وتولى مراد شيء من الدهشة فهو لم يكن يتوقع أن يحيد الحديث إلى هذا الأمر، ولكنه سرعان ما تمالك نفسه. - أما أن أتزوج فهذا أمر محترم، ولكن هل ترى اخترت لي الزوجة أيضا؟ - معاذ الله بل أنت الذي تختار.
وقال مراد وفي نفسه ما فيها من آمال عراض: فاترك لي بعض الوقت، وسوف أرضيك إن شاء الله. •••
كان مدني طلبة ابن عم مراد من أقرب أسرته إليه، وكان يخالصه بدخيلة نفسه لا يخفي عنه شيئا إلا هذا الأمل الذي يداريه في البعيد القريب من أعماقه.
قال له: مدني! إذا طلبت منك أن تخطب لي فمن تراك تختار؟ - أنت يا بني تعلمت في مصر، ولا بد أنك تريد من تحب حتى تتزوج. - دعك من حكاية الحب هذه. - معناها أنك لم تحب في مصر. - وهبني أحببت. - لعلك تصبو إلى هذه المحبوبة. - هيهات! - هذه قصة لم تحكها لي. - لم تأت مناسبة. - وها هي ذي قد جاءت. - أحكي لك. - احك. - كنت مقيما - كما تعلم - مع عمنا صالح. - بالمنيرة، أعرف ذلك. - ولم يكن البيت بعيدا عن مدرسة الخديو إسماعيل. - لا جديد في هذا. - أمام المدرسة مباشرة عمارة جديدة كنا مبهورين بها، وكان يسكن فيها واحد من زملائنا اسمه وافي الإمبابي. وكان تلميذا عظيما في الفصل لا يترك المذاكرة ليلا ولا نهارا، فقلت في نفسي أمد خيوط الصداقة بيننا لعلي أذاكر وأنجح بدلا من هذه الخيبة الثقيلة التي أعانيها.
لم أكذب خبرا توددت إلى الولد، وكان لطيف المعشر رضي الخلق، وقلت له ألا تعمل في معروفا وتجعلني أذاكر معك؟ فقال وهو يمزح: لن تستطيع معي صبرا، قلت: أنا أتصور أن أكون في مثل تقدمك، وكل ما أريده هو أن أنجح ولا أقضي في كل سنة سنتين أو ثلاثا. قال: وتسمع الكلام؟ قلت: وأسمع الكلام، لا أطيل عليك، قامت بيني وبين وافي صداقة، وكنت أفرغ من المدرسة فيصحبني إلى بيته، وقد اشترط علي واحدة من اثنتين: إما ألا أزيد بقائي عنده عن ساعة يشرح لي فيها كل ما أطلبه، وإما أن أبقى معه أذاكر حتى التاسعة مساء بلا توقف. تصور أنت أنني أذاكر من الرابعة إلى التاسعة، ملعون أبو النجاح إن لم يتحقق إلا بهذا. قلت له: لا يا عم أنا تكفيني الساعة وتفيض.
في ثاني أو ثالث يوم ذهبت إليه، ودخلت الحجرة فتاة طالما رأيتها خارجة من باب العمارة، وطالما أعجبت بها، ولم أكن أعرف أن لها بوافي أي صلة. وأذكر أنني تجرأت مرة وقلت لها: صباح الخير. فلم تلتفت إلي وذهبت إلى طريقها وكأنها ما سمعت شيئا.
فحين دخلت إلى الحجرة التي أجلس فيها أنا ووافي خيل إلي أن قلبي سيقف من المفاجأة، فالبنت حلوة يا ولد يا مدني حلاوة تفوق الوصف. - كيف؟ - ماذا تعني بكيف؟ - يعني ما شكلها؟ - حلوة. - يا أخي ماذا وراءنا، صفها وأطل في وصفها. - عينان سوداوان واسعتان ذوات رموش تشرئب إلى أعلى في انثناءة مقوسة رائعة الحلاوة موضوعتان داخل خدين ناعمين أنعم من الحرير. - وكيف عرفت؟ لامست خدها؟ - ليس في أول يوم على أي حال. بالنظر هل لا بد أن تمسك الحرير لكي تعرفه. - نهايته أكمل. - قوام ممشوق كل شيء فيه مرسوم بدقة، شغل رب قادر، وهي إلى النحافة أقرب، ولكن ذلك لم يمنع الأماكن التي يجمل بها أن تكون عظيمة من أن تكون عظيمة في كبرياء يا ولد يا مدني، وفي إشارات تأمر بالإعجاب ولا ترضى به بديلا أنا رأيتها داخلة. - وقلبك كان سيقف، قلت هذا من قبل. - وركبني ذهول وقبل أن أفيق قال لها وافي: تعالي يا هند هذا زميلنا مراد، وفجأة تذكرت محاولتي أن ألقي عليها تحية الصباح، وركبني الرعب أن تذكر شيئا عنها لأخيها، ولكنها قالت في صوت ناعم مخملي كما يقولون وفي غير كلفة: أهلا. وفي خبث لم تشأ أن تفوت الفرصة دون أن تغمزني في تجرئي على إلقاء تحية الصباح. فقالت كثيرا ما رأيته وهو ذاهب إلى المدرسة يظهر أن عمارتنا في طريقه. والخبيثة تعلم أنني لو شئت أن أذهب إلى المدرسة مباشرة لذهبت دون أن أمر بباب العمارة. فقد كان طريقي من شارع الملك الناصر، والقاصد إلى مدرستي لا يحتاج أن يمر بالعمارة ولكنني كنت أتحرى أن أقف لحظات أمام العمارة لعلها تخرج. - يعني كنت تعرف جمالها. - لم أكن تحققت منه كما فعلت وهي تسلم علي ويدها في يدي وتقول أهلا. كنت أعرف أنها جميلة، ولكن تفاصيل هذا الجمال لم تتضح في إبهار كما اتضحت وهي معنا في الغرفة. قالت لأخيها: أنت مشغول؟ أجيء لك في وقت آخر، فقال لها: هل هناك شيء؟ قالت: مسألة حساب كنت أريد أن أسألك فيها. قلت أقسم بالله العظيم ثلاثا إن لم تحل لها المسألة لمشيت من فوري لا ساعة ولا عشر، فضحكت ملء قلبها، وسألت عن حكاية الساعة هذه، فأخبرتها وأكملت: وأنا يا آنسة هند لست أتحمل المذاكرة أكثر من ساعة في اليوم الذي أكون فيه مجدا كل الجد، وهيهات لي أن أكون كفء أستاذنا وافي. - طبعا كنت تريدها أن تحل المسألة لتبقى أطول فترة ممكنة. - عجيبة وفهمتها وحدك! فلماذا يقولون عنك غبي؟ - أنت قليلة الأدب. أكمل. - حل المسألة وأنا لا أفهم مما يقول شيئا، فأنا عنه وعن المسألة في شغل شاغل بالمسألة الإلهية الكبرى التي أبدع الله خلقها. قل عرفتها. وأصبح من الطبيعي أن أنتظرها في اليوم التالي، وأصبح من الطبيعي أن أقول: صباح الخير، فتقول: صباح الخير. يوم والثاني والعاشر تجرأت وقلت لها: وبعد؟ قالت: وبعد في ماذا؟ في صباح الخير. وصباح الخير أليس لها آخر؟ قالت: ماذا تقصد؟ قلت: أنت تعرفين ما أقصد، قالت: بل لا أعرف شيئا. قلت لا بد من التصريح، قالت: بماذا؟ بأنني معجب غاية الإعجاب إما أن ألقاك أو فقاطعيني أو ماذا؟ تنتحر مثلا، قلت: الحقيقة أنني لن أنتحر فبصراحة ليس عندي هذه الشجاعة، ولكنني لا أدري ماذا سأفعل، وكلمة مني وكلمة منها تواعدنا على اللقاء. وواجهت في هذا اللقاء يا مدني يا أخي أكبر حب عرفته أو سأعرفه في حياتي. - إلى أي مدى كان هذا الحب؟ - على مهلك. ماذا تتصور؟ أتظنها عاهرة من الطريق؟ إنها فتاة بنت ناس وأبوها تاجر كبير. - يعني إلى أي حد وصل الحب؟ - قبلة. - فقط. - ولم أكن أتصور أنني سأنالها في حياتي لولا أن هند أحبتني يا مدني، أحبتني فعلا ووثقت بي وثوقا كاملا. - متى كان هذا؟ - قبل أن أترك المدرسة بسنتين. - يعني كنت في الثامنة عشرة. - تقريبا. - فلماذا لم تطلب من أبيك أن يزوجك بها؟ لقد كان وأنت في هذه السن واثقا أنك إن شاء الله لن تفلح في الدراسة. - قلت أنتظر سنة أخرى أكون اقتربت من العشرين. - فلنفرض. - في هذه السنة حدث الخراب الكامل. - لمن؟ - لأبيها. - ماذا حدث؟ - أفلس الأب إفلاسا كاملا. - وما لنا نحن؟ - كيف. - ألا تحبها؟ - أحبها جميعا بجمالها وبمال أبيها. - تقصد أنك كنت تنظر إلى غنى أبيها؟ - لا شك أنه كان شيئا مهما. - وماذا فعلت؟ - ليس أنا الذي فعل. ربك هو الذي فعل، ترك وافي مدرسة الخديو إسماعيل؛ لأن أباه لم يكن يستطيع أن يدفع إيجار الشقة المرتفع وأصبحت لا أرى هندا. - ألم تبحث عنها؟ - عرفت أنهم سكنوا في الحلمية. - ولم تذهب؟ - ولماذا أذهب؟! - لا، لك حق، ولماذا تذهب؟ - المهم هل تعرف لي عروسا؟ - الآن أستطيع أن أقول لك: نعم أعرف. - هل أنت واثق؟ - عرفت من العروس التي تريدها، ولكن قل لي لماذا؟ - أي لماذا؟ - إنك عندك من المال ما يكفيك ويفيض. - يكفيني لأن أكون ماذا؟ - عمدة. - أنت العمدة. - ماذا تقول؟ - كلام ابن عم حديث. - طبعا. وهل يمكن أن يكون العمدة أحدا آخر غيرك؟ - نرجع لموضوعنا. ماذا تعرف عن العروس التي أريدها؟ - أن تكون ذات مال. - طبعا، وماذا أيضا؟ - هذا الذي فهمته وأكذب لو ادعيت أنني فهمت معه شيئا آخر؟ - دعني أرحك من البحث. - أرحني أراحك الله. - عليك أن تتعرف لي من البلاد التي حولنا البنات اللاتي تصلحن زوجات لي. - أتريد بحجة الزواج أن ترى بنات المنطقة كلها؟ - اعمل ما أقوله لك وسترى أنك مغفل في استنتاجاتك. - ألا يمكن أن تتكلم من غير قلة أدب ؟ - ماذا أعمل لك ما دمت تريد أن تعمل نفسك ذكيا وأنت خائب؟ - حفظت. - أنت بالذات تعرف الناحية كلها، فأنت إلى جانب أرضك تعمل في تجارة القطن على خفيف، ولكن لا شيء يجعل الواحد يعرف الناس في البلاد مثل هذه التجارة. - والله إنك ناصح، فلماذا إذن لم تفلح في المدارس؟ - المدارس شيء، والدنيا شيء آخر. - كل الخائبين يقولون هذا القول. - لعنة الله عليك، لا تغير الحديث. - يا سيدي علم. - علم؟! - علم وينفذ.
4
طلب الحاج دياب زميله الحاج دهشان عمدة النمايرة في التليفون المباشر، لا في تليفون العمودية. - يا صباح الخير. - يا أهلا حاج دياب، مشتاق لك. - من بعض ما عندنا. - أتأتي إلي أم آتي أنا إليك؟ - غداؤنا عندك اليوم. - يا مرحب. - أنا والعائلة جميعا. - أي سعادة وهناء؟ ••• - أنا اليوم يا حاج دهشان أسعد إنسان في العالم. - إذا فأنا أيضا أسعد الناس، فسعادتك سعادتي. - قل لي لماذا؟ - ولماذا أسأل وأنت ستقول فحديثك عن سعادتك تمهيد لحديث آخر قادم في السكة. - طول عمرك لا تفوتك الفائتة، أنا طلبت الغداء عندك لسبب. - انطق. - أريد نازلي ابنتك الوحيدة لابني الوحيد. - لمراد؟ - وهل عندي ولد آخر؟ - وأين رآها؟
وهنا نطق مراد: وهل لا بد أن أراها يا عم الحاج؟ - هذا سلوككم يا أبناء المدارس. - يكفيني إنها ابنتك. - قال النبي
Page inconnue