتئذ - قام النضال بين السلطات المستبدة وبين أقسام المجتمع الألماني، التي نشد أهلها الحرية وعملوا من أجل الظفر بها، ولو أن النضال في ألمانيا كان عديم الجدوى بسبب التباين العظيم بين القوتين، عندما كانت الحكومات أكثر استعدادا وأوفر «تسلحا» لمجابهة أنصار الحرية، من الحكومات التي شهدنا مثلا نضالها ضد الأحرار والقوميين (أو الوطنيين) في إيطاليا، ثم إن هذه الحكومات الألمانية كانت تتلقى المساعدة من الخارج بفضل تأييد النمسا وروسيا لها، وذلك في حين أن «المزاج» الألماني كان أقل ميلا للنشاط والكفاح للظفر بمطالبه من «المزاج» الإيطالي، فمن المعروف عن الأحرار الألمان؛ أنهم لم يكونوا رجال فعل وعمل، بل كانوا رجال فكر ورأي؛ ولذلك فقد انعدم في ألمانيا ذلك الاندفاع نحو العمل الثوري الذي شاهدناه في إيطاليا، منفصلا كذلك أو مستقلا حتى عن الفكرة أو العقيدة السياسية ذاتها، ولقد بقي سواد الشعب في ألمانيا بعيدا كل البعد عن الحركات القليلة التي سوف نعرض لها، ولا يبدي حراكا، كما أضعف نضال الأحرار في المجتمع الألماني ضد الحكومات، وكان يسود هذا المجتمع من مصالح متضاربة ومنافسات شديدة، من ذلك مثلا؛ الانقسام القائم بسبب اختلاف المصالح والعقائد بين البروتستنت والكاثوليك.
فلم يكن لدى الحكومات الألمانية أية فكرة قومية، فيقول الوزير البروسي «ويتجنستاين» عن جمعيات «البورشنشافت»: إنها تريد تحقيق غرض واحد، هو «قتل الوطنية الصحيحة؛ للاستعاضة عنها بدولة ألمانية واحدة وغير مجزءة، ثم القضاء على الدول الألمانية المختلفة؛ لتسود مكانها الفوضى الثورية.» وتلك أقوال يتضح منها أن «الوطنية» في تفكير هذا الوزير البروسي، إنما هي متعارضة مع الوحدة الألمانية، أو أن الوحدة الألمانية لا يمكن أن تتفق مع الوطنية الصحيحة. ويعلن من ناحية ثانية مدير البوليس النمسوي سيد لنتزكي
Sed Lnitzky
أن فكرة «الألمانية» أو الجرمانية
Deutschtùm
فكرة شاذة، ولقد شاهدنا كيف أن الحكومات في السنوات التالية بعد 1815، عمدت إلى «تصفية» العنصر «الوطني» الذي أمد ألمانيا بالمحاربين القدامى، الذين تحررت البلاد بفضل جهادهم، وتحت هذه «التصفية» بكل سرعة، وفي خلال أربع أو خمس سنوات وحسب؛ وذلك لأن الحكومات في ألمانيا قد تخلت عن الروح الوطنية التي ظهرت في سنة 1813، وذلك بمجرد انتهاء حروب الخلاص والتحرير مباشرة.
وكان بفضل «مرسومات كارلسباد» في سنة 1819، والقرار النهائي للمؤتمر الذي انعقد في فينا، وصدر في 8 يونيو 1820، أن حصلت الحكومات على سلطات استثنائية تجعل في مقدورها إحكام رقابتها على نشاط الأحرار وتعقب هؤلاء الأخيرين ومطاردتهم، وتلك كانت قرارات اعتمد عليها البرنس «مترنخ» في فرض «نظامه» على ألمانيا، ولقد كان صارما حقا «نظام الرقابة» الذي فرضه «مترنخ» على كل ألمانيا، فالأمراء والملوك والحكومات بما في ذلك حكومة بروسيا، يطأطئون جميعا رءوسهم أمامه، ومن المحتمل أنه لم يكن يشذ عن ذلك، ومن وقت لآخر سوى إمارة أو دويلة واحدة، هي دوقية «ورتمبرج». فالحكومات إذن كانت في ظل هذا النظام تتمتع بقوة كبيرة لمحاربة الأحرار، والقضاء على حركاتهم، ونال مجلس الاتحاد (أو الدياط) سلطات استثنائية؛ حتى يتسنى له الإشراف الكامل على الموقف في بعض الإمارات أو الدويلات في هذا الاتحاد الألماني.
ولقد كان ممكنا بسبب هذا النظام أن يوجد ما يصح تسميته بمبدأ سياسة مشتركة أو عامة لهذا الاتحاد الكونفدرائي، أو أن يكون هناك على الأقل تنسيق لسياسة الحكومات المختلفة الألمانية بداخله، ولقد كان ممكنا الاعتقاد بأن اتساع السلطات التي أعطيت لمجلس الاتحاد (الدياط)، سوف ينتهي إلى إنشاء حكومة مركزية في ألمانيا، فلقد شوهد مندوبو الأمراء والملوك الألمان يجتمعون بالبرنس «مترنخ» في قصره القريب من جوهانسبرج
Johnnisberg
في مايو 1824؛ لوضع القرارات التي سوف يستصدرها «الدياط» للعمل بها في كل ألمانيا، ونصت هذه القرارات على سريان «مرسومات كارلسباد» مدة أطول، وعلى مطالبة الحكومات بمراقبة «المجالس» لمنعها من اتخاذ أي إجراء قد يلحق ضعفا بمبدأ الملكية، كما نصت على ضرورة اجتماع «الدياط» مدة أربعة شهور كل دورة، وحرمان الأهلين من الاشتغال بالسياسة.
على أن «التطور» الذي كان منتظرا حدوثه في هذه الناحية نحو إنشاء سياسة مشتركة هامة، وتنسيق نشاط وسياسة الحكومات المختلفة، وإقامة حكومة مركزية في ألمانيا، سرعان ما توقف؛ لسبب هام، هو أن القيصر إسكندر الأول لم يلبث أن توفي في ديسمبر 1825، وكان «مترنخ» قد استماله في أيامه الأخيرة لتأييده، فأضعفت وفاة القيصر مركز «مترنخ» وأنقصت من سمعته الخارجية، كما قللت من قدرته على العمل في الميدان الأوروبي؛ الأمر الذي جعل الحكومات الألمانية تتمسك «بمحليتها» بصورة صار يتعذر على «مترنخ» مقاومتها - وخصوصا في الجنوب - واعتمدت من الآن فصاعدا العناصر الرجعية على تأييد قيصر روسيا الجديد نيقولا الأول، أكثر من اعتمادها على «مترنخ»، ومع ذلك فقد كانت الحكومات عند عودة الخطر الثوري إلى الظهور مرة ثانية، متهيئة لقبول اعتداءات «السلطة المركزية» المتمثلة في الدياط أو مجلس الاتحاد، وذلك غداة الحركات الثورية التي قامت في كل أنحاء ألمانيا تقريبا في سنتي 1832، 1833، فكان الهجوم على الأحرار ومقاومة المبادئ الحرة، الفرصة المناسبة لتزويد عناصر التنسيق السياسي بنجدة أو قوة جديدة. وهكذا مرت ألمانيا وإن كان في نطاق ضيق، بنفس التجربة التي مرت بها أوروبا في سنة 1815، فقد تولدت فكرة العمل الأوروبي المشترك لمجابهة الخطر النابليوني - أي لمحاربة نابليون والقضاء عليه كلية - ولقد كان في ألمانيا أن تولدت فكرة العمل المشترك، ومثلما حدث في أوروبا؛ وذلك لمجابهة الخطر الثوري حين شعرت الحكومات الألمانية أنها بحاجة إلى التعاضد والتكاتف للوقوف في وجه هذا الخطر، وهكذا لم تكن فكرة تنسيق الجهود الألمانية، كما لم تكن فكرة العمل الأوروبي المشترك مرتبطة ارتباطا وثيقا بالنظرية أو المبادئ الحرة، بل كان مبعث تنسيق الجهود في ألمانيا وقتئذ هو محاربة هذه المبادئ الحرة.
وأيا كان الأمر، فإن هذه الحكومات لم تتوان لحظة في استقلال السلطات التي نالتها بفضل مرسومات كارلسباد (1819)، وقرار مؤتمر فينا (1820)، ففي ألمانيا الشمالية قام الحكم المطلق على غرار الحكم في كل من النمسا وبروسيا، بإنشاء نظام يعتمد على أساليب «السرية»، ووجود إدارة تفرض رقابة صارمة على موظفيها، في حين قامت في مجموعة أخرى من «الدول» في مواجهة الحكومة المجالس الإقليمية، وذلك في هانوفر سنة 1819، وفي مكلنبرج، وفي ساكس فاپمر، وفي أولد نبرج، وهذه المجالس الإقليمية الطبقية
Landstande
أو مجالس الحكومة، كانت تتألف من النبلاء الذين عليهم الموافقة على الضرائب، وضمان قروض الدولة، وكما هو واضح كانت هذه المجالس منظمة إقطاعيا، ولا تمت للمبادئ الحرة بصلة، فكان ممنوعا منعا باتا إذاعة ما يدور بداخل المجلس في هانوفر، واقتصر الأمر على نشر محاضر موجزة للجلسات، لم يكن يشتريها أو يقرؤها أحد لتفاهتها، وفي مكلنبرج احتفظ النبلاء في المجلس بسلطاتهم البوليسية والقضائية على الأهلين، وفي ساكس-فاپمر رفضت الحكومة الإدلاء بأية معلومات عن ماليتها أمام المجلس، وفي هس كاسل أعاد دوقها قوانين «النظام القديم»، كما أعاد موظفي الدولة وضباطها إلى الوظائف التي كانوا يشغلونها، والمراتب التي كانوا بها يوم طرده نابليون من دوقيته. وفي الجنوب في البلاد التي استصدرت الدساتير، لم يكن الدستور يحد من سلطان الحاكم شيئا، فيطيب غراندوق هس، درمستاد خاطر وزيره فرايهر فون دي تيل
Freiher Von du Thil ، الذي كان قد أزعجته مناقشات المجلس، فيتساءل عن أهمية هذه المناقشات «عندما كان لا يحدث شيء على غير إرادته هو»، ويتساءل عما يستطيع المجلس أن يفعله بالوزير «بغير موافقته هو»، في حين يؤكد الغراندوق لوزيره أنه لن يتخلى عنه أبدا! ولقد استمر غراندوق هس درمستاد يحكم حتى سنة 1830، وفي «بادن» كان الغراندوق لويس الأول الذي حكم كذلك حتى سنة 1830 ضابطا بروسيا، لا يعرف غير النظام العسكري، فلم يسمح - وعلى نحو ما كان متوقعا - أن يكون «للمجلس» أي إشراف أو نشاط جدي في إمارته. وفي نساو وكان حاكمها غليوم الأول، الذي استمر يحكم حتى سنة 1839، رجلا عنيدا، سلم زمامه مع ذلك لوزير لا ضمير له، هو وانجنهايم
Wangenheim ، ثم أقام حكما مركزيا ثقيل الوطأة في بلاده، وانطلق منذ اللحظة الأولى يناضل بعنف ضد النواب في المجلس، وفي «ورتمبرج» استمر وليم الأول يحكم من 1816 حتى سنة 1861، وكان مثقفا مستنيرا، يريد أن يلعب دورا ملحوظا في ألمانيا، دون أن تكون لديه العزيمة الصحيحة لفعل ذلك، وعول على الاستفادة من حقيقة أن زوجه الثانية كاترين كانت شقيقة القيصر إسكندر الأول.
ومع ذلك فقد كان وليم أفضل الحكام الآخرين من حيث القدرة على إدارة شئون الحكم، ثم إنه عرض في سنة 1820 تحت عنوان «مخطوط من ألمانيا الجنوبية»
10
نظرية تهدف إلى إخراج - استبعاد - كل من بروسيا والنمسا من نطاق القوى الألمانية الصحيحة، فقال: إن ألمانيا الصميمة إنما تتألف من الدوقيات القديمة الواقعة إلى الغرب من نهر الألب وحسب، وأن بروسيا والنمسا إنما هما دولتان أجنبيتان عن ألمانيا، وأن من الواجب أن تنال الدول أو الحكومات «القديمة»؛ الواقعة إلى الغرب من نهر الألب سلطات مساوية لما تتمتع به بروسيا والنمسا داخل الاتحاد الألماني، فنحفظ التوازن بين القوى في ألمانيا، ويتسنى بفضل ذلك «تثليث» ألمانيا؛ أي إنشاء دولة من ثلاث وحدات سياسية بها
La triade ، ولقد ظهرت آراء مشابهة لهذه بعد حوادث الثورة التي قامت في سنة 1848، بل إن وليم الأول لم يلبث أن استطاع بفضل اعتماده على تأييد الحكومات الألمانية في الدول الصغيرة، أن يجعل «الدياط» في سنتي 1820، 1821 يتخذ قرارات بترتيبات كفلت استقلال جيش الاتحاد عن نفوذ الدولتين الكبيرتين؛ النمسا وبروسيا، ولكن هذه الرغبة في القيام بدور ملحوظ في سياسة ألمانيا، سرعان ما وقفت عندما أظهرت بروسيا والنمسا كدرهما وأرغمتا الملك (1823) على طرد وزيره «وانجنهايم»، وتغيير قانون المطبوعات في مملكته. وأما في بفاريا فقد كان لويس الأول صاحب الحكم بها منذ 1815 حتى سنة 1848، وكان لويس يتظاهر بأنه ملك حر، وألماني صميم، وكان معنى الألمانية الصميمة والخالصة في نظره؛ أن تكون البلاد - ألمانيا - مطهرة من اللوثرية، ومن آثار حركة «التعقلية»، وأن تعود إلى ما كانت عليه خلال العصور الوسطى؛ أي مفعمة بفكرة الوطن المشترك، ويملأها شعور الاحتقار والكراهية لكل من النمسا وبروسيا، ومع ذلك فقد كان لويس صاحب آراء مبهمة وغير محددة، ولم يكن مستقر الرأي بالرغم من نواياه الطيبة، بل إنه كان به بعض الجنون الذي أخذ يتفاقم كلما تقدمت به السن. ولقد حكم لويس بفاريا حكما أوتقراطيا صارما إلى الوقت الذي ادعى فيه أنه يدين بمبادئ الأحرار. وشهدت بفاريا بعد سنة 1832 خصوصا أقسى أنواع القمع والإرهاب، وكان المبدأ الذي استرشد به الملك «أنه لمن الأفضل كثيرا أن يحول المرء دون وقوع الجريمة، بدلا من أن يترك الناس يلقون بأنفسهم في مهاوي التهلكة.» وفرض لويس لذلك رقابة شديدة على رعاياه؛ ليمنعهم من الإثم، ومن الصفات التي تميز بها هذا الملك اعتقاده أنه فنان ملهم، فلم يكن يريد حوله غير أصحاب الوجوه الجميلة، وقد وجد هؤلاء من بين ممثلات ومغنيات دار الأوبرا في «ميونخ» عاصمة ملكه، وأراد أن تصبح «ميونخ» ذات جمال فني عظيم، فشيد بها المباني الكثيرة، ومن هذه مدرسته للهندسة والرسم، وغيرت هذه المباني مظهر العاصمة.
أما سياسة هؤلاء الأمراء الألمان، فإنها قد جعلت الشعور المحلي يزداد قوة على قوته، وفصلت «الإقليمية» بين كل حكومة أو دولة وأخرى، حتى باتت كل واحدة من هذه الحكومات تعيش فيما يشبه العزلة التامة عن أخواتها، ثم إن سياسة هؤلاء الحكام «المحليين» عمدت إلى استبعاد كل السكان، حتى النخبة المثقفة من بينهم من الحياة السياسية بكافة مظاهرها. (4) أيدولوجية
11
الرجعية (4-1) مدرسة التقاليد
ولقد كان مما جعل هذه الحكومات «المحلية» والرجعية في ألمانيا، أشد قوة وتصميما على المضي في طريقها، في مكافحة الحركات الدستورية والقومية، أنها صارت تستند الآن كذلك على نوع من «الأيدولوجية»، أو التصوير الفكري لمثل عليا معينة تستهدف تحقيقها، كانت من نتاج المدرسة الرومانسية (الرومانتيكية)، ثم صار يقوم في اتجاهين، كفلت أحدهما المدرسة التقليدية من ناحية، ثم كفلت الآخر الفلسفة الهيجلية من ناحية ثانية.
أما مدرسة التقاليد
12
في ألمانيا، فقد كانت تشبه كثيرا المدرسة التي كان من أعلامها في فرنسا؛ الفيلسوف الديني جوزيف دي ميستر
Maistre (1753-1821) مؤيد العلاقات مع كنيسة روما ، ثم الفيلسوف الآخر الماركيز لويس دي بونالد
Bonald (1754-1845) مؤيد مبادئ الملكية والدين، كما استوحت مدرسة التقاليد في ألمانيا بعض آرائها من تعاليم هذه المدرسة الفرنسية.
سافيني
Savigny
ولقد زودت النظريات التي أتى بها عالم القانون الألماني فردريك كارل فون سافيني (1779-1861)، وأستاذ تاريخ القانون بجامعة برلين، هذه المدرسة التقليدية الألمانية بالأساس القانون الذي استند عليه تفكيرها، عندما جعل «سافيني» القانون يعتمد على التاريخ، ولا يستمد أحكامه من الفعل والفكر وظواهر «وقوانين» الطبيعة. وفي سنة 1815 أسس «سافيني» بالاشتراك مع قانوني آخر: إيشهورن
Eichhorn
مجلة لعلم تاريخ القانون، وكان في رأي «سافيني» أن روح الشعب
Volksgeist
هي العنصر المبدع في القانون - أي مبدع القوانين - كما أنها - أي روح الشعب - هي العنصر المبدع الذي أوجد اللغة والعادات والتقاليد، وتتجسد «روح الشعب» هذه في شكل الدولة؛ أي إن الدولة هي الشكل الخارجي والظاهري الذي تتخذه «روح الشعب»، وفي الدولة فقط أي عند تكوينها، يكون الشعب قد بلغ شخصيته الصحيحة، أي صار يحققها، ثم بلغ القدرة على العمل؛ ولذلك «فالدولة» هي التي تؤمن بقاء «الجنس»؛ أي الأقوام الذين تتألف هي منهم، والدولة تختلط بالتقاليد؛ أي لا يمكن فصلهما بعضهما عن بعض، من حيث إن التقاليد لها القدرة على الخلق والإبداع، ومن الواجب تسليم الدولة لهدم القوى «الفردية»، وهي قوى «تشتيتية» متعارضة مع حاجات التنظيم الاجتماعي؛ وذلك لأن مبعثهما الصالح الفردي، والكبرياء والتفكير الفردي كذلك، ولقد وضع «سافيني» مؤلفا في سنة 1814 بعنوان؛ نداء أو دعوة العصر الذي نعيش فيه للتقنين والتشريع،
13
يرد فيه على المتفقهين «التعقليين»، وعلى الخصوص؛ القانوني العظيم ثيبو
Thipaut - من هيدلبرج - الذي دعا لجمع القوانين الألمانية، واستصدار مجموعة للقوانين المدنية على غرار «القانون الفرنسي» - وعلى أن يقوم هذا «القانون المدني» الألماني على مبادئ القانون الطبيعي، وكان غرض «ثيبو» استصدار مجموعة للقوانين؛ ألمانية، وطنية، تنصهر فيها كل مجموعات القوانين الخاصة في ألمانيا، ولما كانت قد طرحت بالفعل للمناقشة والبحث مشروعات لجمع القوانين وتوحيدها.
فقد انبرى «سافيني» في مؤلفه السالف الذكر، يدحض حجة القائلين بتوحيد القوانين عموما، ووضع مجموعة «وطنية» لها في ألمانيا، أو في غيرها من البلدان، باعتبار أنه لا ينبغي الحكم على أية أنظمة من غير البحث قبلا في أصولها - وفي ذلك كان «سافيني» متفقا مع «مونتسكيو» صاحب «روح التشريع»،
14
وباعتبار أن تاريخ «وطبيعة» أي شعب من الشعوب يرفضان حدوث التغييرات المناخية والعنيفة، وفي ذلك كان «سافيني» متفقا مع الفيلسوف الإنجليزي إدموند بيرك
Burke ،
15
فطفق «سافيني» يدلل على أن القانون إنما هو شيء حي، مثله في ذلك تماما مثل اللغة، فالقانون يبرز إلى عالم الوجود من حياة الشعوب أنفسها، ثم إنه ينمو بنموها، ولا يلبث حتى يفصح عن أثره تلقائيا في إيجاد نوع «الأنظمة» السائدة في بلد من البلاد، والتي ليست من فعل وترتيب القوانين والتشريعات المستصدرة، فالعادات والتقاليد هي أصل القانون، وتلك العادات والتقاليد إنما تنشأ من الغرائز الأساسية للأمة وتنمو لا شعوريا، ودون مجهود ما؛ أي إن القانون في نظر «سافيني» علم تاريخي، وليس من علوم الفلسفة.
ولقد ترتب على نشر آراء «سافيني» هذه أن تأجل مشروع توحيد القوانين واستصدار مجموعة واحدة لها «وطنية» في ألمانيا، على أن كتاب «سافيني» قد أحدث أثرا باقيا - وسواء كان هذا نافعا أم مؤذيا - يفوق في أهميته ما أدركه من نجاح مباشر، فلقد ضحى «سافيني» حريات الأجيال الحاضرة على مذبح تقاليد الأجيال الغابرة، وفاته أن الأمم المتحضرة لا تنفك تدخر محصولا أوفى من الآراء والفكرات التي يأخذ بها المجتمع عامة، وأن هذا المحصول من الآراء والفكرات العامة لا ينفك هو الآخر يزيد زيادة مستمرة، ثم فاته كذلك أن هناك فائدة عملية في التخلص من وقت لآخر، بطائفة من القوانين التي تكون تافهة أو مهوشة ... إلخ، ثم في تبسيط وتحديد وتنسيق طائفة أخرى، ثم إن «سافيني» في نظريته عن القانون - كشيء أو كائن حي - قد جرد الشعوب من استصدار القوانين، في نفس الوقت الذي أعلن فيه أن الشعوب هي وحدها مشرعة هذه القوانين، وفاته أن القانون في مراحل حياة الأمة الأولى لا يعدو أن يكون نموا لا شعوريا، ولكن مما لا شك فيه أن الشعوب عند نضجها هي التي تسن القوانين بمحض اختيارها وملء إرادتها، ومع ذلك وبالرغم من أن «سافيني» كان عدوا للحرية السياسية، فقد كان للآراء التي نادى بها أكبر الأثر في دفع دراسة التاريخ خطوات كبيرة، ذلك من جهة، بتقريب فكرة النمو والتطور العضوي - في قوله: إن القانون كائن حي - إلى أذهان الناس، ومن جهة أخرى بتأكيد اضطراد حوادث التاريخ في سلسلة متصلة مستمرة. وأخيرا؛ يجعل انتباه الناس ينتقل من تتبع الأدوار التي تلقيها الحوادث في الظاهر، إلى استقصاء العوامل الأدبية الروحية والعقلية الذهنية، ثم «الأنظمة» القائمة عليها الحياة الأهلية - حياة الشعوب ذاتها - والتي تشكلت بسببها جميعا هذه الحوادث، وارتدت في أصولها إليها، ولقد كانت مرحلة جديدة في تاريخ الفكر في أوروبا، تلك التي بدأها «سافيني»، عندما أقام الحجة على أن «القانون الروماني» كان نتاج نمو وتطور اقتضى قرونا عديدة، ويحمل في كل جنباته طابع الأنظمة الحكومية والتقاليد الرومانية، ولم يكن مجرد تطبيق نظرية «الحق الطبيعي» تطبيقا «عمليا» أي على شئون الحياة اليومية العادية.
هالر
Haller
وإلى جانب «سافيني» كان المفكر والمؤرخ الألماني السويسري «كارل لدويج فون هالر» أحد أعلام المدرسة التقليدية، بل كانت هذه المدرسة تعتمد عليه أكثر من اعتمادها على «سافيني» في التعبير عن آرائها ومعتقداتها، كان قد اضطر إلى مغادرة موطنه برن
Berne
بسبب ثورة جامحة قامت بها، فعاش في المنفى إلى أن عاد إلى «برن» ثانية في سنة 1806؛ ليصبح أستاذ القانون العام في جامعتها، ولقد أخذ هو في المنفى يفكر في المشكلات السياسية السائدة في وقته، والتي أوجدت التجارب التي مر بها هو نفسه، فلم يلبث أن استكشف قبل عودته من المنفى، الأسباب العميقة المسئولة على الاضطرابات والقلائل السائدة، وكانت تلك في رأيه مردها إلى قبول الفكرة الذائعة بين الشعوب المتحضرة، بأن منشأ السلطة التي يمارسها فرد على فرد آخر، إنما هو رضاء الفرد الخاضع الذي يمنح هذه السلطة بمحض اختياره وإرادته ذلك الذي يمارسها عليه، وتلك فكرة خاطئة أو خطيرة، تبدو بكل أشكالها في نظرية «العقد الاجتماعي » المعروفة، رأى «هالر» من واجبه أن يهدمها؛ حتى لا يعود يأخذ بها أصحاب الفكر السليم، فبدأ لتحقيق هذه الغاية ينشر مؤلفه الضخم عن «رد العلوم السياسية إلى أصولها، أو نظرية الدولة الاجتماعية الطبيعية في معارضة أوهام الدولة المدنية الاصطناعية»،
16
وهو من ستة أجزاء كبار، ظهر أولها في سنة 1816، ثم ظهر آخرها بعد ثماني عشر سنة (1834).
وفي رأي «هالر» كانت القوة هي منبع القانون وليس «القانون» في حقيقة أمره، سوى الحماية التي ينشدها الضعفاء من الأقوياء الذين يسلمونهم - أي لهؤلاء الأقوياء - حق التصرف في مصيرهم على نحو ما يحدث في الأسرة، والمحلة أو القرية، ثم على نحو ما يحدث في «الدولة» تقليدا كما هو واقع في الأسرة والمحلة، ومن نمطه. ولقد وجد «هالر» شبها كاملا بين التملك وممارسة السلطة، ثم عمل لإقامة الحجة على وجود هذا التشابه - فقال: إن التملك أو الملك والسلطة كليهما - صاحبه مزود بالقدرة على استخدامها في وجوه صالحة، أو إساءة استخدامها، ولا يحد من سلطة الأمير سوى شيء واحد فقط هو الاحترام الذي يجب أن يشعر به نحو أصحاب السلطة الآخرين، وهؤلاء هم النبلاء و«النقابات»، وليس «الرعية» سوى مستأجرين عابرين، وفي مقدور «الدولة» البقاء بدونهم، ولا تعدو مهمتها ملء الفراغ الذي يحصل بذهاب هؤلاء الرعايا الذين لا حول ولا قوة لهم بأناس غيرهم، فالأفراد في نظر «هالر» ليسوا مواطنين، ولا يحق لهم بحال من الأحوال التدخل في شئون الدولة، الدولة التي هي ملك يمين الأمير، والتي يدبر الأمير شئونها بواسطة «خدمه». فجاء مؤلف «هالر» بمثابة «الاعتداء» الذي يحاول به صاحبه تسويغ وجود أرستقراطية غبية وذات كبرياء، يعتقد أنها فعالة للخير، وفي وسعها فعل هذا الخير للطبقات الدنيا، والتي هي أقل منها مرتبة في السلم الاجتماعي، على أن «هالر» بإظهاره أن السلطة شيء طبيعي وليست اصطناعية، إنما قد زود في رأي كثيرين في آخر الأمر «بالمسوغ» الذي وجد فيه الثوريون أنفسهم بعد ذلك ضالتهم؛ لتبرير نشاطهم استنادا على المبادئ ذاتها التي جاء بها «هالر»؛ والتي لم يكن في وسعه أو في وسع معاصريه إدراك مدى تشعب آثارها. ونعني بذلك أن النتيجة الخالصة لكل التغييرات التي حصلت في أوروبا، كانت استيلاء طبقات معينة في المجتمع - ومنذ منتصف القرن التاسع عشر خصوصا، الطبقة المتوسطة (البورجوازية) - على كل أسباب السلطة، وهي التي لم يكن هناك معدى أن تكون من نصيب هذه الطبقات ذاتها، باعتبار أن السلطة - حسبما نادى به «هالر» - كانت حقا «طبيعيا» لهم؛ بسبب أنهم متفوقون في كل نواحي القوى الخلقية والذهنية والاقتصادية على أهل الطبقات الأخرى.
ولقد كانت هناك «نظريات» أقل صرامة وضيقا في الأفق، وأقل رجعية من النظريات التي نادى بها «هالر»، أما أصحابها فيعرفون باسم أنصار «الحقوق التاريخية»، وهم الذين يعترفون فقط بالحقوق السياسية والمؤسسة على العادات؛ أي تلك التي جرى بها العرف، وأقرت التقاليد ممارستها، ثم هم الذين ينتهون لذلك إلى ضرورة إعادة إنشاء مجالس الدولة، التي يرجع تاريخها إلى العصور الوسطى أو تأييد القائم منها فعلا، وكان «نيوبور» - بارتولد جورج نيوبور - الذي ذكرناه مرارا، والأستاذ بجامعة بون، وصاحب تاريخ روما،
17
أهم أعلام هذه المدرسة - مدرسة الحقوق التاريخية - إطلاقا.
وهكذا يستبين مما ذكرناه عن هذه النظريات؛ أن أصحابها من أعلام «المدرسة التقليدية»، قد أضفوا صفة الشرعية القانونية، على موقف «الأمراء» والحكام الرجعيين؛ من أجل المحافظة على سلطات هؤلاء الكاملة، والحد بصورة صارمة من حريات أو حقوق وامتيازات طبقة النبلاء، في حين لم يكن للفرد العادي في نطاق هذه النظريات أية حقوق أو حريات. (5) إيدولوجية الرجعية (5-1) فلسفة هيجل
على أن الفلسفة الهيجلية كانت أبلغ أثرا وأكبر أهمية في هذه الناحية «الإيدولوجية» من نظريات مدرسة التقليديين التي شاهدناها.
وعاش جورج فلهلم فردريشي هيجل من سنة 1770 إلى سنة 1831، كان مولده في مدينة شتوتجارت
Stuttgart (في 27 أغسطس)، درس اللاهوت بجامعة توبنجن
Tubingen ، كما تابع دراساته وبحوثه في سويسرة «برن»، ثم في ألمانيا ثانية «فرانكفورت»، وذلك بعد تخرجه من الجامعة (منذ سنة 1793)، فدرس الفلسفة - فلسفة شيلنج
Schelling - التي سرعان ما انتقل إلى غيرها؛ ليبني فلسفته الخاصة «الهيجلية» في النهاية، وشغف بدراسة التاريخ والسياسة . وفي سنة 1801 تعين مساعد أستاذ بجامعة «يينا»، ثم صار مديرا لثانوية نور مبرج
Nuremberg
منذ نوفمبر 1808، وبقي يشغل هذا المنصب حتى تعين أستاذا بجامعة هيولبرج في سنة 1816، ثم ما لبث حتى شغل كرسي «فيشته» بجامعة برلين سنة 1818، وظل يحاضر في هذه الجامعة حتى أدركه الموت بعد ثلاثة عشر عاما (14 نوفمبر 1832).
وأثناء اشتغاله بالتدريس، عمل «هيجل» رئيس تحرير «لجريدة بامبزج»
18
من مارس 1807 إلى نوفمبر من العام التالي. وكان «هيجل» يعجب إعجابا كثيرا بالإمبراطور نابليون، الذي خضعت آنئذ ألمانيا لسلطانه، وطوال هذه السيطرة النابليونية في ألمانيا، استمر «هيجل» متعاونا معها، حتى إذا قامت حرب التحرير في سنة 1813 وقف «هيجل» منها موقف المزدري لها والساخر بها. وفي سنتي 1814، 1815 صار «هيجل» يدعو لتأييد الحكم المطلق، فهو عندما يتكلم عن «خلاص الوطن»، إنما يعني تحرير «سيادة» الأمراء، وخلاص هؤلاء من السيطرة الأجنبية، واستمتاعهم بكامل حقوق السيادة العليا. وانحاز «هيجل» - وعلى نحو ما كان منتظرا - إلى مقاومة كل النظريات «الحرة» و«الثورية»، فنشر في سنة 1817 كراسة يدافع فيها عن سياسة فروريك الأول ملك ورغيرج (من 1801-1816)، الذي كان قد دخل في نضال عنيف مع «مجلس الطبقات» في بلاده، ثم إن «هيجل» لم يلبث بعد قليل أن تصدى للدفاع عن «مرسومات كارلسباد»، ولقد كان بسبب آرائه هذه «المحافظة» أن دعته الحكومة الروسية ووزيرها ألتنشتاين
Altenstein
لشغل كرسي «فيشته» بجامعة برلين، على نحو ما سبق ذكره. وقد بدأ «هيجل» يلقي محاضراته بها منذ أكتوبر سنة 1818.
وعندما التحق «هيجل» بجامعة برلين، كان قد نشر طائفة من المؤلفات التي تعتبر أساسية في وضع أركان فلسفته، ولفهم هذه الفلسفة، فنشر في سنة 1807 «ظواهرية الروح»،
19
وفي سنة 1812 «علم المنطق»،
20
أو المنطق الكبير، وفي سنة 1817 «موسوعة العلوم الفلسفية»،
21
ثم في سنة 1820 «مبادئ فلسفة القانون»،
22
ولقد نشر تلاميذ «هيجل» بعد وفاته عددا من الدروس التي ألقاها بجامعة برلين.
وكان «هيجل» في جوهر تفكيره ميتافيزيقيا، بل يعتبر من أعظم أعلام الميتافيزيقية - المختصين بعلم «وراء المادة»، أو إدراك الأشياء بشكل أفكار - ليس في ألمانيا وحدها، بل في العالم أجمع ، ونحن وإن كنا لا نستطيع بحث الفلسفة الهيجلية في هذه الدراسة، فقد كان لا يكون هناك معدى عن تناول بعض نقاط متصلة بالتاريخ الذي ندرسه؛ أولها: أن «هيجل» كان في معرفته «موسوعيا»، «نظاميا» في آن واحد، فهو واسع المعرفة بكل تطورات العلوم - كل العلوم - في عصره، وبكل ما أنتجه الفكر في الماضي والحاضر على السواء، وهو يهتم بتركيز حاصل هذه المعرفة من نتاج العلم والفكر؛ ولذلك فقد كان «هيجل» مرتبطا بالواقعية الوضعية، ولم يقم نظامه الفلسفي على الفكرات أو المعاني المجردة، وفضلا عن ذلك فقد كان «هيجل» جيد الإلمام بمختلف التيارات والأحداث السياسية في عصره؛ ولكن «هيجل» - كما ذكرنا - كان قبل كل شيء «ميتافيزيقيا»، ينقل الواقعية الوضعية إلى عالم الفكر والتصور الذهني، ثم إنه بتبديل موضعها أو تغييرها، لا يلبث أن يدخلها في نظام تحتل بمقتضاه هذه الواقعية الوضعية مكانها في عالم وراء المادة أو الفكر المجرد.
وأما الذي يعنينا من فلسفة «هيجل» وتفكيره، فهو شيئان؛ فلسفته للتاريخ،
23
ثم فكرته عن العلوم الاجتماعية ونظريته عن الدولة. وفيما يتعلق بفلسفة التاريخ، لم يكن «هيجل» يبغي نضالا ضد الحقائق الواقعة والأحداث، بل كان للفلسفة في نظره مهمة معينة، هي تفسير «الواقع» فعلا تفسيرا يقبله العقل والفهم؛ لأن «الواقع» فعلا إنما هو «العقل» المتحقق؛ بمعنى أن كل شيء في الوجود، سواء كان حادثة جرت أو جزءا من أجزاء الكون نفسه، قابل لأن يفسر بالعقل المفكر؛ أي إن له سببا وله غاية، ولا يمكن أن يكون «للمصادفة» أثر في حصوله أو وجوده، وليس «التاريخ» إلا «الضمير العالمي والحكم»، الذي لا معدى عن صدوره في صالح أو في غير صالح شعب من الشعوب أو فرد من الأفراد، فلا يسجل «التاريخ» نجاحا ونصرا إلا لأولئك الذين يحق لهم هذا النجاح والنصر، فلقد تخلى النصر عن نابليون، وهو الذي كان موضع إعجاب «هيجل» الشديد، كما تخلى عن تأييد الآراء الفرنسية، فوجب لذلك عدم الارتباط بهذه الآراء؛ لأنها قد انتهت وفنيت، ولم يحرز المنتصرون النصر الذي نالوه مصادفة ، بل إنهم يستحقون لهذا النصر من واقع أنهم أحرزوه فعلا، «فالشعب الذي يمثل ويغير «في حياته ونشاطه» عن نمو أو تطور الفكر في لحظة أو مرحلة معينة، يملك ضد الشعوب الأخرى حقا مطلقا (في الغلبة عليها)، في حين لا يكون لهذه الشعوب الأخرى أية حقوق ضده، أما الشعوب التي مضى وقتها، فلا مكان لها بعدئذ في تاريخ العالم.»
وواضح أن هذه النظرية مضادة للنظرية العلمانية للتاريخ التي ظهرت في القرن الثامن عشر، ثم هي مضادة في الوقت نفسه للنظرية المسيحية؛ أي إنها بمثابة رد الفعل ضد الصورة التي فهم بها القرن الثامن عشر التاريخ كأنه من شئون الدنيا، باعتبار أن قابلية الإنسان غير المحدودة للكمال هي القوى المحركة للتاريخ. ثم هي - أي النظرية الهيجلية - بمثابة رد الفعل كذلك ضد التاريخ، في معناه الديني؛ أي ارتهان الحوادث بمشيئة الإله لأسباب وغايات قدسية محضة، على نحو ما قال به القديس أوغسطين من آباء الكنيسة، وأكثرهم شهرة (354-430)، والأب بوسويه
Bossuet
الواعظ الديني الفرنسي المعروف (1627-1704).
وقد افترض هذان وأضرابهما أن الإنسان لا يمكن أن يسفر نشاطه إلا عن الهدم والعدم، وكلا هاتين النظريتين؛ نظرية فلاسفة القرن الثامن عشر، «المتفائلين» الذين وضعوا ثقتهم في قدرة الإنسان على بلوغ الكمال لإمكان تقدم البشرية، ونظرية فقهاء الدين المتشائمين الذين ذكرناهم، والذين رأوا في نشاط الإنسان المعول الذي يهدم البشرية ويفسدها - نقول: إن هاتين النظريتين كلتيهما، لم تكونا النظريات التي أتى بها «هيجل»؛ لأن «هيجل» لم يقسم التاريخ إلى تاريخ «دنيوي» وتاريخ «مسيحي»، بل كان يرى في التاريخ السياسي تأريخا لمراحل تقدم الروح
Geist
وهي تجاهد للارتقاء إلى معرفة الشيء في ذاته، فالتطور والنمو - وذلك هو التعبير الذي يستعيض به «هيجل» عن القابلية للكمال - إن هو إلا تطور أو نمو الروح، والروح تشمل العام والخاص المتفرد متحدين مع بعضهما بعضا، وأما آثار هذا النمو أو التطور الأولى، فهي التي تتضمن قسرا، وبحكم جوهرها كل التاريخ، وذلك عندما كان تتابع الأحداث في نظر «هيجل» ليس إلا كشفا عن «الروح» العامة أو الشاملة، فيقول: «إن شيئا لم يفقد في الماضي؛ لأن الفكرة موجودة أو قائمة والروح خالدة.»
وأما العناصر التي يتألف منها التاريخ، فهي الدولة
der Staat
المظهر الأرضي أو الدنيوي للفكرة الاجتماعية الخلقية، وهي - أي الدولة - التي تقوم على مبدأ روحي، يعبر عن أعلى درجات الرقي التي بلغها في كل أوقات التاريخ، هذا الروح المقدس والمتغلغل في العالم، ولو أن الدولة «لم تكن تعبر تعبيرا كاملا عن هذا الروح المقدس»، فكان هذا «النقص» إذن هو سبب سقوطها، ومهمة التاريخ الجوهرية حينئذ، ليست سوى تمييز المبدأ الروحي المحرك لحياة الدول، التي استطاعت في أوقات معينة السيطرة على العالم.
وهذه الآراء ترفض التسليم بنظريات القائلين بوجود المجتمعات «البدائية التي فطر فيها الإنسان على فعل الخير، ولكن لم تلبث الحضارة أن أفسدته»؛ وذلك كما جاء في تفكير «روسو» وفلاسفة القرن الثامن عشر، كما أنها ترفض النظرية الكاثوليكية التي قالت بأن طهارة الإنسان وانفطاره على الخير عند مولد الجنس البشري يسبقان الإثم والخطيئة الأولى، وهذه الآراء التي جاء بها «هيجل» ترفض كذلك تفسير التاريخ «بالمصادفات»، فإن الأحداث التي تقع مصادفة، لا تلبث في رأيه أن يزيل كل منها أثر الآخر، ثم إن «هيجل» يرفض كذلك الاعتراف بأن «إرادة» البشر عامل محرك لأحداث التاريخ؛ لأن الفعل الإنساني إنما هو بمثابة نقطة البداية لنتائج متمثلة في أحداث متوالية لا عدد ولا حصر لها، ولا يمكن بحال أن يعتبر أصحاب هذا الفعل الإنساني الأصليون مسئولين عنها، وعلى ذلك فقد وجدت نظرية «هيجل» مسوغا «للماضي»، باعتبار أن العالم الواقعي إنما هو قائم بمقتضى ما يجب أن يكونه، وأن الروح العام القدس يجب أن يحقق ذاته، وواضح أن هذا المدرك الذي يسوغ الأوضاع - كما قامت في الماضي أو كما هي قائمة في الحاضر - لا يرفض احتمال وجود «الحركة»، فالنمو والتطور مستمران؛ لأن «الروح» تسعى بجد دائما للانتصار على ماضيها.
وفي رأي «هيجل» أن تاريخ العالم يمر في أدوار عظيمة ثلاثة، تمثل درجات ثلاثة من «الحرية»، التي يقصد بها هنا قدرة الروح على تقرير الإرادة الداخلية لفعل شيء، وليس الحرية «الخارجية» الظاهرية «والمادية». أما الدور الأول فهو الذي تميز بوجود الدولة أو الحكومة الاستبدادية في العالم الشرقي القديم، حيث لم يكن يتسنى أن يقوم بها غير نوع واحد من الحرية، حرية الطغاة الذاتية والمؤسسة على خضوع كل الآخرين له، وأما الدور الثاني، فهو العهد اليوناني الروماني الذي تسود فيه الحرية الخارجية أو الظاهرية التي «للمواطن»، وهي حرية مستندة على القانون، ولكنها لا تعدو أن تكون نتاج عملية استخلاص من «الروح»، منفصلة من الطبيعة؛ ولذلك فهي شكل غير كامل للحضارة؛ أي يعوزه الكمال. وفي الدور الثالث، الذي سماه «هيجل» بدور «الحضارة الجرمانية المسيحية»، تنبت «الحرية الداخلية أو الباطنية»، التي يتمتع بها الأفراد «المسيحيون»، والتي كان دور «الجرمانية» بها نقل مبدأ هذه الحرية الداخلية إلى عالم الحقيقة السياسية؛ وذلك لأن الجنس الجرماني بسبب تقاربه من الروح المسيحية أو اتحاده بها، ينبغي اعتباره شعب الله المختار من بين شعوب العالم قاطبة، وأما الأجناس أو الشعوب اللاتينية، والديانة الكاثوليكية، فقد ارتكبت خطأ عندما جعلت الضمير مزدوجا، وأوجدت جماعتين أو حزبين؛ أحدهما يتألف من العناصر الدينية وأهل التقوى والورع، والآخر من دعاة القانون، الذين يمثلون بمعنى آخر المصالح الدنيوية (العلمانية)، فكان مارتن لوثر، والترودتستنتية هما وحدهما اللذين مزجا هذين المدركين؛ الروحي والعلماني في بعضهما بعضا؛ للظفر بمدرك واحد، ولقد تسنى «لهيجل» - لاعتقاده بصفاء ونقاوة الطبيعة الجرمانية الداخلية - أن يسلب أو يذيب في مزيج واحد الموضوع الفردي الشخصي، والروح المطلق، الدين والقانون، الجماعة الدينية والجماعة السياسية؛ فالجنس الجرماني هو الجنس الذي يملك كل الصفات الطبيعية التي تجعل في مقدوره تلقي كل إلهامات أو إيحاءات «الروح» في أعلى مراتبها.
وعندما أوضح «هيجل» مفهومه الذي ذكرناه عن التاريخ وعن الحضارة، جاءت «فلسفته للتاريخ» هذه بمثابة المسوغ، الذي يضفي صيغة الشرعية على «السياسات» - الرجعية - السائدة و«الناجحة» وقتئذ في ألمانيا وفي غيرها من البلدان، على أن الذي يجب ذكره أن هذه «الفلسفة» كذلك قد زودت بالأمل - من ناحية ثانية - أولئك الذين لم يكونوا راضين عن الأوضاع القائمة، وينشدون التغيير السياسي بكل الوسائل.
وفي ميدان العلوم الاجتماعية، كانت آراء «هيجل» تختلف اختلافا شديدا عن الآراء التي كانت سائدة في أوروبا حتى هذا الوقت، فمن المعروف أن العصر الذي عاش فيه «هيجل» قد شهد رواج العلوم الدينية، وتاريخ القانون، وتاريخ الفن، ولو أن هذه جميعها عند تشكيلها كانت تعنى بدراسة «وقائع» هذه المواد وحسب، ولقد كان في هذا العصر أيضا أن تقدمت دراسة علم النفس الذي أسسه «الإيدولوجيون»، وصار يعتبر عاملا جوهريا في دراسة الفلسفة، وأضحى كالفلسفة نفسها «علما» بذاته، وكانت كل هذه العلوم منفصلة عن الأخلاق والدين والفلسفة، باعتبار أن هذه علوم قياسية تقرر معايير معينة، أما هيجل فإنه لم يفرق بين علوم اجتماعية وأخرى معيارية أو قياسية، فكان يرى في كل هذه العلوم أشكالا ضرورية، تبرز فيها حياة الروح، ويبذل قصارى جهده للوقوف على معاني هذه الحقائق الروحية؛ ولذلك فقد اتخذ «هيجل» موقفا معارضا من مختلف النظريات التي ظهرت في القرن الثامن عشر، والتي كان يرى دعاتها في «القانون الطبيعي» ترجمة أو تفسيرا لكل ميول الإنسان الفطرية أو الغريزية، والذين أسسوا «الأخلاق» على قواعد المصلحة الذاتية، والذين اعتبروا «الدولة» نتائج اتحاد النزعات الأنانية المختلفة، فعمد «هيجل» إلى رد أسس القانون إلى حقائق روحية، فلم يكن يعتبر التملك مجرد اغتصاب مادي، كما كان يرى «روسو»، بل كان يعتبر التملك تأكيدا لشخصية الفرد الذي يستولي على شيء خارجي لا إرادة له؛ ليصبح هذا الشيء ملكا له وليدخل به إرادته، وفي هذا التأكيد إنما يجعل الفرد غيره من الناس أو الأفراد يعترفون به، والاعتراف بالإرادة الداخلة في الشيء المملوك والذي صار لذلك مطبوعا بها، وهو الاعتراف الذي صدر من جانب الآخرين، ومن جانب «الإرادات» الأخرى، إنما يشكل نوعا من العقود، عقود المبادلة بين هذه الإرادات، سواء في حالتي الإثبات لتقرير حق التملك أو النكران لنقضه، و«عقد المبادلة» هذا هو الأساس الذي يقوم عليه القانون، وقد يكون هناك شجار أو مصادمة بين هذه «الإيرادات»، ولكن مبعث هذا الشجار إنما يكون خلق الفرد الشخصي؛ ولذلك فهو عرض بالنسبة لإرادات المتعاقدين، ولإنهاء هذه المشاجرات والمصادمات يجب أن تكون هناك قوة لها القدرة من الخارج على إصدار الأحكام؛ لتعلن ما هو حق وقانوني في ذاته - وذلك هو القانون المدني، والتي تعيد الحق أو ترده إلى حاله إذا وقع اعتداء عليه، وذلك بتوقع العقوبة التي يصدر بها حكم هذه القوة؛ وذلك هو القانون الجنائي.
وهذا هو القانون الذي يصوره «هيجل» في ذهنه، إنما هو قانون خاص دون أي شيء آخر، فلا تشكل الحياة السياسية، وحياة «المدنية» - والأخيرة في النظم اليونانية الرومانية - حدثا أو حالة خاصة من حياة «القانون»، كما يأخذ بذلك فقهاء القرن الثامن عشر، بل لقد فصل هيجل بين السياسة والتشريع فصلا جذريا؛ ولذلك فمفهوم «هيجل» عن القانون يفترض وجود قوة أو سلطة يصدر عنها تعريف القانون وتحديده، وتقوم بإصدار الأحكام وفقا لمقتضيات القانون، وواضح أن هذا «المفهوم» من شأنه القضاء على القول بأن الفرد هو مصدر أو منبع القانون، فيقضي «هيجل» إرادة المواطن الفردية من صنع وخلق القانون، ولن تعدو القوانين التي يسنها المواطنون أن تكون في نظره مجرد تلفيقات مصطنعة ولا قيمة لها، والذي يجدر ذكره أن هذا «المفهوم» أو المدرك الروحي للقانون، والذي يهدم الفردية (أو الفردانية)،
24
هو بنفسه الأساس الذي تقوم عليه نظرية «هيجل» الأخلاقية، والتي ترتكز على عجز الإنسان عن بلوغ تلك «العمومية» التي ينشدها، فلا يجد المرء الحرية الأخلاقية إلا في هيراركية الجماعات؛ أي في التنظيمات التي يمارس رؤساؤها السلطات العليا، والتي تشكل (أي هذه الجماعات) مراحل مختلفة في طريق السير نحو «المطلق» - أما هذه الجماعات الهيراركية فهي الأسرة، والمجتمع المدني
25 - أي ذلك الذي تقوم العلاقات فيه بين الأفراد على سد المطالب الاقتصادية وحماية التملك بتطبيق العدالة، ورعاية الصالح العام بواسطة البوليس والنقابات - ثم الدولة.
ولننتقل الآن لبحث مفهوم «الدولة» عند «هيجل»؛ وهذا القسم الخاص بالدولة من فلسفة «هيجل»، هو الذي أسفر عن نتائج سياسية أكثر مباشرة مما عداها - سواء في وقوعها وحدوثها، أم في الآثار المترتبة عليها، ففي حين يعمد «التاريخ» إلى بيان أحداث الماضي، تتوفر «الفلسفة» على استكشاف واستنتاج ما هو عقلي و(صوابي)؛ أي مبني على العقل. ويقول آخر: فإن مهمة «الفلسفة» هي فهم ومعرفة ما هو قائم وحقيقة واقعية. وعمد «هيجل» إلى تعريف «الدولة» بوصف أنها «كائن متعقل» في ذاته. ومع أن «روسو» كان قد اتخذ مبدئيا وجهة النظر هذه عند تناول علوم السياسة، فإنه كان مخدوعا عندما اعتقد أن المواطنين قد سبقوا في وجودهم الدولة مدينة للمواطنين بوجودها، ففي رأي «هيجل» أنه مما لا يصلح اتخاذه أساسا للدولة الاعتقاد بأن هذه إنما قامت من أجل ضمان بقاء الأشخاص والمحافظة على الحقوق الفردية، حيث إنه يكون مباحا وقتئذ للأفراد «الانسحاب» من الدولة؛ أي أن يكونوا أو لا يكونوا أعضاء في الدولة، في حين على العكس من ذلك - وكما يقول «هيجل» - كانت الدولة هي «الحقيقة المطلقة»، ولن يكون للفرد وعي عن نفسه، ووجود واقعي وكيان خلقي إلا في نطاق الدولة؛ أي إذا كان عضوا بها، وهو يقول كذلك: إن الدولة هي التعقلي
Le Rationnel
في ذاته ومن أجل ذاته، وهي تحقق في ذاتها صيرورة أو نهاية «مطلقة»، فالدولة إرادة ميتافيزيقية، لا يمكن تمييزها من العقل المطلق، والفكرة المطلقة، وبالاختصار لا يمكن تمييزها من «الله»، فهو يقول: إن الدولة هي الروح، ما دام هذا الروح يتحقق في العالم تحققا واعيا، في حين أن الطبيعة هي الروح، ما دام هذا الروح لا يتحقق تحققا واعيا؛ ولذلك فكل دولة إنما تشترك في هذا الجوهر المقدس أو أن لها نصيبا منه، وواضح إذن أن «هيجل» يرى في الدولة شيئا يختلف كل الاختلاف في مفهومه عن الهيئة الاجتماعية - أي المجتمع المدني - وشيئا يختلف كذلك كل الاختلاف عن هيئة أو تنظيم قانوني لجماعة أو مجموعة بشرية.
ولقد كان هذا «المفهوم» عن الدولة، أو المدرك الذهني
Begriff ، هو الذي استخلص منه «هيجل» التنظيم الذي يجب أن يقوم في الدولة، وفي هذا التنظيم لم يكن هناك موضع لفكرة فصل السلطات ، أو لفكرة الدستور، فكل تلك فكرات باطلة، أسقطها «هيجل» من النظم التي ارتآها للدولة، فهناك ثلاثة أشكال للدولة؛ أولها: الشكل الاستبدادي، وقد تحدثنا عنه، وثانيها: الشكل الديموقراطي، إما في صورة ديموقراطية تامة، وإما في صورة جمهورية أرستقراطية، فلا يتمتع «بالحرية» في كلا الحالتين إلا نفر محدود من الأفراد، في حين يخضع الباقون لاستبدادية صارمة. وثالثها: الشكل الملكي، وهذا الشكل الأخير هو أعلى أشكال الدولة في نظر «هيجل»، وفي الشكل الملكي أو الملكية تتألف الدولة من عناصر ثلاثة، تعتبر الملكية؛ أي وجود الملك أو الأمير العنصر الأول والأساسي من بينها، فمن غير «الملك» لا يعدو الشعب أن يكون سوى كتلة غير عضوية؛ أي لا حياة فيها ولا قدرة لها على النمو والتطور، فللملكية نوع من الطابع القدسي، ولكن هذه القدسية ليست مستمدة من «الحق المقدس» أو الإلهي في الحكم على نحو ما يقول به أصحاب هذا الرأي؛ ولكن سبب هذه القدسية أن الملك يتجسد الدولة، وأن الدولة تتجسد «الفكرة» - المطلقة - والفكرة هي الله، فالملك حينئذ متسربل بجلاله، أي مزود بسلطات ممتنع التخلي عنها أو انتقالها إلى غيره، والملك هو الذي يدير شئون الدولة، وخصوصا شئونها الخارجية، وهو الذي يحكم «دولته» حكما يقوم على السلطة الكاملة والمركزية. وأبدى «هيجل» إعجابه الشديد باثنين من حكام هذا الطراز هما؛ «ريشليو» و«نابليون»، ومع ذلك فواجب هذا الملك (أو الأمير) أن يستند في حكمه على العنصر الشعبي الممثل في مجالس بلديات المدن أو هيئاتها الإدارية، باعتبار أن الملك سوف يجد ممثله في هذه المجالس المصالح المشروعة، وهي مصالح جديرة بالاحترام، ومن واجب الملك رعايتها.
وأما العامل الثاني فهو عنصر الأرستقراطية، الممثل في «المجالس» مستشاري الملك، وفي كبار موظفي الدولة. وأخيرا يأتي العنصر الديموقراطي وهو البرلمان، الذي يكفل وجوده الصالح العام والحريات العامة؛ لأن البرلمان يسدي النصيحة للأمير، ولأنه كذلك أداة للنشر والدعاية، وبدون البرلمان تبقى كتلة الشعب غير عضوية ولا حياة بها، على أن الذي يجدر ذكره أن «هيجل» لم يكن ينظر لهذا البرلمان كهيئة لتمثيل الأفراد، بل إن البرلمان
Landtag
في رأيه جهاز يشمل «مجلسا للسادة»، يمثل مصالح ممتلكي العقار و«الأرض»؛ أي الممتلكات الثابتة بطريق الوراثة، و«مجلسا للنواب» يمثل مصالح المجتمع الأخرى الكبيرة؛ الثروة المنقولة، الزراعة، التجارة، الصناعة، إلخ. وعلى نحو ما هو متوقع لم يكن لهذا البرلمان السلطة التشريعية، بل إن هذه من حق الملك وحده، يعاونه في ممارستها العنصران أو العاملان الآخران اللذان تتألف منهما الدولة، ولكن هذا البرلمان إنما هو جهاز لمساعدة الملك بتنوير الحكومة، ثم هو جهاز لتربية الشعب، بما ينشره عن الطريقة التي تؤدي بها الدولة وظائفها، وذلك في الصحف، التي يجب أن تكون حرة، في اللحظة التي لا يتوقع أحد فيها خطرا على الدولة، أو توجيه الإهانة لها.
وهذا «المفهوم» أو المدرك الذهني نفسه، الذي شاهدناه في فلسفة «هيجل» عن الدولة، هو الذي يحدد كذلك علاقة الدول بعضها ببعض، فليس مطلوبا من الدولة أن تسترشد بمبادئ الأخلاق في نشاطها، ومن الواجب؛ الاعتراف بأن الحرب ضرورة قائمة، ولا معدى عنها بمقتضى الأشياء، فالحرب مقبولة عقلا، وهي مقدسة، وضرورة ملحة لتقويم عافية الشعوب وإبعاد المرض عنها، مثل الحرب في ذلك مثل الأمواج التي تمنع الماء من أن يأسن أو ينقع، وفي أحايين تكون الحرب الوسيلة الوحيدة التي تتحقق بها الدولة؛ ولذلك اعتبر «هيجل» الحرب عاملا ضروريا في تطور الدولة، وواضح أن «هيجل» في هذا القول، قد انفصل تماما عن دعاة السلام - والسلام الدائم - من الفلاسفة والمفكرين في القرن الثامن عشر الذين كان السلم مثلهم الأعلى.
تلك إذن هي الخطوط العريضة لفلسفة «هيجل » السياسية، تلك الفلسفة التي أحدثت آثارا بالغة في عالمه المعاصر، فلقد كانت التعاليم السياسية التي ذكرناها، تصدر عن «نظام» يختلف اختلافا كليا عن «إيدولوجية» القرن الثامن عشر؛ أي المثل العليا التي نادى بها فلاسفة ومفكرو هذا القرن، وكذلك عن «إيدولوجية» الثورة الفرنسية، والمذهب الحر والمعاصر، فتنكرت الهيجلية لذلك كله، ولقد اعترف بها المعاصرون على أساس أنها مختلفة تماما عن «الإيدولوجيات» التي أشرنا إليها. حقيقة خضعت «الفلسفة الهيجلية » فيما بعد لتفسيرات أخرى، مؤسسة على مبادئ متحررة، وذلك على أيدي تلاميذ «هيجل» نفسه، ومن هؤلاء؛ كارل ماركس
Karl Marx .
ولكن وقت أن نادى «هيجل» بآرائه، وبين معاصريه، كانت تعتبر «الفلسفة الهيجيلية» السياسية، فصما لكل علاقة مع المبادئ الحرة، وكأنما لم يكن الغرض الذي تريده سوى تسويغ سياسة الحكم المطلق التي صارت تطغى على أوروبا منذ سنة 1815، ولقد كان بهذا المعنى أن رحب الملك البروسي؛ فردريك وليم الثالث، ووزير التعليم في بروسيا؛ «ألنشتاين» بهذه «الفلسفة»، والآراء التي أتى بها «هيجل»، فلم يلبثا أن دعيا «هيجل» منذ ديسمبر 1817 ليشغل كرسي الأستاذية بجامعة برلين؛ وذلك لأن فلسفة هيجل بفضل المبادئ أو العقيدة السياسية التي جاءت بها، قد أمدت بالقوة العظيمة سياسة الحكومات الألمانية القائمة على الاستبداد بالسلطة، والتي لم تكن تستند على «إيدولوجية» ما في نشاطها.
وإلى جانب تسويغ سيطرة الدولة، وفناء الفرد في الدولة، وتسويغ الحكم المطلق، أو استئثار الملك (والزعيم) بكل أسباب السلطة في الدولة، كانت الفلسفة السياسية «الهيجلية»، تتميز بقابلية أن تتولد منها نظرية «التوسع القومي»، أو أن تصبح هي ذاتها مسوغا لهذه النظرية، التي تدعو لتسلط الدولة، ولإشباع كبرياء الشعب الألماني، فقد تفرعت عن الفلسفة الهيجلية نظريات تستند في الوقت نفسه على التاريخ، وعلى فلسفة هيجل، وهي النظريات التي سوف تظهر فيما بعد، إما في تفكير بسمارك، وإما في تفكير أدولف هتلر.
26
ومما يجدر ذكره أخيرا أن المرء لا يلبث أن يجد في الفلسفة الهيجلية، التفسير الذي يسوغ به تطور تاريخ بروسيا، والسياسة التي استرشدت بها بروسيا، حتى تصل إلى مكان الصدارة كدولة حديثة النشأة، سوف تتزعم الاتحاد الألماني، بل إن هيجل نفسه كان يشعر بهذا «الطابع» الذي تتميز به فلسفته وتفكيره السياسي، وذلك عندما تناول كأحد دروسه موضوع «القرابة الأصلية بين الدولة البروسية والفلسفة الهيجلية». ولقد اتخذت السياسة البروسية من هذه الفلسفة الهيجلية إنجيلا لها، ومصدرا تستمد منه عددا لا يحصى من الحجج والدعاوى التي تؤيد بها «سياستها»، وتجد فيها «المسوغ» الكافي لهذه السياسة، على أن «هيجل» قد استرعى كذلك الانتباه بضرورة تنظيم «الدولة»، وهي الفكرة التي كان الناشرون الألمان قد غفلوا عنها، عندما انحصر تفكيرهم في موضوع «الأمة»، فالآراء التي نادى بها «هيجل»، كان لها الفضل في إقناع الناس بألمانيا، بأنه حتى تتم وحدة ألمانيا، وحتى يصبح الألمانيون «أمة»، لا مناص من أن تتشكل ألمانيا كدولة، ومن أن تصبح أولا «دولة»، ولم يكن بألمانيا في الوقت الذي نادى فيه «هيجل» بآرائه سوى حكومة واحدة، يمكن أن ينطبق عليها تعريف «الدولة» كما قال به هيجل، وتلك كانت «بروسيا»، بروسيا التي عرفت وقتئذ كيف تبلغ في تكوينها وتطورها المعنى المقصود من فكرة الدولة، وتنظيم الدولة.
ولا جدال في أن الأثر الذي خلفته «فلسفة هيجل» كان عميقا إلى أقصى درجات العمق، فكان نجاح «فلسفته» سريعا ومباشرا، وكان تأثر معاصريه في ألمانيا خصوصا جارفا، حتى لقد تركت هذه «الفلسفة الهيجلية» طابعها الذي لا يمحى على الفكر الألماني بعد ذلك، ومن هذه الناحية إذن؛ يحق لنا القول بأن من الممكن اعتبار «الفلسفة الهيجلية» أحد العوامل الفاصلة في التاريخ، ليس فقط تاريخ ألمانيا، ولكن - بفضل نتائجها وآثارها - تاريخ العالم كله. (6) السياسة البروسية
ولقد احتلت بروسيا في ألمانيا هذه مكانا خاصا، كما استطاعت أن تقوم بدور ذي شأن في تاريخ هذه البلاد، ولقد زود «هيجل» بروسيا - كما ذكرنا - بفلسفة المثل العليا التي بنت عليها حياتها، أو بتلك الإيدولوجية التي قامت عليها السياسة البروسية، وهي السياسة التي نعلم أنها قد أفضت إلى إنشاء الوحدة - أو الاتحاد الألماني، بعد الحوادث التي نحن بصددها بنيف وخمسين عاما، ولو أنه مما يجب الانتباه إليه، أن الاتحاد أو الوحدة الألمانية في السنوات التي تلت إنشاء النظام الألماني - في صورة ذلك الاتحاد الكونفدرائي الذي أقره مؤتمر فينا في سنة 1815، كان لا يزال أمرا بعيدا، ولما يتطلع أحد بعد إلى تحقيقه.
وفي سنوات 1813-1815 تمتعت بروسيا بخطوة كبيرة لدى الشعب الألماني؛ بسبب أن بروسيا هي التي تزعمت حركة إنقاذ ألمانيا وتحريرها من السيطرة الأجنبية الفرنسية، ولكن سرعان ما خابت الآمال التي عقدت على بروسيا، عندما انحازت بروسيا إلى تأييد سياسة «مترنخ» الرجعية، وعملت على «تصفية» الوطنيين من الأحرار وقدماء المحاربين. ومع ذلك فهناك حقيقتان هامتان تجب ملاحظتها في تاريخ بروسيا في هذه الفترة من وجهة نظر القومية - موضع اهتمامنا دائما - أولاهما؛ استعادة بروسيا لنشاطها وانتعاشها، وذلك ما كانت بروسيا في حاجة ملحة إليه عقب انتهاء السيطرة الفرنسية مباشرة، ولقد عمدت الملكية البروسية، حتى يتسنى إصلاح ما فسد، إلى إحياء تقاليدها القديمة؛ أي تقاليد الحكومة ذات السلطة المستبدة أو المطلقة، والتي كانت مع ذلك، متسمة بالخير إلى جانب «الفاعلية» والنفوذ، فأحاط بالملك وزراء من الرجعيين، مثل: «فردريك أنسيلون»، الذي جعل الحكومة تتجنب فكرة التمثيل القومي أو الأهلي، ثم «ألتنشتاين» وزير التربية والتعليم، ثم «شمالز» و«كامبتز»، وقد سبق الكلام عن كل هؤلاء، فتخلى الملك ووزرائه الآن عن السياسة المتبعة سابقا أيام السيطرة الفرنسية، وهي «السياسة» التي قامت وقتذاك على تقوية السلطة الملكية بتأييد الشعب لها تأييدا «روحيا»، والتفاف الشعب حول الحكومة، واستأنفت الملكية البروسية سيرتها القديمة - قبل السيطرة النابليونية في ألمانيا - من حيث استعادة نظام الحكم القائم على فرض الرقابة البوليسية الصارمة، وتطبيق أساليب السلطة المطلقة والتعسفية.
ومن أمثلة ما حدث في ظل هذا النظام البوليسي والتعسفي، أن الحكومة في سنة 1823 ألقت القبض على مائة وعشرين طالبا بتهمة إثارة الاضطرابات، فألقتهم في السجون مدة ثلاثة أعوام قبل محاكمتهم، ثم إن الرقابة على الصحف لم تلبث أن ثقلت وطأتها، فألغت الرقابة كل الصحف السياسية، وصادرت المطبوعات السياسية، ووضعت الرسائل الخاصة (الخطابات) تحت رقابة الدولة، وفتح «الرقيب» خطابات العظماء أنفسهم مثل؛ «ستين»، «نيوبور»، وشليجل
Schelegel
إلخ، ومنعت «الرقابة» نشر أو إعادة طبع طائفة من الكتب لم تكن بحال من الأحوال من طراز المطبوعات المثيرة للخواطر، من ذلك الكراسات التي ظهرت في القرن السادس عشر لأحد الفرسان (صغار النبلاء) الألمان؛ ألريك فون هتن
Hütten ،
27
ثم محاضرات «فيشته» المشهورة والموجهة «للأمة الألمانية»، ومنعت الرقابة تمثيل مسرحيتي أجمونت
Egmont ، ل «جيته» ووليم تل
Teel
ل «شيلر»، وعينت طائفة من المفتشين «لتطهير» القاعات العامة المخصصة للقراءة والمطالعة.
ولقد تعاونت مع سياسة الضغط على الأذهان هذه، سياسة دينية غرضها إخضاع الروح وترويضها على طاعة الحكومة، فاتبع الملك البروسي مع شعبه من البروتستنت سياسة تفرض اتحادا بالقوة بين الكنيسة اللوثرية والكنيسة المصلحة، ولم يلبث أن نشأ نوع من الأرثوذكية «المتورعة»، تتسم بالتطرف والتعصب، كان أهم الدعاة إليها؛ فردريك جوليوس ستاهل
Stahl
الذي أنشأ «صحيفة الصليب»
28
لسان حال هذه الجماعة من «المتورعين»، ومع ذلك فقد كان «ستاهل» يهوديا اعتنق البروتستنتية، ثم ما لبث حتى أضاف إلى مبادئ «التقليديين» أو المتمسكين بالتقاليد التي نادى بها «هالر» صوفية جديدة، وأما الكاثوليك، فقد بقي أساقفتهم في السنوات الأولى يخضعون لتوجيهات الحكومة، وعلى نحو ما كانوا يفعلون أثناء السيطرة النابليونية. واستمر الحال على ذلك حتى بدأت الحكومة تعمل لتحويل أهل المذاهب الأخرى إلى البروتستنتية، فأخذ الأساقفة الكاثوليك يتقلبون عليها، وسرعان ما قام النضال بينهم وبين الحكومة في صورة علنية، حول مسألة الزواج المختلط بين الكاثوليك وأصحاب العقائد الأخرى، وتفاقم الخطب لدرجة أن عمدت الحكومة إلى سجن كل من رئيس أساقفة كولونيا وبوزن.
ولقد كان بسبب هذه السياسة إذن، أن انقطع ذلك التيار الذي كان من المنتظر أن يحمل معه أصحاب الآراء الحرة والمجددين، وكل أولئك الذين شعروا بالكراهية للنمسا نحو تأييد بروسيا المتمذهبة بالمبادئ «الحرة»، وبمعنى آخر، من الحركة القومية.
فشهدت بروسيا الإدارة (والحكومة) تسيطر سيطرة كاملة على «الدولة»، ولم تلبث أن انكمشت إلى مجرد إصلاحات إدارية بسيطة، كل تلك الوعود السخية بالإصلاح الواسع الشامل التي كان المسئولون في بروسيا قد بذلوها أيام «المحنة» الوطنية ، ففي 15 يونيو 1823 صدر قرار أنشأ وأدخل إصلاحات على المجالس الإقليمية (الدياط)؛ أي تلك المجالس التي يرجع تاريخها إلى العصور الوسطى، والتي تألفت من نواب عن ثلاث هيئات أو طبقات
Curia ، ينتخبهم أصحاب الأملاك العقارية وحدهم فقط، فهيئة أو طبقة النبلاء لهم وحدهم حق انتخاب نوابهم مباشرة، أما الطبقتان أو الهيئتان الأخريان، فهما طبقة أو هيئة البرجوازي (الطبقة المتوسطة)، وطبقة أهل الريف (من المزارعين إلخ)، وليس لأهل هاتين الطبقتين حق الانتخاب المباشر، بل يجري انتخاب نوابهم على درجتين، وكان عدد المجالس (الدياط) الإقليمية ثمانية، لكل إقليم «دياط» واحد، وقد أنشئ كل منهما بمقتضى قرار خاص منفصل، وذلك لإقامة الدليل على أن إنشاءها لم يكن مبعثه الرغبة في استصدار «دستور» للدولة، وأما سلطات هذه المجالس (الدياط) الإقليمية فكانت ضئيلة ولا قيمة لها، فهي إنما تدعى للانعقاد فقط حتى تستشيرها الحكومة فيما تريده هذه من قوانين تراها «الحكومة» ضرورية، وحتى تنظر هذه المجالس الشئون المحلية، مثل مد الطرق وتعبيدها، أو تقديم العرائض بشأن المطالب التي تريدها، وحتى فيما يتعلق بهذه العرائض، لم تكن الحكومة ملزمة بالإجابة عليها إلا بعد أن تصل إلى «برلين» العرائض التي من هذا القبيل من المجالس الثمانية بأجمعها، فلم يكن والحالة هذه للمجالس (الدياط) الإقليمية أي طابع تمثيلي، أو أي سلطة سياسية.
وفي الحقيقة قامت الإدارة في بروسيا على قاعدة المركزية الكاملة، فالدولة مقسمة إلى ثمانية أقاليم، على رأس كل منها «مدير» أو رئيس أعلى،
29
وهذه الأقاليم مقسمة إلى (25) مديرية
Bezirke ، على رأسها حكومة إدارة مشتركة أو متضامة
Recierung ، وأما هذه المديريات فكانت مقسمة إلى نواح أو دوائر
Kreise
بلغ عددها ثلاثمائة، يقوم على إدارتها رئيس ناحية أو مأمور
Landrat ، إلى جانب مجلس الناحية أو الدائرة، وقد أنشئ هذا المجلس في سنة 1825 ليزود بالمرشحين منصب المأمور، وهكذا وجد في بروسيا نظام خاص بها للحكم والإدارة، كان بمثابة الحل الوسط الذي ينال موافقة الحكومة من ناحية وطبقة النبلاء من ناحية أخرى، ولقد تركت الحكومة النبلاء يتمتعون بنفوذ عظيم في إدارة شئون الحكم المحلية، عندما كان للنبلاء السيطرة في المجالس الإقليمية، ولأن المأمورين
Landrate
كانوا يختارون من بين هؤلاء النبلاء، ويقترحهم مجلس الناحية أو الدائرة. فشبه المؤرخون هؤلاء النبلاء «بالمستنبت» الذي يمد بروسيا برجال الحكم والإدارة، وزيادة على ذلك فقد تركت الحكومة هؤلاء النبلاء يتمتعون بسلطة مطلقة على «فلاحيهم»، وفي نظير ذلك احتفظت الحكومة لنفسها بالهيمنة على كل المرافق العامة.
وهكذا أوجد هذا النظام البروسي جنبا إلى جنب، وفي الوقت نفسه طبقة إقطاعية وطبقة «وظيفية» أي من الموظفين، فاقتسم الدولة حينئذ نوعان من الأرستقراطية؛ أرستقراطية النبلاء، وأرستقراطية البيروقراطية، ومن الواضح أن تنظيم الدولة بهذه الصورة، إنما يتفق مع النظريات والآراء التي أتى بها «هيجل»، وحرصنا على تحليلها وتوضيحها في الصفحات السابقة.
ومع ذلك فقد كانت هذه الإدارة أو هذه البيروقراطية من النوع الجيد، ويرجع الفضل في ذلك إلى عملية «الاختيار» الطويلة التي يتم بها ترشيح الموظفين لمناصبهم في الدولة، وعقد امتحانات المسابقة، ووضع اللوائح التي تؤمن هؤلاء على معاشهم أثناء الخدمة وعند تقاعدهم، وتمتع رؤساء المصالح أو الإدارات بحق واسع في تصريف شئون مصالحهم، مما تضافر جميعه على إنشاء «إدارة» امتازت بكفاية أعضائها وأمانتهم، الأمر الذي أوجد إدارة نشيطة وحازمة كذلك، ولكن هذه «الإدارة» لم تكن محبوبة من الشعب؛ بسبب «استقلاء» أفرادها، ومعاملتهم سواد الناس بالغلظة والخشونة.
وهذه «الإدارة» استطاعت مع ذلك تأدية خدمات جليلة لبروسيا، من ذلك تنظيم شئون المالية، وحل مشكلة الأراضي - وإن كان ذلك في صالح النبلاء - وإعادة إنشاء الجيش وتنظيمه، ووضع الترتيب الذي أمكن به إدماج المقاطعات الجديدة التي أعطيت إلى بروسيا في سنة 1815، وهي بروسيا الراينية، ووستفاليا، ولقد أمكن أن يبقى كل هذا العمل الذي تم على يد هذه «الإدارة» النشيطة - وخصوصا خلال السنوات الأولى من قيام هذا النظام - أمكن أن يبقى حتى وفاة فردريك وليم الثالث سنة 1840، بل وفي وسعنا القول: أنه ظل باقيا في الحقيقة حتى سنة 1848؛ لأن الثورات التي قامت في هذه السنة الأخيرة، هي وحدها التي كان في وسعها هدم هذا النظام، وتقويض أركانه فعلا.
وعلى ذلك فقد كانت تبدو بروسيا في ألمانيا وقتئذ دولة لا تدين بالمبادئ الحرة، ولكن دولة تقوم على «نظام» محكم، ويصح لذلك اتخاذها نموذجا لما يجب أن تكون عليه «الحكومة» والإدارة في سائر أنحاء ألمانيا، وثمة ملاحظة أخرى، هي أن بروسيا مع أنها النموذج الذي تحتذيه الدول والحكومات الألمانية، فلا يجب أن يغيب عنا أن الشعور العارم بالمحلية والإقليمية البحتة كان يسودها، فكانت دولة «بروسية» لحما ودما، ولا يمكن بحال اعتبارها «ألمانية».
بيد أن هذه «الإدارة البروسية» كانت صاحبة الفضل في خلق أو صنع ذلك الاتحاد الجمركي، الذي انتهى الأمر بامتداده حتى شمل القسم الأعظم من ألمانيا، ونعني بذلك «الزولفرين»، و«الزولفرين» هو الحادث الثاني إلى جانب إعادة تنظيم بروسيا، الذي كان له أكبر الأثر في مصنع الاتحاد الألماني في النهاية، وبزعامة بروسيا نفسها كذلك، وبالتالي تطور فكرة القومية الألمانية. (7) الزولفرين
Zollverein
لقد ساد الاعتقاد طويلا، بأن إنشاء «الزولفرين» - الاتحاد الجمركي - كان نتيجة حركة تلقائية نبتت في الأوساط الاقتصادية في ألمانيا، تستهدف وحدة البلاد، ويدفعها الرأي العام بشكل أجبر الحكومة على السير في الطريق الذي أرادته هذه الحركة؛ أي إن مبعث «الزولفرين» كان قيام حركة قومية مستندة على شعور قومي يسود ألمانيا وقتئذ، ومع ذلك فقد اتفق رأي المؤرخين بعد البحوث المستفيضة في هذا الموضوع في السنوات الأخيرة، على أن القول بأن الزولفرين كان نتيجة «حركة قومية»، إنما هو قول خاطئ، لقد استندت هذه الأسطورة على بعض الكتابات والمشروعات التي تقدم بها على وجه الخصوص اثنان من الناشرين من أهل ألمانيا الجنوبية هما؛ فردريك ليست
List ، وكارل فردريك نبنيوس
Nebenius .
وكان فردريك ليست (1789-1846) أستاذا للاقتصاد السياسي بجامعة «توبنجن»، وصاحب شهرة كصحفي نابه، روج لفكرة إنشاء اتحاد كونفدرائي لإزالة الحواجز الجمركية بين مختلف الإمارات الألمانية، ووضع تعريفة موحدة، وإنشاء الوحدة الاقتصادية، وقد تأسست بالفعل في غضون سنة 1819 في فرانكفورت جمعية من التجار ورجال الصناعة الألمان؛ لحث الحكومة على قبول الاتحاد الكونفدرائي، وقد اختير فردريك ليست أمينا عاما لهذه الجمعية، وسرعان ما صار هو روحها وقوتها الدافعة، وأعد بلسان هذه الجمعية «عريضة» في 24 مايو من السنة نفسها، قدمت «الدياط» تطلب اتحادا جمركيا، وإنشاء برلمان مشترك لألمانيا، ووضع دستور مشترك للإمارات الألمانية. ولقد بقي «ليست» خلال السنوات التالية يقوم بحملة واسعة من أجل إلغاء الضرائب الجمركية الداخلية، وأشرف على إصدار مجلة بعنوان «لسان حال التجارة والصناعة الألمانية» لترويج هذه الآراء ذاتها.
على أن مشروعات فردريك ليست وكتاباته كان يغلب عليها الخيال، ولم يعن «ليست» بتحري الدقة في بيان ما يريد تصويره، كما أن مشروعاته لم تستند في رأي كثيرين على نظام تجاري معين، فرفض «الدياط» العريضة المقدمة إليه، ولم يلبث أن شغل «ليست» بمسألة أخرى، فسمى مندوبا أو نائبا عن بلدته روتلنجن
Reutlingen
في ورتمبرج سنة 1820، ولكنه سرعان ما طرد من المجلس، وحكم عليه بالسجن عشرة شهور عندما شرع ينقد نظام البيروقراطية في هذه «الدولة»، ثم لجأ إلى فرنسا للعيش بها، وزار إنجلترة وسويسرة، ثم قفل عائدا إلى ألمانيا بعد سنوات قليلة، ولكنه لم يلبث أن سجن ثانية في «ورتمبرج»، فقرر عند الإفراج عنه الهجرة إلى أمريكا (1825)، وكان «لفاييت» الذي قابل «ليست» قبل ذلك في باريس قد وعد بالترحيب بهذا الأخير عند ذهابه إلى أمريكا. ولم يعد «ليست» إلى ألمانيا إلا في سنة 1832، وكان «ليست» عندئذ قد صار صاحب ثروة كبيرة، وله أصدقاء عديدون، ووجد أن الحركة التي كان قد قادها منذ ثلاث عشر سنة من أجل الإصلاح الجمركي قد بلغت ذروتها، ولكن بغير الصورة التي كان ينتظرها، من حيث إن هذه الحركة لم تكن تستهدف إصلاحا جمركيا عاما كما كان يريد «ليست»، ثم من حيث إن النمسا لم تكن هي المتزعمة لها، وعلى نحو ما كان «ليست» يريد في الحالتين، بل إن بروسيا كانت هي المحور الذي دارت حوله حركة الاتحاد الجمركي، كما أن هذا الاتحاد كان قد أخذ يتم على مراحل بطريق اتفاقات عامة بين مختلف «الدول».
أما كارل فردريك نبينوس، فكان صاحب فضل كبير حقيقة في قيام «الزولفرين»، وكان «نبينوس» من رجال الاقتصاد، نجح كوزير في تنظيم مالية «بادن»، وكان صاحب نشاط ظاهر في المؤتمرات «الوزارية» التي عقدت في فينا في شتاء 1819-1820، من أجل الاستماع لآراء «جمعية التجار ورجال الصناعة الألمان»، وكان «فردريك ليست» من بين الذين أدلوا بوجهات نظرهم، وطالب بضرورة إنشاء الوحدة التجارية؛ أي اتحاد الأمة الألمانية اقتصاديا، وفي هذه المؤتمرات أعد «نبينوس» مذكرة قوية، وفي عبارات دقيقة واضحة؛ لإنشاء نظام لاتحاد جمركي فدرائي، ويقترح عدة مقترحات لتنفيذ هذا النظام، تشبه لحد كبير الخطوات التي اتخذت فيما بعد لإقامة «الزولفرين»، ولو أن أسلوب العمل الذي أوصت به هذه المذكرة، كان يختلف اختلافا جوهريا عن ذلك الذي اتبع فعلا في إنشاء الزولفرين، أضف إلى هذا أن أحدا من المسئولين البروسيين الذين أشرفوا على تنفيذ السياسة التي أسفرت عن وجود «الزولفرين» لم يكن يعرف شيئا - على ما يبدو - عن هذه المذكرة طوال الأربعة عشر عاما التالية؛ أي إلى الوقت الذي نشر فيه «نبينوس» مذكرته في سنة 1835،
30
مما جعل جميعه متعذرا القول بأن «نبينوس» كان نفسه مبتدع «الزولفرين».
والحقيقة في رأي كثيرين أن «الزولفرين» لم يكن في فكرته الأساسية وبالطريقة التي تم صنعه بها، من «خلق» فردريك ليست، أو كارل بنينوس، فقد كان كلاهما يدين بوجهة نظر «ألمانية»، وليس بوجهة نظر «بروسية»، بل إن مشروعاتهما كانت «ترتيبات» مبعثها المعارضة ضد بروسيا، وكرد فعل لنشاط بروسيا ومحاولاتها من أجل إصلاح نظمها الجمركية.
والجدير بالذكر - بعد هذه الحقيقة الأولى - أن «الزولفرين» كان إجراء اقتصاديا، وليس عملا سياسيا، ولم يكن من صنع رجال السياسة القوميين، بل كان من تنفيذ الإداريين البروسيين؛ فون ماسن «كارل جورج»
Maassen ، من رجال الاقتصاد المعدودين، ومن أنصار حرية التجارة، والذي شغل منصب وزير المالية من 1825 إلى 1830، ثم فون موتز «كريستيان أدولف»
Motz ، أحد الذين شغلوا هذا المنصب كذلك، وأخيرا آيشهورن (جوهان ألبرت فردريك)
Eichhorn
وزير الخارجية، وقد سبقت الإشارة إليه.
فقد حدث في سنة 1815، عندما أعيد «النظام القديم» إلى ألمانيا، استرجعت ألمانيا كذلك نظامها الجمركي، فصارت الحواجز الجمركية تحيط بأعضاء «الاتحاد الكونفدرائي الألماني الثماني والثلاثين» بوصف هؤلاء حكومات مستقلة ، ثم في داخل هذه الدول أعيدت رسوم المرور (المكوس) الداخلية، والرسوم الجمركية على البضائع، وضرائب عبور الحدود على البضائع المنقولة من دولة إلى أخرى، ثم الاحتكارات الحكومية، إلى غير ذلك، على أنه كانت هناك ثغرات معينة في نظام هذه الضرائب الداخلية، والحواجز الجمركية، منشؤها وجود «هانوفر»، والمدن الألمانية الحرة من ناحية، ثم تقرير حرية الملاحة في الأنهار الألمانية، على نحو ما جاء في قرار مؤتمر فينا النهائي سنة 1815 من ناحية أخرى؛ لأنه صار ممكنا بهذين الطريقين أن تتدفق المتاجر من منتجات المصانع الإنجليزية على ألمانيا، بالرغم من النظام الجمركي القائم، وزاحمت هذه المتاجر الإنجليزية منتجات الصناعة الألمانية الحديثة العهد.
وتضافر عاملان على إخراج «الزولفرين» إلى عالم الوجود، أحدهما تلك الشكايات التي كان يرددها التجار ورجال الصناعة في البلاد الراينية، وهم الذين كادت تحطمهم المزاحمة الإنجليزية تماما؛ لأن «وضع» هؤلاء من الناحية الإدارية لم يكن قد تعين بعد، فطلب التجار ورجال الصناعة الراينيون منذ سنتي 1816 و1818 من الحكومة البروسية، التي صاروا الآن مرتبطين بها (منذ تسوية فينا سنة 1815)، أن تضع حلا لمسألة الضرائب الجمركية مستندا على المبادئ الحرة. وأما العامل الآخر، فقد كان ذلك الارتباك الضريبي الذي انغمست فيه بروسيا، عندما كانت تتألف من أربعة أجزاء مختلفة، تسود في داخلها كل أنواع الأنظمة والقواعد القديمة، لدرجة أنه صار يوجد في بروسيا سبع وستون تعريفة جمركية مختلفة، ولو أنها مرتبطة بضريبة «غير مباشرة» معينة تدفعها المدن على السلع المستهلكة داخليا، هي: «ضريبة الإنتاج»،
31
فكانت الضريبة الجمركية ممتزجة بهذه الضريبة الإنتاجية، وكان من أجل الخروج من هذا التشويش والارتباك، أن صدر أول قانون لهذه الغاية في 11 يونيو 1816، ألغى المكوس النهرية؛ أي رسوم المرور والملاحة في الأنهار، كما ألغى الضرائب الجمركية الداخلية والإقليمية، وجعل تحصيلها عند حدود المقاطعة؛ أي حدود كل إقليم من الأقاليم البروسية، ثم صدر قانون ثان في 26 مايو 1818 أوجد «تعريفة» موحدة لكل بروسيا، وقد كانت هذه التعريفة معتدلة لدرجة لا تشجع «التهريب»، فكان الغرض من هذين القانونين: «تبسيط» النظام الضريبي، وتوحيد الضرائب الجمركية في الأراضي البروسية ذاتها، على أنه كانت توجد في داخل الأراضي البروسية جيوب
Enclaves ؛ أي مساحات معينة من الأراضي التابعة لدول أخرى ألمانية غير بروسيا، فكان حوالي الاثنتي عشرة من هذه الدول الألمانية الخارجية، تملك عددا من هذه «الجيوب»، بلغ سبعة وعشرين في داخل الأراضي البروسية، وكان كل واحد من هذه «الجيوب» - وعلى نحو ما هو متوقع - تحيط به الجمارك البروسية من كل جانب، ومن ناحية أخرى ، فإن هذا النظام الضريبي - كما ذكرنا - كان يشمل الضرائب غير المباشرة المحصلة على السلع المستهلكة «ضريبة الإنتاج» إلى جانب الضرائب الجمركية ذاتها، وكانت هذه الضرائب بنوعيها تحصل معا، ثم كانت هناك تعريفة مرور للمتاجر الخارجية التي تمر عبر الأراضي البروسية في أي قسم من أقسامها، وكانت «ضريبة المرور» هذه مصدر ربح للحكومة في الوقت نفسه، بالأداة التي تستطيع أن تضغط بها اقتصاديا على الحكومات (والدول) المجاورة لها، ولقد كانت كل الطرق تقريبا الذاهبة من شمال ألمانيا إلى جنوبها، تخترق الأراضي البروسية في جزء من أجزائها؛ وذلك بسبب «موقع» بروسيا وامتداد أراضيها شرقا وغربا في وسط ألمانيا، فلم يشذ عن ذلك غير طريقين؛ الخط من همبورج إلى هانوفر وكاسل في الغرب، ثم طريق «ليبزج» التجاري مع بولندة وروسيا؛ ولذلك فقد أثارت الضرائب الجمركية البروسية تذمر «الدول» الألمانية الأخرى وغضبها.
وعندما أنشأت بروسيا نظام التعريفة الجمركية الموحدة، وهي التي صارت مطابقة لفرض ضريبة مرور
Transit
موحدة، اشتدت نقمة الحكومات التي لحق بها الأذى، وتزايد صخبها، فأعلنت هذه أن بروسيا قد صارت اللصوصية الحقيقية سياستها، وأنها تريد نهب سائر الألمانيين، وتعتدي على حقوق السيادة التي للدول الأخرى، وأنها خرقت بعملها هذا على وجه الخصوص المادة التاسعة عشرة من وثيقة الاتحاد الكونفدرائي، التي أعلنت وجوب إنشاء نظام للضرائب الجمركية، بالاشتراك فيما بين الدول أعضاء هذا الاتحاد، واحتجت هذه الحكومات على بروسيا في المؤتمرات التي عقدت في كارلسباد وفينا (1818-1820)، ولكن الحكومة البروسية لم تعر هذه الاحتجاجات أي التفات، وصممت على التمسك بتعريفتها الجمركية، وأمام هذا التصميم إذن، لم تجد بعض الحكومات مناصا من الدخول في مفاوضات فيما بينها؛ لتدبير خطة للدفاع عن نفسها ضد التعريفة البروسية، وكان بفضل جهود وزير هس دارمستاد، دي تيل
du Thil ؛ أن أسفرت هذه المفاوضات مؤقتا عن إنشاء مجموعتين في سنة 1824؛ مجموعة من دول أو حكومات الراين، وأخرى مؤلفة من يفاريا وورتمبرج.
ولقد نشأ عن وجود «الجيوب» التي ذكرناها في الأراضي البروسية متاعب وإزعاجات كثيرة لحكومة بروسيا، فقد كانت هذه الجيوب تشجع «التهريب » كما كانت هي ذاتها، تعاني مضايقات كثيرة بسبب «الجمركية» التي فرضتها بروسيا حولها، والتي حرمت أهل هذه «الجيوب» حرية الحركة والانتقال من الدول (أو الجيوب)، التي ينتمون إليها إلى أماكن أخرى، ولقد نجم من هذه المتاعب المتزايدة التي صارت تعانيها هذه الدول (الجيوب)؛ أن عمدت إحداها «شوارز بورج - سوند هاوسن»
32
إلى التفاهم مع الحكومة البروسية، وطلبت من هذه الأخيرة إدماجها في نظام التعريفة البروسية، ووافقت بروسيا على ذلك في 25 أكتوبر 1819، ولم تمض ثلاث سنوات حتى حذت (في سنة 1822) ثلاثة «جيوب» أخرى حذوها، فألغيت الضرائب الجمركية في هذه «الدول» الصغيرة التي صارت تشملها التعريفة البروسية، وصارت تدفع لها الحكومة البروسية، نصيبها من حصيلة الجمارك العامة، كل واحدة بنسبة سكانها. ثم إن بروسيا بقيت تحترم حقوق السيادة العليا التي لهذه الدول الصغيرة، من حيث إن حكومة هذه الدول استمرت تنظر المسائل الخاصة بالتفتيش، ومراقبة تجارة التهريب ومصادرة المتاجر، واستصدار الأحكام في هذه القضايا.
وواضح أن هذا «الترتيب» الذي أدخل عددا من الدول الصغيرة في نطاق التعريفة الجمركية البروسية، بالشروط التي رأيناها، لم يكن شيئا مذكورا، فلم يكن يتعدى هذا الدور الأول في تاريخ الزولفرين، مجرد إنشاء تعريفة مشتركة أو موحدة يسري تطبيقها على الأرض البروسية جميعها، وعلى عدد من «الجيوب» التي كانت تحيط بها هذه الأراضي البروسية ذاتها، والذي يجدر ذكره أنه لم يكن من المستطاع خلال عشر السنوات التالية، التقدم بهذا التنظيم أو الترتيب خطوات أكثر أو أوسع مدى.
على أن مرحلة جديدة لم تلبث أن بدأت عندما تقلد «فون موتز» منصب وزير المالية في بروسيا في سنة 1825، ذلك أن «فون موتز» لم يلبث أن افتتح هذا الدور الثاني في تاريخ الزولفرين باتباعه «سياسة جمركية هجومية» - إذا صح هذا التعبير - ضد الحكومات (الدول) الألمانية الأخرى، فقد بدأ «فون موتز» بإصلاح الإدارة المالية في بروسيا، وإعادة النظام إلى مالية الدولة، ووضع «ميزانية» صحيحة وقويمة، كما عمل جميع كل فروع الإدارة الاقتصادية في مملكة بروسيا في يد وزير المالية، حتى إذا انتهى من هذا التنظيم الداخلي، شرع يعمل لإدخال «الجيوب»، التي بقيت تقاوم النظام الجمركي البروسي ضمن هذا النظام نفسه، وهكذا أمكن بين عامي 1826، 1828 أن «تندمج» هذه الجيوب الواحد بعد الآخر في نظام «التعريفة» البروسية، فاختفت تجارة «التهريب»، وأسفرت إصلاحات «فون موتز» عن اقتصاد ملحوظ في نفقات الإدارة، وتبسيط الإجراءات الإدارية المالية.
وأما هذا النجاح الذي أدركته بروسيا، بفضل إصلاحات «فون موتز»، من حيث إنشاء الإدارة المبسطة، والتعريفة الموحدة الظاهرة، ومن حيث الاقتصاد في نفقات الإدارة، فإنه لم يلبث أن صار مثالا يجب أن تحتذيه الحكومات المجاورة، وذلك في الوقت الذي كانت فيه هذه الحكومات المجاورة ذاتها لا تزال تتجادل فيها بينها حول خير الطرق لإنهاء صعوباتها المالية، وكانت غراندوقية هي درمستاد - إحدى الدول المجاورة لبروسيا - تعاني آنئذ على وجه الخصوص أزمة مالية قاسية، فبادرت بطلب المفاوضة مع بروسيا.
وكانت هي درمستاد تتألف من جزءين مفصولين عن بعضهما بعضا، وتقع علاوة على ذلك بين قسمي بروسيا، بروسيا الراينية والوستفالية في الجانب الغربي، والأقاليم البروسية الوسطى من الجانب الشرقي، مما خنق نشاطها «هس درمستاد» الاقتصادي والصناعي بفضل الحواجز (أو الضرائب) الجمركية البروسية المقامة على جانبيها، وعلى ذلك فقد اقترحت «هس درمستاد» في يوليو 1827 على بروسيا المفاوضة لعقد معاهدة تجارية معها، واستغرقت المفاوضات بعض الوقت، ودارت في جو من السرية والكتمان، إلى أن انتهت أخيرا بإبرام معاهدة في 14 فبراير 1828، ومع ذلك فإن هذه لم تكن معاهدة تجارية، بل كانت متعلقة بانضمام «هس درمستاد» إلى النظام الجمركي البروسي، في صورة اتحاد جمركي بين الدولتين، وعلى أن يكون القانون الجمركي البروسي الصادر في سنة 1818 (26 مايو)، هو أساس التعريفة الجمركية بين الدولتين، والذي تجدر ملاحظته أن هس درمستاد قد تفاوضت مع بروسيا مفاوضة الند للند، واحتفظت كل «دولة» منهما باستقلالها الإداري الداخلي، وصار لكل منهما حق الاعتراض
Veto
والمناقشة بشأن كل ما يتعلق بتعديل التعريفة الجمركية، وأما مدة هذه المعاهدة فكانت ست سنوات، وهكذا نرى أن تحولا قد حدث، انتقل بفضله الاهتمام من مجرد وضع تعريفة جمركية بروسية موحدة ، إلى إنشاء اتحاد جمركي بين دولتين معنيتين، أدى إلى إنشاء «الزولفرين».
ولقد أثارت هذه المفاوضة بين بروسيا وهس درمستاد، عاصفة من التذمر والاحتجاج الشديدين في بقية ألمانيا، فلم يلبث أن أسفر هذا التذمر عن إنشاء اتحاد جمركي بين بفاريا وورتمبرج، كانت قد بدأت المفاوضة من أجله من مدة سابقة، ثم صار التوقيع على معاهدته في 18 يناير 1828، ثم سرعان ما برزت إلى الوجود، نتيجة لهذا التذمر كذلك، كتلة جمركية ثالثة و«وسطى» بمقتضى معاهدة وقعت في فرانكفورت في 21 مايو 1828؛ وكانت هذه الكتلة تتألف من سبع عشرة «دولة» أهمها؛ هانوفر، وسكونيا، وهس كاسل، وكانت مدة هذا الاتفاق ست سنوات.
وأشارت هذه التكتلات غضب «فون موتز»، الذي أعلن أنه سوف يقوم ضد هذه الاتحادات الجمركية «بحرب جمركية» دون رحمة أو شفقة، وهدد بإغلاق الطرق التجارية في وجهها، على أن الدول (الحكومات) الجنوبية سرعان ما وجدت أن الاتحاد الذي حصل بينها، لا يمكن أن يدر عليها ربحا ملحوظا، فاقتصاديات «بفاريا» تشبه شبها كبيرا اقتصاديات «وربمترج»، حتى إنه ليتعذر على إحداهما أن تجني أية فائدة من هذا الاتحاد الجمركي، فكانت متحصلات الجمارك ضئيلة، حتى تكلف جباية الضرائب الجمركية (44٪) من قيمة هذه المتحصلات، أضف إلى هذا أن إحدى مقاطعات بفاريا - البلاتينات البفارية - كانت معزولة عن سائر أقاليم المملكة؛ لوقوعها على الضفة الأخرى من الداين، في حين تفصلها هس درمستاد وبادن عن بقية المقاطعات، وعلى ذلك لم تلبث بفاريا وورتمبرج أن رأتا ضرورة المفاوضة مع بروسيا، فبدأت المفاوضات في يناير 1829، من أجل إبرام معاهدة تجارية، وأسفرت عن عقد هذه المعاهدة في 27 مايو 1829، ولم تكن هذه تستهدف اتحادا جمركيا، بل كانت متعلقة بتخفيض الضرائب الجمركية بصورة تدريجية بين الكتلتين أو الاتحادين، على أن يكون مفهوما أن إلغاء الضرائب الجمركية كلية بين هذين الاتحادين، هو ما يجب الوصول إليه في النهاية.
ولقد حاولت بروسيا كذلك التغلب على الصعوبة التي أوجدها اتحاد الوسط الجمركي، باختراق الحواجز الجمركية التي امتدت من هذا الجانب صوب ألمانيا الجنوبية، فبدأت بروسيا بالتفاهم مع «دولتين » من صغرى الدول الواقعة خارج بروسيا، والتي كان يوجد بينهما مع ذلك «جيب» بروسي، واللتان كان يهمهما الانضمام إلى الاتحاد البروسي؛ لتسهيل التجارة، أما هاتان الدولتان، فكانتا؛ ساكس كوبرج
Saxe-Coburg ، ساكس ماييننجن
Saxe Meiningen ، فتم الاتفاق على إنشاء طريق تجاري، يتحمل نفقاته الأطراف الثلاثة، يصل إلى بروسيا وهاتين الدولتين، ويبدأ من لانجنسالزا
Langensalza
في بروسيا، فيمر من ساكس كوبرج، وساكس ماينتجش، ومن «الجيب» البروسي، حتى ينتهي من جانب عند ورتزبرج
Wurtzburg
في بفاريا، ومن جانب آخر عند بامبرج
Bamberg
في ورتمبرج؛ أي إن هذا الطريق الذي يمر عبر الاتحاد الأوسط، صار يربط الأراضي البروسية بالأقاليم الجنوبية.
ثم إن بروسيا قد عمدت كذلك إلى الاتفاق مع غراندوقية مكلنبرج
Mecklenberg
في شمال ألمانيا، والواقعة على ضفة نهر الألب اليمنى، لإنشاء طريق يمتد بطول نهر الألب على ضفته اليمنى، ويصل إلى «همبورج».
وبفضل هذين الطريقين إذن صوب الجنوب إلى بفاريا وورتمبرج، وصوب الشمال إلى همبرج، ظفرت بروسيا بطريق للمواصلات التجارية مستقل عن «اتحاد الوسط» الجمركي، وبذلك تكون بروسيا قد تغلبت على الصعوبة التي أوجدها تشكيل «اتحاد الوسط»، وهو الذي اعترض طريق مواصلاتها مع البحر في الشمال من ناحية، ومع دول الجنوب من ناحية أخرى، ولا جدال في أن مركز بروسيا الاقتصادي قد ازداد قوة بفضل هذه الجهود التي قام بها «فون موتز».
ولم تلبث أن بدأت بعد ذلك المرحلة الثالثة والأخيرة في تاريخ الزولفرين، وهي المرحلة التي انتهت بإنشاء هذا الاتحاد الجمركي في صورته الكبرى، فالمعروف أن «الزولفرين» - كما رأينا - كانت حتى هذه اللحظة تشمل دولتين فقط، هما؛ بروسيا، وهس درمستاد، أما في هذه المرحلة الثالثة، فإن «الزولفرين» سوف يشمل عددا آخر من الدول الألمانية.
ففي سكسونيا كان يشكو الأهلون من أزمة اقتصادية مستحكمة، ثم إن الحركات التي قامت في ألمانيا متأثرة بثورة يوليو 1830 في باريس، قد أزالت من ناحية أخرى عددا من الحكومات (الوزارات) الرجعية في ألمانيا، والتي عرفت بعدائها الشديد لكل نظام جديد، وفي حين كان الاتحادان البروسي والجنوبي يصلان إلى اتفاق بشأن تخفيض الضرائب الجمركية بينهما (معاهدة 27 مايو 1829 التي سبقت الإشارة إليها)، وكانت دول اتحاد الوسط الصغيرة، والواقعة خصوصا بين الاتحادين الكبيرين، قد أخذت تشعر بحدة الأزمة الاقتصادية، وتبدي رغبتها في الانضمام إلى الاتحاد الجمركي البروسي، فتم انضمام ساكس فايمر في 11 فبراير 1831، ثم هس كاسل في 25 أغسطس من السنة نفسها، وكان انضمام ساكس فايمر وهس كاسل إلى الاتحاد الجمركي البروسي خطوة كبيرة الأهمية؛ لأن هس كاسل تتاخم الأراضي البروسية من كل جانب، فهي تتاخم المقاطعات الداينية في الغرب، ثم المقاطعات الوسطى؛ وهي لذلك بمثابة الحلقة التي تربط بين قسمي الدولة البروسية، وقد اضطرت سكسونيا إلى التسليم في النهاية (في مايو 1834).
أما المفاوضات مع دول الجنوب، فقد استطالت قرابة ثلاث سنوات، ولكنها انتهت إلى إبرام معاهدة في 22 مارس 1833، دخلت بفضلها بفاريا وورتمبرج في اتحاد جمركي مع «الزولفرين» لمدة ثماني سنوات، ثم لم تلبث أن انضمت سكسونيا إلى الزولفرين في 30مارس 1833، ثم ثورينجيا
Thuringia
في 10 مايو، (على أن يبدأ تنفيذ الاتحاد في أول يناير من العام التالي)، ثم انضمت إلى الزولفرين في السنوات التالية كل من غراندوقية بادن (12 مايو 1835)، ودوقية هس نساو
Hesse-Nassau (10 ديسمبر 1835)، وأخيرا مدينة فرانكفورت الحرة في 2 يناير 1836، وبذلك صار الزولفرين يشمل وقتئذ (25) دولة، يبلغ عدد سكانها ستا وعشرين مليون نسمة. كان عدد سكان بروسيا وحدها ثلاثة عشر مليونا، أما هذه الكتلة الكبيرة فقد تمتعت بنظام جمركي موحد، قام على أساس التجارة الحرة بين أعضاء هذا الاتحاد، ثم المشاركة في حصيلة الضرائب الجمركية بنسبة عدد سكان كل عضو من الاتحاد، ومما تجدر ملاحظته أنه في حين كانت حدود بروسيا الجمركية في سنة 1819 تبلغ 1073 ميلا، صارت حدود الزولفرين الجمركية الآن - أي في سنة 1835 - تبلغ 1064 ميلا؛ أي أقل مما كانت تبلغه الحدود الجمركية التي لبروسيا وحدها قبل الزولفرين.
على أن الذي يعنينا على وجه الخصوص في تاريخ الزولفرين في هذه الدراسة، إنما هو معرفة الصلة بين هذا الاتحاد الجمركي وفكرة القومية الألمانية، أو بقول آخر؛ مدى تجاوب الزولفرين مع القومية الألمانية، والوقوف على مبلغ تشجيع الزولفرين للحركة القومية في ألمانيا.
والذي تجدر ملاحظته في هذه المسألة، أولا؛ أن الزولفرين لم يكن يشمل كل ألمانيا، بل بقيت خارجة عن هذا الاتحاد الجمركي ثلاث عشرة «دولة»، كانت على نوعين مختلفين، أنشأت جماعة منها نوعا من الاتحاد الجمركي كذلك، عرف باسم ستورفرين
Steuerverein
أي الاتحاد الضريبي، أعضاؤه؛ هانوفر، وبرنسويك، وأولد نبرج، وبرمن، وهمبورج، مما يدل على أن هذا الاتحاد «ستورفرين» كان يتألف من الأقاليم البحرية المطلة على بحر الشمال، والتي تقوم العلاقات التجارية الوثيقة بينها وبين إنجلترة، وأما بقية الدول (الثمان) فقد احتفظت بوضعها المستقل عن كلا الاتحادين «الزولفرين» و«الستورفرين».
وفيما يتعلق بالدول أو الحكومات التي يتألف منها الزولفرين، فمع أنه كان يربط بينها جميعا الاتحاد الجمركي، فقد احتفظت كل منها بأنظمتها الخاصة في مسائل الضرائب غير المباشرة والموازين والمقاييس، والعملة المتداولة، والمكوس الداخلية، وغير ذلك.
وهكذا لم يكن يتشكل من كل ألمانيا، ولا من الزولفرين نفسه ما يمكن تسميته من وجهة النظر الاقتصادية والتجارية بدولة موحدة، وتلك حقيقة لا جدال في أنها كانت تجد بصورة من الصور قيمة هذا الاتحاد الجمركي (الزولفرين) من الناحية القومية.
وثمة حقيقة ثانية تبدو أهميتها الجوهرية بالنسبة لعلاقة الزولفرين بالحركة القومية في ألمانيا، وتلك هي أن الزولفرين لم يكن يلقى تأييدا من جانب حركة معينة تعتمد على تغذية الرأي العام لها، ودفعها للمطالبة بالاتحاد الجمركي وتشجيعه، أو حتى للترحيب به بعد إنشائه، بل إن الزولفرين على العكس من ذلك، لم يلبث أن قوبل بالعداء الشديد في كل «الدول الألمانية»، فاقتضى الأمر في هس درمستاد تأجيل المجلس التمثيلي بها؛ لأنه كان من المحقق أن يرفض المجلس المعاهدة المبرمة مع بروسيا (1828)، ومع أن المجلس قبل المعاهدة في العام التالي، فقد كان واضحا أنه إنما فعل ذلك على غير إرادته، أما في بفاريا وورتمبرج، فقد أبدت الأوساط الوطنية الرجعية من جانب، والأوساط التجارية من جانب آخر عداءها الشديد ضد الاتحاد (1829)، وفي هس الانتخابية (هس كاسل)؛ أثار توقيع معاهدة الاتحاد متاعب خطيرة (1831)، وحاولت الجماهير المتهيجة شنق رجال الجمرك البروسيين، وفي سكسونيا أثار قبولها الاتحاد، احتجاجات الصناع، واحتجاجات التجار في «درسدن» و«ليبزج»، ثم في مدن نهر الألب، وكذلك احتجاجات أصحاب العقارات، وفي غراندوقية بادن كان ثلاثة أرباع أهلها يعادون الاتحاد، ومع أن المجلس التمثيلي وافق على المعاهدة، فقد أظهر مجلس من الأعيان جمعته الحكومة عدم رضائه عنها، فوافق على المعاهدة ستة وثلاثون عضوا من بين خمسة وستين، وأخيرا فإن فرانكفورت لم تنضم إلى الاتحاد إلا بعد تردد طويل وعلى أسف منها، ولاقتناعها بأن الامتناع عن قبول الاتحاد، سوف يعزلها عن جيرانها المحيطين بها، ولقد كان من الواضح أن «الحكومات» هي التي اضطرت لأسباب سياسية، إلى الضغط على الطبقة المتوسطة (البورجوازية)، وهي «الطبقات الاقتصادية» - أي ذات الأثر في حياة البلاد الاقتصادية - حتى ترضى بالمعاهدات التي قام بفضلها «الزولفرين» كحقيقة واقعة.
وهكذا لم يظهر الزولفرين إلى عالم الوجود؛ نتيجة «لحركة» مبعثها يقظة الشعور أو الضمير العام الألماني إلى الحاجة له، بل كان الشعور بالمحلية والإقليمية لا يزال قائما، بالرغم من تأسيس هذا الاتحاد الجمركي، ولا يزال العداء مستعرا ضد الزولفرين في طول البلاد وعرضها، ولقد كان بعد مضي وقت طويل، وعندما أفضى هذا الاتحاد الجمركي إلى نتائج اقتصادية طيبة، أن بدأ الرأي يتحول عن العداء ضد الزولفرين إلى الرضى به، ثم إلى مناصرته وتأييده أخيرا.
وثمة مسألة أخرى يجب بحثها، هي تحديد الأثر الذي كان للزولفرين في إنشاء وحدة ألمانيا السياسية، فمن الآراء المسلم بها عند جمهرة الكتاب والمؤرخين؛ أن «الزولفرين» قد مهد للوحدة الألمانية، وأن الألمان منذ أن تسنى لهم تحقيق هذا الاتحاد الجمركي، قد بدءوا يعملون لتأسيس وحدتهم السياسية.
حقيقة أن عددا من الألمان عقدوا آمالا كبيرة على الاتحاد الجمركي كوسيلة مؤدية للاتحاد السياسي، فيكتب «فون موتز» نفسه - صاحب مشروع الاتحاد الجمركي - غداة إبرام المعاهدة مع هس درمستاد في سنة 1828؛ «أن من الواضح كحقيقة فعلية أن وجود الجمارك إنما هو نتيجة لذلك الانفصال القائم سياسيا بين الدول المختلفة، ويجب أن يكون صحيحا كذلك؛ أن اتحاد هذه الدول (أو الحكومات) في مجموعة جمركية واحدة ، ينبغي أن يفضي إلى اتحادها في نظام سياسي واحد فقط.» ثم أضاف: «ويقتضي الواجب بروسيا أن تنشئ اتفاقا وثيقا مع الإمارات التي تتمثل فيها المصالح الألمانية فعلا، فإذا حدث أن انحل الاتحاد الكونفدرائي الألماني؛ ليعاد تأليفه ثانية بعد استبعاد العناصر الخليطة، فسوف يكون حينئذ لنظام «بروسيا» التجاري أهمية بالغة. فإن «دولة ألمانية» حرة وقوية، في الداخل والخارج معا، سوف تتولد من هذا الاتحاد المؤسس على المصالح التي هي طبيعية لأقصى درجة، والذي يجب بالضرورة أن يمتد ليشمل الدول (أو الحكومات) الوسطى.»
وهكذا يكون «موتز» قد توقع أن يسفر الاتحاد الجمركي «فيما بعد» عن نتائج سياسية، ومع ذلك فهناك تحفظان ظاهران في كلام «موتز» الذي نقلناه؛ أولهما: حديثه عن استبعاد العناصر الخليطة، أنه يشترط أن يقوم الاتحاد الألماني السياسي عند إعادة تأسيسه على عناصر ألمانية صحيحة، ومعنى ذلك أن «موتز» إنما يريد استبعاد النمسا من هذا الاتحاد، وثانيهما: توقعه أن يسفر الزولفرين «فيما بعد» عن نتائج سياسية، وذلك عند تحقق الحادث الذي تكلم عنه؛ أي عند انحلال الاتحاد الألماني الكونفدرائي وإعادة تشكيله في «دولة» جديدة؛ أي مغايرة لهذا الاتحاد الكونفدرائي القائم، فلم يكن «موتز» نفسه يتوقع إذن أية نتائج سياسية من وجود الزولفرين إلا بعد مضي زمن طويل، أو «فيما بعد» كما قال. ثم إنه لم يكن واضحا في تحديد هذه النتائج السياسية والبعيدة ذاتها.
ولقد أثار مخاوف آخرين، هذا الاحتمال نفسه أن يسفر الزولفرين عن نتائج سياسية معينة، فكان غداة إنشاء الزولفرين الأول، أن كتب دي روميني
Rumigny
القائم بالأعمال، الفرنسي، في «ميونخ» إلى حكومته في 4 أبريل 1829 أن هذا الاتحاد «الجمركي» هو أكبر حادث شهدته ألمانيا منذ حركة الإصلاح الديني، وأوضح «دي روميني» مخاوفه من هذا الحادث، فقال: إن الاتحاد الجمركي الذي حصل سوف يزيد من أهمية بروسيا بدرجة عظيمة، حيث إن هذه الدولة «سوف تصبح في مقدورها أن تحتل بين أترابها مكانا رفيعا، فيعلو نفوذها على الدول المشتركة معها، بصورة لم يسبق لها نظير في هذه الناحية، حتى أيامنا هذه ، ويفوق كل ما يمكن أن يتخيله المرء.» بيد أن الحكومة البفارية بادرت بتهدئة خواطر حكومة باريس، فأكدت لهذه الأخيرة أن مشروع الاتحاد الجمركي المنتظر لا ينطوي على شيء قد يتسبب في إزعاج الخواطر من وجهة النظر السياسية، وأنه إنما يعني فقط بتقديم تسهيلات تجارية، وأن الحكومة البفارية جد حريصة على استمرار العلاقات الطيبة مع الحكومة الفرنسية، وعلى ذلك فقد عادت الطمأنينة إلى نفس «دي روميني»، فكتب إلى حكومته ثانية في يناير 1830 ينفي أية أهمية كبيرة لهذا الاتحاد الجمركي، وذلك يدل على أن أحدا في ذلك الوقت لم يكن يتوقع أن ينجلي الاتحاد الجمركي (الزولفرين) عن أية أخطار سياسية، ولم تكن على وجه الخصوص الدول الثلاث؛ إنجلترة وفرنسا والنمسا، وهي التي يعنيها مباشرة أن تبقى ألمانيا دون حدوث أي تحول أو تغيير سياسي بها، لم تكن واحدة من هذه الدول، تشعر أن هناك أية أخطار سياسية من هذا الاتحاد الجمركي، بدرجة تحمل هذه الدول الثلاث على اتخاذ أية إجراءات وقائية من جانبها، في شكل تعديل أو تخفيف أنظمتها الجمركية، وتغيير سياستها الجمركية.
أما النتائج السياسية التي انجلى عنها الزولفرين، من ناحية صنع وإتمام الوحدة الألمانية، فقد اقتضى مرور زمن طويل قبل تحققها، حيث إنه كان في سنة 1867 فقط؛ أي بعد مضي ثلاثين سنة ونيف، أن تأسس الاتحاد الألماني الكونفدرائي الجديد بزعامة بروسيا، وخلال هذه السنوات الثلاثين لم يخمد الزولفرين شعور الإقليمية أو المحلية، ولم يكن للزولفرين أي أثر إيجابي في ثورة 1848، ثم إن الزولفرين لم يستطع منع الدول الألمانية في سنة 1866 من إعلان انضمامها إلى النمسا، في الحرب الدائرة بين هذه الأخيرة وبين بروسيا، والانحياز إلى جانب النمسا ضد بروسيا، وتلك جميعها «حقائق» تنهض دليلا في نظر الكثيرين، على أن الزولفرين، لم يمهد للوحدة السياسية في ألمانيا، ولم يكن الأداة التي جعلت ألمانيا تسير مسرعة في طريقها، وذلك مثلما لم يكن أصلا الزولفرين في الوقت نفسه منشئ الحركة القومية الألمانية أو وليدها. (8) الأحرار «ورد الفعل» ضد بروسيا
وفي وجه هذه الحكومات الألمانية القوية، وذات السلطات المطلقة والتي استندت على ذلك النوع من «الأيديولوجية» القائم على تمجيد الدولة وتبرير سلطان الأمراء المطلق، وفي وجه الحكومة البروسية الذي تزايد تعزيز مركزها السياسي والاقتصادي بفضل إنشاء الزولفرين، لم يكن في وسع «الأحرار»، فعل شيء ذي قيمة لمقاومة الآثار «الرجعية» المترتبة على هذا كله، ومهما يكن من أمر النتائج التي سوف ينجلي عنها الزولفرين في المستقبل، فقد كان الأثر الظاهر مباشرة الآن، هو تدعيم الشعور بالإقليمية والمحلية، فقد اعتبر الألمان الزولفرين مشروعا بروسيا موجها ضد ألمانيا الفدرائية، ودعم الزولفرين النزعة الإقليمية المحلية من حيث إنه كان سببا في تدعيم قوة بروسيا الداخلية، ومن حيث إنه دعم كذلك بسبب رد الفعل الذي حدث روح الإقليمية والمحلية في الدول (أو الحكومات) الألمانية الأخرى، ولقد كان من أثر ذلك إذن، أن أخذ الأحرار الألمان ينفصلون عن بروسيا، وهؤلاء الأحرار هم الذين اعتبروا أنفسهم مخدوعين، بكل تلك الوعود «الحرة» التي صدرت عن المسئولين في بروسيا أثناء حرب الإنقاذ للتحرر من السيطرة النابليونية والتي ظهر لهم الآن أنها كانت وعودا مزيفة، عندما نكصت بروسيا عقبيها فتجاهلت هذه الوعود، وتخلت الآن - في نظرهم - عن «الرسالة» التي كانت لها أثناء الحرب التحريرية (1813-1815).
ولقد وضح تخلي الرأي الألماني العام عن بروسيا، في ذلك التدهور الذي أخذت جامعة برلين تسير في طريقه، فقد انطفأت الجذوة التي كانت قد أوقدت نار الحماس في نفوس أساتذة هذه الجامعة أثناء حرب التحرير (1813-1815)، فلم يعد لهؤلاء الأساتذة الآن عمل أو نشاط، ولم يعد لعلمائها اللاهوتيين النفوذ الذي تمتعوا به قديما، فصار الآن «شلاير ماخر» - وقد سبق الكلام عنه - رجلا مسنا، ولا نفوذ له وتخلف زملاؤه، مثل أوجست نياندر
Neander
مؤرخ الكنيسة، فعجزوا عن اللحاق بالحركة الفكرية، وأما اللغويون فقد وجد من بينهم بعض المشهورين، مثل أوجست بوخ
Bockh
وكارل لاشمان
Lachmann ، ولكن هؤلاء المشهورين كانوا من المتخصصين في دراساتهم، ولم يقوموا بأي عمل سياسي، أضف إلى هذا أن المؤرخين، فردريك راومر
Raumer ، ليوبولد فون رانكه
Ranke
لم يكونا من الأحرار، وفيما عدا «فردريك هيجل» الذي كان صاحب نشاط إيجابي، فقد أساتذة جامعة برلين، النفوذ الذي كان لهم سابقا في ألمانيا، فاختفت تلك الصلة التي كانت أوجدتها جامعة برلين مع الروح أو العبقرية الألمانية، كما اختفت القوة الإنسانية المحركة لهذه الروح، والتي كانت لها سابقا.
على أن هناك حقيقة على جانب كبير من الأهمية، هي أن «المذهب الحر» لم يلبث أن وجد موئلا يلجأ إليه، أمام الحواجز السياسية التي حالت دون قيام حياة مشتركة في ألمانيا، هذا الموئل كان عالم الفكر، فقد استمر الاتجاه نحو الرومانتيكية، وهو اتجاه قومي وحر، ونفس الاتجاه الذي كان قائما في سنة 1813، وصار يمثل هذا الاتجاه، الآن، الكاتب والناشر وولفجانج منزل
Wolfgang Menzel .
و«منزل» كان أحد الذين ساهموا في تأسيس «اتحاد الرفقاء» (أو البورشنشافت)، فطرد لذلك من «ألمانيا»؛ ليعيش لاجئا في سويسرة، فأسس هناك في سنة 1824 جريدة بعنوان صفحات (أوراق) أوروبية
33
ثم صدر عنه العفو بعد بضع سنوات، فعاد إلى «شتوتجارت»، وكانت «شتوتجارت» قد صارت وقتئذ مركز الفكر والثقافة الرئيسي في ألمانيا، ويعيش بها على وجه الخصوص البارون كوطا
Cotta «جوهان فردريك كوطا» وهو ناشر كبير أشرف على نشر أعمال «جيته» و«شيلر»، وجمع حول شخصه كل أنواع الكتاب الألمان ذوي الميول المختلفة، بما في ذلك الكتاب المتقدمين في آرائهم، ولقد أسس «كوطا» وتولى إدارة طائفة من المجلات مثل «الفازيتة العامة»
34
التي ظهرت في أوجسبرج، والتي صارت تسمى في فرنسا «بفازيتة أوجسبرج»، ثم «الحوليات السياسية»،
35
وكلتاهما كانتا مجلتين سياسيتين، ثم «صحيفة الصباح»،
36
وكانت أدبية يشرف على تحريرها أحد الشعراء، سرعان ما صارت ميدانا مفتوحا لأقلام الكتاب من ألمانيا الجنوبية خصوصا، ثم مجلة اقتصادية سياسية بعنوان
Hesperus
يشرف عليها أحد رجال الاقتصاد من الأحرار فرانز شولتز
Schulze ، ولقد عهد «كوطا» إلى «منزل» في يوليو 1825، بإدارة «ملحق أدبي» لصحيفة الصباح بعنوان صحيفة الأدب،
37
سرعان ما صارت تحت إشراف «منزل»، لم يلبث أن نشر في سنة 1828 مؤلفا أحدث ضجة كبيرة، باعتبار أنه تناول تحت عنوان «الأدب الألماني»
38
دراسة شاملة للأدب الألماني المعاصر، وأدرك هذا الكتاب نجاحا عظيما؛ لأنه جاء متجاوبا مع الروح الجديدة، وعرض الاتجاهات الحرة، التي كانت تدين بها المدرسة الفكرية التي نشأت حديثا. أما بين هذه الجماعة التي التفت حول «منزل»، فقد كانت تسودها نفس الروح التي سادت جماعات «البورشنشافت»؛ أي الأخذ بالمبادئ الحرة والاعتقاد بالوطنية، والتمسك بالروح الدينية. وهدف «منزل» إلى إنشاء علاقة قوية بين الحياة والكتب، وإلى اتحاد الأدب بالسياسة؛ وذلك كما قال لأن الآراء والفكرات اليوم، تأخذ مكان الرجال، فلم يعد الناس يناضلون من أجل سيد من الأسياد، ولكن في سبيل مبدأ معين، ومن أجل نصر هذا المبدأ وتقريره، فالحرية وحدها مخصبة ومثمرة، في حين تبقى العبودية مجدبة وعقيمة، والنضال من أجل الحرية، إنما هو واجب حتمي، كما أنه حق لكل إنسان.
ولقد خضعت الحياة الأدبية في ألمانيا لقيود قاسية حقا - سبق أن ذكرنا أسبابها - منشؤها الرقابة الصارمة التي فرضتها السلطات أو الحكومات على الحركة الفكرية والثقافية في البلاد، ومع ذلك، فقد كان من أثر هذه الرقابة الشديدة أن صارت الأفكار تتجه نحو المبادئ الحرة، ولعل أصدق مثال لذلك كان ما حدث للكاتب لودفيج بورن
Borne (1786-1837).
كان «بورن» ناشرا يتقن الهجو والتقريع في كتابته، استولده مصرفي يهودي من فرانكفورت في سنة 1786، درس الطب، ثم القانون، والتحق بخدمة الحكومة؛ وكانت بلاده وقتئذ تحت الإدارة الفرنسية، ثم لم يلبث أن أعفي من الخدمة في سنة 1813 عندما تسلمت السلطات الألمانية الجديدة شئون الحكم؛ وذلك لأنه يهودي، فأخذ «بورن» على عاتقه من هذا الحين الدفاع عن حقوق «مواطنيه»، وانبرى يطالب على وجه الخصوص بحرية الصحافة، ثم إنه اعتنق المسيحية في سنة 1818؛ ليستطيع الظفر بأحد المناصب، ولكنه ظل مبعدا، فاستمرت حملته من أجل حرية الصحافة، ونشر في سنة 1819 كراسة ضد نظام الرقابة، وعطلت السلطات جريدتين اشترك «بورن» في تحريرهما أو تأسيسهما، واحدة بعد الأخرى، فقرر السفر، وزار «هايدلبرج» و«باريس» و«همبورج» و«فينا»، وعرض عليه «مترنخ» في فينا منصبا، في نظير أن يغلق فمه، ولكنه رفض، وذهب إلى باريس، ولقد نشر «بورن» مؤلفا عن رحلته الأولى إلى باريس بعنوان «صور من باريس»،
39
يصف فيه الحياة السياسية والأدبية ... إلخ في العاصمة الفرنسية أثناء سنوات 1822-1825، وأسس «بورن» جريدة بعنوان «الميزان»،
40
ثم إنه لم يلبث أن جعل إقامته مستقرة في باريس منذ بداية عام 1830، واستمر «بورن» يناضل من أجل الحرية الألمانية بحماس وعنف، وذلك في أسلوب من التهكم اللاذع بكل «الرجعيين» الألمان.
ولكن هؤلاء المفكرين الألمان، من الأحرار، كانوا قليلي العدد جدا، فهم على قلتهم مبعثرون في أنحاء ألمانيا، وألمانيا آنئذ لا زالت بلادا زراعية وفقيرة، و«الطبقة المتوسطة» بها قليلة العدد كذلك، ولم يكن لحركة المفكرين أو المثقفين الأحرار لهذا السبب أثر عظيم.
ولقد تسلم السياسيون الأحرار من ألمانيا الجنوبية زمام هذه الحركة لإنعاشها وترويجها، ولكن أحرار ألمانيا الجنوبية كانوا يقفون دائما تحت تأثير الآراء الفرنسية؛ ولذلك فقد أنشأ هؤلاء ما يمكن تسميته «بمدرسة دستورية» لمواجهة «المدرسة التقليدية»، و«مدرسة الحقوق التاريخية» اللتين سبق الحديث عنهما، ويعتبر روتيك
Rotteck
وويلكر
Weleker - وهما من غراندوقية بادن - أهم من يمثلون هذه المدرسة الدستورية. أما «كارل فون روتيك»، فقد كان أستاذا بجامعة «فريبورج»، نشر في عام 1819 كراسة بعنوان «آراء عن مجالس (طبقات) الدولة»، وتحوي هذه الآراء أن «مجالس الطبقات» تمثل الشعب، وأن الحكومة لا تعدو أن تكون منوبة عن الشعب؛ ولذلك صار الواجب أن يكون لدى المجالس (مجالس الطبقات) كل سلطات الشعب حتى تهيمن على عمل الحكومة. وابتداء من سنة 1834 نشر «روتيك» بالاشتراك مع «ويلكر»، «معجما سياسيا»،
41
صار إنجيل الأحزاب الدستورية في ألمانيا، أما «كارل تيودور ويلكر» فكان مؤرخا ومن علماء الآثار القديمة، كما كان أستاذا بجامعة بون، ثم صار أحد نواب «الفرقة الثانية» في مجلس غرندوقية بادن، وكتب «تاريخا عاما»
42
ظهر في تسع مجلدات بين عامي 1812، 1827، كان له تأثير كبير على القارئ الألماني العادي خصوصا، ولقد طالبت هذه الجماعة، بدستور يكفل للمواطنين الحرية والمساواة، ويمنع الحكومة، وكذلك طبقتي النبلاء والأكليروس من إساءة استخدام سلطاتها، ومما يجب ذكره أنه لم يكن مستطاعا في هذا العصر إقامة صرح الحرية في أي مكان في ألمانيا غير الحكومات أو الدول الصغيرة، مع ملاحظة أن هذه الحكومات أو الدول الصغيرة، هي التي كان يسود بها شعور المحلية الإقليمية في أعنف مظاهرة.
ولقد قام بترويج الآراء التي تمسك بها هذا الحزب الدستوري، ونشط لتنفيذها، النواب من أعضاء «الفرقة الثانية» في مجالس الدولة (مجالس الطبقات)، في الدول التي يقوم بها الدستور في ألمانيا الجنوبية، وكان هؤلاء النواب فخورين بالتقدم والرقي الذي بلغته الحياة الاجتماعية في دولهم، والحريات التي كانت لهم، وذلك كان تقدما اجتماعيا، وتلك حريات، لم يظفر بها الألمانيون في الشمال أو يبلغوها، وأما هذه المجالس «التمثيلية» فكانت قائمة في كل من كارلسروه
Karlsruhe
وشتوتجارت، وميونخ، وفيزبادن.
وكان هؤلاء النواب من أعضاء «الفرقة الثانية» في هذه المجالس التمثيلية في ألمانيا الجنوبية، من الذين عرفوا بالتواضع والخلق المتين، واتصفوا بالأمانة وحب السلام، والذين عنوا بالتفاضل، واشتهر عنهم العناد والتصلب في الرأي، والذين كانوا - وكما هو واضح - أناسا يعوزهم اتساع الأفق، ولا يتقيدون بمبدأ نظري معين، والحقيقة أنه لم يكن يوجد وقتئذ بألمانيا الجنوبية طبقات اجتماعية على درجة كافية من الثقافة، يمكن أن تمتد الحياة السياسية بالعناصر اللازمة لها؛ أي برجال السياسة أو النواب الذين يفقهون واجبات المواطن السياسية ويقدرون على الاضطلاع بها، وعلى ذلك فقد كانت أكثر المجالس التمثيلية في ألمانيا الجنوبية، تأتي بمعظم نوابها من بين موظفي الدولة، الأمر الذي جرد هذه المجالس التمثيلية من استقلالها، ومع ذلك فقد أسدى هؤلاء الرجال السياسيون خدمة طيبة، من حيث إنهم ناضلوا دائما من أجل الكرامة الإنسانية، وحرصوا دائما على صيانة حرية الضمير ، وعملوا كثيرا على تطويع الحياة السياسية للمبادئ الأخلاقية، وهؤلاء «النواب» - من الدستوريين في الجنوب - هم الذين جعلوا ممكنا - بفضل الرقابة التي فرضوها على نشاط الحكومة والتوجيهات التي قدموها لها - قيام إدارة مالية، وتطبيق القوانين بالعدل والقسطاس، والتقدم خطوات ملحوظة في طريق الإصلاح الاجتماعي، مثل إلغاء أعمال السخرة، وإلغاء ضرائب العشور المستديمة، وتشجيع وتنمية الملكيات الصغيرة.
ولقد كان أعظم ما فعلته هذه الجماعة الدستورية، من «النواب» ورجال السياسة الدستورية في ألمانيا الجنوبية، وأعمق أثرا في نتائجه المباشرة والبعيدة، هو «المحافظة» على الحرية، والحيلولة دون اضطهاد المبادئ الحرة وأصحابها، فمع أن هؤلاء «الدستوريين» لم يكن في مقدورهم التقدم بمطالب سياسية جدية لعجزهم عن معرفة هذه المطالب، فإنهم من ناحية أخرى، قد أفحلوا في تأييد مفهوم «الحرية» أي تدعيم المبادئ الحرة ونظرتها، على أن الذي يجب ملاحظته هو أن الفكرة «القومية» لم تكن ضمن الأهداف التي أرادوها، ولم يكن يرقى إليها تفكيرهم، فهم كانوا يعتبرون «الحرية» الفرض الجوهري والأساس من حياتهم، ويؤمنون بتقدم الحرية على الفكرة الوطنية، والفكرة القومية، وواضح أن هذا «الترتيب» في تفكير هؤلاء «الدستورية» الآن، الذي وضع الحرية في مرتبة متقدمة على الوطنية - وعلى القومية - إنما كان ترتيبا جاء بعكس ما كان عليه الحال أثناء حرب التحرير بين سنتي 1813-1815 في ألمانيا. (9) ثورة (1830)
ولقد كان للثورة التي قامت في باريس في يوليو 1830 نفس الصدى في ألمانيا، الذي كان لها في كل مكان آخر، من حيث تأييد حركة التفكير السياسي، وذيوع الآراء السياسية، ولم تكن تهتم بألمانيا الدولتان الرئيسيتان اللتان تزعمتا الرجعية في أوروبا، وأخذتا على عاتقهما منع «الثورة» من الانتشار، إلى جانب العمل على إخمادها بكل قسوة، وهاتان الدولتان - كما عرفنا - كانتا روسيا والنمسا، فعمدتا بسبب انشغالهما إلى ترك الحكومات المحلية (الإقليمية) في ألمانيا وشأنها، الأمر الذي أعطى الأحرار في ألمانيا الفرصة للعمل مباشرة.
ومع ذلك، فإنه مما سوف يستبين من أحداث هذه الثورة (1830) أن الشعب الألماني كانت تعوزه التربية السياسية، وأن الروح القومية كانت محدودة، وضئيلة الأهمية، وأن الألمان لا نشاط لهم لا آراء أو فكرات معينة لديهم يسترشدون بها؛ لتحقيق أغراض أسمى مما اصطلحت عليه وقتئذ واصطنعته حياتهم العادية، فلم تعد هذه «الثورة» مجرد القيام بمظاهرات، ذات صخب وضوضاء وحسب، ولم تكن ترقى بحال حتى إلى مرتبة محاولة ثورية، على خلاف ما شهدناه تماما في «ثورات» 1830 التي حدثت في إيطاليا.
ولقد رحب الأحرار جميعهم - وعلى نحو ما كان منتظرا - «بالثورة». بل لقد قامت المظاهرات الصاخبة في بعض المدن ، من ذلك ما حدث في همبورج مثلا، التي صارت ترفرف عليها الأعلام الفرنسية، وضعت النساء شارة «الجوكارد» على ملابسهن، وفي الدول الشمالية، وفي سكسونيا وهانوفر، وهس كاسل، وبرنسويك، تزعم المظاهرات أساتذة الجامعات، وتألفت مواكبها من الطلبة والموظفين، وينضم إلى هؤلاء بعض رجال القضاء المحليين من المدن المجاورة الصغيرة، وقد استطاع هؤلاء الظفر من حكوماتهم ببعض الحقوق، كما حصلوا أحيانا على الدستور في هانوفر وسكسونيا، وذلك دون مقاومة كبيرة، أو أنهم تمكنوا من تغيير الوزارة واستبدال وزارات أقل رجعية، بتلك التي عرفت برجعيتها الشديدة.
على أن الدهشة التي أثارتها هذه «الثورات» - أو المظاهرات - لم تلبث أن تبددت، فاستعادت الحكومات جأشها، وطفقت تسترجع تلك «الحقوق» التي كانت تنازلت عنها؛ أي منحتها الثوار والأحرار وقت محنتها، واستبعاد الخوف بها، فاستأنف سياسة الضغط والتضييق.
والجدير بالذكر، أن هذا الضغط والتضييق لم يشمل إلغاء بعض «الحقوق» التي كان الثوار والأحرار قد حصلوا عليها، كما أنه لم يمح بعض النتائج التي انجلت عنها هذه «الثورة»، فاختفت عموما أخطر المساوئ المرتبطة بالنظام الإقطاعي القديم، وتزايد نشاط الحياة الذهنية لدرجة كبيرة، وأخذت الحكومات بأساليب اقتصادية جديدة، وكانت تلك جميعها إصلاحات، انكمشت بفضلها الفوارق بين «الدول» الألمانية الشمالية التي حدثت فيها «الثورة»، وبين دول ألمانيا الجنوبية.
وكان طبيعيا - مع ذلك - أن تكون الحياة السياسية في هذه الدول الجنوبية أكثر نشاطا منها في الدول الشمالية، فقد أسفرت الانتخابات التي أجريت خلال سنوات الثورة هذه - في الدول الجنوبية - عن دخول كثيرين من الأحرار مجلس «البرلمان»، وكان هؤلاء أكثر تحمسا بالمبادئ الحرة من أسلافهم، بل واعتنق فريق منهم المبادئ الحرة المتطرفة (أو الراديكالية)، وتجاوبت الصحف مع هذا الحماس «الثوري»، بالرغم من وجود الرقابة الشديدة، حتى عمدت الحكومات إلى محاكمة محرريها وإلغائها، فعاشت الطبقة الوسطى (البورجوازية) في ألمانيا الجنوبية عددا من الأسابيع، وربما بضعة شهور، في حالة من «الانهيار»، وصفها أحد الكتاب بأنها كانت تشبه «حلم اليقظة»، أو حال السائر في نومه كما يسير المستيقظ. فاستصدر «البورجوازيون» في مختلف المجالس التمثيلية في الجنوب قرارات التأييد لبولندة وثورتها (1831)، ووضعت الأناشيد لتحية البولنديين، ونادى الأحرار «بأخوة الشعب»، وذلك كله بالرغم من وجود «الرقابة»، وبالرغم من قرار كان قد اتخذه «الدياط» في فرانكفورت منذ 30 أكتوبر 1830 لمنع العرائض أو المطالب الجماعية.
وهكذا دل هذا كله على وجود يقظة في الحياة السياسية، لم يكن مستطاعا إخمادها في السنوات التالية، بالرغم من تدخل الحكومات للقضاء عليها، ولقد أمكن تأسيس اتحاد للصحف، أعان الأحرار على تحمل نفقات القضايا والمحاكمات التي تعرضت لها صحفهم، بل لقد وقعت مظاهرات على نطاق أوسع من الاضطرابات المحلية العادية، فقد نظم احتفال سياسي عظيم في هامباك
Hambach ، إحدى بلدان بفاريا الراينية أو «البلاتينات البفارية» يوم 27 مايو 1832، سرعان ما انقلب إلى مظاهرة عنيفة اشترك فيها خمسة وعشرون ألف ألماني، ورفع المتظاهرون على أبراج «قصر هامباك» علم البور شنشافت المثلث الألوان «الأسود والأحمر والذهبي»، وألقيت الخطب الحماسية ضد «الحلف المقدس»، ولتأييد سيادة الشعب، كما طالب المحتفلون والمتظاهرون، باتحاد الدول الحرة الألمانية، وباتحاد الدول الحرة في أوروبا، والحقيقة الجديرة بالملاحظة هنا؛ أن فرنسيين وبولنديين وتشيكيين، كانوا يشتركون في هذه المظاهرات إلى جانب الألمانيين، ولكن قوات الحكومة «البفارية» بقيادة المارشال فون فريد
Wrede ، لم تلبث أن شتتت هذه المظاهرات بكل سهولة، وألقي القبض على نفر من المتظاهرين، واضطر الأحرار بسبب إجراءات القمع التي اتخذتها الحكومات، أن يؤلفوا الجمعيات السرية لتستمر حركتهم، وحاول المتطرفون منهم في حماسهم، وكانوا عموما من الطلاب، ويختلط بهم فريق من البولنديين، أن يشنوا هجوما على «فرانكفورت» - أي يحدثوا «انقلابا» يستولون بفضله على الحكومية بها، ووقعت هذه المحاولة الانقلابية
يوم 3 أبريل 1823، ولكن سرعان ما أخفقت هذه الحركة، التي انجلت عن قتل تسعة وجرح ثمانين شخصا، والواضح من كل ما تقدم أن هذه الحركات «الثورية» - أو المظاهرات، لم تكن بحال من الأحوال، حركات جدية، ومما يجدر ذكره كذلك أن الأقاليم البروسية، بقيت ساكنة هادئة، بالرغم من كل هذه الاضطرابات المنتشرة في أنحاء ألمانيا.
وثمة حقيقة أخرى، هي أنه لم يكن لفكرة القومية وسط هذا الهياج كله سوى أهمية ضئيلة ، بل تكاد تكون معدومة، فيمكن إيجاز ما حدث، من أجل تأييد القومية، أو باعتبار أنه دليل على وجودها، في أن نائب هس كاسل، هنري «هاينريسن» فون جاجرن قد طالب المجلس التمثيلي في «هس» أن يعمل من أجل اتحاد يجمع في إطار الحرية بين المصالح المادية والروحية - أو الذهنية في ألمانيا، ومع ذلك فقد طالب «جاجرن» بهذا الاتحاد بين المصالح الألمانية، كخطوة ضرورية لمقاومة أطماع فرنسا، ولدعم مركز ألمانيا أمام روسيا القوية، وفي «كارلسروه» طالب «كارل ويلكر»، نائب بادن، الذي سبق الحديث عنه إنشاء مجلس كونفدرائي، وفي مظاهرات هامباك كان الصحفي البفاري الدكتور فيرت
Wirth - على ما يبدو - أنه بمفرده من بين المتظاهرين الذي يستطيع تقديم بعض الآراء المحددة، وذلك عندما صار يدعو لاتحاد ألمانيا في شكل فدرائي، وفي سنة 1832 نشر ماندت
Mundt
وهو كاتب من أصل بروسي استقر به المقام في سكسونيا كراسة عن «وحدة ألمانيا» عن طريق نموها السياسي والروحي، وكان تفكيره يدور حول إنشاء وحدة سياسية، تفسح المجال لإقامة الأنظمة الدستورية، ويكون من واجبه المحافظة على طابع الشعوب وخصائصها المميزة لها، الأمر الذي يتضح منه كيف أن «ماندت» كان ينشد وحدة قومية، ولكنه يريد في الوقت نفسه، وجنبا إلى جنب، مع هذه الوحدة القومية الإبقاء على النزعات المحلية والخصائص الإقليمية وتأييدها.
وهكذا في وسعنا القول إجمالا أن الفكرة الحرة في حركة 1830 هذه، إنما كانت تفوق كثيرا الفكرة القومية، وتعلو عليها، يؤيد هذا القول كذلك أن «كارل فون روتيك» زعيم الأحرار في جنوب ألمانيا، ذكر في خطاب له في سنة 1832؛ أنه منحاز لوحدة ألمانيا، ويرجوها، ويريدها، ويتمناها، ويطالب بها ويصر عليها؛ لأن الوحدة وحدها فقط في حقل الشئون أو العلاقات الخارجية هي التي تجعل من ألمانيا دولة قوية، توحي بالاحترام، ولأن الوحدة وحدها فقط هي التي تمنع عن ألمانيا وقاحة الأجانب أي «الدول الأجنبية»، وتحول دون اعتدائهم على حقوق الألمان القومية أو «الأهلية»، وواضح أن «روتيك» كان في تفكيره يربط ربطا وثيقا بين مطلب الوحدة الألمانية وبين عظمة ألمانيا الخارجية، أكثر مما كان يدعو لحصول تغيير جوهري يشمل بلاده، ولقد استمر «روتيك» يقول: «ولكني لا أريد إطلاقا وحدة من شأنها استدراجنا إلى الدخول في حرب ضد مصالحنا العزيزة علينا وضد عواطفنا الخالصة، أو وحدة ترغمنا، فيما يتعلق بشئوننا الداخلية، نحن سكان الراين، بالرضاء بذلك القدر من الحرية الذي تكتفي به بوميراتيا أو النمسا، إني أريد الوحدة، ولكن على أن تتم هذه الوحدة، مقترنة بالحرية، بل إني أؤثر كثيرا الحرية بدون الوحدة، على مجرد الظفر بالوحدة من غير الحرية، وإني لا أريد إطلاقا وحدة تأتي تحت جناح النسر النمسوي، أو النسر البروسي.» ومما يجدر ذكره أن هنريسن هايني
Heine - وقد سبقت الإشارة إليه كثيرا - كان شديد الكراهية لغلاة المتطرفين في وطنيتهم، وخصوصا الرجعيين منهم، و«هايني» هو الذي يقول: «أما بالنسبة لهؤلاء الفرنسيين
؛ أي المرائين المتطرفين في وطنيتهم، والذين يتآخرن اليوم مع الحكومات ضد كل ما صار يثير غضب واشمئزاز هذه الحكومات، الذين يتمتعون بمحبة واحترام الرقابة المفروضة على الصحف والمطبوعات والآراء الحرة، فإني أحتقر البطولة المكرية التي يدعيها هؤلاء الخدم المتشحين بأزيائهم الرسمية، السوداء والحمراء، والمذهبة.»
وكل هؤلاء الأحرار، فصموا كل علاقة لهم مع بروسيا، وصاروا جميعا الآن أعداء لها، عندما صارت بروسيا دولة «رجعية»، وتتبع سياسة متسمة بالأنانية وحب الذات، فقطع أحرار الجنوب كل صلة لهم ببروسيا، ولو أن «روتيك» من ناحية «كان لا يزال يرى محتملا أن تغدو بروسيا دولة دستورية، وفعل ذلك أيضا كل أولئك الكتاب الذين تألفت منهم فيما بعد مدرسة «ألمانيا الفتاة»
43
ثم «فرانز شولتز» مدير صحيفة «هيسبيروس »، التي سبقت الإشارة إليها، والذي نشر في سنة 1832 كراسة عن وحدة ألمانيا بإنشاء تمثيل قومي، فأعلن أن من المتعذر بقاء بروسيا الدولة الرئيسية في الوحدة الألمانية، طالما بقيت هذه مكروهة من سائر ألمانيا، وهكذا أدار الجميع ظهورهم لبروسيا، ولم يكد يشذ عن هذا الإجماع غير أحد الكتاب والساسة الأحرار بول پفيتزر
، من ورتمبرج، الذي نشر في سنة 1831 كراسة بعنوان «تبادل خطابات بين ألمانيين»،
44
موضوعها: مراسلات في موضوعات فلسفية بين «پفيتزر» وأحد الشعراء المعاصرين من ورتمبرج، كذلك فردريك نوتر
Notter ، ففي هذه الكراسة طالب «پفيتزر» بانفصال ألمانيا عن النمسا، وتنبأ بالهيمنة التي صارت لبروسيا فيما بعد على ألمانيا، وراح يؤيد السيطرة البروسية.
وموجز القول: إن حركة الأحرار هذه قد تنكرت إجمالا لبروسيا الرجعية، وأدارت لها ظهرها بصورة ظاهرة مقصودة، واستمر لذلك الامتزاج بين الفكرة الحرة والفكرة القومية مبهما ومشوشا بدرجة كبيرة، وانتهى الأمر بالحركة المناصرة للمبادئ الحرة - حركة الأحرار - بإبعاد الألمان عن الدولتين الرئيسيتين في ألمانيا: بروسيا والنمسا، ولكن انفصال ألمانيا عن النمسا وبروسيا، واستبعاد هاتين الحكومتين الرئيسيتين، واللتين كان لا معدى عن وجودهما يجعل متعذرا معرفة «العامل» الذي سوف يصنع ألمانيا، أو الطريقة التي يمكن صنع ألمانيا بها. (10) إخماد الثورة
أما نتيجة حركة الأحرار هذه وثورة (1830)، فلم تكن إلا انتصار الرجعية، ودعم أركان الحكم التسعفي، فقد اتخذ «الدياط» إجراءات «فدرائية» في 28 يونيو سنة 1832، عرفت باسم «المواد الست»، كان المسئول عنها الوزير النمسوي «مترنخ»، صدر بها قرار «الدياط» بعد شهر واحد من مظاهرات «هامباك»، فوافق «الدياط» بالإجماع على بروتوكول بهذه المواد، وقد أراد «مترنخ» الذي كان قد حرم «الدياط» أي حق في الحد من سلطة الأمراء، أن يحرم «المجالس التمثيلية» أو البرلمانات «المحلية» في مختلف الدول أي حق في الاعتداء على المبادئ التي يقوم عليها «الدياط»، وعلى ذلك فقد فرضت المادة الأولى على كل أمير ألماني (أي كل صاحب سيادة) في حكومته واجب أن يرفض كل مطلب يتقدم به إليه «مجلس الطبقات» - المجلس التمثيلي أو البرلمان في إمارته أو مملكته - ينتقص من حقوق سيادته، التي ضمن بقاءها قرار الاتحاد الكونفدرائي نفسه (1815). ونفت المادة الثانية أن لمجلس الطبقات الحق في أن يرفض تقديم الأموال التي قد يطلبها الأمير للقيام بأعباء الحكومة، أو أن يستخدم مجلس الطبقات حاجة الأمير لهذه الموارد، للحصول على حقوق دستورية بطريق التهديد يمنعها عنه، وخولت هذه المادة نفسها «الدياط» حق التدخل إذا حدث ذلك، ولقد منعت المادة الثالثة حكومات الاتحاد من استصدار التشريعات المناقضة أو المعطلة للأغراض التي يريدها «الدياط» في ضوء التفسيرات التي يراها «مترنخ» لهذه الأغراض والغايات. وبفضل المادة الرابعة تأسست لجنة فدرائية دائمة لفحص التشريعات المقترحة في مختلف «الدول» التي يتألف منها الاتحاد الكونفدرائي، وتقديم تقرير عن كل التشريعات التي يتضح أنها مؤذية، أو مهددة لحقوق ومصالح رؤساء هذه الدول أنفسهم، وتقرر في المادة الخامسة أن تعمل كل دولة على الدفاع عن «الاتحاد الكونفدرائي»، وحمايته من أي هجوم قد يتعرض له من جانب المجالس التمثيلية (البرلمانات المحلية أو مجالس الطبقات). وأيدت المادة السادسة والأخيرة حق الدياط الفدرائي، أن يفصل فيما إذا كانت القوانين التي تستصدرها «الدول» المختلفة، أعضاء الاتحاد، مناقضة للمبادئ التي يقوم عليها «الاتحاد» ومتعارضة معها.
حقيقة استندت هذه المواد - من الناحية النظرية - مبادئ فدرائية سليمة، ولكن أفسدها وعطل قيمتها - كان - الغرض المقصود منها، وواضح أن بروتوكول 28 يونيو سنة 1832 «المواد الست»، إنما قد زود «الدياط» بالوسيلة المواتية للتدخل المستمر في شئون الحكومات الداخلية، ثم إن الدياط لم يلبث أن اتخذ قرارات أخرى (في يوليو) لمنع الاجتماعات العامة، وحمل الشعارات الثورية، ولوضع المشتبه في أمرهم تحت المراقبة، كما تجددت القوانين الصادرة ضد الجامعات، وفرضت القيود على تداول الكتب الألمانية المطبوعة في الخارج، وأعطيت الضمانات لنجدة الأمراء أو الحكام بكل سرعة عندما يطلبون النجدة، ولقد أرغمت «بادن» على وقف القوانين الحرة التي كانت مطبقة على الصحافة بها.
ولقد استثارت هذه الإجراءات حفيظة الأحرار والثوريين، الذين صمموا على القيام «بانقلاب» ينالون به الحرية، فتآمر هؤلاء على أن يزحف حشد من البولنديين من بلدة بيزانسون
Besançon
في الجنوب الغربي خارج الحدود الألمانية؛ لمهاجمة «فرانكفورت» وحل مجلس الدياط، والاستيلاء على الخزانة الفدرائية، وكانت خطة الثوار إرغام ملك ورتمبرج على زعامة الحركة القومية (الأهلية) بالقوة، وتأليف حكومة مؤقتة من «روتيك»، و«ديلكر»، وسيلفستر جوردان
Sylvestre Gordan
زعيم الأحرار في هس كاسل، وغير هؤلاء من القادة الأحرار، ودلت هذه المؤامرة على خرق الرأي، وأفشي سرها قبل تنفيذها، ولكن المسئولين آثروا الانتظار، وحصلت محاولة الهجوم على فرانكفورت فعلا في 13 أبريل 1833، وقضي عليها بكل سهولة، وبعد أن قتل عدد من المتآمرين، وأفاد «مترنخ» من هذا الحادث في تقرير سياسته الرجعية.
لقد كانت تأسست - كما عرفنا - «لجنة تحقيق» في ماينز منذ صدور مرسومات كارلسباد في سبتمبر 1819؛ للبحث عن أصول الحركات الثورية، ودلت محاولة الهجوم على فرانكفورت على أن لجنة ماينز بعد هذه السنين الطويلة (من 1819 إلى 1833)، قد عجزت عن معرفة أو كشف أصول المؤامرة العامة، التي ظهرت نتائجها في هذه المحاولة السقيمة، على أثر الإجراءات الصارمة التي اتخذتها الحكومة ضد الصحف والجامعات والأحرار عموما، وكان في رأي كثيرين، أنه يحتمل أن يكون هؤلاء المتآمرون في فرانكفورت من أعضاء الجمعيات السرية، التي كان «جويزبي مازيني» الإيطالي الروح المسيطرة عليها؛ أي إن مؤامرة فرانكفورت كانت جزءا من مؤامرة عامة كبرى، فكان على هذا الأساس إذن أن طلب «مترنخ» من الدياط في فرانكفورت إنشاء نظام بوليسي على أوسع نطاق ممكن؛ لمواجهة هذه المؤامرة العامة.
فكان بسبب إصرار «مترنخ» إذن أن أنشأ الدياط لجنة مركزية للإشراف على الإجراءات الوقائية التي تتخذها الدول (الحكومات) من أعضاء الاتحاد، ولتدبير الوسائل الكفيلة بإحباط المؤامرات والانقلابات ... إلخ، في ضوء النتائج التي تصل إليها هذه اللجنة في فرانكفورت (في يونيو 1833).
وفي ربيع 1834 دار البحث من جديد في فينا لرسم خطوط سياسة القمع التي يجب السير عليها، ولقد بقيت القرارات الجديدة في طي الكتمان نحو عشر سنوات، خوفا من أن تثير إذاعتها غضب إنجلترة وفرنسا، ويبدو أن أهم المقترحات التي عرضت خلال البحث كان بشأن تعيين خمس لجان تعمل كهيئات استشارية للدياط، ثم بشأن محاكم للتحكيم يختار الملوك (رؤساء الدول) أعضاءها، ومهمتها الفصل في الخلافات التشريعية والمالية التي قد تنشب بين هؤلاء الملوك والأمراء ... إلخ، ومجالس الطبقات (أو البرلمانات) في دولهم، ولقد توفي الإمبراطور فرنسيس الثاني في 2 مارس 1835، وخلفه الإمبراطور فردنند (الذي تنازل عن عرش الإمبراطورية في سنة 1848)، ولم يترتب على وفاة الإمبراطور أي تغيير في سياسة النمسا، ولو أن «مترنخ» لم يعد وحده المشرف على سياسة النمسا، بل صار يشترك معه في توجيهها كل من فردنند الإمبراطور الجديد، والأرشيدوق لودفيج
Ludwig ، والكونت كولورات
Kolowrat .
وفي الوقت نفسه اتخذت «مجالس الطبقات» المحلية طائفة من الإجراءات الصارمة ضد الأحرار، ثم بقيت اللجنة الفدرائية في فرانكفورت تعمل حتى سنة 1836، فبلغ عدد الذين قدمتهم للمحاكمة ألفا وثمانمائة، أدين من بينهم (203) طلاب، وألقي القبض في درمستاد على «شولتز» صاحب مجلة «هبسبيروس»، وحكم عليه بالسجن خمس سنوات، واستطاع «شولتز» الفرار من السجن، ومات بعد ذلك في المنفى، كما لقي نفس المصير - الوفاة في المنفى - الصحفي «فيرت». وفي غراندوقية «بادن» أجبر على الانزواء كل من «روتيك» و«ويلكر»، وهما - كما عرفنا - من الأساتذة الأحرار، وقد ذكرنا إلغاء القوانين الحرة التي كانت للصحافة بها، وفي هس كاسل ألقي القبض على «سيلفستر جوردان» من زعماء الأحرار، والذي اشترك في وضع دستورها، فاعتبر الآن من المشبوهين، وبعد محاكمة دامت أربع سنوات حكم عليه بالسجن خمس سنوات، ثم ألقي القبض على فريتز رويتر
Fritz Reuter - أحد الكتاب والشعراء الحديثين - بتهمة أنه كان في شبابه ووقت أن كان طالبا؛ متصلا بإحدى الجمعيات السرية، ولقد قدم «رويتر» إلى المحاكمة، كما قدم 204 من الشباب للمحاكمة التي استمرت ثلاث سنوات. ثم حكم على «رويتر» بالإعدام، واستبدل به السجن ثلاثين عاما، ولقد نشر «رويتر» بعد ذلك، وعلى نحو ما فعل سيلفيوبلليكو
Silvio Pellico
قصة محبسه، وفي كل مكان تولى رئاسة الحكومة وزراء رجعيون عرفوا بالشدة والصرامة، فسيطر على الحكومة في بفاريا؛ فالر ستاين
Wallerstein ، وزميله كارل فون آبل
Abel ، وفي هس كاسل؛ سيطر الوزير هسينفلوج
Hessenpflug ، وفي بادن كان فرايهر فون بليتر سدورف
Blittersdorff ، ثم في بروسيا مجموعة من الرجعيين، مثل كامبتز
Kamptz ، وتشوب
Tschoppe
وغيرهما، وفي سنة 1833 تعطل دستور هانوفر.
وهكذا ساد الركود ألمانيا، وخيم عليها الفتور سريعا، بعد الحركة أو الاضطراب، الذي أثاره حادث الثورة في فرنسا في يوليو 1830.
وأما هذا الخمول، الفتور، فقد استطال عدة سنوات، فلم تنفض ألمانيا عنها هذا الركود إلا عشية سنة 1848. فلم يقع خلال هذه السنوات أي حادث، من وجهة النظر السياسية، أي أهمية، فبقيت ألمانيا حتى سنة 1847، تخضع لنفس النظام، وتسود بها الحال التي كانت عليها في سنة 1815 وتلك الحياة السياسية التي عاشتها ألمانيا طوال هذه المدة كانت، وعلى نحو ما شهدنا، في الشطر الأكبر منها، على غاية من التواضع والقصور.
ولكن ألمانيا «الحية» لم تكن تعيش في الحقيقة، خلال هذه السنوات (1815-1847) في عالم السياسة، وإنما كانت تعيش في عالم الفكر والثقافة، وهذه الحياة الذهنية التي عاشتها ألمانيا، هي العامل الجوهري في تطور الكيان الألماني، من ناحية الشعور بالقومية؛ ولذلك فقد صار ضروريا بحث هذه الحياة الذهنية؛ للوقوف على مدى اتجاهاتها القومية في ألمانيا. (11) الحياة الذهنية واتجاهاتها القومية
أما هذه الحياة الذهنية فقد كانت قوية عارمة، ثم إنها كانت خليطا مبعثرا من الاتجاهات والآراء في الوقت نفسه، فقد سادت بها الاتجاهات المناقضة لبعضها بعضا، وتعددت بها أنظمة التفكير، فكان بعض هذه الاتجاهات والأنظمة، منفصلا تماما عن كل حركة سياسية في حين كان البعض الآخر ذا صلة وثيقة بموجات الفكر الرجعية.
ومع أن هذه الحياة الذهنية لم تكن متصلة بالحياة السياسية، فقد كانت مصطبغة بالسياسة، وكان لها نتائج سياسية، مما جعلها متباينة في نشاطها مع حياة الخمول والركود في العالم السياسي، وذلك إلى جانب أن الضغط السياسي الذي سار عليه النظام القائم للحد من هذه الحياة الذهنية ذاتها، قد أجبر «العلماء» ورجال الفكر على الاتجاه نحو حلول جديدة، ترفع هذا الضغط الحكومي السياسي، وهكذا فإن الحياة الذهنية الألمانية التي لم تكن مؤسسة على مسطح سياسي، سرعان ما صار لها نتائج، ظهرت آثارها في خلق روح قومي، وفي حمل الألمان على الانصراف عن تأييد، بل ومقاومة ذلك النظام القائم ، والذي عطل في كل مكان نمو حياتهم الروحية. (11-1) الجامعات
وفي ألمانيا، كانت الجامعات هي المتمتعة بالعيش الحقيقي بفضل «الوظائف القومية» التي تؤديها للمجتمع الألماني، وفي هذا المجتمع كان لأساتذة الجامعات نفوذ يفوق كثيرا ما كان لرجال الصحافة والسياسة، وشهدت ألمانيا دائما وجود عدد كبير من الجامعات بها، سواء تحت «النظام القديم» أو في عصر الثورة والسيطرة النابليونية. لقد اختفت فعلا بعض الجامعات أثناء «الثورة» والسيطرة الفرنسية، ولكن عددا من الجامعات قد تأسس كذلك بعد «الثورة»، من ذلك تأسيس جامعة «بون» في سنة 1818، والغرض من إنشائها صبغ المقاطعات الجديدة التي ضمت إلى بروسيا في مؤتمر فينا بالصبغة البروسية، ثم تأسيس جامعة في «ميونخ» لتحل محل جامعة لاندشهوت
Landshut
القديمة، التي كانت بدورها قد خلفت جامعة اليسوعية الكبيرة في إنجولشتاد
Ingolstadt ، ولقد أنشئت كذلك جامعتان في سويسرة، أحدهما في «زيورخ» في سنة 1833، والأخرى في «برن» سنة 1834، وذلك إلى جانب جامعة «بال» القديمة، ولم تكن هذه جامعات ألمانية، ولكن الألمانية كانت لغة التدريس بها، فصارت لذلك ملاذ الأساتذة الألمان من الأحرار، الذين يطردون من ألمانيا، أو يضطرون إلى مغادرتها، وكان بهذه الجامعات السويسرية أثر ونفوذ عظيمان في ألمانيا الجنوبية.
ولقد استأثرت الحياة الجامعية، بكل اهتمام الألمان، فهم لا يفوتهم حادث قد يقع في هذه الحياة الجامعية، أو تغيير يطرأ، ويسترعى نشاط هذه بعناية فائقة، المناقشات الدائرة والنزاعات الحادة بين مدرستي شلاير ماخر
Schleiermacher
و«هيجل» الفلسفيتين، أو محاورات علماء اللاهوت الكاثوليك؛ العقليون، أتباع مدرسة جورج هرميس
Hermes ، والذين عرفوا بالاعتدال، فصاروا يعرفون «بالهرميسيين»، من جانب، و«القوميين» - الأرثوذكسيون الذين صاروا مؤيدين لسلطان كنيسة روما تحت تأثير الرومانتيكية، ثم بفضل نشاط البابوية - من جانب آخر، وتلك مشاحنات كانت ذات صبغة جامعية بحتة، وعلى مستوى روحي، مست مشاعر الألمانيين، وتجاوبت أصداؤها في كل أنحاء ألمانيا.
ويذكر الكتاب حادثا، وقع في سنة 1837، للتدليل على نوع «المناقشات» الجامعية التي كان يهتم بها الرأي في ألمانيا وقتئذ، هو أن ملك هانوفر الجديد إرنست أوجستس
Augustus (1837-1851) عمد إلى إلغاء الدستور الذي كان قد أصدره والده «جورج الثالث ملك إنجلترا»، وكان هذا الدستور معطلا قبل إلغائه، ومع ذلك احتج سبعة أساتذة من جامعة «جوتنجن» ضد هذا الإلغاء غير القانوني. فجردهم الملك من وظائفهم؛ وهؤلاء الأساتذة كانوا الأخوين «جاكوب» وولهلم جريم
Grimm ، وعالم الفلسفة الطبيعية أو الفيزياء ولهلم ويبر
Weber ، والمستشرق هاينريسن إيوالد
Ewald ، ثم اثنين من أساتذة التاريخ والعلوم السياسية؛ جورج جرفينوس
Gervinus
وفردريك داهلمان
Dahlmann ، ولقد أثار إقصاء هؤلاء الأساتذة موجة من الاستياء، طغت على كل ألمانيا باستثناء «الحكومات» ذاتها بطبيعة الحال، فقد رفض «الدياط» مطلبا تقدم به هؤلاء الأساتذة ينشدون تدخل الدياط في مسألتهم، وعلى ذلك فقد تأسست هيئة في «ليبزج» لجمع أموال واتخاذ الخطوات اللازمة لمساعدة الأساتذة، وأخذت تترى عليهم رسائل التحية والتكريم من كل مكان، وعرضت عليهم الجامعات الأخرى «كراسي» الأستاذية بها، كما منحوا الدكتوراه الفخرية.
لقد أخمدت تماما إجراءات القمع في الحياة السياسية في الجامعات، سواء بسبب إقصاء الأساتذة، أو بسبب فرض الرقابة على الطلاب، وقد منع الطلاب من جماعات «البورشنشافت» من الالتحاق بخدمة الحكومة، أو الكنيسة، أو التعليم والمدارس، وصار محرما عليهم امتهان الطب أو المحاماة، ولكن لم يكن لهذه الإجراءات أهمية كبيرة؛ لأن الحياة السياسية ذاتها بالجامعات، لم تكن - كما ذكرنا - لها قيمة ملحوظة.
وإذا كانت الحياة السياسية ضئيلة القيمة، في هذه الجامعات، فقد توافرت الأسباب التي جعلت الجامعات تنعم بأنواع أخرى من الحياة المليئة بالنشاط، والتي كانت موضع فخر لها، ومبعث شعور بكبرياء عظيم، من ذلك أن الحركة العلمية في الجامعات كانت عظيمة حقا، يكفي للتدليل على تعدد نواحيها ذكر بعض الأساتذة الذين اشتهروا في الرياضيات مثل: هس
Hssse
ولوجون ديريشلت
Lejeune Dirichlet ، وفي الكيمياء ليبيج
Liebig ، فوهلر
Wohler
والأخير هو مكتشف الألمونيوم، وفي البيولوجيا أو علم الحياة - «ولهلم ويبر» الذي سبقت الإشارة إليه، وهرمان هلمهولتز
Helmoltz ، ولقد قامت إلى جانب هؤلاء العلماء، مدرسة من أصحاب الثقافة العالية والمتأدبين، من المؤرخين مثل؛ جوهان جوستاف درويزن
Droysen (1808-1884)، أستاذ التاريخ القديم الذي كتب تاريخ مقدونيا، وقد تحدث «درويزن» في مؤلفه هذا عن فيليب المقدوني، ومحاولاته لتوحيد بلاد اليونان؛ ولذلك فقد حوى هذا الكتاب إشارات للتاريخ الألماني وللحالة القائمة في ألمانيا وقتذاك. وكان في برلين مؤرخ عظيم آخر، هو ليوبولد فون رانكه
Ranke (1795-1886) صاحب مدرسة البحث التاريخي التي كان لها أكبر الأثر على تطور الدراسات والبحوث التاريخية بعد ذلك، والذي نشر في سنة 1834 تاريخا للشعوب الرومانية والجرمانية، ومع أن «رانكه» كان مؤرخا، منصرفا للبحث والدراسة، فلم يشتغل بالسياسة، فقد بدأ قبل ذلك بعامين (1832) بنشر مجلة تاريخية سياسية،
45
غرضها إيقاظ الروح الوطنية في بروسيا، الأمر الذي جعل الحكومة تصدر مجلة معارضة يتولى تحريرها أعلام الرجعيين، ممن سبق ذكرهم، مثل؛ «ويتجنستين» و«كامنتز» وغيرهما من رجال الحكومة، وكان بفضل ثقافة «رانكه» الواقعية، أن صار تلاميذه متأثرين بالواقعية في تفكيرهم وكتاباتهم، وكان من هؤلاء المؤرخ هليزيسن فون سيبل
Sybel
الذي طالب في سنة 1838 بأن يكون من حق المؤرخ، التعبير عن المشاعر والعواطف التي يتأثر بها والذي طالب بضرورة تشبع الجامعات بروح العصر السائدة، ولقد تميز من بين فقهاء اللغة كارل لاشمان
Lachmann
الذي بدأ حياته في سنة 1816 بعقد البحوث التحليلية الناقدة لأصول الأساطير الجرمانية، في القصة أو الملحمة المسماة نيبلؤو نجنليد
Nipelu Ngenliea
التي يرجع تاريخها إلى حوالي 1190-1210 ميلادية، والتي تقص أسطورة جنس جرماني فوق الطبيعي أو خارق للعادة يقوم على حراسة كنز انتزعه منهم بطل هذه القصة، واسمه نيبلؤو نجن
Nipelu Ngen
ونشر «جاكوب جريم» قواعد للغة الألمانية سنة 1819، ثم نشر بعد تسع سنوات (1828) مؤلفه عن القوانين القديمة أو القضاء الألماني في الأزمات المالية، كما نشر في 1837 كتابه عن الميثولوجيا الألمانية.
46
وإلى جانب هؤلاء اللغويين والمؤرخين، برز علماء متخصصون في الدراسات المتعلقة بالكتاب المقدس، وتفسير عباراته لغويا وتاريخيا وقانونيا ... إلخ، في الميدان الذي اشتهرت به ألمانيا من قديم، فقامت في هذه البلاد «مدرسة» بذاتها متفرغة لهذه الدراسة، توفرت على دراسة النصوص الأصلية الأولية، والبحث في تاريخ الكنيسة في عهودها المتقدمة. ولقد قامت هذه المدرسة في «توبنجن»، حيث التف التلاميذ حول كريستان بور
Baur
الذي أكسب جامعة «توبنجن» شهرة ذائعة بفضل دراساته العميقة عن الصفات الخلقية والاتجاهات التي كانت للقديسين الأربعة؛ متى ومرقص ولوقا ويوحنا، ثم بفضل بحوثه عن رسائل بولس الرسول.
وأما هذه «المدرسة» فقد كان من خير نتاجها مؤلف - أحدث ضجة عظيمة عن حياة السيد المسيح - للعالم اللاهوتي دافيد فرديك ستراوس
Strauss (1808-1874)، واتبع «ستراوس» في كتابة هذا التاريخ الأسلوب النقدي والتاريخي؛ كي يتمكن من استخلاص الحقائق التاريخية، وعزلها عن الأحداث التي تشكلت منها كل تلك الأساطير التي أحاطت حياة السيد المسيح في نظره بقصص من نسج الخيال وحسب، ولكن «ستراوس» عندما فرغ من تحليل هذه الحقائق والأساطير التي تألفت منها سيرة السيد المسيح، كان قد انتهى إلى اعتبار أنه لم تكن هناك وقائع تاريخية صحيحة تستند عليها حياة السيد المسيح. وراح «ستراوس» يفسر هذه «الحياة»، إذن كمجموعة من الأساطير، ولا شيء غير ذلك، ونشر «ستراوس» كتابه في سنة 1835، وانعقد رأي المؤرخين على أن هذا الكتاب كان أجرأ محاولة قام بها أحد الفقهاء حتى هذا الوقت؛ للتخلي عن كل تلك الجهود التي كانت تبذل من أجل التوفيق بين المعتقدات القائمة على قوة الإيمان وحسب، وبين تلك التي يجب أن تقوم على الحقيقة المدعمة بالأدلة والبراهين، ثم محاولة تطبيق أساليب البحث الناقد على الأسس التي شيدت عليها صروح المسيحية.
ولقد كان من أثر وجود هذه «المدرسة التأويلية» المختصة بتفسير الكتاب المقدس أن انطلقت الآن الحملة التي كانت وقتئذ موجهة ضد الدين، والتي تزعمها كتاب من طراز «أرنولد روج»
Ruge
1802-1880 الفيلسوف والناشر - وأصله من بوميرانيا - والذي أخذ ينشر ابتداء من سنة 1837 صحيفة حوليات هال
Halle - وسوف يأتي الكلام عنها في موضعه - أو آنسلم فويرباخ
Anslem Feuerpach ، من تلامذة «هيجل» اليساريين، الذي أثار الأوساط المثقفة في ألمانيا بمؤلفه عن «جوهر المسيحية»
47
في سنة 1841، عندما أراد أن يقيم الحجة على أن «الدين» أو العقائد الموحى بها من عند الله لا تعدو أن تكون «تأليها» للإنسانية، وأنكر «فويرباخ» أن الميتافيزيقا (علم المعقولات أو ما فوق الطبيعة) صحيح أو موافق للعقل، ورجع بالفلسفة إلى المشاهدات العينية، ولقد انتهى الأمر بهؤلاء الهيجليين اليساريين - أرنولد روج، وآنسلم فويرباخ وإضرابهما - إلى نكران الدين كلية، وكان من أشد هؤلاء عنفا برونو باور
Bruno Bauer (1809-1882) الذي نشر في سنة 1843 مؤلفه عن «المسيحية بعد إزاحة الستار عنها».
48
وأمكن توثيق الصلة بين العلماء عن طريق المؤتمرات التي صار يعقدها هؤلاء، فابتداء من سنة 1822 صارت تنعقد مؤتمرات المتخصصين في العلوم الطبيعية وفي الطب، ثم من سنة 1828 مؤتمرات الفقهاء اللغويين، وفي الأيام التي سبقت «ثورة 1848» أصبحت هذه المؤتمرات - وكما كان الحال في إيطاليا - الأداة الأساسية التي أمكن بها إذاعة الفكرة القومية، حيث قد بدأ «الجرمانيون» أنفسهم يجتمعون في مؤتمرات خاصة بهم في سنة 1846.
ومع أن هؤلاء العلماء لم يكونوا بحال من الأحوال من رجال السياسة، فإن نشاطهم والمؤتمرات التي عقدوها، كان عملا على جانب كبير من الخطورة، من حيث إنه قد ساعد على نمو روح البحث والتنقيب العلمي وراء الحقائق، والمناقشة الناقدة، وهي الروح التي اصطدمت بنظام المراقبة السياسية، والتي أدت بسبب هذا الاصطدام إلى زيادة التذمر والغضب من هذا النظام نفسه، وعلى خلاف الحياة السياسية التي اتسمت بالخمول والركود، لم تلبث أن صارت هذه الحياة الثقافية أو الذهنية ذات النشاط العظيم، مبعث فكرة ثانية للمقاومة من أجل الدفاع عن كيانها ذاته ضد إجراءات الضغط والقمع المتبعة معها.
ومن ناحية أخرى، فإن هؤلاء العلماء والمؤرخين والفلاسفة ... إلخ، بالرغم من أن كل واحد منهم كان ينشط في ميدان تخصصه، متفرقين عن بعضهم بعضا، فإنهم قد أفلحوا في خلق روح تماسك وارتباط قومي، فيقول «جاكوب جريم» في كلام له فيما بعد وهو يذكر بحوثه اللغوية: «إنه كان يعتبر هذه البحوث اللغوية دائما كواجب جدي ولازم الأداء، والغرض المعين منه خدمة الوطن المشترك، والاحتفاظ بمحبة هذا الوطن.»
وهكذا، فإنه يصح لنا القول بأن هذه الحياة الذهنية (الثقافية) والجامعية كانت ترعى الفكرة القومية، وتحفظها، ولكن في المعنى الذي كان يتصوره «جوهان هردر»
49
أكثر مما كان يدور في ذهن «العقليين» الفرنسيين، على أن العمل الذي قام به هؤلاء العلماء الألمان، لم يكن من المنتظر على كل الأحوال أن تظهر آثاره في هذه الناحية القومية خصوصا، إلا بعد مضي زمن طويل. (11-2) الحركة الأدبية «السانسيمونية»
50
ولقد كان طبيعيا أن تسترعى الحركة الأدبية قدرا أكبر من انتباه الناس، مما فعلته الحركة العلمية. فالمشتغلون «بالأدب» أكثر عددا، وجمهور المهتمين «بالأدب» وتتبع الحركة الأدبية، أكبر الجماهير المثقفة. وفي ألمانيا نشطت هذه الحركة الأدبية نشاطا عظيما في ذلك الوقت، ولكن دون أن تكون لها قيمة مرموقة. فهناك مدرسة للشعر، من أعلامها؛ فردريك روكيرت
Ruckert ، وبلاتن
، وعلى الخصوص: لودفيج أوهلاند
Uhland ، وهناك كتاب القصة أو الروائيون، مثل ؛ «إيمرمان» الذي سبقت الإشارة إليه، وبرتولد أورباخ
Auerbach
الذي علم «الفلاحين» تذوق الأدب، وأثار اهتمام «البلاط» به. ثم كان هناك كتاب المسرحيات (الدراما)، مثل؛ جراب
Grappe
الذي تخصص في المسرحيات التاريخية، وهيبل
Heppel
51
الذي بدأ حياته الأدبية في هذا العهد وبلغ نتاجه ذورته في العهد التالي.
والذي تجدر ملاحظته أن هذه المدرسة الأدبية، قد قطعت كل صلة الرومانتيكية ووجهت عنايتها لملاحظة الحياة الواقعية الطبيعية.
ولقد وجد من بين هؤلاء الكتاب ورجال الأدب جماعة قصرت اهتمامها على السياسة، واتخذت لنفسها اسم «ألمانيا الفتاة»، وصارت تعرف به، وهي الجماعة التي تألفت على هامش حوادث 1830، وغداتها، وهؤلاء الجماعة - ألمانيا الفتاة - هم الذين صاروا يشتركون الآن في حركة تقوم على المبادئ الحرة والقومية، وتختلف اختلافا شديدا عن حركة سنة 1813، وذلك من حيث إن الحركة الحالية كانت روحية وحسب، وليست حركة «عمل» أو فعل «مادي»، ثم إنها كانت كذلك، وعلى نحو ما كان عليه الحال في القرن الثامن عشر، حركة «أممية» أي مختصة بكل أمم العالم، وليست قاصرة على ألمانيا وحدها، كما لم تكن موجهة ضد فرنسا؛ أي مصطبغة بشعور العداء ضد هذه الأخيرة، على خلاف ما كان عليه الحال في حركة 1813.
أما هذا «العالم المثقف» في ألمانيا، فقد وجد أنه صار يعيش في اضطراب وقلق عظيمين، وتطفى عليه موجة من القنوط وعدم التشجيع، وذلك غداة إجراءات القمع والضغط التي ذكرناها في سنة 1832، ولقد بقي هؤلاء «المثقفون» يمرون بهذه التجربة في السنوات من 1832 إلى 1835، ولقد ظهر كأنما قد قضى خضوع ألمانيا لسلطان الحكومات القائمة في شتى دولها؛ على كل نزعات الحرية، قضاء مبرما، حتى إن أقصى ما قد يحق وقتئذ للمرء أن يطمع في الظفر به، لم يكن يعدو - على ما يبدو في هذه الظروف - مجرد إنقاذ البقية الباقية من الحريات، التي تسنى لها البقاء في ألمانيا الجنوبية، كما كان يبدو كذلك أن من الواجب أن يطرأ تغيير روحي (أخلاقي) واجتماعي على ألمانيا، قبل أن يتمكن أحد من الوصول إلى «نتائج» - أو إحداث تغييرات - سياسية؛ وذلك لأن «التحول » الأخلاقي والاجتماعي، كان شرطا أساسيا لا مندوحة من توفره سلفا، وذلك تمهيدا «للتحول» السياسي المنشود.
على أنه حتى يمكن «تنفيذ» هذه «الثورة» الخلقية والاجتماعية، لم يكن هناك بد من أن يستعين هؤلاء «المثقفون» من الشباب الألماني «بالنفوذ» الأجنبي؛ المتمثل في المذهب الحر الفرنسي، أو في مذهب السانسيمونيين الجديد. وهؤلاء الأخيرون ينتسبون لمؤسس جماعتهم؛ كلود هنري كونت دي سان سيمون
St Simon (1760-1825)، وهو من أعلام الاشتراكيين في فرنسا الذين أرادوا بناء العوالم المثالية. ومن المعروف أن سان سيمون كان يرى هذا العالم المثالي في إنشاء الدولة الصناعية التي يدبرها العلم الحديث، نشر أول مؤلف له في سنة 1803 بعنوان «رسائل أحد المقيمين في جنيف أو سكانها»
52
كان بمثابة الإنذار بالخطر الذي يتهدد أصحاب الأملاك بالثورة من جانب الذين لا أملاك لهم، ثم لم يلبث أن نشر طائفة من «الكراسات» يؤيد فيها فكرته القائلة بأن عهد طبقة النبلاء قد ولى وانقضى، وأن الوقت قد حان كي يتولى «الصناعيون» توجيه المجتمع. فيعمل هؤلاء على إسعاد المجتمع وتنمية ثروته، وتنظيمه وإشاعة الهدوء والسكينة فيه، وذلك بأن يسترشدوا في نشاطهم لبلوغ هذه الغاية بعبادة محبة الناس، والبشرية، وضرورة التعاضد والتكافل، وهي العبادة التي سوف تصبح «المسيحية الجديدة».
ولقد تأسست «مدرسة السانسيمونيين» في فرنسا، بعد وفاة سان سيمون نفسه، تحت زعامة اثنين من تلاميذه؛ أرمان بازارد
Armand Bazard
وبروسبر إنفانتان
، وقد ألقى «بازارد» خصوصا سلسلة من الدروس العامة في باريس في سنتي 1828 و1829، أوضحت الأفكار والمبادئ الأساسية التي قام عليها مذهب السانسيمونيين وعقيدتهم، وفي رأي السانسيمونيين أن الإنسانية (البشرية) تمر في أدوار أو عهود تنظيمية (عضوية) تخضع البشرية أثناءها لنظام اجتماعي مقبول من الشعوب، ويقره الدين، كما تمر في عهود أو أدوار يتعرض فيها هذا النظام الاجتماعي للنقد، وتبحث الإنسانية أثناءها عن نظام جديد، ودور «النقد» هو ذلك الذي تعانيه الإنسانية أو البشرية الآن، وقد بدأ منذ أن بدأ انحلال المسيحية في القرن الثامن عشر، وسوف يخلفه عهد تنظيمي (عضوي)، تسوده الديانة الجديدة القائمة على المحبة، ولقد استند تاريخ البشرية حتى الوقت الحاضر على استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، ولقد اتخذ هذا الاستغلال صورا مختلفة متلاحقة، بدا فيها «مخففا» في كل واحدة منها عن سابقتها، فكانت العبودية
Esclavage ، ثم الاسترقاق (المتعلق برق الأرض)
Servage ، ثم الاستخدام نظير أجر معين، أو التوظف
Salariat . ويرى السانسيمونيون أن من الواجب الاستعاضة عن العداء الناشب بين «الممتلكين» - أصحاب الأملاك و«غير الممتلكين» بمبدأ المشاركة، وأن يقوم مجتمع شيوعي، مكان المجتمع القائم على الملكية الفردية، ولم تكن الشيوعية التي أرادها السانسيمونيون تسوي بين الناس - بل كانت تضع الناس في مراتب متفاوتة، بحيث لم يكن ينال المرء في نظام هذه الشيوعية إلا قدر الجزاء الذي تستحقه، عملا بالقاعدة القائلة: «ليأخذ كل فرد حسب طاقته، وليأخذ صاحب هذه الطاقة حسب العمل الذي تؤديه طاقته.»
53
والعداء الناشب اليوم بين الطبقات، صار يصحبه عداء بين الشعوب، وذلك عداء سوف يختفي كذلك بفضل «المشاركة العامة» التي سوف تعم الدنيا بأسرها والمؤسسة على العاطفة الدينية.
وابتداء من يناير 1831 قامت «مدرسة السانسيمونيين» بدعاية كبيرة في «ألمانيا»، وذلك بفضل الكراسات والنشرات العديدة التي صارت تأتي من فرنسا، وأيدت جريدة لوجلوب
Le Globe ، وهي التي صارت صحيفة السانسيمونيين، اهتماما فائقا بشئون ألمانيا، وسرعان ما ظهر «أدب سانسيموني» في ألمانيا ذاتها، إما لبيان المبادئ السانيسمونية وتأييدها، وإما للطعن على هذه المبادئ ومحاولة دحضها. ونشر بوشهولتز
Bucholtz
موجزا لآراء السانسيمونيين ومذهبهم، كما توفر موريس فايت
Veit
خصوصا على إصدار البحوث العظيمة لتوضيح «السانسيمونية»، وذلك في عامي 1832 و1834، ونشرت الصحف في هذه الفترة ذاتها مقالات عديدة، تناولت بالقدح أو المديح هذه «السانسيمونية»، إلى جانب معالجة مسائلها معالجة مستفيضة، بل ومما ينهض دليلا على مبلغ الدعاية النشيطة التي لقيتها السانسيمونية في ألمانيا، ومبلغ خطورة هذه الدعاية في الوقت نفسه، أن الأساقفة صاروا يصدرون المنشورات والتنبيهات لتحذير الناس من السانسيمونية.
ولقد استمسك الألمان - وبالأقل فريق معين منهم - بطائفة من الأفكار والآراء التي نادت بها «المدرسة السانسيمونية»، فاستمسك الألمان بفكرة التناقض القائم بين الغنى والفقر، والمقاومة الناشئة بين الطبقات الغنية والفقيرة، وهي «الفكرة» التي أفضت إلى قيام حركة ديمقراطية جديدة في ألمانيا، تنشد أهدافا ديمقراطية واشتراكية معا وفي الوقت نفسه. وأما الذي صار يمثل هذه الحركة، فكان الكاتب الشاب جورج بوشنر
Buchner «الديمقراطي» المتحمس، الذي شكل جمعيات سرية في هس كاسل، ونشر كراسة بعنوان «الفلاح الهيسي»،
54
وجه فيها حملة عنيفة ضد الأغنياء وضد الأمراء، ثم نادى بالثورة الاجتماعية، وقال «بوشنر»: إن الذي يسيطر على مقدرات العالم المعاصر، إنما هو «المعدة ومسألتها الكبيرة»،
55
وأنشأ «بوشنر» جمعية لحقوق الإنسان في «هس» على غرار جمعية حقوق الإنسان في فرنسا، وبلغ عدد أعضاء جمعيته الأربعين، وفي سنة 1834 نشر مسرحية عاطفية مثيرة بعنوان «موت دانتون»،
56
واستطاع أن يفلت من المحاكمة والسجن في الوقت المناسب، فغادر جيسين
Giessen
لاجئا إلى ستراسبورج.
ومن الآراء الأخرى الذائعة وقتئذ، كان الاعتقاد بأن الحياة الاجتماعية تفوق كثيرا في أهميتها الحياة السياسية البرلمانية، كما كان يسود الاعتقاد بقوة الحركة الصناعية وبضرورة تحديد الغاية، التي يجب توجيه هذا النوع من النشاط البشري إليها لتحقيق المصلحة المقصودة، وإلى جانب هذا فقد ذاع كذلك الرأي القائل «بالأممية»،
57
أي شعور الانتماء إلى كل الأمم، وعدم الارتباط بوطن أو بلد معين، ثم تآخي الشعوب التي يجب أن تتحد في ائتلاف عظيم من أجل استقلال موارد العالم.
ولقد استخلص الألمان من هذه الآراء والفكرات نوعا من الصوفية، كما استخلصوا منها أفكارا بشأن تحرير المرأة، وسرعان ما قامت حركة واسعة تحت تأثير «السانسيمونية» لتحرير المرأة في ألمانيا وقتئذ، واعتمدت هذه الحركة النسائية خصوصا على جهود سيدتين كاتبتين؛ راهيل ليفن
Rahel Levin
التي نشرت «جورنالها» و«رسائلها» في سنة 1833، وكانت «راهيل ليفن» من أعلام الحياة الثقافية في برلين مدة طويلة، أما «الكاتبة الأخرى»، فكانت بتينا فون آرنيم
Bettina Von Arnim
صديقة «جيته» المشهورة، والتي نشرت في سنة 1834، وبعد وفاة «جيته» الرسائل التي تبادلتها مع هذا الكاتب العظيم، ولقد صادفت كتابات هاتين السيدتين نجاحا كبيرا في ألمانيا، وانكب الناس على قراءة ما صارتا تنشرانه بشغف وحماس، ولا جدال في أنهما قد تسببتا بجهودهما الأدبية تقوية الحركة النسائية في صالح إعطاء المرأة حقوقها، وتحريرها من سلطان الرجل.
وهكذا عاونت «السانسيمونية» على صنع أيديولوجية جديدة في ألمانيا، كما أنها ساعدت - من ناحية أخرى - على أن يحقق الألمان من حياتهم الصناعية نتائج مادية لنباء مجتمع أفضل. (11-3) الحركة الأدبية «ألمانيا الفتاة»
58
أما هذه الروح الجديدة - أو هذه المدرسة الجديدة - فقد ظهرت أثرها في حركتين معينتين؛ حركة نشاطها موزع أو مشتت في أنحاء ألمانيا عموما وتعرف هذه بحركة أو مدرسة «ألمانيا الفتاة»، وأخرى أكثر تحديدا، ينحصر نشاطها في الغرب، في الأقاليم الراينية، وتعرف باسم «المذهب الرايني الحر».
59
والذي يجب ملاحظته من مبدأ الأمر، أنه يجب التفريق بين «ألمانيا الفتاة» التي هي موضع دراستنا الآن وبين «ألمانيا الفتاة» التي كانت قسما من «أوروبا الفتاة»، التي أنشأها «مازيني» في سويسرة في الظروف التي سبق أن مرت بنا عند الكلام عن الحركة القومية وحركة الأحرار في إيطاليا. لقد أساء الخلط بين «مدرسة ألمانيا الفتاة» وهذه «الجمعية» المازينية إلى الكتاب الشبان الألمان، الذين لم يكن لواحد منهم في الحقيقة أي اتصال بأولئك المتآمرين الذين تألفت منهم «ألمانيا الفتاة» - المازينية - في سويسرة، وثمة ملاحظة أخرى، هي أن الكتاب المنتمين «لألمانيا الفتاة» في ألمانيا، والذين اشتغلوا بالسياسة أصلا، أو كانت لهم ميول نحو النشاط السياسي، لم يلبثوا أن نفضوا أيديهم من السياسة قطعا في سنة 1832، وذلك غداة حادث المظاهرات والصخب السياسي المعروف في «هامباك»، فكانت حركة «ألمانيا الفتاة» إذن حركة فكر وأدب في جوهرها.
ومن وجهة نظر الأدب، تعتبر حركة ألمانيا الفتاة خصما لكل علاقة بالرومانتيكية الصوفية والمثالية، من أجل العودة إلى عالم الحقيقة والواقع؛ العودة إلى «العقل » والعودة إلى الشعب، ثم إن هذه الحركة - ألمانيا الفتاة - من ناحية وجهة النظر السياسية، فكانت تعمل لتحرير الفكر، ولتحرير الأفراد، وحركة تريد انطلاق العاطفة والشعور وظفر الأمم بحقوقها وبحرياتها، وتحقيق السعادة، ونشر ألوية السلام.
وأما الكتاب الذين تألفت منهم «ألمانيا الفتاة» فقد جاءوا من نواح مختلفة، فمنهم الوطنيون والأحرار الذين التفوا حول «وولفجانج منزل»، وجريدة الصباح
Morgenblatt ، والذين كان من بينهم على وجه الخصوص؛ الروائي والكاتب المسرحي كارل فردنند جوتزكوف
Gutzkow (1811-1878)، وكان مولد هذا الأخير في برلين، بدأ حياته صحفيا، ثم سرعان ما انصرف عن فلسفة «هيجل»، وأدار ظهره لها، كما أدار ظهره للعصور الوسطى، وللرجعية، بتفكيرهما وأساليبهما، ويكاد يكون «جوتزكوف» جمهوريا في تفكيره، وكان من بين مؤلفاتها الأولى «رسائل مجنون إلى مجنونة»، وذلك في سنة 1831، وهؤلاء الكتاب الشباب اعتقدوا بضرورة معالجة أدب الشعب.
وغير هؤلاء، كان جماعة من الكتاب الذين ظهروا فرادى، ولم تجمعهم رابطة معينة، وكانوا يمثلون اتجاهات متعددة ومختلفة في عالم الفكر، نذكر منهم الشاعر الصحفي هاينريش لوب
Laube ، والذي كان برليني المولد كذلك (1806)، عمل في أول حياته مؤدبا أو معلما لأبناء الأسرة الكبيرة، تأثر منذ سنة 1831 «بالسانسيمونية»، فاعتنق المبادئ الاجتماعية الحرة، كما وقع تحت تأثير «فردريك ليست» عند عودة هذا الأخير من أمريكا (1832). وإلى جانب «لوب» نذكر ماندت
Mundt
وهو بروسي المولد كذلك (1808)، وقد عرفنا أنه كان يعيش في سكسونيا، ولم يلبث أن تحول إلى تأييد الملكية الدستورية، وفي رأيه كانت سكسونيا تمثل الدولة والدين، وذلك على خلاف الكتاب الآخرين، والذين كانوا عموما لا يؤيدون بروسيا، وكان «ماندت» نفسه ناقدا أدبيا.
وثمة مجموعة أخرى من الكتاب المنتمين لهذه المدرسة (ألمانيا الفتاة)، وهؤلاء كانوا من المشتغلين بالجامعات، نذكر منهم وينبارج
Wienbarg (ولد في سنة 1802)، والتحق بجامعة كييل
Kiel
أستاذا من غير مرتب، ولكن معترفا به
60
نشر مؤلفا عن «هولندة خلال سنتي 1831، 1832»، ثم نشر في 1834، مؤلفا بعنوان «الحقول النضرة أو الجميلة» أهداه «لألمانيا الفتاة»، والذي كان بعد هذا الإهداء، أن صارت هذه الجماعة من الأدباء تعرف باسم «ألمانيا الفتاة».
وأخيرا، ضمت إليها «ألمانيا الفتاة » فريقا من الكتاب، يعتبرون طرازا بذاته؛ بسبب ظروفهم العائلية، أو أصولهم التي نبتوا منها، مثل «لودفيج بورن» اليهودي الأصل، وقد سبق الكلام عنه، ومثل «هنريش هايني» 1797-1856، الذي كان يهوديا كذلك، وقد سبقت الإشارة إليه في مواضع متعددة، وحان الوقت لذكر طرف من سيرته.
فقد ولد «هايني» سنة 1797 في «دسلدورف» في أسرة يهودية تشتغل بالتجارة، وتملك بيوتا تجارية هامة، ومصرفا كبيرا، كان أحد هذه المؤسسات في همبورج، وحاولت الأسرة أن تزج به في هذه الحياة التجارية والمصرفية، ودرس القانون في جامعة «بون»، ثم من جامعتي «جوتنجن» و«برلين»، ولكن لم يكن القانون هو الذي يستأثر باهتمامه، فصار «هايني» يقصد كليات الآداب، وكان في سنة 1825 أن أتم «هايني» دراسته القانونية، وحصل على دكتوراه القانون، ولكن تعذر عليه الالتحاق بخدمة الحكومة؛ بسبب يهوديته، فاعتنق المسيحية، التي بقي مع ذلك لا يؤمن بها أو بغيرها من الأديان، كما لم يفده شيئا اعتناقه المسيحية؛ لأنه ظل معبدا، ويعتبره الوسط الألماني منبوذا، فكان ذلك أحد بواعث اعتناقه للمذهب الحر، مثله في ذلك مثل «لودفيج بورن».
وانكب «هايني» على الحياة التي آثرها على غيرها؛ حياة الأدب، التي استغرقت كل نشاطه، فنشر في سنة 1822 أول مجموعة لقصائده، ثم كان في سنة 1826 أن نشر مؤلفه الهام صور لأسفار
Reisebilder
وقد أقنع النجاح الذي صادفه «هايني» بالتفرغ للأدب تماما، ثم ظهر له في سنة 1827 كتاب أغان
Buchder lieder ، وشرع «هايني» بعد ذلك، يقوم بعدد من الرحلات لزيارة لندن، وميونخ، وإيطاليا العليا، وعندما قامت «ثورة 1830» كان «هايني» موجودا في همبورج، وقد تحمس الشاعر حماسا عظيما للثورة ولمناصرة الفرنسيين، ولكن سرعان ما أخمدت الثورة، واستتب الأمر «للرجعية» في همبورج، وطرد اليهود منها، وأنقذ الناشر المعروف «كوطا»، هايني، عندما عرض عليه أن يعمل، ممثلا في باريس لجريدة الفازيتة العامة
Allegemeine zeitung
فاستقر به المقام في باريس سنة 1831 مندوبا لهذه الجريدة بها.
ولقد كان وجود علمين من أعلام كتاب «ألمانيا الفتاة» يعيشان خارج ألمانيا، حقيقة على جانب عظيم من الأهمية، فقد سبق أن عرضنا كيف استقر «لودفيج بورن» في باريس منذ بداية سنة 1830، وقد لحقه الآن للاستقرار بالعاصمة الفرنسية كذلك «هنريش هايني»، وكلاهما يعتبران من زعماء حركة «ألمانيا الفتاة»، وهما يعيشان الآن بعيدا عن ألمانيا، وفي بلاد أجنبية؛ ولذلك فقد بقي من أعلام هذه الحركة، في ألمانيا ذاتها، «كارل جوتزكوف»، وبذل «جوتزكوف» الآن قصارى جهده في صيف 1835؛ ليجمع أنصار «ألمانيا الفتاة» حول مجلة أسسها لهذه الغاية باسم المجلة الألمانية
Deutsche Revue
فالتف حوله لفيف من الناشرين والأدباء، والقصصيين، ومؤلفي المسرحيات، وكذلك أساتذة الجامعات.
وكانت هذه الحركة (حركة ألمانيا الفتاة) تخضع في الميدان السياسي لنفوذ «لودفيج بورن»، الذي يقوم على توجيهها، ولقد بقيت هذه الحركة مختلطة بحركة المذهب الحر (أو المبادئ الحرة) عموما إلى وقت حادث «هامباك» الذي عرفناه، فانفصلت من ذلك الحين حركة ألمانيا الفتاة عن السياسة.
وأخيرا فقد خضعت حركة ألمانيا الفتاة، كذلك لنفوذ «هايني» وتوجيهه، وكان «هايني» حينئذ قد اعتنق «السانسيمونية»، ولو أنه لم يكن بحال من الأحوال ديموقراطيا.
أما برنامج هؤلاء الأعلام السياسي، فقد كان برنامج الأحرار العاديين، ولم يكن مع ذلك برنامجا متقدما، ويتميز على وجه الخصوص، وقبل كل شيء ما بالطابع الجدلي والروح الناقد، وهو طابع أشد بروزا، ويقود إلى نشاط أعظم كثيرا في كل الميادين الأخرى خلاف ميدان السياسة. •••
أما وقد تعرفنا إلى مدرسة «ألمانيا الفتاة» وإلى أعلامها، فإنه يجدر بنا التساؤل الآن عن قيمة هذه المدرسة أو الحركة، من ناحية وجهة النظر القومية، ولعل أول ما نلاحظه على هؤلاء الجماعة من الأدباء والمفكرين إلخ، أنهم قد تخلوا تماما عن شعور الكراهية لفرنسا، وأنهم يدينون «بالأممية»
61
التي عرفناها بأنها الشعور بالانتماء إلى كل الأمم، وعدم التقيد بوطن واحد، فقد عاد هؤلاء إلى اعتناق «الأممية»، وصاروا الآن يصوغون قلائد المديح لفرنسا، فينشر «لودفيج بورن» مجموعته الأولى «رسائل من باريس»
62
في سنة 1832، وعددها ثمانية وأربعون خطابا، وتفيض بالمديح لفرنسا بدرجة من الحماس، أثارت السخط، و«الفضيحة» في ألمانيا، ومع ذلك فقد نشر «بورن» مجموعته الثانية من هذه الرسائل في سنة 1833، ثم مجموعته الثالثة منها في سنة 1834، ولقد نشر «هايني» مؤلفه: «صور من باريس»
63
في فصول ظهرت تباعا في جريدة «الفازيتة العامة» في باريس ابتداء من 28 ديسمبر 1831، وأعلن «هايني» أنه صديق للفرنسيين؛ «لأنه كذلك صديق الناس جميعهم طالما أن هؤلاء معقولون وطيبون.» و«هايني» يقول فيما بعد: «إن عمل حياتي العظيم، كان بذل قصاري جهدي حتى يسود التحالف الودي بين ألمانيا وفرنسا، وحتى يتلف لصالحهما الأوهام الباطلة والعداوات الدولية.»
ولقد حدث في ألمانيا رد فعل ضد هؤلاء الأنصار والمؤيدين لفرنسا، وذلك من جانب أولئك الذين بقوا محتفظين بالروح التي سادت الكفاح الوطني في سنة 1813، خصوصا «ولفجانج منزل»، الذي تعرض بسبب ذلك لهجوم عنيف وقاس من ناحية «ألمانيا الفتاة»، فأصدر «لودفيج بورن» ضده كراسة بعنوان «منزل آكل الفرنسيين منهم وشراهة»، وذلك في سنة 1836، ثم حمل «دافيد فردريك ستراوس» حملة عنيفة على «منزل»، عندما قال عن هذا الأخير: إنه إنما يريد أن يجعل مقبولا من وجهة النظر الألمانية آراءه التي هي ذاتها لا يمكن أن تقضي من وجهة النظر الألمانية ذاتها إلا إلى الحماقات، أو إلى ما يستحيل قوله إطلاقا، من ذلك أن من الحمق «مطاردة» نابليون، واضطهاد «ذكراه»؛ لأنه ذات يوم كان قد ألحق الأذى بألمانيا وعسف بها، فإن نابليون لم يعد له وجود الآن، ولن يستطيع إلحاق الأذى أو العسف بألمانيا ثانية. ثم قال «ستراوس»: ونحن إذا شئنا العودة إلى التفكير فيما هو جدي، يصح لنا أن نسأل كيف أجاز «منزل» لنفسه أن يكتب: إن نابليون قد أوقع بنا الكوارث والنكبات، حتى إنه ليحق لنا نحن الألمانيين أن نغتسل مرة أخرى في نهر من دماء الفرنسيين؛ لأنه حتى هذه اللحظة لا تزال الراية الفرنسية تخفق من قمة كتدرائية (ستراسبورج)، ولم يحدث شيء حتى الآن لتحرير ألمانيا من النفوذ الفرنسي، وفي رأي «ستراوس» أن عبارات مثل هذه تصدر بعد ثمان وعشرين سنة من عقد الصلح، وفي وقت لم تعد فيه فرنسا تهدد ألمانيا - إنما تبعث على السخرية والهزؤ بكاتبها. وقال «ستراوس»: إن أناشيد الحرب، كانت ذات قيمة، وقت الحاجة إليها، وقت الحرب والكفاح، ولكن محاولة الاحتفاظ بها كأغنيات شعبية وقت السلام والهدوء، لمما يعتبر كذلك عبثا وسخرية.
ولم يسكت «منزل» عن هذه الحملات القاسية الموجهة ضده، بل إنه قد حمل هو الآخر حملات عنيفة مشابهة لها ضد كتاب وأدباء «ألمانيا الفتاة»، وصار على وجه الخصوص يستثير ضدهم السلطات الحكومية.
وكان من المتوقع أن تبدي «الحكومات» سريعا تذمرها من الروح الناقدة التي اتسم بها نشاط «ألمانيا الفتاة»، ومن ذلك الهياج في الخواطر الذي أثاره كتاب «ألمانيا الفتاة» في عالم الفكر والثقافة في ألمانيا، ولقد خلطت الحكومات عامدة - خصوصا الحكومة البروسية، حكومة فردريك وليم الثالث، وحكومة النمسا، البرنس مترنخ؛ بين الفكرات القومية، والمبادئ الحرة، فصارت هذه الحكومات تعتبر هذه المبادئ القومية والحرة، مبادئ ثورية، ثم إنها خلطت كذلك - وعن عمد - بين «ألمانيا الفتاة»، جماعة الأدب والفكر، وبين «ألمانيا الفتاة» الجمعية السياسية في «برن» بسويسرة، وكان تأثير «مترنخ» وفردريك وليم الثالث أن اتخذ الدياط قرارا في 10 ديسمبر 1835 ضد «مدرسة يعمل أفرادها الذين لا تخفى رغباتهم الحقيقة لمهاجمة الديانة المسيحية، والاعتداء على النظام الاجتماعي، وهدم الأخلاق»، ثم منعت من الصدور مجلة ألمانيا الفتاة - «المجلة الألمانية» - التي سبق ذكرها، وكل كتابات المؤلفين الخمسة الذين يعتبرون مسئولين عن حركة «ألمانيا الفتاة»، وكذلك كل ما قد يكتبونه في المستقبل، وهؤلاء هم؛ مايني، وجوتزكوف، ولوب، ووينبارج، وماندت، ولقد طلب كذلك من الحكومات في مختلف «الدول» الألمانية أن تقيم الدعوى ضد هؤلاء الكتاب.
وأسفرت هذه الإجراءات عن نتائج سريعة، فقد تخلى عن الحركة الجامعيون والصحفيون من المشتركين فيها، من هؤلاء؛ «ماندت» و«لوب»، وكان الأخير قد سجن مرة، فلم يعد يريد استئناف التجربة، فقام كلاهما بمساع في برلين، حتى لا تقام الدعوى، وتصدر الأحكام ضدهما، أما «جوتزكوف» فقد سجن في مانهايم
Mannheim ، ثم انتهى الأمر بصدور حكم عليه بالسجن أربعة أسابيع، وترك «جوتزكوف» الاشتغال بالسياسة.
وفي خارج ألمانيا، كان «بورن» و«هايني»، ومعهما الشاعر الفيلسوف والمؤرخ الفرنسي إدجار كينيه
Quinet (1803-1875) - وصاحب تاريخ الثورة الفرنسية المشهور؛ يقول: إن هؤلاء الثلاثة قد نصبوا أنفسهم الآن للدفاع عن «ألمانيا الفتاة» والمنتمين إليها.
وكان بعد بعض الوقت، أن رضيت الحكومات بجعل «الرقابة» مقصورة على الكتب والمؤلفات التي تم صدورها ونشرها حتى هذا الحين، فتركت لهؤلاء الكتاب الحق في الكتابة في المستقبل، ولكن لم يلبث أن أنشئت في بروسيا (برلين) لجنة خاصة، مهمتها الإشراف أو مراقبة مؤلفاتهم وكتاباتهم، وبقيت هذه اللجنة تؤدي وظيفتها حتى سنة 1848.
أما هذه الإجراءات التي اتخذت ضد هؤلاء الكتاب قبل المحاكمة والسجن إلخ، فإنها لم تلبث أن أظهرت أعلام «ألمانيا الفتاة»، في صورة «الشهداء»، فتزايدت شهرتهم لدرجة أن الأوامر التي صدرت للحد من نشاطهم، لم يكن لها أثر يذكر من وجهة النظر الثقافية والذهنية، ولو أن إجراءات المنع والتحريم هذه، كانت على جانب كبير من الخطورة؛ لأنها دون شك قد ساعدت من الناحية المادية على وقف ذلك الحماس أو الاندفاع الذي كان يصحب هذه الحركة.
وواضح أن كل هذه الأحداث التي ذكرناها مرتبطة «بألمانيا الفتاة» وتاريخها ونشاطها في هذه الفترة، إنما ينهض دليلا على النشاط الذهني في ألمانيا، أو الحياة الفكرية الألمانية، كان نشاطا محدودا، إن لم يكن ضئيلا؛ وذلك لأن هذه الحياة الذهنية، لم تكن تقوى على الصمود أمام السلطات الحكومية، بل كانت تخافها وتخشاها، الأمر الذي ترتب عليه أن «ألمانيا الفتاة» قد استمرت إجمالا حركة جد سطحية، وبقي أعضاء «ألمانيا الفتاة» من الكتاب والناشرين أقلية ضئيلة، لم يكن في وسعهم أن يؤلفوا في الحقيقة ما يصح تسميته بالمدرسة التي تستند إلى تنظيم طيب.
ومع ذلك فقد كانت حركة «ألمانيا الفتاة» تنقسم إلى قسمين؛ يسود أحدهما الميول أو الاتجاهات «الراديكالية» وأصحاب هذه الميول هم الذين اتهموا بالاشتراك في المحاولة الانقلابية الفاشلة في فرانكفورت (3 أبريل 1833)، وقد مر بنا هذا الحادث، وهم الذين وقع عليهم ضغط الحكومة، وصاروا ضحايا لاضطهادها. وأما القسم الآخر من الحركة، فكان يتميز القائمون به بميول أو اتجاهات أكثر اعتدالا، لم تلبث إجراءات القمع التي اتخذها «الدياط» في سنتي 1835، 1836 أن ألزمتهم الصمت.
ولقد كان سبب الضرر الذي نزل بأعضاء «ألمانيا الفتاة» ميولهم الفرنسية، التي عمدوا إلى إذاعتها، حتى صارت معروفة ومشهورة عنهم، وذلك في وقت كانت تبذل فيه «ألمانيا» قصارى جهدها؛ لتخلق الثقة في قدرتها، والاعتقاد في ذاتها، والعثور على «رسالتها» مرة ثانية، ومع ذلك فقد انجلت حركة «ألمانيا الفتاة» عن اختفاء النعرة الوطنية المتطرفة، والمغالاة في الشعور الوطني، وكانت «نعرة» صبيانية ولا مكان لها متخلفة من أحداث سنة 1813. ثم إنه لم تلبث أن أكملت الحركة الوطنية في سنة 1840، تشتيت «ألمانيا الفتاة»، وأدت إلى محوها تماما. (11-4) الأحرار الراينيون
ومع حركة «ألمانيا الفتاة»، سارت موازية لها - وجنبا إلى جنب - حركة أخرى، كانت ذات نتائج أعظم أثرا، ونعني بذلك حركة الأحرار الراينين.
فقد ترتب على إجراءات القمع التي تلت حوادثها سنة 1832، أنه لم يعد يوجد في ألمانيا سوى مركزين للنشر وإصدار المطبوعات المستندة على المبادئ الحرة، أحدهما في «شتو تجارت»، حيث يقيم الناشر البارون «كوطا»، والآخر في «همبورج»، حيث مقر الناشر الكاتب والتربوي يواقيم هاينريش كامب
Campe ،
64
وعلى أنه إلى جانب هذين، كان يوجد مركز ثالث لنشاط الأحرار في إقليم الراين، وهو الإقليم الذي كان يؤلف دائما وحدة قائمة بذاتها من مجموع البلاد الألمانية.
والحقيقة أنه كانت فوارق عدة - بفضل إقليم الراين - عن سائر ألمانيا، مبعثها أن هذا الإقليم بقي منفصلا عن ألمانيا مدة العشرين عاما ليؤلف قسما من الإمبراطورية النابوليونية (الفرنسية) متأثر كيانه تأثيرا عميقا بسبب خضوعه للإدارة الفرنسية كل هذه السنوات الطويلة، ولقد نشأت في إقليم الراين صناعة نشيطة، لم تلبث أن تولدت منها طبقة متوسطة (بورجوازية) غنية ومتنورة أو مثقفة، ثم كان من أثر تطبيق الفرنسي، أن محيت «الامتيازات» نهائيا، وأخذ الراينيون بقاعدة توزيع الميراث على الورثة بالتساوي، وتغلغل مبدأ المساواة في إقليم الراين، وأعطيت الضمانات لصون حريات الأفراد وحقوقهم. وأخيرا؛ فإن الراينيين لم يكونوا يأبهون لنوع التنظيم السياسي العام القائم في ألمانيا؛ لأن الذي استأثر باهتمامهم كان التنظيم السياسي الخاص ببلادهم، ووجهوا عناية خاصة لكل ما هو متعلق بحرية الصحافة والنشر.
واعترف الراينيون بالمكانة الرفيعة التي تمتعت بها في سنة 1815 بروسيا، التي تولى زعامتها وقتئذ رجال من طراز «هاردنبرج» و«شتيني»، فطالب أحد الناشرين والممتلكين الراينيين، بنزنبرج
Bezeberg
بإدماج إقليم الراين في دولة بروسيا، باستصدار دستور على المبادئ الحرة، يمتد أثره إلى هذا الأقليم أيضا، ولكن سرعان ما وجد الراينيون أنفسهم الآن تجاه دولة بروسية، تختلف تماما عن تلك التي كان يبدو من وعود ومنشورات وتصريحات «هاردنبرج» و«شتيني» أنها سوف تنهض على دعائم من الحياة الدستورية الطليقة، فواجه الراينيون، بدلا من ذلك دولة بروسية متمسكة بالتقاليد، والعادات الشخصية الموروثة؛ أي صاروا يواجهون دولة، تنعدم منها الحرية إطلاقا؛ لتحل محلها الأنظمة البوليسية الصارمة، دولة تبذل حكومتها قصارى جهدها لتأسيس امتيازات النبلاء من جديد، على نحو ما كان عليه الحال أيام فردريك الثاني، وتحاول على وجه الخصوص أن تعيد مرة أخرى في إقليم الراين، تأسيس ما كان يعرف باسم «الأملاك الخاصة بالفرسان راكبي الخيول»،
65
وهي بقول آخر؛ الأراضي أو الأملاك «النبيلة» التي لا يمكن التنازل عنها، أو نقل حقوق ملكيتها إلى آخرين، بل تؤول إلى ملاكها بالوراثة كاملة، وكان هذا النوع من «الأملاك النبيلة» قد اختفى تماما في الأقاليم الراينية منذ عهد «الثورة الفرنسية».
وأرادت بروسيا أن تقيد نظام الطبقات القديم في إقليم الراين، ولم تكن لمجالس الطبقات الإقليمية التي تأسست في هذا الإقليم في سنة 1824، كما قد تأسست قبل ذلك، ومنذ 1823 في سائر بروسيا، غير صورة عابثة ومزيفة للتمثيل الشعبي، في حين استأثرت طبقة النبلاء بكل أسباب السلطة، ثم إن روسيا أضافت إلى سياسة إرجاع الامتيازات القديمة إلى النبلاء سياسة تبغي منها نشر البروتستنتية وتدعيمها في إقليم الراين، فصارت تشجع الزيجات المختلطة بين البروتستنت والكاثوليك، على أن يعتنق الأطفال دين آبائهم، وديانة الآباء كانت عموما البروتستنتية، وأجبرت الحكومة العسكر، حتى الكاثوليك منهم أن يحضروا كل العبادات اللوثرية أيام الآحاد.
وثمة سبب أخير لتذمر أهل الراين؛ هو الأزمة الصناعية التي جاءت في أعقاب سنة 1815، واستمرت طوال السنوات التالية، وكان مبعث هذه الأزمة التي عطلت الصناعة في إقليم الراين، منافسة البضائع والمنتجات الإنجليزية التي صارت تدخل الإقليم عن طريق نهر الراين ومانوفر.
ولكل هذه الأسباب إذن، سرعان ما تحول الرأي بين الراينيين ضد حكومة بروسيا؛ أي ضد الدولة التي صاروا جزءا منها، بحكم التسوية التي حصلت في فينا (1815).
وأما الراينيون، فقد بنوا مقاومتهم على أسس متعددة؛ أولها الأساس القانوني، وذلك عندما طالبوا بالقانون الرايني
Droit rhénan
تجاه حكومتهم، وبالتالي تجاه سائر المقاطعات البروسية، وهذا القانون الرايني، مؤسس على الإجراءات أو القوانين الفرنسية، وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بالموضوعات الجنائية، ومعنى هذه الإجراءات، حصول المرافعة والمناقشات الشفوية أثناء المحاكمة، ونشر قرارات الاتهام إلخ. وقاوم رجال القضاء في إقليم الراين، وسعهم الجهد، إدخال القانون البروسي، وتسببوا في تعطيل أعمال الحكومة في سنوات 1816، 1824، 1825، وأفلحوا في النهاية في التمسك بمبادئ المحاكمات أو الإجراءات التي جاءت بها الإدارة الفرنسية.
وكان تنظيم مجالسهم البلدية، المسألة الثانية التي أثارت المقاومة الراينية ضد حكومة بروسيا، ولقد أراد الراينيون في هذه المسألة كذلك التمسك بالمجالس البلدية التي تأسست أيام الإدارة (أو الحكم) الفرنسي، والتي يقوم نظامها على قانون يكفل المساواة في الحقوق بين كل القومونات، أو الوحدات التمثيلية الأهلية في الريف والمدن، على حد سواء، وذلك في حين أرادت بروسيا إدخال تشريعاتها المستصدرة منذ 1808 بشأن التفريق بين القومونات الريفية والمدن، والتي لم يكن يسري بها جميعا نظام إداري واحد، وكان الموظفون المحليون هذه المرة هم الذين أثاروا المقاومة، كما فعلت الهيئة القضائية في موضوع «القانون الرايني»، ففي سنة 1816 قاوموا بعناد إدخال التشريعات البروسية الصادرة في سنة 1808، وفي سنة 1831 أرغم ممثلوا «المدن» الحكومة على سحب مشروع كانت قد أفحلت في نيل موافقة الدياط عليه، للعمل بالتشريعات البروسية السالفة الذكر، واستطاعت «البورجوازية» إرغام الحكومة «البروسية» نهائيا على تأييد التشريعات الفرنسية الخاصة بالمجالس البلدية، وذلك في سنة 1833.
ولقد كانت أوساط رجال الأعمال - في أول الأمر - أكثر ميلا لتأييد بروسيا والانضمام إليها من الأوساط المثقفة والمؤلفة من الكتاب والمفكرين والأدباء ومن إليهم، ثم الأوساط القضائية، فقد رضي رجال الأعمال عن «الزولفرين»، وهو الاتحاد الجمركي الذي فتح سوقا كبيرة لمنتجاتهم الصناعية وغيرها في مجموع المقاطعات البروسية، وكانوا على استعداد لقبول الاندماج - اندماج إقليم الراين - في بروسيا، ونتيجة لذلك، الاعتراف بأن لبروسيا «رسالة ألمانية»، على أن هذا القبول كان مشروطا بضرورة أن تتجه الحكومة البروسية اتجاها «حرا»؛ أي تقوم سياستها على المبادئ الحرة، وكان ذلك هو موقف رؤساء «الغرف التجارية» في إقليم الراين، وعلى الخصوص: هانسيمان
Hansemann
رئيس الغرفة التجارية في «إكس لاشابل»، ثم كامبهاوسن
Camphausen
رئيس غرفة كولون، وقد رفع «هانسيمان» في سبتمبر 1831 مذكرة إلى الملك فردريك وليم الثالث، اقترح فيها تعاون أوساط رجال الأعمال الراينية مع الحكومة على أساس المصالح المادية، ولكن بشرط صدور دستور، يعطي دافعي الضرائب حق الانتخاب، ويكفل للطبقة المتوسطة (البورجوازية) الاستيلاء على السلطة، ويؤدي إلى تعاون هذه الطبقة مع الحكومة. ولقد تمسك الراينيون من رجال الأعمال بهذا المطلب، الذي يقسم بالطابع القومي، وذلك من ناحية العلاقة مع بروسيا، ويريد الراينيون - كما شهدنا - التمسك بأنظمتهم الخاصة بهم، والذي يستند على المبادئ الحرة، من ناحية موقفهم من المسألة التي أثيرت في سنة 1833 بشأن مد السكك الحديدية في بلادهم.
وأيد رجال الأعمال الراينيون إنشاء السكك الحديدية في إقليمهم، وأن تكون الدولة أو الحكومة هي التي تعهد إليها بذلك، ولكنهم فعلوا ذلك باعتبار أن السكك الحديدية إنما هي «أداة» لخدمة الصالح العام، ولجمع شتات الدولة واتحادها، وفي ضوء هذا الرأي «إذن» قدم كل من «كامبهاوسن» في سنة 1837، و«هانسيمان» في سنة 1838 مذكرات لحكومة برلين في هذه المسألة، ولكن البيروقراطية البروسية رفضت كل المشروعات المقدمة إليها؛ لأنه حتى يتسنى تنفيذ إحداها، وكان لا بد من المال للإنفاق منه، ولم يكن لدى الحكومة البروسية المال اللازم، ووجب لذلك اللجوء إلى عقد قرض، وذلك ما كانت لا تريده الحكومة البروسية؛ لأنها سوف تكون مضطرة لدعوة مجلس تمثيلي (برلمان) للانعقاد؛ لتحصل على تقرير القرض المطلوب، ولم تكن تفكر أو ترغب البيروقراطية والحكومة البروسية إطلاقا، وبحال من الأحوال دعوة مجلس نيابي للانعقاد.
وأخذت البيروقراطية البروسية - وبقول آخر الموظفين الحكوميين - على عتاقهم النضال بنشاط وغيرة، ضد أوساط الأحرار الذين كان رجال الأعمال منهم، ونجحت البيروقراطية البروسية في تحطيم كل جهود هؤلاء ومشروعاتهم، فلم يكن لهذا «النجاح» سوى نتيجة واحدة، هي زيادة تعلق رجال الأعمال وتمسكهم بالمبادئ الحرة، ومنذ سنة 1833 كان «هانسيمان» قد نشر كراسة بعنوان: «بروسيا وفرنسا» أكد فيها ولاءه الصادق للحكومة البروسية، ولكنه حمل حملة عنيفة ضد النظام المالي والضريبي في بروسيا ونظام الحكم المطلق بها، وقارن بين هذه الأنظمة القائمة على السلطة الحكومية المستبدة، وبين النظام المؤسس على المبادئ الحرة، والذي كان يسود إقليم الراين في العهد الفرنسي.
وأما النتيجة الهامة لهذا النضال ضد الحكومة المستبدة، والبيروقراطية المتسلطة، فكانت أن تولد شعور قوي بالمحلية أو الإقليمية الراينية، صار يقاوم بكل شدة كل محاولة للاندماج في بروسيا، فحرص الراينيون على الاحتفاظ بملامح ذاتيتهم وكيانهم، وتخلوا عن فكرة «الدستور الحر» الذي يصدر لبروسيا، ويمتد أثره إلى إقليم الراين، ولم يعودوا يأبهون لعدم تحقيق الوعود السخية التي كانت بذلت في سنة 1815 (على لسان هاردنبرج، وشتيني وأمثالهما)، وغدت وجهة النظر البروسية شيئا أجنبيا عنهم، لا يدركونه ولا يعنون به.
وكان المتحدث بلسان الراينيون، أحد نوابهم في مجلس الدياط الإقليمي
Landtag ، هو نائب كولون، مركنز
Merkens
الذي طالب في يناير 1831 أن يكون لإقليم الراين بشقيه؛ «المقاطعة الراينية»
66
في الجنوب، و«وستفاليا» في الشمال، تشريع وإدارة (حكومة)، ومجلس تمثيلي خاص به. باعتبار أن هاتين المقاطعتين إنما تؤلفان مجموعة، أو وحدة خاصة داخل الدولة البروسية، ولم يكن هذا المطلب «غريبا»، فقد سبق أن جمعت الحكومة البروسية هاتين المقاطعتين تحت حكومة عسكرية واحدة، وذلك غداة ثورة 1830، كي تتمكن من اتخاذ الإجراءات الضرورية ضد «الثورة الفرنسية - ثورة يوليو المعروفة في فرنسا»، وكانت هذه الحكومة برياسة البرنس غليوم، شقيق ولي العهد البروسي، وفي 18 أبريل 1831 ألقى «مركنز» خطابا في اجتماع حضره في «دسلدورف» مندوبون عن المدن الراينية، يمثلون الطبقة المتوسطة (البورجوازية)، وشرح «مركنز» في هذا الخطاب «العظيم» وجهة النظر التي استند عليها مطلب توحيد البلاد الراينية تحت حكومة واحدة، والاحتفاظ لإقليم الراين بكيان خاص ضمن الدولة البروسية، والتفت حول «مركنز» جماعة من أعضاء مجلس الراين الإقليمي «لاندتاج»، كان من بينهم؛ جورج هرويج
Herwegh - من كولون، وهو شاعر كذلك - ثم كوخ
Koch ، وكامبف
Kampf ، وديلبرفيلد
D’elberfeld ، ولقد حاول هؤلاء إعداد عرائض لتقديمها إلى الحكومة في سنتي 1832، 1833، ولكن دون طائل، فقد استطاعت الإدارة كل مرة وقف هذه الحركة.
ولقد عبر عن هذا الشعور بالإقليمية أو المحلية الراينية طائفة من الكتاب نذكر منهم على وجه الخصوص الصحفي والناشر والرايني جاكوب فينيدي
Venedey
الذي اضطر إلى الالتجاء إلى فرنسا بعد حوادث القمع الذي حصل في سنة 1832، فنشر كراسة في سنة 1839 بعنوان؛ «بروسيا والبروسيانية»،
67
وكان «فينيدي» على صلة - وكما هو منتظر - بكل أوساط اللاجئين الألمان في باريس، والذين كانوا من الثوريين بدرجات متفاوتة، وأنشئوا في باريس ما أسموه «بحلف العدول»،
68
وكان إنشاء جمهورية ألمانيا هو الفكرة التي اعتنقها «فينيدي»، وراح يؤيدها ويدافع عنها، فجاءت كراسته عن «بروسيا والبروسيانية» اتهاما قاسيا وعنيفا موجها ضد بروسيا، فأعلن أن بروسيا الدولة الرجعية، لا يمكن بحال أن تكون «وطن» الراينيين.
وسرعان ما ظهرت كراسة أخرى، من طراز كراسة «فينيدي»، ومن نفس المعدن، وذلك في فرنسا كذلك، ولو أن الكراسة الجديدة لم تكن من صنع أو وحي أوساط اللاجئين الألمان، بل كانت من وحي الأوساط الراينية الخالصة، حيث كان مسئولا عن صدور هذه الكراسة أخوان من كولون هما؛ أوجست، وبيير
Bierre
رايشنسبرجر
Reichensperger ، واللذان كانا أصلا ينتميان للحزب الكاثوليكي الرايني، فقد أوحيا إلى كاتب فرنسي، يدعى دي فايلي
De Failly
بالآراء والفكرات التي ضمنها هذا الأخير كراسة نشرها في سنة 1840 «عن بروسيا وسيطرتها من وجهتي النظر السياسية والدينية، وعلى الخصوص في المقاطعات الجديدة.»
69
وتضمنت كراسة «دي فايلي» هذه عرضا للآراء والنظريات الراينية، القائلة بجودة وتفوق الأنظمة الفرنسية، و«القانون الرايني» على الأنظمة البروسية، وأكدت هذه الكراسة وجود حياة محلية مستندة على المبادئ الحرة، وحياة إقليمية ذات كيان «حر» خاص بها، ومنفصلة عن بروسيا، وراح «دي فايلي» يسوغ هذا الكيان «الحر» لإقليم الراين تجاه بروسيا بقوله: «هناك فعلا سيطرة بروسية، ولكن لا يوجد إطلاقا أمة بروسية!» ومما يجب ذكره أن الراينيين لم يكونوا يعتبرون بروسيا دولة ألمانية فعلا، بل دولة سلافية، والبروسيون لذلك ليسوا من جنس نقي ألماني، ولا يمكن أن يتساووا مع الألمان الخلص والأنقياء الذين يعيشون على شاطئ الراين.
وكان من أثر هذه الإقليمية أو الشعور بالمحلية في إقليم الراين اختفاء تلك الوطنية العنيفة، التي شهدناها موجهة ضد الفرنسيين في سنة 1815، ويذكر القارئ كيف اضطر «جوريز» صاحب عطارد الراين إلى الفرار إلى سويسرة بسبب إقليميته ومعارضته لبروسيا الرجعية، وفي إقليم الراين اختفت منذ 1820 الحركة الموجهة ضد فرنسا، ولقد حدث ذلك في وقت كانت حكومة شارل العاشر في فرنسا، تسير في سياسة رجعية جعلت المركزية الكاملة أساس النظام الإداري الفرنسي، الأمر الذي لم يكن يتفق بتاتا مع أغراض الأحرار الراينيين، واللامركزيين في إقليم الراين، على أن انتصار المبادئ الحرة في فرنسا بفضل ثورة يوليو 1830، سرعان ما أزال مخاوف الرانيين من هذه الناحية، أضف إلى هذا أن إقليم الراين - كسائر الأقاليم الفرنسية - لم يلبث أن شهد ذيوع الأسطورة النابليونية، وتلك أسطورة ترسم صورة لحكم؛ تقوم على المبادئ الحرة على يد «لويس نابليون» - نابليون الثالث فيما بعد - وهو ابن شقيق الإمبراطور نابليون الأول، والذي قالت هذه الأسطورة: إن «الثورة» الفرنسية متجسدة في شخصه، ولقد بقي الإمبراطور نابليون الأول، يتمتع بذكرى عاطرة بين أهل الراين، حتى إن أحد الناشرين ليهن
Lehne ، كتب سلسلة من المقالات في «غازيتة مايتر»
70
في تاريخ نابليون، ونشر أحد الرهبان العلمانيين من أكس لاشابل ويدعى سمتز
Smets
مجلدا من القصائد التي نظمت في مديح الإمبراطور، واحتفل الراينيون بحادث نقل رفاة الإمبراطور في سنة 1840 إلى فرنسا، فصدرت طائفة من التعليقات؛ لتكريم ذكرى الإمبراطور، أظهرت مبلغ محبتهم له، بل إن الكاتب والشاعر الفرنسي فيكتور هوجو
Victor Hogo
عندما قام برحلته المعروفة في نهر الراين بعد بضع سنوات، لم يلبث أن فوجئ بقوة العواطف التي بدت من جانب الراينيين نحو فرنسا، ومحبتهم لها، كما دهش لتعلق هؤلاء بالذكريات النابليونية.
ولقد كان تحت تأثير هذه الذكريات النابليونية، والآمال التي أحياها قيام ملكية يوليو في فرنسا، وهي الملكية المستندة على المبادئ الحرة، أن استيقظ شعور العطف نحو فرنسا في أقاليم الراين بعد سنة 1830، وخصوصا في وادي الموزيل، ووادي السار
Saare ، فكان أن قامت في تريف
Treves
في 12، 25 يناير 1834 المظاهرات العدائية ضد بروسيا ولتأييد فرنسا، وصار الفرنسيون يغالون في تقدير هذه العواطف الطيبة نحوهم، وشجعت المظاهرات أطماع الفرنسيين الأحرار القومية، واعتقد «إدجار كينيه» الذي جاب أنحاء إقليم الراين وقتئذ، أن الراينيين مستعدون للانضمام إلى فرنسا ، وفي 14 أكتوبر 1840 كتبت الصحيفة الفرنسية لوناشونال
Le Nationnal :
إن القلوب في كل البلدان على ضفتي الراين، إنما هي قلوب فرنسية.
ولكن الحقيقة هي أن «الفرنسيين» كانوا مخدوعين في آمالهم وفي آرائهم؛ لأن عطف الراينيين على فرنسا ومحبتهم لها، لم يكن معناه أنهم لم يعودوا يشعرون بألمانيتهم، ولم يلبث أن اتضحت حقيقة شعورهم، عندما حدثت أزمة المسألة الشرقية في سنة 1840 - وعلى نحو ما سيأتي ذكره - بل إن «فينيدي»، قد نشر في بداية هذه السنة نفسها (1840) كراسة بعنوان «فرنسا وألمانيا والمقاطعات الراينية»، وفي هذه الكراسة عمد «فينيدي» إلى توضيح أن الراينيين، إنما هم ألمانيون بشعورهم، في حين أنه راح يؤكد في الوقت نفسه وجود الإقليمية أو المحلية الراينية من جهة، ثم العطف على فرنسا من جهة أخرى، وإلى جانب هذا، فقد تأسست في إقليم الراين مجلة بعنوان «الحوليات الراينية»
71
غرضها جمع المذكرات والوثائق الخاصة بالحضارة الراينية. •••
وهكذا دل تطور الفكر في ألمانيا على أن الشعور بالقومية قد استمر بقاؤه، وهو شعور لدى أعداد قليلة جدا من الألمان، ظل يحتفظ بالروح الوطنية التي سيطرت على حوادث 1813-1815 (أي أثناء حرب التحرير والخلاص)، ولكن هذه الحركة القومية عموما، كان يعلوها الشعور الحر، ويتقدم عليها حركة المطالبة بالحريات والحقوق المشروعة، لدرجة أن المذهب الحر لدى الألمان؛ أي اعتناق هؤلاء للمبادئ الحرة، قد جعلهم يعودون للأخذ بالآراء الفرنسية.
وأدت سياسة الحكومات الرجعية، خصوصا حكومة بروسيا، إلى تقوية النزعات الإقليمية (المحلية)، حتى لدى هذه الحكومات الرجعية ذاتها، وكانت الكراهية التي أثارتها بروسيا والسياسة البروسية، ضد هذه الدولة من العوامل الجوهرية في تقوية هذه الإقليمية (والمحلية)، كما كان من بين هذه العوامل، ضرورة العمل من أجل الظفر بالحريات والحقوق المنشودة، ووجه الأهمية في هذا كله تقرير أن المطالبة بالحريات كانت تأتي دائما قبل المطالب القومية، ولم يكن مستطاعا الحصول على هذه الحقوق والحريات إلا في نطاق المحلية أو الإقليمية؛ ولذلك فقد كانت القومية الألمانية بين سنتي 1830، 1840 تجنح نحو استرجاع الشكل القديم الذي كان لها؛ أي الشعور بأن هناك أدبا وثقافة مشتركة ، تسهم فيها ألمانيا بأسرها دون شك، ولكن من غير أن يتطلب ذلك حتما أن يتجسد هذا الشعور بالمساهمة المشتركة في الصعيد السياسي في صورة وحدة أهلية (أو قومية).
بل لقد أخذت تتشكل - على العكس من ذلك - عناصر جديدة لشعور قومي بعد سنة 1840، فحدث في ألمانيا تطور سار على نفس الخطوط التي سار عليها تطور الشعور القومي في إيطاليا، فطرأ تغيير أو تعديل على الأفكار السائدة، ثم تتابعت الحوادث إثر بعضها بعضا وبسرعة زائدة، حتى إن مشكلة القومية لم تعد قائمة كمسألة خاصة بألمانيا وحدها وحسب، بل صارت معضلة أوروبية، تحتم على إيطاليا مواجهتها، كما تحتم على مختلف الأقطار التي تألفت منها النمسا مواجهتها أيضا، فقد حدث تحول في «الجو» الخلقي أو الروحي، وطرأ تغيير على اتجاهات الرأي، خلف ذلك الستار من شبه الجمود الذي أقامه النظام السياسي. (12) عناصر الشعور القومي الجديد (1840-1847) (12-1) العامل الخارجي: أزمة المسألة الشرقية 1840
وبعد سنة 1840، كان العامل الخارجي هو أول العناصر التي أحدثت هذا التعديل أو التغيير الذي طرأ على شعور القومية، ونعني بالعامل الخارجي، أزمة المسألة الشرقية في سنة 1840، وهي الأزمة السياسية التي كانت تزج بأوروبا في حرب عامة بسبب الصراع الذي شهدناه بين محمد علي باشا مصر والسلطان العثماني.
72
وتجاه هذه المسألة الشرقية، لزمت ألمانيا الهدوء التام، ولم تثر الأزمة اهتمامها، ولم يكن هناك عداء بينها وبين فرنسا، بل لم تكن لديها أية نوايا غير طيبة نحوها، وعمدت الحكومتان البروسية والنمسوية إلى التوسط بين الوزير الإنجليزي «بلمرستون» والحكومة الفرنسية، وأوضحت الحكومة البروسية على وجه الخصوص أنها لا تريد التورط في النضال، أو أية حرب أوروبية، بل واشترطت لتعاونها مع الحكومة الإنجليزية في المسألة الشرقية التمسك بالحياد في سياستها العامة.
غير أن أزمة المسألة الشرقية سرعان ما أثارت شعور الفرنسيين، فاحتاج الرأي العام الفرنسي ذلك الاهتياج، الذي عرفنا كيف كاد يفضي إلى دخول فرنسا الحرب، تحت حكومة تيير
Thiers
لمؤازرة محمد علي ضد الدولة العثمانية.
وهو التهديد الذي لم يلبث أن تبدد عند سقوط وزارة «تيير» في أكتوبر 1840، لرفض «لوي فيليب» الدخول في حرب ضد أوروبا، وعلى نحو ما كان منتظرا، اقترن بفورة وطنية تسودها روح عسكرية عنيفة، سرعان ما وجدت لها منفذا في المطالبة بضم شاطئ الراين الأيسر إلى فرنسا، وانبرت على وجه الخصوص صحيفة «لوناشونال» - التي سبق ذكرها - تؤيد هذا المطلب بكل شدة.
ولقد قوبلت حركة الرأي العام الفرنسي هذه للمطالبة بشاطئ الراين الأيسر بحدوث رد فعل عنيف كذلك في ألمانيا، فقد أذهلت المفاجأة الألمان في أول الأمر، ولكن لم تلبث أن استيقظت روح الكفاح القديمة في سنة 1813. ولما كان القسم الغربي من ألمانيا، مجردا من السلاح، ولم يكن بهذا القسم أية قلاع فدرائية، فقد استبد القلق بالألمان في هذه الجهات خصوصا من الناحية العسكرية، وكذلك كانت ألمانيا الجنوبية مفتوحة لأي غزو قد يأتيها من الخارج، فلم يكن هناك جيش حقيقي في «ورتمبرج»، ولا تكاد بفاريا تستطيع الدفاع عن «البلاتينات»، وكانت بروسيا وحدها في أقاليمها الشمالية؛ المقاطعة الراينية، ووستفاليا، هي التي يسعها اتخاذ الإجراءات الوقائية العسكرية، وقد فعلت ذلك.
وتولد من هذا القلق، ومن رد الفعل الذي حصل ضد المطالب الفرنسية، هياج الخواطر في ألمانيا، وانطلاق حركة فكر ورأي عنيفة لدرجة بعيدة، فوصف هذه الحركة الفكرية العنيفة أحد الكتاب الفرنسيين سان رينيه تايلاندييه
Taillandier
في كتاب «ذكرياته عن الراين»،
73
وكان يقيم وقتئذ في «هايدلبرج» فقال: «تجيء كل يوم الصحف من جميع المدن في ألمانيا، تحمل إلينا السباب والشتائم، وتستفزنا للمبارزة، وتكيل لنا الإهانات، وتوجه إلينا الافتراءات، ينزل علينا ذلك كله بشكل متلاحق، كسقوط الرصاص الذي يطلقه طابور من العسكر ...»
واستعاد العسكريون «روح 1815»، وصاروا يرددون المطالب التي سبق أن نادوا بها وقتذاك، فأخذ «شارنهورست» يؤكد أن الحرب مقدر وقوعها بين فرنسا وألمانيا، وأن الحرب سوف تنتهي بتقسيم فرنسا، وفي رأيه؛ أن الواجب يقتضي إفناء فرنسا، وإزالتها من الوجود، «وبدون ذلك لا يمكن أن يكون هناك إله في السماء!» وانبرى فون مولتكه
Moltke
وهو أحد العسكريين الذين سوف يكون لهم شأن بعد ذلك يطالب بالألزاس، ومن قوله: «إن فرنسا قد عمدت إلى أعمال اللصوصية ضد ألمانيا؛ لتظفر بكل تلك الأراضي التي ضمتها داخل حدودها الشرقية، وذلك منذ القرن الثالث عشر.»
ثم إنه سرعان ما ظهر «أدب وطني» يعيد إلى الأذهان، أناشيد الحرب لسنة 1813، وكانت أشهر المقطوعات قصيدة من نظم نيكلاس بيكر
Niklas Becker
بعنوان «الراين الألماني»،
74
وقد ألقيت هذه القصيدة في مسرح فرانكفورت يوم 15 أكتوبر 1840، وقوبلت بحماس منقطع النظير، وقد اجتمع مائتان من الملحنين في التو والساعة لتلحين قصيدة «بيكر» ووضع موسيقاها، ولقد اشتهرت أغنية أخرى في الوقت نفسه، هي أنشودة «حراسة الراين»
75
لصاحبها ماكس شنكنبرجر
Schenckenburger ، وقد صارت هذه النشيد الوطني (القومي) الألماني في سنة 1870، وسرعان ما وضعت الموسيقى لهذه الأنشودة كذلك، وكان واضعها «كارل ويلهكم»، وأما أنشودة الحرب الثالثة وقتئذ، فقد كانت بعنوان «ألمانيا فوق الجميع»
76
لصاحبها هوفمان فون فالرسليبن
Hoffmann Von Fallersleben
الشاعر والسياسي وأستاذ فقه اللغة الألمانية بجامعة برسلاو، (والذي أقصته الحكومة من كرسي الأستاذية لغضبها عليه في سنة 1844)، أما هذه الأنشودة (ألمانيا فوق الجميع)، فقد صارت فيما بعد أنشودة الحرب، التي تغنى بها الألمان أثناء الحرب العالمية الأولى (1914)، ولقد حدث في سنة 1842 أن تم بناء كتدرائية كولون، فكان الاحتفال بالفراغ من بنائها عظيما، ولم يكن الاحتفال في هذه المناسبة «راينيا» وحسب، بل كان عيدا قوميا شرب في أثنائه ملك بروسيا، وملك ورتمبرج الأنخاب لتمجيد «الوطن العام المشترك».
ومما يجب ذكره أن أبرز ملامح هذه اليقظة القومية، وعودة الروح الوطنية التي شوهدت في حروب التحرير (1813-1815)، وقد تجلت فيما حدث، من اتجاهات ذهنية وعاطفية في الأقاليم الراينية؛ أي في تلك الأقاليم التي تأصلت فيها المشاعر الطيبة نحو فرنسا في السنوات السابقة، فإن «بيكر» صاحب أنشودة «الراين الألماني» من بلاد الراين، ويعمل مسجلا بمحكمة كولون، ونشر رهفوس
Rehfus
وكيل جامعة بون «رسالة من أحد البروسيين الراينيين إلى السيد موجوان»،
77
وكان موجوان
Mauguiu
أحد زعماء اليساريين الفرنسيين، وأحد الوطنيين الذين يطالبون بضم شاطئ الراين الأيسر إلى فرنسا، فسأله «رهفوس» في الخطاب الذي وجهه إليه، إذا كان ممكنا أنه يعتقد بأن تلك المحبة التي ربطت أهل المقاطعة الراينية بفرنسا، لا تزال قائمة، أو أن الراينيين لا يزالون يريدون أن تبسط عليهم فرنسا مرة أخرى سلطانها، وقال «رهفوس»: إن شعور الود نحو فرنسا موجود منذ عشر سنوات في إقليم الراين، ولكن هذه العواطف أو الميول الفرنسية لا تمنع أن يكون الراينيون ألمانا، وأن يشعروا بشعور الألمانيين، وتساءل «رهفوس»: «كيف يصيب العمى بصائرنا، فلا نرى الطريق لصون شرفنا القومي، ولا نعرف مكان مصالحنا المادية والروحية، فنرغب في الانفصال عن أمة نقتسم معها ذكريات قرون عديدة؟»
وثمة «شهادات» أخرى كثيرة، تؤكد هذا الشعور «القومي» في إقليم الراين، نحو البقاء «ألمانيا»، ورفض الانضمام إلى فرنسا، بالرغم من شعور العطف على هذه الأخيرة فتلك حقيقة قد أكدتها كل تقارير الحكام والمديرين في كولون، ودسلدروف وتريف، وتقع جميعها في الأقاليم الراينية، أكدتها حملات الصحف الراينية وقتئذ، أضف إلى هذا أن «فينيدي» لم يلبث أن أصدر كراسة ثانية بعنوان «فرنسا وألمانيا وحلف الشعوب المقدس»،
78
لبيان أن الأطماع الفرنسية لامتلاك الراين، إنما هي عقبة كأداء في طريق السلام بين الشعوب، وذلك في حين أن هذه الأطماع وهمية خيالية؛ لأن المقاطعات الراينية بلاد ألمانية، بفضل اللغة التي يتخاطب بها أهلها، وعادات هؤلاء وتقاليدهم، والأفكار التي تدور في أذهانهم، والعواطف التي تجيش في صدورهم.
وعلى ذلك فقد كان هذا العامل الخارجي - الماثل في أزمة المسألة الشرقية سنة 1840 - بمثابة نقطة التحول في إقليم الراين والاتجاه صوب بروسيا، الأمر الذي تبعه كذلك تحول في حركة الأحرار الراينية التي شاهدناها بعد سنة 1830، فصارت هي الأخرى تتخذ اتجاها مخالفا لما كانت قد درجت عليه.
ومع أن هذه الوطنية الألمانية «المشتعلة» لم تستمر طويلا، فقد كانت على جانب كبير من الأهمية؛ لأن الأزمة - أزمة المسألة الشرقية سنة 1840 - قد أيقظت تلك «الوطنية» التي كان يبدو أنها قد خمدت تماما، ولأنها أظهرت أن شعور الكراهية ضد فرنسا متغلغل دائما في قلوب الألمانيين، ومسيطر - وإن كان ذلك بصورة غامضة - على أذهانهم، وتلك حقيقة كان «هنريش هايني» قد رددها من قبل، وأعلن بها الفرنسيين، ولقد كانت هذه الوطنية المتسمة بالكرامة لفرنسا هي السند الصحيح للعاطفة القومية في ألمانيا، وعلى ذلك فقد قضت أزمة 1840 قضاء مبرما على شعور الأممية
Cosmopolotisme ؛ أي شعور الانتماء إلى كل الأمم، وعدم التقيد بوطن واحد، وهو الذي كان قد ظهر مرة ثانية في ألمانيا في العقد الثالث خصوصا، ولقد صفيت بفضل هذه الأزمة حركة «ألمانيا الفتاة» تصفية نهائية. (12-2) عامل «القومية الاقتصادية»
وثمة عنصر آخر جديد أحدث هذا التحول الملحوظ في الأفكار بعد سنة 1840؛ ونعني بذلك ظهور «شيء» جديد في تاريخ ألمانيا، وهو ما صار يعرف باسم «القومية الاقتصادية» فقد شهد العصر الذي ندرسه قيام نهضة اقتصادية في ألمانيا وفي الأقاليم الراينية خصوصا، فبدأ استخدام الآلات في الصناعة، فزاد عدد أنوال نسيج الأقمشة من (3,500) في سنة 1816 إلى عشرة آلاف في سنة 1837، وكان عدد «الماكينات» التي تدار بالبخار في سنة 1836؛ أي عند بداية استخدامها (421) فقط، فبلغت في سنة 1846 (1,139)، ثم بدأ التعدين على نطاق واسع، وبني أول «فرن» بفحم الكوك في سنة 1840، كما بدأ استغلال حوض الرور، ثم تزايد عدد السكان بسرعة عجيبة، ففي إقليم الراين، سرعان ما نمت القرى حتى صدرت مدنا كبيرة، وفي «كولون» بلغ عدد السكان في سنة 1815 تسعة وأربعين ألفا، فصاروا في سنة 1848 اثنين وتسعين ألفا، وفي البرفيلد
El Berfeld
وهي مدينة صناعية، ومركز لنسج الأقمشة، كان عدد سكانها سنة 1815 واحدا وعشرين ألفا، فبلغوا في سنة 1848 خمسة وأربعين ألفا، وفي هذه الأقاليم الغربية من ألمانيا بلغ في سنة 1846 طول السكك الحديدية ثلاثة آلاف كيلومتر؛ أي بما يزيد بنحو الثلث على مجموعها في فرنسا وقتئذ، ومع ذلك فقد كانت لا تزال في بدايتها هذه الحركة التي أخذت بالأساليب الحديثة في الصناعة، وفي بناء النظام الاقتصادي في ألمانيا، وكان النظام المصرفي - خصوصا - لا يزال يعجز عن مسايرة هذه النهضة الصناعية الاقتصادية.
والذي يجدر ذكره أن هذا التطور الصناعي لم يكن مقصورا على المقاطعات الراينية وحدها فقط، بل كان يحدث كذلك في سكسونيا، التي نمت فيها صناعة نسج الأقمشة من الجوخ والقطن إلخ، ثم صناعة اختصت بها سكسونيا، هي إنتاج الآلات الموسيقية، وسرعان ما صارت «ليبزج» أحد مراكز التجارة الهامة في أوروبا، كما صارت شمنتز
Chemnitz ، وتزفيكاو
Zwickaw ، مدنا كبيرة ومراكز رئيسية لصناعة المنسوجات وللتعدين، وحدث هذا التطور الصناعي كذلك في كل من إقليمي «ثورينجيا»، و«فرانكونيا»، وبدأت «برلين» ذاتها تنمو كمركز للصناعة، فتأسست بها في سنة 1837 المصانع العظيمة للمنشآت الميكانيكية (الآلية)، وعلى وجه الخصوص لبناء القاطرات، كما أنشئت في ضواحي برلين «المسابك» العظيمة.
ولقد ازدهى الألمان بهذا التطور الصناعي، والنمو الاقتصادي، واعتقدوا أن ما فعلوه في هذا الميدان، إنما يجب أن يكون مضرب الأمثال في كل أنحاء العالم. فيتحدث بانسن
Bansen
أحد وزراء بروسيا عن «ذلك الكشف العظيم الذي حدث في هذا القرن، وهو أن هناك قومية ألمانية، وأن اتحادا «كونفدرائي» من الشعوب، مؤسس عليها.» وذلك زهو وافتخار، كان لكل أمير أو حاكم صغير في ألمانيا نصيب منه، لم يلبث أن أفضى إلى نتيجة عجيبة، حتى من وجهة النظر الاقتصادية ذاتها؛ وذلك لأن هذا الزهو والافتخار سرعان ما أخذ يتجسد مباشرة في رغبة ملحة في التوسع الخارجي، وعلى وجه الخصوص صوب بلجيكا.
وكان «مفلسف» القومية في شكلها التوسعي الجديد، وواضع «نظريتها» هو «فردريك ليست»، الرجل الذي اقترن اسمه كثيرا بتاريخ الزولفرين، وكان «ليست» - كما عرفنا - نائبا في «ورتمبرج»، جرد من النيابة في سنة 1820 لاتهامه بتأييد المبادئ الحرة، ثم سجن، ثم رحل إلى أمريكا، ثم عاد إلى ألمانيا سنة 1832؛ أي في الوقت الذي حصل فيه ذلك الاتحاد الجمركي (الزولفرين) الذي كان قد أيد قضيته، والذي تحقق الآن بصورة تختلف تماما عما كان يريده «ليست» نفسه، من حيث إن هذا الزولفرين لم يكن كاملا، وأن بروسيا هي التي صنعته، كخطوات موجهة ضد النمسا، في حين أن «ليست» كان يريد أن يشمل هذا التنظيم الجمركي كل ألمانيا، وبما في ذلك النمسا.
ولم يكن «الزولفرين» سوى تعريفة جمركية مخفضة، بلغت 10٪ في المتوسط، ولدرجة أن الأوساط الصناعية أخذت تطالب بفرض ضرائب لحماية الصناعة تتيح الفرصة لنموها وتقدمها، وقام رجال الصناعة بحملة كبيرة يطالبون فيها بالحماية الجمركية، وذلك على وجه الخصوص في الوقت الذي ظهرت فيه الرغبة لتجديد «الزولفرين» بين الدول الأعضاء في هذا الاتحاد الجمركي، ومن المعروف «تجديد» الزولفرين قد تم فعلا في سنة 1842، وكان قبل ذلك قد أخذ يتحطم ذلك «الاتحاد الضريبي» (ستورفرين)، الذي ذكرنا أنه يتألف من هانوفر، وبرنسويك، وأولد نبرج، وبرمن، وهمبورج، فقد طلبت «برنسويك» منذ سنة 1841 الانضمام إلى الزولفرين، كما لبثت أن انضمت إلى الزولفرين ليب-ديتمولد
Lippe-Detmold
وشاومبرج
Schaumburg ، و«لكسمبرج» في سنة 1842، وكان بعد ذلك بسنين أن أمكن الاعتراف بالزولفرين دوليا، عندما وقع «الزولفرين» معاهدة مع بلجيكا في سنة 1844 بعد حرب جمركية عنيفة بين الطرفين.
وعندما كان لا يزال البحث جاريا بشأن تحديد الزولفرين في سنة 1841، بين أنصار التمسك بالوضع الراهن، الذين يميلون للتجارة الحرة، (والضرائب المخفضة) من جانب، وبين الذين يريدون سياسة أنشط تقوم على حماية التجارة (أي فرض ضرائب مرتفعة) من جانب آخر، دخل «فردريك ليست» المعركة، بإصدار مؤلفه المشهور عن «النظام القومي للاقتصاد السياسي»،
79
وقد عرض «ليست» في كتابه هذا نظرية «الحماية الجمركية» الجديدة، ومع ذلك فإن «النظام القومي» لم يكن مؤلفا لبيان نظرية أو مبدأ معين، أو فلسفة خاصة بالاقتصاد السياسي، بل كان مؤلفا موجها للجماهير، يعرض على القارئ العام القضية التي انبرى «ليست» لتأييدها ضرورة الحماية الجمركية، كما كان «النظام القومي» ثمرة تجارب واقعية واعتبارات عملية. لقد لاحظ «ليست» نفسه في مقدمة مؤلفه «إن تاريخ كتابه إنما هو تاريخ لنصف الحياة التي عاشها»، وكان في وسعه أيضا أن يضيف إلى قوله هذا؛ أن كتابه كذلك تاريخ لألمانيا في أربعين سنة، من 1800 إلى 1840، فلم يكن بمحض الصدفة أن يبني «ليست» نظامه الاقتصادي على قاعدة من القومية وحسب في ألمانيا، عندما توفرت العوامل، وعلى نحو ما شاهدنا؛ لوجود «شعور قومي»، في ميدان الفكر والأدب، الجانب الروحي للأمة الألمانية، ولحدوث يقظة قومية في الميدان السياسي، هي التي نحاول معالجة مظاهرها وآثارها في هذه الدراسة، والصحيح هو أن مؤلف «ليست» كان نتاج الظروف التي مرت بها ألمانيا فعلا.
وبدأ «ليست» موضوع «النظام القومي» ببحث الشروط التي يجب توفرها من وجهة النظر الاقتصادية، في دولة حديثة النشأة، ولا تزال تعمل لتأسيس صناعتها، الأمر الذي لا غنى عنه إذا أرادت أن تكون ذات شأن في المستقبل، ودولة كبرى - وذلك حتى تتمكن هذه الدولة الناشئة من الصمود في وجه منافسة قاسية من جانب دولة أخرى تهدم كيانها بفضل ما لهذه الأخيرة من تفوق في آلاتها ومصانعها، وما تتمتع به من سيطرة اقتصادية - وهي إنجلترة، وكان في رأي «ليست» أن الواجب يقتضي الألمان أن يفيدوا من التجارب الاقتصادية التي مرت بها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية في هذا الميدان، وأن ينتفع الألمان على وجه الخصوص «بالحل» الذي وصلت إليه فرنسا و«الولايات المتحدة»؛ لتنمية الصناعة الناشئة بهما وتقويتها، ذلك «الحل» كان الحماية التجارية أو الجمركية، فقد أراد «ليست» أن تفيد ألمانيا من نتيجة التجارب التي شاهد «ليست» نفسه الولايات المتحدة تفيد منها وتجني ثمرتها.
وحمل «ليست» على مدرسة الاقتصاديين الأحرار، وبنى نقده لهؤلاء الأخيرين على أنهم لا يرون في عالم الاقتصاد سوى شيئين اثنين وحسب أساسا للاقتصاد السياسي؛ الفرد، والمصلحة الفردية، باعتبار أن الاقتصاد السياسي إنما يستهدف توفير الغنى والسعادة للأفراد في طرف، ثم في أقصى الطرف المقابل للجماعة البشرية في العالم، فينظر هؤلاء الاقتصاديون الأحرار إلى مجموع العالم الاقتصادي، باعتباره كلا واحدا، تسوسه الحرية والمصلحة الاقتصادية المشتركة، بما هو مفروض أن ينطوي عليه ذلك من دعم أركان الحرية، ونشر ألوية السلام.
وبنى «ليست» نقده لهذه الآراء على أن نتيجة هذا «الاقتصاد الحر »، لا تعدو أن تكون التضحية بكل شيء لخدمة مصالح الدولة والبلاد المتقدمة عن غيرها في حياتها الاقتصادية، والتي يغزو اقتصادها اقتصاد الدول أو البلاد الأخرى؛ ولذلك فقد صار ضروريا في رأي «ليست» أن يوجد طرف متوسط أو وسيط من الناحية الاقتصادية، بين «الفرد» و«الجماعة البشرية»، وأما ذلك «الطرف الوسيط» فهو «الأمة»، التي أسقطها الاقتصاديون الأحرار من حسابهم، بالرغم من أن كل «فرد» إنما يؤلف جزءا من هذه «الأمة»، ويتوقف رخاء الفرد على القوة السياسية والاقتصادية التي تكون للأمة.
وهكذا جعل «ليست» تحقيق الرخاء والسعادة «للأمة» غرض الاقتصاد السياسي، وليس توفير الرخاء والسعادة للأفراد أو للعالم (الجماعة البشرية عموما)، على نحو ما أراد الاقتصاديون الأحرار، ولم تكن الأمة أو الدولة في رأي «ليست» جمعية أو ارتباطا سياسيا وروحيا، أو خلقيا وأدبيا، يؤلف التاريخ وحدتها وحسب، بل إن الأمة والدولة كما يراها «ليست»، إنما هي ارتباط اقتصادي كذلك، ويعتبر «ليست» أن هذا الارتباط أو الائتلاف في جماعة اقتصادية، هو الذي يقرر مبلغ القوة التي يجب أن تكون للدولة، وهو الذي يعين كذلك نوع السياسة التي يتحتم على الدولة أن تتبعها.
وتتفاوت درجات القوة التي تبلغها الأمم والدول، ويتفاوت مستوى سياساتها، ولا تستطيع أن تقف جميعها من الناحية الاقتصادية في صعيد واحد؛ ولذلك فقد تصور «ليست» سلسلة من المراتب والدرجات السياسية؛ أي من ناحية الحكم، ومراحل تلي بعضها بعضا من الناحية الاقتصادية، فهناك أولا المرحلة البدائية المتوحشة، يأتي بعدها دور الرعي، ثم دور الزراعة، ومن بعده المرحلة الزراعية الصناعية، ثم ليتوج هذه المراحل جميعا، ويقف على رأس الهيراركية الاقتصادية الدور الزراعي الصناعي التجاري، وهي المرحلة التي يجب أن ينتهي إليها كل التاريخ الاقتصادي. ويرى «ليست» أن من الواجب أن تخدم السياسة الاقتصادية والتجارية في أي بلد من البلاد، المثل الأعلى التاريخي والاقتصادي، وهو الذي يحتم كضرورة أساسية قيام المصانع، وتقدم الصناعة، فلا يجب أن يكون غرض «الدولة» والحكومات حينئذ مجرد توفير أسباب الرخاء والسعادة للأفراد، وزيادة ثراء هؤلاء الأفراد، بل يجب على «الدولة» أن ترسم خططا للمستقبل، وأن تبذل قصارى الجهد لدفع التنمية الاقتصادية دفعا، واستغلال «القوى الإنتاجية» لأقصى درجة، الأمر الذي قد يتطلب تضحيات في الوقت الحاضر، ولا يجب التردد في تحمل هذه التضحيات في الوقت الحاضر، إذا ترتب على هذه التضحية زيادة النمو الاقتصادي في المستقبل.
وفي رأي «ليست» أن هذه القوى الإنتاجية في بلد من البلاد، إنما هي من أنواع مختلفة، فهناك قبل كل شيء الأنظمة الحرة، الأخلاقية والسياسية، وهي التي قرن بها «ليست» برنامج الأحرار، وجعل هذا البرنامج والنظريات القائمة على المبادئ الحرة، جزءا لا يتجزأ منها، ولكن إلى جانب مجموع هذه الأنظمة الأخلاقية الحرة كانت الصناعة - دون شك - هي القوة الأساسية من بين «القوى الإنتاجية»؛ لأن الإنتاج الصناعي لا يقف أثره عند خلق الثروة والغنى، بل إن للصناعة آثارا خلقية معينة، «فالصناعة» تنمي في الفرد الرغبة في أن تستمر ثروته في ازدياد، وهي التي تحفز الأفراد على المباراة لبلوغ هذه الغاية، وتدعو إلى التشبث بالحرية، في حين أن «الزراعة» إنما تسبب الخمول الذهني والكسل، تتولد منها عادة السير في شئون الحياة على وتيرة واحدة؛ أي عدم إعمال الفكر لابتكار وسائل أو طرائق جديدة في الحياة، وأخيرا فإن الصناعة «قوة» منتجة لرأس المال وللعمل معا؛ ولذلك فإن الواجب على الأمة أن تبذل كل ما ملكت من جهد للوصول إلى هذا الغرض بتنمية حرياتها الداخلية من خلقية وسياسية، ومثل كل شيء تنمية صناعتها.
وتناول «ليست» الوسائل التي يمكن بها تنمية هذه الحريات الداخلية، وتنمية الصناعة، فقال: إن الطريق لذلك إنما يكون بفرض نظام الحماية التجارية أو الجمركية، والذي تجدر ملاحظته أن «الحماية» التي طالب بها «فردريك ليست» لم تكن من نوع الحماية المطلقة الصارمة (أو المانعة)، التي أخذ بها في فرنسا في القرن السابع عشر وزيرها المشهور جان بابتيست كولبير
Colbert (1619-1683)؛ و«كولبير» من زعماء «النظام التجاري»
80
السائد في عالم الاقتصاد وقتذاك، فكان غرض الحماية التجارية في نظر «ليست» هو تلقين الأمة وتربيتها تربية صناعية، كما قد يكون غرضها كذلك الدفاع عن أمة متأخرة ضد منافسة أمة أكثر تقدما وقوة منها. و«الحماية التجارية» كما يراها «ليست»، هي الوسيلة التي يمكن بها الدفاع عن ألمانيا ضد إنجلترة، على أن هذه «الحماية التجارية» يجب أن تقف في اللحظة التي يبدو فيها أن النمو الضروري والذي تتطلبه الصناعة في هذه الأمة المتأخرة قد وصل إلى الدرجة المنشودة، فلم تكن «الحماية التجارية» إذن قاعدة «جديدة» يتعذر التخلي عنها، بل يجب أن تمتنع هذه الحماية التجارية بمجرد أن تقف الصناعة على قدميها، ويبدو أنه قد تدعمت أركانها. وأخيرا فلا يجب بحال من الأحوال تطبيق هذه «الحماية التجارية» أو الجمركية على الزراعة، وإنتاج المواد أو السلع الضرورية، والتي تقوم بها أود الحياة.
وتابع «ليست» الحملة، التي كان قد بدأها كتابه «النظام القومي» في صالح حماية التجارة والاتحاد الجمركي، فأصدر كراسات عديدة خلال السنوات التالية، وأسس في سنة 1843 جورنال أو جريدة للاتحاد الجمركي
81
لتقوية هذه الحملة، ومما يجب ذكره أن الضرائب الجمركية العالية لحماية التجارة، لم تكن عند «ليست» سوى إحدى الوسائل التي تتحقق بها التنمية الصناعية، فهو قد فكر في وسيلة أخرى؛ إنشاء السكك الحديدية.
وواضح أن «ليست» كان يعهد - لذلك كله - إلى «الدولة» بدور هام في الحركة الصناعية، فكما أن الدولة مكلفة بتحقيق وحدة البلاد السياسية والمحافظة على هذه الوحدة، فإنها كذلك - في رأي «ليست» - مكلفة بخلق وحدتها الاقتصادية والمحافظة عليها، فالدولة يجب أن تعمل لتطويع المصالح المحلية، وإخضاعها للمصلحة العامة، والدولة هي التي يجب أن تنشئ حركة التبادل الداخلي، والدولة هي التي يجب أن تشرف على مد السكك الحديدية وفق خطة قومية؛ لتبني شبكة من المواصلات داخلها، والدولة هي كذلك التي يعهد إليها بشئون تداول العملة بإنشاء المصارف (البنوك) الحكومية (بنك الدولة)، والدولة أخيرا هي التي يجب أن تعمل لتوحيد التشريعات الاقتصادية.
وعلى ذلك، فإن «ليست» - بخلاف ما فعله الاقتصاديون الأحرار - قد أعطى الدولة سلطة كبيرة للتدخل في الحياة الاقتصادية، فهو يرى الدولة قوة (قوية) دائبة على التحرك والنشاط «ديناميكية»، وذات دور عملي في ميدان الاقتصاد، ولا تقف موقفا ساكنا كمتفرجة وحسب على سير الحياة الاقتصادية؛ أي غير متحركة.
ولقد كان من المنتظر أن تكون ألمانيا ذاتها الميدان الذي يجري فيه تطبيق هذه النظريات التي نادى بها «ليست»، والحقيقة أن «ليست» كان يعتقد أن ألمانيا قد جمعت في داخلها كل عناصر القوة الاقتصادية في أعلى مراتبها، وفي رأي «ليست» أن الذي كان ينقص ألمانيا لتحقيق هذه القوة الاقتصادية، إنما هو افتقارها للاتحاد والقدرة على الدفاع عن نفسها ضد الأجنبي، وللوصول إلى هذه الغاية، في وسع ألمانيا - ولذلك صار من واجبها - أن تزيد في رقعة سلطانها الاقتصادي، فيقول «ليست»: «إن هولندة وبلجيكا والدانمرك، بلاد يجب إقناعها بتأليف دولة واحدة بحرية، وأن هذه البلدان يجب أن ينتهي بها الأمر إلى النظر في انضمامها هي ذاتها أو اندماجها في «قومية» أكبر حجما منها، كشيء مرغوب فيه ولا ندحة عنه»؛ أي إن «ليست» كان يبغي أن تضم ألمانيا إليها في كيان اقتصادي واحد، وفي دولة واحدة، كلا من هولندة وبلجيكا والدانمرك، وذلك الاتساع أو التوسع الذي طلبه «ليست» كان - كما هو ظاهر - من ناحية الغرب.
ولكن «ليست» أراد اتساعا أو توسعا ألمانيا من ناحية الشرق كذلك؛ فقد اعتقد أن المجر (هنغاريا) قطر ضروري لألمانيا؛ لأنها بالنسبة لألمانيا بمثابة «المفتاح» الذي يفتح أمامها الباب للامتداد إلى تركيا، وبلاد الليفانت (البحر المتوسط الشرقي)، وعلاوة على ذلك، وكما قال «ليست»: «لأن النار الاستعمارية، سوف تذيب البرودة الألمانية.»
ولذلك فقد استطاع «ليست» من وجهة النظر الاقتصادية أن يزود ألمانيا «برسالة» معينة، عندما راح يقول: «إن الجنس الجرماني - وذلك أمر لا شك فيه إطلاقا - قد هيأه المولى واصطفاه؛ بسبب طبعه الفطري، وخلقه وسجيته ذاتها؛ ليجد حلا لهذه المعضلة الجسيمة؛ توجيه وإدارة شئون العالم قاطبة، وتمدين البلاد المتبربرة والمتوحشة، وتعمير تلك التي لا زالت خالية ولا يسكنها أحد.»
وواضح أن هذه النظريات التي نادى بها «ليست» كانت تستند على تفكير أصيل قطعا، من حيث إنه تناول الاقتصاد باعتبار أنه قوة فعالة، وأراد أن يؤسس وحدة ألمانيا على اقتصاد صناعي، وذلك شيء جديد، ولكن «ليست» لا يلبث حتى يرتد في تفكيره خطوة إلى الوراء، تجعله في مستوى الفلاسفة والأدباء ورجال السياسة في عصره، من الذين مر بنا ذكرهم، وذلك عندما راح يقول: إن لألمانيا «رسالة» مسندة إليها من قبل الإله! وعلى ذلك فقد صار يبدو اتحاد ألمانيا الاقتصادي، كما ارتسمت صورته في ذهن «ليست» في أساسه فكرة تسلطية «إمبيرالية»، والذي يدعو للعجب فعلا أنه في هذا الوقت الذي كان يبدو فيه حقيقة واقعة - من وجهة النظر السياسية الاقتصادية - أنه لم يكن هناك وجود لألمانيا، وأن هذه البلاد تحتفل على الأكثر مكانا متواضعا في الميدان السياسي الاقتصادي، نقول: كان مثار العجب حقا، أن تسيطر على أذهان الألمان أحلام الوحدة الكاملة والقوية، والسيطرة السياسية والاقتصادية على العالم بأسره. (12-3) نشاط «الجامعيين»
لقد لاحظنا كيف أن اليقظة أو الانتفاضة القومية التي حصلت في سنة 1840، قد جعلت الفكرة القومية أو المذهب القومي يؤلف قسما من برنامج الأحرار في ألمانيا؛ على أن الذي يجب ذكره أن هذه الحركة لم تكن تختص بها ألمانيا وحدها، بل إن الشعور القومي قد أخذ ينمو كذلك في إيطاليا - وعلى نحو ما شهدنا - كما لم يلبث أن تولد في الأملاك النمسوية - وذلك موضع دراسة مقبلة، ولم يكن في هذه المرة جماعة «ألمانيا الفتاة» أو الداعون للأممية
Cosmopolitisme ، هم الذين أدخلوا هذا الاتجاه الجديد في برنامج الأحرار؛ أي نحو القومية، بل إن الذي فعل ذلك كان الجامعيون - أساتذة الجامعات - الذين تسلموا زعامة الحركة الألمانية. فقد انطلق الجامعيون كافتهم، ينشرون الآن القومية، وكان المؤرخون والقانونيون في طليعة هؤلاء الجامعيين، ولقد تميز من بين هؤلاء الأساتذة اثنان، تزعما الحركة القومية وأوضحا أهدافها، هما: «داهلمان» و«جرفينوس»، وفردريك كريستوف داهلمان
Dahlmann (1785-1860)، كان أصلا من «مكلنبورج» بألمانيا، قضى شبابه في الدانمرك، حيث درس بجامعة كوبنهاجن، واشتغل بعض الوقت أستاذا بجامعة كييل
Kiel
في ألمانيا، ثم لم يلبث أن رجع ثانية إلى الدانمرك في سنة 1812، وفي سنة 1815 صار سكرتيرا لوفد شلزويج هولشتين لدى دياط فرانكفورت، وكانت الدانمرك تعتبر دوقية شلزويج جزءا لا يتجزأ من مملكة الدانمرك، في حين أرادت الدوقيتان شلزويج-هولشتين
Schleswig-Holstein
استمرار الاتحاد بينهما، وعدم انفصال الأولى «شلزويج». وكان «داهلمان» أحد الذين أيدوا هذه القضية إلى جانب أستاذ آخر بجامعة كييل، هو نيقولاس فالك
Flack ، وأصله من شلزويج الشمالية، فقد كانت «هولشتين» ضمن الاتحاد الألماني الكونفدرائي، في حين اعتبر الدانمركيون «شلزويج» من أملاكهم. وقامت حركة كبيرة في الدوقيتين تطالب الانضمام بعد ذلك بسنوات عدة (1848) إلى الاتحاد الألماني، وكان أثناء السنوات التي قضاها «داهلمان» في فرانكفورت، أن ظهرت «وطنية ألمانية»، وذلك فيما صار يقوم به من دعاية واسعة، أهاجت خواطر الأهلين الألمان في هاتين الدوقيتين ضد الحكومة الدانمركية، وكان أهل شلزويج هولشتين خليطا من الألمان والدانمركيين، وكان الألمان في هولشتين أشد تأثرا، وكادت هذه الأخيرة تكون «ألمانية» بحتة.
وعندما كان «داهلمان» يشغل منصب الأستاذية في «كييل»، أنشأ صحيفة نالت شهرة واسعة، وإن لم تعمر طويلا، هي صحيفة كييل
Kieler Blatter
لترويج آراءه ولإثارة الخواطر ضد الدانمرك، ثم حدث في سنة 1822 أن تقدم ممثلو طبقتي الفرسان، ورجال الدين في الدوقيتين بعريضة إلى مجلس الدياط في فرانكفورت، يشكون من الخطر الذي يتهدد حقوق الدوقيتين، ويطلبون وساطة الدياط، وكان «داهلمان» هو واضع هذه العريضة، وأهل الدياط هذه العريضة، الأمر الذي أقنع الدانمرك وقتئذ أن «شلزويج هولشتين» لن تجد مساندة وتأييدا من جانب ألمانيا، أما «داهلمان» فقد تعين بعد بضعة سنوات (1829) أستاذا للتاريخ والعلوم السياسية بجامعة «جوتنجن»، وكان «داهلمان» أحد الأساتذة - مع رفيقة «جورج جريفوس» - اللذين جردهما ملك هانوفر من وظائفهما في الحادث، الذي مر بنا ذكره عند الكلام عن أثر الجامعات في «الحياة الذهنية واتجاهاتها القومية» - وهو الاحتجاج ضد تعطيل الدستور في هانوفر على يد الملك الجديد «إرنست أوجستس» - وذلك في سنة 1837، ولقد ذكرنا كيف أن الجامعات الأخرى عرضت على هؤلاء العمل بها، فرحبت جامعة «بون» بفردريك داهلمان، الذي صار أستاذا للعلوم السياسية بها.
أما سمعة «داهلمان» العلمية، فقد بدأت تذيع منذ أن أخذ ينشر في سنتي 1822، 1823 «بحوثه»
82
في تاريخ ألمانيا، وفي هذه البحوث حاول «داهلمان» تحديد مدى التوسع - الذي كان إقليميا - والذي حدث من جانب ألمانيا على ممر العصور، ثم إنه (أي داهلمان) لم يلبث أن أكد نوع هذا التوسع وحدوثه في بحث مستفيض ظهر في سنة 1830 ونال شهرة كبيرة، عالج فيه «داهلمان» مصادر التاريخ الألماني، وفي مؤلفه هذا أظهر «داهلمان» ازدراءه للطريقة التي يعمد بها نفر من الكتاب إلى التدليل في بحوثهم على فكرات أو آراء معينة، كانت راسخة في أذهانهم سلفا، وقبل أن يبدءوا بحوثهم، وقال: إنه إنما يعتمد في «تاريخه» وكتاباته على معرفة الوقائع التاريخية الصحيحة، وتبنى دراساته على الوثائق والأسانيد، فهو إذن لا يسمي نفسه باحثا نظريا، ولا يرضى أن يشغل فكره في المعاني المجردة وحسب، دون التنقيب عن حقيقة الواقع، ومع ذلك فالرأي منعقد على أن آراءه التاريخية إنما تشبه بعضها آراء غيره من المؤرخين، الذين شاء «داهلمان» تقليدهم في تفكيرهم أو نسخ آراءه من آرائهم، في حين أن بعضها الآخر قد استوحاه «داهلمان» من آراء معينة لكتاب ومؤرخين معروفين، مثل المؤرخ الفرنسي أوجستان تييري
Thierry (1795-1856)، وزميله الفرنسي «فرانسوا جيزو» - (1787-1874)، وقد عرفناه في أزمة المسألة الشرقية خصوصا، وكلاهما قد سجلا في مؤلفاتهما آراء معينة لإظهار تفوق ونفوذ الطبقة المتوسطة (البورجوازية).
ومع أن «داهلمان» كان كما قال «واقعيا» ومؤرخا، يعتمد على الحقائق والوثائق والأسانيد في بحوثه، فقد كان في الوقت نفسه «مذهبيا»؛ أي يدين بمبادئ معينة؛ لأنه كان يؤمن بأن من الخير أن تكون هناك «نظريات» مقبولة، ويؤمن بأنه صاحب رسالة، وقد جعله هذا الإيمان متعصبا لآرائه «ومذهبيا» لا يحيد عن المبادئ التي اعتقد صحتها، ولقد ظهرت هذه «المذهبية» على الخصوص في شئون السياسة التي لم يكن «داهلمان» يرضى فيها إطلاقا بأية حلول وسط، وفي سنة 1835 نشر «داهلمان» مؤلفا نال كذلك شهرة ذائعة، عن السياسة التي يجب أن تكون الظروف القائمة فعلا، القاعدة التي ترتكز عليها، والعامل الذي يوجهها،
83
وواضح من عنوان هذا الكتاب أنه يتناول «مذهبا» معينا، هو مذهب السياسة التجريبية، وفي هذا المؤلف شرح «داهلمان» فكرته القائلة بأن الواجب يقتضي الدول الألمانية أن يكون المبدأ الذي يسترشدونه، هو التجمع حول بروسيا عند تحول هذه إلى دولة مؤسسة على المبادئ الحرة.
على أن إنتاج «داهلمان» ابتداء من سنة 1840، كان سياسيا بقدر ما كان تاريخيا، فنشر بين عامي 1840، 1843 ثلاثة مجلدات في تاريخ الدانمرك، تشيع منه الروح القومية الألمانية، ثم إنه نشر «تاريخا لثورة إنجلترة» في القرن السابع عشر في سنة 1844، كما نشر في العام التالي (1845) تاريخا للثورة الفرنسية، وكان الغرض من هذين المؤلفين تقريب هذه الحوادث، والمعنى الذي انطوت عليه من أذهان القراء العاديين.
وكان جوج جرفينوس
Gervinus (1805-1871) الزعيم الآخر الذي تزعم - إلى جانب «داهلمان» - هذه الحركة الجديدة القومية، وهو من «هس درمستاد»، ولا ينتمي للأوساط البورجوازية - كما هو حال «داهلمان» - بل كان من الطبقات الشعبية، اشتغل أولا في التجارة، واستطاع أن يعلم نفسه بنفسه، فترك حانوت التجارة ليلتحق بالجامعة، وحصل على درجة الدكتوراه في سنة 1830، وانتهى به الأمر ليصبح أستاذا بجامعة «هايدلبرج»، ثم صار أستاذا بجامعة «جوتنجن»، وكان أحد الذين أقصوا - مع زميله «داهلمان» - من هذه الجامعة في حادث 1837 المعروف.
ولقد كانت المحاضرات التي ألقاها «جرفينوس» بجامعة «هايدلبرج»، هي الأساس الذي قامت عليه دراسته الرئيسية والكبيرة، والتي بدأت في سنة 1835، وذلك عندما اقترح «جرفينوس» على ناشره أن يختار بين أن يكتب «جرفينوس» تاريخ الشعر الألماني
84
في خمسة أجزاء (من 1835 إلى 1842)، ومع ذلك فقد كان هذا التاريخ في حقيقة الأمر دراسة سياسية جدلية، مقدمة من صاحبها إلى الشباب الألماني، وتهدف إلى توجيه الشباب نحو الواقعية، والاهتمام بشئون السياسة، باعتبار أن «الأدب» الخالص - كما قال «جرفينوس» - قد انتهى وقته، وكان لهذا التاريخ الضخم غرض آخر، هو إقامة الحجة على أن ألمانيا تحتل مكانا رفيعا وهاما في عالم الفكر، وأن من الواجب أن تكون لها نفس المكانة في عالم السياسة كذلك، وفي سنة 1842 نشر «جرفينوس» موجزا لهذا التاريخ، كي يتسنى للجمهور قراءته، ومع ذلك فقد عنى «جرفينوس» بعد سنة 1845 عناية خاصة بكتابة ونشر الكراسات في شتى الموضوعات السياسية، ولم يكن «جرفينوس» رجلا موهوبا، أو صاحب أسلوب يفيض بالحماسة، ولكنه كان يوحي بالثقة في تفكيره، ولقد كان شديد الإعجاب بقدرته العلمية، محبا للتفاخر بها، متصلبا في آرائه ونظرياته بدرجة تفوق كثيرا عناء «داهلمان» وتعصبه، كما كان أقل اندفاعا في الفكر منه، ولكن «جرفينوس» كان أكثر تأييدا للحرية من «داهلمان»، ولقد رفض «جرفينوس» فيما بعد، تأييد سياسة بسمارك، ورفض تضحية الحرية من أجل الوحدة، حقيقة قبل «جرفينوس» أن تتولى بروسيا «صنع» ألمانيا ، ولكن بشريطة أن تكون بروسيا ذاتها دولة تدين بالمبادئ الحرة.
وأما هذه الدعاية التي قام بها أساتذة الجامعات، والتي استندت على «حقائق» التاريخ الألماني بالصورة التي رسمها هؤلاء الأساتذة والناشرون، فقد خلفت في ألمانيا آثارا تفوق في قيمتها ما قد تسفر عنه مثل هذه الدعاية من آثار في بلاد أخرى، فالألمانيون يميلون بسهولة لتصديق ما يذكره التاريخ، سواء أكان تاريخا صحيحا أم مصطنعا؛ ولذلك فقد انتعشت انتعاشا عظيما هذه الدعاية «البروبجندا» السياسية المستندة على التاريخ في السنوات التالية، من ذلك أن المؤرخ درويزن
Droysen - وقد سبق الحديث عنه، وكان أستاذا بجامعة «كييل» - ألقى خطابا عظيما بمناسبة مرور ألف سنة على معاهدة التقسيم المشهورة في فردان (1843)، فعقد مقارنة مخزية بين ما كانت عليه «ألمانيا» من عظمة ورفعة شأن، وقت توقيع هذه المعاهدة بين أبناء لويس، التقى الثلاثة لاقتسام إمبراطورية شارلمان، وبين ما انتقل إليه الحال في السنوات التالية، ثم ما صار عليه الوضع في الوقت الحاضر (1843)، فقال «درويزن»: إن أشقاءنا في الألزاس، يتنكرون لنا ويرفضوننا، وإن أشقاءنا في بلاد فرسان التيتون ليسوا جزءا من الاتحاد الكونفدرائي الألماني، وأشقاءنا الألمان في الأقاليم الشرقية البعيدة مهددون في صميم حياتهم «القومية»، ولكن «درويزن» لم يفقد الأمل، بل وجه في خطابه نداء للألمان جميعا، كي يبذل كل فرد منهم كل ما يملك من جهد ضروري «ليصنعوا» مرة ثانية ألمانيا موحدة.
وواضح مما تقدم أن هؤلاء «الدعاة» المثقفون كانوا يختصون «القومية الألمانية» بعناية أكبر في تفكيرهم و«دعايتهم» من اهتمامهم «بالحرية»، ولا شك أن البون كان شاسعا بين هذا الموقف، وبين موقف أولئك الأحرار الذين ذكرنا طائفة منهم في بداية هذه الدراسة من طراز «منزل» و«بورن» و«ورتيك» و«ويلكر» وغيرهم، وكذلك «هايني»، و«هايني» هو الذي كتب، حتى في بداية سنة 1840:
أن الأداة (أو العتلة) الضخمة التي عرف كيف يحركها ويستخدمها في الزمن السابق، كل أولئك الأمراء الأذكياء، والذين كانت لهم أطماع كبيرة، قد أضحت عالية، وقليلة الآن، وتلك الأداة كانت القومية بأباطيلها وأحقادها، لقد حطم فعل الحضارة الأوروبية العامة، كل تلك الخصائص الخشنة التي انفرد بها كل شعب من الشعوب، فلم يعد هناك وجود لأمم في أوروبا، بل إن ما يوجد اليوم لا يعدو أن يكون فرقا أو أحزابا وحسب.
على أنه لم تمض سنوات قليلة، حتى كانت الأحداث في ألمانيا، قد كذبت أقوال «هايني» هذه تكذيبا تاما.
فإنه لم يلبث أن التف حول الأساتذة الجامعيين جماعة من الكتاب من كل الفرق والأحزاب في ألمانيا؛ ليتعاونوا جميعا في خدمة الفرض المشترك، نذكر من هؤلاء على سبيل المثال؛ الشاعر الهسي - نسبة إلى هس - فرانز دينجلشتد
Dingelstedt ، ثم الشاعر الهانوفري، «هوفمان فون فالرسليبين» صاحب أنشودة «ألمانيا فوق الجميع»، والذي سيكون له دور ملحوظ في حوادث ثورة 1848 على رأس حركة اجتماعية، ثم «جورج هيرويج» الشاعر السوابي - نسبة إلى سوابيا - وقد سبق ذكر هذين الأخيرين، وهكذا غيرهم كثيرون، ولقد جمع بين هؤلاء جميعا عاملان؛ شعور الكراهية للاستبداد، والعاطفة المتقدة للقومية.
وأما «هايني» وقد عرفنا أنه يعيش في فرنسا، فقد انضم إلى هذه الحركة في ذلك القسم من نشاطها الموجه للكفاح عن المبادئ الحرة، وبقي «هايني» يناضل من أجل الحرية، وهكذا تدفق من كل أنحاء ألمانيا سيل من الكراسات والمنشورات، والقصائد والأناشيد، وبصورة متزايدة بقدر تقدم الحركة القومية و«الحرة» ذاتها، وبالرغم من الرقابة الصارمة المفروضة على المطبوعات، وأخيرا لم يلبث «جرفينوس» أن أنشأ في «هايدلبرج» في يوليو 1847 «الفازيتة أو الصحيفة الألمانية»
85
لعرض آراء جماعته وترويجها. وتولى «جرفينوس» إدارة هذه الجريدة بمعاونة ثلاثة من الكتاب؛ المؤرخ لودفيج هاوسر
Hausser ، والكاتب السياسي كارل ماتي
Matty ، ثم القانوني والسياسي كارل ميترماير
Mittermaier ، وقد رسم هؤلاء الكتاب مع «الفازيتة الألمانية» صورة اتحاد كونفدرائي يضم إليه كل ألمانيا، على أن تقوم في نفس الوقت حكومة دستورية في داخل كل «دولة» يتألف منها هذا الاتحاد، ويتضح من إنشاء هذه الجريدة والآراء التي راح هؤلاء الكتاب يروجونها، كيف صارت «الحرية» و«القومية» تمتزجان مع بعضهما بعضا.
ولقد تشكلت إلى جانب هذه الحركة، وبالأصح إلى يسارها، حركة راديكالية، وصلت في سيرها في هذا الطريق إلى «الاشتراكية» ذاتها، أما هذه الحركة الراديكالية، فقد خرجت من جناح «الهيجلية» اليساري، وكان لسان حالها «حوليات هال للعلوم والفنون الألمانية»،
86
ويشرف على تحريرها الفيلسوف «الهيجيلي اليساري» والناشر أرنولد روج
Ruge ، الذي سبق أن تحدثنا عنه، كما تأسست «الفازيتة الراينية للسياسة والتجارة والصناعة»
87
في كولون؛ لتؤدي في الغرب نفس المهمة التي تؤديها في «الشرق» الصحيفة الأولى «حوليات هال»، وكان يشرف على إدارة الفازيتة الراينية الناشر و«الهيجيلي اليساري» كذلك أرنست يونجنتز
Jungnitz ،
88
ولم تعمر هذه الصحيفة سوى شهور ثلاثة، فقد ظهر أول أعدادها في أول يناير 1843، وخرج آخر أعدادها في أول أبريل من السنة نفسها، حيث عطلتها الحكومة، ولقد تعاون مع «يونجنتز» في تحريرها «برونو باور» والذي عرفنا أنه كان من تلاميذ «ستراوس».
وكان لهؤلاء الراديكاليين، أحد الأندية في برلين، باسم «نادي الرجال الأحرار»، وربطوا أنفسهم بالفلسفة التي كان علماها؛ «فردريك ستراوس» و«آنسلم فويرباخ»، وهما - كما عرفنا - من تلامذة «هيجل» اليساريين، فكان هؤلاء الراديكاليون من أعداء المسيحية، وتنكروا لدينها، وعلى النقيض مما عرف به المؤرخون الذين ذكرناهم - مثل «درويزن» وغيره - كانت هذه الجماعة الراديكالية من «النظريين» كثيري الخيال، الذين أرادوا إصلاحا للدولة وللمجتمع على المبادئ الهيجلية.
واستمدت هذه الحركة الراديكالية قوتها الفعلية من الخارج، أكثر مما استمدته من قوة من داخل ألمانيا ذاتها؛ وذلك لأن اللاجئين الألمان في الخارج، وفي فرنسا على وجه الخصوص، هم الذين كانوا يغذونها. فاللاجئون في باريس هم الذين صاروا يصدرون صحيفة بعنوان إلى الأمام
Worwarts
لنشر دعوتهم، وهم الذين أسسوا النوادي، التي كان منها «نادي العدول» في سنة 1836 - وقد تقدم ذكره، ثم إنهم صاروا مشغولين عشية ثورة 1848، بتأسيس «حلف الشيوعيين»،
89
وكان يتولى قيادة هذه الحركة على وجه الخصوص ثلاثة من الرجال هم: ولهلهم وايتلنج
Weitling (1808-1871)، وكان شيوعيا «مذهبيا»، قال عنه «إنجلز» وعن زملائه: إن رءوسهم محشوة بالعبارات المبهمة التي يرددها الأدباء من صغار البورجوازية،
90
ثم فردريك إنجلز
Englez (1820-1895) صديق كارل ماركس، والمتعاون الأمين معه، وأخيرا «كارل ماركس» نفسه (1818-1883)، ولو أن «كارل ماركس» لم يكن صاحب شهرة وقتئذ، وقد نشر «إنجلز» في سنة 1845 مؤلفه عن «الحال التي عليها الطبقة العاملة في إنجلترة في سنة 1844»،
91
وكان المركز الثاني لهذه الحركة الراديكالية إلى جانب باريس «بروكسل» العاصمة البلجيكية.
ويذهب المؤرخون الفرنسيون إلى أن هؤلاء الراديكاليين، قد اتخذوا المبادئ الحرة والقومية التي سادت فرنسا وقتئذ «إنجيل» لحركتهم، وذلك بالرغم من أنهم كانوا أعداء ألداء لفرنسا، وأن حركتهم إنما ترتد في أصولها إلى تلك الكراهية لفرنسا التي انبعثت من جديد في سنة 1840 في الظروف التي ذكرناها، ويستند هؤلاء المؤرخون في هذا الرأي إلى ما كتبه في مذكرات «إرنست» دون ساكس كوبورج
Zaxe-Coupourg ، وهي مذكرات تتناول هذه الفترة، وتلقي ضوءا هاما على وجه الخصوص على أصول الوحدة الألمانية، وسياسة البرنس بسمارك، وفي هذه المذكرات يقول «إرنست دون ساكس - كوبورج»: «لقد كان لفرنسا نفوذ عظيم وسيطرة كبيرة على الحياة السياسية في ألمانيا قبل سنة 1848، لقد وجدت كتابات لوي بلان
Louis Planc
جمهرة كبيرة من القراء في ألمانيا، من المحتمل أنها كانت تضارع جمهرة قارئيه في فرنسا ذاتها،
92
لقد تغلغلت الكتابات الأكثر راديكالية في الأوساط الألمانية حتى نفذت إلى طبقات الأهلين الدنيا، وإني لا أزال أذكر جيدا، كيف كان يثير دهشتي كثيرا أثناء رحلة قمت بها في شبابي، تأكدي من العثور على الكتب والكراسات، التي يزعج وجودها البوليس في كل مكان، حتى في أقصى القرى، وذلك بالرغم من أن وسائل المواصلات لم تكن وقتئذ متقدمة.»
أما هذه الحركة الراديكالية والاشتراكية في ألمانيا، فقد تزايدت قوتها بسبب الأزمة الاقتصادية، التي ظهرت بوادرها في سنة 1846 في صورة إضراب حصل في سيليزيا بين النساجين، كان له دوي عظيم، ومما ترتب عليه أن صارت تبرز الآن المسألة الاجتماعية؛ أي مشاكل العمل والعمال وآثارها في المجتمع الألماني.
والذي تجدر ملاحظته أن حركة الآراء هذه الداعية للتجديد، لم تكن مقصورة على أهل الفكر والمثقفين وحدهم فحسب، بل ضمت إليها كذلك رجال السياسة، ولو أنها في هذه الأوساط السياسية، قد صارت تفتقر إلى كثير من تلك الشجاعة التي تميزت بها هذه الحركة في أوساط المثقفين وأهل الرأي والفكر؛ وذلك لأن آراء هؤلاء السياسيين الأحرار القوميين وبرامجهم، لم تكن تعدو المطالبة «بإصلاح» الاتحاد الكونفدرائي القائم في ألمانيا منذ 1815، فهم يريدون أن يستبدلوا بالاتحاد الكونفدرائي
Staatenbund ، دولة فدرالية اتحادا فدرائي
Bundesstaat ، وكان زعيم هؤلاء الجماعة، «هاينريش فون جاجرن» النائب الهسي - الذي سبقت الإشارة إليه - وكان نائبا بمجلس هس تاسل، من 1832 إلى 1836، ثم انسحب من السياسة ليتفرغ لأعماله الزراعية، فلم يعد إلى ميدان السياسة إلا في عام 1846، وذلك ليشن حملة معارضة عنيفة ضد «قانون مدني» لا يستند على المبادئ الحرة، أرادت الحكومة الهسية استصداره، فانتخب نائبا مرة ثانية في سنة 1847، وسرعان ما أصبح أحد زعماء حركة 1848.
ولقد كانت فكرة إصلاح الاتحاد الكونفدرائي الألماني هذه بإنشاء دولة فدرالية «الحل»، أو الفكرة التي كانت أوسع انتشارا على وجه الخصوص بين السياسيين والمهتمين بالسياسة في ألمانيا الجنوبية.
ومن جانب آخر، فإنه كان لا يزال هناك تيار من القومية، جعله مستمرا نشاط المدرسة التقليدية - أو التمسك بالتقاليد - التي عرفنا أن «فون هالر» كان «أقوى» زعمائها، والتي اعتمدت على دروس «فون رانكه» التاريخية - الأستاذ بجامعة برلين - وهؤلاء «التقليديون» كانوا من المحافظين القوميين، ومن المعروف أن «هالر» و«رانكه» لم يكونا من الأحرار، وكان في رأيهم أن في وسع ألمانيا أن تتوحد دون حاجة للأخذ بالأيدولوجية الثورية وبالمذهب الحر، وذلك بالاعتماد على طبقة النبلاء وعلى الإدارة أو الحكومة وحسب، وعلى ذلك فقد صاروا يمزجون بين فكرة القومية الألمانية - وذلك في الوحدة التي ينشدونها، وبين ما صاروا يسمونه بفكرة القومية البروسية - لضرورة استناد هذه الوحدة على «نبلاء» و«حكومة»، وهما عنصران متوافران في بروسيا، الدولة التي أنشأتها «التقاليد» في عرفهم.
وواضح أن المزج بين هاتين الفكرتين؛ القومية الألمانية، والقومية البروسية، لا يعدو أن يكون ذلك «التقليد» نفسه الذي تمسك به، وسار عليه العسكريون والنبلاء في بروسيا في عهد نابليون، وكان طبيعيا أن يتلقن هذه التقاليد، ويتمسك بها الإداريون «والموظفون» والعسكريون الجدد في حكومة بروسيا، فكان معنى «القومية» حينئذ لدى هؤلاء جميعا، أن تتسع بروسيا حتى يشمل سلطانها ألمانيا، وأن تصبح بروسيا هي ألمانيا، بقدر ما كان معناها تأسيس الوحدة الألمانية، مثال ذلك ما ذكره «رادويتز»
93
أحد مستشاري ملك بروسيا فردريك وليم الرابع، والذي صار زعيما للحزب الكاثوليكي البروسي في سنة 1848 فقد كتب في رسالة له إلى الملك في 20 نوفمبر 1847:
لقد تركنا في أيدي أعداء النظام أقوى سلاح في الوقت الحاضر، وأعني بذلك القومية، فكل النفوس مريضة بذلك الداء المتولد من الحنين إلى الوطن، والذي يبدو الآن كرغبة في رؤية ألمانيا أكثر اتحادا وقوة، وموضع احترام أكبر في العالم الخارجي، وذلك الرأي أشد شعبية وقوة من أي رأي آخر، والوحيد الذي يسيطر على أذهان الأحزاب، والذي يمثل موضعا دونه كل الخلافات الإقليمية والسياسية والدينية، وأشار «رادويتز» على الملك أن يتزعم هو - أي فردريك وليم الرابع - هذه الحركة القومية كي تجمع حول بروسيا كل الألمانيين.
وواضح أن اتباع هذه الخطة، يفترض تسوية للخلاف الناشب بين الرأي القومي في ألمانيا وبين بروسيا، وإعادة العلاقات أو الروابط التي كانت قد انفصمت بسبب السياسة الرجعية التي سارت عليها بروسيا.
وكان مما أتاح الفرصة لتسوية هذا الخلاف، والوصول إلى صلح بين الرأي القومي في ألمانيا وبين بروسيا، أن دخل المسألة عنصر جديد، هو اعتلاء فردريك وليم الرابع عرش بروسيا. (12-4) حكومة فردريك وليم الرابع
فقد اعتلى هذا الملك عرش بروسيا في 7 يونيو 1840؛ أي في اللحظة التي انفجرت فيها أزمة سنة 1940 التي هددت بالحرب الأوروبية، وأفصح الفرنسيون عن مطالبهم «القومية» التوسعية تجاه الراين وألمانيا الغربية، وفي هذه الأزمة تجاوب الملك البروسي في التو والساعة مع الآراء والعواطف الألمانية، فهو كان يكره حقيقة فرنسا، وفي رأيه «لم يكن يوجد في فرنسا دين، ولا أخلاق، وأنها دولة متعفنة، مثلها في ذلك روما قبل سقوط الإمبراطورية «الرومانية»، وأن فرنسا - حسب اعتقاده - سوف تنهار بالطريقة نفسها»، وانضم فردريك وليم مباشرة إلى الحركة المؤيدة للحرب وقتئذ (1840)، فمنح «بيكر» صاحب أنشودة «الراين الألماني» معاشا مكافأة له على هذه الأنشودة، وفي سنة 1842 شرب الملك نخب «الوطن الألماني»، وذلك في الاحتفال الذي أقيم بمناسبته الفراغ من بناء كتدرائية كولون؛ وقد سبقت الإشارة إلى هذا الاحتفال، ولقد حرص فردريك وليم بشتى الطرق على إظهار احترامه وتعلقه بكل تقاليد العصور الوسطى، وبفكرة الإمبراطورية الرومانية الجرمانية المقدسة، وإلى جانب هذا أقام فردريك وليم عندما كان وليا للعهد وقتا كافيا في الأقاليم الراينية، جعله يحتك بالمجتمع الجديد هناك، وساعدت الإجراءات التي اتخذها الملك في بداية عهده على الاعتقاد بأن حكما مستندا على المبادئ الحرة، سوف يسود بروسيا، فهو قد أنهى النزاع بين أسقف كولون وبين الحكومة البروسية، وأصدر عفوا عن الأحرار الذين كانوا في السجن، أو ظلوا موضع اضطهاد من مدة طويلة منذ حركات القمع المعروفة في سنتي 1819، 1830، فاستطاع الشاعر «آرندت»
94
العودة من منفاه إلى بروسيا، وخفف فردريك وليم من صرامة الرقابة (سبتمبر 1841)، وجعل جلسات المجالس (الدياطات) الإقليمية علنية، فأعدت هذه من الآن فصاعدا محضرا لجلساتها، يوزع على الصحف لنشره، الأمر الذي أوقف الأهلين على حقيقة ما يجري في هذه المجالس، والموضوعات التي تدور فيها المناقشة، فتسنى لهؤلاء تأييد ما يريدونه منها أو إبداء معارضتهم لها، كما أتيحت الفرصة لقيام حركة تكتل حول الأحرار لتأييدهم، ثم إن الملك وعد بدعوة مجالس الدياط للاجتماع بانتظام كل سنتين مرة، وأراد أن تبعث المجالس الإقليمية عند كل دورة؛ أي كل سنتين مرة، مندوبين عنها إلى برلين، يعرضون على الملك رغبات وآراء الأهلين في الأقاليم المختلفة، وهكذا تولد في صدور الألمان والبروسيين الأمل في أن بروسيا سوف تتبع سياسة مستندة على المبادئ الحرة، وموجهة نحو تأييد القومية الألمانية ، وذلك بفضل كل هذه الإجراءات الحرة، التي بدأ بها فردريك وليم الرابع حكمه.
ولقد كان تحت تأثير هذا الأمل، أن تشكلت حركة جديدة على المبادئ الحرة في إقليم الراين، مستندة على فكرة أن من الممكن أن تصبح بروسيا دولة تدين بالمذهب الحر.
ذلك أن الفكرة المحلية أو الإقليمية لم تلبث أن محيت تماما في إقليم الراين، عقب أزمة 1840 المعروفة، فقد بقي حتى هذا الوقت الراينيون يصرون - كما عرفنا - على التمسك بأنظمتهم الفرنسية الحكومية، وبقوانينهم الفرنسية، فصار النمط المألوف الآن - على العكس من ذلك - هو إبراز الخصائص الألمانية الكامنة في الأنظمة الحكومية والاجتماعية، وحتى هذا الوقت تمسك الراينيون «بملامح» إقليمهم؛ أي «محليتهم» وعارضوا الاندماج في دولة بروسيا، فصاروا على العكس من ذلك، من الآن فصاعدا يريدون نمو إقليمهم وتقدمه في نطاق الدولة البروسية، لقد كانوا يعيشون في عزلة سابقا، ولكنهم صاروا الآن ينشئون صلات وروابط ذهنية وفكرية مع سائر الأقاليم البروسية، فهم يتتبعون ما يدور من مناقشات في المجالس الإقليمية (الدياطات) في سائر الأقاليم الألمانية، وهم يقرءون بنهم وشغف كل ما تقع عليه أيديهم من كراسات ومطبوعات يصدرها الأحرار في سائر مقاطعات بروسيا، وخصوصا كراسة لطبيب يهودي من «كونجزبرج» يدعى جوهان جاكوبي
Johann Jacoby ،
95
سرعان ما تزعم الأحرار هناك، عندما تألفت مجموعة من الشبان - أكثرهم من اليهود - من المشتغلين بالأدب، وأصحاب الآراء المتحررة من القيود، والذين بدءوا نشاطهم في «كونجزبرج»، ولقوا هناك تأييدا، حتى من بين الطبقة المسالمة المشتغلة بالتجارة، وفي سنة 1841 نشر «جاكوبي» كراسة بعنوان «أسئلة أربعة يجيب عليها بروسي من الشرق»،
96
وقد ذاع تداول هذه الكراسة بين المجالس الإقليمية التمثيلية (الدياطات)، وفي إقليم الراين، وفي هذه الكراسة كانت الفكرة البارزة هي المطالبة بتأسيس تمثيل نيابي صحيح، بدعوى أن الملك مقيد بفعل ذلك، بوعد كان قد صدر عن أبيه في سنة 1815.
ونالت كراسة أخرى من هذا الطراز رواجا عظيما في إقليم الراين، ظهرت حوالي هذا الوقت (1840 دون ذكر اسم المؤلف ثم 1841) بعنوان «من أين وإلى أين؟»
97
لصاحبها هنريش تيودور فون شون
Schon ، وقد بعث بهذه الكراسة صاحبها، وكان يقيم وقتئذ في كونجزبرج، كذلك إلى الملك، لاعتقاده أن فردريك وليم الرابع يدين بالمذهب الحر، لدرجة أكبر مما يفعل شون نفسه، ويريد أن «ينبه» الملك الجديد إلى حقيقة الموقف وخطورته من وجهة نظر الأحرار، وحسب تقديرهم، فجأر «شون» بالشكوى من العبودية البيروقراطية، وطلب بدعوة مجلس طبقات عام للمملكة بأكملها.
ولقيت هاتان الكراستان نجاحا عظيما في بروسيا الشرقية، كما تلقفها الراينيون بحماس شديد، وكانت الفكرة التي عرضتها هاتان الكراستان، تدور حول تأسيس «برلمان» بروسي باسم حقوق الأمة، والتنبؤ بما ينتظر بروسيا من مجد عظيم عند أخذها بالمبادئ الحرة.
وهكذا بدأ يشعر الراينيون أنهم متكتلون في الرأي مع سائر بروسيا، وانكبوا الآن يقرءون الصحف الصادرة في بروسيا الشرقية، خصوصا «صحيفة كونجزبرج»،
98
وذلك بعد أن كانوا يزدرون بها، وعلى ذلك فقد شرع يندمج الآن الراينيون حتى «المحليون» منهم في الدولة البروسية، ولم يعودوا يفكرون في العيش في عزلة في هذا القسم الغربي من ألمانيا الذي تقع فيه بلادهم.
وفي سنة 1841 كتب «هانسيمان» رئيس الغرفة التجارية في «إكس لاشابل» - وقد مر بنا ذكره - «مذكرة للملك» يريد فيها «توجيه» الملك الجديد، وعلى نحو ما فعل مع سلفه «فردريك وليم الثالث» منذ حوالي عشر سنوات، وراح يوضح في هذه المذكرة أن الأخذ بمبدأ الحرية ضرورة حتمية من النواحي السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وكأحد رجال الأعمال والإدارة في إقليم الراين، بذل «هانسيمان» كل ما يملك من جهد ونشاط في خدمة الدولة، سواء لمعالجة مسألة الضرائب الجمركية، أو في مفاوضات المعاهدة التجارية مع بلجيكا سنة 1844، أو عند بحث موضوع الرسوم الجمركية التفصيلية التي ينتظر منها تشجيع الصناعة البروسية، وحمايتها من منافسة الصناعة الأجنبية، ولقد هدف «هانسيمان» إلى ربط البورجوازية الرأسمالية بالدولة، وأخذ يضع برنامجا للتعاون بين الأحرار (من هذه البورجوازية الرأسمالية) والحكومة، ويوضح قواعد هذا البرنامج في جريدة آشن
Aachen (أي إكس لاشابل)، وكانت هذه صحيفة وطنية و«حرة» عظيمة.
ولقد كانت هناك مدرسة أخرى، منبعثة من الجناح الهيجيلي اليساري، ومن السانسيمونية في الوقت نفسه ، وكان يتزعم هذه المدرسة أحد الراينيين الأحرار من وستفاليا، جوستاف مفيسين
Mevissen ، وكانت المشكلات الاجتماعية، بفضل توجيه «مفيسين» الموضوع الذي استأثر على وجه الخصوص باهتمام هؤلاء الجماعة، وأنشأ «مفيسين» من البداية الصلات «بكارل ماركس»، وأسس «جمعية لرعاية الطبقات العاملة»، وصار يدعو لإنشاء النقابات العمالية، ومع أن الأحرار كانوا حتى هذا الوقت يقاومون تدخل الدولة في الشئون العامة ويكرهونه، فقد صاروا الآن يلتفون حول الدولة، ويدعونها للتدخل، وطلب «مفيسين» أن تقوم الدولة بتنظيم عام للاقتصاد السياسي في البلاد، ثم إن «مفيسين» كان مبتكرا، صار يعرف اليوم باسم «الاقتصاد الموجه»، وهكذا صار «مفيسين» يحارب ميول الأحرار الإقليمية القديمة، وكانت صحيفة الراين
Rheinische zeitung
هي لسان حال هؤلاء الجماعة؛ حزب الاقتصاد الموجه، وقد تأسست هذه الصحيفة في سنة 1842 في كولون، وكان كارل ماركس أحد المحررين بها، ولكن لم تلبث الحكومة أن عطلتها في سنة 1843 بعد حياة قصيرة، أما هؤلاء الاقتصاديون فقد ظلوا يطالبون «الدولة» بأن تبسط سلطان العقل، والأخلاق العامة في بروسيا؛ لتحقيق الصالح العام.
وثمة تفكير ثالث، ظهر أثره في الأوساط التجارية والملاحية في إقليم الراين، كان تفكيرا حرا وعمليا في الوقت نفسه، يستند على المبادئ الحرة في شئون السياسة وعلى التبادل «التجاري» الحر في عالم الاقتصاد، وكان زعيم هذه الجماعة من الأحرار الاقتصاديين هو «لودولف كامبهاوسن»، الذي عرفنا أنه كان رئيس الغرفة التجارية في كولون، وقد صار هؤلاء الجماعة يمثلون مصالح التجار وأصحاب السفن في إقليم الراين، والذين شعروا بحاجتهم الملحة لفتح طريق الراين - الطريق النهري العظيم - للتجارة وحرية التبادل، وعلى ذلك فقد انبرى «كامبهاوسن» يحمل بعنف على مبادئ الجماعة التجارية التي نادى بها «فردريك ليست»، ومع ذلك فإن معارضته لهذه الجماعة التجارية لم تمنع «كامبهاوسن» من إدراك قيمة الأثر الذي تحدثه المسائل الاقتصادية في الناحية القومية، مثله في ذلك مثل «فردريك ليست» نفسه، من حيث ضرورة أن تحرز ألمانيا توسعا اقتصاديا، وأن تقوم وحدتها الداخلية على أساس اقتصادي، فيكتب «كامبهاوسن» إلى صديقه كوهن
Kühne - وكان من رجال حكومة برلين البارزين، وكان قد أسدى خدمات جليلة في مفاوضات «الزولفرين» - كتب إليه «كامبهاوسن» في 26 ديسمبر 1846:
أن ألمانيا هي ميدان الحرب الذي تتقاتل فيه الأمم الأوروبية منذ القرن السابع عشر، ولا يمكن وضع حد لهذا الوضع، إلا إذا حصل اتحاد البلاد الألمانية، ولكن على أن يكون هذا الاتحاد في شكل آخر غير «الاتحاد الكونفدرائي الألماني»، وهو الذي تأكد عجزه، ولا بد من تشجيع الزولفرين، حتى يكون لديه الوسيلة لتحقيق الوحدة الألمانية، وذلك بطريقين؛ أن يكون لدى «الزولفرين» أولا ؛ حدود بحرية، وأسطول تجاري، وثانيا؛ تدعيم وتقوية الروابط التي تجمع بين البلاد في داخل هذا الاتحاد الجمركي (الزولفرين) نفسه، وعليك - يا صديقي القادر - أن تعمل بجد، ويقتضيك الواجب أن تكرس كل حياتك؛ ليتسنى للراية الألمانية أن تخفق في كل البحار، ولن تصبح عاجزة كل من إنجلترة وفرنسا عن التلويح بأية ادعاءات لهما على أية بقعة من الأراضي الألمانية، وحتى يبقى الاتحاد الجمركي قويا دائما وبصورة مطردة، وحتى تسترد الإمبراطورية الألمانية مكانها المرموق في أوروبا، الأمر الذي يجعلها قادرة على مواجهة البربرية الزاحفة من «الشرق»، ودفعها ومواجهة تسلطية «الغرب»، وجشع البلاد الغربية وشراهتها التوسعية ووقفها.
وواضح أن فكرة القومية - كما يبسطها «كامبهاوسن» في خطابه، وكما شاهدناها دائما لدى هؤلاء «القوميين» الألمان - كانت دائما مرتبطة بفكرة التوسع والتسلطية (أو الإمبريالية)، وفي الوقت الذي لم يكن فيه وجود لراية «ألمانية»، كان هؤلاء يريدون مشاهدة الراية الألمانية تخفق فوق كل أوروبا، وهكذا كانت فكرة القومية الألمانية ترسم في أذهانهم صورة لألمانيا كدولة عظمى يمتد سلطانها إلى خارج حدودها، فالقومية الألمانية في تفكيرهم هي العظمة الألمانية الخارجية، وفكرة العظمة الخارجية هذه، هي التي أوحت إلى الألمان بفكرة الوحدة الوطنية والسياسية، أما لسان حال هذه القومية البروسية المستندة على المذهب الحر، فكانت صحيفة كولون
Kolnische zeitung ، وهي صحيفة قديمة، كانت بعنوان آخر عند صدورها في سنة 1794
99
خلفا لجريدة رسمية، وسرعان ما صارت تسمى «بصحيفة كولون»، وابتداء من سنة 1845 انضمت إلى هذه الحركة.
وعلى ذلك يكون قد تغير موقف الراينيين السياسي تماما، ففي مجلس الراين الإقليمي
Landtag
في سنة 1841 لم يعد اهتمام أعضاء هذا المجلس مقصورا على الشئون المحلية الإقليمية وحسب، بل لم يلبث أن تشكل رويدا رويدا حزب قومي، كان أعضاؤه ممن ينتمون لغير طبقة النبلاء ومن غير الكاثوليك، ومنذ أن أمكن حل مسألة المجالس البلدية في سنة 1843 - وقد سبقت الإشارة إليها - اختفت الإقليمية، كما اختفت الفوارق المذهبية (الدينية)، وفي سنة 1845 طالب «كامبهاوسن» بدعوة برلمان بروسي للاجتماع، وفي سنة 1847 كان أهل الراين جميعا مستعدين للاشتراك في الحياة العامة مع بروسيا «الدستورية» جنبا إلى جنب مع سائر مقاطعات الدولة، وفي فبراير 1848 كتب المصرفي هرمان فون بيكرات
Beckerath - وكان من كبار الأحرار في كريفيلد
Crefeld
إحدى مدن الراين في «صحيفة كولون» - لقد أصبح شعور الأمة البروسية الوطني قويا وجياشا، لدرجة أن صار كل عنصر من عناصر الإقليمية موضع تحقير وزراية وتتضافر جميع المقاطعات على التعاون فيما بينها، يحدوها لفعل ذلك الأمل في بلوغ مرتبة عالية من مراتب القومية السياسية، وهكذا أضحى الأحرار الألمان - وعلى الخصوص الأحرار الراينيون - على قدم الاستعداد الآن؛ لأن يسيروا جنبا إلى جنب مع «بروسيا» كي «يصنعوا» ألمانيا.
على أن هذا المثل الأعلى الذي استرشد به هؤلاء الأحرار القوميون، لم يلبث أن اتضح أنه كان آمالا كاذبة، وذلك لأسباب منها أن الملك فردريك وليم الرابع لم يكن الرجل الذي تخيله الراينيون، وبنوا عليه آمالهم، فهو لم يكن واضحا في آرائه، وتعذر على المتحدثين معه أن يفهموا ما يريده من أقواله، ولم يعتبر الملك غموض آرائه أو اختلاط أقواله عجزا منه أو مقصورا عن التعبير، بل اعتقد أن ذلك من دلائل التفوق الذهني؛ لأن الفكرة العالية - كما اعتقد - يجب أن يتعذر على الناس فهمها، ومن ناحية أخرى كان فردريك وليم الرابع «رومانتيكيا»، فهو خطيب بطبعه، ويعمد لذلك عند كل مناسبة يتحدث فيها إلى إلقاء الخطب، ويتحمس عندئذ لدرجة التفوه بعبارات، قد ينساق إلى التفوه بها من باب البلاغة وحسن البيان، ولكنه لم يكن في حقيقة الأمر يقصد شيئا من المعاني التي تفيض هذه العبارات الرنانة بها؛ ولذلك فقد نشأ سريعا «سوء تفاهم» كبير بينه وبين الرأي العام، وكان من المتوقع أن يحدث ذلك؛ لأن الملك لم يكن من الأحرار، بل كان من تلامذة زعيم «التقليديين» كارل فون هالر، فهو يرد كل شيء إلى أصله التاريخي، ويرعبه التفكير في الدساتير النظرية؛ لأنه - كما قال - لا يريد أن «يترك قصاصة من الورق تنسل بينه وبين شعبه»، ولأنه كان شديد الحساسية أو التأثر في كل ما يتصل بسلطاته كملك.
وفي الوقت نفسه كان فردريك وليم الرابع يدين بالمذهب القومي، ولكن كانت ترتسم في ذهنه صورة خاصة لألمانيا، تختلف عن تلك المرتسمة في أذهان الأحرار، لقد أظهر حماسا وطنيا ملحوظا، ولا جدال في أنه كان مقتنعا تماما بقصور «الاتحاد الكونفدرائي الألماني» وعجزه، ولكن الدولة أو المملكة التي أرادها كانت غير تلك التي أرادها الأحرار تماما، فالرايخ
Reich - أو الإمبراطورية التي تخيلها فردريك وليم - يجب أن تستمد وجودها من «التاريخ»، وتقوم على قاعدة تاريخية، وهو لذلك يريد الاحتفاظ بالنمسا على رأس «الرايخ» الألماني؛ لأن النمسا استندت على حق تاريخي في قيامها بدور الزعامة والقيادة في ألمانيا دائما، فهو يشعر بالاحترام للنمسا دائما، وإن كان احتراما ممزوجا بالخوف منها، وهو شعور سوف يحمله في سنتي 1848 و1850 خصوصا على تعطيل الإجراءات المتخذة ضد النمسا، ومن ناحية أخرى كان يصعب عليه الابتعاد عن الأساليب القديمة، والتخلي عن الآراء التقليدية - أي نبذ التمسك بالتقاليد - وأما في هذا «الرايخ» الجديد، فإنه لم يكن يرى لبروسيا أي عمل غير تأدية رسالة عسكرية، وفي رأيه كان يتوقف حل مشكلة إنشاء هذا «الرايخ» بقيام الاتحاد بين بروسيا والنمسا، وأن هذا الاتحاد بين بروسيا والنمسا هو الذي يضمن الوحدة الألمانية، وهو الذي يحقق لألمانيا العظمة المنشودة. وصفوة القول أن فردريك وليم الرابع كان شديد الارتباط بالماضي، فهو لا يشاء هدم الصرح التاريخي الذي شيدته بروسيا، ثم هو لا يشاء كذلك هدم الصرح التاريخي الذي شيدته النمسا.
وهكذا لم يلبث أن تبين للأحرار في ألمانيا أنهم مخدوعون خديعة كبرى في ملك بروسيا، وكان طبيعيا أن يمر بعض الوقت قبل أن يتأكد هؤلاء من هذه الحقيقة، فكان في ميدان السياسة الداخلية البروسية أن تبددت الآمال التي عقدوها على الملك، كما حدث ذلك أيضا في ميدان النشاط القومي في حوادث سنة 1848، فقد قاوم فردريك وليم الرابع بصلابة وعناد إصدار دستور لشعبه بدعوى «أن الملك في بروسيا يجب أن يكون - كما قال - القائد في وقت السلم، كما هو القائد في وقت الحرب»، وعهد إلى المختصين دائما ببحث مشروعات الإصلاح، الذي يرضي الرأي العام، ويحفظ في الوقت نفسه حقوق الملك، ولم يكن من السهل تحقيق هذه الغاية، وأسفرت كل هذه المشروعات التي يقبلها تارة ويرفضها تارة أخرى بسبب تردده المستمر، على إشاعة الفوضى في الإدارة البروسية، وإلحاق الأذى والضعف بتلك الحكومة، التي بقيت حتى هذا الوقت تقوم بوظائفها خير قيام، الأمر الذي نجم منه زيادة التذمر، ثم ازدياد المطالبة بالإصلاح، وإتاحة الفرصة لتآمر أعدائه، وانتهى الأمر بأن أصدر فردريك وليم قرارا في 3 فبراير 1847 بإنشاء دياط لاندتاج
Landtag
موحد لبروسيا.
وهذا الدياط الموحد (لاندتاج)، سوف يكون بمقتضى قرار إنشائه مجلسا يجتمع في برلين، ويضم إليه كل الدياطات الإقليمية، التي تنعقد معا لبحث المسائل المالية، والتي تتوزع في هيئتين أو طبقتين
Curia
هيئة أو مجلس السادة، ثم مجلس الطبقات الثلاث الأخرى؛ النبلاء، والطبقة المتوسطة (البورجوازية) في المدن، وطبقة أهل الريف - المزارعين - وواضح أن طبقة النبلاء كانت صاحبة الغلبة أو الأكثرية في هذا الدياط الموحد (لاندتاج)، الذي تألف من «دياطات» الأقاليم مجتمعة، وكان النبلاء أصحاب الغلبة والأكثرية كذلك في هذه الدياطات الإقليمية، ويملك هؤلاء النبلاء في هذا (اللاندتاج) ثلاثمائة صوت، في حين أنهم يبلغون حوالي عشرة آلاف، يملكون عقارا؛ ومن المعروف أن أصحاب الأملاك العقارية (والأرض)، هم الذين كان لهم وحدهم من قديم الزمان حق الانتخاب،
100
وأما سائر الطبقات، فلم يزد عدد الأصوات لها على واحد وثمانين صوتا، في حين بلغ عدد أفرادها أربعة ملايين، ثم إنه لم تكن لهذا الدياط الموحد (لاندتاج) غير سلطات أو اختصاصات محدودة وضيقة، لا تعدو الاقتراع على الضرائب الجديدة وتقديم العرائض، في حين احتفظ الملك لنفسه بحق مشاورة «اللاندتاج» في القوانين التي يبغي استصدارها، وزيادة على ذلك، لم يكن ينعقد هذا الدياط الموحد في دورات معينة، ولكن الذي ينعقد كل سنة، حسب قرار إنشائه، كان لجنة مؤلفة من ثمانية أعضاء، كل واحد منهم يمثل مقاطعة معينة، ومهمة هؤلاء الاستماع للتقارير التي تعرضها الحكومة.
وواضح أن هذا الإصلاح كان إصلاحا وهميا ولا قيمة له، زاد من وهميته أن الملك في خطاب افتتاح «اللاندتاج» في 11 أبريل 1847، حرص على تأكيد مفهومه عن سلطاته وحقوقه الملكية، كما كان يمارس الملوك والأمراء هذا السلطان وهذه الحقوق طوال العصور الوسطى، وأنكر أن للشعب أية حقوق أو أي سلطان.
ولقد قوبل هذا الإصلاح البروسي - إذن - بشعور عميق بخيبة الأمل، حتى إنه سرعان ما أخذت تظهر في داخل المجلس الجديد (لاندتاج) مقاومة من العناصر الحرة، غرضها حمل الملك على زيادة السلطات أو الحقوق التي «تنازل» عنها للمجلس، وأيا كان الأمر فقد دل اجتماع الدياط الموحد (لاندتاج) كهيئة ذات كيان معترف به في الدولة مع وجود «الملك»، على أن بروسيا القديمة، الدولة التي تهيمن عليها الملكية والأرستقراطية النبيلة، والتي لم يكن قط يخطر ببال المسئولين منها أن ثمة تعاون قد يقوم بين أهل البلاد والحكومة؛ نقول: دل اجتماع «اللاندتاج» على أن هذه الدولة قد ماتت وانقضت أيامها فعلا، وراح البرنس وليم «غليوم» شقيق الملك - والإمبراطور غليوم الأول فيما بعد - يندب - والأساسي يمزق أحشاءه - اختفاء بروسيا التي عرفها من زمن بعيد بروسيا «القديمة». (13) مسألة شلزويج هولشتين
وفي الوقت الذي قامت فيه حركة الإصلاح الذي أوضحنا معالمه في بروسيا، أثيرت في ألمانيا في سنة 1846 مسألة «شلزويج هولشتين»، الدوقيتين اللتين تملكهما الدانمرك، وتلك مشكلة سبقت الإشارة إليها عند الكلام عن «فردريك داهلمان»، وذات أهمية فردية من حيث إنها تكشف عن «أطماع» الحزب القومي الألماني، والأساليب التي عمد إليها في تحقيقها، ولقد سبق أن تكلمنا عن الحركة التي قامت في هاتين الدوقيتين من أجل الانضمام إلى الاتحاد الألماني، أما المسئولون عن إثارة الكراهية في الدوقيتين، وخصوصا في هولشتين ضد الحكومة الدانمركية، فكان أساتذة جامعة «كييل» وهم الذين استثاروا الأهلين للمطالبة بالانضمام إلى ألمانيا، وكان «داهلمان» هو محرك هذه الحملة من مدة سابقة في العقدين الثاني والثالث من هذا القرن (التاسع عشر). ولقد حدث ابتداء من سنة 1840 أن قويت هذه الدعاية «البروبجندا» الألمانية في الدوقيتين، بفضل مساهمة أساتذة آخرين في الحركة، ومن نفس جامعة «كييل» أيضا، نذكر على الخصوص «جوهان درويزن» - وقد سبق الكلام عنه - ثم نيقولاس فالك
Falck ، وكان الأخير شلزويجي المولد، تزعم الوطنيين بالدوقيتين بعد رحيل «درويزن» في سنة 1829، عندما تعين أستاذا بجامعة «جوتنجن».
وقد أثار هؤلاء الفقهاء والمؤرخون الألمان مسألة متعلقة بحقوق وراثة الحكم في الدوقيتين، وذلك أنه كان لملك الدانمرك «كريستيان الثامن» ولد واحد، ولم يكن لهذا الابن وارث للعرش، فأثار الألمان ترشيح فردريك من أسرة أوجستنبرج
Augustenburg ، وبسبب هذه «المطالب» الألمانية إذن، وقع الملك في كوبنهاجن تحت تأثير الحزب الوطني الدانمركي إيدر دانسك
Eider-Dansk - نسبة لنهر «الإيدر» الصغير الذي يفصل الدوقيتين عن سائر الدانمرك، فأعلن كريستيان الثامن في «خطاب مفتوح» في 8 يوليو 1846 حلا لموضوع الوراثة، توثقت بفضله الروابط بين شلزويج، ولونبرج
Launberg - والأخيرة دوقية تتألف منها مملكة الدانمرك كذلك - وبين الدانمرك، في حين أعلن الملك استعداده للتخلي عن هولشتين، وأن يجعل منها تبعا لذلك شخصية منفردة سياسية، من الواضح أنها سوف تكون «ألمانية»، وذلك في نطاق الدولة الدانمركية.
وكان معنى هذا «الحل» الذي أعلنه الملك؛ اقتسام الدوقيتين بصورة تؤدي إلى إدماج «شلزويج» في الدانمرك، وترغم الوطنيين الألمان إذا تنفذ هذا «الحل» على التخلي عنها، فكان رد الفعل الذي حدث عظيما، وثارت ثائرة الألمان ليس في «هولشتين» وحدها فحسب، بل وفي كل أنحاء الاتحاد الكونفدرائي الألماني، وكانت عاصفة هوجاء، فأصبح الأساتذة في جامعة «كييل» ضد هذا الخطاب المفتوح، وانهالت العرائض من كل الجامعات الألمانية تؤيد هذا الاحتجاج، وتناصر «قضية» الألمان في هاتين الدوقيتين، وأصدر «داهلمان» كراسة في هذا الموضوع للدعاية، وكتب الشاعر المسن «آرندت»؛ كي يذكر الناس أن بحري الشمال والبلطيق بقيا خلال ثلاثمائة سنة مياها ألمانية، وحتى يذكروا أن الإنجليز والبلجيكيين والهولنديين قد أعتقوا بحر الشمال من الألمان، وأن هؤلاء الأخيرين (الألمان) سوف يفقدون حتما بحر البلطيق كذلك، إذا هم تخلوا عن دوقية «هولشتين»، ثم سرعان ما ظهرت الأناشيد والأغاني الشعبية على نحو ما حدث أثناء أزمة سنة 1840، وحتى يقيموا الدليل على اعتبار الألمان الدوقيتين أجزاء من ألمانيا، عقد في سنة 1847 العلماء وفقهاء اللغة الألمانية، والمؤرخون ... إلخ مؤتمرا في لوبك
Lubeck ، وفي هذا المؤتمر انبرى الأخوان جاكوب وويلهلم جريم
Grimm ، والمؤرخ «داهلمان» يطالبون بضم شلزويج هولشتين إلى ألمانيا.
ولقد كانت هذه المسألة التي ظهرت في سنتي 1846، 1847، بمثابة تمهيد لحركة الجامعة الجرمانية
التي اضطلع بها «برلمان فرانكفورت»، وأكدها بعنف في العام التالي (1848). (14) ثورة 1848
وهكذا كان هياج الخواطر قد صار عاما، وبلغ ذروته عشية «ثورة 1848» في بروسيا؛ بسبب الرغبة الملحة في الحصول على إصلاحات سياسية ذات قيمة، وفي ألمانيا في صالح الوحدة الألمانية، فجمعت الأحزاب المختلفة صفوفها، واستطاع الراديكاليون الأحرار عقد اجتماع في أوفنبرج
Offenburg
في 12 سبتمبر 1847، في حين عقد (الاتحاديون) - المطالبون بالوحدة القومية - مؤتمرا آخر في هيبنهايم
Heppenheim
في 10 أكتوبر من السنة نفسها، ولقد وضع هؤلاء المعتدلون برنامجهم، على أساس المطالبة بالوحدة، وامتزجت لذلك المطالب القومية بالمطالب الدستورية (الحرة)، ولو أن المطالب القومية كانت أكثر تعقيدا من مثيلتها في إيطاليا؛ لأن معاني أو مدلولات «القومية» كانت - كما رأينا - متعددة في ألمانيا، بل لقد شاهدنا في ألمانيا الفكرة القومية مرتبطة كذلك بفكرات من عناصر رجعية، فيرى كثيرون أن أيديولوجية القومية الألمانية، أكثر اختلاطا وتنوعا من أيديولوجية القومية الإيطالية، ثم إن الحياة الاجتماعية في ألمانيا، كانت أكثر تعقيدا منها في إيطاليا، ففي ألمانيا تركيب من الطبقات لا يصادفه المرء في إيطاليا، فهناك في أسفل السلم كتلة الشعب الراكد أو الخامل الذي لا يهتم بالمطالب القومية والدستورية، ولا يشترك في الهياج الذي يصحب هذه المطالب، وذلك في ألمانيا وإيطاليا على السواء، وهناك في أعلى السلم طبقة متوسطة (أو بورجوازية) مستنيرة بدرجة فائقة، استطاعت أن تثري ثراء عريضا؛ بسبب نشاطها الاقتصادي ، وشرعت تعمل «لتصنيع» البلاد وخصوصا في الغرب، وفي سكسونيا وسيلزيا، الأمر الذي لم يكن له وجود في إيطاليا، وهناك طبقة النبلاء، وكان هؤلاء - فيما عدا نبلاء الغرب - لا يزالون يتمتعون بالامتيازات الإقطاعية، وهم على كل الأحوال قد كانوا جميعا، وفي كل مكان أصحاب أملاك وعقارات.
وواضح أنه قد وجد في ألمانيا إذن ثلاث طبقات، تتميز كل واحدة منها عن الأخرى؛ النبلاء، والبورجوازي، والطبقة العامة أو الدنيا على أن الذي يجب ذكره؛ أنه كانت هناك رابعة بين طبقتي النبلاء والبورجوازي، لا وجود لها في إيطاليا، ولا في فرنسا، ونعني بذلك ما يمكن تسميته بطبقة «الأشراف الملقبين»، وهذه تتألف من أساتذة الجامعات، وكبار الموظفين، والقضاة المحليين، إن من أولئك الذين تشدهم الحكومة إليها، وينالون منها مرتباتهم، وألقابهم ووظائفهم ... إلخ، والذين يطمحون إلى الاختلاط بالأوساط النبيلة، ويشكلون عنصر انتقال من البورجوازية، التي كانوا ينتمون إليها أصلا، إلى الأرستقراطية التي يتطلعون للاندماج فيها.
ومما يجدر ذكره أن الشعور بالإقليمية والمحلية بقي قويا في ألمانيا أولا؛ لأن الحكومات المحلية - أي الهيئات الإدارية والموظفين في الأقاليم - تشبثت «بالمحلية»؛ خوفا من الاندثار، ولأن شعور المحلية استمر قويا لدى أقسام من الأهلين الذين في كل «دولة» أو حكومة محلية، كانوا يتميزون «بوطنيتهم» الإقليمية المتطرفة، «فالوطنيون» البروسيون، لا تزال وطنيتهم بروسية، والذين في بفاريا بقيت «وطنيتهم» بفارية، ولم يكن معنى «الوطنية» أنه قد صارت هناك «وطنية عامة» ألمانية، أي لكل ألمانيا، ثم إنه كان هناك نوع من «اللامركزية» الذهنية أو الفكرية في ألمانيا - إلى جانب هذه المحلية الحكومية والسياسية - وهي لا مركزية ذهنية، لم يكن لها نظير في فرنسا مثلا، فكان من شأن ذلك؛ أن أضحت ألمانيا مفتقرة إلى «الرأس» المدبرة والمنسقة؛ أي ذلك «الذهن» الواحد الذي في مقدرته أن يفرض ما يصدر عنه من نشاط على البلاد بأجمعها، وعلى نحو ما تفعله «باريس» مثلا في فرنسا.
وأخيرا، فقد كان يقبع وراء كل هذه العناصر المختلطة التي تألف منها المجتمع الألماني، بتياراته الفكرية المختلفة، وبنزعاته المحلية والإقليمية التي تعذر اندثارها ومحوها كلية، ثم بيقظة الشعور القومي ونموه به، وزيادة التمسك بالمبادئ الحرة والمطالبة بالحياة الدستورية، كان يقبع وراء هذا كله دولتان «أوروبيتان» عظيمتان، هما؛ بروسيا والنمسا (أوروبيتان)؛ لأن نشاطهما السياسي والدبلوماسي كان منذ بدايته على الصعيد الإداري، ولقد صار هذا النشاط ممتزجا الآن وجزءا لا يتجزأ من «النشاط» السياسي والدبلوماسي العام في ألمانيا.
وعندما تحين الفرصة لانتقال الألمان من دور «التفكير» في الوحدة الأهلية (القومية) إلى دور تنفيذ هذه الوحدة التي صاروا يطالبون بها بحمية - وبقول آخر؛ عندما يحين وقت الثورة في سنة 1848 - فإن كل المصالح، وكل النظريات المتعارضة التي شاهدناها، سوف تنطلق متخلصة من قيودها؛ لينتقض فعل كل واحد منها أثر فعل الآخر، وبدرجة أن العمل من أجل تحقق الوحدة القومية قد أدى إلى انبعاث أو تولد كل قوى التفكك في ألمانيا؛ الأمر الذي يثير الدهشة حقا. •••
ومع أن دراسة الثورة التي قامت في ألمانيا (وفي بروسيا والنمسا خصوصا) في غضون سنة 1848 - عام الثورات في أوروبا - ضرورية لإدراك حقيقة القوى «المتضاربة» التي تحدثنا عنها، والتي انفكت عن عقالها الآن؛ نتيجة لكل التطور الاجتماعي والاقتصادي والسياسي الذي حصل في ألمانيا، ونتيجة ليقظة الشعور القومي ونمو «القومية» بها، وذيوع المبادئ الحرة في السياسة؛ أي قيام الحركة الدستورية، ثم إنشاء الزولفرين، نقول: إن هذه «الثورة» متصلة كذلك بالإجراءات التي اتخذتها الحكومات «الرجعية» في ألمانيا وفي بروسيا والنمسا خصوصا؛ لإخماد الثورة في السنوات القليلة التالية (1849-1851)، بل إن روسيا - الدولة الأوتقراطية الكبرى الثالثة في أوروبا - قد تدخلت لمساعدة النمسا في القضاء على الثورة الناشبة في المجر (هنغاريا)، وانتصرت القوات الروسية على الجيش الهنغاري في فيلاجوس
Vilagos
في 13 أغسطس 1849.
ولذلك فإن ثورة 1848 في ألمانيا (وفي بروسيا والنمسا وأملاكها)، إنما تؤلف قسما من دراسة تاريخ وسط أوروبا في الفترة التالية؛ أي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
على أنه لا يجب الانتهاء من هذه الدراسة دون الإشارة على وجه الخصوص إلى الثورة التي قامت في فينا، ابتداء من يوم 14 مارس 1848، والتي قامت على أكتاف الطبقة المتوسطة (البورجوازية)، مثلها في ذلك مثل الثورات التي قامت في أنحاء ألمانيا؛ في بروسيا وفي سائر المقاطعات النمسوية، وفي هنغاريا، فإنه لم تمض أيام ثلاثة على قيام الثورة في فينا حتى سقط «مترنخ»، واضطر إلى الفرار من فينا في 17 مارس 1848.
حقيقة لم ينه سقوط «مترنخ» عهد الرجعية في أوروبا، وبمعنى آخر ذلك «النظام» الذي عرفه باسمه؛ لأن الحكومات في ألمانيا والنمسا «وفي إيطاليا» خصوصا قد نجحت في قمع هذه الثورات واسترجاع سلطانها ، ولكن الذي لا شك فيه أنه كان لكل هذه الثورات والاضطرابات التي تولدت لدرجة كبيرة، كرد فعل لهذا «النظام المترنخي» نفسه، أثر لا يمكن نكرانه، هو قيام الطبقة المتوسطة (البورجوازية)، وازدياد قوتها، والتي صارت تعتمد في حياتها على مطلبين يفوقان في أهميتها المباشرة كل مطلب آخر، ونعني بذلك مطلب إنشاء الحكومة الدستورية؛ أي المستندة على المبادئ الحرة، ومطلب تحقيق الوحدة الأهلية (القومية)، وكان معنى الظفر بهذين المطلبين وصول الطبقة المتوسطة (البرجوازية) إلى السلطة والحكم، «نظام» الدولة الوطنية القومية، وبذلك يكون انتهى الصراع بين البورجوازية والإقطاع في أوروبا إلى تمكين هذه البورجوازية من فرص سيطرتها على أوروبا، وحول هذه الحقيقة - سيطرة البورجوازية - يدور تاريخ أوروبا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
Page inconnue