سجل التوبة
سجل التوبة
تأليف
أمين الريحاني
شريف أفندي
شاهدته على الرصيف وهو يقصد إلى إحدى شركات البواخر ليبتاع تذكرة للسفر إلى مصر، وكدت أنكره مع أني اجتمعت به مرارا بباريس، إلا أنه كان يلبس الطربوش هناك، وقد اعتاض الآن عنه ببرنيطة من الجوخ اللين شدها فوق حاجبيه، وأخفى ناظريه بنظارات زرقاء كبيرة حتى كاد يبدو مقنعا، ولكن عذوبة الصوت التي يمتاز بها أشراف الترك نمت عليه.
كان اجتماعنا الأخير منذ عام بباريس وقد جلسنا حول مائدة في قهوة «يدش» نتحدث عن الانقلاب العثماني، فشيدنا دولا من الخيال، وبنينا قصورا في الهواء، وكان هو يشرح نظرياته منفعلا! وقد أناط كبير آماله بالثورة، فاتخذ منها الأساس لأمة تركية جديدة، شديدة البأس، حديثة الأسباب في المدنية والعمران، لها من سالف مجدها ونشاط أبنائها اليوم ما يمكنها من استرجاع منزلتها الرفيعة بين الأمم العظيمة الراقية.
وقد أطلعني يومئذ على برقية جاءته من بعض أصحابه في الآستانة يطلبون منه العودة إليها، فغادر عاصمة الفرنسيس ميمما عاصمة بلاده، وقاعدة مجد أجداده، وقلد بعيد وصوله وظيفة عالية في الدولة، فبرهن فيها على صدق الوطنية والاعتدال، إلا أن أعماله ذهبت سدى؛ لأن جنود دول البلقان كانت يومئذ على أبواب الآستانة، وكان الخلل مستعصيا في العاصمة، بل كانت الفوضى ضاربة فيها أطنابها، فاستقال وعاد إلى بلاد الغربة وهو لا يزال يرجو الخير من نهضة الاتحاديين.
وها هو ذا في الآستانة ثانية وكأني به قد أعاد الكرة في سبيل أحلامه الوطنية فأخفق ثانية سعيه، بل قضي على آماله كلها فبات واليأس يباري في نفسه الاضطراب.
أجل، قد رد سلامي والاضطراب أظهر ما بدا في ملامحه، ولو لم يكن في خطر معجل عليه لما جاء بنفسه إلى «غلطا» وقد تنكر بالبرنيطة والنظارات وهو مصمم على السفر إلى بلاد بعيدة باسم منتحل.
Page inconnue