قال: فذاك رق لا حب.
قلت: وهذا هو الذي يجعل الحفرة بئرا، فالصداقة في المودة تجذب الطبع من الطبع ليتفقا، ولكنها في الحب تجذب الطبعين ليكونا دائما عند النقطة التي يتناقضان منها، وأعظم ما يسوءك من الصديق لا يزيد على أن يردك إلى نفسك وحسب، ولكن أيسر ما يغضبك من الحبيب يسلط نفسك عليك بسوء التحكم، والإعنات، والآراء الفاسدة، حتى يترك دمك، وكأنه تيار من الغيظ، فإذا حبيب نفسك أعدى أعدائها، وإذا هو قد أصبح العدو؛ لأنه لا يزال الحبيب!
قال: أما إن هذا تعقيد على النفس، وهو العلة في أن المحب المغيظ لا يسكن غيظه، ولا يهدأ فوره؛ لأنه يحل العقدة الواحدة بطريقة تجعلها عقدتين، ولكن ... أوليس خيرا لك إذا أنت دفعت إلى العداوة في الحب أن تستشعر بكرم الملك الذي في نفسك لؤم الحيوان الذي في صاحبك، فترجع بنفسك أنت إلى ملكيتها، وترده هو إلى حيوانيته؟
أما إني أعرف لأهل الحب دواء ما يمرض بعده رجل من امرأة أساءت إليه: أيها العاشق، أما صدمتك بهيمة من البهائم، أو رمحتك،
16
أو جمحت بك فأوجعتك بلا غيظ، وأساءت إليك بلا حقد، وكسرتك بلا انتقام، ولم يتعاظمك من أمرها شيء في الوهم، ولا في الحقيقة ... ألا ويحك، ألبسها جلدها وحوافرها
17 ... ولا تتمثلها في مخيلتك إلا وجها جميلا على جسم حيوان؛ فإنك إن تفعل ذلك، وتأخذ نفسك به: تطمس عليها في محبتك طمسا، ولا تجد لها في قلبك إلا النفرة والاشمئزاز، وتعجز فيها الشيطان، لا يدري من أين يأتيك، ولا كيف يتدسس بها إلى دواهيك، ما دام لها عندك الجلد والحافر ...
ولعل الناس لم يعتادوا فيما بينهم أن يتنابزوا ويتسابوا في عبارات السقوط، والتحقير بأسماء من أسماء البهائم: كالكلب، والخنزير، والحمار - إلا على هذا الأصل الذي بينته لك، توحي به غريزة الكراهة، والسقوط من حيث يدرون أو لا يدرون.
الحب ليس شيئا غير الجمع بين أعلى الصداقة وأسفلها؛ ألا ترى أنه ما دام الحبيبان على أسباب الرضا فكلاهما أو أحدهما يتمثل الآخر كما يتمثل ملكا من الملائكة، بل ويسميه الملك الحارس، أو الملك الموحي، أو الملك المقدس.
فإذا صار إلى الخلاف، واستحكم بينهما، لم يغن طلب المعاذير تتعزى بها الصداقة! ولا طلب العثرات تشتد بها العداوة، وليس للمغيظ منهما شيء دون أن يعمد إلى تلك الصداقة؛ فيجعل عاليها سافلها، فلم يبق حينئذ إلا أن يكون صواب الحب في هذه الحالة قائما على عكس الحالة الأولى؛ فما كان في صورة ملكية ليثبت عليه الحب وجب أن ينقلب في صورة حيوانية ليزول عنه الحب. •••
Page inconnue